تاريخ ابن الوردي
(أَخْبَار مُعَاوِيَة بن يزِيد)
وَلما توفّي يزِيد بُويِعَ ابْنه " مُعَاوِيَة بن يزِيد بن مُعَاوِيَة
" ثَالِث خلفائهم فِي رَابِع عشر ربيع الأول مِنْهَا، كَانَ شَابًّا
دينا، ولي ثَلَاثَة أشهر، وَقيل أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَمَات وعمره
إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة بعد أَن جمع النَّاس وَقَالَ: قد ضعفت عَن
أَمركُم وَلم أجد لكم مثل عمر بن الْخطاب لأستخلفه وَلَا مثل أهل
الشورى فَأنْتم أولى بأمركم فَاخْتَارُوا من احببتم، ثمَّ دخل منزله
وتغيب فِيهِ حَتَّى مَاتَ، وَقيل أوصى أَن يُصَلِّي الضَّحَّاك بن قيس
حَتَّى يقوم لَهُم خَليفَة.
(أَخْبَار ابْن الزبير)
وَلما مَاتَ يزِيد بن مُعَاوِيَة بُويِعَ " ابْن الزبير " بِمَكَّة،
فقصد مَرْوَان بن الحكم الْمسير إِلَيْهِ من الْمَدِينَة لمبايعته،
ثمَّ توجه إِلَى الشَّام مَعَ بني أُميَّة، وَقيل كتب ابْن الزبير
إِلَى عَامله بِالْمَدِينَةِ أَن لَا يتْرك بهَا أحدا من بني أُميَّة،
وهرب عبيد اللَّهِ بن زِيَاد من الْبَصْرَة إِلَى الشَّام، وَبَايع أهل
الْبَصْرَة ابْن الزبير وَاجْتمعت لَهُ الْعرَاق والحجاز واليمن،
وَبَايَعَهُ أهل مصر، وَبَايع لَهُ فِي الشَّام سرا الضَّحَّاك بن قيس،
والنعمان بن بشير بحمص، وَزفر بن الْحَارِث الْكلابِي بِقِنِّسْرِينَ،
وَكَاد يتم لَهُ الْأَمر بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَانَ شجاعا عابدا لَكِن
مَعَ بخل وَضعف رَأْي. وَأقَام مَرْوَان بن الحكم بِالشَّام فِي
أَيَّام ابْن الزبير، وَاجْتمعت بَنو أُميَّة وَصَارَ النَّاس
بِالشَّام فرْقَتَيْن: اليمانية مَعَ مَرْوَان، والقيسية مَعَ
الضَّحَّاك بن قيس مبايعين لِابْنِ الزبير.
وَآخر ذَلِك أَن الْفَرِيقَيْنِ اقْتَتَلُوا " بمرج راهط " فِي الغوطة
- إِحْدَى المنتزهات الْأَرْبَعَة - وَانْهَزَمَ الضَّحَّاك والقيسية
وَقتل الضَّحَّاك وَجمع كثير من فرسَان قيس، ونادى مُنَادِي مَرْوَان:
أَن لَا يتبع أحد مُنْهَزِمًا، وَدخل مَرْوَان دمشق وَنزل بدار
مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَاجْتمعَ عَلَيْهِ النَّاس، وَتزَوج أم
خَالِد بن يزِيد بن مُعَاوِيَة لخوفه من خَالِد.
(1/166)
وَبلغ النُّعْمَان بن بشير بحمص هزيمَة
القيسية، فَخرج هَارِبا بامرأته وَأَهله، فَقَتَلُوهُ وَرَجَعُوا
بِرَأْسِهِ وَأَهله إِلَى حمص.
وَبلغ زفر بن الْحَارِث بِقِنِّسْرِينَ فَخرج مِنْهَا وأتى قرقيسيا
فغلب عَلَيْهَا.
واستوثق الشَّام لمروان، وَسَار فَملك مصر وَرجع إِلَى دمشق.
وفيهَا مَالَتْ حيطان الْكَعْبَة زَاد اللَّهِ شرفها من ضرب المنجنيق،
فَهَدمهَا عبد اللَّهِ بن الزبير وحفر أساسها وَأدْخل الْحجر فِيهَا
وأعادها كَمَا كَانَت أَولا.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ: فِيهَا خنقت أم خَالِد بن يزِيد زَوجهَا
مَرْوَان بن الحكم وصاحت مَاتَ مَرْوَان فَجْأَة، لثلاث خلون من
رَمَضَان، وَدفن بِدِمَشْق وعمره ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة، وخلافته
تِسْعَة أشهر وَثَمَانِية عشر يَوْمًا.
