تاريخ ابن الوردي
(غَزْوَة بدر الْكُبْرَى)
الَّتِي أظهر اللَّهِ بهَا الدّين وَذَلِكَ أَنه قدم لقريش قفل من
الشَّام مَعَ أبي سُفْيَان بن حَرْب وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ رجلا فندب -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّاس إِلَيْهِم فَبلغ أَبَا
سُفْيَان فَبعث وَأعلم قُريْشًا بِمَكَّة بذلك
(1/109)
فَخرج النَّاس من مَكَّة سرَاعًا وَلم
يتَخَلَّف من الْأَشْرَاف غير أبي لَهب وَبعث مَكَانَهُ الْعَاصِ ابْن
هِشَام وَكَانَت عدتهمْ تِسْعمائَة وَخمسين رجلا فيهم مائَة فرس وَخرج
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْمَدِينَة لثلاث خلون من
رَمَضَان مِنْهَا وَمَعَهُ ثلثمِائة وَثَلَاث عشر رجلا مِنْهُم سَبْعَة
وَسَبْعُونَ من الْمُهَاجِرين وَالْبَاقُونَ أنصار وَمَا فيهم سوى
فارسين الْمِقْدَاد بن عَمْرو الْكِنْدِيّ وَالزُّبَيْر بن الْعَوام
وَقيل غير الزبير، وَكَانَت الْإِبِل سبعين يتعاقبون عَلَيْهَا فَنزل
الصَّفْرَاء وجاءته الْأَخْبَار بِأَن العير قاربت بَدْرًا وَأَن
الْمُشْركين خَرجُوا ليمنعوا عَنْهَا ثمَّ ارتحل وَنزل فِي بدر على
ادنى مَاء من الْقَوْم وَأَشَارَ سعد بن معَاذ فَبنى لَهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرِيشًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَمَعَهُ
أَبُو بكر وَأَقْبَلت قُرَيْش فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: " اللَّهُمَّ
هَذِه قُرَيْش قد أَقبلت بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرهَا تكذب رَسُولك
اللَّهُمَّ فَنَصرك الَّذِي وَعَدتنِي " وتقاربوا وبرز من الْمُشْركين
عتبَة وَشَيْبَة ابْنا ربيعَة والوليد بن عتبَة فَأمر - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يبارز عُبَيْدَة بن الْحَارِث بن الْمطلب
عتبَة، وَحَمْزَة عَم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
شيبَة، وَعلي رَضِي اللَّهِ عَنهُ الْوَلِيد وَضرب كل وَاحِد من
عُبَيْدَة وَعتبَة، صَاحبه وكر عَليّ وَحَمْزَة على عتبَة فقتلاه
واحتملا عُبَيْدَة وَقد قطعت رجله ثمَّ مَاتَ.
وتزاحف الْقَوْم وَرَسُول اللَّهِ وَمَعَهُ أَبُو بكر على الْعَريش
وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُول: " اللَّهُمَّ إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة
لَا تعبد فِي الأَرْض اللَّهُمَّ أنْجز لي مَا وَعَدتنِي " وَلم يزل
كَذَلِك حَتَّى سقط رِدَاؤُهُ فَوَضعه أَبُو بكر عَلَيْهِ وخفق رَسُول
اللَّهِ ثمَّ انتبه فَقَالَ: " أبشر يَا أَبَا بكر فقد أَتَى نصر
اللَّهِ ".
ثمَّ خرج من الْعَريش يحرض النَّاس على الْقِتَال وَأخذ حفْنَة من
الْحَصْبَاء وَرمى بهَا قُريْشًا وَقَالَ: " شَاهَت الْوُجُوه "
وَقَالَ لأَصْحَابه: " شدوا عَلَيْهِم " فَكَانَت الْهَزِيمَة وَكَانَت
الْوَقْعَة صَبِيحَة الْجُمُعَة لسبع عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان
وَحمل عبد اللَّهِ بن مَسْعُود رَأس أبي جهل إِلَيْهِ فَسجدَ النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شكرا لله تَعَالَى وَقتل أَبُو
جهل وَهُوَ ابْن سبعين سنة وَقتل أَخُوهُ الْعَاصِ بن هِشَام وَنصر
اللَّهِ نبيه بِالْمَلَائِكَةِ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى {إِذْ
تَسْتَغِيثُونَ ربكُم فَاسْتَجَاب لكم إِنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف من
الْمَلَائِكَة} وَبلغ أَبَا لَهب بِمَكَّة مصاب بدر فَمَاتَ كمدا بعد
سبع لَيَال وعدة قَتْلَى بدر الْمُشْركين سَبْعُونَ رجلا والأسرى
كَذَلِك.
وَمن الْقَتْلَى أَيْضا هِشَام قَتله المحدد بن زِيَاد، وَنَوْفَل بن
خويلد أَخُو خَدِيجَة وَكَانَ من شياطين قُرَيْش وَهُوَ الَّذِي قرن
أَبَا بكر وَطَلْحَة بن خويلد لما أسلما فِي حَبل قَتله عَليّ رَضِي
اللَّهِ عَنهُ، وَعُمَيْر بن عُثْمَان بن عَمْرو التَّمِيمِي قَتله
عَليّ أَيْضا، ومسعود بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي قَتله حَمْزَة،
وَعبد اللَّهِ بن الْمُنْذر المَخْزُومِي قَتله عَليّ، ومنبه بن
الْحجَّاج السَّهْمِي قَتله أَبُو بشر الْأنْصَارِيّ، وَابْنه الْعَاصِ
بن مُنَبّه قَتله عَليّ، وَأَخُوهُ نبيه بن الْحجَّاج اشْترك فِيهِ
حَمْزَة وَسعد بن أبي وَقاص، وَأَبُو الْعَاصِ بن قيس السَّهْمِي قَتله
عَليّ رَضِي الله عَنهُ.
