النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
[ما وقع من الحوادث سنة
855]
ثم فى يوم الخميس أول محرم سنة خمس وخمسين وثمانمائة، خلع السلطان على
الأمير مرجان العادلى المحمودى الحبشى «4» نائب مقدم المماليك
السلطانية، باستقراره مقدم المماليك، عوضا عن جوهر النّوروزى، بحكم
إخراجه إلى القدس الشريف بطالا، [و] «5» استقر الطواشى عنبر خادم
التاجر نور الدين على الطنبذى فى نيابة المقدم، عوضا عن مرجان المذكور.
ثم فى يوم الاثنين خامس المحرم، كانت مبايعة الخليفة القائم بالله
حمزة، بالخلافة، عوضا عن أخيه أمير المؤمنين المستكفى بالله سليمان،
بعد وفاته، حسبما يأتى ذكر وفاته فى الوفيات من هذا الكتاب.
ثم فى يوم السبت تاسع صفر، وصل إلى القاهرة، قصّاد جهان شاه بن قرا
يوسف صاحب تبريز وغيرها، وطلعوا إلى القلعة فى يوم الاثنين حادى عشره،
بعد أن عمل
(15/432)
السلطان لهم موكبا جليلا «1» بالحوش من قلعة الجبل،
وقدّموا ما على أيديهم من الهدية وغيرها «2» .
ثم فى يوم الأحد سابع عشر صفر، ورد الخبر بقدوم الأمير بيغوت نائب
حماة، الخارج عن الطاعة، إلى حلب، وصحبة القاصد الوارد بهذا الخبر، عدة
مطالعات من نواب البلاد الشأمية فى الشفاعة فى بيغوت المذكور، كونه كان
تخلص من أسر رستم وقدم هو بنفسه إلى طاعة السلطان، فكتب السلطان بإحضار
بيغوت المذكور على أحسن وجه، وقبل السلطان شفاعة الأمراء فيه.
ثم فى يوم الاثنين ثامن عشره، عمل السلطان مدة هائلة لقصّاد جهان شاه
بالقلعة، ثم أنعم عليه بمبلغ ألفى دينار فى يوم الأربعاء العشرين منه،
وأنعم أيضا على الأمير قانم التاجر المؤيدى أحد أمراء العشرات بألفى
دينار، وكان ندبه للتوجه فى الرسلية إلى جهان شاه صحبة قصّاده، فخرج
قانم فى يوم الجمعة ثانى عشرين صفر.
ثم فى يوم الأحد ثانى شهر ربيع الأول، من سنة خمس وخمسين المذكورة، نزل
السلطان إلى عيادة زين الدين يحيى الأستادار، لانقطاعه عن الخدمة، وكان
سبب انقطاعه عن الخدمة السلطانية أن المماليك السلطانية أوقعوا به بباب
«3» [157] القلة «4» من قلعة الجبل، وضربوه وجرح فى رأسه، من شجة، ونزل
محمولا إلى داره على أقبح حال. ولم يطل السلطان الجلوس عنده، وركب من
عنده، وتوجّه إلى بيت عظيم الدوله المقر الجمالى ناظر الخواص، [ونزل
عنده وأقام قليلا، ثم ركب وعاد إلى القلعة وأصبح
(15/433)
من الغد كلّ واحد من الجمالى ناظر الخواص] «1» وزين
الدين الأستادار، جهزّ للسلطان تقدمة هائلة ذكرنا تفصيلها فى الحوادث
«2» .
ثم فى يوم السبت ثالث عشر شهر ربيع الآخر، وصل الأمير بيغوت الأعرج [من
صفرخجا] «3» المؤيدى نائب حماه كان، إلى القاهرة، وطلع إلى السلطان،
وقبل الأرض بين يديه، وخلع السلطان عليه سلاريّا أحمر بفرو سمور، ووعده
بخير «4» .
ثم فى يوم الاثنين خامس عشر شهر ربيع الآخر المذكور، سافر الأمير
أسنباى الجمالى الظاهرى أحد أمراء العشرات إلى بلاد الروم، لتولية
خوندكار محمد السلطنة، بعد وفاة أبيه مراد بك.
وفى هذا الشهر، أشيع بالقاهرة، أن السلطان ذكر أبا «5» الخير النحاس
بخير، وأنه فى عزمه الإفراج عنه والرضا عليه، فبلغ السلطان ذلك، فبرز
مرسومه إلى نائب طرسوس بضرب النحاس مائة عصاة افتقده بها.
ثم فى يوم الثلاثاء ثامن جمادى الأولى، سافر الأمير بيغوت إلى دمشق؛
ليقيم بها «6» بطّالا، بعد أن رتب له فى كل شهر مائة دينار برسم
النفقة، إلى أن ينحلّ له إقطاع «7» .