وَلما مَاتَ مَرْوَان بُويِعَ " عبد الْملك " ابْنه خَامِس خلفائهم فِي
ثَالِث رَمَضَان مِنْهَا عقب موت أَبِيه، وَتمّ أمره بِالشَّام ومصر،
وأتته الْخلَافَة وَهُوَ قَاعد يقْرَأ فِي الْمُصحف فِي حجرَة فأطبقه
وَقَالَ: هَذَا آخر الْعَهْد بك.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ: فِيهَا خرج الْمُخْتَار بن عبيد
اللَّهِ الثَّقَفِيّ بِالْكُوفَةِ طَالبا بِدَم الْحُسَيْن رَضِي
اللَّهِ عَنهُ فِي جمع كثير، وَاسْتولى عَلَيْهَا، وَبَايَعُوهُ بهَا
على كتاب اللَّهِ وَسنة رَسُوله والطلب بِدَم أهل الْبَيْت، وتجرد
الْمُخْتَار لقتل قتلة الْحُسَيْن وظفر بشمر فَقتله، واحتاط بدار خولى
الأصبحي صَاحب رَأس الْحُسَيْن وَقَتله وَأحرقهُ، وَقتل عَمْرو بن سعد
بن أبي وَقاص صَاحب الْجَيْش، وَسعد بن عَمْرو الْمَذْكُور وَبعث
برأسيهما إِلَى مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة بالحجاز فِي ذِي الْحجَّة
مِنْهَا، ثمَّ اتخذ الْمُخْتَار كرسيا وَادّعى أَن فِيهِ سرا وَأَنه
لَهُم مثل التابوت لبني إِسْرَائِيل، وَلما أرسل الْمُخْتَار بالجنود
لقِتَال عبيد اللَّهِ بن زِيَاد خرج بالكرسي على بغل يحملهُ فِي
الْقِتَال.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ: وفيهَا: استولى الْمُخْتَار على الْموصل
وَقدم على الْجَيْش إِبْرَاهِيم بن الأشتر النَّخعِيّ فَقَاتلُوا جَيش
عبيد اللَّهِ بن زِيَاد، فَقتل عبيد اللَّهِ بن زِيَاد وَانْهَزَمَ
أَصْحَابه وغرق كثير مِنْهُم فِي الزاب؛ قَتله ابْن الأشتر فِي المعركة
وأحرق جثته وَبعث بِرَأْسِهِ وعدة من رُؤُوس أَصْحَابه إِلَى
الْمُخْتَار، وانتقم اللَّهِ للحسين بالمختار وَإِن لم تكن نِيَّة
الْمُخْتَار ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
قلت: فِي الحَدِيث عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-: " أَن اللَّهِ قتل بِيَحْيَى بن زَكَرِيَّا سبعين ألفا ووعدني أَن
يقتل بِابْني هَذَا - يَعْنِي الْحُسَيْن - سبعين ألفا "، وَكَانَ
كَمَا قَالَ وَالله أعلم.
وفيهَا: ولي ابْن الزبير أَخَاهُ مصعبا الْبَصْرَة، ثمَّ سَار مُصعب من
الْبَصْرَة بعد أَن جَاءَ لَهُ الْمُهلب بن أبي صفرَة من خُرَاسَان
بِمَال وعسكر كثير، فسارا جَمِيعًا إِلَى قتال الْمُخْتَار
بِالْكُوفَةِ، فالتقاهما الْمُخْتَار بمجموعة فَهزمَ الْمُخْتَار
وَأَصْحَابه بعد قتال شَدِيد، وَحصر
(1/167)
الْمُخْتَار فِي قصر الْإِمَارَة
بِالْكُوفَةِ، ودخلها مُصعب وحاصر الْمُخْتَار فقاتل الْمُخْتَار
حَتَّى قتل فِي رَمَضَان مِنْهَا وعمره سبع وَسِتُّونَ، ثمَّ نزل
أَصْحَابه على حكم مُصعب فَقتل الْكل وَكَانُوا سَبْعَة آلَاف.
