النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

[ما وقع من الحوادث سنة 822]
وأخذ السلطان فى تجهيز ولده الصارمى إبراهيم إلى أن تهيّأ أمره، وأنفق على الأمراء المتوجّهين صحبته. فلما كان بكرة يوم الاثنين ثامن عشر المحرم من سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة ركب المقام الصارمى إبراهيم بن السلطان من قلعة الجبل فى أمراء الدولة، ومعه عدة من أمراء الألوف المعينة صحبته إلى السفر، ونزل بمخيّمه من الرّيدانية خارج القاهرة. ثم خرجت أطلاب الأمراء المتوجّهة صحبته وهم: الأمير قجقار القردمى أمير سلاح، والأمير ططر أمير مجلس، وجقمق الأرغون شاوى الدّوادار الكبير،

(14/76)


وإينال الأرغزى، وجلبّان أمير آخور، وأركماس الجلبّانى، وهؤلاء من أمراء الألوف، وثلاثة من أمراء الطبلخانات، وخمسة عشر أميرا من العشرات، ومائتى مملوك من المماليك السلطانية، وأقام الصارمى إبراهيم بمخيّمه إلى أن ركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إليه بالرّيدانية فى عشرينه وبات عنده بالرّيدانية، ثم ودعه من الغد وركب إلى القلعة.
ثم رحل المقام الصارمى إبراهيم من الرّيدانية بمن معه من العساكر فى يوم الجمعة ثانى عشرينه وسار إلى البلاد الشامية.
ثمّ شرع السلطان فى بناء القبّة بالحوش «1» السّلطانىّ من قلعة الجبل المعروفة الآن بالبحرة المطلّة على القرافة، وجاءت فى غاية الحسن.
وأما الصارمىّ إبراهيم فإنّه سار إلى أن وصل دمشق فى يوم الاثنين سادس عشر صفر بعد أن خرج إلى تلقّيه النواب والعساكر، وأقام بدمشق أيّاما وخرج منها يريد البلاد الحلبيّة إلى أن نزل على تلّ السلطان فى يوم الثلاثاء أوّل شهر ربيع الأوّل، فخرج إليه نائب حلب الأمير يشبك اليوسفى المؤيّدى بعساكر حلب، وتلقّاه ونزل بظاهر حلب.
ثم بدأ الطاعون بالدّيار المصريّة. هذا والعرض لأجناد الحلقة مستمر، فتارة يعرضهم السلطان وتارة الأمير مقبل الحسامى الدّوادار الثانى «2» ، وناظر الجيش علم الدين داود بن الكويز.
ثمّ فى يوم الخميس سابع عشر ربيع الأوّل نزل السلطان من القلعة إلى جامعه بالقرب من باب زويلة واستدعى به قاضى القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقينى وخلع عليه خلعة القضاء بعد عزل القاضى شمس الدين الهروى، ونزل البلقينى بالخلعة من

(14/77)


باب الجامع الذي من تحت الربع «1» ، وشقّ القاهرة وكان له مشهد عظيم. هذا والطّاعون قد فشا بالديار المصرية وتزايد بها وبأعمالها.
فلما كان يوم الخميس ثامن شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وعشرين المذكورة نودى فى الناس من قبل المحتسب الشيخ صدر الدين بن العجمى أن يصوموا ثلاثة «2» أيّام آخرها يوم الخميس خامس عشره ليخرجوا فى ذلك اليوم مع السلطان الملك المؤيّد إلى الصحراء فيدعو الله فى رفع الطاعون عنهم، ثم أعيد النداء فى ثانى عشره أن يصوموا من الغد، فتناقص عدد الأموات فيه، فأصبح كثير من الناس صياما، فصاموا يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس. فلمّا كان يوم الخميس المذكور نودى فى الناس بالخروج إلى الصّحراء من الغد، وأن يخرج العلماء والفقهاء ومشايخ الخوانق وصوفيّتها وعامّة الناس، ونزل الوزير بدر الدين حسن بن نصر الله، والتاج الشّوبكى أستادار الصحبة إلى تربة الملك الظاهر برقوق فنصبوا المطابخ بالحوش القبلى منها وأحضروا الأغنام والأبقار، وباتوا هناك فى تهيئة الأطعمة والأخباز، ثم ركب السلطان بعد صلاة الصبح ونزل من قلعة الجبل بغير أبّهة الملك بل عليه ملوطة «3» صوف أبيض بغير شدّ فى وسطه، وعلى كتفيه مئزر صوف مستدل «4» كهيئة الصّوفيّة، وعلى رأسه عمامة صغيرة ولها عذبة مرخاة من بين لحيته وكتفه الأيسر وهو بتخشّع وانكسار، ويكثر من التلاوة والتسبيح، وهو راكب فرسا بقماش ساذج ليس فيه ذهب ولا فضة ولا حرير.
هذا وقد أقبل الناس إلى الصحراء أفواجا، وسار شيخ الإسلام قاضى القضاة جلال

(14/78)


الدين عبد الرحمن البلقينى الشّافعى من منزله بحارة بهاء الدين «1» ما شيا إلى الصحراء فى عالم كثير.
ثم سار غالب أعيان مصر إلى الصحراء ما بين راكب وماش حتى وافوا السلطان بالصحراء قريبا من قبة النصر ومعهم الأعلام والمصاحف، ولهم بذكر الله تعالى أصوات مرتفعة من التهليل والتكبير.
فلما وصل السلطان إلى مكان الجمع بالصحراء ونزل عن فرسه وقام على قدميه وعن يمينه وشماله الخليفة والقضاة وأهل العلم، ومن بين يديه وخلفه طوائف من الصّوفيّه ومشايخ الزّوايا وغيرهم لا يحصيهم إلا الله تعالى، فبسط السلطان يديه ودعا الله سبحانه وتعالى وهو يبكى وينتحب والجمّ الغفير يراه ويؤمّن على دعائه، وطال قيامه فى الدّعاء وكلّ أحد يدعو الله تعالى ويتضرّع إلى أن أستتمّ الدّعاء، وركب يريد الحوش «2» الظاهرى حيث مدّ الطعام والناس فى ركابه وبين يديه من غير أن يمنعهم من ذلك مانع، وسار حتى نزل بالحوش المذكور من التربة الظاهريّة، وقدّم له الأسمطة فأكل منها وأكل الناس معه.
ثم ذبح بيده قربانا- قرّبه إلى الله تعالى- نحو مائة وخمسين كبشا سمينا من أثمان خمسة دنانير الواحد.
ثم ذبح عشر بقرات سمان وجاموستين وجملين كل ذلك وهو يبكى ودموعه تنحدر على لحيته بحضرة الملأ من الناس.
ثم ترك القرابين على مضاجعها كما هى للناس وركب إلى القلعة، فتولّى الوزير التاج تفرقتها صحاحا على أهل الجوامع المشهورة والخوانق وقبّة الإمام الشافعى والإمام

(14/79)


الليث بن سعد والمشهد النّفيسى وعدة أخر من الزّوايا حملت إليها صحاحا، وقطع منها عدّة بالحوش فرّقت لحما على الفقراء، وفرّق من الخبز النقى فى اليوم المذكور عدّه ثمانية وعشرين ألف رغيف وعدّة قدور كبار مملوءة بالطعام الكثير، وأخذ الطعام الكثير، وأخذ الطاعون من يومئذ فى النقص بالتدريج.
ثم قدم على السلطان الخبر فى ثانى عشرين شهر ربع الآخر برحيل المقام الصّارمى إبراهيم من مدينة حلب بعساكره والعساكر الشّاميّة، وأنه دخل إلى مدينة قيساريّة «1» فحضر إليه أكابر البلد من القضاة والمشايخ والصّوفيّة فتلقّوه فألبسهم الخلع، وطلع قلعتها يوم الجمعة، وخطب فى جوامعها للسلطان، وضربت السّكة باسمه وأنّ شيخ جلبى نائب قيسارية تسحب منها قبل وصول العساكر إليها، وأن ابن السلطان خلع على محمد بك بن قرمان وأقرّه فى نيابة السلطنة بقيسارية، فدقت البشائر بقلعة الجبل لذلك، وفرح السلطان بأخذ قيسارية فرحا عظيما فإن هذا شىء لم يتّفق لملك من ملوك التّرك بالديار المصرية سوى الملك الظاهر بيبرس، ثم انتقض الصلح بينه وبين أهلها حسبما ذكرناه فى ترجمته من هذا الكتاب- انتهى.
ولمّا استهل جمادى الأولى تناقص فيه الطّاعون «2» حتى كان الذي ورد اسمه فى أوله من الأموات سبعة وسبعين نفرا.
قال الشيخ تقىّ الدين المقريزى: وكان عدّة من مات بالقاهرة وورد اسمه الديوان- من العشرين من صفر وإلى سلخ شهر ربيع الآخر- سبعة آلاف وستمائة واثنتين وخمسين نفسا: الرجال [ألف] «3» وخمسة وستون رجلا، والنساء ستمائة وتسع وستون امرأة، والصغار ثلاثة آلاف وتسعمائة وتسعة وستون، والعبيد خمسمائة وأربعة وأربعون،

(14/80)


والإماء ألف وثلاثمائة وتسع وستون، والنصارى تسعة وستون، واليهود اثنان وثلاثون، وذلك سوى البيمارستان، وسوى ديوان مصر، وسوى من لا يرد اسمه الدّواوين، ولا يقصر ذلك عن تتمّة عشرة آلاف، ومات بقرى الشرقية والغربية مثل ذلك.
قلت: وقول الشيخ تقي الدين «ولا يقصر ذلك عن تتمّة عشرة آلاف» فقد مات فى طاعون سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة فى يوم واحد بالقاهرة وظواهرها نحو عشرة آلاف إنسان، واستمرّ ذلك أياما ما بين ثمانية آلاف وتسعة آلاف وعشرة آلاف حسبما يأتى ذكره إن شاء الله فى محله فى ترجمة الملك الأشرف برسباى الدّقماقى- انتهى.
وفى يوم الأحد ثانى جمادى الأولى المذكور ولد للسلطان الملك المؤيد ولده الملك المظفّر أحمد «1» من زوجته خوند سعادات بنت الأمير صرغتمش.
ثم فى سابع جمادى الأولى استدعى السلطان بطرك النصارى وقد اجتمع القضاة ومشايخ العلم عند السلطان، فأوقف البطرك على قدميه ووبّخ وقرّع، وأنكر عليه السلطان ما بالمسلمين من الذّلّ فى بلاد الحبشة تحت حكم الحطّى «2» متملكها، وهدّد بالقتل، فانتدب له الشيخ صدر الدين أحمد بن العجمى محتسب القاهرة فأسمعه المكروه من أجل تهاون النّصارى فيما أمروا به فى ملبسهم وهيئاتهم، وطال كلام العلماء مع السلطان فى ذلك إلى أن استقرّ الحال بأن لا يباشر أحد منهم فى ديوان السلطان «3» ولا عند أحد من الأمراء، ولا يخرج أحد منهم عما ألزموا به من الصّغار، ثم طلب السلطان الأكرم فضائل النّصرانىّ كاتب الوزير- وكان قد سجن من أيام- فضربه السلطان بالمقارع «4» وشهّره بالقاهرة عريانا بين يدى المحتسب وهو ينادى عليه: هذا جزاء من

(14/81)


يباشر من النصارى فى ديوان السلطان، ثم سجن أيضا بعد إشهاره، وصمّم السلطان فى ذلك حتى انكفّ النصارى عن المباشرة فى سائر دواوين الدّيار المصرية، ولزموا بيوتهم، وصغّروا عمائمهم وضيّقوا أكمامهم، والتزم اليهود مثل ذلك، وامتنعوا جميعهم من ركوب الحمير، بحيث إنّ العامة صارت إذا رأوا نصرانيا على حمار ضربوه وأخذوا حماره وما عليه، فصاروا لا يركبون الحمار إلا بخارج القاهرة، وبذل النصارى جهدهم فى السّعى إلى عودهم إلى المباشرة وأوعدوا بمال كبير، وساعدتهم كتّاب الأقباط، فلم يلتفت السلطان إلى قولهم، وأبى إلا ما رسم به من المنع.
قلت: ولعلّ الله أن يسامح الملك المؤيّد بهذه الفعلة عن جميع ذنوبه، فإنها من أعظم الأمور فى نصرة الإسلام، ومباشرة هؤلاء النصارى فى دواوين الديار المصرية من أعظم المساوئ الذي نوّل منه التعظيم إلى دين النصرانية؛ لأن غالب الناس من المسلمين يحتاج إلى التّردّد إلى أبواب أرباب الدّولة لقضاء حوائجهم، فمهما كان لهم من الحوائج المتعلقه بديوان ذلك الرئيس فقد احتاجوا إلى التواضع والترقق إلى من بيده أمر الديوان المذكور، نصرانيا كان أو يهوديا أو سامريا «1» ، وقد قيل فى الأمثال «صاحب الحاجة أعمى لا يريد إلا قضاءها» فمنهم من يقوم بين يدى ذلك النّصرانى على قدميه والنصرانى جالس ساعات كثيرة حتى يقضى حاجته بعد أن يدعو له ويتأدب معه تأدبا لا يفعله مع مشايخ العلم، ومنهم من يقبّل كتفه ويمشى فى ركابه إلى بيته إلى أن تقضى حاجته، وأما فلاحو القرى فإنه ربما النّصرانىّ المباشر يضرب الرجل منهم ويهينه ويجعله فى الزّنجير «2» ، ويزعم بذلك خلاص مال أستاذه، وليس الأمر كذلك وإنما يقصد التحكّم فى المسلمين لا غير، فهذا هو الذي يقع للأسير من المسلمين فى بلاد الفرنج بعينه لا زيادة على ذلك غير أنه يملك رقّه.

(14/82)


وقد حدثنى بعض الثقات من أهل صعيد مصر قال: كان غالب مزارعى بلدنا أشرافا علويّة، والعامل بالبلد نصرانيا، فإذا قدم العامل إلى البلد خرجت الفلاحون لتلقيّه، فمنهم من يسلّم عليه السّلام المعتاد، ومنهم من يفشى السلام عليه ويمعن فى ذلك، ومنهم من يمشى فى ركابه إلى حيث ينزل من البلد، ومنهم من يقبّل يده- وهو الفقير المحتاج أو الخائف من صاحب البلد- ويسأله إصلاح شأنه فيما هو مقرّر عليه من وزن الخراج حتى يسمح له بذلك، فلما منع الملك المؤيد هؤلاء النّصارى عن المباشرة بطل ذلك كلّه؛ فيكون الملك المؤيد على هذا الحكم فتح مصر فتحا ثانيا، وأعلى كلمة الإسلام وأخذل كلمة الكفر، ولا شىء عند الله أفضل من ذلك.
ولما لم يجب النصارى إلى عودهم إلى ما كانوا عليه من المباشرات بالديار المصرية وأعياهم أمر السلطان وثباته، وانقطع عنهم ما ألفوه من التحكّم فى المسلمين- ويقال:
إنّ العادة طبع خامس- شقّ عليهم ذلك، فتتابع عدّة منهم فى إظهار دين الإسلام وتلفظوا بالشهادتين فى الظاهر والله سبحانه وتعالى متولى السرائر.
قال المقريزى- بعد أن ذكر نوعا مما قلناه بغير هذه العبارة- قال: فصاروا من ركوب الحمير إلى ركوب الخيل والتعاظم على أعيان أهل الإسلام والانتقام منهم بإذلالهم وتعويق تعاملهم ورواتبهم حتى يخضعوا لهم ويتردّدوا إلى دورهم ويلحّوا فى السّؤال- فلا قوة إلا بالله- انتهى كلام المقريزى باختصار.
قلت: ويمكن إصلاح هذا الشّأن الثانى أيضا- إن صلح الراعى ونظر فى أحوال الرّعيّة وانتصر لدينه- بسهولة، هو أنه يكفّ من كان قريب عهد منهم من دين النصرانيّة عن المباشرة- انتهى.
ثم قدم الخبر على السّلطان بتوجه ابن السلطان من مدينة قيساريّة إلى مدينة قونيّة «1» فى خامس عشر شهر ربيع الآخر بعد ما مهّد أمور قيسارية ونقش اسم

(14/83)


السلطان على بابها، وأن الأمير تنبك ميق نائب الشّام لمّا وصل إلى العمق حضر إليه الأمير حمزة بن رمضان بجماعة من التّركمان وتوجّه معه هو وابن أوزر إلى قريب مصيصه «1» وأخذ أدنة «2» وطرسوس فسرّ السلطان بذلك سرورا عظيما.
ثم نادى محتسب القاهرة على النّصارى واليهود بتشديد ما أمرهم به من الملبس والعمائم وشدّد عليهم فى ذلك، فلما اشتدّ الأمر عليهم سعوا فى إبطال ذلك سعيا كبيرا فلم ينالوا غرضا.
ثم قدم الخبر على السلطان بأن ابن السلطان وصل إلى نكدة «3» فى ثامن عشر شهر ربيع الآخر فتلقّاه أهلها وقد عصت عليه قلعتها، فنزل عليها وحاصرها وركب عليها المنجنيق، وعمل النّقّابون فيها، وأن محمد بن قرمان تسحّب من نكدة فى مائة وعشرين فارسا هو وولده مصطفى.
كلّ ذلك والسلطان ملازم الفراش من ألم رجله، والأسعار مرتفعة.
ثم فى ثانى عشر جمادى الآخرة ورد الخبر بأن ابن السلطان حاصر قلعة نكدة سبعة وعشرين يوما إلى أن أخذها عنوة فى رابع عشر جمادى الأولى، وقبض على من كان فيها وقيّدهم، وهم مائة وثلاثة عشر رجلا.
ثم توجّه فى سادس عشر جمادى الأولى إلى مدينة لارندة «4» .
ثم فى سابع عشرين جمادى الأولى ركب السلطان من القلعة وأراد النّزول بدار ابن

(14/84)


البارزىّ على النيل ببولاق فلم يطق ركوب الفرس وحركته؛ لما به من ألم رجله، فركب فى محفّة إلى البحر، وحمل منها إلى الدّار المذكورة وصارت الطبلخاناة تدقّ هناك، وتمدّ الأسمطة وتعمل الخدمة على ما جرت به العادة بقلعة الجبل، ونزل الأمراء فى الدّور التى حول بيت [ابن] «1» البارزىّ وغيرها، واستمرّ السلطان فى بولاق إلى أن استهلّ شهر رجب الفرد فى بيت ابن البارزىّ وهو يتنقّل منه- وهو محمول على الأعناق- تارة إلى الحمّام التى بالحكر وتارة يوضع فى الحرّاقة وتسير به على ظهر النيل، فيسير فيها إلى رباط الآثار «2» .
ثم يحمل من الحرّاقة إلى [رباط] «3» الآثار المذكور، ثم يعود إلى بيت ابن البارزىّ، وتارة يسير فيها إلى القصر ببرّ الجيزة بحرىّ ممبابة، وتارة يقيم بالحرّاقة وهو بوسط النيل نهاره كلّه.
وقدم عليه الخبر فى ثانى عشر شهر رجب المذكور أن ابن السلطان لما تسلّم نكدة استناب بها على بك بن قرمان.
ثم توجّه بالعساكر إلى مدينة أركلى «4» فوصلها ثم رحل منها إلى مدينة لارندة فقدمها فى ثانى عشرين جمادى الآخرة، وبعث بالأمير يشبك اليوسفىّ نائب حلب فأوقع بطائفة من التّركمان، وأخذ أغنامهم وجمالهم وخيولهم وموجودهم، وعاد فبعث الأمير ططر والأمير سودون القاضى نائب طرابلس، والأمير شاهين الزّردكاش نائب حماة، والأمير مراد خجا نائب صفد، والأمير إينال الأرغزى، والأمير جلبّان رأس نوبة

(14/85)


سيدى [المقام الصارمى إبراهيم] «1» وجماعته من التّركمان، فكبسوا على محمد بن قرمان «2» بجبال لارندة فى ليلة الجمعة سادس جمادى الآخرة، ففرّ محمد بن قرمان منهم فأخذ جميع ما كان فى وطاقه «3» من خيل وجمال وأغنام وأثقال وقماش وأوانى فضة وبلّور، وعاد الأمراء بتلك الغنائم، فاقتضى عند ذلك رأى ابن السلطان ومن معه الرجوع إلى حلب «4» ، فعادوا فى تاسع شهر رجب، فجّهز السلطان إلى ولده بحلب ستة آلاف دينار ليفرقها على الأمراء، ورسم له بأن يقيم بحلب لعمارة سورها، وسار البريد بذلك.
ثم ركب السلطان فى رابع عشر شهر رجب من بيت ابن البارزىّ ببولاق بالحرّاقة إلى بيت التاجر نور الدين الخروبى ببرّ الجيزة تجاه المقياس، وكان فى مدّة إقامته فى بيت ابن البارزىّ قد أحضر الحراريق من ساحل مصر «5» إلى ساحل بولاق «6» وزيّنت بأفخر زينة وأحسنها، وصار السلطان يركب فى الحرّاقة الذّهبيّة وبقية الحراريق سائرة معه مقلعة ومنحدرة، وتلعب بين يديه، كما كانت العادة فى تلك الأيام عند وفاء النيل، ودوران المحمل فى نصف شهر رجب.
ولما كان أيّام دوران المحمل على العادة فى كل سنة رسم السلطان إلى معلّم الرّمّاحة «7» أن يسوقوا المحمل بساحل بولاق، وكان ساحل بولاق يوم ذاك برّا وسيعا ينظر الجالس فى بيت ابن البارزىّ مدد عينه من جهة فم الخور، «8»

(14/86)


فتوجّه المعلّم بالرّمّاحة هناك فى يوم المحمل، وساقوا بين يديه كما يسوقون فى بركة الحبش «1» أيّام أزمانهم وبالرّميلة «2» فى يوم المحمل، وتفرّجت الناس على المحمل فى بولاق، ولم يقع مثل ذلك فى سالف الأعصار، فصار الشخص يجلس بطاقته فيتفرّج على المحمل وعلى البحر معا، فلمّا كان قريب الوفاء ركب فى الحرّاقة الذهبيّة والحراريق بين يديه بعد أن أقاموا بالزّينة أيّاما والناس تتفرّج عليهم، وسار حتى نزل بالخرّوبيّة فأرست الحراريق المزينّة على ساحل مصر بدار النّحاس «3» ، كما هى عادتها فى السنين الماضية إلى أن كان يوم الوفاء وهو يوم سادس عشر رجب ركب السلطان من الخرّوبيّة فى الحرّاقة، وسار إلى المقياس ومعه الأمراء وأرباب الدّولة حتى خلّق المقياس على العادة.
ثم سار فى خليج السّدّ حتى فتحه، وركب فرسه فى عساكره وعاد إلى القلعة، فكانت غيبته عن القلعة فى نزهته ثلاثين يوما بعد ما انقضى للناس بساحل بولاق فى تلك الأيّام من الاجتماعات والفرج أوقات طيّبة إلى الغاية لم يسمع بمثلها، ولم يكن فيها- بحمد الله- شىء مما ينكر كالخمور وغيرها، وذلك لإعراض السلطان عنها من منذ لازمه وجع رجله.
ثم قدم الخبر على السّلطان بوصول ولده المقام الصارمى بعساكره إلى حلب فى ثالث شهر رجب، وأن الأمير تنبك العلائى ميق نائب الشام واقع مصطفى وأباه محمد ابن قرمان وإبراهيم بن رمضان على أدنة فانهزموا منه أقبح هزيمة.
ثم فى عشرين شعبان تزايد ألم السلطان ولم يحمل إلى القصر السلطانى، ولزم

(14/87)


الفراش، واشتد به المرض، وخلع على التاج ابن سيفه باستقراره أمير حاج المحمل، ثم نصل السلطان من مرضه قليلا فركب فى يوم سابع عشرين شعبان من القلعة ونزل للفرجة على سباق الخيل، فسار بعساكره سحرا ووقف بهم تحت قبّة النّصر «1» وقد أعدّ للسباق أربعين فرسا فأطلق أعنتها من بركة الحاج فأجريت منها حتى أتته ضحى النهار، فحصل له برؤيتها النّشاط، ورجع من موقفه إلى تربة الملك الظّاهر برقوق، ووقف قريبا منها دون الساعة، ثم بعث المماليك والجنائب والشطفة «2» إلى القلعة وتوجّه إلى خليج الزّعفران «3» ، فنزل بخاصته وأقام به إلى آخر النهار، وركب إلى القلعة.
ثم فى سلخ شعبان ركب السلطان أيضا من قلعة الجبل إلى بركة الحبش وسابق بالهجن، ثم عاد إلى القلعة.
ثم فى يوم الخميس أوّل شهر رمضان قدم الخبر أن ابن السلطان رحل من حلب فى رابع عشرين «4» شعبان، وأنّ محمد بن قرمان وولده مصطفى وإبراهيم بن رمضان وصلوا إلى قيساريّة فى سادس عشرين «5» شعبان وحصروا بها الأمير ناصر الدين محمد ابن دلغادر نائبها فقاتلهم حتى كسرهم «6» ونهب ما كان معهم، وقتل مصطفى وحملت رأسه، وقبض على أبيه محمد بن قرمان- فسجن بها، ثم قدم رأس مصطفى ابن محمد بن على بك بن قرمان إلى القاهرة فى يوم الجمعة سادس عشر شهر رمضان، فطيف به بشوارع القاهرة على رمح ثم علّق على باب النّصر أحد أبواب القاهرة، وقدم

(14/88)


الخبر أيضا بمسير ابن السلطان من حلب وقدومه إلى دمشق فى خامس شهر رمضان، فأرسل السلطان الإقامات إلى ولده إلى أن كان يوم سابع عشرين شهر رمضان المذكور من سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة فركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إلى لقاء ولده المقام الصّارمى «1» إبراهيم وقد وصل إلى قطيا، فسار السلطان إلى بركة الحاج، واصطاد بها، ثم ركب ومضى إلى جهة بلبيس فقدم عليه الخبر بنزول ابن السلطان الصالحيّة- فتقدّم الأمراء عند ذلك وأرباب الدّولة حتى وافوه بمنزلة الخطّارة «2» ، فلما عاينته الأمراء ترجّلوا عن خيولهم وسلّموا عليه واحدا بعد واحد حتى قدم عليه القاضى ناصر الدين بن البارزىّ كاتب السّرّ نزل له المقام الصّارمىّ عن فرسه ولم ينزل لأحد قبله؛ لما يعلمه من تمكّنه وخصوصيته عند أبيه الملك المؤيّد، وركب الجميع فى خدمته وعادوا بين يديه إلى العكرشة «3» والسلطان واقف بها على فرسه، فنزل الأمراء المسافرون وقبّلوا الأرض بين يدى السلطان، ثم قبّلوا يده واحدا بعد واحد إلى أن انتهى سلامهم نزل المقام الصارمى عن فرسه وقبّل الأرض، ثم قام ومشى حتى قبّل الرّكاب السّلطانى، فبكى السلطان من فرحه بسلامة ولده، وبكى الناس لبكائه، فكانت ساعة عظيمة.
ثم سارا بموكبيهما الشامى والمصرى إلى سرياقوس وباتا بها ليلة الخميس تاسع عشرين شهر رمضان المذكور، وتقدّمت الأثقال والأطلاب ودخلوا القاهرة، وركب السلطان آخر الليل ورمى الطّير بالبركة، فقدم عليه الخبر بكرة يوم الخميس بوصول الأمير تنبك ميق نائب الشام، وكان قد طلب، فوافى ضحى، وركب فى الموكب السلطانى، ودخل السلطان من باب النصر فشقّ القاهرة- وقد زينت لقدوم ولده- والأمراء عليها

(14/89)


التشاريف، وعلى المقام الصارمى أيضا تشريف عظيم إلى الغاية وخلفه الأسراء الذين أخذوا من قلعة نكدة وغيرها فى الأغلال والقيود، وهم نحو المائتين كلهم مشاة إلا أربعة فإنهم على خيول، منهم نائب نكدة وثلاثة من أمراء ابن قرمان، وكلهم فى الحديد، فسار الموكب إلى أن وصل السلطان وولده إلى القلعة «1» ، فكان يوما مشهودا إلى الغاية لم ينله أحد من ملوك مصر، فلهجت الناس بأن الملك المؤيّد قد تمّ سعده، كل ذلك والسلطان لا يستطيع المشى من ألم رجله.
وأصبح يوم السبت أوّل شوال صلّى صلاة العيد بالقصر لعجزه عن المضىّ إلى الجامع؛ لشدة ألم رجله وامتناعه من النهوض على قدميه.
ثم فى ثالث شوال خلع على الأمير جقمق الأرغون شاوىّ الدّوادار الكبير باستقراره فى نيابة الشام عوضا عن تنبك العلائى ميق [بحكم عزله] «2» ، وخلع على الأمير مقبل الحسامىّ الدّوادار الثانى باستقراره دوادارا كبيرا على إمرة طبلخاناه «3» ، وأنعم السلطان بإقطاع جقمق الدّوادار على الأمير تنبك ميق.
ثم فى رابع شوال المذكور خلع السلطان أيضا على الأمير قطلوبغا التّنمىّ أحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية واستقرّ فى نيابة صفد عوضا عن الأمير قرامراد خجا، ورسم بتوجّه قرامراد خجا إلى القدس بطّالا، وأنعم بإقطاع قطلوبغا التّنمىّ على الأمير جلبّان الأمير آخور الثانى، وأنعم بإقطاع جلبّان ووظيفته على الأمير آقبغا التّمرازىّ، فتجهّز جقمق بسرعة وخرج فى يوم سابع عشره من القاهرة متوجّها إلى محلّ كفالته بدمشق.
ثم فى يوم الجمعة حادى عشرينه نزل السلطان إلى جامعه بالقرب من باب زويلة وقد هيّئت به المطاعم والمشارب فمدّ بين يديه سماط عظيم فأكل السلطان منه والأمراء

(14/90)


والقضاة والعسكر، وملئت الفسقيّة التى بصحن الجامع سكّرا مذابا، فشرب الناس منه، ثم أحضرت الحلاوات؛ كل ذلك لفراغ الجامع المذكور ولإجلاس قاضى القضاة شمس الدين محمد بن الدّيرى الحنفى فى مشيخة الصّوفيّة وتدريس الحنفية، وفرشت السّجادة لابن الدّيرى فى المحراب، وقرّر خطابة الجامع المذكور للقاضى ناصر الدين محمد بن البارزىّ كاتب السرّ، ثم عرض السلطان الفقهاء وقرّر منهم من اختاره فى الوظائف والتصوّف، ثم استدعى قاضى القضاة شمس الدين بن الديرى وألبسه خلعة باستقراره فى المشيخة، وجلس بالمحراب والسّلطان وولده الصّارمى إبراهيم عن يساره، والقضاة عن يمينه، ويليهم مشايخ العلم وأمراء الدولة، فألقى ابن الديرى درسا عظيما وقع فيه أبحاث ومناظرات [بين الفقهاء] «1» والملك المؤيد يصغى لهم ويعجبه الصواب من قولهم، ويسأل عما لا يفهمه حتى يفهمه.
قلت: هذا هو المطلوب من الملوك، الفهم والذّوق لينال كلّ ذى رتبة رتبته، وينصف أرباب الكمالات- بين يديه- من كلّ فن، فوا أسفاه على ذلك الزمان وأهله.
واستمرّ البحث بين الفقهاء إلى أن قرب وقت الصلاة ثم انفضّوا، واستمر السلطان جالسا بمكانه إلى أن حان وقت الصلاة، وتهيأ السلطان وكلّ أحد للصلاة، فخرج القاضى ناصر الدين بن البارزىّ من بيت الخطابة وصعد المنبر وخطب خطبة بليغة فصيحة من إنشائه، ثم نزل وصلّى بالناس صلاة الجمعة، فلما انقضت الصلاة خلع السلطان عليه باستقراره فى خطابة الجامع المذكور ووظيفة خازن الكتب.
ثم ركب السلطان من الجامع المذكور وعدّى النيل إلى برّ الجيزة فأقام به إلى يوم الأحد ثالث عشرينه، وعاد إلى القلعة، ثم ركب من القلعة فى يوم الأحد أول ذى القعدة للصيد وعاد من يومه.
وفى يوم ثالثه سار الأمير الكبير ألطنبغا القرمشى والأمير طوغان الأمير آخور الكبير للحج على الرّواحل من غير ثقل.

(14/91)


ثم فى يوم الجمعة سادس ذى القعدة خلع السلطان على القاضى زين الدين عبد الرحمن ابن على بن عبد الرحمن التّفهنى الحنفى باستقراره قاضى قضاة الحنفيّة عوضا عن قاضى القضاة شمس الدين محمد بن الديرى المستقرّ فى مشيخة الجامع المؤيدى برغبة ابن الديرى؛ فإنه كان من حادى عشرين شوال قد انجمع عن الحكم بين الناس ونوّابه تقضى.
وفيه أيضا عدى السلطان النيل يريد سرحة البحيرة، وجعل نائب الغيبة الأمير إينال الأرغزى، وسار السلطان حتى وصل مريوط وعاد فأدركه عيد الأضحى بمنزلة الطّرّانة، فصلى بها العيد، وخطب كاتب سرّه القاضى ناصر الدين بن البارزى.
قلت: هكذا يكون كتّاب سرّ الملوك أصحاب علم «1» وفضل ونظم ونثر وخطب وإنشاء، لا مثل جمال الدين الكركى وشهاب الدين بن السفّاح.
ثم ارتحل السلطان من الغد وسار حتى نزل على برّ منبابة بكرة يوم الأحد ثالث عشر ذى الحجة، وعدّى النيل من الغد ونزل ببيت كاتب السرّ ابن البارزىّ، وبات به، ودخل الحمام التى أنشأها كاتب السرّ بجانب داره، ثم عاد السلطان فى يوم الاثنين رابع عشر ذى الحجة إلى القلعة، وخلع على الأمراء والمباشرين على العادة، ثم نزل السلطان فى يوم الجمعة ثامن عشره إلى الجامع المؤيدى، وصلى به الجمعة، وخطب به كاتب السرّ ابن البارزى، ثم حضر من الغد الأمير محمد بك بن على بك بن قرمان صاحب قيساريّة وقونية ونكدة ولا رندة وغيرها من البلاد وهو مقيد محتفظ به، فأنزل فى دار الأمير مقبل الدّوادار ووكّل به إلى ما سيأتى ذكره «2» .
[ما وقع من الحوادث سنة 823]
ثم فى يوم الجمعة ثالث المحرم وصل الأمير الكبير ألطنبغا القرمشى والأمير طوغان أمير آخور من الحجاز، فكانت غيبتهما عن مصر تسعه وخمسين يوما، وفيه استقرّ الأمير شاهين الزّرد كاش نائب حماة فى نيابة طرابلس عوضا عن سودون القاضى، واستقرّ فى نيابة حماة عوضا عن شاهين المذكور الأمير إينال الأرغزى

(14/92)


النّوروزى نائب غزّة، واستقر عوضه فى نيابة غزّة الأمير أركماس الجلبّانى أحد مقدمى الألوف بالديار المصرية، ثم أفرج السلطان عن الأمير نكباى حاجب دمشق من سجنه بقلعة دمشق واستقر فى نيابة طرسوس، وأحضر نائبها الأمير تنبك أميرا إلى حلب، واستقر الأمير خليل الدّشارى أحد أمراء الألوف بدمشق فى حجوبية الحجاب بدمشق وكانت شاغرة منذ أمسك نكباى، واستقر الأمير سنقر نائب قلعة دمشق، واستقر الأمير آفبغا الأسندمرى الذي كان ولى نيابة سيس ثم حمص حاجبا بحماة عوضا عن الأمير سودون السّيفى علّان بحكم عزله واعتقاله، وكان بطلا بالقدس.
ثم فى سادس عشر المحرم نقل الشيخ عز الدين عبد العزيز البغدادى من تدريس الحنابلة بالجامع المؤيدى إلى قضاء الحنابلة بدمشق، واستقر عوضه فى التدريس بالجامع المذكور العلامة محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادى.
ثم فى يوم الاثنين خامس صفر ركب السلطان من القلعة وعدّى النيل ونزل بناحية وسيم على العادة فى كل سنة، وأقام بها إلى عشرين صفر، فركب وعاد من وسيم إلى أن عدى النيل ونزل ببيت كاتب السروبات به، وعمل الوقيد فى ثانى عشرينه، ثم ركب من الغد إلى الغد إلى القلعة.
ثم فى سادس عشرينه نزل السلطان من القلعة إلى بيت الأمير أبى بكر الأستادار وعاده فى مرضه، فقدّم له أبو بكر تقدمة هائلة، واستمرّ أبو بكر مريضا إلى أن مات وتولّى الأستادارية بعده الأمير يشبك المؤيدى المعروف بأنالى- أى له أمّ- فى يوم الخميس ثالث عشر شهر ربيع الأوّل.
ثم فى هذا الشهر تحرّك عزم السلطان على السّفر إلى بلاد الشّرق لقتال قرا يوسف، وأخذ فى الأهبة لذلك وأمر الأمراء بعمل مصالح السّفر، فشرعوا فى ذلك، هذا وهو لا يستطيع الرّكوب ولا النّهوض من شدّة ما به من الألم الذي تمادى برجله وكسّحه، ولا ينتقل من مكان إلى آخر إلا على أعناق المماليك، وهو مع ذلك له حرمة ومهابة فى

(14/93)


القلوب لا يستطيع أخصّاؤه النظر إلى وجهه إلا بعد أن يتلطّف بهم ويباسطهم حتى يسكن روعهم منه.
ثم فى أوّل شهر ربيع الآخر وقع الشروع فى بناء منظرة الخمس وجوه «1» بجوار التّاج «2» الخراب خارج القاهرة بالقرب من كوم الرّيش»
لينشئ السلطان حوله بستانا جليلا ودورا، ويجعل ذلك عوضا عن قصور سرياقوس، ويسرح إليها كما كانت الملوك نسرح إلى سرياقوس منذ أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاوون.
ثم فى ثالث عشر شهر ربيع الآخر المذكور ابتدأ بالسّلطان ألم تجدّد عليه من حبسة الإراقة «4» ، مع ما يعتريه من ألم رجله، واشتدّ به وتزايد ألم رجله.
فلما كان يوم الأربعاء رابع عشرين الشّهر المذكور نادى السلطان بإبطال مكس الفاكهة البلدية والمجلوبة، وهو فى كل سنة نحو ستة آلاف دينار سوى ما يأخذه الكتبة والأعوان، فبطل ونقش ذلك على باب الجامع المؤيدى.
ثم فى يوم الخميس ثانى جمادى الأولى ابتدأ بالمقام الصارمى إبراهيم ابن السلطان الملك المؤيد مرض موته، ولزم الفراش بالقلعة إلى يوم الثلاثاء رابع عشره ركب من القلعة فى محفّة لعجزه عن ركوب الفرس ونزل إلى بيت القاضى زين الدين عبد الباسط ابن خليل ناظر الخزانة ببولاق، وأقام به، ثم ركب من الغد فى النّيل وعدّى إلى الخرّوبيّة ببرّ الجيزة، وأقام بها وقد تزايد مرضه.

(14/94)


وأما السلطان فإنه ركب من القلعة فى يوم ثانى عشر جمادى الأولى المذكور وتوجّه إلى منظرة الخمس وجوه وشاهد ما عمل هناك، ورتب ما اقتضاه نظره من ترتيب البناء، وعاد إلى بيت صلاح الدين خليل بن الكويز ناظر الدّيوان المفرد المطلّ على بركة الرّطلى، فأقام فيه نهاره وعاد من آخره إلى القلعة.
ثم فى يوم السبت خامس عشرينه خلع السلطان على الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان البساطىّ المالكى شيخ الخانقاه الناصرية فرج باستقراره قاضى قضاة المالكية بعد وفاة القاضى جمال الدين عبد الله بن مقداد الأقفهسى.
ثم فى يوم الأربعاء تاسع عشرينه نزل السلطان من القلعة وتوجّه إلى الميدان الكبير الناصرى بمردة الجبس، وكان قد خرب وأهمل أمره منذ أبطل الملك الظاهر برقوق الرّكوب إليه، ولعب الكرة فيه، وتشعثت قصوره وجدرانه، وصار منزلا لركب الحاج من المغاربة، فرسم السلطان فى أوّل هذا الشهر للصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله بعمارته، فلما انتهى نزل السلطان إليه فى هذا اليوم وشاهد ما عمّر به فأعجبه، ومضى منه إلى بيت ابن البارزىّ ببولاق وقد تحوّل المقام الصارمى إبراهيم من الخرّوبية «1» إلى قاعة الحجازية «2» فزاره السلطان غير مرّة بالحجازية، وأنزل بالحريم السلطانىّ إلى بيت ابن البارزىّ فأقاموا عنده.
فلما كان يوم الجمعة أوّل جمادى الآخرة صلّى السلطان صلاة الجمعة بالجامع الذي جدّده ابن البارزى تجاه بيته، وكان هذا الجامع يعرف قديما بجامع

(14/95)


الأسيوطى «1» ، وخظب به وصلى قاضى القضاة جلال الدين البلقينىّ.
ثم ركب السلطان من الغد فى يوم السبت ثانى جمادى الآخرة إلى الميدان المقدم ذكره وعمل به الخدمة السلطانية، ثم توجه إلى القلعة وأقام بها إلى يوم الأربعاء سادسه فركب منها ونزل إلى بيت ابن البارزى وأقام به أياما، ثم عاد إلى القلعة.
ثم فى يوم الأربعاء ثالث عشره حمل المقام الصارمى إبراهيم من الحجازية إلى القلعة على الأكتاف لعجزه عن ركوب المحفّة، فمات ليلة الجمعة خامس عشره «2» فارتجّت القاهرة لموته، فجهّز من الغد وصلّى عليه ودفن بالجامع المؤيّدى، وشهد السلطان الصلاة عليه ودفنه، مع عدم نهضته للقيام من شدّة مرضه وللوجد الذي حصل له على ولده، وأقام السلطان بالجامع المؤيّدى إلى أن صلى به الجمعة، وخطب القاضى

(14/96)


ناصر الدين بن البارزى على العادة، وخطب خطبة بليغة من إنشائه، وسبك فى الخطبة الحديث الذي ذكره النّبيّ- صلّى الله عليه وسلم- عند موت ولده إبراهيم «إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليخشع وإنّا لمحزنون على فراقك يا إبراهيم ... الخ» فلما ذكر ذلك ابن البارزى على المنبر بكى السلطان وبكى الناس لبكائه فكانت ساعة عظيمة، ثم ركب السلطان بعد الصلاة من الجامع المؤيّدى وعاد إلى القلعة، وأقام القرّاء يقرءون القرآن على قبره سبع ليال.
وفى هذه الأيام توقّف النيل عن الزّيادة، وغلا سعر الغلال، ونودى بالقاهرة بالصّيام ثلاثة أيام، ثم بالخروج إلى الصحراء للاستسقاء «1» ، فصام أكثر الناس وصام السلطان، فنودى بزيادة إصبع ممّا نقصه، ثم نودى فى يوم الأحد رابع عشرينه بالخروج من الغد للصحراء خارج القاهرة، فلما كان الغد يوم الاثنين خرج شيخ الإسلام قاضى القضاة جلال الدين البلقينى وسار حتى جلس فى فم الوادى قريبا من قبّة النّصر- وقد نصب هناك منبر- فقرأ سورة الأنعام، وأقبل الناس أفواجا من كل جهة حتى كثر الجمع ومضى من شروق الشمس نحو الساعتين أقبل السلطان بمفرده على فرس وقد تزيّا بزىّ أهل التّصوّف، واعتمّ على رأسه بمئزر صوف لطيف، ولبس على بدنه ثوب صوف أبيض، وعلى عنقه مئزر صوف [بعذبة] «2» مرخاة على بعض ظهره، وليس فى سرجه ولا شىء من قماش فرسه ذهب ولا حرير، فأنزل عن الفرس وجلس على الأرض من غير بساط ولا سجّادة مما يلى يسار المنبر، فصلّى قاضى القضاة ركعتين كهيئة صلاة العيد والناس وراءه يصلّون بصلاته، ثم رقى المنبر فخطب خطبتين حثّ الناس فيهما على التّوبة والاستغفار وأعمال البرّ وحذّرهم ونهاهم، وتحوّل فوق المنبر واستقبل القبلة ودعا فأطال الدعاء، والسلطان فى ذلك كلّه يبكى وينتحب وقد باشر فى سجوده التّراب بجبهته، فلما انقضت الخطبة ركب السلطان فرسه مع عدم قدرته على القيام،

(14/97)


وإنما يحمل على الأكتاف حتى يركب، ثم يحمل حتى ينزل، وسار إلى جهة القلعة والعامة محيطة به يدعون له، فكان هذا اليوم من الأيام المشهودة، ومن أحسن ما نقل عنه فى هذه الرّكبة أن بعض العامة دعا له حالة الاستسقاء أنّ الله ينصره، فقال لهم الملك المؤيد: اسألوا الله فيما نحن بصدده، وإنما أنا واحد منكم- لله درّه فيما قال.
ثم فى غده نودى على النيل بزيادة اثنى عشر إصبعا بعد ما ردّ النقص، وهو قريب سبعة وعشرين إصبعا، فتباشر الناس باستجابة دعائهم.
ثم قدم الخبر على السلطان بنزول قرا يوسف على بغداد وقد عصاه ولده شاه محمد «1» بها، فحاصره ثلاثة أيام حتى خرج إليه، فأمسكه أبوه قرا يوسف واستصفى أمواله وولّى عوضه على بغداد ابنه أميرزة أصبهان، ثم عاد قرا يوسف إلى مدينة تبريز لحركة شاه رخّ بن تيمور لنك عليه.
ثم فى يوم الاثنين سابع عشر شهر رجب ركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إلى بيت كاتب السرّ ابن البارزىّ على عادته ليقيم به ونزل الأمراء بالدّور من حوله، وصارت الخدمة تعمل هناك، وكان السلطان قد انقطع عن النزول إليه من يوم مات ابنه.
ثم فى يوم الأربعاء تاسع عشره جمع السلطان خاصّته ونزل إلى البحر وسبح فيه «2» ، وعام من بيت كاتب السرّ إلى منية الشّيرج ثم عاد فى الحرّاقة، وكثر تعجّب الناس من قوّة سبحه مع زمانة رجله وعجزه عن الحركة والقيام، ولمّا أراد أن ينزل للسّباحة أقعد فى تخت من خشب كهيئة مقعد المحفّة، وأرخى من أعلى الدار بجبال وبكر إلى الماء، فلمّا عاد فى الحرّاقة رفع فى التخت المذكور من الحرّاقة إلى أعلى الدّار حتى جلس على مرتبته، فنودى من الغد على النّيل بزيادة ثلاثين إصبعا، ولم يزد فى هذه السنة مثلها، فتيامن الناس بعوم السلطان فى النيل، وعدّوا ذلك من جملة سعادته، وقالت العامة: الزيادة ببركته.