ثم فى يوم الخميس رابع [عشر] «8» شهر رجب وصل الأمير قائم المؤيدى
المتوجه إلى جهان شاه فى الرسلية، إلى القاهرة مريضا فى محفة.
ثم فى يوم الاثنين تاسع شعبان، وصل الأمير جانبك نائب جدّة إلى
القاهرة، وخلع السلطان عليه، ونزل إلى داره فى موكب جليل إلى الغاية.
(15/434)
ثم فى يوم الخميس تاسع عشر شعبان، ورد الخبر على
السلطان بموت الأمير بردبك العجمى الجكمى، أحد مقدمى الألوف بدمشق،
فأنعم السلطان بإقطاعه على الأمير بيغوت الأعرج المؤيدى.
ثم فى يوم الأحد ثانى عشرينه، نزل السلطان من القلعة وشق القاهرة، وسار
حتى نظر المدرسة التى جدد بناءها الجمالى ناظر الخواص، بسويقة الصاحب،
ثم عاد من المدرسة، ونزل إلى بيت ابنته زوجة الأمير أزبك من ططخ الساقى
الظاهرى، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، بدرب الطنبذى بسويقة الصاحب،
وأقام عندها ساعة جيدة، ثم ركب وطلع إلى القلعة. وبعد طلوعه أرسل إلى
الأمير أزبك بعدة خيول خاص ومماليك وأصحن حلوى كثيرة، فقبل الحلوى ورد
ما سواها.
ثم فى يوم الاثنين ثالث عشرين شعبان من سنة خمس وخمسين المذكورة، رسم
السلطان بتفرقة دراهم الكسوة، على المماليك السلطانية على العادة فى كل
سنة، لكل مملوك ألف درهم، فامتنعوا من الأخذ، وطلبوا الزياده، وبلغ
السلطان الخبر، فغضب من ذلك وخرج من وقته ماشيا حتى وصل إلى الإيوان،
وجلس على السّلّمة السفلى بالقرب من الأرض، واستدعى كاتب المماليك
أسماء جماعة فلم يخرج واحد، وصمموا على طلب الزيادة، وصاروا عصبة
واحدة، فلم يسع السلطان إلا أن دعا عليهم، وقام غضبانا، وسار حتى وصل
إلى الدّهيشة. واستمروا المماليك على ما هم عليه، وحصل أمور، إلى أن
وقع الاتفاق على أنه يكون لكل مملوك من المماليك السلطانية ألفا «1»
درهم، ورضوا بذلك، وأخذوا النفقة المذكورة، وقد تضاعف أمرها على ناظر
الخاص.
ثم استهل [شهر] «2» رمضان، أوله الاثنين والناس فى أمر مريج من الغلاء
المفرط فى سائر المأكولات لا سيما اللحوم، هذا مع اتساع الأراضى بالرى،
واحتاجت الفلاحون
(15/435)
إلى التقاوى والأبقار، وقد عزّ وجود البقر حتى أبيع
الزوج البقر الهائل، بمائة وعشرين دينارا، وما دونها، وأغرب من ذلك ما
حدثنى السيفى إياس خازندار الأتابك آقبغا التمرازى، بحضرة الأمير أزبك
الساقى، أنه رأى ثورا هائلا، ينادى عليه بأربعين ألف درهم «1» ،
فاستبعدت أنا ذلك، حتى قال [158] الأمير أزبك: «نعم، وأنا سمعته أيضا
يقول هذا الخبر للمقر الجمالى ناظر الخواص» . ثم استشهد إياس المذكور
بجماعة كثيرة على صدق مقالته، وهذا شىء لم نعهد بمثله. هذا مع كثرة
الفقراء والمساكين، ممن افتقر فى هذه السنين المتداولة بالغلاء والقحط،
مع أنه تمفقر خلائق كثيرة ممن ليس له مروءة، وأمسك فى هذه الأيام جماعة
كثيرة من البيعة، ومعهم لحوم الدواب الميتة، ولحم الكلاب، يبيعونها
[على الناس] «2» ، وشهروا بالقاهرة، وقد استوعبنا أمر هذا الغلاء وما
وقع فيه من الغرائب من ابتداء أمره إلى آخره، وقد مكث نحو الأربع سنين
فى تاريخنا «حوادث الدهور فى «3» مدى الأيام والشهور» ، محررا باليوم
والساعة «4» .
ثم فى يوم الخميس حادى عشر شهر رمضان استقر الناصرى [ناصر الدين] «5»
محمد ابن مبارك [نائب البيرة] «6» فى حجوبية دمشق؛ بعد عزل الأمير
جانبك الناصرى؛ وتوجهه إلى القدس بطّالا.