وفيهَا - وَقيل سنة إِحْدَى وَسبعين، وَقتل تسع وَسِتِّينَ، وَقيل
ثَمَان وَسِتِّينَ - توفّي بِالْكُوفَةِ الْأَحْنَف أَبُو بَحر
الضَّحَّاك بن قيس بن مُعَاوِيَة بن حُصَيْن بن عبَادَة؛ يضْرب الْمثل
بحلمه، سيد قومه مَوْصُوف بِالْعقلِ وَالْعلم والدهاء والذكاء؛ أدْرك
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يَصْحَبهُ، ووفد
على عمر فَكَانَ من كبار التَّابِعين، وَشهد مَعَ عَليّ صفّين وَلم
يشْهد وقْعَة الْجمل مَعَ أحد الْفَرِيقَيْنِ، كَانَ أحنف الرجل يطَأ
على جَانبهَا الوشحي، حضر الْأَحْنَف عِنْد مُعَاوِيَة فَقَامَ شَامي
خَطِيبًا وَلعن عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ فِي آخر كَلَامه، فَقَالَ
الْأَحْنَف: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن هَذَا الْقَائِل لَو يعلم أَن
رضاك فِي لعن الْمُرْسلين للعنهم فَاتق اللَّهِ ودع عَنْك عليا فقد
لَقِي ربه وأفرد فِي قَبره، وَكَانَ وَالله الميمونة نقيبتة،
الْعَظِيمَة مصيبته. فَقَالَ مُعَاوِيَة يَا أحنف لقد أغضيت الْعين على
القذى فأيم اللَّهِ لتصعدن الْمِنْبَر ولتلعنته طَوْعًا أَو كرها،
فَقَالَ الْأَحْنَف أَو تعفيني فَهُوَ خير لَك، فألح عَلَيْهِ
مُعَاوِيَة، فَقَالَ الْأَحْنَف: أما وَالله لأنصفنك فِي القَوْل،
قَالَ: وَمَا أَنْت قَائِل؟ قَالَ: أَحْمد اللَّهِ بِمَا هُوَ اهله
وأصلي على رَسُوله وَأَقُول: أَيهَا النَّاس إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ
مُعَاوِيَة أَمرنِي أَن ألعن عليا، أَلا وَأَن عليا وَمُعَاوِيَة
اخْتلفَا فاقتتلا وأدعى كل مِنْهُمَا أَنه مبغي عَلَيْهِ فَإِذا
دَعَوْت فَأمنُوا ثمَّ أَقُول: اللَّهُمَّ الْعَن أَنْت وملائكتك ورسلك
وَجَمِيع خلقك الْبَاغِي مِنْهُمَا على صَاحبه والعن الفئة الباغية
اللَّهُمَّ العنهم لعنا كثيرا أمنُوا رحمكم اللَّهِ، يَا مُعَاوِيَة
أقوله وَلَو كَانَ فِيهِ ذهَاب رحي، فأعفاه مُعَاوِيَة من ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ: فِيهَا توفّي عبد اللَّهِ بن عَبَّاس
رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا بِالطَّائِف فصلى عَلَيْهِ مُحَمَّد بن
الحنيفة، كَانَ ابْن الحنيفة مُقيما بِالطَّائِف إِلَى أَن قدم
الْحجَّاج بن يُوسُف الْحجاز. ومولد ابْن عَبَّاس قبل الْهِجْرَة
بِثَلَاث سِنِين، دَعَا لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَعلمه الْكتاب والتاويل
"، وَكَانَ عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ يُسَمِّيه تَارَة الْبَحْر،
وَتارَة الحبر، لعلومه.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسِتِّينَ: وَمَا بعْدهَا إِلَى سنة إِحْدَى
وَسبعين فِيهَا تجهز عبد الْملك إِلَى الْعرَاق، وتجهز مُصعب بن الزبير
لملتقاه، وَأَقْبل الْجَمْعَانِ فتخلى الْعِرَاقِيُّونَ عَن مُصعب
وَكَانُوا قد كاتبوا عبد الْملك، فقاتل مُصعب حَتَّى قتل هُوَ وَولده
بدير الجاثليق عِنْد نهر دجيل فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا وعمره
سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة، كَانَ صديق عبد الْملك قبل خِلَافَته، وَتزَوج
مُصعب سكينَة بنت الْحُسَيْن وَعَائِشَة بنت طَلْحَة مَعًا. ثمَّ دخل
عبد الْملك الْكُوفَة وبويع واستوثق لَهُ ملك الْعِرَاقِيّين.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين: فِيهَا جهز عبد الْملك الْحجَّاج
