تاريخ ابن الوردي

ظُهُور الْمُلُوك الغورية وانقراض دولة آل سبكتكين

أول الغورية مُحَمَّد بن الْحُسَيْن صاهر بهْرَام شاه بن مَسْعُود صَاحب عزنة من آل سبكتكين ثمَّ قَتله بهْرَام شاه خشيَة من غدره، وَقد جَاءَهُ يظْهر الطَّاعَة ويبطن الْغدر فولى بعده ملك الغورية أَخُوهُ سورى وَسَار إِلَى غزنة فِي طلب ثأر أَخِيه وَقَاتل بهْرَام شاه فظفر بِهِ وَقَتله أَيْضا.
ثمَّ ملك أخوهما عَلَاء الدّين الْحُسَيْن بن الْحُسَيْن، وَسَار إِلَى غزنة فَانْهَزَمَ عَنْهَا بهْرَام شاه فَاسْتَوَى عَلَيْهَا عَلَاء الدّين الْحُسَيْن وَأقَام بغزنة أَخَاهُ سيف الدّين شاه، وَرجع إِلَى الْغَوْر فكاتب أهل غزنة بهْرَام شاه فقاتل سيف الدّين الغوري فظفر بِسيف الدّين فَقتله وَملك بهْرَام شاه غزنة، ثمَّ توفّي بهْرَام شاه.
وَملك ابْنه خسرو شاه وتجهز عَلَاء الدّين ملك الغورية إِلَى غزنة سنة خمسين وَخَمْسمِائة فَلَمَّا قاربها سَار صَاحبهَا خسرو شاه إِلَى لهاور، وَملك عَلَاء الدّين الْحُسَيْن غزنة، ونهبها ثَلَاثَة أَيَّام، وتلقب بالسلطان الْمُعظم، وَحمل الجنز على عَادَة السلاطين السلجوقية، ثمَّ اسْتعْمل على غزنة ابْني أَخِيه سَام وهما غياث الدّين مُحَمَّد وشهاب الدّين مُحَمَّد، ثمَّ جرى بَينهمَا وَبَين عَمهمَا عَلَاء الدّين الْحُسَيْن حَرْب أسرا فِيهِ عَمهمَا وأطلقاه وأجلساه على التخت ووقفا فِي خدمته، وَزوج ابْنَته من غياث الدّين وولاه عَهده، وَمَات عَلَاء الدّين الْحُسَيْن بن الْحُسَيْن سنة سِتّ وَخمسين فَملك غياث الدّين مُحَمَّد بن سَام وخطب لنَفسِهِ فِي الْغَوْر وغزنة.
ثمَّ استولى الغز على غزنة خمس عشرَة سنة، ثمَّ أرسل أَخَاهُ شهَاب الدّين وَهزمَ الغز، وَقتل كثيرا وَاسْتولى على غزنة وَمَا بجوارها مثل كرمان وسنوران وَمَاء السَّنَد، وَقصد لَهَا وروبها خسرو شاه بن بهْرَام شاه فملكها شهَاب الدّين سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة بعد حِصَار، وَأمن خسرو شاه فَحَضَرَ فَأكْرمه، وَبلغ غياث الدّين ذَلِك فَطلب من شهَاب الدّين خسرو شاه فَأمره بالتوجه إِلَيْهِ، فَقَالَ خسرو شاه: أَنا مَا أعرف أَخَاك فطيب خاطره وأرسله، وَأرْسل ابْن خسرو شاه أَيْضا مَعَه مَعَ عَسْكَر يحفظونهما فرفعهما غياث الدّين إِلَى بعض القلاع وَلم يرهما، فَكَانَ آخر الْعَهْد بهما وخسرو شاه بن بهْرَام شاه بن مَسْعُود بن إِبْرَاهِيم بن مَسْعُود بن مَحْمُود بن سبكتكين هُوَ آخر مُلُوك آل سبكتكين، ابْتِدَاؤُهَا سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلاثمائة، وملكوا مِائَتي سنة وَثَلَاث عشرَة سنة تَقْرِيبًا، فانقراض دولتهم سنة ثَمَان

(2/51)