وَكَانَ من جملَة الأسرى الْعَبَّاس وابنا أَخِيه عقيل بن أبي طَالب
وَنَوْفَل بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب وَبعد انْقِضَاء الْقِتَال أَمر
رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بسحب
الْقَتْلَى إِلَى القليب وَكَانُوا أَرْبَعَة
(1/110)
وَعشْرين من صَنَادِيد قُرَيْش وَأقَام
بعرصة بدر ثَلَاث لَيَال وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين أَرْبَعَة عشر
سِتَّة من الْمُهَاجِرين وَثَمَانِية أنصار وَلما وصل إِلَى
الصَّفْرَاء رَاجعا من بدر أَمر عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَضرب عنق
النَّضر بن الْحَارِث وَكَانَ من عداوته إِذْ تَلا النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول لقريش مَا يأتيكم مُحَمَّد
إِلَّا بأساطير الْأَوَّلين.
قلت: وَلما قتل النَّضر ثمَّ أنشدته ابْنَته:
(مَا كَانَ ضرك لَو مننت وَرُبمَا ... من الْفَتى وَهُوَ المغيظ
المحنق)
فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَو سمعته مَا قتلته
" وَالله أعلم، ثمَّ أَمر بِضَرْب عنق عقبَة بن أبي معيط بن أُميَّة
وَكَانَ عُثْمَان رَضِي اللَّهِ عَنهُ قد تخلف بِالْمَدِينَةِ بِأَمْر
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسَبَب مرض زَوجته
رقية بنت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَمَاتَتْ رقية فِي غيبَة رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَمُدَّة الْغَيْبَة تِسْعَة عشر يَوْمًا.
(غَزْوَة بني قينقاع)
ثمَّ كَانَت غَزْوَة بني قينقاع، هم نقضوا مَا كَانَ بَينهم وَبَينه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْعَهْد فَخرج إِلَيْهِم
منتصف شَوَّال مِنْهَا فَتَحَصَّنُوا فَحَاصَرَهُمْ خمس عشرَة لَيْلَة
ونزلوا على حكمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكتفوا وَهُوَ
يُرِيد قَتلهمْ فَكَلمهُ عبد اللَّهِ بن أبي سلول الخزرجي الْمُنَافِق
وَكَانَ هَؤُلَاءِ حلفاء الْخَزْرَج فَأَعْرض عَنهُ فَأَعَادَ
السُّؤَال فَأَعْرض عَنهُ فَأدْخل يَده فِي جيب رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ يَا رَسُول اللَّهِ أحسن
فَقَالَ وَيحك أَرْسلنِي فَقَالَ لَا وَالله حَتَّى تحسن فَقَالَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هم لَك ثمَّ أجلاهم وغنم
الْمُسلمُونَ أَمْوَالهم ثمَّ كَانَت غَزْوَة السويق.
(غَزْوَة السويق)
وَذَلِكَ أَن أَبَا سُفْيَان حلف لَا يمس الطّيب وَالنِّسَاء حَتَّى
يَغْزُو مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسَبَب
قَتْلَى بدر فَخرج فِي مِائَتي رَاكب وَبعث قدامه رجَالًا إِلَى
الْمَدِينَة فوصلوا إِلَى العريض وَقتلُوا رجَالًا من الْأَنْصَار
وَبلغ ذَلِك رَسُول اللَّهِ فَركب فِي طلبه وهرب ابو سُفْيَان
وَأَصْحَابه وَجعلُوا يلقون جرب السويق تَخْفِيفًا فسميت غَزْوَة
السويق.
(غَزْوَة قرقرة الكدر)
ثمَّ كَانَت " غَزْوَة قرقرة الكدر " وَقيل كَانَت سنة ثَلَاث وَهِي
مِمَّا يَلِي جادة الْعرَاق إِلَى مَكَّة بلغَة - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن بِهَذَا الْموضع جمعا من سليم وغَطَفَان
فَخرج لقتالهم فَلم يجد أحدا فاستاق مَا وجد من النعم وَرجع إِلَى
الْمَدِينَة.
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ مَاتَ عُثْمَان بن مَظْعُون رَضِي اللَّهِ عَنهُ
وفيهَا الْوَقْعَة بِذِي قار بَين بكر بن وَائِل وَبَين جَيش كسْرَى
برويز وَغَلَبَة الهرمزان وانهزمت الْفرس وَقتل الهرمزان.