(14/98)


ثم فى يوم الجمعة حادى عشرين «1» شهر رجب المذكور ركب السلطان من بيت ابن البارزىّ فى الحرّاقة وتنزّه على ظهر النيل، وتوجّه إلى [رباط] «2» الآثار النبوية فزاره، وبرّ من هناك من الفقراء والخدام وغيرهم، ثم عاد إلى المقياس بجزيرة الرّوضة فصلّى الجمعة بجامع المقياس، ورسم بهدمه وبنائه «3» ثانيا وتوسعته، ففعل ذلك، ورسم أيضا بترميم بلاط [رباط] «4» الآثار النبوية، ثم عاد إلى الجزيرة الوسطى وركب منها إلى الميدان الناصرى «5» وبات به، وركب من الغد فى يوم السبت إلى القلعة.
ثم فى سابع عشرين شهر رجب المذكور من سنة ثلاث وعشرين قدم الخبر على السلطان من الأمير عثمان بن طرعلى المدعو قرايلك «6» صاحب آمد أنه كبس على بير عمر حاكم أرزنكان «7» من قبل قرا يوسف وأمسكه وقيّده هو وأربعة وعشرين نفسا من أهله وأولاده، وأنه قتل من أعوانه ستين رجلا وغنم شيئا كثيرا، فسرّ السلطان بذلك، ثم إنه قتل بير عمر المذكور، وأرسل برأسه إلى السلطان، فوصل الرأس إلى القاهرة فى يوم الاثنين أول شعبان.
وكان السلطان قد كتب محاضر بكفر قرا يوسف وولده حاكم بغداد، فأفتى مشايخ العلم بوجوب قتاله، ورسم السلطان للأمراء بالتّجهيز للسفر «8» ، وحملت إليهم النّفقات، فوقع التّجهيز فى أمور السفر، ونودى فى رابع شعبان المذكور بالقاهرة بين يدى

(14/99)


الخليفة والقضاة الأربعة بجميع نوّابهم وبين يديهم القاضى بدر الدين حسن البردينى أحد نوّاب الحكم الشافعية، وهو راكب على بغلته وبيده ورقة يقرأ منها استنفار الناس لقتال قرا يوسف وتعداد قبائحه ومساوئه.
قلت: هو كما قالوه وزيادة، عليه وعلى ذرّيته اللعنة، فإنهم كانوا سببا لخراب بغداد وأعمالها، وكانت بغداد منبع العلم ومأوى الصالحين حتى ملكها هؤلاء التّركمان رعاة الأغنام فساءوا السّيرة، وسلبوا الناس أموالهم، وأخربوا البلاد، وأبادوا العباد من الظلم والجور والعسف- ألا لعنة الله على الظالمين.
ثم فى يوم الاثنين ثامن شعبان- ويوافقه خامس عشرين مسرى أحد شهور القبط- أو فى النيل فركب السلطان إلى المقياس حتّى خلّقه على العادة، ثم ركب الحرّاقة حتى فتح خليج السّدّ على العادة.
ثمّ فى يوم الجمعة عقد السلطان عقد الأمير الكبير ألطنبغا القرمشى على ابنته «1» بصداق مبلغه «2» خمسة عشر ألف دينار هرجه «3» بالجامع المؤيّدى بحضرة القضاة والأمراء والأعيان، هذا وقد تهيّأ القرمشىّ للسّفر إلى البلاد الشّاميّة مقدّم العساكر، وأصبح من الغد فى يوم السبت ثالث عشر شعبان المذكور برّز الأمير الكبير ألطنبغا القرمشى طلبه من القاهرة إلى الرّيدانيّة خارج القاهرة، ومعه من الأمراء مقدّمى الألوف جماعة: الأمير ألطنبغا من عبد الواحد المعروف بالصّغير رأس نوبة النّوب، والأمير طوغان الأمير آخور الكبير، والأمير ألطنبغا المرقبىّ حاجب الحجّاب، والأمير جلبّان أمير آخور- كان- والأمير جرباش الكريمىّ قاشق، والأمير آقبلاط السّيفى دمرداش، والأمير أزدمر الناصرى، وندبهم السلطان للتوجّه إلى حلب خشية من حركة قرا يوسف.

(14/100)


وفيه نزل السلطان من القلعة إلى بيت ابن البارزىّ وأقام به إلى يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان، فتوجّه إلى الميدان لعرض المماليك الرّماحة، فتوجّه إليه وجلس ولعبت مماليك السلطان بالرّمح بين يديه مخاصمة، ولعّب حتى المعلمين، جعل لكلّ معلّم خصما مثله ولعبّهما بين يديه، فوقع بين الرّمّاحة أمور ومخاصمات، وأبدوا غرائب فى فنونهم، كل ذلك لمعرفة الملك بهذا الشّأن ومحبّته لأرباب الكمالات من كلّ فنّ، فلمّا انتهى لعبهم والإنعام عليهم- كل واحد بحسب ما يليق به- ركب آخر النهار من الميدان المذكور على ظهر النيل فى الحرّاقة الى بيت [ابن] «1» البارزىّ ببولاق، وأقام به وعمل الخدمة به إلى أن ركب منه إلى الميدان ثانيا فى نهار السبت العشرين من شعبان، ولعبت الرّمّاحة بين يديه، وهم غير من تقدم ذكرهم؛ فإنه رسم أنّ فى كل يوم من يومى السبت والثلاثاء يلعب معلّمان هما وصبيانهما- لا غير- مخاصمة.
قلت: وهذه عادة الملوك، لمّا تعرض المماليك بين يديهم، لا يخاصم فى كل يوم غير صبيان معلّم مع صبيان معلّم آخر، لكن زاد الملك المؤيّد بأن لعّب المعلمين أيضا، فصار المعلّم يقف يمينا [ويقف] «2» صبيانه صفا واحدا تحته، ويقف تجاهه معلّم آخر آخر وصبيانه تحته، فيخرج المعلّم للمعلّم ويتخاصمان إلى أن ينجزا أمرهما، ثم يخرج النائب للنائب الذي يقابله من ذلك المعلّم، ثم يخرج كلّ واحد لمن هو مقابله إلى أن يستتم العرض بين الظّهر والعصر أو قبل الظهر أو بعده بحسب قلّة الصّبيان وكثرتهم، ولمّا تمّ العرض فى نهار السّبت المذكور بالميدان لم يتحرّك السلطان من الميدان وبات به، وأصبح يوم الأحد ركب الحرّاقة وتوجّه فى النيل إلى [رباط] «3» الآثار النبويّة وزاره وتصدق به، ثم عاد إلى المقياس بالرّوضة، وكشف عمارة جامع المقياس بالرّوضة، ثم عاد فى الحرّاقة الى الميدان، فبات به وعرض فى يوم الاثنين أيضا، أراد بذلك انجاز أمرهم

(14/101)


فى العرض، ولما انتهى العرض فى ذلك اليوم ركب الحرّاقة وتوجّه إلى [رباط] «1» الآثار ثانيا وزاره، ثم عاد إلى جزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطانية، ونزل بها فى مخيمه، فأقام بها يومه وعاد إلى الميدان وبات به ليلتين، ثم رجع فى النيل إلى بيت كاتب السّرّ ببولاق فى يوم الخميس فبات به وصلّى الجمعة بجامع كاتب السّرّ، وخطب وصلّى به قاضى القضاة جلال الدين البلقينىّ، ثم ركب الحرّاقة بعد الصّلاة وتوجّه إلى الميدان وبات به وركب إلى القلعة بكرة يوم السبت سابع عشرين شعبان، كل ذلك والسلطان صائم فى شهر رجب وشعبان لم يفطر فيهما إلا نحو عشرة أيّام عندما يتناول الأدوية بسبب ألم رجله، هذا مع شدّة الحرّ فإنّ الوقت كان فى فصل الصّيف وزيادة النّيل.
ولما استهلّ شهر رمضان بيوم الثلاثاء انتقض على السلطان ألم رجله ولزم الفراش وصارت الخدمة السلطانية تعمل بالدّور السلطانية من قلعة الجبل لقلّة حركة السلطان مما به من الألم، وهو مع ذلك صائم لا يفطر إلا يوم يتناول فيه الدّواء.
ثم فى رابع عشر شهر رمضان المذكور خلع السلطان على الصاحب تاج الدين عبد الرّزاق بن الهيصم باستقراره ناظر ديوان المفرد بعد موت صلاح الدين خليل بن الكويز.
ثم فى هذا الشهر أيضا ابتدأ مرض القاضى ناصر الدين بن البارزى «2» كاتب السّر الذي مات به، واستمرّ السلطان ضعيفا شهر رمضان كله، فلما كان يوم الأربعاء أوّل شوال صلى السلطان صلاة العيد بالقصر الكبير من قلعة الجبل عجزا عن المضى إلى الجامع.
ثم فى رابعه ركب السلطان المحفّة من قلعة الجبل ونزل إلى جهة «منظرة الخمس وجوه» التى استجدها بالقرب من التّاج وقد كملت، والعامة تسميها «التاج والسبع وجوه» وليس

(14/102)


هو كذلك، وإنما هى ذات «خمس وجوه» ، وأما التاج فإنه خراب، وقد أنشأ به عظيم الدّولة الصاحب جمال الدين بن يوسف ناظر الجيش والخاص عمائر «1» هائلة وسبيلا ومكتبا وبستانا وغير ذلك- انتهى.
ولمّا توجّه السلطان إلى «الخمس وجوه» أقام به نهاره ثم عاد إلى القلعة، وأقام بها إلى يوم الأربعاء خامس عشر شوال فغضب على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخواص وضربه بين يديه ضربا مبرّحا، ثم أمر به فنزل إلى داره على وظائفه من غير عزل، كل ذلك والسلطان مريض ملازم للفراش، غير أنه يتنقّل من مكان إلى مكان محمولا على الأكتاف.
فلما كان يوم الاثنين عشرين شوال أشيع بالقاهرة موت السلطان، فاضطرب الناس، ثم أفاق السلطان فسكنوا، فطلع أمير حاج المحمل الأمير تمرباى المشدّ وقبّل الأرض وخرج بالمحمل إلى بركة الحاج من يومه، وسافر الحاج وهو على تخوّف من النّهب بسبب الإشاعات بموت السلطان.
ثم فى يوم الاثنين المذكور طلب السلطان الخليفة والقضاة الأربعة والأمراء والأعيان وعهد إلى ولده الأمير أحمد «2» بالسلطنة من بعده، وعمره سنة واحدة ونحو خمسة أشهر وخمسة أيام؛ فإن مولده فى جمادى الأولى من السنة الخالية، وجعل الأمير الكبير ألطنبغا القرمشى القائم بتدبير ملكه إلى أن يبلغ الحلم، وأن يقوم بتدبير الدّولة مدّة غيبة الأتابك ألطنبغا القرمشى إلى أن يحضر الأمراء الثلاثة وهم: قجقار القردمىّ أمير سلاح، وتنبك العلائى ميق المعزول عن نيابة الشام، والأمير ططر أمير مجلس، وحلّف السلطان الأمراء على العادة، وأخذ عليهم الأيمان والعهود بالقيام فى طاعة ولده وطاعة مدبّر مملكته، ثم حلّف المماليك من الغد، ثم أفاق السلطان وحضرت الأمراء الخدمة على العادة.

(14/103)


وخلع فى يوم السبت خامس عشرينه على القاضى كمال الدين محمد بن البارزى «1» باستقراره كاتب السّر الشريف بالديار المصرية بعد وفاة والده القاضى ناصر الدين محمد ابن البارزى، ونزل إلى بيته فى موكب جليل، وبعد يومين خلع السلطان على القاضى بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد الدّمشقى المعروف بابن مزهر ناظر الإسطبل باستقراره فى نيابة كتابة السر عوضا عن كمال الدين بن البارزى المذكور.
ثم فى تاسع عشرين شوّال المذكور نصل السلطان من مرضه، ونقص ما كان به من الألم، ودخل الحمّام، وتخلّق الناس بالزّعفران وتداولت التهانى بالقلعة وغيرها، ونودى بزينة القاهرة ومصر، وفرّق السلطان مالا كثيرا فى الفقراء والفقهاء والناس، وخلع على الأطبّاء وأصحاب الوظائف.
وكان السلطان لمّا مات القاضى ناصر الدين بن البارزى طلب الذي خلّفه من المال فلم يجد ولده شيئا، فظنّ السلطان أنه أخفى ذلك، فحلّفه ثم خلع عليه، ونزل على أن يقوم للسلطان من ماله بأربعين ألف دينار، فلما كان يوم [الخميس] «2» سلخ شوال حضر إلى [القاضى «3» ] كمال الدين المذكور شخص من الموقعين يعرف بشهاب الدين أبى درّابة وقال له: أنا أعرف لوالدك ذخيرة «4» فى المكان الفلانى، فلما سمع القاضى كمال الدين كلامه أخذه فى الحال وطلع به إلى السلطان وعرّفه مقالة شهاب الدين المذكور، فأرسل السلطان فى الحال الطواشى مرجان الهندى الخازندار وصحبته جماعة، ومعهم شهاب الدين المذكور إلى بيت القاضى كمال الدين المذكور، فدخلوا إلى المكان وفتحوه فوجدوا فيه سبعين ألف دينار فأخذوها وطلعوا إلى السلطان، وقد سألت أنا القاضى كمال الدين المذكور عن هذه الذخيرة، وقلت له: كان لك بها علم؟ فقال: لا والله، ولا أعرف مكانها، فإنى لم أحضرها حين جعلها الوالد بهذا المكان، ولا عند

(14/104)


أخذها أيضا، ولا عرّفنى بها قبل موته، غير أنه أوصى شهاب الدين المذكور وشخصا بحماة «1» أنه إذا مات يعرفانى بها، فلما عرّفنى شهاب الدين بها لم أجد بدّا من إعلام السلطان بها للأيمان التى كان حلّفنى أننى مهما وجدته من مال الوالد أعرّفه به.
قلت: لله درّه من كمال الدين، ما كان أعلى همته وأحشمه وأسمحه.
ثم فى يوم الاثنين رابع ذى القعدة ركب السلطان من قلعة الجبل وشقّ القاهرة من باب زويلة وخرج من باب القنطرة، وتوجه إلى «الخمس وجوه» وأقام بها إلى يوم الأربعاء سابع ذى القعدة، فركب منها وشقّ القاهرة من باب القنطرة إلى أن خرج من باب زويلة وطلع إلى القلعة بعد ما انقضى له ب «الخمس وجوه» أوقات طيبة، وعمل بها الخدمة، وتردّدت الناس إليه بها لقضاء حوائجهم وللفرجة أيضا.
ولما طلع السلطان إلى القلعة أقام بها يوم الأربعاء والخميس والجمعة، ثم نزل إليها ثانيا فى يوم السبت تاسع ذى القعدة بخواصّه وبات بها.
ثم ركب من الغد فى يوم الأحد، وتصيّد ببرّ الجيزة وأقام هناك، وأمر بأخذ خزانة الخاص من عند ناظر الخاص الصّاحب بدر الدين بن نصر الله، فنزل إليه زين الدين عبد الباسط بن خليل الدّمشقى ناظر الخزانة والطواشى مرجان الهندى الخازندار، وأخذا منه خزانة الخاص وهو ملازم للفراش من يوم ضرب، وسلّمت للطواشى مرجان المذكور، فتحدّث مرجان فى وظيفة نظر الخاص عن السلطان من غير أن يخلع عليه، وأنفق كسوة المماليك السلطانية نحو ثمانية آلاف دينار، وأقام السلطان بمنظرة «الخمس وجوه» إلى يوم الثلاثاء ثانى عشر ذى القعدة فعاد إلى القلعة فى محفّة، فأقام بالقلعة إلى يوم الجمعة خامس عشره وركب أيضا وتوجّه إلى منظرة «الخمس وجوه» فأقام بها إلى سابع عشر، وعاد إلى القلعة بعد أن ألزم أعيان الدّولة أن يعمّروا لهم بيوتا بالقرب من «الخمس وجوه» المذكورة لينزلوا فيها إذا توجّهوا فى

(14/105)


ركاب السلطان، فشرع بعضهم فى رمى الأساس، واختط بعضهم أرضا، ثم ركب السلطان من القلعة بثياب جلوسه وشقّ القاهرة، وعبر من باب زويلة، وخرج من باب القنطرة، وتوجّه إلى منظرة «الخمس وجوه» وأقام بها بخواصّه إلى يوم الجمعة ثانى عشرين ذى القعدة فركب منها وعدى النيل إلى الجيزة، يريد سرحة البحيرة على العادة فى كل سنة، وقد تهيأ الناس لذلك وخرجوا على عادتهم.
وقبل أن يعدّى السلطان النيل نزل بدار على شاطىء نيل مصر، ودخل الحمام التى بجوار الجامع الجديد، واغتسل طهر الجمعة، ثم خرج إلى الجامع الجديد وصلى به الجمعة، ثم عدّى النيل وهو فى كل ذلك يحمل على الأكتاف، والذي يتولى حمله من خاصّكيته جماعه منهم: خجا سودون «1» السّيفى بلاط الأعرج، وتنبك من سيدى بك الناصرى البجمقدار المصارع، ثم جانى بك من سيدى بك المؤيّدى.
وأقام السلطان يومه بالجيزة ثم ركب المحفة وسار بأمرائه وعساكره إلى أن وصل إلى الطّرّانة اشتدّ به المرض فتجلّد اليوم الأوّل والثانى، فأفرط به الإسهال حتى أرجف بموته، وكادت تكون فتنة من كثرة كلام الناس واختلاف أقوالهم، إلى أن ركب السلطان من الطّرّانة فى النيل عجزا عن ركوب المحفّة، وعاد إلى جهة القاهرة حتى نزل برّ منبابة، فأقام بها حتى نحر قليلا من ضحاياه، ثم ركب النيل فى الحرّاقة وعدّى إلى بولاق فى آخر نهار العيد، ونزل فى بيت كاتب السرّ ابن البارزىّ على عادته، وبات فى تلك الليلة، وأصبح من الغد ركب فى المحفة وطلع إلى قلعة الجبل فى يوم الثلاثاء حادى عشر ذى الحجة، وهو شديد المرض من الإسهال والزحير «2» والحصاة والحمّى والصداع والمفاصل، وهذه آخر ركبة ركبها الملك المؤيد، ثم لزم الفراش إلى أن مات حسبما نذكره.

(14/106)


ولما كان ثامن عشر ذى الحجة قدم كتاب الملك العادل سليمان الأيّوبى صاحب حصن كيفا من ديار بكر على السلطان يتضمّن موت الأمير قرا يوسف «1» بن قرا محمد صاحب تبريز والعراق فى رابع عشر ذى القعدة مسموما فيما بين السّلطانيّة وتبريز، وهو متوجّه لقتال القان معين الدين شاه رخّ بن تيمورلنك، فلم يتمّ سرور السلطان بموته لشغله بنفسه.
ثم فى ثامن عشرين ذى الحجة وصل مبشّر الحاج فطلبه السلطان وسأله عن أمور الحجاز، كل ذلك والسلطان صحيح العقل بل ربما دبّر أمور مملكته فى بعض الأحيان.
ثم فى يوم السبت تاسع عشرينه أرجف فى باكر النهار بموت السلطان، وكان أغمى عليه، فلما أفاق قيل له إن بعض الناس يقول: سيّدى أحمد ولد السلطان صغير صغرا لا تصحّ سلطنته، وشاوروه فى إثبات عهده فرسم لهم بذلك، فأثبت عهده على قاضى القضاة زين الدين عبد الرحمن التّفهنى الحنفى بالسلطنة، ثم نفّذ العهد على بقيّة القضاة، فكثر عند ذلك اضطراب الناس بالقاهرة واختلفت الأقوال فى ضعف السلطان وأمره، وتوقّعوا فتنة، واشتد خوف خواصّ السلطان، ونقلوا ما فى دورهم من القماش المثمّن وغير ذلك.
[ما وقع من الحوادث سنة 824]
واستهلّ المحرّم من سنة أربع وعشرين وثمانمائة والسلطان ملازم للفراش، وقد أفرط به الإسهال الدّموىّ مع تنوّع الأسقام وتزايد الآلام، بحيث إنه لم يبق مرض من الأمراض حتى اعثراه فى هذه الضّعفة، غير أنه صحيح العقل والفهم طلق اللسان.
فلما كان يوم الخميس خامس المحرّم سنة أربع وعشرين المذكورة طلع الأمراء والأعيان إلى قلعة الجبل وجلسوا على باب السّتارة، فخرج إليهم بعض الخدّام واعتذر لهم عن دخولهم بشدة ضعف السلطان، فانصرفوا، وكانوا على هذا مدّة أيام، يطلعون فى كل يوم موكب، ويجلسون بباب الدور، ثم ينزلون من غير أن يجتمعوا بالسلطان.
هذا وقد افترقت الأمراء والعساكر فرقا: فرقة من أعيان المؤيديّة وكبيرهم الأمير

(14/107)


ططر وقد خدعهم بتنميق كلامه وكثرة دهائه من أنه يقوم بنصرة ابن أستاذهم، ويكون مدبّر ملكه، وهو كواحد منهم والأمر كله إليهم، وهو معهم كيف ما شاءوا، ثم خوّفهم من وثوب قجقار القردمى وركوبه لما فى نفسه من الملك، فمالوا إليه وانخذعوا له، وصاروا من حزبه لا يخفون عنه أمرا من الأمور، هذا مع ما استمال ططر أيضا جماعة كبيرة من خشداشيّته الظاهريّة فى الباطن.
وفرقة من أعيان الأمراء والمماليك السلطانية من جنس التّتر والسّيفيّة وكبيرهم قجقار القردمى، وهو ظنين «1» بنفسه مع ما اشتمل عليه من سلامة الباطن- كما هى عادة جنس التّتر- والجهل المفرط، مع انهما كه فى اللذات ليلا ونهارا.
وفرقة صارت بمعزل عن الفريقين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهم الظاهرية مماليك برقوق وكبيرهم الأمير تنبك ميق، على أن ميلهم فى الباطن مع خشداشهم ططر، غير أنهم يخافون عواقب الأمور- لعدم أهلية ططر لذلك- لكونه خلقه مثل الأتابك ألطنبغا القرمشى مع من معه من الأمراء وعظمته فى النفوس، ومثل جقمق الأرغون شاوىّ الدوادار نائب الشام، ومثل يشبك اليوسفى المؤيدى نائب حلب، وأيضا مثل قجقار القردمى أمير سلاح، هذا مع كثرة المماليك المؤيدية وشدّة بأسهم حتى لو أن ططر كفى همّ الجميع من الأمراء لا يستطيع الوثوب على الأمراء من هؤلاء المؤيدية، فلذلك كفّ عن موافقته كثير من خشداشيّته فى مبادئ الأمر، فلم يلتفت ططر إلى كلام متكلم، وأخذ فيما هو فيه من إبرام أمره، ولسان حاله يقول:
«إما إكديش أو نشّابة للريش» فإنه كان فى بحبوحة «2» من الفقر والإفلاس والخوف من الملك المؤيد، فلما وجد المقال قال، وانتهز الفرصة إمّا بها أو عليها، ولما عظم اضطراب الناس بالقاهرة أجمع الأمراء على تولية التّاج بن سيفة الشّوبكى أستادار الصحبة ولاية القاهرة على عادته أولا، فخلع عليه بحضرة الأمراء فى بعض دور القلعة باستقراره فى ولاية القاهرة بعد عزل ابن فرّى، فنزل التاج إلى القاهرة بخلعته، وشق الشوارع وأبرق

(14/108)


وأرعد، وأكثر من الوعيد لأرباب الفساد، فلم يلتفت أحد إلى كلامه، ومضى إلى بيته.
هذا وقد اشتدّ الأمر بالسلطان الملك المؤيّد من الآلام والأرجاف تتواتر بموته، والناس فى هرج إلى أن توفّى «1» قبيل الظّهر من يوم الاثنين تاسع المحرّم من سنة أربع المقدم ذكرها، فارتجّ الناس لموته ساعة ثم سكنوا، وطلع الأمراء القلعة وطلبوا الخليفة المعتضد بالله داود والقضاة والأعيان لإقامة الأمير أحمد بن السلطان فى السلطنة، فخلع عليه وتسلطن، وتمّ أمره حسبما سنذكره فى محلّه من هذا الكتاب فى حينه إن شاء الله تعالى.
ثم أخذوا فى تجهيز السّلطان الملك المؤيّد وتغسيله [وتكفينه] «2» .
قال الشيخ تقىّ الدين المقريزى: وأخذ فى جهاز المؤيّد «3» وصلّى عليه خارج باب القلعة، وحمل إلى الجامع المؤيّدى فدفن بالقبة قبيل العصر، ولم يشهد دفنه كثير أحد من الأمراء والمماليك لتأخّرهم بالقلعة، واتفق فى أمر المؤيّد موعظة فيها أعظم عبرة؛ وهو أنه لما غسّل لم توجد له منشفة ينشّف فيها، فنشّف بمنديل بعض من حضر غسله، ولا وجد له مئزر تستر به عورته حتى أخذ له مئزر صوف صعيدىّ من فوق رأس بعض جوار به فستر به، ولا وجد له طاسة يصبّ بها عليه الماء وهو يغسّل مع كثرة ما خلّفه من الأموال، ومات وقد أناف على الخمسين.
وكانت مدّة ملكه ثمانى سنين وخمسة أشهر وثمانية أيام، وكان شجاعا مقداما يحبّ أهل العلم ويجالسهم، ويجلّ الشّرع النبوىّ ويذعن له، ولا ينكر على طلب من إذا تحاكم إليه أن يمضى من بين يديه إلى قضاة الشّرع، بل يعجبه ذلك، وينكر على أمرائه معارضة القضاة فى أحكامهم، وكان غير مائل إلى شىء من البدع، وله قيام

(14/109)


فى الليل إلى التهجد أحيانا، إلا أنه كان بخيلا مسّيكا يشحّ حتى بالأكل، لحوحا غضوبا نكدا حسودا معيانا، يتظاهر بأنواع المنكرات، فحّاشا سبّابا، شديد المهابة، حافظا لأصحابه غير مفرّط فيهم ولا مطيع لهم.
وهو أكبر أسباب خراب مصر والشّام؛ لكثرة ما كان يثيره من الشّرور والفتن أيّام نيابته بطرابلس ودمشق، ثم ما أفسده فى أيّام ملكه من كثرة المظالم ونهب البلاد وتسليط أتباعه على الناس يسومونهم الذّلّة، ويأخذون ما قدروا عليه بغير وازع من عقل ولا ناه من دين- انتهى كلام المقريزى برمته بعد تخبيط كثير.
قلت: وكان يمكننى الرّدّ عليه فى جميع ما قاله بحق غير أننى لست مندوبا إلى ذلك، فلهذا أضربت عن تسويد الورق وتضييع الزمان، والذي أعرفه أنا من حاله أنه كان سلطانا جليلا مهابا شجاعا مقداما عاقلا نقّادا. حدثنى الأمير أرنبغا اليونسىّ «1» الناصرى- رحمه الله- قال: كان المؤيد ينظر إلى الرّجل وينقده بعينيه فيعرف من حاله ما يكتفى به عن السؤال عنه، ثم يعطيه من الرّزق والإقطاعات ما يليق بشأنه كما يصف الطبيب الحاذق إلى المريض من الدواء، فإن كان الرجل أعجبه رقّاه فى أقلّ مدّة إلى أعلى المراتب، وإن كان غير ذلك شحّ عليه حتى بالإقطاع الذي يعمل عشرة آلاف درهم فى السنة- انتهى كلام أرنبغا.
قلت: هذا هو المطلوب من الملوك وإلّا يضيع الصّالح بالطّالح.
وكان المؤيّد عالى الهمة، كثير الحركات والأسفار، جيّد التدبير، حسن السياسة، يباشر الأحكام بنفسه، مع معرفة تامة وحذق وفطنة وجودة حدس فى أموره، عظيم السّطوة على مماليكه وأمرائه، هيّنا مع جلسائه وندمائه، طروبا يميل إلى سماع الشعر والأصوات الطيّبة، على أنه كان يحسن أيضا أداء الموسيقى ويقوله فى مجالس أنسه، وكان يميل إلى الدّقّة الأدبيّة ويفهمها بسرعة. قيل: أنه نظر مرّة إلى اسمه وهو

(14/110)


مكتوب على بعض الحيطان، وقد كتب الدّهّان الشّين من اسم شيخ بجرّة واحدة، فلما نظره المؤيّد قال: مسكين شيخ بلا سنينات، وله أشياء كثيرة من ذلك.
وكان يشارك الفقهاء فى أبحاثهم ويتصوّر أقوالهم ويطرح عليهم المسائل المشكلة، هذا مع ميله لأرباب الكمالات من كل علم وفنّ، وتعجبه المداعبة اللطيفة.
حدثنى القاضى كمال الدين بن البارزىّ كاتب السرّ الشريف بالديار المصرية- رحمه الله- قال: كان المؤيّد جالسا بالبارزيّة «1» على المقعد المطلّ على النيل، ومحمود بن الأمير قلمطاى الدّوادار واقفا بجانبه، ووالدى من جهة أخرى وهو يقرأ القصص على السّلطان، وكان فى جملة القصص قصة الشيخ عاشق محمود العجمى أحد ندماء السلطان، فلما قرأ الوالد قصة عاشق محمود قال: المملوك، وأشار بيده إلى نفسه، ثم قال: عاشق محمود، وأشار بإصبعه إلى محمود بن قلمطاى- وكان من أجمل الناس صورة- فلم يفطن لذلك أحد غير السلطان، فضحك وقال: تموت بهذه الحسرة.
وحدّثنى بعض أعيان المؤيدية قال: كان الأمير طوغان الأمير آخور أرسل إلى جانى بك الساقى أحد خواصّ الملك المؤيد ألف دينار ليزوره، فعرّف جانى بك المذكور السلطان بذلك، فاشتدّ غضب السلطان وأرسل فى الحال خلف طوغان المذكور، فلما تمثّل بين يديه سأله السلطان عن ذلك، فقال طوغان: نعم أرسلت إليه ألف دينار، وو الله العظيم لو لم يكن مملوكك لكنت ترسل أنت إليه عشرة آلاف دينار، فتلومنى أن أرسلت إليه ألف دينار؟! - يقول ذلك وهو فى غاية الحنق- فزال غضب الملك المؤيّد وضحك حتى استلقى على قفاه، كل ذلك وهو محتفظ على ناموس الملك والسّير على ترتيب من تقدّمه من الملوك فى سائر أموره وحركاته.
وقد تسلطن وأحوال المملكة غير مستقيمة مما جدّده الملك الناصر فرج من الوظائف والاستكثار من الخاصّكيّة، حتى إن خاصّكيّته زادت عدّتهم على ألف نفر.

(14/111)


فلا زال المؤيّد بهم حتى جعلهم ثمانين خاصّكيّا كما كانت أيام «1» أستاذه الملك الظاهر برقوق، وكانت الدّوادارية نحو ثمانين دوادارا، فلا زال حتى جعلهم ستّة، وكذلك الخازندارية والبجمقدارية والحجّاب، وكان يتأمّر الشخص فى أيامه ويقيم سنين ولم يسمح له بلبس تخفيفة «2» على رأسه، كل ذلك مراعاة لأفعال السّلف، وكان عارفا بأنواع الملاعيب، رأسا فى لعب الرّمح وسوق البرجاس «3» ، قويا فى ضرب السّيف والرّمى بالنّشّاب، ماهرا فى فنون كثيرة جدّ وهزل، لا يعجبة إلا الكامل فى فنه.
دخلت إليه مرّة وأنا فى الخامسة فعلّمنى- قبل دخولى إليه- بعض من كان معى أن أطلب منه خبزا، فلما جلست عنده وكلّمنى سألته فى ذلك، فغمز من كان واقفا بين يديه وأنا لا أدرى، فأتاه برغيف كبير من الخبز السلطانى، فأخذه بيده وناولنيه وقال: خذ هذا خبز كبير مليح، فأخذته من يده وألقيته إلى الأرض، وقلت: أعط هذا للفقراء، أنا ما أريد إلا خبزا بفلّاحين يأتوننى بالغنم والأوز والدّجاج، فضحك حتى كاد أن يغشى عليه، وأعجبه منى ذلك إلى الغابة، وأمر لى بثلاثمائة دينار، ووعدنى بما طلبته وزيادة- انتهى.
وكان يحسن تربية مماليكه إلى الغاية، ولا يرقّيهم إلا بعد مدّة طويلة، ولذلك لم يخمل منهم أحد بعد موته- فيما أعلم.
وكان يميل إلى جنس التّرك ويقدّمهم، حتى إن غالب أمرائه كانوا أتراكا، وكان يكثر من استخدام السّيفيّة ويقول: هؤلاء قاسوا خطوب الدّهر، وتأدبوا؛ وما رسوا الأمور والوقائع، وكان عارفا بتعبئة العساكر فى القتال ثبّاتا فى الحروب،

(14/112)


محجاجا فى الأجوبة، قيل له: إن الناس تقول عنك إنك قتلت من أعيان الملوك نحو ثمانين نفسا، فقال: ما قتلت واحدا منهم إلا وقد استحقّ القتل قبل ذلك، والسلطان له أن يقتل من اختار قتله، وشنّع عنه هذه المقالة من لا يعرف معناها من الأتراك الذين يقصر فهمهم عن إدراك المعانى.
وأما فعله من وجوه البرّ فكثير، وله مآثر مشهورة به، وعمائر كثيرة، أعظمها: الجامع المؤيّدى الذي لم يبن فى الإسلام أكثر زخرفة منه بعد الجامع الأموى بدمشق، ثم تجديده لجامع المقياس، ثم لمدرسة الخرّوبية بالجيزة، وأشياء غير ذلك كثيرة.
وأما ما خلّفه من الأموال والخيول والجمال والسلاح فكثير جدا لم أقف على تحرير قدره.
وخلّف من الأولاد ستة- فيما أعلم- ذكرين أحدهما الملك المظفر أحمد، وأربع بنات، الجميع دون البلوغ- انتهى والله سبحانه أعلم.

(14/113)


[ما وقع من الحوادث سنة 815]
السنة الأولى من سلطنة الملك المؤيد شيخ على مصر وهى سنة خمس عشرة وثمانمائة، على أن السلطان الملك الناصر فرجا حكم منها إلى يوم السبت خامس عشرين المحرّم «1» ، ثم حكم من يومئذ الخليفة المستعين العباس «2» إلى أن خلع من السّلطنة بالملك المؤيّد هذا فى يوم الاثنين مستهلّ شعبان، فحكم المؤيّد من مستهلّ شعبان إلى آخرها، فهى على هذا التقدير أوّل سنة حكمها من سلطنته.
فيها: أعنى سنة خمس عشرة وثمانمائة توفّى قاضى قضاة دمشق شهاب الدّين أبو العبّاس أحمد بن إسماعيل بن خليفة الدمشقى الشافعى، المعروف بابن الحسبانى «3» ، فى يوم الأربعاء عاشر شهر ربيع الأوّل «4» بها، عن خمس وسبعين سنة وأشهر، وكان معدودا من فقهاء الشّافعيّة، أفتى ودرّس سنين وتولى قضاء دمشق وقدم القاهرة غير مرّة.
وتوفّى قاضى القضاة محبّ الدين محمد بن محمد بن محمد الحلبى الحنفى، المعروف بابن الشّحنة «5» ، فى يوم الجمعة ثانى عشر شهر ربيع الآخر بحلب عن ست وستين سنة، وكان إماما عالما بارعا، أفتى ودرّس بحلب ودمشق والقاهرة، وولى القضاء بحلب ثم بدمشق، ثم ولّاه الملك الناصر [فرج «6» ] قضاء الديار المصرية لمّا حوصر بدمشق، فى يوم الخميس

(14/114)


ثالث عشرين المحرّم من هذه السّنة، عوضا عن ناصر الدّين بن العديم، بحكم توجّهه إلى شيخ ونوروز، فلم تطل مدّته، وعزل من قبل المستعين، وأعيد ابن العديم.
وتوفّى الوالد «1» - وهو على نيابة دمشق بها- فى يوم الخميس سادس عشر المحرم، ونذكر التعريف به:
فهو تغرى بردئ بن عبد الله من خواجا بشبغا، كان رومىّ الجنس، اشتراه الملك الظّاهر برقوق فى أوائل سلطنته، وأعتقه، وجعله فى يوم عتقه خاصّكيّا، ثم جعله ساقيا، وأنعم عليه بحصّة من شيبين القصر «2» ، ثم جعله رأس نوبة الجمداريّة إلى أن نكب الملك الظاهر [برقوق] «3» وخلع وحبس بسجن الكرك «4» ، فحبس الوالد بدمشق؛ فإنه كان قد توجّه مع من توجّه من عسكر السلطان لقتال الناصرىّ «5» ومنطاش «6» ، فقبض عليه هناك، وسجن، ودام فى سجن دمشق إلى أن أخرجه الأمير بزلار العمرى نائب دمشق، وجعله بخدمته هو ودمرداش المحمدى ودقماق المحمدى.
واستمر الوالد بدمشق إلى أن خرج الملك الظّاهر برقوق من سجن الكرك، فبادر الوالد بالتّوجّه إليه قبل أن يستفحل أمره، وحضر معه الوقعة المشهورة التى كانت بينه وبين منطاش، وحمل الوالد فى الوقعة المذكورة على شخص من أمراء منطاش يسمّى آقبغا اليلبغاوىّ، فقنطره عن فرسه، فسأل برقوق عنه، فقيل له تغرى بردى، فتفاءل برقوق باسمه، لأنّ معناه: الله أعطى، وأنعم عليه بإقطاع امرة طبلخاناه. دفعة واحدة، مع أنه كان أنعم عليه قبل خروجه للسفر بإمرة عشرة، غير أنه لم يباشر ذلك.