وَسبعين وَخَمْسمِائة، كَانُوا من أحسن الْمُلُوك سيرة، وَلما اسْتَقر ملك الغورية باللهاور كتب غياث الدّين إِلَى أَخِيه شهَاب الدّين بِالْخطْبَةِ لَهُ بالسلطنة وتلقب بِمعين الْإِسْلَام وقسيم أَمِير الْمُؤمنِينَ.
ثمَّ اجْتمع شهَاب الدّين بأَخيه غياث الدّين وسارا إِلَى خُرَاسَان وحصرا هراة وَسلم غياث الدّين بالأمان، ثمَّ سارا إِلَى فوشنج فملكها، ثمَّ عادا فملكا بادغيس، وكالين وأبيورد، ثمَّ رَجَعَ غياث الدّين إِلَى بَلْدَة فَيْرُوز كوه وشهاب الدّين إِلَى غزنة، ثمَّ قصد شهَاب الدّين الْهِنْد وَفتح مَدِينَة آجرة، ثمَّ عَاد ثمَّ قصد الْهِنْد فذلل صعبها وَفتح وَبلغ مَا لم يبلغهُ ملك من الْمُسلمين، فَاقْتَحَمت مُلُوك الهنود وَاجْتمعت وقاتلوه قتالاً عَظِيما، فَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ وجرح شهَاب الدّين واستخفى بَين الْقَتْلَى، ثمَّ اجْتمع أَصْحَابه وَحَمَلُوهُ إِلَى مَدِينَة آجرة وَاجْتمعت عساكره وجاءه مدد أَخِيه غياث الدّين، ثمَّ اجْتمعت الهنود وتنازل الْجَمْعَانِ وَبَينهمَا نهر فكبس الْمُسلمُونَ الهنود وتمت هزيمتهم فَقتل من الْهِنْد مَا يفوق الْحصْر، وَقتلت ملكتهم، وَتمكن شهَاب الدّين بعد هَذِه الْوَقْعَة من الْهِنْد فأقطع مَمْلُوكه قطب الدّين أيبك مَدِينَة دهلي من كراسي ممالكهم فَأرْسل أيبك عسكراً مقدمه مُحَمَّد بن بختيار فملكوا مَوَاضِع لم يصلها مُسلم قبله حَتَّى قاربوا الصين.
وفيهَا: توفّي حسام الدّين تمرتاش بن إيلغازي صَاحب ماردين، وميافارقين، وولايته نَيف وَثَلَاثُونَ سنة، وَولى بعده ابْنه نجم الدّين البي.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا انهزم السُّلْطَان سنجر من الأتراك الغز من الْمُسلمين؛ كَانُوا وَرَاء النَّهر فَلَمَّا ملكه الْخَطَأ أخرجوهم فأقاموا بنواحي بَلخ طَويلا، ثمَّ قَاتلهم قماج مقطع بَلخ ليخرجهم عَنهُ فهزموا قماج وتبعوه يقتلُون وَيَأْسِرُونَ، واسترقوا النِّسَاء والأطفال، وخربوا الْمدَارِس وَقتلُوا الْفُقَهَاء وَوصل قماج مُنْهَزِمًا إِلَى سنجر فَسَار إِلَيْهِم فِي مائَة ألف فَارس فَأرْسل الغز يَعْتَذِرُونَ عَمَّا وَقع، وبذلوا كثيرا ليكف عَنْهُم فَأبى وقصدهم واقتتلوا فانهزمت عَسَاكِر سنجر وَقتل قماج وَأسر السُّلْطَان سنجر وَجَمَاعَة من أمرائه.
فَأَما سنجر فَلَمَّا أسروه اجْتمع الغز وقبلوا الأَرْض بَين يَدَيْهِ وَقَالُوا نَحن عبيدك وَبَقِي مَعَهم شَهْرَيْن أَو ثَلَاثَة، ودخلوا مَعَه إِلَى مرو كرْسِي خُرَاسَان فطلبها مِنْهُ بختيار إقطاعاً وَهُوَ أكبر أُمَرَاء الغز، فَقَالَ سنجر: هَذِه دَار الْملك وَلَا يجوز أَن تكون إقطاعاً لأحد فضحكوا مِنْهُ وحبق لَهُ بختيار بفمه فَنزل سنجر عَن سَرِير الْملك وَدخل خانقاه مرو وَتَابَ عَن الْملك، وَاسْتولى الغز على الْبِلَاد فنهبوا نيسابور وَقتلُوا الْكِبَار وَالصغَار والقضاة وَالْعُلَمَاء والصلحاء بِتِلْكَ الْبِلَاد فَقتل الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الأرسابندي وَالْقَاضِي عَليّ بن مَسْعُود وَالشَّيْخ محيي الدّين مُحَمَّد بن يحيى الشَّافِعِي؛ لم يكن فِي زَمَانه مثله رحْلَة الْمشرق وَالْمغْرب وَغَيرهم، وَمَا سلم من النهب غير هراة ودهستان لحصانتهما.

(2/52)


ثمَّ اجْتمع عَسْكَر سنجر على مَمْلُوكه آي بِهِ الْمُؤَيد فاستولى الْمُؤَيد على نيسابور وطوس ونساو أبيورد وشهرستان والدامغان وأزاح الغز عَنْهَا، وَاسْتولى على الرّيّ مَمْلُوك آخر لسنجر اسْمه إيتاخ، وهادى الْمُلُوك، واستقرت قدمه، وَعظم شَأْنه.
وفيهَا: قتل الْعَادِل بَين السلار وَزِير الظافر قَتله ربيبه عَبَّاس كَمَا تقدم.
وفيهَا: كَانَ بَين عبد الْمُؤمن وَبَين الْعَرَب حَرْب نصر فِيهَا عبد الْمُؤمن.
وفيهَا: مَاتَ رجار الفرنجي ملك صقلية بالخوانيق وعمره نَحْو ثَمَانِينَ، وَملكه نَحْو عشْرين.
وَملك بعده ابْنه غليالم.
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي بغزنة بهْرَام شاه، وَولي ابْنه خسروشاه، وَقد تقدم.
وفيهَا: اخْتلفت الْأَهْوَاء فِي مصر بقتل الْعَادِل، فَتمكن الفرنج من عسقلان وحاصروها وملكوها من المصريين.
قلت: وفيهَا بِدِمَشْق توفّي الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن نصر بن صفير بن داغر الْمَعْرُوف بِابْن القيسراني من قيسارية الشَّام الخالدي من الشُّعَرَاء الأدباء المجيدين، وَله علم بالهيئة، وَسمع مِنْهُ الحافظان أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر، وَأَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ وَأَبُو الْمَعَالِي الخطيري وَبَينه وَبَين ابْن مُنِير وقائع ونوادر وَله حِين بلغه أَن ابْن مُنِير هجاه:
(ابْن مُنِير هجوت مني ... حبرًا أَفَادَ الورى صَوَابه)