وفيهَا هلك أُميَّة بن أبي الصَّلْت من رُؤَسَاء الْكفَّار قَرَأَ
الْكتب واطلع على الْبعْثَة فَكفر حسدا لِأَنَّهُ رجا أَن يكون هُوَ
الْمَبْعُوث سَافر إِلَى الشَّام وَرجع عقيب وقْعَة بدر فَمر بالقليب
وَفِيه قَتْلَى بدر وَمِنْهُم عتبَة وَشَيْبَة ابْنا خَال أُميَّة فجدع
أُذُنِي نَاقَته وَقَالَ قصيدة مِنْهَا:
(1/111)
(أَلا بَكَيْت على الْكِرَام ... بني
الْكِرَام أولي الممادح)
(كبكا الْحمام على فروع الأيك فِي الْغُصْن الجوانح ... )
(يبْكين حزني مستكينات يرحن مَعَ الروائح ... )
(أمثالهن الباكيات المعولات من النوائح ... )
(مَاذَا ببدر والعقيقل من مرازبة جحاجح ... )
(شمط وشبان بهاليل مغاوير دحادح ... )
(أَن قدر تغير بطن مَكَّة فَهِيَ موحشة الأباطح ... )
وَاسم أبي الصَّلْت عبد اللَّهِ بن ربيعَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث: فِيهَا فِي رَمَضَان ولد الْحسن بن عَليّ رَضِي
اللَّهِ عَنْهُمَا وفيهَا قتل مُحَمَّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ كَعْب
بن الْأَشْرَف الْيَهُودِيّ قلت: وفيهَا تزوج الرَّسُول - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَفْصَة بنت عمر رَضِي الله عَنْهُمَا
وَتزَوج عُثْمَان أم كُلْثُوم وَالله أعلم.
(غَزْوَة أحد)
وَكَانَت غَزْوَة أحد وَذَلِكَ أَنه اجْتمع قُرَيْش ثَلَاثَة آلَاف
فيهم سَبْعمِائة دارع وَمِائَتَا فَارس قائدهم أَبُو سُفْيَان بن حَرْب
وَمَعَهُ زَوجته هِنْد بنت عتبَة وَأَرْبع عشرَة امْرَأَة يضربن
بِالدُّفُوفِ ويبكين قَتْلَى بدر وَسَارُوا من مَكَّة حَتَّى نزلُوا
ذَا الحليفة قبالة الْمَدِينَة يَوْم الْأَرْبَعَاء لأَرْبَع مضين من
شَوَّال سنة ثَلَاث وَرَأى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - الْمقَام بِالْمَدِينَةِ وقتالهم بهَا وَكَذَا رأى عبد
اللَّهِ بن أبي بن سلول الْمُنَافِق وَبَاقِي الصَّحَابَة رَأَوْا
الْخُرُوج لقتالهم فَخرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي
ألف من الصَّحَابَة وَصَارَ بَين الْمَدِينَة وَاحِد فانخذل عَنهُ ابْن
أبي بن سلول فِي ثلث النَّاس وَقَالَ أطاعهم وعصاني علام نقْتل
أَنْفُسنَا هَهُنَا وَرجع بِمن تبعه من أهل النِّفَاق وَنزل - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشّعب من أحد وَجعل ظَهره إِلَى أحد.
ثمَّ كَانَت الْوَقْعَة يَوْم السبت لسبع مضين من شَوَّال وعدة
أَصْحَابه سَبْعمِائة فيهم مائَة دراع وفرسان فرس لرَسُول اللَّهِ فرس
لأبي بردة ولواء رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- مَعَ مُصعب بن عُمَيْر من بني عبد الدَّار وعَلى ميمنة الْمُشْركين
خَالِد بن الْوَلِيد وعَلى ميسرتهم عِكْرِمَة بن أبي جهل ولواؤهم مَعَ
بني عبد الدَّار وَجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الرُّمَاة وهم خَمْسُونَ وَرَاءه وَلما الْتَقَوْا قَامَت هِنْد فِي
النسْوَة مَعهَا وضربن بِالدُّفُوفِ خلف الرِّجَال وَهِي تَقول:
(ويها بني عبد الدَّار ... )
(ويها حماة الأدبار ... )
(ضربا بِكُل بتار ... )
وَقَاتل حَمْزَة قتالا شَدِيدا وَقتل أَرْطَاة حَامِل لِوَاء
الْمُشْركين وَمر بِهِ سِبَاع بن عبد الْعُزَّى وَكَانَت أمه ختانة
مَكَّة فَقَالَ حَمْزَة هَلُمَّ يَا ابْن مقطعَة البظور وضربه
فَكَأَنَّمَا أَخطَأ رَأسه فَبينا هُوَ مشتغل بسباع إِذْ ضربه وَحشِي
الحبشي عبد جُبَير بن مطعم بِحَرْبَة فَقتله،
قلت: وَفِي ذَلِك يَقُول حسان:
(1/112)
(مَا لشهيد بَين أرماحكم ... شلت يدا
وَحشِي من قَاتل)
وَالله أعلم.
وَقتل ابْن قمئة اللَّيْثِيّ مُصعب بن عُمَيْر حَامِل لِوَاء رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأعْطى النَّبِي عليا
رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَانْهَزَمَ الْمُشْركُونَ فطمعت الرُّمَاة فِي
الْغَنِيمَة وفارقوا مكانهم الَّذِي أَمرهم النَّبِي بِهِ فَأتى خَالِد
مَعَ خيل الْمُشْركُونَ من خلف وَوَقع الصَّارِخ أَن مُحَمَّدًا قتل
وانكشف الْمُسلمُونَ فَقتل من الْمُسلمين سَبْعُونَ وَمن الْمُشْركين
اثْنَان وَعِشْرُونَ وأصابت حِجَارَة الْمُشْركين رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى وَقع وَأُصِيبَتْ رباعيته
وشج وَجهه وكملت شفته وَالَّذِي أَصَابَهُ عتبَة بن ابي وَقاص أَخُو
سعد وسال الدَّم على وَجهه وَهُوَ يَقُول: " كَيفَ يفلح قوم خضبوا وَجه
نَبِيّهم وَهُوَ يَدعُوهُم إِلَى رَبهم " فَنزل قَوْله تَعَالَى
{لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم أَو يعذبهم
فَإِنَّهُم ظَالِمُونَ} وَدخلت حلقتان من المغفر فِي وَجه رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الشَّجَّة وَنزع
أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح إِحْدَى الحلقتين من وجهة - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَقَطت ثنية أبي عُبَيْدَة الْوَاحِدَة.