(14/115)


ثم أرسله الملك الظاهر [برقوق] «1» إلى مصر يبشّر من بها بسلطنته ونصرته على منطاش، ودخل الظّاهر فى أثره إلى مصر، وبعد قليل أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالدّيار المصرية، ثم جعله رأس نوبة النّوب، ثم ولّاه نيابة حلب بعد جلبّان قراسقل «2» ، ثم عزله، وأنعم عليه بتقدمة ألف بمصر على خبز شيخ الصّفوىّ الخاصّكىّ أمير مجلس، وقبل أن يخلع عليه بإمرة مجلس نقله إلى إمرة سلاح عوضا عن بكلمش العلائى بحكم مسكه، واستمر على ذلك إلى أن كانت وقعة الأتابك أيتمش «3» مع الملك الناصر [فرج] «4» فى سنة اثنتين وثمانمائة.
وكان الوالد قد انضم على أيتمش هو وجماعة من الأمراء- حسبما ذكرناه فى ترجمة الملك الناصر فرج- وانهزم الجميع بعد الوقعة، وخرجوا من مصر إلى الأمير تنم «5» نائب الشّام، وعادوا صحبته، فانكسر تنم أيضا، وقبض على الجميع، وقتلوا بقلعة دمشق إلّا الوالد لشفاعة أم الملك الناصر «6» فيه وآقبغا الأطروش «7» ، وقتل من عداهما، ودام الوالد بسجن قلعة دمشق إلى أن أطلق، وتوجّه إلى القدس بطّالا بسفارة أم الملك النّاصر أيضا، فدام بالقدس إلى أن طلبه الملك الناصر بغزّة وخلع عليه بنيابة دمشق،

(14/116)


عوضا عن سودون «1» قريب الملك الظّاهر برقوق، بحكم أسره مع تيمور.
فحكم الوالد دمشق مدّة، ثم انهزم مع الملك الناصر [فرج] «2» إلى الديار المصرية، واستولى تيمور على دمشق، وأنعم [الملك الناصر فرج] «3» على الوالد بتقدمة ألف بالقاهرة، فدام مدّة يسيرة، وخلع عليه [أيضا] «4» بإعادته لنيابة دمشق، بعد خروج تيمور منها، كل ذلك فى سنة ثلاث وثمانمائة، فتوجّه [الوالد] «5» إليها، وأقام بها إلى أن بلغه [خبر] «6» القبض عليه، ففرّ منها وتوجّه إلى دمرداش نائب حلب، وعصيا معا، ووقع لهما أمور وحروب إلى أن انهزما.
وتوجّه الوالد إلى بلاد التّركمان، فأقام بها مدّة إلى أن طلب إلى الدّيار المصريّة، وأنعم عليه بتقدمة ألف، وأجلس رأس الميسرة أتابكا، واستمرّ على ذلك إلى أن اختفى الملك الناصر [فرج] «7» وخلع بأخيه المنصور عبد العزيز «8» ، فخرج الوالد من الديار المصريّة على البريّة بجماعة من مماليكه إلى أن توجّه إلى القدس، فدام فى برّية القدس إلى أن عاد الملك الناصر [فرج] «9» إلى السّلطنة ودخل على الأخت، وكان الناصر عقد عقده عليها قبل خلعه بحضرة الوالد، فلما تسلطن ثانيا دخل بها فى غيبة الوالد. ثم أرسل [الناصر فرج] «10» بطلب الوالد، فخضر الوالد على حاله أوّلا إلى أن خلع عليه الملك الناصر باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن يشبك الشّعبانى فى سنة عشر

(14/117)


وثمانمائة، فدام على ذلك إلى أن نقل إلى نيابة دمشق فى أواخر سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، على كره منه بعد واقعة الكرك.
وقد ذكرنا سبب ولايته فى ترجمة الملك الناصر، لما كان على حصار الكرك، فدام على نيابة دمشق إلى أن مات فى ولايته هذه، وهى الثالثة لنيابة دمشق، ودفن بتربة الأمير تنم «1» معه فى فسقية واحدة، ولا أعلم من أخباره شيئا لصغر سنّى فى حياته؛ فإن كان مشكور السّيرة فالله تعالى ينفعه بفعله، وإن كان غير ذلك فالله [تعالى] «2» يرحمه بفضله.
وخلّف الوالد عشرة أولاد، ستة ذكور وأربع إناث، أسنّ الجميع خوند «3» فاطمة توفّيت سنة ستّ وأربعين، ثم الزّينى قاسم فى قيد الحياة، ومولده قبل القرن، ثم الشّرفىّ حمزة توفّى سنة تسع وأربعين بالطاعون، ثم بيرم ماتت فى سنة ستّ وعشرين، ثم هاجر توفّيت سنة خمس وأربعين، ثم إبراهيم توفّى سنة ست وعشرين، ثم محمد [مات] «4» سنة تسع عشرة وثمانمائة، ثم إسماعيل مات سنة ثلاث وثلاثين بالطاعون، ثم شقراء فى قيد الحياة، ثم كاتبه «5» عفا الله [تعالى] «6» عنه، وأنا أصغر الجميع ومولدى بعد سنة إحدى عشرة وثمانمائة تخمينا.
وخلف الوالد من الأموال والسلاح والخيول والجمال شيئا كثيرا إلى الغاية، استولى على ذلك كلّه الملك النّاصر فرج لما عاد إلى دمشق منهزما من الأمير شيخ ونوروز، ثم قتل الملك النّاصر بعد أيّام، وتركنا فقراء من فقراء المسلمين، فلم يضيّعنا الله سبحانه وتعالى، وأنشأنا على أجمل وجه من غير مال ولا عقار، ولله الحمد.

(14/118)


وتوفّى الأمير سيف الدين بكتمر بن عبد الله الظّاهرىّ المعروف بجلّق بالقاهرة فى ثامن جمادى الآخرة من مرض تمادى به نحو الشهرين، وأصل ضعفه أن عقربا لسعته بطريق دمشق فى عوده إلى القاهرة صحبة الخليفة المستعين بالله، وبموته خلا الجو للملك المؤيد [شيخ] «1» حتى تسلطن، فإنه كان أمرّ عليه من نوروز الحافظىّ، وكان بكتمر أميرا جليلا شجاعا مهابا كريما متجمّلا فى مماليكه ومركبه ومأكله، وقد ولى نيابة صفد ثم نيابة طرابلس ثم نيابة دمشق غير مرّة، ووقع له حروب مع الملك المؤيّد شيخ أيّام إمرته حسبما ذكرنا ذلك كله مفصلا فى ترجمة الملك الناصر فرج- رحمه الله.
وقتل فى هذه السّنة جماعة كبيرة فى واقعة الملك الناصر مع الأمراء فى اللّجّون «2» وغيره، وممن قتل فى هذه الوقعة الأمير سيف الدين مقبل بن عبد الله الرّومى الظاهرىّ أحد مقدمى الألوف بالدّيار المصرية، وهو الذي كان زوّجه السلطان الملك الناصر بأخته خوند سارة زوجة «3» الأمير نوروز الحافظىّ، والأمير سيف الدين ألطنبغا بن عبد الله المعروف بشقل «4» ، والأمير سيف الدين بلاط بن عبد الله الناصرى الأعرج شاد الشراب خاناه، وكان ممّن قبض عليه فى وقعة اللّجّون ووسّطه الأمير شيخ المحمودى بعد أيام، وكان بلاط المذكور من مساوئ الدّهر، فاسقا متهتّكا زنديقا يرمى بعظائم فى دينه، قيل إنّه كان يقول للملك الناصر فرج: أنت أستاذى وأبى وربّى ونبيّى، أنا لا أعرف أحدا غيرك، وكان يسخر ممّن يصلّى، ويضحك عليه، وعدّ قتله من حسنات الملك المؤيّد [شيخ] «5» انتهى.

(14/119)


والأمير بلاط الظاهرىّ أمير علم «1» ، وكان أيضا ممن يباشر قتل خشداشيّته المماليك الظاهريّة، فوسّطه أيضا المؤيد، كل ذلك قبل سلطنته والملك الناصر محصور بدمشق.
وتوفّى الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله الظاهرىّ المعروف بسودون الجلب «2» ، بعد أن ولى نيابة طرابلس ولم يدخلها، ثم ولى نيابة حلب، فتوجّه إليها وهو مريض من جرح أصابه فى حصار الملك الناصر فرج، فمات منه فى شهر ربيع الآخر.
وكان من الشّجعان، يحكى عنه أعاجيب من خفّته وشجاعته وسرعة حركته، وقد تقدّم ذكره فى عدة مواطن، وهو أستاذ الأمير الكبير يشبك السّودونى المشدّ أتابك العساكر بديار مصرفى دولة الملك الظاهر جقمق.
وتوفّى الأمير سيف الدين يشبك بن عبد الله العثمانى الظاهرى، أحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية فى يوم الجمعة أول صفر، من جرح أصابه فى أمسه عند حصار دمشق، وكان من أعيان المماليك الظاهرية، وممّن انضمّ مع الملك المؤيد شيخ أيّام تلك الفتن.
وتوفّى السلطان ملك الهند صاحب بنجالة «3» ، غياث الدين أبو المظفر ابن السلطان إسكندر شاه، وكان من أجلّ ملوك الهند، وممالكه متسعة جدا.
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله الخليلى، نائب إسكندرية بها فى هذه السنة.

(14/120)


وتوفّى الشيخ جمال الدين عبد الله بن محمد بن طيمان «1» ، المعروف بالطّيمانى الشافعى، قتل بدمشق فى الفتنة ليلة الجمعة ثامن صفر، وكان من الفضلاء، انتقل من القاهرة إلى دمشق وسكنها.
وتوفّى الشيخ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عماد بن على بن الهائم «2» المصرىّ الشافعىّ بالقدس، وكان فقيها بارعا فى الحساب والفرائض، وله مشاركة فى فنون.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع سواء، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.

(14/121)


[ما وقع من الحوادث سنة 816]
السنة الثانية من سلطنة الملك المؤيد شيخ على مصر وهى سنة ست عشرة وثمانمائة.
فيها توفّى الشيخ الإمام فخر الدين عثمان بن إبراهيم بن أحمد البرماوىّ «1» الشافعىّ، شيخ القراء بمدرسة الملك الظاهر برقوق، فى يوم الاثنين تاسع عشر شعبان فجأة بعد خروجه من الحمّام، وكان بارعا فى الفقه والحديث والقراءات والعربية وغير ذلك، وتصدّى للإقراء سنين.
وتوفّى قاضى القضاة صدر الدين على ابن أمين الدين محمد بن محمد الدمشقى الحنفى المعروف بابن الأدمىّ «2» ، قاضى قضاة دمشق، وكاتب سرّها، ثم قاضى [القضاة] «3» بالديار المصرية، فى يوم السبت ثامن شهر رمضان بالقاهرة وهو قاض، ومولده بدمشق فى سنة سبع وستين وسبعمائة، وكان إماما بارعا أديبا فصيحا ذكيّا، ولى نظر جيش دمشق، ثم كتابة سرّها، ثم قضاءها، ثم نقله الملك المؤيد إلى الدّيار المصرية، وولّاه قضاءها بعد عزل قاضى القضاة ناصر الدين بن العديم «4» ، ثم جمع له بين القضاء وحسبة القاهرة، إلى أن مات، ولما ولى كتابة السرّ بدمشق بعد عزل الشريف علاء الدين قال فيه العلامة شهاب الدين أحمد بن حجى: [الطويل]
تهن بصدر الدّين يا منصبا سما ... وقل لعلاء الدّين أن يتأدبا
له شرف عال وبيت ومنصب ... ولكن رأينا السّرّ للصّدر أنسبا

(14/122)


وفيه يقول الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم المزيّن»
الدمشقى: [الطويل]
ولاية صدر الدّين للسرّ كاتبا ... لها فى النّفوس المطمئنّة موقع
فإن يضعوا الأشيا إذا فى محلّها ... فلم يك غير السّر للصّدر موضع
قلت: وهجاه أيضا بعضهم فقال: [الرجز]
كتابة السّرّ غدت ... وجودها كالعدم
وأصبحت بين الورى ... مصفوعة بالأدم
ومن شعر قاضى القضاة صدر الدين المذكور أنشدنى الشيخ شمس الدين محمد النّفيسى قال: أنشدنى قاضى القضاة صدر الدين بن الأدمى من لفظه لنفسه، وهو مما يقرأ على قافيتين: [السريع]
يا متهمى بالسّقم «2» كن مسعفى ... ولا تطل رفضى فإنّى على ل
أنت خليلى فبحقّ الهوى ... كن لشجونى راحما يا خلى ل
وله: [السريع]
قد نمّق العاذل يا منيتى ... كلامه بالزّور عند الملام
وما درى جهلا بأنّى فتى ... لم يرع سمعى عاذلا فيك لام
وله القصيدة الطنّانة التى أولها: [الطويل]
عدمت غداة البين قلبى وناظرى ... فيامقلتى حاكى السّحاب وناظرى
- انتهى.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم شهاب الدين أحمد بن علاء الدين حجّى بن موسى

(14/123)


السّعدى، الحسبانى «1» الأصل، الدّمشقى الشافعى بدمشق، وكان فقيها بارعا، أفتى ودرس سنين، وخطب بجامع دمشق، وقدم القاهرة فى دولة الملك الناصر [فرج] «2» فى الرّسلية عن الأمير شيخ، أعنى الملك المؤيد، وكان معدودا من فقهاء دمشق وأعيانها.
وتوفّى قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن ناصر بن خليفة الباعونى «3» ، الشافعى الدمشقى، بدمشق فى رابع المحرم، ومولده بقرية باعونة من قرى عجلون «4» فى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة تخمينا، ونشأ بدمشق وطلب العلم، وتولى قضاء دمشق وخطابة بيت المقدس، ودرّس وأفتى، وقال الشّعر، ولما ولى قضاء دمشق هجاه بعضهم بقوله: [مجزوء الوافر «5» ]
قضاء الشّام أنشدنى ... بدينى «6» لا تبيعونى
صفعت بكلّ مصفعة ... وبعد الكلّ باعونى
وهجاه آخر عند توليته خطابة القدس بكلام مزعج، الإضراب عنه أليق.
وتوفّى قاضى القضاة شهاب الدين أحمد الحمصى الشّافعى، المعروف بابن

(14/124)


الشّنبلىّ «1» ، فى هذه السنة، وكان فقيها بارعا عالما، إلّا أنه لما ولى قضاء دمشق لم تحمد سيرته.
وتوفّى قاضى القضاة شمس الدين محمد بن محمد بن عثمان الدّمشقىّ، الشافعى المعروف بابن الإخنائىّ «2» ، بدمشق فى نصف شهر رجب عن نحو ستين سنة، بعد أن أفتى ودرّس، وولى قضاء غزّة وحلب ودمشق وديار مصر عدّة سنين، وكان معدودا من رؤساء دمشق وأعيانها، وله مكارم وأفضال- رحمه الله.
وتوفّى الأمير الوزير سيف الدين مبارك شاه بن عبد الله المظفّرىّ الظّاهرىّ، فى شهر رمضان، كان يخدم الملك الظاهر [برقوق «3» ] أيام جنديته تبعا، فلما تسلطن رقّاه وأمّره، ثم جعله من جملة الحجّاب، ثم ولى الوزارة، ثم الأستادارية، وأقام بعد عزله سنين إلى أن مات.
وتوفّى قاضى المدينة النبويّة زين الدين أبو بكر بن حسين بن عمر بن عبد الرحمن العثمانى المراغى الشافعى المعروف بابن الحسين «4» فى سادس عشر ذى الحجة، وكان من الفقهاء الفضلاء.
وتوفّى الشيخ الإمام المفنّن العلّامة، برهان الدين إبراهيم بن محمد بن بهادر بن أحمد القرشىّ الغزى «5» النّوفلىّ الشّافعى، المعروف بابن زقّاعة، فى ثانى عشر

(14/125)


ذى الحجّة بالقاهرة، عن اثنتين وتسعين سنة، وزقّاعه «1» - بضم الزاى المعجمة وفتح القاف وتشديدها وبعد الألف عين مهملة مفتوحة وهاء ساكنة- وكان إماما عارفا بفنون كثيرة، لا سيّما علم النجوم، والأعشاب، وله نظم كثير، وكانت له وجاهة عند الملوك، بحيث إنه كان يجلس فوق القضاة، ومن شعره أنشدنا قاضى القضاة جمال الدين محمد أبو السعادات بن ظهيرة قاضى مكّة من لفظه قال: أنشدنى الإمام العلّامة برهان الدين إبراهيم بن زقّاعة من لفظه لنفسه: [الوافر]
رأى عقلى ولبّى فيه حارا ... فأضرم فى صميم القلب نارا
وخلّانى أبيت اللّيل ملقى ... على الأعتاب أحسبه نهارا
إذا لام العواذل فيه جهلا ... أصفه لهم فينقلبوا حيارى
وإن ذكروا السّلوّ يقول قلبى ... تصامم عن أباطيل النّصارى
وما علم العواذل أنّ صبرى ... وسلوانى قد ارتحلا وسارا
فيا لله من وجد تولّى ... على قلبى فأعدمه القرارا
ومن حبّ تقادم فيه عهدى ... فأورثنى عناء وانكسارا
قضيت هواكمو عشرين عاما ... وعشرينا ترادفها استتارا
فنمّ الدّمع من عينى فأبدى ... سرائر سرّ ما أخفى جهارا
إذا ما نسمة البانات مرّت ... على نجد وصافحت العرارا
وصافحت الخزام وعنظوانا ... وشيحا ثمّ قبّلت الجدارا «2»

(14/126)


جدار ديار من أهوى قديما ... رعى الرّحمن هاتيك الدّيارا
ألا يا لائمى دعنى فإنّى ... رأيت الموت حجّا واعتمارا
فأهل الحبّ قد سكروا ولكن ... صحا «1» كلّ وفرقتنا سكارى
ومن شعره أيضا فى فنّ التصوّف: [الوافر]
سألتك بالحواميم «2» العظيمه ... وبالسّبع المطوّلة «3» القديمه
وباللامين والفرد المبدّا ... به قبل الحروف المستقيمه
وبالقطب الكبير وصاحبيه ... وبالأرض المقدّسة الكريمه
وبالغصن الذي عكفت عليه ... طيور قلوب أصحاب العزيمه
وبالمسطور فى رقّ المعانى ... وبالمنشور فى يوم «4» الوليمه
وبالكهف الذي قد حل فيه ... أبو فتيانها ورأى رقيمه
وبالمعمور من زمن النصارى ... بأحجار بحجرتها مقيمه
ففجّر فى فؤادى عين حبّ ... تروّى من مشاربها صميمه
قلت: وبعض تلامذته من الصّوفيه يزعمون أن هذه الأبيات فيها الاسم الأعظم.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع سواء، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.

(14/127)


[ما وقع من الحوادث سنة 817]
السنة الثالثة من سلطنة الملك المؤيد شيخ على مصر وهى سنة سبع عشرة وثمانمائة
فى محرمها تجرد الملك المؤيد [شيخ] «1» إلى البلاد الشامية، لقتال الأمير نوروز الحافظى «2» ومن معه من الأمراء وظفر به، وقتله حسبما نذكره.
وفيها قتل الأمير سيف الدين نوروز بن عبد الله الحافظى بدمشق، فى ليلة ثامن عشرين شهر ربيع الآخر، وحملت رأسه إلى الدّيار المصرية، وطيف بها ثم علّقت على باب زويلة، وكان أصل نوروز المذكور من مماليك الملك الظاهر برقوق، ومن أعيان خاصّكيته، ثم رقّاه إلى أن جعله أمير مائة ومقدّم ألف [بالقاهرة] «3» ، ثم ولّاه رأس نوبة النّوب بعد الوالد لما ولى نيابة حلب، ثم جعله أمير آخور كبيرا بعد الأمير تنبك اليحياوى فى سنة ثمانمائة، ثم أمسكه بعد فتنة على باى لأمر حكيناه فى وقته فى ترجمة الملك الظاهر برقوق، وحبسه بالإسكندرية، إلى أن أطلقه الملك الناصر [فرج] «4» وولاه رأس نوبة الأمراء، وصار نوروز هو المشار إليه فى المملكة وذلك بعد خروج أيتمش والأمراء من مصر، ثم وقع له أمور إلى أن ولى نيابة الشام، ومن حينئذ ظهر أمر نوروز وانضمّ عليه شيخ، فصار تارة يقاتل شيخا، وتارة يصطلحان، وقد تقدّم ذكر ذلك كله فى ترجمة الملك الناصر [فرج] «5» إلى أن واقعا الملك الناصر بمن معهما فى أوائل المحرّم سنة خمس عشرة «6» ، وانكسر الناصر،

(14/128)


وحوصر بدمشق إلى أن أخذ وقتل، وتقاسم شيخ ونوروز الممالك والخليفة المستعين هو السّلطان، فأخذ شيخ الديار المصرية وصار أتابكا بها، وأخذ نوروز البلاد الشاميّة، وصار نائب الشام، فلما تسلطن الملك المؤيد [شيخ] «1» خرج نوروز عن طاعته، ووقعت أمور حكيت فى أوّل ترجمة الملك المؤيد، إلى أن خرج الملك المؤيد لقتاله، فظفر به وقتله.
وكان نوروز ملكا جليلا، كريما شجاعا، مقداما عارفا عاقلا مدبّرا، وجيها فى الدّول، وهو أحد أعيان مماليك الظّاهر برقوق، معدودا من الملوك، طالت أيّامه فى الرياسة، وعظمت شهرته، وبعد صيته فى الأقطار، وكان متجمّلا فى مماليكه وحشمه، بلغت عدّة مماليكه زيادة على ألف مملوك، وكانت جامكيّة مماليكه بالشّام من مائة دينار إلى عشرة دنانير، ومات عن مماليك كثيرة، وترقّوا بعده إلى المراتب السّنيّة، حتى إنّ كلّ من ذكرناه من بعده، ونسبناه بالنّورزىّ فهو مملوكه وعتيقه، وفى هذا كفاية.
وقتل معه جماعة من أعيان الأمراء حسبما نذكرهم أوّلا بأوّل.
وفيها قتل من أصحاب نوروز الأمير سيف الدين يشبك بن أزدمر الظاهرى «2» ، رأس نوبة النّوب، ثم نائب حلب، وكان ممّن انضم مع نوروز بعد وفاة الوالد، فإنّ الوالد كان أخذه عنده. بدمشق لمّا ولى نيابتها، وجعله الملك النّاصر أتابكا بها، وعقد الوالد عقده على ابنته، وسنّها نحو أربع سنين لئلا يصل إليه من الملك النّاصر سوء.
ودام مع نوروز إلى أن قبض عليه وقتل بدمشق حسبما تقدّم ذكره، وكان رأسا فى الشجاعة والإقدام، شديد القوّة فى الرّمى بالنّشّاب، إليه المنتهى فيه.

(14/129)


وفيها قتل الأمير سيف الدين طوخ بن عبد الله الظّاهرى «1» المعروف بطوخ بطّيخ نائب حلب «2» ، وهو أحد أصحاب نوروز، ذبح بدمشق مع نوروز وغيره.
وفيها قتل الأمير سيف الدين قمش بن عبد الله الظّاهرىّ «3» نائب طرابلس، وهو أيضا من أصحاب نوروز. والجميع قتلوا فى ليلة ثانى عشرين شهر ربيع الآخر، حسبما تقدم ذكره.
وفيها توفّى «4» الأمير الكبير سيف الدين يلبغا النّاصرىّ الظّاهرى «5» أتابك العساكر بالدّيار المصرّية، فى ليلة الجمعة ثانى شهر رمضان بالقاهرة، بعد عوده من الشام صحبة السلطان وهو أيضا من أصحاب نوروز، ومن أعيان خاصّكيّة الملك الظاهر برقوق، وأحد مماليكه، وترقّى فى الدولة الناصرية إلى أن صار أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرّية، وقد مرّ من ذكره نبذة كبيرة فى دولة الناصر، ثم المؤيّد، وهو ثالث من ولى الأتابكيّة بديار مصر، ونعت بيلبغا الناصرى فى الدّولة التركيّة، فالأوّل منهم يلبغا العمرى الناصرى صاحب الكبش «6» ، وأستاذ برقوق، والثانى الأتابك يلبغا النّاصرى اليلبغاوىّ صاحب الوقعة مع الملك الظاهر برقوق، ونسبته بالناصرى إلى تاجره خواجا ناصر الدين، وهو مملوك يلبغا السابق ذكره- انتهى.
والثالث يلبغا الناصرى هذا، وهو من مماليك برقوق. ونسبته بالناصرى إلى

(14/130)


تاجره خواجا ناصر الدين، وقد ذكرنا هؤلاء الثلاثة فى تاريخنا المنهل الصافى، فى محل واحد فى حرف الياء؛ كون الاسم والشهرة واحدة.
وتوفّى «1» الأمير سيف الدين شاهين بن عبد الله الظاهرى الأفرم أمير سلاح، برملة لدّ «2» ، وهو عائد إلى مصر صحبة السلطان إلى حلب من جرح أصابه، وكان أميرا شهما شجاعا، رأسا فى ركوب الخيل وفنّ الفروسيّة، وقد تقدّم أن الفروسيّة نوع آخر غير الشجاعة والإقدام، فالشّجاع هو الذي يلقى غريمه بقوّة جنان، وفارس الخيل هو الرجل الذي يحسن تسريح الفرس فى كرّه وفرّه، ويدرى ما يلزمه من أمور فرسه وسلاحه، وتدبير ذلك كلّه، بحيث إنه يسير فى ذلك على القوانين المقررة المعروفة بين أرباب هذا الشأن.
قلت: نادرة أخرى، وشاهين هذا هو أيضا ثالث أفرم من أعيان الملوك فى دولة التركيّة.
فالأول منهم: الأفرم الكبير، صاحب الرّباط «3» فى بركة الحبش والأملاك الكثيرة، وهو الأمير عز الدين أيبك أمير جاندار الظاهر بيبرس، والمنصور قلاوون «4» .
والثانى آقوش الدّوادارىّ المنصورى الأمير جمال الدين نائب الشام «5» ، والثالث شاهين هذا. فهؤلاء من الملوك، وأما غير الملوك فكثير لا يعتدّ بذكرهم.

(14/131)


وتوفّى «1» الأمير سيف الدين جانى بك بن عبد الله المؤيدى الدّوادار بمدينة حمص، وهو متوجّه صحبة السلطان إلى حلب من جرح أصابه فى محاربة نوروز، وكان من أعيان مماليك المؤيد أيّام إمرته، فلما تسلطن رقّاه وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه، وجعله دوادارا ثانيا، ثم ولّاه الدّواداريّة الكبرى بعد مسك طوغان الحسنى، فلم تطل مدّته، وخرج إلى التّجريدة وجرح ومات، وكان عنده شجاعة وإقدام مع تيه وشمم وتكبر، وتولّى خشداشه الأمير آقباى المؤيدى الخازندار عوضه الدّواداريّة الكبرى.
وتوفّى قاضى مكّة، ومفتيها، وخطيبها، جمال الدين أبو حامد محمد ابن عفيف الدين عبد الله بن ظهيرة «2» القرشىّ المخزومى المكىّ الشافعىّ بمكّة فى ليلة سابع عشرين شهر رمضان عن نحو سبع وستين سنة، ومات ولم يخلف بعده بالحجاز مثله.
وتوفّى قاضى الحنفيّة بالمدينة النّبويّة الشيخ زين الدين عبد الرحمن ابن نور الدين على المدنىّ الحنفى «3» بها، وقد أناف على سبعين سنة، بعد أن ولى قضاء المدينة ثلاثا وثلاثين سنة مع حسبتها، وشكرت سيرته.
وتوفّى بالقاهرة الشريف سليمان بن هبة الله بن جمّاز بن منصور الحسينى المدنى، أمير المدينة النبويّة، وهو معزول بسجن قلعة الجبل، وقد ناهز الأربعين سنة من العمر.
وتوفّى العلامة فريد عصره قاضى قضاة زبيد «4» ، مجد الدين أبو طاهر محمد بن

(14/132)


يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الفيروزابادى «1» الشيرازى الشافعىّ، اللّغوىّ النّحوى، صاحب كتاب «القاموس» فى اللغة، فى ليلة العشرين من شوال عن ثمان وثمانين سنة وأشهر، وهو متمتّع بحواسّه، وكان إماما بارعا نحويّا لغويّا مصنّفا، طاف البلاد، ورأى المشايخ، وأخذ عن العلماء، وقدم مصر وأقرأ بها، ثم توجّه إلى اليمن، وولى قضاء زبيد نحو عشرين سنة حتى مات. أنشدنا الشيخ أبو الخير المكىّ من لفظه قال: أنشدنى الأديب الفاضل على بن محمد بن حسين بن عليّف المكى العكىّ العدنانى من لفظه لنفسه فى كتاب الشيخ مجد الدين [المسمى بالقاموس] «2» [الكامل]
مذ مدّ مجد الدّين فى أيّامه ... من بعض أبحر علمه القاموسا
ذهبت صحاح الجوهرىّ كأنّها ... سحر المدائن يوم ألقى موسى
وقد استوعبنا مصنّفاته فى تاريخنا المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى «3» ، إذ هو محل الإطناب فى التراجم.
وأمّا ما أثبت له من الشعر: أنشدنا الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر إجازة، قال أنشدنا العلّامة مجد الدين الفيروزابادى لنفسه إجازة إن لم يكن سماعا: [الوافر]
أحبّتنا الأماجد إن رحلتم ... ولم ترعوا لنا عهدا وإلّا
نودّعكم ونودعكم قلوبا ... لعلّ الله يجمعنا وإلّا
أعترض عليه فى «وإلا» الثانية فإنها من غير توطئة- انتهى.
أخبرنى الشيخ تقىّ الدين المقريزى رحمه الله قال: أخبرنى الشيخ الإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الشّيرازىّ الفيروزابادىّ من لفظه بمكة فى ذى الحجّة سنة تسعين وسبعمائة

(14/133)


أنّه حضر بستانا بدمشق وقد جمع فيه الإمام العلّامة جمال الدين أحمد بن محمد الشّريشىّ الشّافعى وجماعة من أعيان دمشق لمأدبة فى يوم الثلاثاء العشرين من شعبان سنة ثلاث وستين وسبعمائة، وكان ممن حضر المجلس العلّامة بدر الدين محمد ابن الشيخ جمال الدين الشّريشى المذكور، ومعه ما ينيف على أربعين سفرا من كتب اللغة منها صحاح الجوهرى، فأخذ كلّ من الحاضرين- وهم: الشيخ عماد الدين بن كثير، والشيخ صلاح الدين الصّفدى، وشمس الدين الموصلىّ، وصدر الدين بن العزّ، وجماعة أخر- فى يده سفرا من تلك الأسفار، وامتحن البدر بن الشّريشى فى السؤال عن الأبيات المستشهد بها، فأنشد كلّ ما وقع فى تلك الكتب، وتكلّم على الموادّ اللغوية من غير أن يشذّ عنه شىء منها، وتكلم عليها بكلام مفيد متقن، فجزم الحاضرون أنه يحفظ جميع شواهد اللغة، وكتبوا له أجائز بذلك، ومن جملة من كتب له الشيخ مجد الدين هذا- انتهى.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.

(14/134)


[ما وقع من الحوادث سنة 818]
السنة الرابعة من سلطنة الملك المؤيد شيخ على مصر وهى سنة ثمانى عشرة وثمانمائة.
فيها فى شهر رجب تجرّد السلطان الملك المؤيد [شيخ] «1» إلى البلاد الشامية لقتال الأمير قانى باى نائب الشام ومن معه «2» حسبما تقدّم ذكره من قتاله لهم، وقتله إياهم- يأتى ذكر الجميع فى هذه السنة- وأول من قتله منهم الأمير قانى باى المحمدىّ الظاهرىّ نائب الشام فى العشر الأوسط من شعبان بحلب، وحملت رأسه إلى القاهرة، وطيف بها ثم علّقت أياما، وكان أصل قانى باى هذا من مماليك الملك الظاهر برقوق وأعيان خاصّكيته، ثم تأمّر فى الدّولة الناصرية [فرج] «3» إمرة مائة وتقدمة ألف، ثم صار فى دولة الملك المؤيد شيخ رأس نوبة النّوب، ثمّ أمير آخور كبيرا، وسكن باب السّلسلة على العادة وعمّر مدرسته برأس سويقة «4» منعم من الصّليبة بالشارع الأعظم، ثم ولى نيابة دمشق بعد الأمير نوروز الحافظىّ بعد خروجه عن الطاعة، فباشر نيابة دمشق إلى أن أشيع عنه الخروج عن الطاعة «5» وطلبه الملك المؤيد شيخ إلى القاهرة ليستقرّ أتابكا بها، وولّى عوضه نيابة دمشق الأتابك ألطنبغا العثمانى، فلما بلغ قانى باى ذلك خرج عن الطاعة «6» بعد أيام، وقاتل أمراء دمشق، وملك دمشق، ووافقه الأمير إينال الصّصلانىّ نائب حلب، والأمير سودون من عبد الرحمن نائب طرابلس، والأمير تنبك البجاسى نائب حماة، والأمير طرباى نائب غزّة، وخرج إليه الملك المؤيد مخفا، وقاتله بظواهر حلب، حسبما ذكرنا ذلك كلّه فى أصل ترجمة الملك المؤيد من هذا الكتاب، فظفر به بعد أيام وقتله، وكان من

(14/135)


أجلّ خاصّكيّة الملك الظاهر برقوق، وعنده رياسة وحشمة وتجمّل، ومات وسنّة دون الأربعين.
وفيها قتل الأمير سيف الدين إينال بن عبد الله الصّصلانى «1» الظاهرىّ نائب حلب أحد أصحاب قانى باى المقدّم ذكره، فى العشر الأوسط من شعبان، وكان أصله أيضا من أعيان خاصّكيّة الملك الظاهر برقوق ومماليكه، وتأمّر أيضا فى دولة الملك الناصر فرج إلى أن صار أمير مائة ومقدّم ألف، وحاجب الحجّاب، ثم صار فى دولة المؤيد أمير مجلس، ثم نقل إلى نيابة حلب بعد قتل نوروز الحافظىّ، إلى أن خرج قانى باى نائب الشّام عن الطاعة، ووافقه إينال هذا إلى أن كان من أمرهم ما كان، وقتل وحملت رأسه أيضا إلى القاهرة مع رأس قانى باى، وكان إينال المذكور أميرا شجاعا، مقداما كريما، عاقلا سيوسا، معدودا من الفرسان- رحمه الله تعالى.
وفيها قتل الأمير سيف الدين ثمان تمر اليوسفيّ الظاهرىّ، أتابك حلب- المعروف بأرق- معهما فى التاريخ المقدّم ذكره، وحملت رأسه أيضا إلى مصر، وكان تمان تمر أيضا من أعيان المماليك الظاهرية، وترقّى بعد موت الملك الظاهر حتى ولى إمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر، ثم صار أمير جاندار، إلى أن قبض عليه الملك المؤيّد شيخ وحبسه مدّة، ثم أطلقه وولّاه أتابكيّة حلب، فلما خرج قانى باى وإينال نائب حلب وافقهما مع من وافقهما من الأمراء والنوّاب، حتى قبض عليهم، ووقع من أمرهم ما وقع، وكان أيضا من الشجعان، وكان تركىّ الجنس.
وفيها قتل أيضا الأمير سيف الدين جرباش بن عبد الله الظاهرىّ المعروف بكبّاشة حاجب حجّاب حلب، وحملت رأسه إلى القاهرة، وكان أيضا من المماليك الظاهرية، [برقوق] «2» وتأمّر فى الدولة الناصرية [فرج] «3»
، والمؤيّدية [شيخ] «4»
إلى أن أخرجه الملك المؤيد منفيّا إلى القدس، ثم استقرّ به فى حجوبيّة حلب، إلى أن كان

(14/136)


من أمر قانى باى وإينال ما كان، فقتل معهما، وقتل غير هؤلاء أيضا خلائق فى الوقعة وغيرها.
وفيها توفّى قاضى القضاة شمس الدين محمد ابن العلّامة جلال الدين رسولا بن يوسف التّركماني الحنفى، المعروف بابن التّبانىّ «1»
، قاضى قضاة دمشق بها، فى يوم الأحد ثامن عشرين شهر رمضان، وكان إماما عالما فاضلا، معدودا من فقهاء الحنفية.
وتوفّى الوزير الصّاحب سعد الدين إبراهيم بن بركة المعروف بابن البشيرىّ «2»
بالقاهرة فى يوم الأربعاء رابع عشر صفر، ومولده فى ليلة السبت سابع ذى القعدة سنة ستّ وستين وسبعمائة بالقاهرة، وكان معدودا من رؤساء الأقباط، تنقّل فى عدّة وظائف إلى أن ولى الوزر غير مرة، ونظر الخاص.
وتوفّى الشيخ زين الدين حاجى الرّومى «3»
الحنفى شيخ التّربة الناصرية التى أنشأها الملك الناصر [فرج] «4»
على قبر أبيه الملك الظّاهر برقوق بالصحراء «5»
، فى ليلة الخميس رابع شوال، واستقر عوضه فى مشيختها الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد البساطى المالكى، بعناية الأمير ططر نائب الغيبة.
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح، محمد الدّيلمىّ فى رابع ذى الحجة، ودفن بالقرافة، وكان للناس فيه اعتقاد، ويقصد للزيارة للتبرك به.
وتوفّى الملك أميرزة إسكندر ابن أميرزة عمر شيخ بن تيمور لنك، صاحب بلاد فارس، وكان ملكها بعد قتل أخيه أميرزة محمد، ودام إسكندر على ملك فارس سنين إلى أن بدا له مخالفة عمّه شاه رخّ بن تيمور لنك، فسار إليه شاه رخّ المذكور،

(14/137)


وقاتله وأسره وسمل «1»
عينيه بعد أمور وحروب، وأقام شاه رخّ عوضه أخاه رستم ابن أميرزة عمر شيخ، فجمع إسكندر المذكور جمعا ليس بذلك، وقدّم عليهم ابنه، وجهّزهم إلى أخيه رستم، فخرج إليهم رستم المذكور وقاتلهم وهزمهم، وأخذ إسكندر هذا أسيرا، ثم قتله بأمر عمّه شاه رخّ، وكان إسكندر المذكور ملكا فاضلا ذكيا فطنا، يكتب المنسوب «2»
إلى الغاية فى الحسن، وبخطه ربعة عظيمة بمكة المشرفة، وكان حافظا للشعر ويقوله باللغة العجمية والتركية، وكانت لديه فضيلة ومشاركة فى فنون.
وفيها قتل الأمير الكبير سيف الدين دمرداش بن عبد الله المحمّدىّ الظاهرىّ بسجن الإسكندرية فى يوم السبت ثامن عشر المحرّم.
وكان دمرداش هذا من أعيان مماليك الظاهر برقوق، وترقّى فى أيّام أستاذه إلى أن ولى أتابكيّة دمشق، ثم نيابة حماة، ثم نيابة طرابلس، ثم أمسكه وحبسه ساعة، وأطلقه بسفارة الوالد لمّا ولى نيابة حلب، فجعله الظاهر أتابك العساكر بحلب، ثم نقله ثانيا إلى نيابة حماة، ثم نقله إلى نيابة حلب بعد واقعة تنم الحسنى نائب الشّام، وقدم تيمور لنك البلاد الشاميّة فى نيابته، ثم خرج عن الطاعة مع الوالد، ووقع له بعد ذلك أمور وحروب وخطوب- تقدّم ذكرها فى ترجمة الملك الناصر فرج، ثم فى ترجمة الملك المؤيد شيخ- ومحصول هذا كله، أنه ولى أتابكيّة العساكر بالديار المصرية بعد الوالد، ثم ولى نيابة الشّام بعده أيضا بحكم وفاته، ثم فرّ من الملك الناصر [فرج] «3»
لمّا حوصر بدمشق إلى البلاد الحلبيّة، ودام بها، إلى أن كانت فتنة نوروز، وتولّى ابن أخيه قرقماس سيدى الكبير نيابة الشّام عوضا نوروز، وطلبه الملك

(14/138)


المؤيّد فقدم عليه من البحر، وقد عاد قرقماس إلى مصر، فقبض الملك المؤيّد عليهما، وأرسل قبض على ابن أخيه تغرى بردى سيدى الصغير من صالحية بلبيس، وقال: هؤلاء أهمّ من الأمير نوروز، وقتل تغرى بردى سيدى الصغير فى يوم عيد الفطر سنة ستّ عشرة، ثمّ قتل أخاه قرقماس سيدى الكبير بسجن الإسكندرية، وأبقى عمّهما دمرداش هذا إلى هذا اليوم فقتله، وقد تقدم من ذكر دمرداش ما فيه غنية عن ذكره هنا ثانيا.
وفيها قتل الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله المحمدىّ الظاهرىّ المعروف بسودون تلّى- أى مجنون- فى يوم السبت ثامن عشر المحرّم بسجن الإسكندرية، مع الأمير دمرداش المقدّم ذكره، وكان سودون أيضا من أعيان المماليك الظاهريّة [برقوق] «1»
، وترقّى فى دولة الملك الناصر فرج إلى أن صار أمير آخور كبيرا، ثم خرج عن طاعة الملك الناصر، ووقع له أمور، وانضم على الأميرين شيخ ونوروز، ودام معهما سنين إلى أن انكسر الملك الناصر وقتل، فقدم القاهرة- صحبة الأمير الكبير شيخ فى خدمة الخليفة- على أعظم إقطاعات مصر، وكان يميل إلى نوروز أكثر من شيخ، غير أن نوروز أرسله مع الأمير شيخ هو والأمير بكتمر جلّق صفة التّرسيم ليمنعاه «2»
من الوثوب على السّلطنة، فمات بكتمر بعد أشهر، فتلاشى أمر سودون المذكور، فأخذ الملك المؤيد يخادعه إلى أن استفحل أمره، فقبض عليه وحبسه بالإسكندرية إلى أن قتله فى التاريخ المذكور.
وفيها أيضا قتل الأمير سيف الدين أسنبغا الزّرد كاش أحد المماليك الظاهريّة [برقوق] «3»
أيضا، بسجن الإسكندرية مع دمرداش وسودون المحمدى، وكان ممّن صار أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية فى دولة الملك الناصر فرج، وجعله بديار مصر

(14/139)


فى سفرته التى قتل فيها، ودام بمصر إلى أن قبض عليه الملك المؤيد وحبسه بالإسكندرية ثمّ قتله فى التاريخ المقدم ذكره.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع ونصف، مبلغ الزيادة عشرون ذراعا سواء.

(14/140)


[ما وقع من الحوادث سنة 819]
السنة الخامسة من سلطنة الملك المؤيد على مصر وهى سنة تسع عشرة وثمانمائة.
فيها توفّى الأمير سيف الدين تنبك بن عبد الله المؤيّدى، شاد الشراب خاناه، وأحد أمراء الطّبلخانات، فى سادس عشرين صفر، وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلّاة المؤمنى «1»
، وكان من أكابر المماليك المؤيّدية، خصيصا عند السلطان، مشكور السّيرة.
وتوفّى أستادار الوالد الأمير الوزير شهاب الدين أحمد ابن الحاج عمر بن قطينة، فى يوم الأحد ثانى عشرين المحرّم، وكان يباشر فى بيوت الأمراء، واتصل بخدمة الوالد سنين، ثم ولى الوزارة فى الدّولة الناصرية دون الأسبوع فى سنة اثنتين وثمانمائة، وعزل وعاد إلى أستادارية الوالد، وتصرّف مع ذلك فى عدة أعمال، وكان معدودا من أعيان المصريين.
وتوفّى الشيخ الإمام نجم الدين [بن فتح الدين] «2»
، أبو الفتح محمد بن محمد بن عبد الدايم الحنبلى، فى هذه السنة، وكان من أعيان فقهاء الحنابلة.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة همام الدين محمد بن محمد الخوارزمىّ «3»
، الشّافعى، شيخ المدرسة الناصرية المعروفة بالجمالية، برحبة باب العيد بالقاهرة، وكان عالما فى عدة فنون.

(14/141)


وتوفّى القاضى شهاب الدين أحمد الصّفدى «1»
ناظر البيمارستان المنصورى بالقاهرة وناظر الأحباس، فى ثانى عشر شهر ربيع الأوّل، وكان أولا يباشر التّوقيع بخدمة الملك المؤيّد شيخ فى أيام إمرته، فلما رشح للسلطنة خلع عليه بنظر البيمارستان، واستقرّ القاضى ناصر الدين ابن البارزىّ عوضه فى توقيع الأمير شيخ، فوصل بذلك إلى وظيفة كتابة السّرّ.
وتوفّى قاضى القضاة أمين الدين عبد الوهاب ابن قاضى القضاة شمس الدين محمد بن أبى بكر الطرابلسىّ «2»
الحنفى، قاضى قضاة الدّيار المصرية، فى ليلة السبت سادس عشرين شهر ربيع الأول، وقد تجاوز أربعين سنة، وكان مشكور السّيرة قليل البضاعة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قمارى «3»
بن عبد الله، شادّ السلاح خاناه «4»
، وأمير الرّكب الأوّل من الحاج، فى رابع عشرين شوّال، فى وادى القباب «5»
، وهو متوجّه إلى الحج.
وتوفّى الشيخ الإمام المحدّث تقىّ الدين أبو بكر بن عثمان بن محمد الجيتى «6»
، الحنفى قاضى العسكر بالدّيار المصرية بها، وكان من الفضلاء، معدودا من فقهاء الحنفية ونحاتهم، وكان وجيها فى الدّولة المؤيدية [شيخ] «7»
إلى الغاية.