(وَلم تضيق بِذَاكَ صَدْرِي ... لِأَن لي أُسْوَة بالصحابة)

وَمَا أحسن قَوْله:
(هَذَا الَّذِي سلب العشاق نومهم ... أما ترى عينه ملأى من الوسن)

وَقَوله:
(وأرشف خمره والكأس ثغر ... وأقطف ورده والغصن قد)

(وَكم بالغور من ثَمَرَات در ... جناها بعد قرب الدَّار بعد)

(وَمن عقد ينافس فِيهِ ثغر ... وَمن ثغر ينافس فِيهِ عقد)

(ورمان وتفاح حلاه ... لعين المجتني نهد وخد)

واجتاز بالمعرة فَكتب عِنْد قبر أبي الْعَلَاء:
(نزلت فزرت قبر أبي الْعَلَاء ... فَلم أر من قرى غير الْبكاء)

(أَلا يَا قبر أحمدكم جلال ... تضمنه ثراك وَكم ذكاء)

وفيهَا: أَعنِي فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة توفّي أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن مُنِير بن مُفْلِح الأطرابلسي بحلب، كَانَ أَبوهُ يُغني فِي الْأَسْوَاق، وَنَشَأ هُوَ وَحفظ الْقُرْآن الْعَظِيم، وَتعلم اللُّغَة وَالْأَدب، وَقَالَ الشّعْر، وَقدم دمشق، وَكَانَ رَافِضِيًّا هجاء خَبِيث اللِّسَان،

(2/53)


وسجنه بوري لذَلِك، وعزم على قطع لِسَانه ثمَّ شفع فِيهِ فنفاه، وَله فِي حَبِيبه ابْن العفريت:
(لَا تَخَالُّوا خَاله فِي خَدّه ... قطره من صبغ جفن نطفت)

(تِلْكَ من نَار فُؤَادِي جذوة ... فِيهِ ساخت وانطفت ثمَّ طفت)

وَالله أعلم.
وفيهَا: نهبت مراكش صقلية تنيس بالديار المصرية.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن أَحْمد الشهرستاني الْمُتَكَلّم الْأَشْعَرِيّ الْفَقِيه. وَله نِهَايَة الْأَقْدَام فِي علم الْكَلَام والملل والنحل والمناهج تَلْخِيص الْأَقْسَام لمذاهب الْأَنَام.
ولد بشهرستان سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وَدخل بَغْدَاد سنة عشر وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي بهَا، وشهرستان اسْم لثلاث مدن: الأولى شهرستان خُرَاسَان وَهُوَ مِنْهَا بناها عبد الله بن طَاهِر أَمِير خُرَاسَان، الثَّانِيَة شهرستان بِأَرْض فَارس، الثَّالِثَة مَدِينَة جُوَيْن بأصفهان بَينهَا وَبَين الْيَهُودِيَّة مَدِينَة أصفهان نَحْو ميل، وَمعنى هَذِه الْكَلِمَة مَدِينَة النَّاحِيَة بالعجمي شهر الْمَدِينَة، واستان النَّاحِيَة.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي الْمحرم قتل الظافر بِاللَّه أَبُو مَنْصُور إِسْمَاعِيل بن الْحَافِظ الْعلوِي، قَتله وزيره عَبَّاس الصنهاجي أحب الظافر ابْنه فَحسن مؤيد الدولة اسامة بن منقذ لعباس قَتله، ونخاه على ابْنه فَدَعَا ابْنه الظافر إِلَى بَيته وقتلاه وَلم يسلم مِمَّن مَعَه إِلَّا خَادِم صَغِير فَأعْلم أهل الْقصر بذلك، ثمَّ اتهمَ عَبَّاس يُوسُف وَجِبْرِيل أخوي الظافر فَقتله وقتلهما.
ثمَّ حمل عَبَّاس الفائز بنصر الله أَبَا الْقَاسِم عِيسَى بن الظافر ثَانِي يَوْم قتل الظافر على كتفه وَأَجْلسهُ على السرير وعمره خمس سِنِين، وَبَايع لَهُ النَّاس وَأخذ عَبَّاس من الْقصر مَالا لَا يُحْصى وجواهر نفيسة، فثارت الْجند والسودان عَلَيْهِ، وَأرْسل أهل الْقصر يستغيثون بطلائع بن زربك وَالِي منية بن خصيب؛ وَكَانَ شهماً فَجمع وَقصد عباسا فهرب مِنْهُ عَبَّاس إِلَى نَحْو الشَّام بِمَا مَعَه من الْأَمْوَال والتحف الَّتِي لَا يُوجد مثلهَا فَقتله الفرنج فِي الطَّرِيق وَأخذُوا مَا مَعَه وأسروا ابْنه نصرا وَكَانَ قد اسْتَقر طلائع بن زربك بعد عَبَّاس فِي الوزارة ولقب بِالْملكِ الصَّالح فَأرْسل الصَّالح بن زربك إِلَى الفرنج وبذل لَهُم مَالا وأحضر نصر بن عَبَّاس إِلَى الْقصر فَقتل وصلب على بَاب زويلة.
وَأما أُسَامَة بن منقذ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ عَبَّاس فَلَمَّا قتل هرب أُسَامَة إِلَى الشَّام، وأباد الصَّالح بن زربك الْأَعْيَان قتلا وهربا.
وفيهَا: حصر المقتفي لأمر الله الْخَلِيفَة بعساكر بَغْدَاد تكريت، وَنصب منجانيق فَلم يظفر بهَا.