(15/436)
ووقع فى هذا الشهر، أعنى عن شهر رمضان، غريبة، وهى
أن جماعة أرباب التقويم والحساب أجمعوا على أنه يكون فى أوائل العشر
الأخير من هذا الشهر قران نحس يكون فيه قطع عظيم؛ على السلطان الملك
الظاهر جقمق، ثم فى أواخر العشر المذكور يكون قران آخر، ويستمر القطع
على السلطان من أول العشر إلى آخره، وأجمعوا على زوال السلطان بسبب هذه
القطوع، فمضى هذا الشهر والسلطان فى خير وسلامة، فى بدنه وحواسه،
ولازمته أنا فى العشر المذكورة ملازمة غير العادة، لأرى ما يقع له من
التوعك أو الأنكاد، أو شىء يقارب مقالة هؤلاء، ليكون لهم مندوحة فى
قولهم، فلم يقع له فى هذه المدة ما كدّر عليه؛ ولا تشوّش فى بدنه، ولا
ورد عليه من الأخبار ما يسوء؛ ولا تنكد بسب من الأسباب؛ وقد كان شاع
هذا القول حتى لعله بلغ السلطان أيضا، وفرغ الشهر، ولم يقع شىء مما
قالوه بالكليّة؛ ويأبى الله إلا ما أراد؛ ويعجبنى فى هذا المعنى قول
القائل، ولم أدر لمن هو: [البسيط]
دع المنجّم يكبو فى ضلالته ... إن ادّعى علم ما يجرى به الفلك
تفرّد الله بالعلم القديم فلا ... الإنسان «1» يشركه فيه ولا الملك
ومثل هذا أيضا، وأظنه قد تقدم ذكره: [البسيط]
دع النجوم لطرقىّ يعيش بها ... وبالعزيمة فانهض أيها الملك
إن النّبيّ وأصحاب النّبيّ نهوا ... عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا
ثم فى يوم الجمعة ثالث شوال، ورد الخبر بموت يشبك الحمزاوى نائب صفد
بها، فى ليلة السبت سابع عشرين «2» شهر رمضان، فرسم السلطان بنيابة صفد
للأمير بيغوت الأعرج ثانيا، وحمل إليه التقليد والتشريف «3» على يد
الأمير يشبك الفقيه المؤيّدى، بنيابة صفد؛ ويشبك المذكور من محاسن
الدنيا، نادرة فى أبناء جنسه؛ وأنعم بتقدمة
(15/437)
بيغوت بدمشق، على الناصرى محمد بن مبارك حاجب حجاب
دمشق؛ وأنعم بإقطاع ابن المبارك، على آقباى السيفى جارقطلو، المعزول عن
نيابة سيس. وفيه أيضا، استقر خير بك النوروزى المعزول عن نيابة غزة قبل
تاريخه، أتابك صفد، كلاهما: أعنى خير بك وآقباى، بالبذل، لأنهما من
أطراف الناس، لم تسبق لهما رئاسة بالديار المصرية.
ثم فى يوم السبت رابعه، استقر السّوبينى فى قضاء طرابلس، واستقر
[الشمس] «1» ابن عامر فى قضاء المالكية بصفد.
ثم فى يوم الاثنين سادسه، استقر [الزينى] «2» الطّواشى سرور الطربائى
[الحبشى] «3» ، فى مشيخة الخدام بالحرم النبوى، بعد عزل الطواشى فارس
الرومى الأشرفى.
ثم فى يوم الخميس سادس عشر شوال، أعيد القاضى حميد الدين [النعمانى]
«4» إلى قضاء الحنفية بدمشق، بعد عزل القاضى قوام الدين. وفيه خلع
السلطان على المقر الجمالى ناظر الخواص، خلعة هائلة لفراغ الكسوة
المجهزة لداخل البيت العتيق.
ثم فى يوم السبت ثامن عشره، برز أمير حاجّ المحمل الأمير سونجبغا
اليونسى [159] بالمحمل إلى بركة الحاج.
ثم فى يوم الثلاثاء سابع عشرين ذى القعدة، أنعم السلطان على الأمير
تنبك البردبكى المعزول عن حجوبية الحجاب قبل تاريخه، بإمرة مائة وتقدمة
ألف بالديار المصرية، بعد موت الشهابى أحمد بن على بن إينال اليوسفى.
ثم فى يوم الخميس سادس ذى الحجة من سنة خمس وخمسين المذكورة، قدم
الأمير أسنباى الجمالى الظاهرى، أحد أمراء العشرات من بلاد الروم.
ثم فى يوم الثلاثاء حادى عشر ذى الحجة، استقر عمر الكردى، أحد أجناد
الحلقة
(15/438)
[فى] «1» أستادّارية السلطان بدمشق [واستقر شخص
يسمى يونس الدمشقى، يعرف بابن دكدوك، فى أستادّارية السلطان الكبرى
بدمشق] «2» ، وعمر المذكور، ويونس هذا، [هما] «3» من الأوباش الأطراف،
وكلاهما ولى بالبذل.