بن يُوسُف فِي جَيش إِلَى مَكَّة لقِتَال عبد اللَّهِ بن الزبير،
فَسَار فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا وَنزل الطَّائِف وَجَرت بَينه
(1/168)
وَبَين أَصْحَاب ابْن الزبير حروب وَكَانَت
الكرة على أَصْحَاب ابْن الزبير، وَآخر ذَلِك أَنه حصر ابْن الزبير
بِمَكَّة وَرمى الْبَيْت بالمنجنيق ودام الْحصار حَتَّى خرجت السّنة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين: وَابْن الزبير مَحْصُور وَقَاتل حَتَّى
قتل فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا بعد قتال سَبْعَة أشهر وعمره نَحْو
ثَلَاث وَسبعين سنة، وَهُوَ أول مَوْلُود للمهاجرين بعد الْهِجْرَة،
وخلافته تسع سِنِين، وَكَانَ كثير الْعِبَادَة مكث أَرْبَعِينَ سنة لم
ينْزع ثَوْبه عَن ظَهره.
وفيهَا: بعد قَتله بُويِعَ لعبد الْملك بالحجاز واليمن.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن عمر بن الْخطاب بعد قتل ابْن الزبير
بِثَلَاثَة أشهر وعمره سبع وَثَمَانُونَ.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين: فِيهَا هدم الْحجَّاج الْكَعْبَة وَأخرج
الْحجر عَن الْبَيْت، وَبنى الْبَيْت على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي زمن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ على ذَلِك
إِلَى الْآن.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين: فِيهَا ولى عبد الْملك الْحجَّاج الْعرَاق،
فَسَار من الْمَدِينَة إِلَى الْكُوفَة، وَخرج فِي أَيَّامه بالعراق
شبيب الْخَارِجِي وَله مَعَ الْحجَّاج حروب كَثِيرَة آخرهَا أَن جموع
شبيب تَفَرَّقت، وتردى بِهِ فرسه من فَوق جسر فغرق شبيب.
وَكَذَلِكَ خرج عبد الرَّحْمَن بن الْأَشْعَث وَاسْتولى على خُرَاسَان،
ثمَّ قصد الْحجَّاج وَغلب على الْكُوفَة وقويت شوكته، وَفِي ذَلِك
يَقُول بعض أَصْحَابه:
(شطت نوى من دَاره بالإيوان ... إيوَان كسْرَى ذِي القوى وَالريحَان)
(من عاشق أضحى بزابلستان ... أَن ثقيفا مِنْهُم الكذابان)
(كذابها الْمَاضِي وَكَذَّاب ثَان ... إِنَّا سمونا للكفور الفتان)
(حَتَّى طَغى فِي الْكفْر بعد الْإِيمَان ... بالسيد الغطريف عبد
الرَّحْمَن)
(سَار بِجمع كالدبى من قحطان ... بجحفل جم شَدِيد الْأَركان)
(فَقل لحجاج ولي الشَّيْطَان ... بثبت لجمعي مذْحج وهمدان)
(فَإِنَّهُم ساقوه كأس الذيعان ... وملحقوه بقرى ابْن مَرْوَان)
ثمَّ أمد عبد الْملك الْحجَّاج بالجيوش من الشَّام، وَآخر الْأَمر: أَن
جموع عبد الرَّحْمَن تَفَرَّقت وَانْهَزَمَ إِلَى ملك التّرْك، ثمَّ
تهدد الْحجَّاج ملك التّرْك بالغزو وَطَلَبه مِنْهُ، فَقبض عَلَيْهِ
ملك التّرْك وعَلى أَرْبَعِينَ من أَصْحَابه وَبعث بهم إِلَى
الْحجَّاج، فَألْقى عبد الرَّحْمَن فِي الطَّرِيق نَفسه من سطح
فَمَاتَ.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَمَا بعْدهَا: إِلَى إِحْدَى وَثَمَانِينَ
فِيهَا توفّي أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب (ابْن
الْحَنَفِيَّة) رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ: فِيهَا توفّي الْمُهلب بن أبي
صفرَة الْأَزْدِيّ من الأجواد،
(1/169)
كَانَ الحجاح قد ولاه خُرَاسَان، وَمَات
الْمُهلب بمروروذ واستخلف بعده ابْنه يزِيد، أحضر قبل وَفَاته لأولاده
سهاما وَقَالَ: أتكسرونها مجتمعة؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أتكسرونها
مُتَفَرِّقَة؟ قَالُوا: نعم، قَالَ: هَكَذَا أَنْتُم.
وفيهَا: توفّي خَالِد بن يزِيد بن مُعَاوِيَة من أسخياء بني أُميَّة
وعقلائهم وفصحائهم
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ: فِيهَا بني الْحجَّاج وَاسِط.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسنة خمس وَثَمَانِينَ: فِيهَا توفّي عبد
الْعَزِيز بن مَرْوَان بِمصْر.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ: فِي نصف شَوَّال مِنْهَا توفّي عبد
الْملك بن مَرْوَان وعمره سِتُّونَ، وخلافته مُنْذُ قتل ابْن الزبير
ثَلَاث عشرَة سنة وَأَرْبَعَة أشهر تنقص سبع لَيَال، لقب بِأبي
الذُّبَاب لشدَّة الْبُخْل، ولقب لبخله برشح الْحجر، كَانَ حازما
عَاقِلا عَالما دينا حَتَّى تولى، وَفِيه يَقُول الْحسن الْبَصْرِيّ:
مَا أَقُول فِي رجل الْحجَّاج سَيِّئَة من سيئاته.
(أَخْبَار الْوَلِيد بن عبد الْملك)
وَلما توفّي عبد الْملك بُويِعَ الْوَلِيد فِي منتصف شَوَّال مِنْهَا
بِعَهْد من أَبِيه إِلَيْهِ، وأغرى بِالْبِنَاءِ، وَفِي أَيَّامه
فتوحات كَثِيرَة من الأندلس وَمِمَّا وَرَاء النَّهر، وَولى الْحجَّاج
خُرَاسَان مَعَ الْعِرَاقِيّين فتغلغل فِي بِلَاد التّرْك، وتغلغل
مسلمة بن عبد الْملك فِي بِلَاد الرّوم فَفتح وسبى، وَفتح مُحَمَّد بن
الْقَاسِم الثَّقَفِيّ بِلَاد الْهِنْد.
وفيهَا: ولى الْوَلِيد ابْن عَمه عمر بن عبد الْعَزِيز الْمَدِينَة،
فَقَدمهَا وَنزل فِي دَار جده مَرْوَان، ودعا عشرَة من فقهائها وهم:
عُرْوَة بن الزبير، وَعبيد اللَّهِ بن عتبَة بن مَسْعُود، وَأَبُو بكر
بن عبد الرَّحْمَن، وَأَبُو بكر بن سُلَيْمَان، وَسليمَان بن يسَار،
وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر، وَسَالم بن عبيد اللَّهِ بن عمر بن
زيد، فَقَالَ لَهُم عمر: أُرِيد أَن لَا أقطع أمرا إِلَّا برأيكم فَمَا
علمتموه من تعدِي عَامل أَو من ظلامة فعرفوني بِهِ فجزوه خيرا.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وثمان وَثَمَانِينَ: فِيهَا: كتب
الْوَلِيد إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز يَأْمُرهُ بهدم مَسْجِد رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهدم بيُوت أَزوَاجه
رَضِي اللَّهِ عَنْهُن، وَأَن يدْخل الْبيُوت فِي الْمَسْجِد بِحَيْثُ
تصير مساحة الْمَسْجِد مِائَتي ذِرَاع فِي مِائَتي ذِرَاع وَأَن يضع
أَثمَان الْبيُوت فِي بَيت المَال، فَأجَاب أهل الْمَدِينَة إِلَى
ذَلِك وقدمت الفعلة والصناع من عِنْد الْوَلِيد لعمارة الْمَسْجِد،
وتجرد لذَلِك عمر بن عبد الْعَزِيز.