(2/54)


وفيهَا: تغلب الفرنج بِنَاحِيَة دمشق بعد ملكهم عسقلان حَتَّى استعرضوا كل مَمْلُوك وَجَارِيَة بِدِمَشْق من النَّصَارَى، فأطلقوا مِنْهُم كل من أَرَادَ الْخَلَاص قهرا فخشي نور الدّين أَن يملكُوا دمشق، فاستمال أَهلهَا فِي الْبَاطِن، ثمَّ حاصرها فَفتح لَهُ الْبَاب الشَّرْقِي، فَملك الْمَدِينَة وَحصر مجير الدّين أبق بن مُحَمَّد بن بوري بن طغتكين فِي القلعة وبذل لَهُ أقطاعاً من جُمْلَتهَا حمص، فَسلم إِلَيْهِ وَأَعْطَاهُ عوض حمص بالس فَلم يرضها، وَسَار عَنْهَا وَأقَام بِبَغْدَاد وَبنى دَارا قرب النظامية وسكنها حَتَّى مَاتَ.
وفيهَا: أَو الَّتِي بعْدهَا ملك نور الدّين قلعة تل بَاشر من الفرنج.
ثمَّ دخلت سنة خمسين وَخَمْسمِائة " فِيهَا حصر الْخَلِيفَة المقتفي دقوقاً وبلغه حَرَكَة عَسْكَر الْموصل إِلَيْهِ فَرَحل عَنْهَا.
وفيهَا: هجم الغز نيسابور بِالسَّيْفِ، وَقيل كَانَ مَعَهم سنجر وَله من السلطنة اسْمهَا يدّخر طَعَام وَقت إِلَى وَقت لتقصيرهم فِي حَقه.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة: فِيهَا لم تبْق من إفريقية مَعَ الفرنج سوى المهدية وسوسه.
وفيهَا: قبض زين الدّين عَليّ كوجل نَائِب قطب الدّين مودود بن زنكي صَاحب الْموصل على الْملك سُلَيْمَان شاه بن مُحَمَّد بن ملك شاه السلجوقي، وَكَانَ سُلَيْمَان قد قدم بَغْدَاد، وخطب لَهُ بالسلطنة هَذِه السّنة، وقلده المقتفي وخلع عَلَيْهِ وَخرج بعسكر الْخَلِيفَة ليملك بِلَاد الْجَبَل، فاقتتل هُوَ وَابْن عَمه السُّلْطَان مُحَمَّد بن مَحْمُود بن ملك شاه، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَان شاه يُرِيد بَغْدَاد فَمر على شهر زور فَأسرهُ عَليّ كوجل بعسكر الْموصل، وحبسه بقلعة الْموصل مكرماً حَتَّى كَانَ مِنْهُ مَا سَيذكرُ سنة خمس وَخمسين.
وفيهَا: تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة توفّي خوارزم شاه أتسز بن مُحَمَّد بن أنوش تكين قلج فَاسْتعْمل شَدِيد الْحَرَارَة فَهَلَك، ومولده سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ حسن السِّيرَة، وَملك بعده ابْنه أرسلان.
وفيهَا توفّي الْملك مَسْعُود: بن قلج أرسلان بن سُلَيْمَان بن قتلمش بن أرسلان بن سلجوق صَاحب قونيه وَالروم، وَملك بعده ابْنه قلج أرسلان.
وفيهَا: فِي رَمَضَان هرب سنجر السُّلْطَان من أَمِير الغز إِلَى قلعة ترمذ ثمَّ إِلَى جيحون وَوصل دَار ملكه بمرو فمدة أسره من سادس جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين إِلَى رَمَضَان سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: يابع عبد الْمُؤمن لوَلَده مُحَمَّد بن بِولَايَة الْعَهْد وَكَانَت لأبي حَفْص عمر من أَصْحَاب ابْن تومرت من أكبر الْمُوَحِّدين، فَأجَاب إِلَى خلع نَفسه وَولَايَة ابْن عبد الْمُؤمن.
وفيهَا: اسْتعْمل عبد الْمُؤمن ابْنه عبد الله على بجاية، وَابْنه عمر على تلمسان، وَابْنه

(2/55)