[ثم] «4» فى يوم الخميس سابع عشرين ذى الحجة، وصل الأمير يشبك الفقيه
من صفد، بعد ما قلد نائبها الأمير بيغوت.
[ما وقع من الحوادث سنة 856]
ثم فى يوم الاثنين أول محرم سنة ست وخمسين وثمانمائة، أعيد القاضى جمال
الدين يوسف الباعونى إلى قضاء دمشق، بعد عزل السراج الحمصى، بسفارة
عظيم الدولة ناظر الخواص.
ثم فى يوم الثلاثاء [ثالث عشرينه] «5» ، وصل أمير حاجّ المحمل بالمحمل.
وفيه سافر الأمير جانبك الظاهرى نائب جدة [إلى] «6» البندر المذكور «7»
.
ثم فى [يوم] «8» الاثنين سادس صفر، استعفى الأمير ألطنبغا الظاهرى
برقوق [المعلم] «9» اللفّاف، أحد مقدمى الألوف، من الإمرة، فأعفى لطول
مرضه وعجزه عن الحركة، وأنعم السلطان بإقطاعه على ولده المقام الفخرى
عثمان، زيادة على ما بيده من تقدمة أخيه الناصرى محمد قبل تاريخه، فصار
بيده تقدمة أخيه وهذه التقدمة.
ثم فى يوم الجمعة ثانى شهر ربيع الأول «10» ، حضر المقام الفخرى عثمان
صلاة الجمعة، عند أبيه بجامع القلعة، ورسم له والده السلطان أن يمشى
الخدمة على عادة أولاد الملوك.
ثم فى يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأول المذكور، خلع السلطان على القاضى
محب
(15/439)
الدين محمد بن الأشقر، ناظر الجيش، باستقراره كاتب
السر الشريف، عوضا عن القاضى كمال الدين بن البارزى بعد موته. وخلع
السلطان أيضا على المقرّ الجمالى ناظر الخواص، باستقراره ناظر الجيوش
المنصورة زيادة على ما بيده من نظر الخاص وغيره.
ثم فى يوم السبت سابع عشره، نودى بالقاهرة، على الذهب الظاهرى الأشرفى،
كل دينار بمائتى درهم وخمسة وثمانين «1» درهما، وهدّد من زاد فى صرفه
على ذلك.
ثم فى يوم الاثنين، ثالث شهر ربيع الآخر، استقر الشريف معز «2» فى إمرة
الينبوع، عوضا عن عمه سنقر [بن وبير] «3» ؛ وفيه نقل يشبك الصوفى
المؤيّدى المعزول عن نيابة طرابلس، من ثغر دمياط إلى القدس بطالا.
ثم فى يوم السبت ثامن عشرين جمادى الأولى، أنعم السلطان على مملوكه
جانم الساقى الظاهرى، بإمرة عشرة، بعد موت الأمير برسباى الساقى
المؤيدى.
ثم فى يوم السبت حادى عشر شهر رجب، وصل إلى القاهرة الأمير حاج إينال
اليشبكى، نائب الكرك، وخلع السلطان عليه باستمراره.
ثم فى يوم السبت ثامن عشر رجب المذكور، أنعم السلطان على حاج إينال
المذكور بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق، عوضا عن الأمير مازى «4» الظاهرى
برقوق، بحكم لزومه بيته، واستقر فى نيابة الكرك عوضا عن حاج إينال،
طوغان، مملوك آقبردى المنقار، نقل إليها من دوادارية السلطان بدمشق،
واستقر فى دوادارية السلطان بدمشق، خشكلدى الزينى عبد الرحمن بن الكويز
الدوادار، واستقر عوضا عن خشكلدى فى الدوادارية الثالثة «5» شخص من
أولاد الناس، ممن كان فى خدمة الملك الظاهر قديما، يعرف بابن جانبك، لا
يعرف له نسب ولا حسب.
(15/440)
وفى هذه الأيام أشيع بالقاهرة، بمجيء النحاس إلى
الديار المصرية، وأنه وصل على النّجب، وأنه نزل بتربة الأمير طيبغا
الطويل بالصحراء خارج القاهرة، ثم انتقل [160] منها إلى القاهرة، وتحدث
الناس برؤيته، وتعجب الناس من ذلك، واستغربت أنا وغيرى مجيئه من أن
السلطان من يوم نكبه وصادره وحبسه ثم نفاه إلى طرسوس، ثم حبسه بقلعة
طرسوس على أقبح وجه، وصار فى الحبس المذكور فى غاية الضيق، ونال أعداؤه
منه فوق الغرض، وصار السلطان يتفقده فى كل قليل بعصيّات، حتى أنه ضرب
فى مدة حبسه بطرسوس، على نفذات متفرقة، نحو الألف عصاة تخمينا، ولم يزل
فى محبسه فى أسوأ حال، حتى أشيع مجيئه، ولم يدر بذلك أحد من أعيان
الدولة، ولا يعرف أحد كيفية الإفراج عنه؛ وأخذ أعيان الدولة من الأكابر
فى تكذيب [هذا الخبر] «1» ، وصار الناس فى أمره على قسمين: ما بين مصدق
ومكذب.