(14/142)


وتوفّى الأمير سيف الدين أرغون بن عبد الله من بشبغا «1»
الظاهرى، الأمير آخور- كان- فى الدولة الناصرية فرج بالقدس بطالا فى يوم الجمعة ثالث ذى القعدة، وكان ديّنا خيرا، عفيفا عن المنكرات والفروج، وهو أحد أعيان المماليك الظاهريّة وخشداش الوالد، كلاهما جلبه خواجا بشبغا، وقد تقدّم من ذكره نبذة كبيرة فى ترجمة الملك الناصر فرج.
وتوفّى الطواشى زين الدين مقبل بن عبد الله الأشقتمرىّ «2»
رأس نوبة الجمدارية فى ليلة الاثنين رابع عشر شهر ربيع الآخر، ودفن بمدرسته التى بخط التّبانة، وكان رومى الجنس، ولديه فضيلة.
وتوفّى قاضى القضاة ناصر الدين محمد ابن قاضى القضاة كمال الدين عمر بن إبراهيم بن محمد المعروف بابن أبى جرادة، وابن العديم «3»
الحلبى الحنفى قاضى قضاة الدّيار المصرية بها، بعد مرض طويل، فى ليلة السبت تاسع شهر ربيع الآخر، عن سبع وعشرين سنة، بعد ما ولى القضاء نحو ثمانى سنين، على أنه صرف منها مدّة، وكان عالما ذكيّا فطنا، مع طيش وخفّة، ومهابة وحرمة، وثروة وحشم، وقد ثلمه الشيخ تقي الدين المقريزى بقوادح ليست فيه، والإنصاف فى ترجمته ما ذكرناه، وأنا أعرف بحاله من الشيخ تقي الدين وغيره؛ لكونه كان زوج كريمتى، ومات عنها، وتولى القضاء بعده الشيخ شمس الدين محمد الدّيرىّ [الحنفى] «4»
القدسى بعد أشهر.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلامة عزّ الدين محمد ابن شرف الدين أبى بكر ابن قاضى القضاة عز الدين عبد العزيز ابن قاضى القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن

(14/143)


جماعة «1»
- مطعونا- فى يوم الأربعاء العشرين من شهر ربيع الأول، ومولده بمدينة الينبع «2»
بأرض الحجاز سنة تسع وخمسين وسبعمائة، وكان بارعا، مفنّنا، إماما فى العلوم العقليّة، مشاركا فى عدّة فنون، وبه تخرج غالب علماء عصرنا، وكان احترز على نفسه من الطاعون، واحتمى عن المغلّظات، وسلك طريق الحكماء، واستعمل الأشياء الدافعة للطاعون والخمّ، وأكثر من ذلك إلى أن طعن وهو أعظم ما يكون من الاحتراز، فما شاء الله كان.
وتوفّى الصاحب الوزير تقي الدين عبد الوهاب ابن الوزير الصاحب فخر الدين عبد الله ابن الوزير الصاحب تاج الدين موسى ابن علم الدين أبى شاكر ابن تاج الدين أحمد ابن شرف الدولة إبراهيم ابن الشيخ سعيد الدّولة بالقاهرة فى يوم الخميس حادى عشر ذى القعدة، وكان مشكور السيرة، يتنصّل من صحبة الأقباط أبناء جنسه، ويتديّن ويصحب الصّلحاء من المسلمين، ولا يدخل فى بيته أحدا من نسوة النصارى البتّة- رحمه الله تعالى.
وتوفّيت خوند أخت الملك الظاهر برقوق، بنت الأمير آنص الجاركسية، أم الأتابك بيبرس، فى ليلة الأحد رابع عشر ذى القعدة، بعد سن عال، وهى الصّغرى من أخوة برقوق.
وتوفّى الشيخ زين الدين أبو هريرة عبد الرحمن ابن الشيخ شمس الدين أبى أمامة محمد ابن على بن عبد الواحد بن يوسف بن عبد الرحيم الدّكالىّ الشّافعىّ، المعروف بابن النّقاش «3»
،

(14/144)


خطيب جامع أحمد بن طولون، فى يوم عيد النحر، وكان يعظ، ولكلامه موقع فى القلوب، مع فضيلة تامّة، ودين متين، وقيام فى ذات الله [تعالى] «1» .
وتوفّى قاضى القضاة شمس الدّين محمد بن على بن معبد المقدسىّ، المعروف بالمدنى «2» المالكى، فى يوم الجمعة عاشر شهر ربيع الأوّل عن سبعين سنة، وكان مشكور السّيرة فى ولايته بالعفة، على أن بضاعته من العلم كانت مزجاة.
وتوفّيت «3» خوند بنت الملك الناصر فرج، زوجة المقام الصّارمى إبراهيم ابن الملك المؤيدى شيخ، فى شهر ربيع الأوّل، وهى أكبر أولاد الناصر، وهى التى كان تزوّجها بكتمر جلّق فى حياة والدها، وسنها دون عشر سنين.
وفيها كان الطاعون والغلاء بالديار المصرية حسبما تقدم ذكره:
أمر النيل فى هذه السنه: الماء القديم سبعة أذرع ونصف، مبلغ الزيادة عشرون ذراعا سواء كالعام الماضى.

(14/145)


[ما وقع من الحوادث سنة 820]
السنة السادسة من سلطنة الملك المؤيد شيخ على مصر وهى سنة عشرين وثمانمائة.
فيها تجرّد السلطان الملك المؤيد المذكور إلى البلاد الشامية، وفتح عدّة قلاع ببلاد الروم مثل كختا وكركر وبهسنا وغيرها، وهى تجريدته الثالثة، وأيضا آخر سفراته إلى الشام.
وفيها توفّى الأمير زين الدين فرج ابن السلطان الملك الناصر فرج ابن السلطان الملك الظاهر برقوق ابن الأمير آنص الجاركسىّ بسجن الإسكندرية فى ليلة الجمعة سادس عشرين [شهر] «1» ربيع الأوّل، ودفن بالإسكندرية، ثم نقلت جثته إلى القاهرة، ودفنت بتربة والده التى بناها الملك الناصر على قبر أبيه الملك الظاهر [برقوق] «2»
بالصحراء خارج القاهرة، ومات ولم يبلغ الحلم، وهو أكبر أولاد الملك الناصر فرج من الذكور، وبموته خمدت نفوس الظاهرية.
وتوفّى الأمير سيف الدين آقبردى بن عبد الله المؤيدى المنقار، أحد أمراء الألوف بالديار المصرية، فى ليلة الخميس سابع عشرين صفر بدمشق، وكان توجه إليها صحبة أستاذه الملك المؤيد، وهو أحد أعيان مماليك [الملك] «3» المؤيد شيخ، اشتراه أيام إمرته وقاسى معه تلك الحروب والفتن والتشتت فى البلاد، فلما تسلطن أمّره عشرة، ثم نقله إلى إمرة طبلخاناه، وجعله رأس نوبة ثانيا، وهو أول من حكم ممّن ولى هذه الوظيفة، وقعدت النّقباء على بابه، ثم أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر، ثم ولى نيابة إسكندرية مدّة، ثم عزله وأقرّه على إقطاعه، وأخذه صحبته إلى التجريدة وهو مريض فى محفّة فمات بالبلاد الشاميّة، وكان شجاعا مقداما كريما، مع جهل

(14/146)


وظلم وجبروت، وخلق سيّئ، وبطش وحدّة مزاج، وقبح منظر. قلت: وعلى كل حال مساوئه أكثر من محاسنه.
وتوفّى القاضى تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله بن حسن الفوى الحنفى «1» .
أخو الصاحب بدر الدين بن نصر الله، كان وكيل بيت المال، وناظر الكسوة، وأحد نواب الحكم الحنفيّة، وهو والد صاحبنا القاضى تقي الدين بن نصر الله، فى ليلة السبت ثالث عشر جمادى الآخرة بالقاهرة، وكان مولده فى سنة ستين وسبعمائة، ومات فى حياة والده، وكان من أعيان الديار المصرية ورؤسائها.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم الزاهد الورع شرف الدين موسى بن على المناوىّ «2» المالكى الفقيه العابد، بمكة المشرفة فى ثانى شهر رمضان، وكان من الأبدال، جاور بمكة والمدينة سنين، وكان أوّلا بالقاهرة فى طلب العلم، وحفظ الموطّأ حفظا جيّدا، وبرع فى الفقه والعربيّة، وشارك فى فنون، ثم تزهد فى الدنيا، وترك ما كان بيده من الوظائف من غير عوض يعوّضه فى ذلك، وانفرد بالصحراء مدّة، ثم خرج إلى مكّة فى سنة تسع وتسعين وسبعمائة، وأقبل على العبادة متخلّيا من كلّ شىء من أمور الدّنيا، معرضا عن جميع الناس حتى صار أكثر إقامته بمكّة فى الجبال، لا يدخلها إلّا فى يوم الجمعة، أو فى النّادر، وكان يقصد للزّيارة والتّبرّك به، وكان ممّن لا يريد الشّهرة.
وتوفّى الأمير سيف الدين آقباى «3» بن عبد الله المؤيّدى نائب الشّام بها فى قلعة

(14/147)


دمشق [فى ذى القعدة] «1» ، وقد مرّ من ذكره ما فيه كفاية عن ذكره ثانيا عند خروجه من قلعة دمشق والقبض عليه، كلّ ذلك فى ترجمة أستاذه الملك المؤيد [شيخ] «2» وهو أحد أعيان مماليك المؤيد، وأحد الأربعة المعدودة بالشّهامة والشجاعة.
وهم: الأمير جانى بك المؤيدى الدّوادار، والأمير آقباى الخازندار ثم الدّوادار هذا، والأمير يشبك اليوسفىّ المؤيدى المشدّ ثم نائب حلب الآتى ذكره، والأمير آقبردى المؤيّدى المنقار المقدم ذكره فى هذه السنة، فهؤلاء الأربعة كانوا من الشجعان «3» [ضاهوا أعيان مماليك الملك الظاهر برقوق، بل بالغ بعض خشداشيّتهم بأنّهم أعظم وأشهم، وفى ذلك نظر] «4» .
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد بن على بن جعفر البلالى «5» الشافعى، شيخ خانقاه سعيد السعداء «6» بها، فى يوم الجمعة رابع عشر شهر رمضان، وكان فقيها فاضلا معتقدا، وله شهرة كبيرة، وكان الوالد يحبّه، ويبرّه بالأموال والغلال، وغير ذلك.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد السّلاخورىّ، نائب دمياط، قتيلا فى رابع عشر ذى الحجّة، بعد ما ولى عدّة وظائف بالبذل والسّعى.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع سواء، مبلغ الزّيادة تسعة عشر ذراعا وثمانية أصابع.

(14/148)


[ما وقع من الحوادث سنة 821]
السنة السابعة من سلطنة الملك المؤيد شيخ على مصر وهى سنة إحدى وعشرين وثمانمائة.
فيها كان الطاعون بالديار المصرية، ومات جماعة من الأعيان وغيرهم، ووقع الطاعون بها أيضا فى التى تليها حسبما يأتى ذكره.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين مشترك بن عبد الله القاسمى الظاهرىّ نائب غزّة- كان- ثم أحد مقدّمى الألوف بدمشق بها، فى سادس عشر جمادى الأولى، وهو أحد المماليك لظاهرية برقوق، وتأمّر فى دولة الملك الناصر فرج، ثم ولّاه الملك المؤيد نيابة غزّة، ثم نقله إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق، إلى أن مات.
وتوفّى الشريف النقيب شرف الدين أبو الحسن على ابن الشريف النقيب فخر الدين أحمد ابن الشريف النقيب شرف الدين محمد بن على بن الحسين بن محمد ابن الحسين بن محمد بن الحسين بن محمد بن زيد بن الحسين بن مظفّر بن على بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب- رضى الله عنه- الأرموىّ الحسينىّ، نقيب الأشراف بالديار المصرية، فى يوم الاثنين تاسع عشر شهر ربيع الأوّل، وكان رئيسا نبيلا، عاريا عن العلوم والفضائل، منهمكا فى اللّذات، وله مكارم وأفضال- عفا الله [تعالى] «1» عنه.
وتوفّى الأمير [سيف الدين] «2» حسين بن كبك التّركمانى أحد أمراء التّركمان قتيلا فى ثالث جمادى الأولى.
وتوفّى القاضى شهاب الدين أحمد بن عبد الله القلقشندى «3» الشّافعى فى ليلة السّبت عاشر جمادى الآخرة عن خمس وستين سنة، بعد أن كتب فى الإنشاء «4» سنين، وبرع

(14/149)


فى العربيّة، وشارك فى الفقه، وناب فى الحكم بالقاهرة، وعرف الفرائض، ونظم ونثر، وصنّف كتاب صبح الأعشى فى صناعة الإنشاء، جمع فيه جمعا كبيرا مفيدا، وكتب فى الفقه وغيره.
وتوفّى الأمير سيف الدين بيسق بن عبد الله الشّيخىّ الظاهرىّ، أحد أمراء الطّبلخانات، وأمير آخور ثانى، فى جمادى الآخرة بالقدس بطّالا، بعد أن ولى إمرة الحاجّ فى أيّام أستاذه الملك الظاهر برقوق، وأيّام ابن أستاذه الملك الناصر فرج غير مرّة، وولى عمارة المسجد الحرام بمكّة لمّا اخترق فى سنة ثلاث وثمانمائة، ثم تنكّر عليه الملك الناصر، وأخرجه منفيّا إلى صهره الأمير إسفنديار ملك الرّوم، فأقام بها حتى تسلطن الملك المؤيد شيخ، فقدم عليه، فلم يقبل عليه الملك المؤيّد شيخ لأنّه كان من حواشى الأمير نوروز الحافظى، وأقام بداره مدّة، ثم أخرجه المؤيد إلى القدس بطّالا، فمات به، وكان أميرا عاقلا، عارفا بالأمور، متعصبا للفقهاء الحنفيّة، وفيه برّ وصدقة، مع شراسة خلق وحدّة مزاج، وقد ترجمه الشيخ تقىّ الدين الفاسى «1» قاضى مكّة ومؤرّخها، ونعته بالأمير الكبير، على أنّ بيسق، لم يعط إمرة مائة ولا تقدمة ألف البتّة، وإنما أعظم ما وصل إليه الأمير آخورية الثانية، وإمرة طبلخاناه لا غير، فبينه وبين المقدّم درجات، وبين المقدم والأمير الكبير درجات، فترجمه الفاسى بالأمير الكبير دفعة واحدة، وكذا وقع له فى جماعة كبيرة من أعيان المصريين، فكلّ ذلك لعدم ممارسته لهذا الشأن، وإن كان الرجل حافظا ثقة، عارفا بفن الحديث ورجاله، إماما فى معرفة أهل بلده، وأحوال المسجد الحرام، وقد أجاد فيما صنّفه من تاريخ مكّة المشرّفة إلى الغاية بخلاف تأريخه التّراجم، فإنه قصّر فيه إلى الغاية، وأقلب ملوك الأقطار وأعيانها- ما عدا أهل مكة- ظهرا لبطن، وأعظم من رأيناه فى هذا الشأن الشيخ تقي الدين المقريزىّ، وقاضى القضاة بدر الدين العينى، وما عداهما فمن مقولة الشيخ تقي الدين الفاسى، ولم أرد بذلك الحطّ على أحد،

(14/150)


وإنما الحقّ يقال على أى وجه كان، وها [هى] «1» مصنّفات الجميع باقية، فمن لم يرض بحكمى فليتأمّلها، ويقتدى بنفسه- انتهى.
وتوفّى الأمير علاء الدين «2» آقبغا بن عبد الله المعروف بالشّيطان- مقتولا- فى ليلة الخميس سادس شعبان، وأصله من صغار مماليك الملك الظاهر برقوق، وعظم فى الدّولة المؤيّدية، حتى إنه جمع بين ولاية القاهرة وحسبتها وشدّ الدّواوين بها فى وقت واحد، وكان عارفا حاذقا فطنا، عفيفا عن المنكرات، مع معرفة بالمباشرة، غير أنه كان فيه ظلم وعسف.
وتوفّى الأمير سيف الدين بردبك بن عبد الله الخليلى الظاهرىّ، المعروف بقصقا، نائب صفد بها، فى ليلة الخميس نصف شهر رجب، وكان أصله من خاصّكيّة الملك الظاهر برقوق ومماليكه، وترقّى بعد موته إلى أن صار أمير مائة ومقدّم ألف، ثم رأس نوبة النّوب فى دولة الملك المؤيّد شيخ، ثم نقل إلى نيابة طرابلس، فساءت سيرته بها، فعزل عنها ونقل إلى نيانة صفد فدام بها إلى أن توفى، وكان غير مشكور السّيرة.
وتوفّى الأمير [سيف الدين] «3» سودون بن عبد الله الأسندمرىّ الظاهرىّ، أتابك طرابلس قتيلا- فى الوقعة التى كانت بين الأمير برسباى الدقماقى نائب طرابلس وبين التّركمان خارج طرابلس- فى يوم الأربعاء سابع عشرين شعبان، وكان ولى الأمير آخوريّة الثانية فى الدولة الناصرية، ثم أمسكه الملك الناصر وحبسه بسجن الإسكندرية، إلى أن أطلقه الملك المؤيد، وأنعم عليه بعد مدّة بأتابكيّة طرابلس، فدام بها إلى أن قتل.
وتوفّى الأستاذ إبراهيم بن باباى الرّومى العوّاد، أحد ندماء الملك الناصر فرج،

(14/151)


ثم الملك المؤيد شيخ، ببستانه بجزيرة الفيل المعروف ببستان الحلّى فى ليلة الجمعة مستهلّ شهر ربيع الأوّل، وقد انتهت إليه الرياسة فى الضّرب بالعود، وخلّف مالا جزيلا، وكان فيه تكبّر وشمم، وكان حظيّا عند الملوك، نالته السعادة بسبب آلته وغنائه، ومات وهو فى عشر السبعين، ولم يخلف بعده مثله إلى يومنا هذا، ومع قوته فى العود ومعرفته بالموسيقى لم يصنّف شيئا فى الموسيقى، كما كانت عادة من قبله من الأستاذين- انتهى.
وتوفى الأمير الوزير فخر الدين عبد الغنى ابن الوزير تاج الدين عبد الرزّاق بن أبى الفرج بن نقولا «1» الأرمنىّ الملكى أستادار العالية، فى يوم الاثنين النّصف من شوال، بداره بين السورين من القاهرة، ودفن بجامعه «2» الذي أنشأه تجاه داره المذكورة، وتولى الأستادارية من بعده الزّينى أبو بكر بن قطلوبك، المعروف بابن المزوّق، وكان مولد فخر الدين المذكور فى شوال سنة أربع وثمانين وسبعمائة، ونشأ فى كنف والده، ولما ولى أبوه الوزارة من ولاية قطيا فى الأيام الظاهرية برقوق، ولّاه موضعه بقطيا، ثم ولى كشف الوجه الشّرقىّ فى سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، ووضع السيف فى العرب الصالح والطالح، وأسرف فى سفك الدّماء وأخذ الأموال، حتى تجاوز عن الحد فى الظّلم والعسف، ثم طلب الزيادة فى الظلم والفساد، وبذل للملك الناصر أربعين ألف دينار، وولى الأستادارية عوضا عن تاج الدين عبد الرزّاق بن الهيصم فى سنة أربع عشرة المذكورة.
قال المقريزى فوضع يده فى الناس يأخذ أموالهم بغير شبهة من شبه الظلمة حتى داخل الرّعب كلّ برىء، وكثرت الشناعة عليه، وساءت القالة فيه، فصرف فى ذى الحجة من السّنة، وسرّ الناس بعزله سرورا كبيرا، وعوقب عقوبة لم يعهد مثلها فى الكثرة، حتى أيس منه كلّ أحد، ورقّ له أعداؤه، وهو فى ذلك يظهر قوّة النفس،

(14/152)


وشدّة الجلد، مالا يوصف، ثم خلّى عنه، وعاد إلى ولاية قطيا، ثم صرف عنها، وخرج مع الناصر إلى دمشق من غير وظيفة.
فلما قتل الناصر تعلّق بحواشى الأمير شيخ، وأعيد إلى كشف الوجه البحرى،- انتهى كلام المقريزى باختصار.
قلت: ثمّ ولى الأستادارية ثانيا بعد ابن محب الدين فى سنة تسع عشرة وثمانمائة، وسلّم إليه ابن محبّ الدين، فعاقبه وأخذ منه أموالا كثيرة، ثم أضيف إليه الوزر، وتقدّم عند الملك المؤيّد، ثم تغيّر عليه المؤيّد، ففرّ منه فخر الدين المذكور من على حماة إلى بغداد، وغاب هناك إلى أن قدم بأمان من الملك المؤيد وعاد إلى وظيفة الأستادارية، واستمرّ على وظيفته إلى أن مات فى التاريخ المقدم ذكره.
قال المقريزى رحمه الله: وكان جبّارا قاسيا شديدا، جلدا عبوسا بعيدا عن الترف، قتل من عباد الله ما لا يحصى، وخرّب إقليم مصر بكماله، وأفقر أهله ظلما وعتوّا وفسادا فى الأرض؛ ليرضى سلطانه، فأخذه الله أخذا وبيلا- انتهى كلام المقريزى [باختصار] «1» .
قلت: لا ينكر عليه ما كان يفعله من الظّلم والجور، فإنه كان من بيت ظلم وعسف، كان عنده جبروت الأرمن، ودهاء النّصارى، وشيطنة الأقباط، وظلم المكسة، فإن أصله من الأرمن، وربّى مع النصارى، وتدرّب بالأقباط، ونشأ مع المكسة بقطيا، فاجتمع فيه من قلّة الدين، وخصائل السّوء ما لم يجتمع فى غيره، ولعمرى لهو أحقّ بقول القائل: [الوافر]
مساوىء لو قسمن على الغوانى ... لما أقهرن إلّا بالطّلاق
قيل إنه لما دفن بقبره بالقبّة من مدرسته سمعه جماعة من الصّوفيّة وغيرهم وهو يصيح فى قبره، وتداول هذا الخبر على أفواه الناس، قلت: وما خفاهم أعظم «2» ، غير أنى

(14/153)


أحمد الله تعالى على هلاك هذا الظّالم فى عنفوان شبيبته، ولو طال عمره لملأ ظلمه وجوره الأرض، وقد استوعبنا ترجمته فى تاريخنا المنهل الصّافى «1» بأطول من هذا، وذكرنا من اقتدى به من أقاربه فى الظّلم والجور وسوء السّيرة، ألا لعنة الله على الظّالمين.
قلت: وأعجب من ظلمهم إنشاؤهم المدارس والرّبط، من هذا المال القبيح، الذي هو من دماء المسلمين [وأموالهم] «2» . وأما مدرسة فخر الدين هذا، ومدرسة جمال الدين البيرىّ الأستادار «3» ، ومدرسة أخرى، بالقرب من باب سعادة، فهذه «4» المدارس الثلاث فى غاية ما يكون من الحسن، والعمل المتقن من الزّخرفة، والرّخام الهائل، ومع هذا أرى أن القلوب ترتاح إلى بلاط دهليز خانقاه سعيد السّعداء، وبياضها الشّعث أكثر من زخرفة هؤلاء ورخامهم، وليس يخفى هذا على أرباب القلوب النيّرة، والأفكار الجليلة- انتهى.
وتوفّى الأمير الطّواشى بدر الدين لؤلؤ العزّى الرّومىّ، كاشف الوجه القبلى، فى يوم الأربعاء رابع عشرين شوّال، وكان يلى الأعمال، فصودر وعوقب غير مرّة، وكان من الظّلمة الفتّاكين، وكانت أعيان الخدّام تكره منه دخوله فى هذا الباب، وتلومه على ذلك.
وتوفّى الأمير الكبير علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله العثمانى [الظاهرى] «5» أتابك العساكر بالدّيار المصرية، ثمّ نائب الشام بطالا بالقدس، فى يوم الاثنين ثانى عشرين شوّال، وكان أعظم مماليك الملك الظاهر برقوق فى زمانه، وأجلّهم قدرا، وأرفعهم منزلة، فإنه ولى نيابة صفد فى دولة أستاذه الملك الظاهر برقوق، والملك المؤيد

(14/154)


يوم ذاك من جملة أمراء العشرات، ثم لا زال ينتقل من الأعمال والوظائف إلى أن ولّاه الملك المؤيد شيخ أتابك العساكر بالديار المصرية، بعد وفاة الأتابك يلبغا الناصرى، ثم نقله إلى نيابة دمشق بعد خروج قانى باى المحمدى، ثمّ أمسكه وسجنه بقلعة دمشق مدّة أيام، ثم أطلقه ورسم له بالتوجّه إلى القدس بطالا، فتوجّه إليه ودام به إلى أن مات، وكان أميرا جليلا عاقلا ساكنا متواضعا وقورا وجيها فى الدّولة، طالت أيامه فى السعادة- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير علاء الدين قطلوبغا نائب الإسكندرية بها فى يوم الخميس خامس عشر ذى الحجة، وكان ولى الحجوبيّة فى دولة الملك المنصور حاجى «1» بتقدمة ألف بالقاهرة، فلمّا عاد الظاهر برقوق إلى الملك أخرج عنه إقطاعه، وطال خموله، وحطّه الدّهر وافتقر، إلى أن طلبه المؤيد وولّاه نيابة الإسكندرية، وهو لا يملك القوت اليومىّ. وقد تقدّم ذكر ذلك فى أصل ترجمة الملك المؤيد من هذا الكتاب.
وتوفّى المسند المعمّر المحدّث شرف الدين محمد ابن عز الدين أبى اليمن محمد بن عبد اللطيف بن أحمد بن محمود بن أبى الفتح الشهير بابن الكويك «2» الرّبعى الإسكندرى الشافعى، فى يوم السبت سادس عشرين ذى القعدة، ومولده فى ذى القعدة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة بالقاهرة، وكان تفرّد بأشياء عالية، وتصدّى للإسماع عدّة سنين، وأخّر قبل موته، وكان خيّرا ساكنا، كافّا عن الشّرّ، من بيت رياسة وفضل، وأول سماعة- حضورا- سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ولم يشتهر بعلم.

(14/155)


وتوفّى الأمير أبو الفتح موسى ابن السلطان الملك المؤيد شيخ، فى يوم الأحد تاسع عشرين شهر رمضان، وهو فى الشهر الخامس من العمر، ودفن بالجامع المؤيدى، وأمّه أمّ ولد جاركسيّة تسمّى قطلباى، تزوّجها الأمير إينال الجكمىّ بعد موت الملك المؤيد.
أمر النّيل فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشرة أصابع.

(14/156)


[ما وقع من الحوادث سنة 822]
السنة الثامنة من سلطنة الملك المؤيد شيخ «1» على مصر وهى سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة.
فيها توجّه المقام الصارمى إبراهيم ابن السلطان الملك المؤيد شيخ إلى البلاد الشاميّة، وسار إلى الرّوم ومعه عدّة من أعيان الأمراء والعساكر، وسلك بلاد ابن قرمان وأباده، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه فى أصل ترجمة الملك المؤيد من هذا الكتاب.
وفيها كان الطاعون أيضا بالديار المصرية، ولكنه كان أخف من السنة الخالية.
وفيها توفّى الأمير شرف الدين يحيى بن بركة بن محمد بن لاقى، أحد ندماء السلطان الملك المؤيد، فى يوم الأربعاء حادى عشر صفر، قريبا من غزّة، فحمل ودفن بغزّة فى يوم الجمعة، وكان أوّلا من أمراء دمشق، ثم قدم مع المؤيد شيخ إلى مصر، وصار من أعيان الدّولة، واستقرّ مهمندارا وأستادار الجلال، ثم انحطّ قدره، ونفى إلى البلاد الشاميّة، فمات فى الطريق، وكان سبب نفيه تنكّر الأمير جقمق الأرغون شاوىّ الدّوادار عليه، بسبب كلام نقله عنه للسلطان، فتبيّن الأمر بخلاف ما نقله، فرسم السّلطان بنفيه من القاهرة على حمار.
وتوفّى الأمير سيف الدين كزل بن عبد الله الأرغون شاوىّ، أحد أمراء الطّبلخانات بديار مصر، ثمّ نائب الكرك بعد عزله عن نيابة الكرك، وتوجهه إلى الشّام على إمرة طبلخاناه، بحكم طول مرضه، فمات بعد أيّام فى خامس عشرين المحرّم، وكان أصله من مماليك الأمير أرغون شاه، أمير مجلس أيّام الملك الظاهر برقوق، وترقّى إلى أن كان من أمره ما ذكرناه، وكان عاقلا ساكنا.
وتوفّى الأديب الفاضل مجد الدين فضل الله ابن الوزير الأديب فخر الدين

(14/157)


عبد الرحمن بن عبد الرزّاق بن إبراهيم بن مكانس المصرى القبطى الحنفى، الشّاعر المشهور، فى يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الآخر، ومولده فى شعبان سنة تسع وستين وسبعمائة، ونشأ تحت كنف والده، وعنه أخذ الأدب وتفقّه على مذهب أبى حنيفة- رضى الله عنه- وقرأ النحو واللّغة، وبرع فى الأدب، وكتب فى الإنشاء مدّة، وكانت له ترسّلات بديعة ونظم رائق، وفيه يقول أبوه فخر الدين رحمه الله تعالى: [الطويل]
أرى ولدى قد زاده الله بهجة ... وكمّله فى الخلق والخلق مذ نشا
سأشكر ربّى حيث أوتيت مثله ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا
ومن شعر مجد الدين صاحب الترجمة قوله:
[الوافر]
بحقّ الله دع ظلم المعنّى ... ومتّعه كما يهوى بأنسك
وكيف الصّدّ يا مولاى عمّن ... بيومك رحت تهجره وأمسك
وله أيضا:
[الطويل]
جزى الله شيبى كلّ خير فإنه ... دعانى لما يرضى الإله وحرّضا
فأقلعت عن ذنبى وأخلصت تائبا ... وأمسكت لمّا لاح لى الخيط أبيضا
وله أيضا:
[الوافر]
تساومنا شذا أزهار روض ... تحيّر ناظرى فيه وفكرى
فقلت نبيعك الأرواح حقا ... بعرف طيّب منه ونشرى
وتوفّى الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله القاضى الظاهرى، نائب طرابلس بها، فى رابع عشر ذى القعدة، وكان أصله من مماليك الملك الظاهر برقوق، وترقّى بعد موته إلى أن ولى فى الدّولة المؤيّديّة حجوبيّة الحجّاب، ثم رأس نوبة النّوب، ثم قبض عليه، وحبس مدّة، ثم أطلقه الملك المؤيّد، وولّاه كشف الوجه القبلى، ثم نقله إلى نيابة طرابلس بعد مسك الأمير برسباى

(14/158)


الدّقماقىّ، أعنى الأشرف، فدام على نيابة طرابلس إلى أن مات، وكان سبب تسميته بالقاضى لأنّه كان إنّيّا «1» للأمير تنبك القاضى، فسمّى على اسم أغاته، والعجب أنه صار رأس نوبة النّوب وأغاته تنبك المذكور من جملة رءوس النّوب العشرات، يمشى فى خدمة إنيه.
وتوفّى القاضى عزّ الدين عبد العزيز بن أبى بكر بن مظفر بن نصير البلقينىّ الشافعى، أحد فقهاء الشافعيّة وخلفاء الحكم بالديار المصريّة، فى يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الأولى، وكان فقيها شافعيّا، عارفا بالفقه والأصول والعربية، رضىّ الخلق، ناب فى الحكم من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة.
وتوفّى الأمير شهاب الدّين أحمد ابن القاضى ناصر الدين محمد بن البارزىّ الجهنىّ الحموى- فى حياة والده- بداره على النّيل بساحل بولاق، فى يوم الاثنين تاسع عشر شهر ربيع الآخر، وحضر السلطان الملك المؤيد الصلاة، ووجد عليه أبوه كثيرا.
وتوفّى الأمير أبو المعالى محمد ابن السلطان الملك المؤيد شيخ فى عاشر ذى الحجّة، ودفن بالجامع المؤيدى وعمره أيضا دون السّنة.
وتوفى الشيخ برهان الدين إبراهيم ابن غرس الدين خليل بن علوة الإسكندرى، رئيس الأطباء، وابن رئيسها، فى يوم الاثنين آخر صفر، وكان حاذقا فى صناعته، عارفا بالطبّ والعلاج.
أمر النّيل فى هذه السّنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وستة وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا.

(14/159)


[ما وقع من الحوادث سنة 823]
السنة التاسعة من سلطنة «1» الملك المؤيد شيخ على مصر وهى سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة.
فيها جرّد السلطان الملك المؤيد الأتابك ألطنبغا القرمشى إلى البلاد الشامية، وصحبته عدة من أمراء الألوف قد ذكرنا أسماءهم فى أصل الترجمة عند خروجهم من القاهرة.
وفيها توفّى قاضى القضاة جمال الدين عبد الله بن مقداد بن إسماعيل الأقفهسىّ «2» المالكى، قاضى قضاة الدّيار المصرية فى رابع عشر جمادى الأولى عن نحو ثمانين سنة، وهو قاض فى ولايته الثانية، وكان إماما بارعا مفتنا مدرسا، ومات والمعوّل على فتواه بمصر.
وتوفّى القاضى شمس الدين محمد بن محمد بن حسين البرقى «3» الحنفى، أحد نوّاب الحكم الحنفيّة فى سابع جمادى الآخرة.
وتوفّى الشيخ على كهنبوش «4» ، صاحب الزّاوية التى عمّرها له سودون الفخرى الشّيخونى النّائب، خارج قبة النّصر، بالقرب من الجبل الأحمر، والزاوية معروفة به إلى يومنا هذا، وكان مشكور السّيرة، محمود الطريقة، يشهر بصلاح ودين، وقيل إنه چاركسى الجنس، هكذا ذكر لى بعض المماليك الچاركسية، والمشهور أنه كان من فقراء الرّوم- انتهى.

(14/160)


وتوفّى الرئيس صلاح الدين خليل ابن زين الدين عبد الرّحمن بن الكويز «1» ناظر ديوان المفرد فى عاشر شهر رمضان، وكان ممّن قدم إلى مصر صحبة الأمير شيخ، وتولى نظر ديوان المفرد، وعظم فى الدولة، وأظنه كان أسنّ من أخيه علم الدين داود ناظر الجيش، والله أعلم.
وتوفّى العلامة القاضى ناصر الدين أبو المعالى محمد ابن القاضى كمال الدين محمد بن عز الدين بن عثمان ابن كمال الدين محمد بن عبد الرحيم بن هبة الله الجهنى «2» الحموى الشافعى، المعروف بابن البارزى، كاتب السّرّ الشريف بالديار المصرية، وعظيم الدولة المؤيدية، فى يوم الأربعاء ثامن شوال، ودفن على ولده الشهابى أحمد المقدم ذكره فى السنة الخالية، تجاه شباك الإمام الشافعى- رضى الله عنه- ومولده بحماة فى يوم الاثنين رابع شوّال سنة تسع وستين وسبعمائة، ومات أبوه فى سنة ست وسبعين، ونشأ تحت كنف أخواله، وحفظ القرآن الكريم، وكتاب الحاوى فى الفقه، وطلب العلم، وتفقّه بجماعة، وبرع فى الفقه والعربية والأدب والإنشاء، وتولى قضاء حماة، ثم ولى كتابة سرّها، ثم صحب الملك المؤيّد فى أيام نيابته بدمشق، ولازم خدمته، وتولّى قضاء حلب فى نيابة المؤيد عليها، ثم قبض عليه الملك الناصر، وحبسه ببرج الخيالة بقلعة دمشق، ونظم وهو فى السجن المذكور قصيدته المشهورة التى أولها:
[البسيط]
هو الزمان فلا تلقاه بالرهب ... سلامة المرء فيه غاية العجب
أنشدنى القصيدة المذكورة ولده العلّامة كمال الدين بن البارزى من لفظه، وقد سمعها من لفظ أبيه غير مرّة، وأثبت القصيدة بتمامها فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل

(14/161)


الصافى» إذ هو محلّ التطويل فى التراجم، ومن شعره أيضا- وهو مما أنشدنى ولده القاضى كمال الدين المقدّم ذكره عن أبيه: [الكامل]
طاب افتضاحى فى هواه محاربا ... فلهوت عن علمى وعن آدابى
وبذكره عند الصّلاة وباسمه ... أشد وفواطر باه فى المحراب
ولا زال بالحبس بقلعه دمشق إلى أن قدمها الملك الناصر فرج، وأراد قتله، فشفع فيه الوالد وأطلقه والسلطان عنده على باب دار السعادة بدمشق، وتوجّه إلى حماة، ثم عاد إلى الملك المؤيد ثانيا، ولا زال معه حتى قتل الملك الناصر، وقدم صحبته إلى مصر وتولى توقيعه عوضا عن شهاب الدين الصفدى وهو أتابك، فلما تسلطن خلع عليه فى شوّال من سنة خمس عشرة وثمانمائة باستقراره كاتب السّر الشريف بالديار المصرية، عوضا عن [فتح الدين] «1» فتح الله بعد عزله ومصادرته، فباشر الوظيفه بحرمة وافرة، ومهابة زائدة، وعظم وضخم ونالته السّعادة، وصار هو صاحب الحل والعقد فى المملكة، وكان يبيت عند الملك المؤيد فى ليالى البطالة، وينادمه ويجاريه فى كل فنّ من الجدّ والهزل، لا يدانيه أحد من جلساء الملك المؤيد فى ذلك، هذا مع الفضل الغزير، وطلاقة اللسان، وحفظ الشّعر، وحسن المحاضرة، والإقدام والتجرى على الملوك، والمراجعة لهم فيما لا يعجبه، وهو مع ذلك قريب من خواطرهم لحسن تأدّيه ما يختاره، وبالجملة فهو أعظم من رأيناه ممّن ولى هذه الوظيفة، ثم بعده ابنه القاضى كمال الدّين الآتى ذكره فى محلّه، بل كان ولده المذكور أرجح فى أمور يأتى بيانها فى محلّها.
وتوفّى الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن أبى شاكر بن عبد الله بن الغنام فى سابع عشرين شوال، وقد أناف على المائة سنة وحواسّه سليمة، بعد أن وزر

(14/162)


مرّتين، وأنشأ مدرسة بالقرب من الجامع الأزهر «1» معروفة به، وكان من بيت رياسة وكتابة.
وتوفّى ملك الغرب وصاحب فاس- قتيلا- السلطان أبو سعيد عثمان ابن السلطان أبى العبّاس أحمد ابن السلطان أبى سالم إبراهيم ابن السلطان أبى الحسن على ابن عثمان بن يعقوب بن عبد الحقّ المرينى الفاسى، فى ليلة ثالث عشر شوال، قتله وزيره عبد العزيز اللبانى «2» ، وأقام عوضه ابنه أبا عبد الله محمدا، وكانت مدّته ثلاثا وعشرين سنة وثلاثة أشهر- رحمه الله.
وتوفّى متملّك بغداد وتبريز والعراق «3» الأمير قرا يوسف ابن الأمير قرا محمد بن بيرم خجا التّركمانى، فى رابع عشر ذى القعدة، وملك بعده ابنه شاه محمد ابن قرا يوسف، وأوّل من ظهر من آبائه بيرم خجا بعد سنة ستّين وسبعمائة، وتغلّب بيرم خجا على الموصل حتّى أخذها، ثم أخذها منه أويس ثانيا، وصار بيرم خجاله كالعامل إلى أن مات، فملك بعده ابنه قرا محمد، حتى مات فى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فملك بعده ابنه قرا يوسف، فحاربه القآن غياث الدين أحمد بن أويس صاحب بغداد على الموصل، ووقع لهما بسبب ذلك حروب إلى أن اصطلحا، وانتمى قرا يوسف إلى السلطان أحمد، وصار ينجده فى حروبه، وقد مرّ دخول قرا يوسف إلى الشّام وقدومه صحبة الأمير شيخ المحمودى إلى جهة القاهرة فى وقعة السّعيديّة «4» مع الملك الناصر وعوده إلى بلاده، وفى عدّة مواضع أخر، وآخر الحال أنه وقع بين قرا يوسف وبين السلطان أحمد وتحاربا، وغلب قرا يوسف

(14/163)


السّلطان [أحمد] «1» وأخذ بغداد منه، ودام بها إلى أن أخرجه منها حفيد تيمور لنك أميرزة أبو بكر بن ميران شاة بن تيمور، وفرّ قرا يوسف إلى دمشق، وقدمها فى شهر ربيع الآخر سنة ستّ وثمانمائة، فقبض عليه الأمير شيخ المحمودىّ نائب دمشق:
أعنى المؤيّد، وأمسك معه أيضا السلطان أحمد، وحبسهما بقلعة دمشق، وهذه أوّل عداوة وقعت بين المؤيّد وقرا يوسف، وداما فى السّجن إلى أن أفرج عنهما فى سابع شهر رجب سنة سبع وثمانمائة، وخلع على قرا يوسف هذا، وأنعم عليه، وأخذه معه إلى جهة مصر، وحضر وقعة السّعيديّة المقدم ذكرها، ووصل قرا يوسف فى هذه الحركة إلى دار الضّيافة «2» بالقرب من قلعة الجبل، ولم يدخل القاهرة، ثم عاد إلى بلاده، ثمّ وقع بينه وبين السلطان أحمد أيضا حروب إلى أن ظفر قرا يوسف بالسلطان أحمد المذكور وقتله فى سنة ثلاث عشرة وثمانمائة واستولى من حينئذ على العراقين، وبعث ابنه شاه محمد إلى بغداد فحصل بين شاه محمد [المذكور] «3» وبين أهل بغداد حروب، ووقع لهم معه أمور يطول شرحها.
ومن يوم قدمها هذا الكعب الشّؤم نمت الحروب ببغداد إلى أن خربت بغداد والعراق بأجمعه من كثرة الفتن التى كانت فى أيّام قرا يوسف هذا، ثم فى أيّام أولاده من بعده، واستمرّ قرا يوسف بتلك الممالك إلى أن مات فى التاريخ المقدم ذكره، وملك بعده [بغداد] «4» ابنه شاه محمد، وتنصّر ودعا الناس إلى دين النّصرانيّة، وأباد العلماء والمسلمين، ثم ملك بعده إسكندر وكان على ما كان عليه شاه محمد وزيادة، ثم أخوهما أصبهان، فكان زنديقا لا يتديّن بدين، فقرا يوسف وذرّيته هم كانوا سببا لخراب بغداد التى كانت كرسىّ الإسلام، ومنبع العلوم، ومدفن الأئمّة الأعلام، وقد بقى الآن من أولاده لصلبه جهان شاه متملّك العراقين وأذربيجان، والى أطراف العجم، والناس منه على وجل، لعلهم أنه من

(14/164)


هذه السّلالة الخبيثة النجسة، فالله تعالى يلحقه بمن سلف من آبائه وإخوته الكفرة الزنادقة- فإنهم شرّ عصابة وأقبح الناس سيرة- قريبا غير بعيد.
وتوفّى شرف الدين محمد بن على بن الحيرىّ محتسب القاهرة فى ثانى عشر شهر ربيع الأوّل. قال المقريزىّ: وقد ولى حسبة القاهرة ومصر غير مرّة، بعد ما كان من شرار العامّة، ويشهر بقبائح من السّخف والمجون وسوء السّيرة.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير مبارك شاه الطّازىّ أخو الخليفة المستعين بالله فى هذه السّنة، وقد تقدّم من ذكره نبذة يعرف منها حاله عند خلع الملك الناصر فرج من الملك، وتولية الخليفة المستعين بالله السّلطنة، ولما تولّى أخوه المستعين بالله العباس السّلطنة أنعم على ابن الطّازىّ هذا بإمرة طبلخاناه وصار دوادار المستعين، ودام ذلك إلى أن قدم المستعين إلى القاهرة استفحل أمر الأمير شيخ وانحطّ أمر المستعين إلى أن خلع من السّلطنة، ثم من الخلافة، فأخرج الملك المؤيد إقطاع ابن الطّازىّ هذا وأبعده ومقته إلى أن مات.
وكان ابن الطازىّ هذا رأسا فى لعب الرّمح، أستاذا فى فنّ الفروسيّة، أخذ عنه فنّ الرمح وغيره الأمير آقبغا التّمرازى، والأمير كزل السّودونى المعلّم، وبه تخرّج كزل المذكور، والأمير قجق المعلّم رأس نوبة وغيرهم، وكان من عجائب الله [تعالى] «1» فى فنّه، نظرته غير أننى لم آخذ عنه شيئا لصغر سنّى يوم ذاك، وأنا أتعجّب من أمر ابن الطازىّ هذا مع الملك المؤيد؛ فإن المؤيد كان صاحب فنون ويقرّب أرباب الكمالات من كل فنّ ويجلّ مقدارهم، كيف حطّ قدر ابن الطازى هذا؟! ولعل ابن الطازى أطلق لسانه فى حقّ الملك المؤيد لمّا أراد خلع الخليفة من السّلطنة، فأثّر ذلك عند المؤيد، وكان ذلك سببا لإبعاده [والله تعالى أعلم] «2» .
وتوفّى المقام الصارمىّ إبراهيم «3» ابن السلطان الملك المؤيد شيخ فى ليلة الجمعة خامس

(14/165)


عشر جمادى الآخرة بقلعة الجبل، وحضر الصلاة عليه السلطان، ودفنه بالجامع المؤيدى فى صبيحة يوم الجمعة، وكثر أسف الناس عليه، وكان لموته يوم عظيم بالقاهرة، ومات وسنّة زيادة على عشرين سنة، وأمّه أم ولد، وكان مولده بالبلاد الشاميّة فى أوائل القرن تخمينا، فإنه لما تسلطن والده كان سنّة يوم ذاك دون البلوغ، وكان نبيلا حاذقا، فأنعم عليه أبوه بإمرة مائة وتقدمة ألف، وتجرّد صحبة والده إلى البلاد الشامية، ثم عاد معه، ثم لمّا كبر وترعرع سفّره أبوه إلى البلاد الشمالية مقدّم العساكر، فسار إلى بلاد ابن قرمان وغيره، وأظهر فى هذه السّفرة من الشجاعة والإقدام، والكرم والحشمة ما أذهل الناس، هذا مع حسن الشّكالة، وطلاقة المحيّا، والإحسان الزائد لمن يقصده ويتردّد إليه؛ ولعمرى إنه كان خليقا للسلطنة، لائقا للملك- فما شاء الله كان «1» [وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلى العظيم] «2» .
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع سواء، مبلغ الزّيادة ثمانية عشر ذراعا وثلاثة أصابع- انتهى.