عليا على فاس، وَابْنه أَبَا سعيد على سبته والجزيرة الخضراء ومالقه وَكَذَلِكَ غَيرهم.
وفيهَا: سَار الْملك مُحَمَّد بن مَحْمُود السلجوقي من هَمدَان بعساكر وَحصر بَغْدَاد، وحصن المقتفي دَار الْخلَافَة واعتد للحصار وَاشْتَدَّ الْأَمر على أهل بَغْدَاد، فَبلغ مُحَمَّدًا أَن أَخَاهُ ملك شاه وايل دكر صَاحب بِلَاد أران وَمَعَهُ الْملك أرسلان بن طغرل بك بن مُحَمَّد وايل دكر، كَانَ متزوجاً بِأم أرسلان، قد دخلُوا هَمدَان، فَرَحل الْملك مُحَمَّد عَن بَغْدَاد نحوهم فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: احترقت بَغْدَاد حَتَّى دَار الْخلَافَة وَغَيرهَا.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن بن الْخلّ شيخ الشَّافِعِيَّة فِي بَغْدَاد من أَصْحَاب الشَّاشِي عَالم عَامل، وَتُوفِّي ابْن الْآمِدِيّ الشَّاعِر من النّيل فِي طبقَة الْغَزِّي والأرجاني، وعمره فَوق التسعين.
وفيهَا: قتل فِي الْحمام مظفر بن حَمَّاد صَاحب البطيحة، وتولاها ابْنه.
وفيهَا: توفّي الوأواء الْحلَبِي الشَّاعِر الْمَشْهُور.
وفيهَا: توفّي أَبُو جَعْفَر بن مُحَمَّد البُخَارِيّ بإسفراين عَالم بالفلسفة.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة:
أَخْبَار بني منقذ والزلازل

فِيهَا: فِي رَجَب زلزل الشَّام فَخرجت حماة وشيزر وحمص وحصن الأكراد، وطرابلس وأنطاكية وَغَيرهَا من مجاوراتها، وَوَقعت الأسوار والقلاع، فَقَامَ نور الدّين أتم قيام وتدارك بالعمارة، وأغار على الفرنج ليشغلهم عَن الْإِسْلَام، وَهلك مَا لَا يُحْصى حَتَّى أَن معلم كتاب بحماه فَارق الْمكتب وَجَاءَت الزلزلة فَسقط الْمكتب على الصّبيان فَلم يحضر أحد يسْأَله عَن صبي، وَكَانَ بعض أُمَرَاء نور الدّين بِالْقربِ من شيزر فَصَعدَ إِلَيْهَا خربة وتسلمها نور الدّين وَعمر أسوارها، وَكَانَ بَنو منقذ الكنانيين يتوارثونها من أَيَّام صَالح بن مرداس؛ قَالَه ابْن الْأَثِير، وَقَالَ ابْن خلكان وَابْن أبي الدَّم: استولى بَنو منقذ على شيزر سنة أَربع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة أَخذهَا من الرّوم عَليّ بن مقلد بن نصر بن منقذ، وَكتب إِلَى بَغْدَاد كتابي من حَضْرَة شيزر رحمهمَا الله تَعَالَى وَقد رَزَقَنِي الله عز وَجل من الِاسْتِيلَاء على هَذَا الْعقل الْعَظِيم مَا لم يتأت لمخلوق فِي هَذَا الزَّمَان، وَإِذا عرف الْأَمر على حَقِيقَته علم أَنِّي هاروت هَذِه الْأمة وَسليمَان الْجِنّ والمردة، وأنني أفرق بَين الْمَرْء وَزَوجته واستزل الْقَمَر من مَحَله أَنا أَبُو النَّجْم وشعري شعري نظرت إِلَى هَذَا الْحصن فَرَأَيْت أمرا يذهل الْأَلْبَاب يسع ثَلَاثَة آلَاف رجل بالأهل وَالْمَال، ويمسكه خمس نسْوَة فعمدت إِلَى تل بَينه وَبَين حصن الرّوم يعرف بالجراص، وَيُسمى هَذَا التل تل الجسر فعمرته حصناً وجمعت فِيهِ أَهلِي وعشيرتي ونفرت ونفرة على حصن الجراص فَأَخَذته بِالسَّيْفِ من الرّوم وَمَعَ ذَلِك فَلَمَّا أخذت من بِهِ من الرّوم أَحْسَنت إِلَيْهِم وأكرمتهم ومزجتهم بأهلي وخلطت خنازيرهم بغنمي ونواقيسهم بِصَوْت

(2/56)


الْأَذَان، فَرَأى أهل شيزر فعلي ذَلِك فأنسوا بِي وَوصل إِلَيّ مِنْهُم قريب نصفهم فبالغت فِي إكرامهم وَوصل إِلَيْهِم مُسلم بن قُرَيْش الْعقيلِيّ فَقتل من أهل شيزر نَحْو عشْرين رجلا فَلَمَّا انْصَرف مُسلم عَنْهُم سلمُوا الْحصن إِلَيّ وَكَانَ مَا قَالَه ابْن الْأَثِير أولى لِأَن حماه وشيزر فتحتا على يَد أبي عُبَيْدَة بن الْجراح رَضِي الله عَنهُ.
وَاسْتمرّ الشَّام للْمُسلمين إِلَى حُدُود سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة فَملك الفرنج غَالب الشَّام لقِتَال بعض مُلُوك الْمُسلمين بَعْضًا، وَلم يذكر ملكهم لشيزر، قَالَ ابْن الْأَثِير: فَلَمَّا انْتهى ملك شيزر إِلَى نصر بن عَليّ بن نصر بن منقذ، اسْتمرّ فِيهَا إِلَى أَن مَاتَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وَعند مَوته اسْتخْلف أَخَاهُ مرشد بن عَليّ على حصن شيزر فَقَالَ مرشد: وَالله لأوليته ولأخرجن من الدُّنْيَا كَمَا دَخَلتهَا، ومرشد وَالِد مؤيد الدولة أُسَامَة فولاها نصر أَخَاهُ الصَّغِير سُلْطَان بن عَليّ وَاسْتمرّ مرشد مَعَ أَخِيه سُلْطَان على أجمل صُحْبَة مُدَّة، وَكَانَ لمرشد أَوْلَاد نجباء وَلَيْسَ لسلطان ولد فَلَمَّا جَاءَ لسلطان أَوْلَاد خشِي عَلَيْهِم من أَوْلَاد أَخِيه مرشد وسعى بَينهمَا فَتغير كل مِنْهُمَا على الآخر، فَكتب سُلْطَان إِلَى مرشد يعاتبه وَكَانَ مرشد شَاعِرًا فَأَجَابَهُ:
(شكت هجرنا والذنب فِي ذَاك ذنبها ... فيا عجبا من ظَالِم جَاءَ شاكياً)