ثمَّ نزع الْأُخْرَى فَسَقَطت ثنيته الْأُخْرَى ومص سِنَان أَبُو أبي
سعيد الْخُدْرِيّ الدَّم من وَجهه وازدرده فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من مس دمي دَمه لم تصبه النَّار " وأًصابت
طَلْحَة يَوْمئِذٍ ضَرْبَة فشلت يَده وَهُوَ يدافع عَن رَسُول اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَظَاهر - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمئِذٍ بَين درعين ومثلث هِنْد وصواحبها
بالقتلى من الْمُسلمين فجدعن الآذان والأنوف واتخذن مِنْهَا قلائد
وبقرت هِنْد عَن كبد حَمْزَة ولاكتها قلم تسغها وَضرب زَوجهَا أَبُو
سُفْيَان برمحه شدق حَمْزَة وَصعد الْجَبَل وصرخ بِأَعْلَى صَوته
الْحَرْب سِجَال يَوْم بِيَوْم بدر اعْل هُبل.
وَلما انْصَرف أَبُو سُفْيَان وَمن مَعَه نَادَى إِن مَوْعدكُمْ
الْعَام الْقَابِل فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لوَاحِد قل هُوَ بَيْننَا وَبَيْنك ثمَّ سَار
الْمُشْركُونَ إِلَى مَكَّة فالتمس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - حَمْزَة فَوَجَدَهُ وَقد بقر بَطْنه وجدع أَنفه وأذناه فَقَالَ
لَئِن أظهرني اللَّهِ على قُرَيْش لامثلن بِثَلَاثِينَ مِنْهُم ثمَّ
قَالَ: " جَاءَنِي جِبْرِيل فَأَخْبرنِي أَن حَمْزَة مَكْتُوب فِي أهل
السَّمَوَات السَّبع حَمْزَة بن عبد الْمطلب أَسد اللَّهِ وَأسد
رَسُوله ".
ثمَّ أَمر بِحَمْزَة فسجي بِبرْدِهِ ثمَّ صلى عَلَيْهِ فَكبر سبعا ثمَّ
أَتَى بالقتلى يوضعون إِلَى حَمْزَة فَيصَلي عَلَيْهِم وَعَلِيهِ
مَعَهم حَتَّى صلى عَلَيْهِ اثْنَتَيْنِ وَسبعين صَلَاة. قَالَ
الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ: وَهَذَا دَلِيل لأبي حنيفَة فِي الصَّلَاة
على الشَّهِيد خلافًا للشَّافِعِيّ
قلت: تمسك الشَّافِعِي بِمَا روى جَابر وَأنس أَنه قتل من الصَّحَابَة
يَوْم أحد اثْنَان وَسَبْعُونَ قَتِيلا فَأَمرهمْ النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تنْزع عَنْهُم الْجُلُود وَالْفراء
وَالْحَدِيد وَأَن يدفنوا بثيابهم وَدِمَائِهِمْ وَلم يغسلوا وَلم يصل
عَلَيْهِم وَالله أعلم.
ثمَّ أمره بِحَمْزَة فَدفن رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَاحْتمل نَاس من
الْمُسلمين قتلاهم إِلَى الْمَدِينَة فدفنوهم بهَا ثمَّ نهى عَن مثله
وَقَالَ ادفنوهم حَيْثُ صرعوا.
(1/113)
ثمَّ دخلت سنة أَربع: فِيهَا فِي صفر قدم
عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قوم من عضل والقارة
وطلبوا مِنْهُ ان يبْعَث مَعَهم من يفقه قَومهمْ فِي الدّين فَبعث
مَعَهم سِتَّة هم ثَابت بن أبي الْأَفْلَح وخبيب بن عدي ومرثد بن أبي
مرْثَد الغنوي وخَالِد بن البكير اللَّيْثِيّ وَزيد بن الدثنة وَعبد
اللَّهِ بن طَارق وَقدم عَلَيْهِم مرْثَد بن أبي مرْثَد فَلَمَّا وصلوا
إِلَى المرجيح مَاء لهذيل على أَرْبَعَة عشر ميلًا من عسفان غدروا بهم
وقاتلوهم فَقتل ثَلَاثَة وَأسر ثَلَاثَة وهم زيد وخبيب وَعبد اللَّهِ
فَأَخَذُوهُمْ إِلَى مَكَّة فهرب طَارق فِي الطَّرِيق وَقَاتل إِلَى
أَن قَتَلُوهُ بِالْحِجَارَةِ وَبَاعُوا زيدا وخبيبا بِمَكَّة من
قُرَيْش فَقَتَلُوهُمَا صبرا.
وفيهَا: فِي صفر قدم أَبُو برَاء عَامر بن مَالك بن جَعْفَر ملاعب
الأسنة عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يسلم
وَلم يبعد من الْإِسْلَام وَقَالَ لَهُ لَو بعثت رجَالًا من اصحابك
إِلَى أهل نجد يَدعُونَهُمْ رَجَوْت أَن يَسْتَجِيبُوا لَك فَقَالَ
أَخَاف على أَصْحَابِي فَقَالَ أَبُو برَاء أَنا لَهُم جَار فَبعث -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُنْذر بن عُمَيْر
الْأنْصَارِيّ فِي أَرْبَعِينَ من خِيَار الْمُسلمين فيهم عَامر بن
فهَيْرَة مولى أبي بكر فنزلوا بِئْر مَعُونَة على أَربع مراحل من
الْمَدِينَة وبعثوا بكتابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِلَى عَدو اللَّهِ عَامر بن الطُّفَيْل فَقتل الَّذِي أحضر الْكتاب
وَجمع الجموع وَقصد الْمَذْكُورين فتقاتلوا وقتلم عَن آخِرهم إِلَّا
كَعْب بن زيد فَبَقيَ فِيهِ رَمق وتوارى بالقتلى.
ثمَّ لحق بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَاسْتشْهدَ يَوْم الخَنْدَق وَكَانَ فِي سرح الْقَوْم عَمْرو بن امية
الضمرِي وَرجل من الْأَنْصَار فرأيا الطير تحوم حول المعسكر فقصد
المعسكر فَوجدَ الْقَوْم مقتولين فقاتل الأنصارى وَقتل وَأسر عَمْرو
وَأعْتقهُ عَامر بن الطُّفَيْل لكَونه من مُضر وَلحق عَمْرو برَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأخْبرهُ فشق
عَلَيْهِ.
(غَزْوَة بني النَّضِير)
وفيهَا: غَزْوَة بني النَّضِير من الْيَهُود سَار - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِم وحاصرهم فِي ربيع الأول وَنزل
تَحْرِيم الْخمر وَهُوَ محاصر لَهُم.
قلت: قَالَ فِي الرَّوْضَة إِن غَزْوَة بني النَّضِير سنة ثَلَاث وَإِن
تَحْرِيم الْخمر بعد غَزْوَة أحد وَالله أعلم. وَلما مضى عَلَيْهِم
سِتّ لَيَال سَأَلُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن
يجليهم على أَن لَهُم ثلث مَا حملت الْإِبِل من أَمْوَالهم إِلَّا
السِّلَاح فأجابهم إِلَيْهِ فَخَرجُوا وَمَعَهُمْ الدفوف والمزامير
تجلدا وَكَانَت أَمْوَالهم فَيْئا يقسمها حَيْثُ شَاءَ فَقَسمهَا على
الْمُهَاجِرين دون الْأَنْصَار الأسهل بن حنيفَة وَأَبا دُجَانَة فذكرا
فَأَعْطَاهُمَا مِنْهُ شَيْئا وَمضى من بني النَّضِير إِلَى خَيْبَر
نَاس وَإِلَى الشَّام نَاس.
قلت: وَفِي سنة أَربع قصرت الصَّلَاة وَنزل التميم وَتزَوج أم سَلمَة
وَالله أعلم.
(غَزْوَة ذَات الرّقاع)
وفيهَا: غَزْوَة ذَات الرّقاع، وَفِي جمادي الأولى قلت: فِي الرَّوْضَة
أَن غَزْوَة ذَات الرّقاع فِي سنة خمس فِي الْمحرم وَالله أعلم. سميت
بذلك لأَنهم رقعوا فِيهَا راياتهم فتقارب النَّاس
(1/114)
وَلم يكن بَينهم حَرْب وَفِي هَذِه
الْغَزْوَة جَاءَ رجل من غطفان إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا مُحَمَّد: أُرِيد أَن أنظر إِلَى سَيْفك
هَذَا وَكَانَ محلى بِفِضَّة فَدفعهُ إِلَيْهِ فاستله وهم بِهِ
فَكَتبهُ اللَّهِ ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد مَا تخافني فَقَالَ لَهُ
لَا مَا أَخَاف مِنْك ثمَّ رد سَيْفه إِلَيْهِ فَأنْزل اللَّهِ
تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا نعْمَة اللَّهِ عَلَيْكُم
إِذْ هم قوم أَن يبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم فَكف أَيْديهم عَنْكُم}
وَفِي سنة أَربع فِي شعْبَان.
" غَزْوَة بدر الثَّانِيَة " خرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- لميعاد أبي سُفْيَان وأتى بَدْرًا ينْتَظر أَبَا سُفْيَان فَرجع
أَبُو سُفْيَان إِلَى مَكَّة من أثْنَاء الطَّرِيق فَلَمَّا لم يَأْتِ
انْصَرف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْمَدِينَة
وفيهَا ولد الْحُسَيْن رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة خمس: فِيهَا فِي شَوَّال.
(غَزْوَة الخَنْدَق)
قلت: فِي الرَّوْضَة أَنَّهَا فِي سنة أَربع على الْأَصَح وَالله أعلم،
وَهِي غَزْوَة الْأَحْزَاب بلغَة تحزب قبائل الْعَرَب فحفر الخَنْدَق
حول الْمَدِينَة قيل أَشَارَ بِهِ سلمَان الْفَارِسِي وَهُوَ أول مشْهد
شهده مَعَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَظَهَرت للنَّبِي فِي حفر الخَنْدَق معجزات.
مِنْهَا أَن كدية أَي صَخْرَة اشتدت عَلَيْهِم فَدَعَا بِمَاء وتفل
فِيهِ ونضحه عَلَيْهَا فانهالت تَحت الْمساحِي.
وَمِنْهَا أَن أُخْت النُّعْمَان بن بشر الأنصارى بعثتها أمهَا
بِقَلِيل تمر إِلَى أَبِيهَا وخالها عبد اللَّهِ بن رَوَاحه فمرت
برَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدَعَاهَا
وَقَالَ هَاتِي مَا مَعَك با بنية فصبته فِي كفيه فَمَا امتلأتا ثمَّ
دَعَا بِثَوْب وبدد ذَلِك التَّمْر عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ لإِنْسَان: "
اُصْرُخْ فِي أهل الخَنْدَق أَن هلموا إِلَى الْغَدَاء " فَجعلُوا
يَأْكُلُون مِنْهُ وَجعل يزِيد حَتَّى صدر أهل الخَنْدَق عَنهُ وَأَنه
يسْقط من أَطْرَاف الثَّوْب.
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ جَابر قَالَ: كَانَت عِنْدِي شويهة غير سَمِينَة
فَأمرت امْرَأَتي أَن تخبز قرص شعير وَأَن تشوي تِلْكَ الشَّاة لرَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكُنَّا نعمل فِي
الخَنْدَق نَهَارا وننصرف إِذا أمسينا فَلَمَّا انصرفنا من الخَنْدَق
قلت يَا رَسُول اللَّهِ صنعت لَك شويهة وَمَعَهَا شَيْء من خبز الشّعير
وَأَنا أحب أَن تَنْصَرِف إِلَى منزلي فَأمر رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من يصْرخ فِي النَّاس مَعَه إِلَى بَيت
جَابر وَأَقْبل رَسُول اللَّهِ وَالنَّاس مَعَه فَقدم لَهُ ذَلِك فبرك
وسمى اللَّهِ ثمَّ أكل وتواردها النَّاس كلما صدر قوم جَاءَ قوم حَتَّى
صدر أهل الخَنْدَق عَنْهَا.
وَقَالَ سلمَان الْفَارِسِي ... ... . كنت قَرِيبا من رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنا أعمل فِي الخَنْدَق فتغلظ
عَليّ الْموضع الَّذِي كنت أعمل فِيهِ فَلَمَّا رأى رَسُول اللَّهِ
شدَّة الْمَكَان أَخذ الْمعول وَضرب بِهِ ضَرْبَة لمعت تَحت الْمعول
برقة ثمَّ ضرب أُخْرَى فلمعت برقة أُخْرَى ثمَّ ضرب أُخْرَى فلمعت برقة
أُخْرَى، قَالَ: فَقلت بِأبي أَنْت وَأمي مَا هَذَا الَّذِي يلمع تَحت
الْمعول؟ فَقَالَ:
(1/115)
" أَرَأَيْت ذَلِك يَا سلمَان " فَقلت نعم
فَقَالَ: " أما الأولى فَإِن اللَّهِ فتح عَليّ بهَا الْيمن وَأما
الثَّانِيَة فَإِن اللَّهِ فتح بهَا عَليّ الشَّام وَالْمغْرب وَأما
الثَّالِثَة فَإِن اللَّهِ فتح بهَا عَليّ الْمشرق ".
وَفرغ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من
الخَنْدَق وَأَقْبَلت قُرَيْش فِي أحابيشها وَمن تبعها من كنَانَة فِي
عشرَة آلَاف وَأَقْبَلت غطفان وَمن تبعها من أهل نجد وَكَانَ بَنو
قُرَيْظَة وَكَبِيرهمْ كَعْب بن أَسد قد عاهدوه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَا زَالَ عَلَيْهِم أَصْحَابهم من الْيَهُود
حَتَّى نقضوا الْعَهْد وصاروا مَعَ الْأَحْزَاب فَعظم الْخطب حَتَّى ظن
الْمُؤْمِنُونَ كل الظَّن وَنجم النِّفَاق حَتَّى قَالَ معتب بن
قُشَيْر: كَانَ مُحَمَّد يعدنا أَن نَأْكُل كنوز كسْرَى وَقَيْصَر
وأحدنا الْيَوْم لَا يَأْمَن على نَفسه أَن يذهب إِلَى الْغَائِط،
وَأقَام الْمُشْركُونَ بضعا وَعشْرين لَيْلَة وَرَسُول اللَّهِ مقابلهم
وَلَيْسَ بَينهم قتال غير المراماة بِالنَّبلِ.
ثمَّ خرج عَمْرو بن ود من ولد لؤَي بن غَالب يُرِيد المبارزة فبرز
إِلَيْهِ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَقَالَ عَمْرو: يَا ابْن أخي
وَالله مَا أحب أَن أَقْتلك فَقَالَ عَليّ: لكني وَالله أحب أَن
أَقْتلك، فحمى عَمْرو وَنزل عَن فرسه فعقره وَأَقْبل إِلَى عَليّ
فتقاتلا وتجاولا وعلاهما غبرة وَسمع الْمُسلمُونَ التَّكْبِير
فَعَلمُوا أَن عليا قَتله وانكشفت الغبرة وَإِذا عَليّ على صَدره
يذبحه.
ثمَّ أهب اللَّهِ ريح الصِّبَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا
الَّذين آمنُوا اذْكروا نعْمَة اللَّهِ عَلَيْكُم إِذْ جاءتكم جنود
فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا وجنودا لم تَرَوْهَا} وَكَانَ ذَلِك فِي
أَيَّام شَاتِيَة فكفأت قدورهم وطرحت آنيتهم وَوَقع بَينهم
الِاخْتِلَاف فرحلت قُرَيْش مَعَ ابي سُفْيَان ورحلت غطفان.