(14/166)


[ما وقع من الحوادث سنة 824]
ذكر سلطنة الملك المظفر أحمد على مصر «1» السلطان الملك المظفّر أبو السعادات أحمد ابن السلطان الملك المؤيد أبى النّصر شيخ المحمودى الظاهرى الچاركسى الجنس، تسلطن يوم مات أبوه الملك المؤيد شيخ، على مضىّ خمس درج من نصف نهار الاثنين تاسع المحرم سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وعمره يوم بويع بالملك وجلس على سرير السلطنة سنة واحدة وثمانية أشهر وسبعة أيام، وهو السّلطان التّاسع والعشرون من ملوك التّرك وأولادهم، والخامس من الچراكسة، وأمّه خوند سعادات بنت الأمير صرغتمش، أحد أمراء دمشق، وهى إلى الآن فى قيد الحياة.
ولمّا مات أبوه السلطان الملك المؤيد طلب الملك المظفر [أحمد] «2» هذا من الحريم بالدّور السّلطانيّة، فأخرج إليهم، فبايعوه بالسّلطنة بعهد من أبيه إليه بالملك قبل تاريخه، وألبسوه خلعة السلطنة، وركب فرس النّوبة بأبّهة السلطنة، وشعار الملك من باب السّتارة بقلعة الجبل، ومشت الأمراء بين يديه وهو يبكى من صغر سنّة، مما أذهله من عظم الغوغاء، وقوّة الحركة، وصار من حوله من الأمراء وغيرهم يشغله بالكلام، ويتلطّف به، ويسكّن روعه، ويناوله من التّحف ما يشغله به عن البكاء، حتى وصل إلى القصر السّلطانى من القلعة، فأنزل من على فرسه، وحمل حتى أجلس على سرير الملك وهو يبكى، وقبّل الأمراء الأرض بين يديه بسرعة، ولقبّوه بالملك المظفّر بحضرة الخليفة المعتضد بالله أبى الفتح داود، والقضاة الأربعة، ونودى فى الحال بالقاهرة ومصر باسمه وسلطنته.
ثم أخذ الأمراء فى تجهيز السّلطان الملك المؤيد، وتغسيله ودفنه، حسبما تقدّم ذكره فى ترجمته.

(14/167)


وقبل أن يدفن الملك المؤيد أبرم الأمير ططر أمير مجلس أمره مع الأمراء، وقبض على الأمير قجقار «1» القردمىّ أمير سلاح، وأمسكه بمعاونة أكابر المماليك المؤيدية، وأيضا بمعاونة خشداشيته من المماليك الظاهريّة برقوق، فارتجّت القاهرة وماجت الناس ساعة وتخوّفوا من وقوع فتنة، فلم يقع شىء؛ وذلك لعدم حاشية قجقار القردمى، فإنه أحد مماليك الأمراء ليس له شوكة ولاخشداشين، وسكن الأمر، ونبل ططر فى أعين الناس من يومئذ، وتفتّحت العيون إليه.
ثم لما كان يوم الثلاثاء عاشر المحرّم- وهو صبيحة يوم وفاة [الملك] «2» المؤيّد- عملت الخدمة بالقصر السّلطانى من القلعة، وأجلس الملك المظفر [أحمد] «3» على مرتبة السّلطنة، وكانت وظيفة ططر أمير مجلس، ومنزلة جلوسه فى الميمنة تحت الأمير الكبير، وكان الأمير الكبير ألطنبغا القرمشى قد توجّه إلى البلاد الشاميّة قبل ذلك بأشهر، فصار ططر يجلس رأس الميمنة لغيبة الأمير الكبير، ومنزلة جلوس الأمير تنبك العلائى ميق المعزول عن نيابة الشام رأس الميسرة فوق أمير سلاح- كل ذلك فى حياة الملك المؤيد- فلما تسلطن الملك المظفر هذا، وعملت الخدمة بعد مسك قجقار القردمى، وكان الملك المؤيد جعل التّحدّث فى تدبير مملكة ولده الملك المظفر لهؤلاء الثلاثة، أعنى تنبك ميق، وقجقار القردمى أمير سلاح، وططر أمير مجلس، فصار التحدّث الآن إلى تنبك ميق وإلى ططر فقط.
فلما دخل الأمراء الخدمة على العادة، وقبل الجلوس أومأ الأمير ططر إلى الأمير تنبك ميق أن يتوجّه إلى ميمنة السلطان ويجلس بها على أنه يكون مكان الأمير الكبير، ويجلس هو [على] «4» ميسرة السّلطان، فامتنع تنبك من ذلك، فألحّ عليه ططر فى ذلك واحتشم معه، وتأدّب إلى الغاية، فحلف تنبك بالأيمان المغلّظة أنه لا يفعل، وأنه لا يجلس إلا مكانه أوّلا

(14/168)


فى الميسرة، وأن ططر يجلس فى الميمنة، وإن لم يفعل [ططر] «1» ذلك ترك تنبك الإمرة وتوجّه إلى الجامع الأزهر بطالا، فجلس عند ذلك ططر على الميمنة، وعند ما استقر بهم الجلوس، وقرىء الجيش على السلطان [ «2» فلم يتكلم أحد من الأمراء فى أمر الذي قرأه ناظر الجيش «2» ] فسكت ناظر الجيش عن قراءة القصص لعدم من يجيبه، فعند ذلك عرض الأمير ططر أيضا التكلّم على الأمير تنبك ميق، وقال له: أنت أغاتنا، وأكبر منا سنّا وقدرا، والأليق أن تكون أنت مدبّر المملكة ونحن فى طاعتك، نمتثل أوامرك، وما ترسم به، فامتنع الأمير تنبك أيضا من التكلّم وتدبير المملكة أشدّ امتناع، وأشار إلى الأمير ططر بأن يكون هو مدبّر المملكة، والقائم بأمورها، وأنه يكون هو تحت طاعته، فاستصوب من حضر من الأمراء هذا القول، فامتنع ططر من ذلك قليلا حتى ألحّ عليه الأمراء، وكلّمه أكابر الأمراء المؤيدية فى القبول، فعند ذلك قبل وتكلّم فى المملكة، وقرىء الجيش، وحضرت العلامة، ثم مدّ السّماط على العادة، فعند ما نجز السّماط أحضرت خلعة جليلة للأمير ططر، فلبسها باستقراره لالا «3» السلطان الملك المظفر [أحمد] «4» وكافل المملكة ومدبرها، ثم أحضرت خلعة أخرى للأمير تنبك ميق فلبسها، وهى خلعة الرضى والاستمرار على حاله، وانفضّت الخدمة بعد أن أوصل الأمراء السلطان إلى الدّور السّلطانية، وأعيد الملك المظفر إلى أمه بالحريم السلطانى.
هذا وقد استقرّ سكن الأمير ططر بطبقة الأشرفية من قلعة الجبل، فجلس ططر بطبقة الأشرفية، بعد أن فرشت له، ووقف الأمراء ومباشر والدّولة والأعيان بين يديه، فأخذ وأعطى، ونفّذ الأمور على أحسن وجه، وأجمل صورة، فهابته النّاس، وعلموا أنه سيكون من أمره ما يكون من أوّل جلوسه فى هذا اليوم، ثم رسم بكتابة

(14/169)


الخبر بموت الملك المؤيد، وسلطنة ولده الملك المظفر إلى الأقطار، وأوعد المماليك السلطانية بالنّفقة فيهم على العادة، فكثر الدّعاء له، والفرح بتكلّمه فى السلطنة.
ثم فى يوم الأربعاء حادى عشر المحرم رسم الأمير ططر نظام الملك بالقبض على الأمير جلبّان رأس نوبة سيدى، وعلى الأمير شاهين الفارسى، وهما من مقدمى الألوف بالديار المصرية، فمسكا وقيّدا وحبسا، ثم طلب الأمير ططر القضاة ودخل معهم إلى الخزانة السّلطانية، وختم بحضورهم على خزانة المال بعد أن أخرج منها أربعمائة ألف دينار برسم نققة المماليك السّلطانية، ثم نزل القضاة.
فلما كان الليل اضطرب الناس، ووقعت هجّة بالقاهرة، ولم يدر أحد ما الخبر حتى طلع الفجر، فأسفرت القضيّة على أن الأمير مقبلا الحسامىّ الدّوادار الكبير ركب بمماليكه وعليهم السلاح فى الليل، وخرج من القاهرة ومعه السّيفى يلخجا من مامش «1» السّاقى الناصرى، وسار إلى جهة الشام خوفا من القبض عليه.
فلما كان الغد من يوم الخميس، اجتمع الأمراء عند الأمير ططر بالقلعة وعرّفوه أمر مقبل المذكور، وسألوه أن يرسل أحدا منهم فى أثره فلم يلتفت إلى ذلك، وأخذ فيما هو فيه من أمر نفقة الماليك السّلطانية، ونفق فيهم لكلّ واحد منهم مائة دينار مصرية، فشكر المماليك له ذلك، ثم أمر فنودى بالقاهرة بإبطال المغارم «2» التى أحدثت «3» على الجراريف فى عمل الجسور بأعمال مصر، فوقع ذلك من الناس الموقع الحسن.
وأما أمر مقبل الدّوادار، فإنه لما خرج من بيته بمن معه اجتاز بظاهر خانقاه سرقوياس «4» ، وقصد الطينة بمن معه، ففطن بهم العربان أرباب الأدراك فاجتمعوا وقصدوه وحاربوه، هو ومن معه، فلا زال يقاتلهم وهو سائر إلى أن وصل إلى الطينة،

(14/170)


فوجد بها غرابا «1» مهيئا للسفر فركب فيه بمن معه، ونهبت الأعراب جميع خيولهم وأثقالهم وما كان معهم، وسافر مقبل فى الغراب المذكور إلى الشام، ولحق بالأمير جقمق الأرغون شاوى الدوادار نائب الشام، وانضمّ عليه وصار من حزبه، ودام معه إلى أن انهزم جقمق من القرمشى إلى الصّبيبة وقبض عليه، فأمسك مقبل هذا أيضا، وحبس كما سيأتى ذكره فى محله إن شاء الله تعالى- انتهى.
ثم أمر الأمير ططر فنودى «2» بالقاهرة لأجناد الحلقة بالحضور إليه ليردّ إليهم ما كان أخذه منهم الملك المؤيد فى سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة من المال برسم السفر، وكان الذي تحصّل منهم تحت يد السّيفى أقطوه الموساوى الدوادار، فلما حضروا أمر ططر أقطوه أن يدفع لكلّ واحد منهم ما أخذ منه، فضج الناس له بالدعاء، وصاحت الألسن بالشكر له والثناء عليه، ثم أخذ الأمير ططر وهو جالس فى الموكب بإزاء السلطان بيد السلطان الملك المظفر وفيها قلم العلامة حتى علمّ على المناشير ونحوها، بحضور الأمراء وأرباب الدولة، واستمر ذلك فى بعض المواكب، والغالب لا يعلّم إلا الأمير ططر.
ثم فى يوم الجمعة ثالث عشر المحرم حمل الأمير قجقار القردمى، والأمير جلبّان، والأمير شاهين الفارسى فى القيود إلى سجن الإسكندرية.
ثم فى يوم السّبت رابع عشره خلع الأمير ططر على الصاحب بدر الدين حسن ابن نصر الله وأعيد إلى نظر الخاص، ومنع الطواشى مرجان الخازندار من التكلّم فيها.
وفيه أيضا خلع على القاضى صدر الدين أحمد بن العجمى وأعيد إلى حسبه القاهرة عوضا عن صارم الدين إبراهيم بن الحسام، وأنعم عليه الأمير ططر بثمانين دينارا، ورتّب له على ديوان الجوالى بالقاهرة فى كل يوم دينارا.

(14/171)


وفى هذا اليوم استتمّت نفقة المماليك السلطانية.
ثم فى يوم الاثنين سادس عشر المحرم خلع السلطان على الأمير ططر باستقراره نظام الملك، وخلع على الأمير تنبك ميق باستقراره أمير مجلس عوضا عن الأمير ططر، وخلع على الأمير جانى بك الصوفى باستقراره أمير سلاح عوضا عن قجقار القردمى، وأنعم عليه بخبز آق بلاط الدمرداش أحد الأمراء المجردين صحبة الأمير الكبير ألطنبغا القرمشى، وخلع على الأمير تغرى بردى المؤيّدى المعروف بأخى قصروه أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة باستقراره أمير مائة ومقدّم ألف وأمير آخور كبيرا دفعة واحدة عوضا عن الأمير طوغان الأمير آخور بحكم سفره صحبة الأتابك ألطنبغا القرمشى، وخلع على الأمير «1» إينال الجكمى أحد أمراء الطبلخانات وشادّ الشراب خاناه [واستقر] «2» رأس نوبة النّوب عوضا عن الأمير ألطنبغا من عبد الواحد المعروف بالصغير، بحكم سفره أيضا مع القرمشى، وخلع على الأمير على باى المؤيدى «3» أحد أمراء العشرات ورأس نوبة باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن مقبل الحسامى المتوجّه إلى البلاد الشاميّة، وأنعم على الأمير آق خجا الأحمدى أحد أمراء الطبلخانات واستقرّ أمير مائة ومقدّم ألف وخلع على الأمير قشتم المؤيدى أحد أمراء العشرات باستقراره أمير مائة ومقدّم ألف ونائب الإسكندرية عوضا عن الأمير ناصر الدين محمد بن العطار، وخلع على الأمير يشبك أنالى المؤيدى الأستادار خلعة الاستمرار على وظيفته، وخلع على التاج بن سيفة الشوبكى خلعة الاستمرار بولاية القاهرة، وأن يكون حاجبا «4» ، فاستغرب الناس ذلك؛ من أن الحجوبية تضاف إلى ولاية القاهرة.
ثم فى يوم الثلاثاء سابع عشره توجّهت القصّاد بتشاريف نوّاب البلاد الشّاميّة،

(14/172)


وتقاليدهم المظفّريّة [أحمد] «1» باستمرارهم على عادتهم فى كفالاتهم، وكتب الأمير ططر نظام الملك العلامة على الأمثلة ونحوها كما يكتب السلطان.
«2» ثم فى يوم الأربعاء ثامن عشر المحرم ابتدأ الأمير أقطوه بردّ مال أجناد الحلقة إليهم، وتولّى ذلك فى أوّل يوم الأمير ططر بنفسه.
ثم فى يوم الخميس تاسع عشره خلع نظام الملك على القضاة الأربعة وبقيّة أرباب الدّولة من المتعمّمين على عادتهم، وخلع على القاضى شرف الدين محمد ابن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله موقّع الأمير ططر باستقراره فى نظر أوقاف الأشراف، وكان يليه الأمير ططر من يوم مات القاضى ناصر الدين محمد بن البارزىّ كاتب السّرّ.
وفيه استعفى القاضى علم الدين داود بن الكويز من وظيفة نظر الجيش، فأعفى وخلع عليه كاملية [بسمّور] «3» ، ونزل إلى داره، كل ذلك حيلة لتوصّله لوظيفة كتابة السّر- وهى بيد صهره القاضى كمال الدين بن البارزىّ- حتى وليها حسبما يأتى ذكره.
ثم فى يوم الجمعة نودى بأن الأمير الكبير ططر يجلس للحكم بين الناس، فلما انقضت الصلاة توجّه الأمير الكبير ططر فجلس بالمقعد من الإسطبل السلطانى كما كان الملك المؤيّد يجلس للحكم به، إلا أنه قعد على يسار الكرسىّ ولم يجلس فوقه، وحضر أمراء الدّولة على العادة، وقعد كاتب السّرّ القاضى كمال الدين بن البارزىّ على الدّكة وقرأ عليه القصص، ووقف نقيب الجيش ووالى القاهرة والحجّاب بين يديه، وحكم بين الرّعيّة، وردّ المظالم، وساس النّاس أحسن سياسة؛ فإنه كانت لديه فضيلة وعنده يقظة وفطنة ومشاركة جيدة فى الفقه وغيره، وله محبّة فى طلب العلم لا سيّما [مذهب] «4» السادة الحنفية، فإنهم كانوا عنده فى محلّ عظيم من الإكرام.
ثم انفضّ الموكب، وطلع إلى طبقة الأشرفية، وجميع الأمراء بين يديه فى خدمته إلى أن أكل السّماط، ونفّذ الأمور، ونزل كلّ أحد إلى منزله.

(14/173)


وأصبح يوم السبت حادى عشرين المحرّم غضب على الصاحب تاج الدين عبد الرزّاق بن الهيصم، وعزله عن نظر ديوان المفرد.
ثم فى يوم الاثنين ثالث عشرينه قدم أمير حاج المحمل بالمحمل.
وفيه طلب الأمير ططر تاج الدين عبد الرّزّاق ابن شمس الدين عبد الوهاب، المعروف بابن كاتب المناخ، مستوفى ديوان المفرد، وخلع عليه باستقراره ناظر ديوان المفرد، عوضا عن الصاحب تاج الدين عبد الرّزّاق بن الهيصم، وخرج من بين يدى الأمير الكبير وعليه الخلعة حتى جاوز دهليز القصر، فطلبه الأمير ططر ثانيا، ونزع الخلعة من عليه، وخلع عليه تشريف الوزارة، فلبسها على كره منه، عوضا عن الصاحب بدر الدين بن نصر الله برغبته عنها، وطلب الصاحب تاج الدين عبد الرّزّاق بن الهيصم، وخلع عليه بإعادته إلى نظر الدّيوان المفرد، وخلع على الصاحب بدر الدين بن نصر الله باستمراره فى وظيفته نظر الخاصّ، وخلع على الأمير يشبك أنا لى المؤيّدىّ الأستادار باستقراره كاشف الكشّاف بالوجه القبلى والبحرى.
ثم فى يوم الخميس سادس عشرينه خلع على القاضى كمال الدين محمد بن البارزىّ كاتب السّرّ باستقراره فى وظيفة نظر الجيش عوضا عن علم الدين بن الكويز.
ثم حكم الأمير ططر فى يوم الجمعة أيضا بعد الصلاة بالإسطبل السلطانى كما حكم به أوّلا.
ثم فى يوم الاثنين سلخ المحرّم خلع الأمير الكبير ططر على علم الدين بن الكويز باستقراره فى وظيفة كاتب السّرّ، عوضا عن صهره القاضى كمال الدين ابن البارزىّ.
قال المقريزى: فتسلّم القوس غير باريها، ووسّدت الأمور إلى غير أهليها.
قلت: ومعنى قول المقريزى لهذا الكلام لم يرد الحطّ على ابن الكويز، غير أن وظيفة كتابة السّرّ وظيفة جليلة، يكون متولّيها له اليد الطّولى فى الفقه والنحو،

(14/174)


والنّظم والنّثر والتّرسّل والمكاتبات، والباع الواسع فى التاريخ وأيام الناس وأفعال السلف، كما وقع للملك الظّاهر برقوق لمّا ورد عليه كتاب من بعض ملوك العجم فلم يقدر القاضى بدر الدين بن فضل الله على حلّه- وهو [كاتب سره] «1» - فاحتاج السلطان إلى أن طلب من أثناء طريق دمشق الشيخ بدر الدين محمود الكلستانى، وهو من جملة صوفية خانقاه شيخون «2» ، حتى حلّ له ألفاظه، وصادف ذلك قرب أجل ابن فضل الله فسعى فى وظيفة كتابة السر جماعة [كبيرة] «3» من الأعيان بمال له صورة، فلم يلتفت برقوق إليهم، وأرسل أحضر الكلستانى، ولم يكن عليه ملّوطة يتجمل بها، وخلع عليه باستقراره فى كتابة السر، وقد تقدّم ذكر ذلك كله فى ترجمة الملك الظاهر برقوق الثانية، فصار الكلستانى على طريق أذهل فيها الملك الظاهر برقوق ونبّهه على أشياء لم يكن سمعها من غيره، ثم لم يل هذه الوظيفة بعد الكلستانى أمثل من القاضى ناصر الدين بن البارزىّ، ثم ولده كمال الدين هذا، فإنهما كانا أهلا لها وزيادة، فعند ما عزل واستقرّ عوضه علم الدين هذا شقّ ذلك على أهل العلم والذّوق، وصادف ذلك بأنه لما جلس علم الدين على الدكّة، وقرأ القصص على الأمير الكبير ططر صحّف اسم ابن جمّاز بابن الحمار، وقال ابن الحمّار، فردّ عليه نقيب الجيش فى الملأ ابن جمّاز ابن جمّاز، وكرّر ذلك حتى ضحك الناس، وطلع الأمير ططر إلى الأشرفية، ووعد فى تلك الليلة الشيخ بدر الدين بن الأقصرائى سرّا بوظيفة كتابة السّر إن تمّ أمره، وأمره أن يكتم ذلك إلى وقته.
ثم قدم الخبر من الشام بأن الأمير «4» جقمق الأرغون شاوى نائب الشام امتنع من الدخول فى طاعة الأمير ططر، وأنه أخذ قلعة دمشق واستولى عليها، وعلى ما فيها

(14/175)


من الأموال والسّلاح وغير ذلك، وكان بها نحو المائة ألف دينار، فاضطرب أهل الدّولة إلا الأمير ططر فإنه لم يتحرّك لذلك وطلع إليه حموه الأمير سودون الفقيه الظاهرى، وكان له عنده مكانة عظيمة، فجاراه سودون فى أمر جقمق، فقال له ططر:
يا أبى الأهم ألطنبغا القرمشى الظاهرى، وأما جقمق فإنه رجل غريب مملوك أمير ليس له من يقوم بنصرته، ولا من يعينه على ما يرومه، غير أنه يلعب فى ذهاب مهجته، فقال له سودون الفقيه: وإن يكن فافعل الأحوط، وأشار عليه بما يفعله.
فلما كان يوم الخميس عاشر صفر «1» جمع الأمير الكبير القضاة عنده بطبقة الأشرفية من القلعة، وسائر أمراء الدّولة ومباشريها وكثيرا من المماليك السّلطانية، وأعلمهم بأن نوّاب الشام والأمير الكبير ألطنبغا القرمشى ومن معه من الأمراء المجردين لم يرضوا بما عمله الأمير ططر بعد موت السّلطان الملك المؤيّد، ثم قال: ولا بد للناس من حاكم يتولى أمر تدبير أمورهم، وأن يعينوا رجلا يرضونه ليقوم بأعباء المملكة، ويستبدّ بالأمور، فقال جميع من حضر بلسان واحد قد رضينا بك، وكان الخليفة حاضرا فيهم، فأشهد الأمير ططر عليه أنه فوّض جميع أمور الرّعيّة إلى الأمير الكبير ططر، وجعل إليه عزل من يريد عزله، وولاية من يريد ولايته من سائر الناس، وأن يعطى من يختار، ويمنع من شاء من العطايا، ما عدا اللّقب السلطانى، والدّعاء على المنابر وضرب الاسم على الدّينار والدّرهم، فإن هذه الثلاثة باقية على ما هى عليه باسم السلطان الملك المظفّر أحمد، وأثبت قاضى القضاة زين الدين عبد الرحمن التّفهنى الحنفى هذا الإشهاد، وحكم بصحته ونفّذ حكمه قضاة القضاة الثلاثة، ثم حلف الأمراء جميعهم للأمير الكبير ططر يمينهم المعهود [بالطاعة له] «2» فى كل قليل.
وكان سبب هذا أن بعض أعيان الفقهاء الحنفية ذكر للأمير ططر نقلا «3» أخرجه إليه من فروع المذهب أن السلطان إذا كان صغيرا، وأجمع أهل الشوكة على إقامة رجل

(14/176)


للتحدّث عنه فى أمور الرّعيّة حتى يبلغ رشده، نفذت أحكامه، فوضع هذا القول فى محله، وقوى قلوب حواشى الأمير ططر بذلك، وقالوا: نحن على الحق ومن خالفنا على الباطل.
وبينما الأمير ططر فى ذلك، ورد عليه «1» الخبر بسيف الأمير يشبك اليوسفىّ نائب حلب، وقد قتل فى وقعة كانت بينه وبين الأمير الكبير ألطنبغا القرمشىّ فى يوم الثلاثاء ثالث عشرين المحرم.
قال المقريزى: وكان يشبك من شرار خلق الله تعالى؛ لما هو عليه من الفجور، والجرأة على الفسوق، والتهوّن فى سفك الدّماء، وأخذ الأموال، وكان الملك المؤيّد قد استوحش منه لما يبلغه من أخذه فى أسباب الخروج عليه، وأسرّ للأمير ألطنبغا القرمشىّ فى إعمال الحيلة فى القبض عليه، فأتاه الله من حيث لم يحتسب، وأخذه أخذا وبيلا- ولله الحمد- انتهى كلام المقريزى.
قلت: وكان من خبر يشبك هذا مع الأمير الكبير ألطنبغا القرمشىّ، أنه لمّا خرج من الديار المصرية إلى البلاد الشاميه وصحبته الأمراء، وهم: الأمير طوغان أمير آخور، وألطنبغا من عبد الواحد الصغير رأس نوبة النّوب، وأزدمر الناصرى، وآق بلاط الدّمرداش، وسودون اللّكاّش، وجلبّان أمير آخور الذي تولّى نيابة دمشق فى دولة الملك الظاهر جقمق، وقبل خروج القرمشىّ من القاهرة أسرّ إليه الملك المؤيد بالقبض على الأمير الكبير يشبك اليوسفىّ نائب حلب إن أمكنه ذلك، فسار القرمشىّ إلى البلاد الشامية مقدّما للعساكر، ثم توجّه إلى البلاد الحلبية، ثم ساروا من حلب هو ورفقته إلى حيث ندبهم إليه الملك المؤيد، وعادوا إلى حلب فى أوّل سنة أربع وعشرين وأقاموا بها، فاستوحش الأمير يشبك نائب حلب منهم، ولم يجسر القرمشى على مسكه، وبينماهم فى ذلك طرقهم الخبر بموت السلطان الملك المؤيد، فاضطرب الأمراء المجرّدون، وعزم الأمير الكبير ألطنبغا القرمشىّ على العود إلى الدّيار

(14/177)


المصرية، ووافقه على ذلك رفقته من الأمراء، وبرز بمن معه إلى ظاهر حلب، وخرجوا من باب المقام، وبلغ ذلك الأمير يشبك نائب حلب وكان لم يخرج لتوديعهم، فعزم على أن يركب ويقاتلهم، وبلغ ذلك القرمشى فى الحال، فأرسل إليه دواداره السّيفى خشكلدى القرمشى.
حدّثنى خشكلدى المذكور من لفظه قال: ندبنى أستاذى الأمير ألطنبغا القرمشى أن أتوجّه إلى الأمير يشبك؛ وأذكر له مقالة القرمشى له، فتوجّهت إليه، فإذا به قد طلع إلى منارة جامع حلب، فطلعت إليه بها، وسلّمت عليه فردّ علىّ السلام، وقال: هات ما معك. فقلت: قد تعبت من طلوع السّلّم، أمهل علىّ ساعة فإنى جئت من ملك إلى ملك، فأمهلنى ساعة فبدأته بأن قلت: الأمير الكبير يسلم عليك، ويقول لك بلغه أنّك تريد قتاله بمن معه من الأمراء، وهو يسألك ما القصد فى قتاله، وقد استولى ططر على الدّيار المصرية، وجقمق على البلاد الشاميّة؟ فاقصدهما فإنهما هما الأهمّ، فإن أجليتهما عمّا ملكاه فنحن فى قبضتك، وإن كانت الأخرى فما بالك بالتشويش علينا لغيرك، ونحن ناس سفّار غرباء البلاد، قال: فلما سمع كلامى سكت ساعة، وقال: يسافروا، من وقف فى طريقهم؟ ومن هو الذي يقاتلهم؟
أو معنى هذا الكلام، قال: فبست يده وعدت بالجواب إلى الأمير الكبير، وقبل أن أبلغه الرّسالة إذا يشبك المذكور نزل من المنارة، ولبس آلة الحرب هو ومماليكه فى الحال، وقصد الأمراء وهم بالسّعدى، فلما رآه الأمراء المصريون ركبوا، ورجعوا إليه وحملوا عليه حملة واحدة انكسر فيها، وتقنطر عن فرسه، وقطعت رأسه فى الوقت، فعاد الأمير الكبير ألطنبغا القرمشى بمن معه من الأمراء إلى حلب، ونزل بدار السعادة، ومن غريب ما اتّفق أن الأمير يشبك المذكور كان قد استوى سماطه، فأخّره إلى أن يقبض على الأمراء، ويعود يأكله، فقتل فى الحال ودخل القرمشى بمن معه ومدّ السّماط بين أيديهم فأكلوه، وكانوا فى حاجة إلى الأكل، واستمرّ القرمشى بحلب مدّة إلى أن ولّى نيابة حلب الأمير ألطنبغا

(14/178)


من عبد الواحد الصّغير رأس نوبة، وعاد إلى دمشق، واتفق مع الأمير جقمق نائب الشام على قتال المصريين لمخالفتهم لما أوصى به الملك المؤيد [شيخ] «1» قبل موته، وكانت وصيّة الملك المؤيد أن يكون ابنه سلطانا، وأن يكون ألطنبغا القرمشى هو المتحدث فى تدبير مملكته، فخالف ذلك الأمير ططر، وصار هو المتحدّث، وأخرج إقطاعات الأمراء المجرّدين صحبته.
وبينما هم فى ذلك بلغهم أن الأمير ططر عزم على الخروج من الدّيار المصرية ومعه السلطان الملك المظفر [أحمد] «2» إلى البلاد الشامية، فتهيّئوا لقتاله، ثمّ بعد مدّة يسيره وقع بينهما وحشة وتقاتلا، فانهزم جقمق إلى الصبيبة، وملك القرمشىّ دمشق حسبما يأتى ذكره.
هذا ما كان من أمر القرمشى مع يشبك، وأما الأمير ططر فإنه لما بلغه قتل يشبك سرّ بذلك سرورا عظيما، وقال فى نفسه: قد كفيت أمر بعض أعدائى، بل كان يشبك أشدّ عليه من جميع من خالفه- انتهى.
ثم فى يوم الخميس سابع عشر صفر قدم الأمير قجق العيساوىّ حاجب الحجّاب- كان- فى الدولة الناصرية، والأمير بيبغا المظفّرىّ أمير مجلس- كان- من سجن الإسكندرية بأمر الأمير ططر، وقبّلا الأرض بين يدى السلطان، ثم يد الأمير ططر، ثم قدم الأمير يشبك الساقى [الظّاهرى] «3» الأعرج، وكان الملك المؤيد قد نفاه من دمشق إلى مكّة، لمّا حضر إليه من قلعة حلب فى حصاره الأمير نوروز الحافظى بدمشق، بحيلة دبّرها الملك المؤيد على يشبك المذكور حتى استنزله من قلعة حلب، فإنه كان نائبها من قبل الأمير نوروز، ولما ظفر به المؤيد [شيخ] «4» أراد قتله فيمن قتله من أصحاب نوروز من الأمراء الظاهرية [برقوق] «5» ، فشفع فيه الأمير ططر، فأخرجه الملك المؤيد [شيخ] «6» إلى مكة فأقام بها سنين، ثم نقله إلى القدس، فلم تطل

(14/179)


مدّته به حتى مات الملك المؤيد، وتحكّم ططر، فكتب بحضوره إلى القاهرة، وكان له منذ خرج من الدّيار المصرية نحو العشرين سنة، فإنّه جرح فى نوبة بركة الحبش من سنة أربع وثمانمائة «1» الجرح الذي كان سببا لعرجه، وخرج من القاهرة، ودام بالبلاد الشاميّة إلى يوم تاريخه.
قلت: ويشبك هذا هو الذي صار أتابكا بالديار المصرية فى دولة الملك الأشرف برسباى، وهو الذي حسّن للملك الأشرف [برسباى] «2» الاستيلاء على بندر جدّة «3» حتى وقع ذلك، وكان يشبك من رجال الدهر عقلا وحزما ورأيا وتدبيرا، لم تر عينى مثله فى أبناء جنسه، ويأتى ذكره فى محلّه إن شاء الله تعالى- انتهى.
ثم قدم أيضا سودون الأعرج الظاهرىّ من قوص «4» ، وكان الملك المؤيّد أيضا قد نفاه إليها من سنين عديدة، وكان سودون أيضا من أعيان المماليك الظاهرية برقوق، وفى ظنّه أنه من مقولة الأمير يشبك الأعرج، والأمر بخلاف ذلك، والفرق بينهما ظاهر.
ثم أفرج الأمير ططر نظام الملك عن الأمير ناصر الدين بك بن على بك بن قرمان، وخلع عليه، ورسم بتجهيزه ليعود إلى مملكته، فتجهّز وسار فى النّيل يوم السبت سادس عشرين صفر إلى ناحية رشيد «5» ليركب منها إلى البحر الملح ويتوجّه إلى جهة بلاده.
ثم فى يوم الأربعاء أوّل شهر ربيع الأول قدم الخبر على الأمير ططر على يد بعض الشاميّين ومعه كتاب الأمير الكبير ألطنبغا القرمشى من حلب، وهو يتضمّن: أنه لما قتل الأمير يشبك نائب حلب ولّى عوضه الأمير ألطنبغا من عبد الواحد

(14/180)


الصّغير رأس نوبة النوب فإنه عندما ورد عليه الخبر بموت السلطان [الملك] «1» المؤيد [شيخ] «2» بعدما عهد بالسّلطنة من بعده لابنه الملك المظفّر أحمد، وأن يكون القائم بتدبير الدّولة ألطنبغا القرمشىّ، وأنه قد أقيم فى السلطنة الملك المظفّر كما عهد الملك المؤيد، أخذ هو ومن معه من الأمراء فى الرّحيل من حلب إلى جهة الديار المصرية كما رسم له به، وكان من أمر يشبك ما كان فاشتغل بذلك عن المسير، ثم ورد عليه الخبر باستقرار نوّاب الممالك الشاميّة على عوائدهم، وتحليفهم للسلطان الملك المظفر أحمد، وللأمير الكبير ططر، فحمل الأمر فى ذلك على أنه غلط من الكاتب، وسأل أن يفصح له عن ذلك، وأبرق وأرعد. ولم يعلم بأن الأمر انقضى وفاته ما أراد، وقد انتهز الأمير ططر الفرصة، وتمثل لسان حاله بقول القائل: [الوافر]
إذا هبّت رياحك فاغتنمها ... فإنّ لكلّ خافقة سكونا
ثم أمر الأمير ططر بكتابة جوابه، فأجيب بكلام متحصّله: أنه لما عهد الملك المؤيد [شيخ] «3» لابنه بالملك، وأقيم فى السلطنة، طلب الأمراء والخاصّكيّة والمماليك السلطانيّة أن يكون المتحدّث فى أمور الدّولة الأمير ططر، ورغبوا إليه فى ذلك، ففوّض إليه الخليفة جميع أمور المملكة بأسرها، فليحضر الأمير بمن معه إلى الديار المصرية ليكونوا على إمريّاتهم وإقطاعاتهم على عادتهم، ثم أنكر عليه استقرار ألطنبغا الصغير فى نيابة حلب من غير استئذانه.
ثم قدم الخبر أيضا على الأمير ططر بأن على بن بشارة قاتل الأمير قطلوبغا التنمىّ نائب صفد وكسره، فانحصر بمدينة صفد إلى أن فرّ منها إلى دمشق، وانضم على نائبها الأمير جقمق، وأن جقمق قد استعدّ بدمشق، واستخدم جماعة كبيرة من المماليك، وسكن قلعة دمشق، فتحقّق الأمير ططر عند ذلك خروج جقمق عن طاعته، وكذلك الأمير الكبير ألطنبغا القرمشى وأخذ فى إبرام أمره.
فلما كان يوم الخميس تاسع شهر ربيع الأول [المذكور] «4» خلع على الأمير تنبك

(14/181)


ميق العلائى باستقراره أتابك العساكر بالديار المصريّة عوضا عن ألطنبغا القرمشىّ، وأنعم عليه بإقطاعه، وأنعم بإقطاع تنبك ميق على الأمير إينال السّيفى شيخ الصّفوى «1» المعروف بالأرغزىّ، وأنعم بإقطاع إينال الأرغزى المذكور على الأمير قجق العيساوىّ القادم من سجن الإسكندرية قبل تاريخه، وأنعم بإقطاع الأمير طوغان أمير آخور أحد الأمراء المجرّدين على الأمير تغرى بردى من آقبغا المؤيدى المعروف بأخى قصروه المقدم ذكره، وأنعم بإقطاع الأمير ألطنبغا الصغير رأس نوبة النّوب المستقرّ فى نيابة حلب على سودون العلائى، وأنعم بإقطاع سودون العلائى على الأمير قطج من تمراز الظاهرىّ، وأنعم بإقطاع الأمير أزدمر الناصرىّ أحد مقدّمى الألوف المجرّدين على الأمير بيبغا المظفرى الظاهرى الذي قدم قبل تاريخه من سجن الإسكندرية.
وأنعم بإقطاع الأمير جرباش الكريمىّ المعروف بقاشق أحد المقدّمين المجرّدين على الأمير تمرباى من قرمش المؤيّدى شادّ الشراب خاناه، وأنعم بإقطاع الأمير تمرباى المذكور وهو إمرة طبلخاناه على الأمير أركماس اليوسفىّ، وبإقطاع الأمير أركماس المذكور على سودون النّوروزىّ الحموىّ، وبإقطاع سودون الحموىّ على شاهين الحسنىّ وتغرى بردى المحمدى- قسّم بينهما- وأنعم بإقطاع الأمير جلبّان الأمير آخور- كان- أحد المقدّمين المتجرّدين على الأمير على باى من علم شيخ المؤيّدى الدوادار الكبير، وأنعم بإقطاع على باى المذكور على الدّيوان المفرد «2» .
وأنعم بإقطاع الأمير مقبل الحسامىّ الدّوادار الكبير الذي تسحّب قبل تاريخه من القاهرة إلى الشّام على الأمير جقمق العلائى الخازندار، وهو الملك الظاهر جقمق، وأنعم بإقطاع الأمير ألطنبغا المرقبىّ حاجب الحجّاب أحد المجرّدين على الأمير قصروه من تمراز الظّاهرىّ، وأنعم بإقطاع قصروه على مغلباى البوبكرى المؤيّدى السّاقى،

(14/182)


ثم أنعم على الأمير قانباى الحمزاوىّ ثانى رأس نوبة بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية.
ثم فى يوم الأربعاء ثانى عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور فرّق الأمير ططر على الأمراء والمماليك- فى دفعة واحدة- أربعمائة فرس برسم السّفر إلى الشّام، وقد عزم على المسير إلى البلاد الشّاميّة صحبة السلطان الملك المظفر أحمد، بعد أن رسم للأمراء والمماليك بالتجهيز إلى السفر.
ثم قدم قصّاد الأمراء المجردين إلى مصر بطلب جمالهم وأموالهم، فمنعوا من ذلك، وكتب للأمير ألطنبغا القرمشىّ بأن الجمال فرّقها السلطان، وقد عزم على السّفر، وأنت مخيّر بين أن تحضر على ما كنت عليه، وبين أن تستقرّ فى نيابة الشّام عوضا عن جقمق الأرغون شاوىّ.
ثم أخذ الأمير ططر فى التهيؤ والاهتمام إلى السفر.
ثم فى يوم الاثنين سابع عشرينه خلع الأمير ططر على الأمير صلاح الدين محمد ابن الصّاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخواصّ «1» باستقراره أستادار العالية «2» عوضا عن الأمير يشبك المؤيّدى المعروف بأنالى بعد عزله، وأنعم على صلاح الدين المذكور بإمرة مائة وتقدمة ألف.
وفى هذا اليوم والذي قبله نودى بالقاهرة وظواهرها بأن لا يسافر أحد إلى البلاد الشّاميّة «3» ، وهدّد من وجد مسافرا إليها بالقتل، وكان القصد بهذه القضيّة تعمية أخبار مصر وأحوالها عن الأمراء بالبلاد الشّامية والمخالفين عليه.