(وطاوعت الواشين فِي وطالما ... عصيت عذولاً فِي هَواهَا وواشياً)

(وَمَال بهاتيه الْجمال إِلَى القلى ... وهيهات إِن أَمْسَى لَهَا الدَّهْر قاليا)

(وَلما أَتَانِي من قريضك جَوْهَر ... جمعت الْمعَانِي فِيهِ والمعاليا)

(وَكنت هجرت الشّعْر حينا لِأَنَّهُ ... تولى برغمي حِين ولى شبابيا)

(وَقلت أخي يرْعَى بني وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا)

(فَمَا لَك لما أَن حَنى الدَّهْر صعدتي ... وثلم مني صَارِمًا كَانَ مَاضِيا)

(تنكرت حَتَّى صَار برك قسوة ... وقربك مني جفوة وتنائياً)

(على أنني مَا حلت عَمَّا عهدته ... وَلَا غيرت هذي السنون وداديا)

وتماسك الْأَمر بَينهمَا إِلَى أَن توفّي مرشد سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة، فأظهر سُلْطَان التَّغَيُّر على أَوْلَاد مرشد وجاهرهم بالعداوة ففارقوا شيزر، وَقصد أَكْثَرهم نور الدّين وَشَكوا إِلَيْهِ عمهم فَغَاظَهُ ذَلِك وَلم يُمكنهُ قَصده لاشتغاله بالفرنج وبقى سُلْطَان كَذَلِك إِلَى أَن توفّي، وَولي أَوْلَاده فَلَمَّا خربَتْ القلعة بالزلزلة فِي هَذِه السّنة لم ينج من بني منقذ بهَا أحد فَإِن صَاحبهَا مِنْهُم ختن وَلَده ودعا النَّاس وَجَمِيع بني منقذ إِلَى دَاره فَأسْقطت الزلزلة الدَّار عَلَيْهِم فهلكوا عَن آخِرهم إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُم طلب بَاب الدَّار فرفسه حصان بِالْبَابِ لصَاحب شيزر مِنْهُم فَقتله.
قلت:
(إِذا مَا قضى الله أمرا فَمن ... يرد الْقَضَاء الَّذِي ينفذ)

(2/57)


(عجبت لشيزر إِذْ زلزلت ... فَمَا لبني منقذ منقذ)

وَقد أذكرني هَذَا شَيْئا وَهُوَ أَن القَاضِي فَخر الدّين عُثْمَان بن الْبَارِزِيّ الْحَمَوِيّ قَاضِي الْقُضَاة بحلب، كَانَ رَحمَه الله تَعَالَى ولاني الحكم بشيرز فَلَمَّا دَخَلتهَا صرعتني بِزَفْرَةٍ هوائها، وَأرْسلت إِلَى الوخم على فَتْرَة من مَائِهَا، وزارتني الْحمى غبا حَتَّى ازددت للْمَوْت حبا، فَكتبت إِلَيْهِ عاتباً عَلَيْهِ:
(أَبَا باعثي أَقْْضِي بشيزر مَا الَّذِي ... أردْت قضي أشغالهم أم قضي نحبي)

(حكيت بهَا الناعور حَالا لأنني ... بَكَيْت عَليّ جسمي وَردت على قلبِي)

وكتبت إِلَى ابْنه كَمَال الدّين مُحَمَّد:
(قيل لي شيزر نَار ... وَبهَا القَاضِي مخلد)

(قلت لَا أمكث فِيهَا ... أَنا من حزب مُحَمَّد)