وفيهَا: أَمر الْوَلِيد بِبِنَاء جَامع دمشق بأموال تجل عَن الْوَصْف.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمَا بعْدهَا حَتَّى دخلت سنة ثَلَاث
وَتِسْعين: فِيهَا عزل الْوَلِيد عمر بن عبد الْعَزِيز عَن
الْمَدِينَة.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين: فِيهَا قتل الْحجَّاج سعيد بن جُبَير
رَحمَه اللَّهِ لكَونه خلع الْحجَّاج وَصَارَ مَعَ عبد الرَّحْمَن بن
الْأَشْعَث، أرسل سعيد إِلَى الْحجَّاج من مَكَّة فَضرب
(1/170)
عُنُقه، وَكَانَ من أَعْلَام التَّابِعين، أَخذ عَن عبد اللَّهِ بن
عَبَّاس وَعبد اللَّهِ بن عمر، وَعنهُ روى الْقُرْآن أَبُو عَمْرو.
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: قتل الْحجَّاج سعيد بن جُبَير وَمَا على وَجه
الأَرْض أحد إِلَّا وَهُوَ مفتقر إِلَى علمه.
وفيهَا توفّي سعيد بن الْمسيب من كبار التَّابِعين وفقهائهم.
وفيهَا - وَقيل سنة خمس وَتِسْعين - توفّي عَليّ بن الْحُسَيْن بن
عَليّ بن أبي طَالب الْمَعْرُوف بزين العابدين، سلم من الْقَتْل إِذْ
قتل أَبوهُ لِأَنَّهُ كَانَ مَرِيضا على الْفراش وَكَانَ كثير
الْعِبَادَة وَلِهَذَا سمي زين العابدين، وَتُوفِّي بِالْمَدِينَةِ
وَدفن بِالبَقِيعِ وعمره ثَمَان وَخَمْسُونَ سنة.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين: فِيهَا توفّي الْحجَّاج بن يُوسُف وعمره
أَربع وَخَمْسُونَ، وَمُدَّة ولَايَته الْعرَاق نَحْو عشْرين سنة،
كَانَ أخفش رَقِيق الصَّوْت فصيحا، قيل أحصيت قتلاه فَكَانُوا مائَة
ألف وَعشْرين ألفا.
قلت: قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه اللَّهِ: لَو جَاءَت كل أمة
بمنافقيها وَجِئْنَا بالحجاج لفضلناهم؛ وَسيرَته وجراءته على الدِّمَاء
مَشْهُورَة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين: فِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي
الْوَلِيد بن عبد الْملك بدير مَرْوَان، وَدفن بِدِمَشْق خَارج الْبَاب
الصَّغِير، وخلافته تسع سِنِين وَسَبْعَة أشهر، وَصلى عَلَيْهِ عمر بن
عبد الْعَزِيز ابْن عَمه، وعمره اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ وَسِتَّة
أشهر، كَانَ سَائل الْأنف جدا وَله ثَمَانِيَة عشر ابْنا، جَاءَتْهُ
الصناع لعمارة جَامع دمشق من بِلَاد الرّوم وَسَائِر بِلَاد
الْإِسْلَام، وَأدْخل كَنِيسَة ماري حنا فِي جملَة الْجَامِع، كَانَت
قد سلمت للروم بِسَبَب وُقُوعهَا فِي النّصْف الَّذِي أَخذ صلحا.
وَكَانَ لحانا شكا أَعْرَابِي صهره إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا شَأْنك
بِفَتْح النُّون؟ فَقَالَ الْأَعرَابِي: أعوذ بِاللَّه من الشين،
فَقَالَ سُلَيْمَان بن عبد الْملك: أَمِير الْمُؤمنِينَ يَقُول مَا
شَأْنك بِالضَّمِّ، فَقَالَ الْأَعرَابِي، ختني ظَلَمَنِي، فَقَالَ
الْوَلِيد: من ختنك؟ فَقَالَ الْأَعرَابِي: إِنَّمَا ختنني الْحجام
وَلست أُرِيد ذَا، فَقَالَ سُلَيْمَان: أَمِير الْمُؤمنِينَ يَقُول من
ختنك بِالضَّمِّ، فَقَالَ هَذَا وَأَشَارَ إِلَى خَصمه.
وَكَانَ عبد الْملك فصيحا وَعرف لحن ابْنه فَقَالَ: إِنَّك يَا بني لَا
تصلح للولاية على الْعَرَب وَأَنت تلحن، ووكل بِهِ من يُعلمهُ، فَخرج
أَجْهَل مِمَّا دخل. |