ثم قدم الأمير جانبك الظاهرى، نائب جدّة وصحبته قصّاد الحبشة من
المسلمين من صاحب جبرت فى يوم الخميس ثامن شعبان، وعمل السلطان الموكب
بالحوش السلطانى، وكان السلطان قد انقطع عن حضور الخدمة بالقصر نحو
الشهر لضعف حركته.
فلما كان يوم الجمعة تاسعه، طلع أبو الخير النحاس فى بكرته إلى القلعة،
ودخل إلى الدّهيشة صحبة المعزّى عبد العزيز ابن أخى الخليفة القائم
بأمر الله حمزة، وقد أمره عمه القائم بأمر الله حمزة ليشفع فى أبى
الخير المذكور على لسان الخليفة، ولم يكن عند السلطان فى ذلك الوقت من
أعيان الدولة سوى الأمير تمربغا الظاهرى الدّوادار الثانى، والأمير
أسنباى الجمالى الظاهرى؛ فقام السلطان لابن أخى الخليفة المذكور
وأجلسه، ثم دخل أبو الخير النحاس وقبّل رجل السلطان، فسبّه السلطان
ولعنه وأخذ فى توبيخه، وذكر أفعاله القبيحة؛ ثم أمر بحبسه بالبرج من
قلعة الجبل، ثم اعتذر لابن أخى الخليفة، وقال: «أنا كنت أريد توسيطه،
ولأجل الخليفة قد عفوت عنه» .
ثم أنعم على عبد العزيز المذكور بمائة دينار، وانفض المجلس.
(15/441)
وأصبح السلطان من الغد فى يوم السبت، جلس على
الدّكة بالحوش السلطانى، وأحضر أبا الخير المذكور، فى الملأ من الناس،
ثم أمر به فضرب بين يديه نحو الألف عصاة، أو ما دونها تخمينا، على
رجليه، وسائر بدنه؛ ثم أمر بحبسه ثانيا بالبرج من القلعة، فتحيّر الناس
من هذه الأفعال المتناقضة، وهو كونه أفرج عنه سرا وأحضره إلى القاهرة؛
فظن كل أحد بعود المذكور إلى أعظم ما كان عليه، ثم وقع له ما ذكرناه من
الإخراق والضرب والحبس.
وقد كثر كلام الناس فى ذلك، فمنهم من يقول: أمر السلطان بإطلاقه لا
مجيئه إلى القاهرة، فلما قدم بغير دستور، غضب السلطان عليه؛ فردّ على
قائل هذا الكلام بأنه:
من أين لأبى الخير النّجب التى قدم عليها مع ما كان عليه، لولا توصية
السلطان لمن يعينه على ذلك؟. وأيضا: كيف تمكن من المجىء، لولا ما معه
من المراسيم ما يدفع به نوّاب البلاد الشامية من منعه من الحضور؟.
ومنهم من يقول: كان أمره قد انبرم مع السلطان، ورسم بحضوره، وإنما
أعداؤه اجتهدوا فى إبعاده ثانيا، ووعدوا بأوعاد كثيرة، أضعاف ما وعده
أبو الخير المذكور؛ وأقوال كثيرة أخر «1» .
ثم فى هذا اليوم أخذ أبو عبد الله التريكى «2» المغربى المالكى،
المعزول عن قضاء دمشق قبل تاريخه، من بيته إلى بيت الوالى، ورسم عليه،
ثم ادّعى عليه بمجلس القاضى المالكى، أنه التزم للسلطان عن أبى الخير
النحاس بمائة ألف دينار أو أكثر، فقال:
«أنا قلت إن ولّاه ما عيّنته من الوظائف» ولم يقع ذلك، وعرف كيف أجاب،
فإنه كان من الفضلاء العلماء، فاستمر فى الترسيم إلى يوم الثلاثاء ثالث
عشر شعبان، فطلب إلى القلعة، فطلع وفى رقبته جنزير، ثم أعيد إلى
الترسيم من غير جنزير، وقد أشيع أنه وقع فى حق قاضى القضاة شرف الدين
يحيى المناوى [161] بأمور شنعة، ودام فى الترسيم إلى ما يأتى ذكره.