فَلَمَّا وقف على ذَلِك أعفاني مِنْهَا وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي ريبع الآخر توفّي السُّلْطَان سنجر السلجوقي بالقولنج ثمَّ الإسهال، كَانَ مهيباً كَرِيمًا، وَلما وصل خَبره إِلَى بَغْدَاد قطعت خطبَته واستخلف سنجر على خُرَاسَان الْملك مَحْمُود بن مُحَمَّد بن بغداخان ابْن أُخْت سنجر فَأَقَامَ خَائفًا من الغز.
وفيهَا: استولى أَبُو سعيد عبد الْمُؤمن على غرناطة من الملثمين وانقرضت دولة الملثمين وَلم تبْق لَهُم غير جَزِيرَة ميورقة، ثمَّ فتح أَبُو سعيد المرية من الفرنج بعد ملكهم لَهَا عشر سِنِين.
وفيهَا: أَخذ نور الدّين بعلبك من ضحاك البقاعي، ولاه إِيَّاهَا صَاحب دمشق.
وفيهَا: قلع الْخَلِيفَة المقتفي بَاب الْكَعْبَة وَعمل عوضه بَابا مصفحاً بِالْفِضَّةِ المذهبة، وَعمل لنَفسِهِ من الْبَاب تابوتاً يدْفن فِيهِ.
وفيهَا: مَاتَ مُحَمَّد بن عبد اللَّطِيف بن مُحَمَّد الخجندي رَئِيس الشَّافِعِيَّة بأصبهان مقدم عِنْد السلاطين.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة: فِيهَا قصد ملك شاه بن مَحْمُود السلجوقي قُم وقاشان ونهبهما، وَكَانَ أَخُوهُ السُّلْطَان مُحَمَّد بعد رحيله عَن حِصَار بَغْدَاد قد مرض طَويلا فَأرْسل إِلَى أَخِيه ملك شاه أَن يكف عَن النهب، ويجعله ولي عَهده فَلم يقبل ملك شاه ذَلِك، ثمَّ سَار ملك شاه إِلَى خوزستان وَأَخذهَا من صَاحبهَا شملة التركماني.
وفيهَا: توفّي بميافارقين معِين الدّين أَبُو الْفضل يحيى بن سَلامَة بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الْخَطِيب الحصكفي، ومولده بطنزة.
وَمن شعره:
(وخليع بت أعذله ... وَيرى عذلي من الْعَبَث)

(2/58)


(قلت إِن الْخمر مخبثة ... قَالَ حاشاها من الْخبث)

(قلت فالأرفاث تتبعها ... قَالَ طيب الْعَيْش فِي الرَّفَث)

(قلت مِنْهَا الْقَيْء قَالَ أجل ... شرفت عَن مخرج الْحَدث)

(وسأسلوهما فَقلت مَتى ... قَالَ عِنْد الْكَوْن فِي الجدث)

قلت: نَشأ بحصن كيفا، وَقَرَأَ الْأَدَب على التبريزي بِبَغْدَاد وأجاد فِي الْفِقْه على مَذْهَب الشَّافِعِي، ثمَّ ولي خطابة ميافارقين، وَكَانَ إِلَيْهِ أَمر الْفَتْوَى واشتغل عَلَيْهِ النَّاس قَالَ فِيهِ الْعِمَاد الْأَصْفَهَانِي فِي الخريدة، كَانَ عَلامَة الزَّمَان فِي علمه، ومعري الأَصْل فِي نثره ونظمه.
أنْشد لَهُ بَعضهم خَمْسَة أَبْيَات كالخمسة السيارات وَهِي:
(أَشْكُو إِلَى الله من نارين وَاحِدَة ... فِي وجنتيه وَأُخْرَى مِنْهُ فِي كَبِدِي)

(وَمن سقامين سقم قد أحل دمي ... من الجفون وسقم حل فِي جَسَدِي)

(وَمن نمومين دمعي حِين أذكرهُ ... يذيع سري وواش مِنْهُ بالرصد)

(وَمن ضعيفين صبري حِين أذكرهُ ... ووده وَيَرَاهُ النَّاس طوع يَدي)

(مهفهف رق حَتَّى قلت من عجب ... أخصره خنصري أم جلده جلدي)

وَمن مليح شعره مغنياً:
(ومسمع غناءه ... يُبدل بالفقر الْغنى)

(أبصرته فَلم تخب ... فراستي لما دنا)

(وَقلت من ذَا وَجهه ... كَيفَ يكون محسناً)

(ورمت أَن أروج ... الظَّن بِهِ ممتحناً)

(فَقلت من بَينهم ... هَات أخي غن لنا)

(فاشتال مِنْهُ حَاجِب ... وحاجب مِنْهُ انحنى)

(وامتلأ الْمجْلس من ... فِيهِ غثاء منتناً)

(وَصَاح صَوتا مُنْكرا ... يخرج عَن حد الْبَنَّا)

(فَذا يسد أَنفه ... وَذَا يسد الأذنا)

(وَمِنْهُم جمَاعَة ... تستر عَنهُ الأعينا)

(فَقلت يَا قوم اسمعوا ... أما الْمُغنِي أَو أَنا)

(وَحين ولى شخصه ... قَرَأت فيهم مُعْلنا)

(الْحَمد لله الَّذِي ... أذهب عَنَّا الحزنا)

وَقد ذكرت بِهَذَا بَيْتَيْنِ لي فِي هجو مغن وهما:
(غنى لنا يَوْم ... فَمَاتَ بدار رفاقي)

(يَا ليتنا فِي حجاز ... إِذا شدا فِي الْعرَاق)

(2/59)


وبيتين لي أَيْضا فِي مدح مغن وهما:
(ومغن إِن شداكم منشداً ... أعذب الغي وأغوى العذبا)

(كالصبا هبت بأغصان الصِّبَا ... تطرب الْحَيّ وتحيي الطربا)