(غَزْوَة بني قُرَيْظَة)
وَأصْبح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَانْصَرف عَن
الخَنْدَق رَاجعا إِلَى الْمَدِينَة وَوضع الْمُسلمُونَ السِّلَاح
فَأَتَاهُ جِبْرِيل الظّهْر يَأْمُرهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بني
قُرَيْظَة فَأمر مناديا يُنَادي من كَانَ سَامِعًا مُطيعًا فَلَا
يُصَلِّي الْعَصْر إِلَّا ببني قُرَيْظَة، وَقدم عليا رَضِي اللَّهِ
عَنهُ برايته إِلَى بني قُرَيْظَة ثمَّ نزل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على بِئْر من أبارهم وتلاحق النَّاس وأتى قوم
بعد الْعشَاء الْآخِرَة وَلم يصلوا الْعَصْر لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يصل أحد الْعَصْر إِلَّا ببني قُرَيْظَة
فَلم يُنكر عَلَيْهِم ذَلِك وحاصر بني قُرَيْظَة خمْسا وَعشْرين
لَيْلَة وَقذف اللَّهِ فِي قُلُوبهم الرعب فنزلوا على حكمه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَكَانُوا حلفاء الْأَوْس فَسَأَلته الْأَوْس فيهم كَمَا أطلق بني
قينقاع حلفاء الْخَزْرَج بسؤال عبد اللَّهِ بن أبي بن سلول فَقَالَ: "
أَلا ترْضونَ أَن يحكم فيهم سعد بن معَاذ وَهُوَ سيد الْأَوْس "
قَالُوا بلَى ظنا مِنْهُم أَنه يحكم بإطلاقهم، فَأمر بإحضار سعد
وَكَانَ بِهِ جرح فِي أكحله من الخَنْدَق فَحملت الْأَوْس سَعْدا على
حمَار وطؤا لَهُ عَلَيْهِ بوسادة وَكَانَ جسيما.
ثمَّ أَقبلُوا بِهِ إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وهم يَقُولُونَ لسعد يَا أَبَا عَمْرو أحسن إِلَى مواليك
فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قومُوا إِلَى سيدكم
" والمهاجرون يَقُولُونَ إِنَّمَا أَرَادَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَنْصَار وَالْأَنْصَار يَقُولُونَ
قد عَم بهَا الْمُسلمين فَقَامُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا إِن رَسُول
اللَّهِ قد حكمك فِي مواليك فَقَالَ
(1/116)
سعد أحكم فيهم أَن تقتل الرِّجَال وتقسم
الْأَمْوَال وتسبى الذَّرَارِي وَالنِّسَاء، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لقد حكمت فيهم بِحكم اللَّهِ من فَوق سَبْعَة
أَرقعَة " ثمَّ رَجَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى
الْمَدِينَة وَحبس بني قُرَيْظَة فِي بعض دور الْأَنْصَار وَأمر فحفر
لَهُم خنادق ثمَّ بعث بهم فَضربت أَعْنَاقهم فِيهَا وَكَانُوا نَحْو
سَبْعمِائة رجل ثمَّ قسم سَبَايَا بني قُرَيْظَة فَأخْرج الْخمس
وَاصْطفى لنَفسِهِ رَيْحَانَة بنت عَمْرو فَكَانَت فِي ملكه حَتَّى
مَاتَ ثمَّ انفجر جرح سعد بن معَاذ فَمَاتَ رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
وَاسْتشْهدَ فِي حَرْب الخَنْدَق سِتَّة مِنْهُم سعد، وَكَانَ سعد قد
سَأَلَ اللَّهِ لما جرح على الخَنْدَق أَن لَا يميته حَتَّى يَغْزُو
بني قُرَيْظَة لغدرهم بالعهد فاستجيب لَهُ، وغزوة بني قُرَيْظَة فِي
ذِي الْقعدَة مِنْهَا.
قلت: " وَفِي سنة خمس صلى صَلَاة الْخَوْف وَالله اعْلَم، وَأقَام
بِالْمَدِينَةِ حَتَّى خرجت السّنة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ: فِيهَا فِي جمادي الأولى خرج إِلَى بني لحيان طلبا
بثأر أهل الرجيع فَتَحَصَّنُوا برؤوس الْجبَال فَنزل عسفان تخويفا لأهل
مَكَّة ثمَّ عَاد.
(غَزْوَة ذِي قرد)
ثمَّ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ أَيَّامًا فَأَغَارَ عُيَيْنَة بن حصن
الْفَزارِيّ على لقاح رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَهِي بِالْغَابَةِ فَخرج النَّبِي يَوْم الْأَرْبَعَاء
حَتَّى وصل إِلَى ذِي قرد لأَرْبَع خلون من ربيع الأول فاستنقذ
بَعْضهَا وَعَاد إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانَت غيبته خمس لَيَال. وَذُو
قرد - مَوضِع على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة على طَرِيق خَيْبَر.
(غَزْوَة بني المصطلق)
كَانَت فِي شعْبَان من هَذِه السّنة وَقيل سنة خمس قلت: وَفِي سنة سِتّ
كسفت الشَّمْس وَنزل الظِّهَار وَالله أعلم.
كَانَ قَائِد بني المصطلق الْحَارِث بن أبي ضرار ولقيهم رَسُول اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَاء لَهُم يُقَال لَهُ
الْمُريْسِيع واقتتلوا فَهزمَ اللَّهِ بني المصطلق فَقتل وسبى وغنم
وَوَقعت جوَيْرِية بنت قائدهم الْحَارِث فِي سهم ثَابت بن قيس فكاتبته
على نَفسهَا فَأدى عَنْهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كتَابَتهَا وَتَزَوجهَا فَقَالَ النَّاس أَصْهَار رَسُول
اللَّهِ فَأعتق بتزويجه إِيَّاهَا مائَة من أهل بَيت بني المصطلق
فَكَانَت عَظِيمَة الْبركَة على قَومهَا، وَفِي هَذِه الْغُزَاة قتل
رجل من الْأَنْصَار رجلا من الْمُسلمين خطأ يَظُنّهُ كَافِرًا والقتيل
هِشَام من بني لَيْث بن بكر.
وَكَانَ أَخُوهُ مقيس مُشْركًا فَقدم الْمَدِينَة وَأظْهر الْإِسْلَام
طَالبا دِيَة أَخِيه فَأمر لَهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بهَا وَأقَام قَلِيلا ثمَّ عدا على قَاتل أَخِيه
فَقتله ثمَّ خرج إِلَى مَكَّة مُرْتَدا وَمن قَوْله لَعنه اللَّهِ:
(حللت بِهِ وتري وَأدْركت ثورتي ... وَكنت إِلَى الْأَوْثَان أول
رَاجع)
(1/117)
وَهُوَ مِمَّن أهْدر النَّبِي دَمه يَوْم فتح مَكَّة وَفِي هَذِه
الْغَزْوَة ازْدحم جَهْجَاه الْغِفَارِيّ أجِير عمر رَضِي اللَّهِ
عَنهُ وَسنَان الْجُهَنِيّ حَلِيف الْأَنْصَار على المَاء وتقاتلا
فَصَرَخَ الْغِفَارِيّ يَا معشر الْمُهَاجِرين وصرخ الْجُهَنِيّ يَا
معشر الْأَنْصَار فَغَضب عبد اللَّهِ بن أبي بن سلول الْمُنَافِق
وَعِنْده رَهْط من قومه فِيهِ زيد بن أَرقم فَقَالَ أبي بن سلول أَو قد
فَعَلُوهَا قد كاثرونا فِي بِلَادنَا أما وَالله لَئِن رَجعْنَا إِلَى
الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل. ثمَّ قَالَ لمن حضر من
قومه هَذَا مَا فَعلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُم بِلَادكُمْ
وَقَاسَمْتُمُوهُمْ على أَمْوَالكُم لَو أَمْسَكْتُم عَنْهُم مَا
بِأَيْدِيكُمْ لتحولوا عَنْكُم فَأخْبر زيد بن أَرقم النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك وَعِنْده عمر بن الْخطاب فَقَالَ
يَا رَسُول اللَّهِ مر بِهِ عبد اللَّهِ بن بشير فليقتله فَقَالَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَيفَ يتحدث النَّاس إِذن إِن
مُحَمَّدًا يقتل أَصْحَابه ".
ثمَّ أَمر بالرحيل فِي وَقت لم يكن ليرحل فِيهِ ليقطع مَا النَّاس
فِيهِ فَلَقِيَهُ أسيد بن حضير وَقَالَ ": يَا رَسُول اللَّهِ رحت فِي
سَاعَة لم تكن لتروح فِيهَا فَقَالَ: " أَو مَا بلغك مَا قَالَ عبد
اللَّهِ بن أبي بن سلول " فَقَالَ: وماذا قَالَ، فَأخْبرهُ بمقاله
فَقَالَ أسيد: أَنْت وَالله تخرجه إِن شِئْت أَنْت الْعَزِيز وَهُوَ
الذَّلِيل وَبلغ ابْن عبد اللَّهِ بن أبي بن سلول، واسْمه أَيْضا عبد
اللَّهِ، وَكَانَ حسن الْإِسْلَام مقَالَة أَبِيه فَقَالَ: يَا رَسُول
اللَّهِ بَلغنِي أَنَّك تُرِيدُ قتل أبي فَإِن كنت فَاعِلا فمرني
فَأَنا أحمل إِلَيْك رَأسه فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بل نرفق بِهِ ونحسن صحبته ".
وَلما رَجَعَ النَّبِي من هَذِه الْغَزْوَة وَكَانَ بِبَعْض الطَّرِيق
قَالَ " أهل الْإِفْك مَا قَالُوا " وهم مسطح بن أَثَاثَة بن عباد بن
عبد الْمطلب وَهُوَ ابْن خَالَة أبي بكر وَحسان بن ثَابت، وَعبد
اللَّهِ بن أبي بن سلول الْمُنَافِق وَأم حَسَنَة بنت جحش فرموا
عَائِشَة بالإفك مَعَ صَفْوَان بن الْمُعَطل صَاحب النَّاقة فَلَمَّا
أنزل اللَّهِ براءتها جلدهمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ إِلَّا عبد اللَّهِ بن أبي بن سلول فَلم يجلده،
وَفِي هَذِه الْغُزَاة - أَعنِي غزَاة بني المصطلق - نزل التَّيَمُّم.
قلت: قَالَ فِي الرَّوْضَة: إِن التَّيَمُّم نزل فِي سنة أَربع كَمَا
قدمت، وَالله أعلم. |