(15/442)
ثم فى يوم الأربعاء رابع عشر شعبان المذكور، أخرج
أبو الخير النحاس المذكور من البرج منفيّا إلى البلاد الشامية، ورسم
بحبسه بقلعة الصّبيبة، فنزل على حالة غير مرضية، وهو أنه أركب على
حمار، وفى رقبته باشة «1» وجنزير وموكل به جماعة من الجبليّة «2» ،
شقوا به شارع القاهرة إلى أن أخرج من باب النصر، والمشاعلىّ ينادى
عليه: «هذا جزاء من يكذب على الملوك، ويأكل مال الأوقاف» ، ونحو ذلك،
ورسم السلطان أن يفعل به ذلك فى كل بلد يمر بها، إلى أن يصل إلى محبسه.
ثم فى يوم الخميس خامس عشره، استقر الأمير حاج إينال اليشبكى أحد مقدمى
الألوف بدمشق، فى نيابة حماه، عوضا عن سودون الأبوبكريّ المؤيدى بحكم
عزله، وتوجهه على إقطاع حاج إينال المذكور بدمشق.
ثم فى يوم الثلاثاء العشرين من شعبان المذكور، جلس السلطان بالحوش،
وأحضر القضاة ثم أحضر والى القاهرة أبا عبد الله التريكى المغربى، وكان
التريكى قد أقام قبل ذلك ببيت القاضى الشافعى أياما، فلما مثل التريكى
بين يدى السلطان، سأل السلطان قاضى القضاة شرف الدين يحيى المناوى
الشافعى، عن أمر التريكى وما وجب عليه، فقال: «ثبت عليه عند نائبى نجم
الدين بن نبيه، لمولانا السلطان عشرة آلاف دينار» ، وقام ابن النّبيه
«3» فى الحال، وأخبر السلطان بذلك، فنهر السلطان القاضى الشافعى عند
مقالته عشرة آلاف دينار، وقال: «ما أسأل إلا عن ما وجب عليه من
التّعزير.
إيش العشرة آلاف دينار؟»
ولم تحسن مقالة القاضى الشافعى بهذا القول ببال أحد؛ ثم أجاب ابن
النبيه بأن قال: «أما المال فقد ثبت عندى، وأما التعزير فهو إلى القاضى
شمس الدين بن خيرة، أحد نواب الحكم» . فقال ابن خيرة: «حكمت عليه
بتغريبه «4» سنتين، وأما التعزير
(15/443)
فلمولانا السلطان على ما وقع منه من الأيمان
الحانثة» . فلما سمع السلطان كلام ابن خيرة، أمر بالتريكى فطرح على
الأرض، وضرب ضربا مبرحا، يزيد على مائتى عصاة، وأقيم، فتكلم فيه ابن
النبيه أيضا، وأحضر محضرا مكتتبا عليه بدمشق، بواقعة وقعت له فى أيام
حكمه بدمشق، فأمر به السلطان ثانيا فضرب نحوا مما ضرب أولا، واختلفت
الأقوال فى عدة ما ضرب، فأكثر ما قيل ستمائة عصاة، وأقل ما قيل
أربعمائة. ثم أنزلوه إلى بيت والى القاهرة، فأقام فى حبس الرّحبة «1»
إلى يوم الأربعاء خامس شهر رمضان، فأخرج من الحبس وفى رقبته الجنزير
ماشيا إلى بيت الوالى بين القصرين، ثم ركب من هناك، وأخرج منفيا فى
الترسيم إلى بلاد «2» المغرب، فسافر إلى المغرب «3» إلى يومنا هذا.
ثم فى يوم السبت ثامن شهر رمضان، سافر محبّ الدين بن الشحنة قاضى قضاة
حلب من القاهرة، بعد ما أقام بها أشهرا، وقاسى من الذل والبهدلة
أنواعا، ورسم عليه غير مرة، وأخرجت عنه وظيفتا «4» كتابة سرّ حلب ونظر
جيشها، وقد استوعبنا أحوال ابن الشّحنة هذا فى تاريخنا «حوادث الدهور
فى مدى الأيام والشهور» ، مستوفاة من مبدأ أمره إلى يوم تاريخه، مما
وقع له بحلب ومصر وغيرهما، من الأمور الشنعة وسوء السيرة، وما وقع له
من التراسيم عليه وغير ذلك.
ثم فى أواخر هذا الشهر، رسم السلطان بإخراج نصف إقطاع جانبك النّوروزى،
المعروف بنائب بعلبك، للسيفى بردبك التاجى، وكلاهما مقيم بمكة «5» ؛
وكان هذا
(15/444)
الإقطاع أصله بين جانبك المذكور وبين تغرى برمش
نائب القلعة، فلما نفى تغرى برمش، أنعم السلطان عليه بنصيبه إلى يوم
تاريخه، فأخرجه عنه.
ثم فى يوم الخميس رابع شوال، استقر الأمير تغرى بردى الظاهرى المعروف
بالقلاوى «1» ، وزيرا بالديار المصرية، مضافا لما بيده من كشف
الأشمونين والبلاد الجيزية، عوضا عن الصاحب أمين الدين إبراهيم بن
الهيصم، بحكم استعفائه عن الوزارة [162] ، وأنعم السلطان على تغرى بردى
المذكور بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، وهو الإقطاع الذي كان
أنعم به السلطان على ولده المقام الفخرى عثمان، بعد ألطنبغا اللّفّاف،
ليستعين تغرى بردى المذكور بالإقطاع على [كلف] «2» الدولة، وكانت خلعة
تغرى بردى المذكور بالوزارة أطلسين متمّرا «3» ثم فوقانيّا «4» بطرز
زركش عريض مثال خلعة الأتابكية بالديار المصرية. وخلع السلطان على زين
الدين فرج بن ماجد سعد الدين بن المجد القبطى المصرى] «5» بن النّحّال
كاتب المماليك السلطانية، بوظيفة نظر الدولة مضافا لكتابة المماليك.
وفى يوم الاثنين تاسعه، عملت الخدمة السلطانية بالدّهيشة من الحوش،
ورسم السلطان بأن تكون الخدمة دائما فى يومى الاثنين والخميس، بها؛ كل
ذلك لضعف حركة السلطان وهو يكتم ما به من الألم.
وفى يوم الثلاثاء عاشره، استقر قانى باى طاز السيفى بكتمر جلّق «6» فى
نيابة قلعة
(15/445)
صفد، بعد شغورها أشهرا من يوم مات الجمالى يوسف بن
يغمور. وفى هذا اليوم أيضا وصل المقام الغرسى خليل ابن الملك الناصر
فرج ابن الملك الظاهر برقوق، من ثغر الإسكندرية، وقد رسم له بالتوجه
إلى الحجاز لقضاء الفرض، وطلع إلى السلطان، فأكرمه السلطان إلى الغاية،
وهذا شىء لم يسمع بمثله، من أن ابن السلطان وله شوكة، يمكّن من سفر
الحجاز، فلله درّه من ملك «1» ، وقد حكينا طلوعه إلى القلعة واجتماعه
بالسلطان، فى ذهابه وإيابه فى «الحوادث» بأطول من هذا «2» .
وفى يوم الأربعاء ثامن عشره، ورد الخبر بقتل طوغان السيفى آقبردى
المنقار «3» ، نائب الكرك، على ما سنذكره فى الوفيات من هذه الترجمة.
ثم فى يوم تاسع عشره، برز الأمير دولات باى المحمودى الدّوادار الكبير،
أمير حاج المحمل، بالمحمل. وكان الحاج فى هذه السنة ركبا واحدا، وهذه
حجة دولات باى المذكور الثانية، أمير الحاج، فلما خرج دولات باى إلى
بركة الحاج، رسم له بأن يجعل دواداره فارس، أمير الركب الأول، ووقع
ذلك، وسافر ابن الملك الناصر صحبة المحمل.
ثم فى يوم الثلاثاء رابع عشرين شوال، رسم السلطان لطقتمر البارزى رأس
نوبة الجمدارية، أن يتوجه إلى القدس الشريف، لإحضار الأمير يشبك الصوفى
المؤيّدى منه، إلى القاهرة، ليتجهز ثم يعود إلى دمشق أتابكا بها، عوضا
عن خير بك المؤيدى
(15/446)
الأجرود، ورسم السلطان «1» أيضا لطقتمر المذكور، أن
يتوجه إلى دمشق ويقبض على أتابكها خير بك المذكور، ويحمله «2» إلى سجن
الصّبيبة.
وفيه أيضا، رسم بنقل الأمير يشبك طاز المؤيدى، من حكومة طرابلس، إلى
نيابة الكرك، عوضا عن طوغان المقتول قبل تاريخه، واستقر «3» عوضه فى
حجوبية طرابلس، مغلباى البجاسى، أحد أمراء طرابلس كان، ثم نائب قلعة
الروم، واستقر فى نيابة قلعة الروم، ناصر الدين محمد والى الحجر بقلعة
حلب.
[ثم] «4» فى يوم الأحد سادس ذى القعدة من سنة ست وخمسين المقدم ذكرها،
حبس السلطان تقىّ الدين عبد الرحمن بن حجّىّ بن عز الدين قاضى قضاة
الشافعية بطرابلس بحبس المقشرة فحبس بها، بعد أن نودى عليه، وهو على
حمار بشوارع القاهرة: «هذا جزاء من يزوّر المحاضر!» ثم أمر السلطان من
وقته بحبس ماماى السيفى بيبغا المظفرى أحد الدّوادارية بالبرج من قلعة
الجبل [لا تهامه بالغرض مع التقىّ المذكور] «5» وكان ماماى المذكور هو
المتوجه إلى طرابلس للكشف عن أحوال ابن عز الدين المقدم ذكره، واستمر
ماماى بالبرج إلى يوم الاثنين سابع ذى القعدة، فأطلق، ورسم بنفيه إلى
مدينة حماه، واستقر فى وظيفة ماماى الدّوادارية، قانصوه الظاهرى جقمق.
ثم فى يوم الخميس عاشره، وصل الأمير يشبك الصوفى من القدس إلى القاهرة،
وطلع إلى القلعة وقبّل الأرض. وفيه رسم بالإفراج عن جانبك المحمودى، من
حبس المرقب [و] «6» أن يتوجه إلى طرابلس بطالا.
ثم فى يوم الاثنين ثامن عشرينه، خلع السلطان [163] على الأمير يشبك
الصوفى باستقراره أتابك عساكر دمشق، وسافر فى يوم الخميس [ثانى ذى
الحجة] «7» .
(15/447)
[ثم فى يوم الخميس سادس «1» ] «2» عشر ذى الحجة،
استقر القاضى حسام الدين محمد ابن تقي الدين عبد الرحمن بن بريطع قاضى
قضاة الحنفية بحلب، عوضا عن محب الدين ابن الشّحنة، بعد أن وقع لابن
الشحنة المذكور أمور مذكورة فى «الحوادث» بتمامها وكمالها.
وفى يوم الاثنين عشرينه، استقر أسنبغا مملوك ابن كلبك نائب القدس،
وناظره، بعد موت أمين الدين عبد الرحمن بن الديرى الحنفى.
وفى يوم الثلاثاء حادى عشرينه، تكلم الأمير الوزير تغرى بردى القلاوى
مع السلطان، فى عزل فرج بن النحال عن نظر الدولة، فعزله وأبقى معه
كتابة المماليك على عادته.
ابتداء مرض موت السلطان
ولما كان يوم الجمعة رابع عشرينه، حضر السلطان الملك الظاهر جقمق
الصلاة بجامع القلعة على العادة، وهو متوعك، فلما انقضت الصلاة، وخرج
من الجامع، غشى عليه، فأرجف فى القاهرة بموته، وتكلم الناس بذلك، فأصبح
من الغد فى يوم السبت خامس عشرينه، وحضر الخدمة فى الدّهيشة من القلعة،
وحضر جميع أكابر الأمراء والخاصكيّة بغير كلفتاة، وعلّم السلطان على
قصص «3» كثيرة. ومن غريب الاتفاق ما وقع له، أنه لما خرج إلى الدّهيشة،
ورأى»
الناس وقوفا «5» ، قال:
«سبحان الحى الذي لا يموت!» ، فحسن ذلك ببال الناس كثيرا، عفا الله
عنه. ثم أصبح
(15/448)
فى يوم الأحد سادس عشرين ذى الحجة، فركب من القلعة ونزل إلى بيت بنته
زوجة الأمير أزبك من ططخ الساقى، أحد أمراء العشرات، ورأس نوبة، غير
أنه لم يطل الجلوس عندها وعاد إلى القلعة من وقته، وكان سكن أزبك
المذكور يومئذ فى الدار الذي خلف حمام بشتك، وهى الآن ملك شخص من أصاغر
المماليك الأشرفية، لا أعرفه، إلا فى هذه الدوله.
ثم فى يوم الاثنين سابع عشرين ذى الحجة، عمل السلطان الموكب بالحوش
لقصّاد جهان شاه بن قرا يوسف، متملّك تبريز وغيرها، وكان قدوم القصّاد
المذكورين، لإعلام السلطان بأن جهان شاه المذكور، كسر عساكر بابور «1»
بن باى سنقر بن شاه رخ بن تيمورلنك، وأنه استولى على عدة بلاد من
ممالكه، وأن عساكر جغتاى ضعف أمرهم لوقوع الوباء فى خيولهم ومواشيهم.
ثم فى يوم الأربعاء تاسع عشرينه، ضرب السلطان بعض نواب الحكم الشافعية،
بيده عشرة عصىّ، لأمر لا يستحق ذلك.
وفرغت سنة ست وخمسين، بعد أن وقع بها فتن كثيرة ببلاد الشرق، قتل فيها
خلائق لا تدخل تحت حصر، استوعبنا غالبها فى «حوادث الدهور» ، كونه
موضوعا «2» لتحرير الوقائع، كما أن هذا الكتاب وظيفته الإطناب فى تراجم
ملوك مصر.
ومهما ذكرناه بعد ذلك من الوقائع يكون على سبيل الاستطراد وتكثير
الفوائد لا غير. |