(14/183)


قلت: ولهذه الفعلة وأشباهها كان يعجبنى أفعال الأمير ططر، فإنه كان يسير على طريق ملوك السّلف فى غالب حركاته، لكثرة اطّلاعه لأخبارهم وأمورهم، ومن تعمية الأخبار على العدو، والتّورّى فى الأسفار من أن يقصد مكانا فيورى بآخر، ومن مخادعة أعدائه والترقّق لهم؛ فإنه بلغه- لمّا استفحل أمره- عن الأمير على باى المؤيّدى الدّوادار، أنه يقول لخچداشيته المؤيّديّة: لا تكترثوا بأمره أنا كفاية له، إن استقام فهو على حاله، وإن تعوّج أخذته بيدى وألقيته من أعلى القصر إلى الأرض، وأيش هو ططر؟ فلمّا سمع ذلك أمر القائل له بالكتمان، وأخذ فى الإلمام على على باى [المذكور] «1» وإظهاره على سرّه، وهو مع ذلك فى قلبه منه أمور وحزازات، وأيضا لمّا وصل إلى الشّام حسبما نذكره.
وقدم عليه خچداشيته «2» من عند قرا يوسف على أقبح حال من الفقر: أعنى عن الأمراء الذين هربوا من الملك المؤيّد فى وقعة قانى باى نائب الشّام، وهم سودون من عبد الرحمن نائب طرابلس، وتنبك البجاسىّ نائب حماة، وطرباى نائب غزّة، وجانى بك الحمزاوىّ، ويشبك الجكمىّ الدوادار الثانى الذي كان فر من الحجاز إلى العراق، وغيرهم، فلمّا وصلوا إلى دمشق وتمثلوا بين يدى ططر ورءاهم على باى الدوادار المذكور، وتغرى بردى المؤيّدى أمير آخور كبير قالا للأمير ططر- لمّا أتوا-: هؤلاء يريدون العود إلى ما كانوا عليه، وهم أعداء أستاذنا، فقال لهما ططر: أعوذ بالله، هؤلاء ما بقى فيهم بقيّة لطلب ما ذكرتموه ممّا قاسوه من الغربة والتّشتّت، وإنما قصد كلّ واحد منهم ما يقوم بأوده، مثل إقطاع حلقة «3» ويقيم بالقدس، أو مرتّب ويقيم بدمياط، أو شىء على الجوالى «4» ، وأنتم تعرفون

(14/184)


أنهم خشداشيّتنا لا يمكننا إلّا النّظر فى أحوالهم بنحو ما ذكرناه، فلمّا سمع المؤيدية ذلك قالوا: هذا ما نقول فيه شيئا، وأما غير ذلك فلا، فقال لهم ططر: وما تمّ غير ما قلته، فانخدعوا وسكتوا على ما سنذكره من أمرهم عند قدومهم على الأمير ططر بدمشق- انتهى.
ثم أخذ الأمير ططر- بعد المناداة- فى تجهيز أمره وأمر السلطان إلى السّفر.
فلمّا كان يوم الاثنين رابع شهر ربيع الآخر ركب الأمير ططر نظام الملك من قلعة الجبل ومعه الأمراء والخاصّكيّة والمماليك السلطانيّة، وسار إلى جهة قبّة النصر «1» ثم عاد ودخل القاهرة من باب النّصر، وخرج من باب زويلة إلى أن طلع إلى القلعة فى موكب سلطانى لم يفقد فيه إلا الجاويشيّة والعصابة السلطانيّة «2» ، وهذا أوّل موكب ركبه الأمير ططر من يوم تحكّمه فى الديار المصريّة، وهو من يوم موت [الملك] «3» المؤيد شيخ.
ثم فى سادسه نودى فى المماليك السلطانيّة بالطلوع إلى القلعة لأخذ نفقة السّفر فى يوم الخميس، فلما كان يوم الخميس المذكور جلس الأمير ططر نظام الملك بقلعة الجبل، وأنفق فى الماليك السلطانية نفقة السّفر، لكل واحد مائة دينار إفرنتيّة، ثم فى تاسعه أنفق على الأمراء والمماليك أيضا، فحمل للأمير الكبير تنبك ميق خمسة آلاف دينار، ولمن عداه أربعة آلاف دينار وثلاثة آلاف دينار.
وفى عاشره أخرج الأمير ططر ولدى الملك الناصر فرج من قلعة الجبل، ووجّههما إلى سجن الإسكندرية كما كانا أوّلا به، وكان سبب قدومهما من الإسكندرية إلى مصر أن عمتهما خوند زينب بنت السلطان الملك الظاهر برقوق وزوجة الملك المؤيّد

(14/185)


شيخ كانت سألت زوجها الملك المؤيّد فى قدومهما بسبب ختانهما، فقدما إلى القلعة وختنا، وهما محمد وخليل، فأقاما عند عمّتهما إلى أن مات الملك المؤيّد، فلما عزم ططر على التوجّه إلى البلاد الشاميّة أمر بعودتهما إلى الإسكندرية وسجنهما بها كما كانا أوّلا.
ثم فى رابع عشر شهر ربيع الآخر خرجت مدوّرة السلطان إلى الرّيدانيّة خارج القاهرة، فقدم الخبر على الأمير ططر بأن عساكر دمشق برزت منها إلى اللّجّون، فركب الأمير ططر فى يوم الثلاثاء تاسع عشره من قلعة الجبل ومعه السلطان الملك المظفر أحمد والأمراء وسائر أرباب الدولة، ونزل من قلعة الجبل إلى الريدانيّة بمخيّمه، وسافرت أمّ السلطان الملك المظفّر أحمد خوند سعادات فى محفّة «1» صحبة ولدها، وأصبح من الغد فى يوم الأربعاء رحل الأمير الكبير تنبك ميق من الرّيدانيّة ومعه عدّة أمراء جاليشا.
ثم استقلّ الأمير ططر بالسّفر ومعه السلطان والخليفة والقضاة الأربعة وبقيّة العساكر فى يوم الجمعة ثانى عشرين شهر ربيع الآخر المذكور، والموكب جميعه لططر بعد أن جعل الأمير قانى باى الحمزاوىّ نائب الغيبة «2» بالديار المصريّة، وهو يومئذ غائب ببلاد الصّعيد، وأن ينوب عنه فى نيابة الغيبة الأمير جقمق العلائى أخو چاركس المصارع إلى أن يحضر قانى باى، وجعل معهما أيضا فى القاهرة من الأمراء المقدّمين الأمير آقبغا التّمرازىّ، والأمير قرامراد خجا الشّعبانى.
وسار الأمير ططر من الرّيدانيّة بالسلطان إلى أن وصل مدينة غزّة فى يوم الاثنين ثانى جمادى الأولى.

(14/186)


وفى مدّة إقامته بغزّة قدم عليه جماعة من الأمراء ممن خرج من عسكر دمشق، منهم الأمير جلبّان أمير آخور وكان أحد الأمراء المجرّدين إلى حلب فى أيام الملك المؤيّد، والأمير إينال النّوروزىّ نائب حماة، وغيرهما، فسرّ الأمير ططر بهما، وفرّ منهم- ممن كان خرج معهم من دمشق- الأمير مقبل الحسامى الدّوادار- كان- فى طائفة يريد دمشق إلى الأمير جقمق.
ثم سار الأمير ططر من غزّة بالسلطان والعساكر يريد دمشق حتى وصل إلى بيسان «1» فى يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى فورد عليه الخبر من دمشق بأن الأمير مقبلا الدوادار لما وصل إلى دمشق، وأخبر الأمراء بدخول الأمير جلبّان والأمير إينال النوروزى فى طاعة الأمير ططر شقّ ذلك على الأمير جقمق الأرغون شاوى نائب الشّام، وعلى الأمير الكبير ألطنبغا القرمشى ومن معه من الأمراء المصريين، واضطرب أمرهم وتكلّموا فى المصلحة، فلم ينتظم لهم أمر واختلفا: أعنى القرمشى وجقمق نائب الشام، فاقتضى رأى ألطنبغا القرمشى ومن معه الدّخول فى طاعة الأمير ططر، والتسليم له فيما يفعل، وامتنع جقمق نائب الشّام من ذلك وأبى إلا قتال ططر، وافترقا من يومئذ، وصارا فى تباين، إلى أن كان يوم الثلاثاء ثالث جمادى الأولى المذكورة بلغ الأمير ألطنبغا القرمشى عن جقمق أنه يريد القبض عليه، وعلى من معه من الأمراء، فطلب أصحابه وشاورهم فيما يفعل، فاقتضى رأيهم محاربته، فبادر القرمشى إلى محاربة جقمق، وركب بمماليكه وأصحابه بآلة الحرب وعليهم السّلاح، ووقف بهم تجاه قلعة دمشق، وقد رفع الصّنجق السلطانى «2» ، وأعلن بطاعة السلطان، فأتاه جماعة كبيرة من أمراء دمشق وغيرها راغبين فى الطّاعة.
وبلغ جقمق ذلك، فتهيّأ لقتاله، ولبس السلاح، ونزل بمماليكه وأصحابه، وصدم

(14/187)


بهم الأمير ألطنبغا القرمشى ومن معه، وقاتلهم، فكان بينه وبينهم وقعة هائلة طول النهار، إلى أن انكسر الأمير جقمق، وتوجّه هو والأمير طوغان أمير آخور، والأمير مقبل الحسامى الدّوادار فى نحو الخمسين فارسا إلى جهة صرخد «1» ، وأن الأمير ألطنبغا القرمشى استولى على مدينة دمشق، وتقدّم إلى القضاة والأعيان أن يتوجّهوا إلى ملاقاة السلطان والأمير ططر، فسرّ الأمير ططر بذلك غاية السرور، وعلم أن الأمر قدهان، وتحقق كل أحد ثبات أمره، وأنه سيصير أمره إلى ما سنذكره.
وكان الذي قدم عليه بهذا الخبر الأمير أزدمر الناصرى، أحد مقدمى الألوف بالديار المصرية، ممن كان صحبة القرمشى بالبلاد الحلبية، ثم قدم على الأمير ططر أيضا الأمير قطلوبغا التنمى نائب صفد، وخلع عليه الأمير ططر باستقراره على نيابة صفد.
ثم ركب الأمير ططر ومعه السلطان والعساكر إلى نحو دمشق حتى دخلها من غير ممانع بكرة الأحد خامس عشر جمادى الأولى المذكورة بعد أن تلقاه الأمير الكبير ألطنبغا القرمشى ومعه الأمير ألطنبغا المرقبى حاجب الحجّاب بالديار المصرية، والأمير جرباش الكريمى المعروف بقاشق أحد مقدّمى الألوف بديار مصر والأمير سودون اللكاشى أحد مقدّمى الألوف أيضا، والأمير آق بلاط الدمرداش أحد مقدّمى الألوف أيضا.
ولما دخل «2» القرمشى على السلطان الملك المظفر [أحمد] «3» نزل وقبّل الأرض له بمن معه، وسلّم عل الأمير ططر، ثم ركب وسار فى خدمة السّلطان فتأدّب معه الأمير ططر نظام الملك بأن يسير فى ميمنة السلطان الملك المظفر، فامتنع من ذلك، وألحّ

(14/188)


عليه فأبى إلا سيره فى ميسرة السلطان، كل ذلك بعد أن خلع السلطان على القرمشى، وسار السلطان إلى أن طلع إلى قلعة دمشق ومعه الأمير ططر.
فأوّل ما بدأ به الأمير ططر أن قبض على الأمير الكبير ألطنبغا القرمشى، وعلى الأمير جرباش الكريمى، وعلى الأمير ألطنبغا المرقبى، وعلى الأمير أردبغا من أمراء الألوف بدمشق، وعلى الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الطرابلسى أستادارا المؤيّد [شيخ] «1» وعلى جماعة أخر.
وأصبح يوم الاثنين سادس عشره جلس للخدمة بقلعة دمشق، وخلع على الأمير تنبك ميق العلائى باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن جقمق الأرغون شاوى الدوادار، وخلع على الأمير إينال الجكمى «2» رأس نوبة النوب واستقر به فى نيابة حلب، عوضا عن الأمير ألطنبغا من عبد الواحد المعروف بالصغير، وعلى الأمير يونس الرّكنى الأعور أتابك دمشق باستقراره فى نيابة غزة عوضا عن أركماس الجلبّانى.
ثم خلع على الأمير جانى بك الصّوفى أمير سلاح باستقراره أتابك العساكر بالدّيار المصرية عوضا عن تنبك ميق «3» .
ثم أخذ الأمير ططر فى العمل على مسك جقمق الدّوادار، فبعث إليه الأمير بيبغا المظفّرى أمير مجلس، والأمير إينال الشّيخى الأرغزى، والأمير يشبك أنالى المعزول عن الأستادارية، والأمير سودون اللّكّاشىّ، ومعهم مائتا مملوك من المماليك السلطانية فساروا إلى صرخد.
وأرسل الأمير ططر المبشّر إلى الديار المصرية بقدوم السلطان إلى دمشق وبالقبض على الأمير ألطنبغا القرمشى، فدقت البشائر بقلعة الجبل لذلك ثلاثة أيام، وزينت القاهرة عشرة أيام.

(14/189)


ثم تزوّج الأمير الكبير ططر بأم السلطان «1» الملك المظفّر أحمد، صاحب التّرجمة وهى خوند سعادات بنت الأمير صرغتمش، وبنى بها، فصار عمّ السلطان زوج أمّه ونظام ملكه مع ما تمهد له [من الأمر] «2» من مسك الأمير ألطنبغا القرمشى ورفقته، ومن ورود الخبر عليه بمجيء خچداشيّته الأمراء الذين كانوا فرّوا من الملك المؤيّد فى وقعة الأمير قانى باى المحمدى نائب الشام المقدّم ذكرهم.
فلمّا كان يوم الثلاثاء ثامن جمادى الآخرة، قدم الأمراء المقدّم ذكرهم من عند قرا يوسف بعد موته، وكانوا عند قرا يوسف من يوم فروا من وقعة الأمير قانى باى، وهم الأمير سودون من عبد الرّحمن نائب طرابلس كان، والأمير تنبك البجاسىّ نائب حماة كان، والأمير طرباى الظّاهرىّ نائب غزّة كان، والأمير يشبك الجكمىّ الدّوادار الثانى كان، وهو الذي فرّ من المدينة الشّريفة لما كان أمير الحاجّ [وتوجّه] «3» إلى العراق فى سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، والأمير جانى بك الحمزاوىّ، والأمير موسى الكركرى بمن كان معهم، فخلع عليهم الأمير ططر وأنعم عليهم بالمال والخيل والسلاح، غير أنه لم يعط أحدا منهم إقطاعا ولا إمرة خوفا من المماليك المؤيديّة، وكذلك الأمير برسباى الدّقماقى نائب طرابلس «4» كان، أعنى الملك الأشرف لمّا أطلقه من سجن قلعة دمشق لم ينعم عليه بإقطاع، وكان من خبره أنّ الملك المؤيّد جعله بعد إطلاقه من سجن المرقب أمير مائة ومقدّم ألف بدمشق، فقبض عليه الأمير جقمق وحبسه إلى أن أطلقه ططر- انتهى.
ثم أمر الأمير ططر بابن محب الدين الأستادار- كان- فصودر وعوقب أشدّ عقوبة، وأجرى عليه العذاب، وأخذ منه جملا مستكثرة ولا زال فى العقوبة إلى أن مات فى سابع عشرين جمادى الآخرة، كل ذلك بعد قتل الأمير ألطنبغا القرمشىّ.

(14/190)


وخبره أن الأمير ططر لمّا طلع إلى قلعة دمشق وقبض عليه فى الحال ارتجّ العسكر لمسكه، وعظم ذلك على جماعة كبيرة من المماليك السلطانية الظاهريّة، وطلبوا من الأمير ططر إبقاءه، فرأى ططر أنّه لا يتمّ له أمر مع بقائه، وأرسل القرمشىّ أيضا يترقّق له، فلم يلتفت ططر إلى هذا كله، وتمثل لسان حاله بقول المتنبى:
[الكامل]
لا يخدعنّك من عدوّك دمعه ... وارحم شبابك من عدوّ ترحم
لا يسلم الشّرف الرّفيع من الأذى ... حتّى يراق على جوانبه الدّم
وجسر عليه وقتله بعد أيّام، فلم ينتطح فى ذلك عنزان.
وكان الأمير ألطنبغا القرمشىّ حسنة من حسنات الدهر عقلا وحشمة ورياسة وسؤددا وكرما، مع اللّين والأدب والتواضع، كما سيأتى ذكره فى حوادث سنة أربع وعشرين وثمانمائة إن شاء الله تعالى.
ولما أن مهّد الأمير ططر أمور دمشق، وقوى جانبه بخشداشيته وأصحابه، عزم على التوجّه إلى حلب.
فلما كان يوم الجمعة خامس عشرين جمادى الآخرة المذكور ركب الأمير ططر من قلعة دمشق ومعه السلطان الملك المظفّر وجميع عساكره، وتوجّه إلى جهة البلاد الحلبيّه، وسار حتى وصلها فى العشر الأول من شهر رجب، بعد أن فرّ منها الأمير ألطنبغا الصّغير قبل قدومه بمدّة، وملكها الأمير إينال الجكمىّ، وسكن بدار السّعادة على عادة النّوّاب، وأقام الأمير ططر بحلب، وأخذ فى إصلاح أمرها، وخلع على أمراء التّركمان والعربان، وبعث رسله إلى البلاد، وبينما هو فى ذلك قدم عليه الأمير مقبل الحسامىّ الدّوادار- كان- أحد أصحاب جقمق طائعا، وقد فارق الأمير جقمق من صرخد بعد أن حوصر جقمق من الأمير بيبغا المظفّرىّ المقدم ذكره ورفقته أيّاما، فخلع الأمير ططر على الأمير مقبل المذكور وعفا عنه- وفى النفس من ذلك شىء- ثم خلع الأمير ططر على الأمير تغرى بردى من آقبغا المؤيّدىّ

(14/191)


الأمير آخور الكبير المعروف بأخى قصروه، باستقراره فى نيابة حلب عوضا عن الأمير إينال الجكمىّ، وخلع على الأمير إينال الجكمىّ باستقراره أمير سلاح «1» عوضا عن جانى بك الصّوفى بحكم انتقاله إلى أتابكيّة العساكر بديار مصر، وخلع على الأمير تمرباى اليوسفىّ المؤيّدى المشد باستقراره أمير حاج المحمل، فخرج من حلب وسار إلى الديار المصريّة ليتجهّز إلى سفر الحجاز.
ثم أبطأ على الأمير ططر أمر جقمق بصرخد، فندب له الأمير برسباى الدّقماقى نائب طرابلس- كان- ومعه القاضى بدر الدين محمد بن مزهر ناظر الإسطبل ونائب كاتب السّرّ، وأرسل معه أمانا لجقمق المذكور ولمن معه، وحلف له أنه لا يمسّه بسوء إن سلّم إليه صرخد وقدم إلى طاعته، فركب برسباى وتوجّه إلى صرخد، وما زال بالأمير جقمق ومن عنده حتّى أذعنوا لطاعة الأمير ططر، ونزلوا من قلعة صرخد، وتوجّهوا صحبة الأمير برسباى الدّقماقىّ إلى دمشق، وهم: الأمير جقمق نائب الشّام، والأمير طوغان أمير آخور الملك المؤيّد وغيرهم، فلمّا قدموا إلى دمشق قبض عليهم الأمير تنبك ميق نائب الشّام، ولم يلتفت إلى كلام الأمير برسباى الدّقماقى، وحبس «2» الأمير جقمق والأمير طوغان أمير آخور بقلعة دمشق، وقال: إذا جاء الأمير الكبير ططر إن شاء يطلقهما وإن شاء يقتلهما، فاحتدّ الأمير برسباى لذلك قليلا ثم سكن ما به لمّا علم المصلحة فى قبضهما، وقيل إن الأمير برسباى لما قدم بهما إلى دمشق قال للأمير تنبك ميق: أنا قد حلفت لهما فاقبض عليهما أنت، ففعل تنبك ذلك، والصّواب عندى هو القول الثانى.
وأما الأمير ططر فإنه أقام بحلب هو والسلطان والعساكر إلى يوم الاثنين حادى عشر شعبان، فبرز فيه من مدينة حلب يريد مدينة دمشق، بعد أن مهّد أمور البلاد الحلبيّة، وخلع على مملوكه- ورأس نوبة- الأمير باك، باستقراره فى نيابة قلعة حلب، وكان الأمير باك من أخصّاء الأمير ططر وأعيان مماليكه.

(14/192)


وسار الأمير ططر إلى أن دخل دمشق هو والسلطان الملك المظفر أحمد فى يوم السبت ثالث عشرين شعبان، فارتجت دمشق لدخوله، وعبر دمشق وجميع الأمراء بين يديه، والسلطان معه كالآلة على عادته، وطلع إلى قلعة دمشق، وشكر الأمير تنبك ميق على قبضه على جقمق، ثم أمر بجقمق فعوقب على المال «1» ، ثم قتل بقلعة دمشق.
ثم أخرج الأمير طوغان الأمير آخور من حبس قلعة دمشق، وأرسله إلى القدس بطّالا، فخفّ الأمر كثيرا على الأمير ططر بقتل الأمير الكبير ألطنبغا القرمشىّ، ثم بقتل الأمير جقمق نائب الشّام، ولم يبق عليه إلا الأمراء المؤيديّة- وكانت لهم شوكة وسطوة بخشداشيّتهم المماليك المؤيدية- فأخذ الأمير ططر عند ذلك يدبّر على قبضهم وجبن عن ذلك، وتكلم مع خشداشيّته المماليك الظاهريّة [برقوق] «2» فى ذلك، فاختلفت آراؤهم فى القبض عليهم، فمنهم من رأى أن القبض عليهم بالبلاد الشّامية أصلح، ومنهم من قال المصلحة أن الأمير الكبير ططر يعود إلى مصر، ثم يفعل ما بدا له بعد أن يصير بقلعة الجبل، فمال ططر إلى القول الثانى من أنه يعود إلى مصر، ثم يقبض عليهم، ثم يتسلطن، فلم يرض الأمير قصروه من تمراز بذلك، وقام فى القبض عليهم، وبالغ فى ذلك، وهوّن أمر المؤيديّة [شيخ] «3» على الأمير ططر إلى الغاية، حتى قال له: لا تتكلّم أنت فى أمرهم، وأنا والأمير بيبغا المظفّرى نكفيك أمر هؤلاء الأجلاب، كل ذلك لما كان فى نفس قصروه من أستاذهم الملك المؤيد؛ فإنه حدثنى بعض أعيان المماليك الظاهريّة قال: لمّا أخرج الملك المؤيّد قصروه من السّجن وأنعم عليه بإمرة عشرة صادفته فى بعض الأيام عند باب زويلة، فسلمت عليه ورجعت معه، فقال لى: يا أخى فلان، فقلت له: نعم، قال «تنظر ما بيفعل [بنا] «4» هذا الرجل وبخشداشيّتنا؟ قلت: [نعم] «5» نظرت، قال «6» : الله لا يميتنى حتى أفعل

(14/193)


بمماليكه ما فعل بخشداشيّتنا من الحبس والقتل والتشتت. فقلت له: هل قلت هذا الكلام لأحد غيرى؟ قال: لا. فقلت له عند ذلك: أمسك ما معك، لأن غريمك صعب، ومتى ما سمع بعض هذا الكلام عنك لا يبقيك ساعة واحدة. فقال:
أعرف هذا، فاكتم أنت أيضا ما سمعته منى، وتفارقنا، فلم يكن إلا بعد مدّة يسيرة ومات الملك المؤيّد، ووقع ما وقع من أمر الأمير ططر، إلى أن قام قصروه فى مسك المؤيّديّة، ومسكوا عن آخرهم، فلمّا كان بعد أيّام رآنى وقال: أخى فلان، فقلت: نعم، [قال] «1» : هل وفّيت بما قلت أم لا؟ فقلت: نعم وفّيت وزيادة- انتهى.
وقد خرجنا عن المقصود، ولنعد لما كنّا فيه.
ولما سمع الأمير ططر كلام قصروه، هان عليه أمر المؤيديّة، ووافق قصروه الأمير تغرى بردى المحمودى الناصرىّ، والأمير بيبغا المظفّرى أمير مجلس، والأمير يشبك الجكمىّ، القادم من عند قرا يوسف، والأمير أزدمر شايا، والأمير أيتمش الخضرىّ، ولا زالوا بالأمير ططر حتى وافقهم على القبض عليهم، بعد أن قال لهم: اصبروا حتى نكتب بقتل الأمير قجقار القردمى أمير سلاح، وكتب إلى مصر، ثم إلى نائب إسكندرية الأمير قشتم المؤيدى بقتله، فقتل فى شعبان المذكور.
وصار ططر يتردّد فى القبض على المؤيّديّة، إلى أن كان يوم الخميس ثامن عشرين شعبان من سنة أربع وعشرين المذكورة، وحضر الأمراء الخدمة على العادة، وقرىء الجيش، وفرغت العلامة «2» . وقبل أن يحضر السماط، مدّت الأمراء الظاهرية أيديهم فقبضوا على الأمراء المؤيدية فى الحال، الذين حضروا الخدمة والذين تأخّروا عن

(14/194)


الخدمة، فكان ممن قبض عليه منهم سبعة من مقدّمى الألوف «1» من مشتروات الملك المؤيد، وممن أنشأه، وهم:-
الأمير إينال الجكمى أمير سلاح- أصله من مماليك جكم من عوض نائب حلب إلّا أن المؤيد هو الذي أنشأه ورقّاه.
والأمير إينال الشّيخى الأرغزىّ حاجب الحجّاب، وكان أصله من مماليك الأمير شيخ الصّفوىّ، أمير مجلس فى دولة الملك الظاهر برقوق، غير أنه خدم الملك المؤيد قديما، واختصّ به أيام [تلك] «2» الفتن، فلما تسلطن رقّاه وقرّبه إلى الغاية.
والأمير سودون اللّكّاش [الظاهرى] «3» أحد الأمراء المجرّدين [إلى حلب] «4» صحبة الأمير ألطنبغا القرمشى، وكان أصله من مماليك الأمير آقبغا اللكّاش الظاهرى، وخدم الملك المؤيد قديما، فلما ملك مصر أنعم عليه ورقاه حتى جعله أمير مائة ومقدّم ألف بديار مصر.
والأمير جلبّان أمير آخور كان، وهو أيضا من جملة من كان مجرّدا صحبة القرمشىّ، وفى معتقه أقوال كثيرة، وأصله من مماليك الأمير تنبك أمير آخور اليحياوىّ الظاهرى، ثم أخذه بعده إينال حطب، ثم چاركس المصارع، ثم اتصل بخدمة الملك المؤيد [شيخ] «5» ، وصار أمير آخور قبل سلطنته، فلما تسلطن رقاه حتى صار من جملة أمراء الألوف بالقاهرة.
ثم على الأمير أزدمر الناصرى، وكان من جملة الأمراء المجرّدين مع ألطنبغا القرمشى، وأصله من مماليك الملك الظاهر برقوق، ونسبته بالناصرى إلى تاجره خواجا ناصر الدين، وهو ممّن أنشأه الملك المؤيد من خشداشيّته ورقاه، وكان رأسا فى لعب الرّمح.

(14/195)


وعلى الأمير يشبك أنالى المؤيدى رأس نوبة النّواب، الذي كان ولى الأستادارية فى دولة أستاذه المؤيد، وهو «1» من أكابر المماليك المؤيدية، ونسبته أنالى أى له أم.
وعلى الأمير على باى من علم شيخ المؤيدى الدّوادار، وهو أعظم مماليك المؤيد يوم ذاك، وهؤلاء من أمراء الألوف.
وأما الذين قبض عليهم من أمراء الطبلخانات والعشرات فكثير، منهم: الأمير مغلباى الأبوبكرى السّاقى، وعلى الأمير مبارك شاه الرّماح، وعلى الأمير مامش المؤيدى رأس نوبة، وعلى جماعة أخر، ثم قبض على الطّواشى مرجان المسلمى الهندى الخازندار، ثم أطلقه.
وبعد مسك هؤلاء الأمراء خلا الجوّ للأمير ططر، وعلم أنه لم يبق له منازع فيما يرومه، فإنه كان فى قلق كبير من على باى الدّوادار وخشداشيته، وفى تخوّف عظيم، بحيث إنه كان فى غالب سفره منذ خرج من الديار المصرية لا يفارق لبس الزّردية «2» من تحت ثيابه حتى أورث له ذلك مرضا فى باطنه من شدّة برد الزّردية، وتسلسل فيه ذلك من شىء إلى شىء حتى مات حسبما نذكره.
فلما قبض على هؤلاء عزم على خلع السلطان الملك المظفّر [أحمد] «3» من السّلطنة ووافقه على ذلك جميع الأمراء والخاصّكيّة، هذا وقد صار ططر يأخذ بخاطر من بقى من صغار المماليك المؤيدية ويقرّبهم ويدنيهم، ويسكّن روعهم، على أن كل واحد منهم انتمى لشخص من حواشى ططر، كما هى عادة العساكر المفلولة «4» ممّن زالت دولتهم، وذهبت شوكتهم، وتخلّف منهم جماعة بالبلاد الشاميّة، وانحطّ

(14/196)


قدرهم وخدموا الأمراء سنين إلى أن أعيدوا فى دولة الملك الظاهر جقمق إلى بيت السلطان.
ولمّا كان يوم تاسع عشرين شعبان من سنة أربع وعشرين وثمانمائة خلع السلطان الملك المظفر أحمد بن المؤيد بالسلطان الملك الظاهر ططر، وأدخل المظفر إلى أمّه خوند سعادات، وكان ططر قد تزوّجها حسبما ذكرناه، فمن يوم خلع ابنها المظفر لم يدخل إليها ططر، ثم طلّقها بعد ذلك.
وكانت مدّه سلطنة الملك المظفر من يوم جلوسه على تخت الملك- وهو يوم موت أبيه الملك المؤيد شيخ- إلى أن خلع فى هذا اليوم، سبعة أشهر وعشرين يوما، وعاد صحبة الملك الظاهر ططر إلى الدّيار المصرية، وأقام بقلعة الجبل مدّة، ثم أخرج هو وأخوه إبراهيم ابن الملك المؤيد إلى سجن الإسكندرية، فسجنا بها إلى أن مات الملك المظفر أحمد هذا فى الثّغر المذكور بالطاعون فى ليلة الخميس آخر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، فى سلطنة الملك الأشرف برسباى، ومات أخوه إبراهيم بعده بمدة يسيرة بالطاعون أيضا، ودفنا بالإسكندرية، ثم نقلا إلى القاهرة ودفنا بالقبة من الجامع المؤيدى داخل باب زويلة، ولم يكن للملك المظفر أمر فى السلطنة لتشكر أفعاله أو تذمّ لعدم تحكّمه فى الدّولة، وأيضا لصغر سنه، فإنه مات بعد خلعه بسنين وهو لم يبلغ الحلم، وأما أخوه إبراهيم فإنه كان أصغر منه، وكانت أمه أم ولد چركسيّة تسمّى قطلباى، تزوّجها الأمير إينال الجكمى بعد موت الملك المؤيد وماتت عنده. انتهى والله أعلم.

(14/197)


ذكر سلطنة الملك الظاهر ططر على مصر «1»
السلطان الملك الظّاهر سيف الدين أبو الفتح ططر، تسلطن بعد خلع السلطان الملك المظفّر أحمد ابن الملك المؤيد شيخ فى يوم الجمعة تاسع عشرين شعبان سنة أربع وعشرين وثمانمائة، بقلعة دمشق، وكان الموافق لهذا اليوم يوم نوروز القبط بمصر. ولبس خلعة السّلطنة من قصر قلعة دمشق، وركب بشعار السّلطنة وأبّهة الملك، ولقّب بالملك الظاهر ططر، وذلك بعد أن ثبت خلع الملك المظفّر، وحضر الخليفة المعتضد بالله داود والقضاة بقلعة دمشق، وبايعوه بالسلطنة بحضرة الملأ من الأمراء والخاصّكيّة، بعد أن سألهم الخليفة فى قيامه فى السلطنة، فقالوا الجميع: نحن راضون بالأمير الكبير ططر، وتمّ أمره فى السّلطنة، وقبّلت الأمراء الأرض بين يديه، وحملت القبّة والطّير على رأسه، وخطب له على منابر دمشق من يومه. والملك الظاهر هذا هو السلطان الثلاثون من ملوك الترك بالديار المصرية، والسادس من الچراكسة وأولادهم.
قال المقريزى رحمه الله: كان چاركسى الجنس، يعنى عن الملك الظاهر ططر، ربّاه بعض التّجّار، وعلّمه شيئا من القرآن وفقه الحنفيّة، وقدم به إلى القاهرة فى سنة إحدى وثمانمائة وهو صبىّ، فدلّ عليه الأمير قانى باى- لقرابته به- وسأل السلطان الملك الظاهر فيه، حتى أخذه من تاجره، ومات السلطان قبل أن يصرف ثمنه، فوزن الأمير الكبير أيتمش ثمنه اثنى عشر ألف درهم، ونزّله فى جملة مماليك الملك الظاهر فى الطّباق ونشأ بينهم، وكان الملك الناصر أعتقه، فلم يزل فى جملة مماليك الطّباق حتى عاد السلطان الملك الناصر فرج إلى الملك بعد أخيه المنصور عبد العزيز، فأخرج له الخيل وأعطاه إقطاعا فى الحلقة، فانضمّ على الأمير نوروز الحافظى، وتقلب معه فى تلك الفتن- انتهى كلام المقريزى باختصار.

(14/198)


قلت: هذا هو الخباط «1» بعينه، ولم أقف على هذا النقل إلا من خطّه بعد موته، ولم أسمه من لفظه، فإن هذا القول يستحيا من ذكره؛ فأما قوله «اشتراه الملك الظاهر برقوق من تاجره» فمسلّم غير أنه قبل سنة إحدى وثمانمائة، وأنه لم يعط ثمنه فيمكن، وأما قوله «وأعتقه الملك الناصر فرج» فهذا القول لم يقله أحد غيره، وبإجماع المماليك الظاهرية إن الملك الظاهر برقوق أعتقه، وأخرج له الخيل والقماش فى عدّة كبيرة من المماليك، منهم جماعة [كبيرة] «2» فى قيد الحياة إلى يومنا هذا، ثم أخرج الملك الظاهر خرجا آخر من المماليك بعد ذلك قبل موته، من جملتهم الملك الأشرف برسباى الدّقماقى، والملك الظاهر جقمق العلائى وغيره، وكانت عادة برقوق، أنه لا يخرج لمماليكه الجلبان خيلا، إلا بعد إقامتهم فى الأطباق مدّة سنين، وأنّه لا يخرج فى سنة واحدة خرجين، وإنّما كان يخرج فى كل مدّة طويلة خرجا من مماليكه، ثم يتبعه بعد ذلك بمدّة طويلة بخرج آخر، وهذه كانت عادة ملوك السّلف، فعلى هذا يكون مشترى ططر هذا قبل سنة إحدى وثمانمائة بسنين.
ولما أراد الملك الظاهر عتق ططر المذكور، عرضه فى جملة من عرض من مماليك الطّباق الكتابيّة، وكان ططر قصير القامة، فاعتقد الظاهر أنه صغير، فردّه إلى الطّبقة فيمن ردّ من صغار المماليك، وكان الأمير جرباش الشّيخىّ الظاهرىّ «3» رأس نوبة واقفا، فمسك ططر من كتفه وقال: يا مولانا السلطان، هذا فقيه طالب علم، قرناص «4» يستأهل الخير، فأمر له الملك الظّاهر بالخيل وكتب عتاقته أمام السلطان الملك الظاهر سويدان المقرى، فكان ططر فى أيّام إمرته، وبعد سلطنته، كلّما رأى الناصر محمد

(14/199)


ابن جرباش الشيخى يترحّم على والده ويقول، لم يعتقنى الملك الظاهر برقوق إلا بسفارة الأمير جرباش الشيخى- رحمه الله- وأحسن إلى ولده المذكور.
وأما قوله «وأقام ططر فى الطبقة حتى عاد الملك الناصر إلى ملكه بعد أخيه المنصور عبد العزيز» فهذا يكون فى سنة ثمان وثمانمائة، فهذه مجازفة لا يدرى معناها، فإنّ ططر كان يوم ذاك من رءوس الفتن، مرشّحا للإمرة وولاية الأعمال، بل كان قبل ذلك فى واقعة تيمور لنك فى سنة ثلاث وثمانمائة من أعيان القوم الذين أرادوا سلطنة الشيخ لاجين الچاركسىّ بالقاهرة، وعادوا إلى مصر، وهو يوم ذاك يخشى شرّه، وأيضا إنه فى سنة ثمان المذكورة كان برسباى الدقماقىّ- أعنى الملك الأشرف- صار من جملة الخاصكيّة السّقاة الخاص «1» الأعيان، وكان من جملة أصحاب ططر الصّغار ممّن ينتمى إليه، وبسفارته اتّصل إلى ما ذكرناه من الوظيفة وغيرها، ولا زال على ذلك إلى أن شفع فيه ططر- بعد أن حبسه الملك المؤيد بالمرقب- وأخرجه إلى دمشق، كل ذلك وططر مقدّم عليه وعلى غيره من أعيان الظاهرية، ويسمّونه أغاة «2» من تلك الأيام، فلو كان كما قاله المقريزى «إن الملك الناصر فرج أعتقه فى سنة ثمان» كان ططر من أصاغر المماليك الناصرية؛ فإن الذين أعتقهم الملك الناصر ممّن ورثهم من أبيه- وهم أول خرج أخرجه- جماعة كبيرة مثل الملك الأشرف إينال العلائى سلطان زماننا، والأمير طوخ من تمراز أمير مجلس زماننا، والأمير يونس العلائى أحد مقدّمى الألوف فى زماننا، فيكون هؤلاء بالنسبة إلى ططر قرانيص وأكابر، وقدماء هجرة، فهذا القول لا يقوله إلّا من ليس له خبرة بقواعد السّلاطين، ولا يعرف ما الملوك عليه بالكلّيّة، ولولا أن المقريزى ذكر هذه المقالة فى عدّة كتب من مصنّفاته ما كنت أتعرّض إلى جواب ذلك، فإن هذا شىء لا يشكّ فيه أحد، ولم يختلف فيه اثنان غير أنى أعذره فيما نقل؛ فإنه كان بمعزل عن الدولة، وينقل أخبار الأتراك عن

(14/200)


الآحاد، فكان يقع له من هذا وأشباهه أوهام كثيرة نبّهته على كثير منها فأصلحها معتمدا على قولى، وها هى مصلوحة بخطه فى مظنّات الأتراك وأسمائهم ووقائعهم- انتهى.
واستمرّ الملك الظاهر ططر بقلعة دمشق، وعمل الخدمة السّلطانيّة بها فى يوم الاثنين ثالث شهر رمضان، وخلع على الخليفة والقضاة باستمرارهم، وعلى أعيان الأمراء على عادتهم، ثم خلع على الأمير طرباى الظّاهرىّ نائب غزّة- كان- فى دولة الملك المؤيّد بعد قدومه من عند قرا يوسف باستقراره حاجب الحجاب بالديار المصريّة عوضا عن إينال الأرغزىّ المقدّم ذكره، وعلى الأمير برسباى الدّقماقى نائب طرابلس- كان، وكان بطّالا بدمشق- باستقراره دوادارا كبيرا، عوضا عن الأمير على باى المؤيّدى بحكم القبض عليه، و [أنعم] «1» على الأمير يشبك الجكمىّ الدّوادار الثانى- كان، وهو أيضا ممّن قدم من بلاد الشّرق- باستقراره أمير آخور كبيرا، عوضا عن تغرى بردى المؤيّدى المنتقل إلى نيابة حلب، ثم خلع بعد ذلك على الأمير بيبغا المظفرى الظاهرىّ أمير مجلس باستقراره أمير سلاح، عوضا عن الأمير إينال الجكمىّ بحكم القبض عليه، [وأنعم] «2» على الأمير قجق العيساوىّ الظاهرىّ حاجب الحجاب- كان فى الدولة المؤيديّة- باستقراره أمير مجلس، عوضا عن بيبغا المظفرى، وخلع على الأمير قصروه من تمراز الظاهرى باستقراره رأس نوبة النّوب، عوضا عن يشبك أنالى المؤيّدى بحكم القبض عليه أيضا، ثم أنعم على جماعة كبيرة بتقادم ألوف بالديار المصرية، مثل الأمير أزبك المحمدى الظاهرى إنىّ برسبغا الدوادار، ومثل الأمير تغرى بردى المحمودى الناصرى، ومثل الأمير قرمش الأعور الظاهرى، وغيرهم، وأنعم على جماعة من مماليكه وحواشيه بإمرة طبلخانات وعشرات، منهم: صهره البدرى حسن بن سودون الفقيه، أنعم عليه بإمرة طبلخاناه عوضا عن مغلباى السّاقى المؤيّدى بحكم القبض عليه، و [أنعم] «3»

(14/201)


على الأمير قرقماس الشّعبانى الناصرى بإمرة طبلخاناه، واستقرّ به دوادارا ثانيا، وعلى الأمير قانصوه النّوروزى أيضا بإمرة طبلخاناه، وجعله من جملة رءوس النّوب، وعلى رأس نوبته الثانى قانى باى الأبوبكرى الناصرىّ البهلوان بإمرة طبلخاناه، وجعله أيضا من جملة رءوس النّوب، وعلى فارس دواداره [الثانى] «1» بإمرة طبلخاناه، وأنعم على مشدّه يشبك السّودونى باستقراره شاد الشراب خاناه، وعلى أمير آخوره بردبك السيفى يشبك بن أزدمر باستقراره أمير آخور ثانيا، وعلى جماعة أخر من حواشيه ومماليكه، وجعل جميع مماليكه الذين كانوا بخدمته قبل سلطنته خاصّكيّة، وأنعم على بعضهم بعدة وظائف.
ثم أمر السلطان الملك الظاهر فكتب بسلطنته إلى مصر وأعمالها، وإلى البلاد الحلبيّة والسواحل والثغور، وإلى نواب الأقطار، وحملت إليهم التشاريف والتقاليد بولايتهم على عادتهم، وهم: الأمير تغرى بردى المؤيّدى المعروف بأخى قصروه نائب حلب، والأمير تنبك البجاسىّ نائب طرابلس، والأمير جارقطلو الظاهرى نائب حماة، والأمير قطلوبغا التنمىّ نائب صفد، والأمير يونس الرّكنى نائب غزة.
ثم خلع على الأمير تنبك ميق نائب الشام باستمراره على كفالته، وعلى الأمير برسباى الحمزاوىّ الناصرى باستقراره حاجب حجاب دمشق، وعلى الأمير أركماس الظاهرى باستقراره نائب قلعة دمشق، وعلى الأمير كمشبغا طولو باستقراره حاجبا ثانيا.
ثم أخذ الملك الظاهر فى تمهيد أمور دمشق والبلاد الشّاميّة إلى أن تمّ له ذلك، فبرز من دمشق بأمرائه وعساكره فى يوم الاثنين سابع عشر شهر رمضان من سنة أربع وعشرين وثمانمائة يريد الديار المصرية.
هذا ما كان من أمر الملك الظاهر ططر بالبلاد الشّاميّة.
وأما أخبار الديار المصرية فى غيبته فإنه لمّا سافر الأمير ططر بالسّلطان الملك

(14/202)


المظفر وعساكره من الرّيدانيّة استقلّ بالحكم بين الناس الأمير جقمق العلائى إلى أن حضر الأمير قانى باى الحمزاوى من بلاد الصّعيد فى يوم السبت حادى عشرين جمادى الأولى، وحكم فى نيابة الغيبة، وأرسل إلى الأمير جقمق بالكفّ عن الحكم بين الناس وخاشنه فى الكلام، فانكفّت يد الأمير جقمق أخى چاركس المصارع عن الحكم، وكانت سيرته جيّدة فى أحكامه.
ثم قدم الخبر على الأمير قانى باى الحمزاوىّ بدخول السلطان الملك المظفر إلى دمشق وقبضه على القرمشى وغيره، فدقت البشائر لذلك بالقاهرة ثلاثة أيام وزينت عشرة أيام.
ثم فى يوم الأربعاء خامس شهر رمضان خلع الأمير قانى باى الحمزاوىّ على القاضى جمال الدين يوسف البساطى باستقراره فى حسبة القاهرة عوضا عن القاضى صدر الدين بن العجمى، وكان سبب ولايته أنه طالت عطلته سنين، فتذكّر الأمير ططر صحبته، فكتب لقانى باى الحمزاوىّ بولايته.
ثم فى ثامن شهر رمضان قدم الخبر إلى الديار المصرية بخلع الملك المظفّر وسلطنة الملك الظاهر ططر.
وأما السلطان الملك الظاهر ططر فإنه سار بعساكره إلى جهة الدّيار المصرية إلى أن نزل بمنزلة الصّالحيّة فى يوم الاثنين أوّل شوال، فخرج الناس إلى لقائه وقد تزايد سرور الناس بقدومه، ثم ركب من الصالحيّة وسار إلى أن طلع إلى قلعة الجبل فى يوم الخميس رابع شوال، وحملت القبة والطّير على رأسه- حملها الأمير [جانى بك] «1» الصّوفى أتابك العساكر، ولما طلع إلى القلعة أنزل الملك الظاهر [ططر] «2» الملك المظفر [أحمد] «3» وأمّه بالقاعة المعلقة من دور القلعة.
ثم فى يوم خامس شوال خلع السلطان الملك الظاهر [ططر] «4» على الطواشى

(14/203)


مرجان الهندى الخازندار باستقراره زمّاما «1» ، عوضا عن الطواشى كافور الرّومى الشّبلى الصّرغتمشى بحكم عزله.
ثم فى يوم الاثنين ثامن شوّال ابتدأ السلطان بعرض مماليك الطباق، وأنزل منهم جماعة كثيرة إلى إصطبلاتهم من القاهرة.
ثم فى يوم الاثنين «2» استدعى السلطان الشيخ ولىّ الدين أحمد ابن الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقىّ الشافعى وخلع عليه باستقراره قاضى قضاة الشافعيّة بالديار المصرية، بعد موت قاضى القضاة جلال الدين [عبد الرحمن] «3» البلقينى، فنزل العراقىّ إلى داره فى موكب جليل بعد أن اشترط على السلطان أنه لا يقبل شفاعة أمير فى حكم، فسرّ الناس بولايته.
وفى يوم الاثنين ثانى عشرين شوال ابتدأ بالسلطان الملك الظاهر ططر مرض موته، وأصبح ملازما للفراش واستمرّ فى مرضه والخدمة تعمل بالدّور السلطانية، ويجلس السلطان وينفّذ الأمور ويعلّم على المناشير وغيرها.
وأنعم فى هذه الأيام على الأمير كزل العجمى الأجرود، الذي كان ولى حجوبية الحجّاب فى الدّولة الناصرية، وعلى الأمير سودون الأشقر الذي كان ولى فى دولة المؤيّد رأس نوبة النّوّب ثم أمير مجلس، وكانا منفيّين بقرية الميمون من الوجه القبلى؛ بحكم أنه يكون كل واحد منهم أمير عشرين فارسا، فدحلا إلى الخدمة السلطانية بعد ذلك فى كل يوم، وصارا يقفان من جملة أمراء الطبلخانات والعشرات، ومقدمو الألوف جلوس بين يدى السلطان.
واستمر السلطان على فراشه إلى يوم الثلاثاء أوّل ذى القعدة فنصل السلطان من

(14/204)


مرضه ودخل الحمّام، وخلع على الأطباء وأنعم عليهم، ودقّت البشائر لذلك، وتخلّقت الناس بالزّعفران.
ثم فى ثالث ذى القعدة خلع السلطان على دواداره الأمير فارس باستقراره فى نيابة الإسكندرية عوضا عن الأمير قشتم المؤيدى بحكم عزله، وقد حضر قشتم المذكور إلى القاهرة، وطلع إلى الخدمة، ثم أمر السلطان فقبض على الأمير قشتم المذكور، وعلى الأمير قانى باى الحمزاوى نائب الغيبة «1» وقيّدا فى الحال وحملا إلى ثغر الإسكندرية فسجنا بها.
ثم فى يوم الاثنين سابع ذى القعدة خلع السلطان على عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم الدّمشقى ناظر الخزانة باستقراره ناظر الجيوش «2» المنصورة بعد عزل القاضى كمال الدين بن البارزى ولزومه داره، وخلع السلطان أيضا على موقّعه القاضى شرف الدين محمد ابن القاضى تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله باستقراره فى نظر أوقاف الأشراف ونظر الكسوة «3» ونظر الخزانة عوضا عن عبد الباسط المذكور، وكان الملك الظاهر أراد تولية شرف الدين المذكور وظيفة نظر الجيش فسعى عبد الباسط فيها سعيا زائدا حتى وليها.
ودخل السلطان فى هذه الأيام إلى القصر السلطانى وعمل الخدمة به، ثم انتكس السلطان فى يوم الخميس عاشر ذى القعدة ولزم الفراش ثانيا، وانقطع بالدّور السلطانية، وعملت الخدمة غير مرّة.
فلما كان يوم الجمعة خامس عشرينه عزل القاضى ولىّ الدين العراقىّ نفسه عن القضاء لمعارضة يعض الأمراء له فى ولاية القضاء بالأعمال.
ثم فى سادس عشرين ذى القعدة رسم السلطان بالإفراج عن أمير المؤمنين المستعين بالله العباس من سجنه بثغر الإسكندرية، وأن يسكن بقاعة فى الثغر المذكور،

(14/205)


ويخرج لصلاة الجمعة بالجامع الذي بالثّغر، ويركب حيث يشاء، وأرسل إليه فرسا بسرج ذهب وكنبوش زركش وبقجة «1» قماش، ورتّب له على الثّغر فى كل يوم ثمانمائة درهم لمصارف نفقته، فوقع ذلك من الناس الموقع الحسن.
واستهل ذو الحجة يوم الخميس والسلطان فى زيادة [ألم] «2» من مرضه ونموّه، والأقوال مختلفة فى أمره، والإرجاف بمرضه يقوى.
فلمّا كان يوم الجمعة ثانى ذى الحجة استدعى السلطان الخليفة والقضاة والأمراء وأعيان الدّولة إلى القلعة- وقد اجتمع بها غالب المماليك السلطانيّة- فلما اجتمعوا عند السلطان كلم الخليفة والأمراء فى إقامة أبنه فى السلطنة بعده، فأجابوه إلى ذلك، فعهد إلى ابنه محمد بالملك، وأن يكون الأمير جانى بك الصّوفىّ هو القائم بأمره ومديّر مملكته، وأن يكون الأمير برسباى الدّقماقىّ لالا السلطان والمتكفّل بتربيته، وحلف الأمراء على ذلك كما حلفوا لابن الملك المؤيّد شيخ.
ثم أذن السلطان لقاضى القضاة ولىّ الدين العراقى أن يحكم، وأعيد إلى القضاء، وانفض الموكب ونزل الناس إلى دورهم، وقد كثر الكلام بسبب ضعف السلطان، وأخذ الناس وأعيان الدّولة فى توزيع أمتعتهم وقماشهم من دورهم، خوفا من وقوع فتنة.
وثقل السلطان فى الضّعف، وأخذ من أواخر يوم السّبت ثالثه فى بوادر النّزع إلى أن توفّى ضحوة «3» نهار الأحد رابع ذى الحجّة من سنة أربع وعشرين وثمانمائة، فأضطرب الناس ساعة ثم سكنوا عند ما تسلطن ولده الملك الصالح محمد- حسبما يأتى ذكره- ثم أخذ الأمراء فى تجهيز الملك الظّاهر ططر، فغسّل وكفّن وصلّى عليه، وأخرج من باب السّلسلة، وليس معه إلا نحو عشرين رجلا لشغل الناس بسلطنة ولده، وساروا به حتى دفن بالقرافة من يومه بجوار الإمام اللّيث بن سعد رضى الله عنه،

(14/206)


ومات وهو فى مبادئ الكهولية، وكانت مدّة تحكّمه منذ مات الملك المؤيّد شيخ إلى أن مات أحد عشر شهرا تنقص خمسة أيام، منها مدّة سلطنته أربعة وتسعون يوما، وباقى ذلك أيام أتابكيّته.
قال المقريزى فى تاريخه عن الملك الظاهر ططر: وكان يميل إلى تديّن، وفيه لين وإغضاء وكرم مع طيش وخفّة، وكان شديد التعصّب لمذهب الحنفية، يريد أن لا يدع من الفقهاء غير الحنفية، وأتلف فى مدته- مع قلّتها- أموالا عظيمة، وحمّل الدولة كلفا كثيرة، أتعب بها من بعده، ولم تطل أيّامه لتشكر أفعاله أو تذمّ- انتهى كلام المقريزى.
قلت: ولعل الصّواب فى حقّ الملك الظّاهر ططر بخلاف ما قاله المقريزى مما سنذكره مع عدم التعصّب له، فإنه كان يغضّ من الوالد كونه قبض على بعض أقاربه وخشداشيّته بأمر الملك الناصر فرج فى ولايته على دمشق الثالثة، غير أن الحقّ يقال على أى وجه كان.
كان ططر ملكا [عظيما] «1» جليلا كريما، عالى الهمة، جيّد الحدس، حسن التّدبير، سيوسا، توثّب على الأمور مع من كان أكبر منه قدرا وسنا، ومع عظم شوكة المماليك المؤيّدية [شيخ] «2» ، وقوة بأسهم، مع فقر كان به وإملاق، فلا زال يحسن سياسته، ويدبّر أموره، ويخادع أعداءه إلى أن استفحل أمره، وثبت قدمه، وأقلب دولة بدولة غيرها فى أيسر مدّة وأهون طريقة. كان تارة يملق هذا، وتارة يغدق على هذا، وتارة يقرّب هذا ويظهره على أسراره الخفيّة، كل ذلك وهو فى إصلاح شأنه فى الباطن مع من لا يقرّ به فى الظاهر، فكان حاله مع من يخافه كالطبيب الحاذق الذي يلاطف عدّة مرضى قد اختلف داؤهم، فينظر كل واحد ممن يخشى شرّه، فإن كان شهما رقّاه إلى المراتب العلية وأوعده بأضعاف ذلك، وإن كان طماعا أبذل إليه الأموال وأشبعه، حتى إنه دفع لبعض المماليك المؤيديّة الأجناد فى دفعات متفرّقة فى مدّة يسيرة

(14/207)


نحو عشرة آلاف دينار، وإن كان شهما رغبته الأمر والنهى ولّاه أعظم الوظائف، كما فعل بالأمير على باى المؤيّدى والأمير تغرى بردى المؤيّدى المعروف بأخى قصروه؛ ولّى كلّا منهما أجلّ وظيفة بديار مصر، فأقر على باى فى الدّواداريّة الكبرى دفعة واحدة من إمرة عشرة، وأقرّ تغرى بردى فى الأمير آخوريّة الكبرى دفعة واحدة، ومع هذا لم يتجنّ عليهما أبدا بل صار معهما فيما أراداه، يعطى من أحبّا ويمنع من أبغضا حتى إن تغرى بردى المذكور وسّط الأمير راشد بن أحمد ابن بقر خارج باب النصر «1» ظلما لما كان فى نفسه منه، فلم يسأله ططر عن ذنبه.
كل ذلك لكثرة دهائه وعظيم احتماله، ولم يكن فعله هذا مع على باى وتغرى بردى فقط، بل «2» مع غالب أشرار المؤيّديّة.
هذا وهو يقرب خشداشيته الظاهرية [برقوق] «3» واحدا بعد واحد، يقصد بذلك تقوية أمره فى الباطن، فأطلق مثل جانبك الصّوفى، ومثل بيبغا المظفّرىّ، ومثل قجق العيساوى. كل ذلك وهو مستمرّ فى بذل الأموال والإقطاعات لمن تقدّم ذكرهم، حتى إنه كلّمه بعض أصحابه سرّا بعد عوده من دمشق فيما أتلفه من الأموال، فقال:
«يا فلان أتظن أن الذي فرقته راح من حاصلى؟ جميعه فى قبضتى أسترجعه فى أيسر مدّة، إلّا ما أعطيته للفقهاء والصّلحاء» فمن يكن فيه طيش وخفّة لا يطيق هذا الصّبر ولو تلفت روحه.
وكان مقداما جريئا على الأمور بعد ما يحسب عواقبها، شهما يحب التجمّل؛ كانت مماليكه أيام إمرته مع فاقته أجلّ من جميع مماليك رفقته من الأمراء، فيهم الناصرية والجكميّة والنّوروزية وغيرهم.
ولما حصل له ما أراه وصفا له الوقت ووثب على ملك مصر أقام له شوكة وحاشية من خشداشيته ومماليكه فى هذه الأيام القليلة، لم ينهض بمثلها من جاء قبله ولا بعده أن ينشئ مثلها فى طول مملكته؛ وهو أنه أعطى لصهره البدرى حسن بن سودون الفقيه

(14/208)


إمرة طبلخاناه، ثم نقله إلى تقدمة ألف بالديار المصرية، ولم يكن قبلها من جملة مماليك السلطان ولا من أولاد الملوك، فإن والده سودون الفقيه مات بعد سنة ثلاثين جنديّا، وكذا فعل مع فارس داواداره، أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف ونيابة الإسكندرية، ومع جماعة أخر قد تقدم ذكرهم؛ فهذا مما يدلّ على قوّة جنانه وإقدامه وشجاعته، فإنه أنشأ هذا كلّه فى مدّة سلطنته، وهى ثلاثة أشهر وأربعة أيام.
وأنا أقول: إن مدّة سلطنته كانت ثمانية عشر يوما، وهى مدّة إقامته بمصر، وباقى ذلك مضى فى سفره ومرض موته، وكان يحبّ مجالسة العلماء والفقهاء وأرباب الفضائل من كل فن، وله اطلاع جيّد ونظر فى فروع مذهبه، ويسأل فى مجالسه الأسئلة المفحمة المشكلة، مع الإنصاف والتواضع ولين الجانب مع جلسائه وأعوانه وخدمه، وكان يحب إنشاد الشعر بين يديه لا سيما الشعر الذي باللغة التركية؛ فإنه كان حافظا له ولنظامه، ويميل إلى الصوت الحسن، ولسماع الوتر، مع عفته عن سائر المنكرات- قديما وحديثا- من المشارب. وأما الفروج فإنه كان يرمى بمحبة الشبّاب على ما قيل- والله أعلم بحاله.
ومع قصر مدّته انتفع بسلطنته سائر أصحابه وحواشيه ومماليكه، فإن أول ما طالت يده رقّاهم وأنعم عليهم بالأموال والإقطاعات والوظائف والرّواتب؛ قيل إنه أعطى الشيخ شمس الدين محمدا الحنفىّ فى دفعة واحدة عشرة آلاف دينار، وأوقف على زاويته «1» إقطاعا هائلا، وتنوّعت عطاياه لأصحابه على أنواع كثيرة، وأحبه غالب الناس لبشاشته وكرمه.
وأظنّه لو طالت مدّته أظهر فى أيامه محاسن، ودام ملكه سنين كثيرة لكثرة عطائه.
فإنه يقال فى الأمثال وهو من الجناس الملفق [المتقارب]
إذا ملك لم يكن ذاهبة ... فدعه فدولته ذاهبة

(14/209)


قلت: وهو ثانى سلطان ملك الديار المصرية ممن له ذوق فى العلوم والفنون والآداب ومعاشرة الفضلاء والأدباء والظرفاء من المماليك الذين مسّهم الرّق: الأول الملك المؤيد شيخ، والثانى ططر هذا، غير أن الملك المؤيد طالت مدّته فعلم حاله الناس أجمعون و [الملك الظاهر «1» ] هذا قصرت مدته فخفى أمره على آخرين- انتهت [ترجمة الظاهر رحمه الله] «2» .

(14/210)


ذكر سلطنة الملك الصالح محمد بن ططر «1»
على مصر السلطان الملك الصالح ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبى الفتح ططر بن عبد الله الظاهرىّ، تسلطن بعد موت أبيه- بعهد منه إليه «2» - فى يوم الأحد رابع ذى الحجة سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وهو أنه لما مات أبوه حضر الخليفة المعتضد بالله أبو الفتح داود والقضاة والأمراء وجلسوا بباب السّتارة من القلعة، وطلبوا محمدا هذا من الدّور السلطانية، فحضر إليهم، فلما رآه الخليفة قام له وأجلسه بجانبه، وبايعه بالسلطنة، ثم ألبسوه خلعة السلطنة الجبّة السّوداء الخليفتيّة من مجلسه بباب السّتارة، وركب فرس النّوبة بشعار الملك وأبهة السلطنة، وسار إلى القصر السلطانى، والأمراء وجميع أرباب الدّولة مشاة بين يديه حتى دخل إلى القصر السلطانى بقلعة الجبل، وجلس على تخت الملك، وقبّل الأمراء الأرض بين يديه على العادة، وخلع على الخليفة وعلى الأمير الكبير جانى بك الصوفى، كونه حمل القبّة والطير على رأسه، ولقّب بالملك الصالح، وفى الحال دقّت البشائر، ونودى بالقاهرة ومصر بسلطنته، وسنّه يوم تسلطن نحو العشر سنين تخمينا، وأمّه خوند بنت سودون الفقيه الظاهرى، وهى إلى الآن فى قيد الحياة، وهى من الصالحات الخيّرات، لم تتزوّج بعد الملك الظاهر ططر.
والملك الصالح [محمد] «3» هذا هو السلطان الحادى والثلاثون من ملوك الترك، والسابع من الجراكسة وأولادهم، وتمّ أمره فى السلطنة، واستقرّ الأتابك جانى بك الصوفى مدبر مملكته، وسكن بالحرّاقة من الإسطبل السلطانى بباب السلسلة، وانضمّ عليه معظم الأمراء والمماليك السلطانية، وأقام الأمير برسباى الدّقماقى الدّوادار واللّالا

(14/211)


أيضا بطبقة الأشرفية فى عدّة أيضا من الأمراء المقدّمين، أعظمهم الأمير طرباى حاجب الحجّاب، والأمير قصروه من تمراز رأس نوبة النوب، والأمير جقمق العلائى نائب قلعة الجبل وأحد مقدّمى الألوف المعروف بأخى چركس المصارع، والأمير تغرى بردى المحمودى، وأما الأمير بيبغا المظفّرى أمير سلاح، والأمير قجق أمير مجلس، والأمير سودون من عبد الرحمن وغيرهم من الأمراء صاروا حزبا وتشاوروا إلى من يذهبون، إلى أن تكلم الأمير سودون من عبد الرحمن مع الأتابك جانى بك الصّوفى، فردّ عليه الجواب بما لا يرضى، فعند ذلك تحوّل سودون من عبد الرحمن ورفقته وصاروا من حزب برسباى وطرباى على ما سنذكر مقالتهما فيما بعد، وباتوا الجميع بالقلعة وباب السّلسلة مستعدّين للقتال، فلم يتحرك ساكن، وأصبحوا يوم الاثنين خامس ذى الحجة وقد تجمّع المماليك بسوق الخيل «1» يطلبون النّفقة عليهم- على العادة- والأضحية، وأغلظوا فى القول، وأفحشوا فى الكلام حتى كادت الفتنة أن تقوم، فلا زال الأمراء بهم يترضّونهم- وقد اجتمع الجميع عند السلطان الملك الصالح- حتى رضوا، وتفرّق جمعهم.
ولما كانت الخدمة بتّ الأتابك جانى بك الصّوفى بعض الأمور، وقرىء الجيش، وخلع على جماعة، وهو كالخائف الوجل من رفقته الأمير برسباى والأمير طرباى وغيرهما.
وظهر فى اليوم المذكور أن الأمر لا يسكن إلا بوقوع فتنة، وبذهاب بعض الطائفتين؛ لاختلاف الآراء واضطراب الدّولة، وعدم اجتماع الناس على واحد بعينه، يكون الأمر متوقّفا على ما يرسم به، وعلى ما يفعله، على أن الأمير برسباى جلس فى اليوم المذكور بين يدى جانى بك الصّوفى وامتثل أوامره فى وقت قراءة الجيش.
ثم بعد انتهاء قراءة الجيش والعلامة قام بين يديه على قدميه، وشاوره فى قضاء أشغال النّاس على عادة ما يفعله الدّوادار مع السّلطان، غير أن القلوب متنافرة،

(14/212)


والبواطن مشغولة لما سيكون، ثم انفض الموكب وبات كلّ أحد على أهبة القتال.
وأصبحوا يوم الثلاثاء سادسه فى تفرقة الأضاحى، فأخذ كلّ مملوك رأسين من الضأن.
ثم تجمعوا أيضا تحت القلعة لطلب النّفقة، وأفحشوا فى الكلام على عادتهم، وتردّدت الرسل بينهم وبين الأتابك جانى بك الصّوفى، وطال النّزاع بينهم، حتى تراضوا [على] «1» أن ينفق فيهم بعد عشرة أيّام من غير أن يعيّن لهم مقدار ما ينفقه فيهم، فانفضّوا على ذلك، وسكن الأمر من جهة المماليك السّلطانية، وانفضّ الموكب من عند الأتابك جانى بك الصّوفى، وطلع الأمير برسباى الدّقماقىّ الدّوادار واللالا إلى طبقة الأشرفيّة هو والأمير طرباى والأمير قصروه، وبعد طلوعهم تكلّم [بعض] «2» أصحاب جانى بك الصّوفى معه- لمّا رأوا أمره قد عظم- فى نزول الأمراء من القلعة إلى دورهم حتى يتمّ أمره، وتنفذ كلمته، وحسّنوا له ذلك.
وقالوا له: إن لم يقع ذلك وإلا فأمرك غير منتظم؛ فمال الأتابك جانى بك الصّوفى إلى كلامهم- وكان فيه طيش وخفّة- فبعث فى الحال إلى الأمير برسباى الدقماقى أن ينزل من القلعة هو والأمير طرباى حاجب الحجّاب والأمير قصروه رأس نوبة النّوب، وأن يسكنوا بدورهم من القاهرة، ويقيم الأمير جقمق العلائى عند السلطان لا غير، فلما بلغ الأمراء ذلك أراد الأمير برسباى الإفحاش فى الجواب فنهره الأمير طرباى وأسكته، وأجاب بالسّمع والطاعة، وأنّهم ينزلون بعد ثلاثة أيّام، وعاد الرسول إلى الأتابك جانى بك الصّوفى بذلك، فسكت ولم تسكت حواشيه عن ذلك، وهم الأمير يشبك الجكمىّ الأمير آخور الكبير، والأمير قرمش الأعور الظاهرىّ وغيرهما، وعرّفوه أنهم يريدون بذلك إبرام أمره، وألحوا عليه فى أن يرسل إليهم بنزولهم فى اليوم المذكور قبل أن يستفحل أمرهم، فلم يسمع لكون أن الأمير

(14/213)


طرباى نزل فى الحال من القلعة مظهرا أنه فى طاعة الأمير الكبير جانى بك الصّوفى، وأن برسباى وقصروه وغيرهما فى تجهيز أمرهم بعده إلى النزول، فمشى عليه ذلك.
وكان أمر الامير طرباى فى الباطن بخلاف ما ظنه جانى بك الصوفى؛ فإنه أخذ فى تدبير أمره، وإحكام الأمر للأمير برسباى الدّقماقى ولنفسه، واستمال فى ذلك اليوم كثيرا من الأمراء والمماليك السلطانية، وساعده فى ذلك قلّة سعد جانى بك الصّوفى من نفور الأمراء عنه، وهو ما وعدنا بذكره من أمر سودون من عبد الرحمن مع جانى بك الصّوفى.
وقد تقدّم أن سودون من عبد الرحمن وغيره ممن تقدّم ذكرهم صاروا حزبا يحضر كلّ واحد منهم الخدمة، ثم ينزل إلى داره ليرى ما يكون بعد ذلك، ثم بدا لهم أن يكونوا من حزب جانى بك الصّوفى؛ كونه أتابك العساكر ومرشحا إلى السلطنة، بعد أن يكلّموه فى أمر، فإن قبله كانوا من حزبه، وإن لم يفعل مالوا إلى برسباى وطرباى؛ والذي يكلّموه بسببه هو الأمير يشبك الجكمىّ الأمير آخور؛ فإنهم لمّا كانوا عند قرا يوسف بالشرق ثم جاءهم أمير يشبك المذكور أيضا فارا من الحجاز خوفا من الملك المؤيّد، أكرمه قرا يوسف زيادة على هؤلاء- تعطفا من الله- والذين كانوا قبله عند قرا يوسف، هم سودون من عبد الرحمن وطرباى وتنبك البجاسىّ وجانى بك الحمزاوى، وموسى الكركرى وغيرهم.
وكل منهم ينظر يشبك المذكور فى مقام مملوكه، كونه مملوك خشداشهم جكم، فشقّ عليهم خصوصيته عند قرا يوسف وانفراده عنهم، ووقعت المباينة بينهم، ولم يسعهم يوم ذاك إلا السكات لوقته.
فلمّا مات قرا يوسف- وبعده بقليل توفى الملك المؤيّد- قدموا الجميع على

(14/214)


ططروهم فى أسوا حال، فقرّبهم ططر وأكرمهم، واختص أيضا بيشبك المذكور اختصاصا عظيما بحيث إنه ولّاه الأمير آخورية الكبرى، وعقد عقده على ابنته خوند فاطمة التى تزوّجها الملك الأشرف برسباى، فلم يسعهم أيضا إلا السكات، لعظم ميل ططر إليه.
فلما مات ططر انضم يشبك المذكور على جانى بك الصّوفى وصار له كالعضد، فعند ذلك وجد الأمراء المقال فقالوا، وركب الأمير سودون من عبد الرحمن والأمير قرمش الأعور- وهو من أصحاب جانى بك الصّوفى- وواحد «1» آخر، وأظنّه بيبغا المظفرى، ودخلوا على جانى بك الصّوفى بالحرّاقة من باب السّلسلة، ومرّوا فى دخولهم على يشبك الأمير آخور وهو فى أمره ونهيه بباب السّلسلة، فقام إليهم فلم يسلّم عليه سودون من عبد الرحمن، وسلّم عليه قرمش والآخر، وعند ما دخلوا على الأتابك جانى بك الصّوفى وسلّموا عليه وجلسوا كان متكلم القوم سودون من عبد الرحمن، فبدأ بأن قال: أنا، والأمراء نسلم عليك، ونقول لك أنت كبيرنا [ورأسنا] «2» وأغاتنا، ونحن راضون بك فيما تفعل وتريد، غير أن هذا الصبى يشبك مملوك خشداشنا جكم ليس هو منا، وقد وقع عنه قلة أدب فى حقنا ببلاد الشّرق عند قرا يوسف، ثم هو الآن أمير آخور كبير منزلته أكبر من منازلنا، ونحن لا نرضى بذلك، ثم إننا لا نريد من الأمير الكبير مسكه ولا حبسه لكونه انتمى إليه، غير أننا نريد إبعاده عنّا فيوليه الأمير الكبير بعض الأعمال بالبلاد الشاميّة، ثم نكون بعد ذلك جميعا تحت طاعة الأمير الكبير، ونقول قد عاش الملك الظاهر برقوق «3» ونحن فى خدمته، لأنّنا قد مللنا من الشتات والغربة والحروب فيطمئن كل أحد على نفسه وماله ووطنه.

(14/215)


فلما سمع جانى بك الصوفى كلام سودون من عبد الرحمن وفهمه، حنق منه واشتدّ عضبه، وأغلظ فى الجواب بكلام متحصله: رجل ملك ركن إلىّ وانضم علىّ كيف يمكننى إبعاده لأجل خواطركم؟ ثم أخذ فى الحط على خشداشيته الظاهرية [برقوق] «1» ومجيئهم لإثارة الفتن والشرور، فسكت عند ذلك سودون، وأخذ قرمش يراجعه فى ذلك ويحذّره المخالفة غير مرّة، مدلّا عليه كونه من حواشيه وهو لا يلتفت إلى كلامه، فلما أعياه أمره سكت، فأراد الآخر [أن] «2» يتكلم فأشار عليه سودون من عبد الرحمن بالسكات، فأمسك عن الكلام.
فتكلم سودون عند ذلك بباطن بأن قال: يا خوند نحن ما قلنا هذا الكلام إلا نظن أن الأمير الكبير ليس له ميل إليه، فلما تحققنا أنه من ألزام الأمير الكبير وأخصّائه فنسكت عن ذلك ونأخذ فى إصلاح الأمر بينه وبين الأمراء لتكون الكلمة واحدة، بحيث إننا نصير فى خدمته كما نكون فى خدمة الأمير الكبير، فانخدع جانى بك لكلامه وظنه [أنه] «3» على جليّته، وقال: نعم، أما هذا فيكون.
وقاموا عنه ورجع قرمش إلى حال سبيله، وعاد سودون من عبد الرحمن إلى رفقته الأمراء، وذكر لهم الحكاية برمتها، وعظم عليهم الأمر إلى أن قال لهم: تيقنوا جميعكم بأنكم تكونون فى خدمة يشبك الجكمىّ إن أطعتم جانى بك الصّوفى، فإنّ يشبك عنده مقام روحه، وربما إن تمّ له الأمر يعهد بالملك إليه من بعده، فلما سمع الأمراء ذلك قامت قيامتهم، ومالوا بأجمعهم إلى الأمير برسباى الدقماقى الدوادار الكبير والأمير طرباى حاجب الحجّاب، وقالوا: هذا تركنا ونحن خشداشيته لأجل يشبك فما عساه يفعل معنا إن صار الأمر إليه؟ لا والله لا نطيعه ولو ذهبت أرواحنا. وأخذ الجميع فى التدبير عليه فى الباطن، ولقد سمعت هذا القول من الأمير سودون من عبد الرحمن وهو يقول لى فى ضمنه: كان جانى بك الصّوفى مجنونا، أقول له: نحن بأجمعنا فى طاعتك،

(14/216)


وقد مات الملك المؤيد بحسرة أن نكون فى طاعته، فيتركنا ويميل إلى يشبك الجكمىّ وهو رجل غريب ليس له شوكة ولا حاشية- انتهى.
ولما خرج سودون من عبد الرحمن من عند جانى بك الصّوفى طلب جانى بك الصّوفى يشبك الأمير آخور المذكور، وعرّفه قول سودون من عبد الرحمن، واستشاره فيما يفعل معهم- وقد بلغه أن الأمراء تغيّروا عليه- فاتفق رأيهما على أنه يتمارض، فإذا نزل الأمراء لعيادته قبض عليهم، وافترقوا على ذلك. وباتوا تلك الليلة وقد عظم جمع طرباى وبرسباى من الأمراء والمماليك السلطانية، ولم ينضم على جانى بك الصّوفى غير جماعة من المماليك المؤيدية الصغار أعظمهم دولات باى المحمودى السّاقى.
ولما أصبح يوم الأربعاء ثامن ذى الحجة أشيع أن الأمير الكبير جانى بك الصّوفى متوعك، فتكلم الناس فى الحال أنها مكيدة حتى ينزل إليه الأمير برسباى فيقبض عليه، فلم ينزل إليه برسباى وتمادى الحال إلى يوم الجمعة عاشره وهو يوم عيد النحر.
فلما أصبح نهار الجمعة انتظر الأمير برسباى طلوع الأمير الكبير لصلاة العيد، فلم يحضر ولم يطلع، فتقدم الأمير برسباى وأخرج السلطان من الحريم وتوجّه به إلى الجامع ومعه سائر الأمراء والمماليك، فصلّى بهم قاضى القضاة الشافعى صلاة العيد، وخطب على العادة، ثم مضى الأميران برسباى وطرباى بالسلطان إلى باب السّتارة فنحر السلطان هناك ضحاياه من الغنم، وذبح الأمير برسباى ما هناك من البقر نيابة عن السلطان، ثم انفض الموكب، ونزل الأمير طرباى إلى بيته هو وجميع الأمراء وذبحوا ضحاياهم، وتوجه الأمير برسباى إلى طبقة الأشرفية، وبينما هو ينحر ضحاياه بلغه أن الأمير الكبير جانى بك الصّوفى لبس السلاح وألبس مماليكه، ولبس معه جماعة كبيرة من المؤيدية، وغيرهم، فاضطرب الناس، وأغلق باب القلعة ودقت الكؤوسات حربيا.
وكان من خبر جانى بك الصّوفى أنه لمّا تمارض لم يأت إليه أحد ممن كان أراد مسكه، فأجمع رأيه حينئذ على الركوب، وجمع له الأمير يشبك جماعة من إنياته من الماليك المؤيدية ومن أصحابهم.

(14/217)


حدثنى السّيفى جانى بك من سيدى بك البجمقدار المؤيدى، وهو أعظم إنيات يشبك الجكمى المذكور قال: لبسنا ودخلنا على الأتابك جانى بك الصّوفىّ وعنده الأمير يشبك أمير آخور وكلّمناه فى أنّه يقوم يصلّى العيد، ثم يلبس السلاح بعد الصلاة، فقال: صلاة العيد ما هى فرض علينا نتركها ونركب الآن قبل أن يبدءونا بالقتال، قال فقلت فى نفسى: بعيد أن ينجح «1» أمر هذا، قلت وقد وافق رأى جانى بك البجمقدار فى هذا القول قول من قال: «صلّ واركب ما تنكب» على أنه كان غتميّا لا يعرف ما قلته، فوقع لجانى بك الصّوفى أنه لم يصلّ وركب فنكب، ولما بلغ الأمير برسباى ركوب جانى بك الصّوفى لبس الأمير برسباى وحاشيته آلة الحرب، وتوجّه إلى القصر السّلطانى، وترامت الطائفتان بالنّشّاب ساعة فلم يكن غير قليل حتى خرج الأمير طرباى من داره فى عسكر كبير من الأمراء، وعليهم السلاح، ووقفوا تجاه باب السّلسلة، فلم يجدوا بباب السّلسلة ما يهولهم من كثرة العساكر، فأوقف الأمير طرباى بقيّة الأمراء، وسار هو والأمير قجق أمير مجلس، وطلعوا إلى باب السّلسله إلى الأمير الكبير جانى بك الصّوفى- على أنّ طرباى فى طاعته- ودخلا عليه وهو لابس، وعنده الأمير يشبك الأمير آخور، فأخذ طرباى يلومه على تأخّره عن صلاة العيد مع السّلطان، وما فعله من لبس السّلاح، وأنه يقاتل من؟! «2» [فإنّ الجميع فى طاعة السلطان و] «3» طاعة الأمير الكبير، فشكا الأمير الكبير جانى بك من الأمير برسباى الدّقماقىّ من عدم تأدّبه معه فى أمور المملكة، وأنه لا يمكن اجتماعنا أبدا فى بلد واحد، فقال له طرباى: السمع والطاعة، كلّم الأمراء فى ذلك فإنّهم فى طاعتك، فقال: وأين الأمراء، فقال ها هم وقوف تجاه باب السّلسلة، انزل أنت والأمير يشبك إلى بيت الأمير بيبغا المظفّرى أمير السلاح، واجلس به، واطلب الأمراء إلى عندك وكلمهم فيما تختار، فأخذ يشبك يقول له: كيف تنزل من باب السّلسلة إلى بيت من ليس هو معنا؟ فنهره الأمير طرباى فانقمع، ولا زال يخادع الأمير جانى بك الصّوفى حتى

(14/218)


انخدع له وقام معه هو والأمير يشبك المذكور، وركبا ونزلا من باب السّلسلة، وسارا إلى بيت الأمير بيبغا المظفّرى- وهو تجاه مصلاة المؤمنىّ- المعرف ببيت الأمير نوروز، وبه الآن جكم خال الملك العزيز، فمشى وقد تحاوطه القوم. قلت: ما يفعل الأعداء فى جاهل ما يفعل الجاهل فى نفسه.
فلمّا وصل الأمير جانى بك الصّوفىّ «1» إلى باب الدّار المذكورة ودخله بفرسه صاح الأمير أزبك المحمّدى الظاهرىّ: هذا غريم السّلطان قد دخل إلى عندكم أحترصوا عليه، وقبل أن يتكامل دخولهم أغلق الباب على جانى بك الصّوفى ومن معه فعند ذلك زاغ بصر جانى بك الصوفى، وشرع يترقّق لهم، ويقول: المروءة افعلوا معنا ما أنتم أهله، ودخلوا إلى الدّار المذكورة، وإذا بالأمير بيبغا المظفّرى عليه قميص أبيض ورأسه مكشوف، وقد أخرج يده اليمنى من طوق قميصه وهو جالس على دكّة صغيرة عند بوائك الخيل، وبين يديه منقل نار عليه أسياخ من اللّحم تشوى، وبكل «2» فيها بوزا «3» ، وعلى ركبته قوس تترى وعدّة سهام، فعند ما رأى الأمراء قام إليهم على هيئته، وقبل أن يصلوا إلى عنده ركس الأمير أزدمر شايا ثانى رأس نوبة، وأخذ خوذة الأمير يشبك الأمير آخور من على رأسه، فدمعت عينا يشبك، فشقّ ذلك على الأمير بيبغا وأخذ قوسه بيده، واستوفى عليه بفردة نشّاب ليقتله، فهرب أزدمر ودخل إلى بوائك الخيل بعد أن أوسعه بيبغا المذكور من السّب والتوبيخ، ويقول: الملك إذا نكب تروح حرمته ولو مات حرمته باقية، حتى سكن غضبه. وأنزل جانى بك الصّوفىّ ويشبك الأمير آخور، فتقدّم الأمراء وقيّدوهما فى الحال «4» وأخذا أسيرين إلى القلعة وملك الأمير برسباى باب السلسلة من غير قتال ولا مانع، فإن الأمير الكبير جانى بك

(14/219)


الصّوفىّ تركه ونزل من غير [أمر] «1» أوجب نزوله، على أنه لما ركب وأراد النزول مع طرباى قال له بعض مماليكه أو حواشيه: يا خوند، هذا باب السّلسلة الذي تروح عليه الأرواح، أين تنزل وتخليه؟ فقال له: لمصلحة نراها، فقال له: فاتتك المصلحة بنزولك، والله لا تعود إليه أبدا، فلم يلتفت إليه جانى بك وتمادى فى غيّه لقلة سعادته، ولأمر سبق، ولمقاساة نالته بعد هروبه من سجن الإسكندرية ونالت أيضا خلائق بسبب هروبه [من سجن الإسكندرية «2» ] على ما يأتى ذكر ذلك فى ترجمة الملك الأشرف برسباى- إن شاء الله تعالى.
ولمّا ملك الأمير برسباى والأمير طرباى باب السّلسلة [فى الحال] «3» نودى بالقاهرة بنفقة المماليك السلطانية، فلما سمع المماليك هذه المناداة سكنوا بإذن الله، وذهب كلّ واحد إلى داره، وفتحت الأسواق، وشرع الناس فى بيعهم وشرائهم، بعد ما كان فى ظنّ الناس أن الفتنة تطول بين هؤلاء أيّاما كثيرة؛ لأن كل [واحد] «4» منهم مالك جهة من جهات القلعة، ومع كل طائفة خلائق لا تحصى، فجاء الأمر بخلاف ما كان فى ظنهم، ويأبى الله إلّا ما أراد.
واستبدّ من يومئذ الأمير برسباى بالأمر، وبتدبير المملكة مع مشاركة الأمير طرباى له فى ذلك.
فلما كان يوم السبت حادى عشر ذى الحجة استدعى الأمير أرغون شاه النّوروزىّ الأعور وخلع عليه باستقراره أستادارا بعد عزل الأمير صلاح الدين محمد بن نصر الله، وكان أرغون شاه المذكور قد قدم إلى القاهرة صحبة الملك الظاهر ططر من دمشق.
وفيه رسم بحمل الأميرين جانى بك الصّوفىّ ويشبك الجكمىّ الأمير آخور إلى ثغر الإسكندرية، وسجنا بها.

(14/220)


ثم فى يوم الاثنين ثالث عشر ذى الحجة خلع على الأمير آق خجا الحاجب الثانى باستقراره فى كشف الوجه القبلى، ثم عملت الخدمه السلطانية فى يوم الخميس سادس عشره بالقصر السلطانى، وحضر الخليفة والقضاة الموكب، فخلع على الأمير برسباى الدّقماقىّ الدّوادار الكبير واللالا باستقراره نظام الملك ومدبّر المملكة، كما كان الملك الظاهر ططر فى دولة الملك المظفر أحمد بن [المؤيد] «1» شيخ عوضا عن جانى بك الصوفى، وخلع على الأمير طرباى حاجب الحجاب باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن جانى بك الصوفى أيضا، وخلع على الأمير سودون من عبد الرحمن باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن برسباى الدّقماقى، وخلع على الأمير قصروه من تمراز رأس نوبة النّوب باستقراره أمير آخور كبيرا عوضا عن يشبك الجكمى، وخلع على الأمير جقمق العلائى «2» نائب القلعة باستقراره حاجب الحجاب عوضا عن طرباى، وعلى الأمير أزبك المحمدىّ باستقراره رأس نوبة النّوب عوضا عن قصروه.
ثم فوض الخليفة المعتضد بالله للأمير برسباى الدّقماقىّ نظام الملك أمور الدولة بأسرها، ليقوم بتدبير ذلك عن السلطان الصالح محمد إلى أن يبلغ رشده، وحكم بصحة ذلك قاضى القضاة زين الدين عبد الرحمن التّفهنى الحنفىّ؛ ومع هذا كله تقرر الحال على أن يكون تدبير الدولة وسائر أمور المملكة بين الأمير برسباى وبين الأمير طرباى، وأن يسكن الأمير برسباى بطبقة الأشرفية على عادته، ويسكن الأمير طرباى الأتابك بداره تجاه باب السّلسلة، وهو بيت قوصون «3» ، وأنّ طرباى يحضر الخدمة عند الأمير برسباى بالأشرفية، وانفض الموكب، وخرج جميع الأمراء وسائر أرباب الدّولة من الخدمة السلطانية بالقصر مشاة فى خدمة الأمير برسباى نظام الملك حتى دخل الأشرفيّة التى صارت سكنه من يوم مات الملك الظاهر ططر، وعملت بها الخدمة ثانيا بين يديه، وصرّف أمور الدولة على حسب اختياره ومقتضى رأيه،

(14/221)


واستمر على هذا، فعند ذلك كثر تردد الناس إلى بابه لقضاء حوائجهم، وعظم وضخم.
ولما كان يوم ثامن عشر ذى الحجة [المذكورة] «1» ورد الخبر بأن الأمير تغرى بردى المؤيّدىّ نائب حلب خرج عن طاعة السلطان، وقبض على الأمراء الحلبيّين، واستدعى التّركمان والعربان، وأكثر من استخدام المماليك.
وسبب خروجه عن الطاعة أنّه بلغه أن الملك الظّاهر ططر عزله، وأقرّ عوضه فى نيابة حلب الأمير تنبك البجاسىّ نائب طرابلس، فلما تحقّق ذلك خرج عن الطّاعة وفعل ما فعل، فشاور الأمير برسباى الأمراء فى أمره، فوقع الاتفاق على أن يكتب للأمير تنبك البجاسىّ بالتوجّه إليه وصحبته العساكر وقتاله، وأخذ مدينة حلب منه، وباستقراره فى نيابتها كما كان الملك الظّاهر ططر أقرّه، وكتب له بذلك.
ثم فى يوم ثالث عشرين ذى الحجّة: خلع الأمير برسباى على القاضى صدر الدين أحمد بن العجمى باستقراره فى حسبة القاهرة على عادته، بعد عزل قاضى القضاة جمال الدين يوسف البساطى.
ثم فى يوم سابع عشرينه ابتدأ الأمير برسباى نظام الملك فى نفقة المماليك السلطانية، وهو والأمراء على تخوّف من المماليك السّلطانية أن يمتنعوا من أخذها؛ وذلك أنّهم وعدوا المماليك فى نوبة الأمير الكبير جانى بك الصّوفى لكل واحد بمائة دينار، فلم يصرّ لكل واحد سوى خمسين دينارا من أجل قلّة المال؛ فإن الملك الظاهر ططر فرّق الأموال التى خلّفها الملك المؤيد [شيخ] «2» جميعها، حتى إنه لم يبق منها بالخزانة السّلطانية غير ستين ألف دينار، ومع ما فرّقه من الأموال زاد فى جوامك المماليك بالدّيوان المفرد فى كل شهر ما ينيف على عشرة آلاف دينار، ولذلك استعفى صلاح الدين بن نصر الله من وظيفة الأستاداريّة، بعد أن قام هو وأبوه الصاحب بدر الدين

(14/222)


حسن بن نصر الله ناظر الخواصّ الشريفة بعشرة آلاف دينار فى ثمن الأضحية، وبعشرين ألف دينار مساعدة فى نفقة المماليك السلطانية، ثم تقرّر على كلّ من مباشرى الدّولة شىء من الذّهب حتى تجمع من ذلك كلة نفقة المماليك.
ولما جلس السلطان والأمراء لنفقة المماليك أخذ الأمير برسباى نظام الملك الصّرّة من النفقة بيده، وكلّم المماليك السلطانية بما معناه: إن الملك الظاهر ططر لم يدع فى بيت المال من الذّهب سوى ما هو كيت وكيب، وأنّهم عجزوا فى تحصيل المال لتكملة النفقة، ولم يقدروا إلا على هذا الذي تحصّل معهم، ثم وعدهم بكلّ خير، وأمر كاتب المماليك فاستدعى اسم أوّل من هو بطبقة الرّفرف «1» ، وكانت المماليك قبل أن يدخلوا الحوش السّلطانى اتفقوا على أنه إذا استدعى كاتب المماليك اسم أحد فلا يخرج إليه، ولا يأخذ النفقة إلا إن كانت مائة دينار، وتوعّدوا من أخذ ذلك بالقتل والإخراق، فلمّا استدعى كاتب المماليك اسم ذلك الرجل خرج بعد أن سمع كلام الأمير [برسباى] «2» نظام الملك من العذر الذي أبداه، وقال: إن أعطانا السلطان كفّ تراب أخذناه، فشكره نظام الملك على ذلك، ورمى له الصّرّة فأخذها، وقبّل الأرض وخرج، ولم يجسر أحد على أن يكلّمه الكلمة الواحدة بعد ذلك التهديد والوعيد، ثم صاح كاتب المماليك باسم غيره فخرج وأخذ، وتداول ذلك منه وكل من استدعى «3» اسمه خرج وأخذ إلى آخرهم، فأخذ الجميع النفقة، وانفضّوا بغير شرّ.
قلت: وهذه عادة المماليك يطلعون من ألف وينزلون إلى درهم، وكان الذي أخذ النفقة فى هذه النّوبة ثلاثة آلاف ومائتى مملوك، والمبلغ مائة وستّين ألف دينار.

(14/223)


ثم فى يوم الخميس تاسع عشرين ذى الحجة قدم مبشّر الحاج، وأخبر بسلامة الحاج، وأن الوقفة كانت يوم الجمعة.
ثم فى يوم الأحد ثالث المحرّم من سنة خمس وعشرين وثمانمائة ورد الخبر إلى الدّيار المصريّة بفرار الأمير تغرى بردى المؤيّدى المعروف بأخى قصروه نائب حلب منها، بعد وقعة كانت بينه وبين تنبك البجاسىّ المنتقل عوضه إلى نيابة حلب، فدقّت البشائر لذلك.
وكان من خبر تنبك البجاسىّ المذكور أنه لمّا قدم على الملك الظاهر ططر من بلاد الشّرق مع من قدم من الأمراء- وقد تقدّم ذكرهم فى عدّة مواضع- ولّاه نيابة حماة كما كان أوّلا فى دولة المؤيد [شيخ] «1» ، ثم خرج الملك الظاهر ططر من دمشق يريد الديار المصريّة بعد ما رسم بانتقاله من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس، فلما بلغ تنبك البجاسىّ ذلك وهو بحماة ركب الهجن من وقته، وساق خلف الملك الظاهر ططر إلى أن أدركه بالغور، فنزل وقبّل الأرض بين يديه، ولبس التّشريف بنيابة طرابلس عوضا عن الأمير أركماس الجلبّانىّ، ثم خرج وسار إلى جهة ولايته، وقبل أن يسافر الأمير تنبك المذكور أسرّ له الأمير برسباى الدّقماقىّ الدّوادار الكبير بأن الملك الظاهر [ططر «2» ] يريد توليته نيابة حلب عوضا عن تغرى بردى المؤيّدى- وكان بينهما صداقة؛ أعنى بين برسباى الدّقماقى وبين تنبك البجاسىّ، ثم أمره برسباى أن يكتم ذلك لوقته، وكان ذلك فى شهر رمضان، فاستمرّ تنبك فى نيابة طرابلس إلى يوم عرفة من السّنة فورد عليه مرسوم شريف من الملك الظّاهر [ططر] «3» بنيابة حلب عوضا عن تغرى بردى المؤيّدى المعروف بأخى قصروه بحكم عصيانه، وبالتوجّه لقتال تغرى بردى المذكور، فخرج تنبك

(14/224)


من طرابلس بالعساكر فى رابع عشر ذى الحجة من سنة أربع وعشرين [وثمانمائة] «1» إلى ظاهر طرابلس، وأقام يتجهز بالمكان المذكور إلى سادس عشر ذى الحجة، وبينما هو فى ذلك ورد عليه الخبر بموت الملك الظاهر ططر، فأمسك عند ذلك الأمير تنبك [البجاسىّ] «2» عن المسير إلى حلب حتى ورد عليه مرسوم الملك الصالح محمد ابن الملك الظاهر ططر باستمراره على نيابة حلب، وصحبة المرسوم الخلعة والتشريف بنيابة حلب، وبالمسير إلى حلب، فسار إليها لإخراج تغرى بردى منها، وعند مسيره إلى جهة حلب وافاه الأمير إينال النّوروزىّ نائب صفد بعسكرها، وتوجّه الجميع إلى حلب، فلما سمع تغرى بردى بقدومهم فرّ من حلب قبل أن يقاتلهم، وتوجّه نحو بلاد الرّوم، وقيل قاتلهم وانكسر، وسار الأمير تنبك البجاسىّ خلفه من ظاهر حلب إلى الباب «3» فلم يدركه، ورجع إلى حلب وأقام بها إلى ما يأتى ذكره.
وفى رابع عشرين المحرّم قدم أمير حاج المحمل بالمجمل، وهو الأمير تمرباى اليوسفىّ المؤيدى المشدّ كان، وهو يومئذ من جملة أمراء الألوف بالديار المصرية، وقد كثر ثناء الناس عليه بحسن سيرته فيهم، فخلع عليه ونزل إلى داره، فلما كان يوم الخميس ثامن عشرين المحرم طلع المذكور إلى الخدمة السلطانية، فقبض عليه وعلى الأمير قرمش الأعور الظاهرىّ برقوق أحد مقدمى الألوف، وكان قرمش أحد أعيان أصحاب جانى بك الصوفىّ، وأخرج هو وتمرباى إلى ثغر دمياط، وأنعم على الأمير يشبك الساقى الظاهرى الأعرج بإمرته دفعة واحدة من الجندية.
وكان من خبر قرمش هذا مع الأمير برسباى الدّقماقى أن الأمير الكبير جانى بك الصوفى، لما صار أمر المملكة إليه بعد موت الملك الظاهر ططر أمره بالجلوس بباب السّتارة ليكون عينا على الأمير برسباى الدّقماقى، فأخذ الأمير برسباى [الدّقماقى] «4»

(14/225)


يستميله بكل ما وصلت القدرة إليه، فلم يقدر يحوّله عن جانى بك الصوفى، واعتذر بأنه ربّاه فى بلاد الچركس، وأنه كان يحمل جانى بك الصوفى على كتفه، فكيف يمكنه مفارقته؟ فلمّا وقع من أمر جانى بك الصوفى ما وقع، وتمّ أمر الأمير برسباى الدقماقى التفت إلى قرمش، وأخرج إقطاعه، ونفاه إلى دمياط لما كان فى نفسه منه.
ثم فى يوم الاثنين ثانى صفر أمسك الأمير الكبير برسباى الأمير أيتمش الخضرى الظاهرى أحد أمراء العشرات، ونفاه إلى القدس بطّالا «1» .
ثم فى يوم الأربعاء ثامن عشر صفر جمع الأمير الكبير برسباى الدقماقى الصّيارف بالإصطبل السلطانى للنظر فى الدّراهم المؤيدية، فإنه كثر هرش الدراهم منها، ومعنى الهرش أن يبرد من الدّرهم الذي زنته نصف درهم حتى يخفّ ويصير وزنه ربع درهم، فأضرّ ذلك بحال الناس، فأمر الأمير الكبير بإبطال المعاملة بالعدد، واستقرت المعاملة بها وزنا لا عددا، ورسم بأن يكون وزن الدرهم منها بعشرين درهما فلوسا، وأن يكون الدينار الإفرنتىّ بمائتين وعشرين درهما فلوسا، وبأحد عشر درهما من الفضة الموازنة، فشقّ ذلك على الناس كونهم كانوا يتعاملون بالفضة معاددة فصارت الآن بالميزان، واحتاج كل بائع أن يأخذ عنده ميزانا وتشكّوا من ذلك، فلم يلتفت الأمير برسباى إلى كلامهم وهدّدهم، فمشى الحال.
وفى هذا الشهر ابتدأت الوحشة بين الأمير برسباى الدقماقى نظام الملك وبين الأمير الكبير طرباى أتابك العساكر، وتنكر الحال بينهما فى الباطن، وسببه أن الأمير طرباى شقّ عليه استبداد الأمير برسباى الدقماقى بأمور المملكة وحدة، وتردّد الناس إلى بابه، وخاف إن دام ذلك ربما يصير من أمر برسباى ما أشاعه الناس، وكان طرباى يقول فى نفسه: إنه هو الذي مهّد الديار المصرية، ودبّر على قبض جانى بك الصوفى حتى كان من أمره ما كان، ولولاه لم يقدر برسباى على جانى بك الصوفى ولا غيره، وكان الاتفاق بينهما أن يكون أمر المملكة بينهما نصفين بالسّويّة لا يختص أحدهما عن الآخر بأمر

(14/226)


من الأمور، وكان الأمير طرباى فى الأصل من يوم مات الملك الظاهر برقوق «1» متميّزا على برسباى، ويرى أنه هو الأكبر والأعظم فى النّفوس، وأنه هو الذي أقام برسباى فى هذه المنزلة من كونه استمال المماليك السلطانيّة إليه، ونفّرهم عن الأمير الكبير جانى بك الصوفى حتى تمّ له ذلك، وأنه هو الذي خدع جانى بك الصوفى حتى أنزله من باب السلسلة، وقام مع الأمير برسباى إلى أن رضيه الناس بأن يكون مدبّر المملكة، كل ذلك ليكون برسباى تحت أوامره، ولا يفعل شيئا إلا بمشاورته؛ فلما رأى طرباى أن الأمر بخلاف ما أمّله ندم على ما كان من أمره فى حقّ جانى بك الصوفى حيث لا ينفعه النّدم، وتكلّم مع حواشيه فيما يفعله مع الأمير برسباى، وكان له شوكة كبيرة من خشداشيته المماليك الظاهرية [برقوق] «2» وغيرهم، فأشاروا عليه أن ينقطع عن طلوع الخدمة أياما لينظروا فيما يفعلونه، وكان طرباى مطاعا فى خشداشيته ولهم فيه «3» محبة زائدة، وتعصّب عظيم له على برسباى، فاغترّ طرباى بكلامهم، وعدى بمماليكه إلى برّ الجيزة حيث هو مربط خيوله على الرّبيع كالمتنزّه، وأقام به بقيّة صفر.
وأما الأمير برسباى لما علم أن الأمير طرباى توغّر خاطره منه، وعلم أنه لا يتم له أمر مع وجوده، أخذ يدبر عليه فيما يفعله معه حتى يمكنه القبض عليه، ثم يفعل ما بدا له، هذا وقد انضم عليه جماعة كبيرة من أمراء الألوف، أعظمهم الأمير سودون من عبد الرحمن الدّوادار الكبير، والأمير قصروه من تمراز رأس نوبة النّوب، والأمير يشبك الساقى الأعرج- وكان أعظمهم دهاء ومعرفة، وله دربة بالأمور- والأمير تغرى بردى المحمودى الناصرى وغيرهم، وباقى الأمراء هم أيضا فى خدمة الأمير برسباى فى الظاهر، غير أنهم فى الباطن جميعهم مع طرباى، ولكنهم حيثما ما أمكنهم الكلام مع برسباى أو طرباى قالوا له: أنت خشداشنا وأغاتنا؛ لأن كليهما من مماليك برقوق، بهذا المقتضى صار الأمير برسباى لا يعرف من هو معه من خشداشيته الظاهرية،

(14/227)


ولا من هو عليه غير من ذكرنا من الأمراء؛ فإنهم باينوا طرباى، وانضموا على برسباى ظاهرا وباطنا.
فلما علم برسباى أن هؤلاء الأمراء معه حقيقة قوى قلبه بهم، وألقى مقاليد أمر طرباى فى رقبة الأمير يشبك السّاقى الأعرج أن ينزل إليه، ويعمل جهده فى طلوعه إلى الخدمة السلطانية، ثم سلّط أيضا جماعة أخر على الأمير طرباى يحسّنون له الحضور من الربيع، هذا مع ما يقوى جأشه الأمير تغرى بردى المحمودى فى الإقدام على طرباى ويهوّن عليه أمره، والأمير برسباى يجبن عن ذلك حتى استهل شهر ربيع الأوّل.
فلما كان يوم الثلاثاء ثانية قدم الأمير الكبير طرباى من الربيع، ونزل بداره تجاه باب السلسلة، وتردّد إليه الأمير يشبك الساقى الأعرج، وحسّن له الطلوع بأن قال له: إن كل خشداشيته من الظاهرية [برقوق] «1» معه، وأنهم لا يؤثرون عليه أحدا، وأنه بطلوعه يستفحل أمره، وبعدم طلوعه ربما يجبّن ويضمحلّ أمره؛ فإن الناس مع القائم، وإذا حضرت أنت تلاشى أمر برسباى، وهوّن عليه أمر برسباى، ولا زال به حتى انخدع له وأذعن بالطلوع.
فلما أصبح يوم الأربعاء ثالثه أمسك الأمير برسباى الأمير سودون الحموىّ أحد أمراء الطلبخانات، والأمير قانصوه النّوروزىّ أحد أمراء الطبلخانات أيضا، وكانا من [جملة] «2» أصحاب طرباى، فعظم ذلك على طرباى، وقامت قيامة أصحابه وحذّروه عن الطلوع فى غده- فإنه كان قرّر مع الأمير يشبك الأعرج الطلوع إلى الخدمه فى يوم الخميس رابعه- فلما وقع مسك هؤلاء نهاه أصحابه عن الطلوع، فأبى إلّا الطلوع ليتكلّم مع الأمير برسباى بسبب مسكه لهؤلاء ويطلقهما منه، فألحوا عليه فى عدم الطلوع، وأكثروا من ذلك، وهو لا يصغى إلى قولهم، وفى ظنه أن

(14/228)


الأمير برسباى لا ينهض بأمر يفعله فى حقه، وأيضا لا يقابله بسوء لماله عليه من الإيادي قديما وحديثا.
فلما أصبح نهار الخميس رابع شهر ربيع الأوّل ركب الأمير الكبير طرباى من داره ومعه جماعة كبيرة من حواشيه، وطلع إلى القلعة، وكان لقلة سعده غالب من هو معه من خشداشيته رءوس نوب، ليس فى أوساطهم سيوف، فما هو إلا أن دخل فى «1» الخدمة، واستقرّ به الجلوس فى منزلته وقرىء الجيش «2» على السّلطان، وانتهت العلامة «3» ، وأحضر السّماط وقام الجميع على أقدامهم، أبتدأ الأمير [الكبير] «4» برسباى الدّقماقى نظام الملك بأن قال: الحال ضائع، والكلمة متفرّقة، وأحوال الناس متوقّفة لعدم اجتماع الناس على كبير يرجع إليه فيما يرسم به، ولابدّ للناس من كبير يرجع إليه فى أمور الرّعية، فأجابه فى الحال- قبل أن يتكلّم طرباى- الأمير قصروه رأس نوبة النّوب، وقال: أنت كبيرنا ومع وجودك من يكون خلافك؟ افعل ما شئت، فقال الأمير برسباى عند ذلك: اقبضوا على هذا وعنى الأمير الكبير طرباى، فلما سمع طرباى ذلك جذب سيفه ليدفع عن نفسه، وأراد القيام فسبقه الأمير برسباى نظام الملك، وضربه بالسيف ضربة جاءت فى يده كادت تبينها- وهى على ظاهر كفه حيث كان قابضا بها على سيفه- ثم بادره الأمير قصروه وأعاقه عن تمام القيام، وتقدّم إليه الأمير تغرى بردى المحمودىّ وقبض عليه من خلفه كالمعانق له، وحمل من وقته إلى أعلى القصر، وقيّد فى الحال، وقد تضمّخ بدمه، ووقعت الهجّة بالقصر، وتسللت

(14/229)


السيوف من حواشى طرباى بعد أن فات الأمر وقد خطف الأمير برسباى التّرس الفولاذ من يد السلطان الملك الصالح محمد وتترّس به، وأعطى ظهره إلى الشّباك وسيفه مسلول بيده فلم يجسر أحد على التقدّم إليه لكثرة حاشيته، ولقوة شوكته، ثم سكتت الهجّة فى الحال، وردّ كلّ واحد من أصحاب طرباى سيفه إلى غمده عندما رأوا أن الأمر فاتهم، وقالوا: نحن من أصحاب برسباى، فعرف برسباى الجميع ولم يؤاخذ أحدا منهم بعد ذلك، وتكسّر بعض صينىّ مما كان فيه الطعام للسّماط السلطانى لضيق المكان، فإن الحركة المذكورة كانت بالقصر الصغير السلطانى «1» حيث فيه الشرابخاناه، وطلب الأمير برسباى فى الحال المزيّن وأرسله إلى طرباى فخاط جراحه بعد ما قيّده، ثم أصبح من الغد حمله إلى الإسكندرية فسجن بها، إلى أن أطلقه فى أيّام سلطنته حسبما نذكره فى محلّه فى ترجمد الملك الأشرف برسباى إن شاء الله تعالى.
وخلا الجوّ للأمير برسباى بمسك الأمير طرباى هذا.
قلت: وكان فى أمر الأمير طرباى هذا عبرة لمن اعتبر، وهو أن طرباى لا زال بجانى بك الصّوفىّ حتى خدعه وغدر به عند ما أنزله من الحرّاقة بباب السّلسلة وتحيّل عليه حتى قبضه وحمله مقيّدا إلى سجن الإسكندرية وسجن بها، وقد ظنّ أن الأمر صفا له وأنه لا يعدل عنه إلى غيره لاستخفافه بالأمير برسباى فأتاه الله من حيث لم يحتسب، وعمل عليه الأمير برسباى حتى خدعه وأطلعه إلى القلعة، وصار فى يده بعد ما امتنع ببرّ الجيزة أيّاما، والناس تترقّب حركته ليكونوا فى خدمته، وفى قتال عدوّه، إلى أن عدّى من برّ الجيزة ومشى لحتفه بقدميه، فكان حاله فى ذلك كقول الإمام أبى الفتح البستىّ حيث قال [رحمه الله تعالى] «2» .
أرى قدمى أراق دمى وإن كان طرباى لم يهلك- فى هذه- الموتة المكتوبة فقد مات معنى، وحمل

(14/230)


إلى الإسكندرية، فأدخل به عند أخصامه الأمير الكبير جانى بك الصّوفىّ وغيره.
قلت: لتجزى كلّ نفس بما كسبت.
ولما تمّ أمر الأمير برسباى فيما أراد من القبض على الأمير طرباى والاستبداد بالأمر أخرج الأمير سودون الحموىّ منفيا إلى ثغر دمياط، ثم أخذ فى إبرام أمره ليترقّى إلى أعلى المراتب، فلم يلق فى طريقه من يمنعه من ذلك، وساعده فى ذلك موت الأمير حسن بن سودون الفقيه خال الملك الصالح محمد هذا فى يوم الجمعة ثالث عشر صفر؛ فإنه كان أحد مقدمى الألوف وخال السلطان الملك الصالح، وسكناه بقلعة الجبل، وكان جميع حواشى الملك الظاهر ططر يميلون إليه فكفى الأمير برسباى همّه أيضا بموته، فلما رأى برسباى أنه ما ثمّ عنده مانع يمنعه من بلوغ غرضه بالديار المصرية، خشى عاقبة الأمير تنبك ميق نائب الشّام، وقال لا بدّ من حضوره ومشورته فيما نريد نفعله، فندب لإحضاره الأمير ناصر الدين محمدا بن الأمير إبراهيم ابن الأمير منجك اليوسفىّ فحضر، فخرج المذكور مسرعا من الديار المصرية إلى دمشق لإحضار [الأمير] «1» تنبك المذكور، وأخذ الأمير برسباى فيما هو فيه من عمل مصالح الناس وتنفيذ الأمور، فرسم بإحضار الأمير أيتمش الخضرى من القدس «2» .
ثم فى يوم الاثنين ثانى عشرين شهر ربيع الأوّل أمسك الأمير الطواشىّ مرجان الهندى الزّمّام المعروف بالخازندار، وسلمه للأمير أرغون شاه النّوروزىّ الأعور الأستادار ليصادره، ويستخلص منه الأموال، وطلب الأمير الطواشىّ كافور الرومىّ الصّرغتمشىّ وخلع عليه باستقراره زمّاما على عادته أوّلا، ثم قدم أيتمش الخضرى إلى القاهرة «3» فرسم له الأمير برسباى بلزوم داره بطّالا، واستمر مرجان عند الأمير أرغون شاه المذكور إلى أن قرّر عليه حمل عشرين ألف دينار فحملها، وضمنه جماعة أخر فى حمل عشرة آلاف دينار أخرى، وأطلق فى يوم الأربعاء ثامن عشر شهر ربيع الآخر.

(14/231)


ثم فى سادس عشر [شهر] «1» ربيع الآخر المذكور قدم الأمير تنبك ميق نائب الشام إلى الديار المصرية، بعد أن تلقّاه جميع أعيان الدولة، وطلع إلى القلعة، فخرج الأمير الكبير برسباى لتلقّيه خارج باب القصر السلطانى، ونثر على رأسه خفايف الذّهب والفضة، وعاد معه إلى داخل القصر بعد أن اعتذر له عن عدم نزوله إلى تلقّيه مخافة من المماليك الأجلاب، فقبل الأمير تنبك عذره، ثم قدّمت خلعة جليلة فلبسها الأمير تنبك [نائب الشام «2» ] المذكور وهى خلعة الاستمرار له على نيابة دمشق على عادته، ثم خلا به الأمير برسباى وتكلّم معه واستشاره فيمن يكون سلطانا؛ لأن الديار المصرية لابد لها من سلطان تجتمع الناس على طاعته، ثم قال له: وإن كان ولابد فيكون أنت، فإنك أغاتنا وكبيرنا وأقدمنا هجرة، فاستعاذ الأمير تنبك من ذلك وقام فى الحال، وقبّل الأرض بين يديه وقال: ليس لها غيرك، فشكر له الأمير برسباى على ذلك، ثم اتّفق جميع الأمراء على سلطنته، وخلع الملك الصالح محمد من السّلطنة، فوقع ذلك فى يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر [من] »
سنة خمس وعشرين وثمانمائة حسبما يأتى ذكره فى أوّل ترجمة الملك الأشرف برسباى.
قلت: وكما تدين تدان جوزى الملك الظاهر ططر فى ولده كما فعل [هو] «4» بابن الملك المؤيد [شيخ] «5» الملك المظفر أحمد، غير أن الأمير ططر كانت له مندوحة بصغر ابن الملك المؤيد [شيخ] «6» من أنه كان [بقى] «7» لبلوغه الحلم سنين طويلة، وأما الملك الصالح هذا فكان مراهقا، غير أنهم احتجوا أيضا بأنه كان فى عقله شىء شبه الخلل.
قلت: وإن توقّف الأمر على أنّ كلّ واحد من هؤلاء يخلع بأمر من الأمور، ويكون ذلك حجّة لمن خلعه، فيلزم الخالع من ذلك أمور كثيرة لا يطيق التخلّص منها أبدا، ليس لإبدائها هنا محلّ، وقد دار هذا الدّور على أناس أخر بعدهما، والكأس ممزوج لمن

(14/232)


يشربه من يد ساقيه، كما جرت به العادة؛ والعادة لها حكم، وهى تثبت عند الشافعية بمرّة واحدة- انتهى.
ولمّا خلع الملك الصالح من السلطنة أدخل إلى أمّه خوند بنت سودون الفقيه ببعض الدّور السلطانية، ودام بها سنين عديدة من غير ترسيم ولا حرج حتى إنه بعد سنين صار يركب وينزل صحبة الناصرى محمد ابن السلطان الملك الأشرف برسباى إلى القاهرة من غير أن يحتفظ به أحد، وحضر معه مرّة مأتم والدته خوند زوجة الملك الأشرف بالمدرسة الأشرفية بخط العنبريّين «1» ، وجلسا فى الملأ بصدر المدرسة، فتعجّب الناس من ذلك غاية العجب؛ كون الملك الصالح المذكور كان سلطانا ثمّ خلع من الملك وبعد مدّة يسيرة صار يركب وينزل إلى القاهرة، ودام الملك الصالح [محمد] «2» بقلعة الجبل سنين حتى بلغ الحلم، وزوّجه الملك الاشرف [برسباى] «3» بابنة الأتابك يشبك السّاقى الأعرج، ودامت معه حتى مات عنها فى الطاعون بقلعة الجبل فى ليلة الخميس ثامن عشرين جمادى الآخرة من سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، وهو فى حدود العشرين سنة من العمر تخمينا، وكان أهوج وعنده بعض بله وسذاجة، مع خفّة وسرعة حركة، وسلامة باطن، وعدم تجمّل فى ملبسه، ولم يكن عنده شىء من الكبر والتّرفّع ولم يتأسّف على الملك أبدا، وكان غالب حواشى الملك الأشرف [برسباى] «4» يسمّونه فى وجهه سيدى محمد، ويصيحون له بذلك، ومما ينسب إليه من السّذاجة أنّه ركب مرة فرسا ثم طلبه ثانيا فقال: هاتوا فرسى الأبيض، فنهره بعض حواشيه وقال [له] «5» :
لم لا تقول فرسى البوز، ثم أتى بعد ذلك بمشروب من السّكّر فقال: ما أشرب إلّا فى سلطانيتى البوز، فنهره ذلك الرّجل بعينه وقال [له] «6» : لم لا تقول سلطانيّتى البيضاء،

(14/233)


فقال: والله تحيرّت بينكم، تارة تقولون لا تقل أبيض وقل بوز، وتارة تقولون بالعكس، كيف يكون عملى معكم؟ وله أشياء من ذلك كثيرة، على أنه كان يحفظ القرآن، ويعرف بلسان الچاركسى، ولبلوهيّته حلاوة وطلاوة مع خفّة روح- انتهى والله تعالى أعلم.

(14/234)


السنة التى حكم فيها أربعة سلاطين
وهى سنة أربع وعشرين وثمانمائة.
حكم فى أوّلها إلى يوم الاثنين ثامن المحرّم الملك المؤيدّ شيخ، ثم ابنه الملك المظفّر أحمد إلى تاسع عشرين شعبان، ثمّ الملك الظاهر ططر إلى رابع ذى الحجة، ثمّ ابنه الملك الصالح محمد إلى آخرها وإلى [شهر ربيع الآخر] «1» من سنة خمس وعشرين وثمانمائة.
وفيها- أعنى سنة أربع وعشرين وثمانمائة- توفّى الأمير زين الدين فرج ابن الأمير شكر باى الطاهرىّ أحد أمراء العشرات وخواصّ الملك المؤيدّ شيخ فى رابع صفر بعد مرض طويل، وكان شابّا مليح الشكل، بهىّ المنظر، متجمّلا فى ملبسه ومركبه، ولم يبلغ من العمر خمسا وعشرين سنة- فيما أظنّ- وكان الملك المؤيدّ [شيخ] «2» ربّاه واختصّ به، فلما تسلطن رقّاه وأمّره.
وتوفّى القاضى بهاء الدين محمد ابن بدر الدين حسن بن عبد الله المعروف بالبرجىّ «3» فى يوم الخميس عاشر صفر عن ثلاث وسبعين سنة، بعد أن ولى حسبة القاهرة غير مرّة، ووكالة بيت المال ونظر الكسوة، وباشر عمارة الجامع المؤيّدىّ، وكان من أصحاب الملك الظاهر ططر.
وتوفّى علم الدين سليمان بن جنيبة رئيس الأطبّاء فى سادس عشرين صفر، وقد أناف على ثمانين سنة، وكان أبوه يهوديّا ثم أسلم، ونشأ سليمان هذا مسلما.
وفيها قتل الأمير يشبك بن عبد الله اليوسفىّ المؤيّدىّ نائب حلب فى واقعة كانت بينه وبين الأمير ألطنبغا القرمشىّ الأتابك بظاهر حلب فى يوم الثلاثاء ثالث عشرين المحرّم.

(14/235)


قال المقريزى: وكان غير مشكور السّيرة ظالما عسوفا مع كبر وجبروت، فأراح الله منه.
وفيها قتل الأمير الكبير سيف الدين «1» ألطنبغا بن عبد الله القرمشىّ الظاهرىّ أتابك العساكر بالديار المصريّة فى خامس عشر «2» جمادى الأولى بقلعة دمشق بسيف الأمير ططر حسبما تقدّم ذكر القبض عليه، وكان القرمشىّ من محاسن الدنيا لما اشتمل عليه من السؤدد، وكان أصله من مماليك الظاهر برقوق، وترقى فى الدّولة الناصرية [فرج] «3» إلى أن صار من جملة أمراء البلاد الشاميّة، ثمّ انضم على الأمير شيخ ولم يبرح عنه فى السّرّاء «4» والضراء إلى أن ملك الديار المصريّة، فولاه نيابة صفد، ثم الأمير آخوريّة الكبرى، ثم نقله إلى الأتابكية بديار مصر بعد انتقال ألطنبغا العثمانى إلى نيابة دمشق بعد خروج قانى باى المحمدى عن الطاعة، فدام على ذلك إلى أن جرّده الملك المؤيّد [شيخ] «5» إلى البلاد الشاميّة وصحبته جماعة من مقدّمى الألوف تقدّم ذكرهم فى عدّة مواضع من ترجمة الملك المظفّر [أحمد] «6» والملك الظاهر ططر، ولمّا أشرف الملك المؤيّد [شيخ] «7» على الموت عهد لولده أحمد بالملك وجعل القرمشىّ هذا أتابكه لثقته به من أنّه كان يفعل مع ولده كما فعل الأتابك يلبغا العمرىّ مع أولاد السلاطين، ولم يتسلطن أبدا؛ فإنه كان من جنس يلبغا- أعنى أنه كان تركىّ الجنس- فوثب الأمير ططر على الأمر حسبما حكيناه، وخرج بالملك المظفّر أحمد إلى دمشق، فأطاعه القرمشىّ المذكور وقد قنع بأن يكون فى نيابة دمشق فلم يكذّب ططر الخبر وقبض عليه من وقته وحبسه بقلعة دمشق ثم قتله.
قلت: أمّا القبض عليه فيمكن ططر الاعتذار عنه، وأما قتله فلا أقبل له فيه عذرا؛

(14/236)


فإنه كان يمكنه حبسه إلى الأبد كما فعل ذلك بعدّة من الملوك، فإنه كان عاقلا ساكنا عديم الشّر ليّن الجانب متواضعا كريما حشيما، ولم يكن فيه ما يعاب، غير أنه كان من غير جنس القوم لا غير.
وتوفّى الأمير الوزير المشير بدر الدين حسن ابن محبّ الدين عبد الله الطرابلسىّ تحت العقوبة- فى سابع عشر جماد الآخر بدمشق- بأمر الأمير الكبير ططر، وكان أبو بدر الدين هذا من مسالمة نصارى طرابلس وبها ولد بدر الدين هذا ونشأ، وتعانى قلم الدّيونة «1» ، وتولى شدّ الدواوين بها، ثم غير زيّه، وولى كتابة سرّ طرابلس، ثمّ تعلّق بخدمة الملك المؤيّد شيخ المحمودى لمّا ولى نيابة طرابلس وعمل أستاداره، وغيّر زيّه ولبس زىّ الأمراء، ودام فى خدمته إلى أن تسلطن وولاه الأستادارية ثم الوزر، ثم نيابة الإسكندرية، ثم الكشف بالوجه القبلى، ثم أعيد إلى الأستادارية، ثم أمسكه وصادره وعاقبه.
قال المقريزى: وكان يكتب الخطّ المنسوب، ويتظاهر بالمعاصى، وينوّع الظلم فى أخذ الأموال، فعاقبه الله بيد ناصره الملك المؤيد شيخ أشدّ عقوبة، ثم قبض عليه ططر وصادره وعاقبه حتى هلك تحت الضّرب، وعاقبه ميّتا، فأراح الله منه عباده.
وتوفّى قاضى القضاة شيخ الإسلام جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير بن صالح البلقينىّ «2» الشافعى قاضى الديار المصريّة وعالمها، فى ليلة الخميس حادى عشر شوّال عن ثلاث وستين سنة، بعد مرض طويل تمادى به فى دمشق لمّا كان مسافرا صحبة السّلطان إلى مصر، وصلّى عليه بالجامع الحاكمى، وأعيد إلى حارة بهاء الدين، ودفن على أبيه بمدرسته «3» التى أنشأها تجاه داره- وهو صهرى زوج كريمتى والذي تولّى تربيتى- رحمه الله تعالى، ومات ولم يخلف بعده مثله فى كثرة علومه وعفته عما يرمى به قضاة السّوء، وكان مولده بالقاهرة فى جمادى

(14/237)


الأولى سنة اثنتين وستين وسبعمائة، هكذا سمعته من لفظه غير مرّة؛ وأمّه بنت قاضى القضاة بهاء الدين بن عقيل الشافعى النحوى، ونشأ بالقاهرة، وحفظ القرآن العزيز وعدّة متون، وتفقّه بوالده وبغيره إلى أن برع فى الفقه والأصول والعربيّة والتفسير وعلمى المعانى والبيان، وأفتى ودرّس فى حياة والده، وولى قضاء العسكر بالديار المصرية، ثم ولى قضاء القضاة بها فى إحدى الجمادتين من سنة أربع وثمانمائة فى حياة والده عوضا عن قاضى القضاة ناصر الدين محمد الصّالحىّ، وذلك أوّل ولايته، وعزل ثم ولّى غير مرة- حرّرنا ذلك فى تاريخنا المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى- وكانت جنازته مشهورة إلى الغاية، وحمل نعشه على رءوس الأصابع، وكان ذكيّا مستحضرا، عارفا بالفقه ودقائقه، مستقيم الذّهن، جيّد التصور، حافظا فصيحا بليغا جهورىّ الصّوت، مليح الشكل، للطول أقرب، أبيض مشربا بحمرة، صغير اللحية مدوّرها، منوّر الشّيبة، جميلا وسيما، ديّنا عفيفا مهابا جليلا، معظّما عند الملوك والسلاطين، حلو المحاضرة، رقيق القلب سريع الدّمعة، على أنّه كان فيه بادرة وحدّة مزاج، غير أنها كانت تزول عنه بسرعة، ويأتى يعد ذلك من محاسنه ما ينسى معه كل شىء، وكان محبّبا للرّعية، متجملا فى ملبسه ومركبه، ومدحه خلائق من العلماء والشعراء، أنشدنى قاضى القضاة جلال الدين أبو السعادات محمد بن ظهيرة قاضى مكة وعالمها، من لفظه لنفسه بمكة المشرفة مديحا فى قاضى القضاة جلال الدين المذكور فى سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة [قال رحمه الله] «1» [الطويل]
هنيئا لكم يا أهل مصر جلالكم ... عزيز فكم من شبهة قدّ جلالكم
ولولا اتّقاء الله جلّ جلاله ... لقلت لفرط الحبّ جلّ جلالكم
وتوفّى السلطان غياث الدين محمد «2» المعروف بكر شجى بن بايزيد بن مراد بن أرخان بن عثمان متملّك بلاد الرّوم فى شهر رجب، وملك بعده ابنه مراد بك صاحب

(14/238)


الفتوحات والغزوات المشهورة الآتى ذكره فى محله، وتفسير كرشجى أى صاحب الوتر؛ لأن كرش باللغة التركية هو الوتر الذي يوتر به القوس وكان قبل سلطنته خنق بوتر ثم أطلق فسمى بذلك، وهو بكسر الكاف والراء المهملة وسكون الشين المعجمة وكسر الجيم.
وفيها قتل الأمير علاء الدين ألطنبغا «1» من عبد الواحد الظّاهرى المعروف بالصّغير رأس نوبة النّوب، ثم نائب حلب بعد انهزامه من حلب فى واقعة كانت بينه وبين التّركمان فى تاسع عشرين شعبان «2» ، وكان أصله من مماليك الظّاهر برقوق، وصار خاصّكيّا فى دولة الناصر فرج، ثم ترقى فى الدّولة المؤيّدية [شيخ] «3» إلى أن صار أمير مائة ومقدّم ألف، ثم رأس نوبة النّوب، ثم أخرجه الملك المؤيد [شيخ] «4» إلى البلاد الشاميّة مجرّدا لصحبة الأمير الكبير ألطنبغا القرمشىّ، فلما قتل يشبك نائب حلب المقدّم ذكره ولّاه القرمشىّ نيابة حلب، فدام بها إلى أن قبض الأمير ططر على القرمشىّ فخرج هو عن الطاعة، ووقع له ما حكيناه إلى أن قتل، وكان أميرا جليلا، مليح الشّكل ليّن الجانب، كريما شجاعا محبّبا للناس- رحمه الله تعالى.
وفيها قتل الأمير سيف الدين قجقار «5» بن عبد الله القردمىّ أمير سلاح بثغر الإسكندرية فى سادس عشرين شعبان بأمر الأمير ططر، وكان أصله من مماليك الأمير قردم الحسنى رأس نوبة النّوب فى دولة الملك الظاهر برقوق، ثم انضمّ على الملك المؤيد [شيخ] «6» وهو من جملة أمراء العشرات، ولا زال معه إلى أن تسلطن، فعند ذلك رقّاه الملك المؤيد إلى أن ولّاه إمرة سلاح، ثم نيابة حلب مدّة يسيرة، ثم عزله وأعاده إلى وظيفته إلى أن مات المؤيّد وجعله من جملة أوصيائه على ولده، فقبض عليه

(14/239)


الأمير ططرّ وحبسه بثغر الإسكندرية إلى أن قتله بها، وكان تركىّ الجنس، قصيرا بطينا، له شعرات بحنكه، كبير الوجه، مشهورا بالشّجاعة والإقدام مع الكرم والتجمّل فى مركبه ومماليكه وسماطه، وكان منهمكا فى اللّذّات مسرفا على نفسه، فكان فى غالب اللّيالى يسكر إلى الصّباح ويغلب عليه النّوم فينام عن الخدمة السلطانية، فلما يقوم من نومه يتأسّف على عدم طلوعه إلى الخدمة، فيجعل نفسه متوعّكا فينزل إليه وجوه الدّولة لعيادته، فيجدونه مخمورا لا يكاد يتكلّم، فلما تكرّر منه ذلك علم السلطان والناس حاله، فصار أمره مثلا، يقول بعضهم للآخر كيف حال فلان فيقول مريض، فيقول لا يكون مثل مرض قجقار القردمى، وتداول ذلك بين الناس.
وفيها قتل الأمير سيف الدين جقمق بن عبد الله»
الأرغون شاوىّ الدّوادار ثم نائب الشام بعد عقوبة شديدة لأجل المال فى ليلة الأربعاء سادس عشرين شعبان بعد عود الأمير ططر من حلب، وكان أصل جقمق هذا چاركسيّا، أخذ من بلاده مع والدته وهو ابن ثلاث سنين، وجلبا إلى مصر فاشتراهما بعض أمراء مصر، فأقاما عنده مدّة يسيرة وقبض على الأمير المذكور، فاشتراهما أمير آخر، ثمّ انتقلا من ملكه إلى ملك الأمير ألطنبغا الرّجبىّ، ثم ابتاعهما من ألطنبغا الرّجبىّ [المذكور] «2» الأمير قردم الحسنىّ رأس نوبة النّوب، وأنعم بوالدته على زوجته وأنعم بولدها جقمق هذا على ابنه صاحبنا العلائى على بن قردم، فاستمرّا عندهما إلى أن توفّى الأمير قردم، وبعده بمدّة انتقل جقمق هذا إلى ملك الأمير أرغون شاه الظّاهرىّ أمير مجلس، فأعتقه أرغون شاه وجعله بخدمته إلى أن قتل فى سنة اثنتين وثمانمائة، فاتصل بعده بخدمة الملك المؤيد شيخ، وهو من جملة الأمراء، وصار عنده رأس نوبة الجمداريّة، ثم جعله دوادارا ثانيا، إلى أن تسلطن الملك المؤيّد شيخ فأنعم عليه بإمرة عشرة، وأرسله إلى الأمير نوروز الحافظىّ فى الرّسليّة، فقبض عليه نوروز وحبسه، إلى أن ظفر المؤيّد بنوروز، وأطلق جقمق هذا

(14/240)


من قلعة دمشق وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه، وجعله دوادارا ثانيا، ثم نقله إلى الدّواداريّة الكبرى بعد سنين بحكم انتقال آقباى المؤيّدى إلى نيابة حلب فباشر الدّواداريّة بحرمة وافرة، ونالته السعادة، إلى أن ولى نيابة دمشق بعد عزل الأمير تنبك ميق فى سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، فدام بدمشق إلى أن مات الملك المؤيد [شيخ] «1» فخرج عن طاعة الأمير ططر واتفق مع الأمير الكبير ألطنبغا القرمشىّ، ثم وقع بينهما [خلاف] «2» وتحاربا فهزم جقمق وتوجّه إلى صرخد، ولا زال به حتى استقدمه ططر منها بالأمان، وقبض عليه وقتله، ودفن بمدرسته التى بناها بدمشق، وكان أميرا عارفا بأمور دنياه، عاريا عن العلوم والفضيلة وفنون الفروسية، وكان فصيحا باللغة العربية، وعنده مكر وشيطنة وخديعة، وانهماك فى اللّذات، وإسراف على نفسه مع بادرة وحدّة وسفه ووقاحة، ورأيته غير مرّة، كان للقصر أقرب، وعنده سمن، مدوّر اللحية أسودها، وعنده فصاحة فى حديثه على طريق عوام مصر لا على طريق الفقهاء- انتهى.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وإصبع واحد- والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(14/241)