وَالله أعلم.
ذكر فتح المهدية

ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة: وفيهَا: نَازل عبد الْمُؤمن المهدية وَأَخذهَا من الفرنج يَوْم عَاشُورَاء سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة وَملك جَمِيع إفريقية وَأعَاد إِلَيْهَا الْحسن بن عَليّ الصنهاجي صَاحبهَا أَولا ورحل إِلَى الْمغرب.
وفيهَا: توفّي السُّلْطَان مُحَمَّد بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن ملك شاه السلجوقي فِي ذِي الْحجَّة بالسل بِبَاب هَمدَان، ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخَمْسمِائة، وَكَانَ كَرِيمًا عَاقِلا، وَلما حَضَره الْمَوْت أودع ابْنه الصَّغِير عِنْد أقسنقر الأحمديلي علما أَن العساكر لَا تطيع مثله فَرَحل بِهِ إِلَى بَلَده مراغة، وَلما مَاتَ طلبت طَائِفَة من الْأُمَرَاء تمْلِيك أَخِيه ملك شاه وَطلبت طَائِفَة سُلَيْمَان شاه بن مُحَمَّد بن ملك شاه الَّذِي كَانَ معتقلاً بالموصل وهم الْأَكْثَر وَطلبت طَائِفَة أرسلان بن طغرل بك الَّذِي مَعَ ايل دكر وَسَار أَخُوهُ ملك شاه إِلَى أَصْبَهَان فملكها.
وفيهَا: مرض نور الدّين بن زنكي مَرضا أرجف لَهُ بِمَوْتِهِ بقلعة حلب فَحَضَرَ أَخُوهُ أَمِير ميران قلعة حلب وَسَار شيركوه من حمص ليستولي على دمشق وَبهَا أَخُوهُ نجم الدّين أَيُّوب، فَأنْكر أَيُّوب ذَلِك وَقَالَ: أهلكتنا وَأَشَارَ على شيركوه فَعَاد إِلَى حلب مجداً وَجلسَ نور الدّين فِي شباك فَرَآهُ النَّاس فَتَفَرَّقُوا عَن أَخِيه أَمِير ميران واستقام الْحَال.
وفيهَا: أَزَال عَليّ بن مهْدي ملك بني نجاح كَمَا مر وَعلي من قَرْيَة العنيزة من سواحل زييد، كَانَ أَبوهُ مهْدي صَالحا، وَنَشَأ عَليّ كأبيه متمسكاً بالصلاح، حج وتعرف بالعراقيين، ثمَّ صَار واعظاً عَالما بالتفسير، حَافِظًا يتحدث فِي شَيْء من أَحْوَاله المستقبلات فَيصدق فمالت إِلَيْهِ الْقُلُوب، واستفحل أمره، فَسَار وَأقَام بالجبال إِلَى سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة.
ثمَّ عَاد إِلَى أملاكه وَكَانَ يَقُول فِي وعظه: دنا الْوَقْت أزف الْأَمر كأنكم بِمَا أَقُول لكم وَقد رَأَيْتُمُوهُ عيَانًا. ثمَّ عَاد إِلَى حصن الشّرف بالجبال لبطن من خولان فأطاعوه وَسَمَّاهُمْ الْأَنْصَار وسمى من صعد مَعَه من تهَامَة الْمُهَاجِرين، وَأقَام سبا على خولان والتويتي على الْمُهَاجِرين وسمى كلا مِنْهُمَا شيخ الْإِسْلَام وجعلهما نقيبين على الطَّائِفَتَيْنِ لَا يخطبه غَيرهمَا وهما يوصلان كَلَامه إِلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَكَلَام الطَّائِفَتَيْنِ وحوائجهما إِلَيْهِ، وَشن الغارات حَتَّى أخلى الْبَوَادِي وَقطع الْحَرْث والقوافل، وَاسْتمرّ يحاصر زبيد حَتَّى قتل فاتك بن مُحَمَّد آخر مُلُوك بني نجاح، قَتله عُبَيْدَة وَجرى بَين ابْن مهْدي وَعبيد فاتك حروب كَثِيرَة، وَآخِرهَا أَنه انتصر

(2/60)


وَاسْتقر فِي دَار الْملك بزبيد يَوْم الْجُمُعَة رَابِع عشر رَجَب من هَذِه السّنة أَعنِي سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة، وَبَقِي فِي الْملك شَهْرَيْن وَأحد عشر يَوْمًا، وَمَات فِي شَوَّال فَملك الْيمن ابْنه مهْدي ثمَّ ابْنه عبد النَّبِي بن مهْدي، ثمَّ خرجت المملكة عَن عبد النَّبِي الْمَذْكُور إِلَى أَخِيه عبد الله ثمَّ عَادَتْ إِلَى عبد النَّبِي وَاسْتمرّ إِلَى أَن فتح الْيمن توران شاه بن أَيُّوب من مصر سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة، وَأسر عبد النَّبِي وَهُوَ آخِرهم.
وَكَانَ مَذْهَب عَليّ بن مهْدي التَّكْفِير بِالْمَعَاصِي، وَقتل من يُخَالف اعْتِقَاده من أهل الْقبْلَة واستباحة وَطْء نِسَائِهِم، واسترقاق ذَرَارِيهمْ وَقتل من شرب الْخمر وَسمع الْغناء. وَكَانَ حَنَفِيّ الْفُرُوع، وَأَصْحَابه يَعْتَقِدُونَ فِيهِ فَوق مَا يَعْتَقِدهُ النَّاس فِي الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام.