تاريخ ابن الوردي
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة:
ذكر مسير سُلَيْمَان شاه إِلَى هَمدَان وَقَتله
لما مَاتَ مُحَمَّد بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن ملكشاه أرْسلت
الْأُمَرَاء وطلبوا عَمه سُلَيْمَان شاه بن مُحَمَّد بن ملكشاه ليولوه
السلطنة، وَكَانَ قد اعتقل بالموصل مكرماً فجهزه قطب الدّين مودود بن
زنكي صَاحب الْموصل بجهاز يَلِيق بالسلطنة، وَسَار مَعَه زين الدّين
عَليّ كجك بعسكر الْموصل إِلَى هَمدَان وَأَقْبَلت العساكر إِلَيْهِم،
وَكَانَ عِنْد سُلَيْمَان تهور وإدمان شرب حَتَّى فِي رَمَضَان
فَأَهْمَلَهُ الْعَسْكَر وصاروا لَا يحْضرُون بَابه، وَكَانَ قد رد
الْأُمُور إِلَى شرف الدّين كردبازو من مَشَايِخ الخدام السلجوقية
وَعِنْده دين وتدبير، فَشرب سُلَيْمَان يَوْمًا بالكشك ظَاهر هَمدَان
فَحَضَرَ كردبازو ولامه فكشف بعض مساخر سُلَيْمَان لَهُ سوأته فحقد
كردبازو وَعمل لَهُ دَعْوَة عَظِيمَة فِي دَاره وَقَبضه فِيهَا وحبسه
مُدَّة ثمَّ أرسل إِلَيْهِ من خنقه، وَقيل سمه فَلَمَّا مَاتَ سَار
إيلدكر فِي عشْرين ألفا وَمَعَهُ أرسلان شاه بن طغرل بك بن مُحَمَّد بن
ملكشاه بن ألب أرسلان وَوصل هَمدَان فَلَقِيَهُ كردبازو وأنزله فِي
دَار المملكة، وخطب لَهُ بالسلطنة وَكَانَ لأيلدكر من أم أرسلان شاه
أَوْلَاد مِنْهُم البهلوان مُحَمَّد وقزل أرسلان عُثْمَان فبقى أيلدكر
أتابك أرسلان والبهلوان أَخُو أرسلان لامه حَاجِبه، وَهَذَا أيلدكر
كَانَ قد اشْتَرَاهُ السُّلْطَان مَسْعُود ثمَّ أقطعه أران من بِلَاد
أذربيجان فَعظم، وَلما خطب لأرسلان شاه فِي تِلْكَ الْبِلَاد طلب
ايلدكر أَن يخْطب لَهُ أَيْضا بِبَغْدَاد على عَادَة السلجوقية فَلم
يجب إِلَى ذَلِك.
وفيهَا: توفّي الفائز بنصر الله أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن إِسْمَاعِيل
الظافر خَليفَة مصر، وخلافته سِتّ سِنِين وَنَحْو شَهْرَيْن، ولي وعمره
خمس سِنِين، وَلما مَاتَ دخل الصَّالح بن زريك الْقصر وَسَأَلَ عَمَّن
يصلح فأحضر لَهُ مِنْهُم إِنْسَان كَبِير السن فَقَالَ بعض أَصْحَاب
الصَّالح لَهُ: لَا يكون عَبَّاس أحزم مِنْك حَيْثُ اخْتَار الصَّغِير
فأحضر العاضد لدين الله أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن الْأَمِير يُوسُف
بن الْحَافِظ مراهقاً، وَبَايع لَهُ وزوجه الصَّالح ابْنَته وَنقل
مَعهَا مَا لَا سمع بِمثلِهِ.
(2/61)
وفيهَا: ثَانِي ربيع الأول (توفّي المقتفي)
لأمر الله الْخَلِيفَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن المستظهر بعلة
التراقي، ومولده ثَانِي ربيع الآخر سنة تسع وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعمِائَة وَأمه أم ولد، وخلافته أَربع وَعِشْرُونَ سنة
وَثَلَاثَة أشهر وَسِتَّة عشرَة يَوْمًا، وَكَانَ حسن السِّيرَة،
أَقَامَ حشمة الدولة العباسية وَقطع عَنْهَا طمع السلاطين بذل
الْأَمْوَال لأَصْحَاب الْأَخْبَار حَتَّى كَانَ لَا يفوتهُ شَيْء.
" بُويِعَ ابْنه " يُوسُف المستنجد بِاللَّه الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ
مِنْهُم، وَأمه طَاوس أم ولد، وَبَايَعَهُ أَهله وأقاربه، فَمنهمْ عَمه
أَبُو طَالب وَأَخُوهُ أَبُو جَعْفَر بن المقتفي، وَكَانَ أكبر من
المستنجد، ثمَّ بَايعه الْوَزير ابْن هُبَيْرَة، وقاضي الْقُضَاة
وَغَيرهم.
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي خسروشاه بن بهْرَام شاه صَاحب غزنة وَكَانَ
عادلاً، وَملك بعده ابْنه ملكشاه، وَقيل توفّي خسروشاه فِي حبس غياث
الدّين الغوري، وَأَنه آخر مُلُوك بني سبكتكين حَسْبَمَا مر سنة سبع
وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
وفيهَا: توفّي ملكشاه بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن ملكشاه بن ألب أرسلان
بأصفهان مسموماً.
وفيهَا: حج أَسد الدّين شيركوه بن شادي مقدم جَيش نور الدّين مَحْمُود
بن زنكي.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي ربيع الآخر توفّي
عَلَاء الدّين الْحُسَيْن بن الْحُسَيْن ملك الْغَوْر، وَكَانَ عادلاً.
وَملك بعده ابْن أَخِيه غياث الدّين مُحَمَّد كَمَا مر سنة سبع
وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: تقدم الْمُؤَيد آي بِهِ بإمساك أَعْيَان نيسابور كَانُوا
رُؤَسَاء للحرامية، وَأخذ الْمُؤَيد يقتل المفسدين فخربت نيسابور
حَتَّى مَسْجِد عقيل مجمع الْعلمَاء والكتب الْوَقْف وَسبع عشرَة مدرسة
شافعية، وأحرق وَنهب عدَّة من خَزَائِن الْكتب، وَأمر بإصلاح سور
الشاذياخ، وسكنها هُوَ وَالنَّاس، فَلم يبْق بنيسابور أحد.
بنى الشاذياخ عبد الله بن طَاهِر أَمِير خُرَاسَان لِلْمَأْمُونِ ثمَّ
خرجت ثمَّ جددت أَيَّام ألب أرسلان السلجوقي ثمَّ تشعثت حَتَّى أصلحها
آي بِهِ.
وفيهَا: فِي رَمَضَان (قتل الْملك الصَّالح) طلائع بن زريك الأرمني
وَزِير العاضد الْعلوِي جهزت عَلَيْهِ عمَّة العاضد من قَتله وَهُوَ
دَاخل الْقصر بالسكاكين وَحمل إِلَى بَيته جريحاً، وعتب على العاضد
فتبرأ وَحلف وَأرْسل عمته إِلَيْهِ فَقَتلهَا، وَسَأَلَ من العاضد
تَوْلِيَة ابْنه زريك، فولاه الوزارة ولقبه الْعَادِل.
وللصالح طلائع شعر حسن، فَمِنْهُ فِي الْفَخر:
(أَبى الله إِلَّا أَن يدين لنا الدَّهْر ... ويخدمنا فِي ملكنا
الْعِزّ والنصر)
(علمنَا بِأَن المَال تفنى ألوفه ... وَيبقى لنا من بعده الْأجر
وَالذكر)
(2/62)
(خلطنا الندى بالبأس حَتَّى كأننا ...
سَحَاب لَدَيْهِ الْبَرْق والرعد والقطر)
وفيهَا: ملك عِيسَى بن قَاسم بن أبي هَاشم مَكَّة، وَكَانَ أميرها
قَاسم بن أبي فليته بن قَاسم فصادر المجاورين واعيان مَكَّة وهرب،
فَلَمَّا وصل الْحَاج رتب أَمِير الْحَاج مَكَانَهُ عَمه عِيسَى
الْمَذْكُور، ثمَّ جمع قَاسم وَقصد عِيسَى فَرَحل عِيسَى عَنْهَا
فملكها قَاسم فكاتب الْعَرَب عِيسَى فَقدم إِلَيْهِم وهرب قَاسم إِلَى
جبل أبي قبيس فَسقط عَن فرسه فَقتله أَصْحَاب عِيسَى فَغسله عِيسَى
وَدَفنه بالمعلاة عِنْد أَبِيه أبي فليتة واستقرت مَكَّة لعيسى.
وفيهَا: عبر عبد الْمُؤمن الْمجَاز إِلَى الأندلس وَبنى على جبل طَارق
مَدِينَة حَصِينَة أَقَامَ بهَا شهرا ثمَّ عَاد إِلَى مراكش.
وفيهَا: ملك قرا أرسلان صَاحب حصن كيفا قلعة شَاتَان من الأكراد وخربها
وأضاف عَملهَا إِلَى حصن طَالب.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة: فِيهَا نَازل نور الدّين
حارم، وَبهَا الفرنج وَعَاد لم يملكهَا.
وفيهَا: سَار الكرج فِي جمع عَظِيم وملكوا أردوين ونهبوها فَجمع أيلدكر
صَاحب أذربيجان وغزاهم.
وفيهَا: وَقع قتال بَين صَاحب مَكَّة وأمير الْحَاج فَرَحل الْحَاج
وَلم يقدر بَعضهم على الطّواف.
قَالَ ابْن الْأَثِير: وَكَانَ مِمَّن حج وَلم يطف جدته أم أَبِيه
فوصلت بلادها على إحرامها فاستفتت الشَّيْخ أَبَا الْقَاسِم بن البرزي
فَأفْتى أَنَّهَا إِذا دَامَت على مَا بَقِي من إحرامها إِلَى قَابل
وطافت كمل حَجهَا، ثمَّ تفدي وتتحل ثمَّ تحرم إحراماً ثَانِيًا وتقف
بِعَرَفَات وتكمل مَنَاسِك الْحَج فَتَصِير لَهَا حجَّة ثَانِيَة
فَفعلت كَمَا قَالَ فتم حَجهَا الأول وَالثَّانِي.
وفيهَا: مَاتَ الكيا الصباحي صَاحب ألموت الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَقَامَ
ابْنه مقَامه فأظهر التَّوْبَة.
وفيهَا: فِي الْمحرم توفّي الشَّيْخ عدي بن مُسَافر الزَّاهِد بِبَلَد
الهكارية من أَعمال الْموصل، أَصله من بلد بعلبك وانتقل إِلَى الْموصل،
وَتَبعهُ أهل السوَاد وَالْجِبَال وأحسنوا بِهِ الظَّن.
قلت: قَالَ الشَّيْخ الإِمَام نور الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن يُوسُف
بن جرير بن معضاد بن فضل اللَّخْمِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي كِتَابه
بهجة الْأَسْرَار ومعدن الْأَنْوَار إِن شيخ الْإِسْلَام محيي الدّين
عبد الْقَادِر الجيلي كَانَ يُنَوّه بِذكر عدي ويثني عَلَيْهِ كثيرا
وَشهد لَهُ بالسلطنة وَقَالَ: لَو كَانَت النُّبُوَّة تنَال بالمجاهدة
لنالها عدي بن مُسَافر.
وَعَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله البطايحي قَالَ: كَانَ الشَّيْخ
عدي إِذا سجد سمع لمخه
(2/63)
فِي رَأسه صَوت كصوت وَقع الْحَصَاة فِي
الْقرعَة الْيَابِسَة من شدَّة المجاهدة وَأقَام فِي أول أمره فِي
المفازات وَالْجِبَال والصحاري مُجَردا وسائحاً يَأْخُذ نَفسه بأنواع
المجاهدات، وَكَانَت الْجبَال تألفه والهوام وَالسِّبَاع تألفه فِيهَا
وَهُوَ أحد من تصدر لتربية المريدين الصَّادِقين بِبِلَاد الشرق،
وانْتهى إِلَيْهِ تسليكهم وكشف مشكلات أَحْوَالهم، وَغسل تَاج العارفين
أَبَا الْوَفَاء رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَهُوَ شَاب.
وَعَن الشَّيْخ الصَّالح أبي عبد الله مُحَمَّد بن كَامِل الْحُسَيْنِي
البيساني قَالَ: سَمِعت الشَّيْخ الْعَارِف أَبَا مُحَمَّد شاورالسيني
الْمحلي بهَا يَقُول: صنع الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد وَلِيمَة ودعا
إِلَيْهَا جَمِيع مَشَايِخ الْعرَاق وعلمائها فَحَضَرُوا كلهم إِلَّا
الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَالشَّيْخ عديا وَالشَّيْخ أَحْمد بن
الرِّفَاعِي رَحْمَة الله عَلَيْهِم، فَلَمَّا انْصَرف النَّاس قَالَ
الْوَزير للخليفة: إِن الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَالشَّيْخ عديا
وَالشَّيْخ أَحْمد لم يحضروا؟ فَقَالَ الْخَلِيفَة: فَكَأَن لم يحضر
إِذن أحد، ثمَّ أَمر حَاجِبه أَن يَأْتِي الشَّيْخ عبد الْقَادِر
فيدعوه وَأَن يبطق إِلَى جبل الهكار وَإِلَى أم عُبَيْدَة ليحضر
الشَّيْخ عديا وَالشَّيْخ أَحْمد قَالَ: فَقَالَ لي الشَّيْخ عبد
الْقَادِر قبل أَن يقوم الْحَاجِب من مجْلِس الْخَلِيفَة وَقبل أَن
تسطر البطاقات: يَا شاور اذْهَبْ إِلَى الْمَسْجِد الَّذِي بِظَاهِر
بَاب الحلبة تَجِد فِيهِ الشَّيْخ عدي بن مُسَافر وَمَعَهُ اثْنَان
فادعهم إِلَيّ ثمَّ اذْهَبْ إِلَى مَقْبرَة الشونيزي تَجِد فِيهَا
الشَّيْخ أَحْمد بن الرِّفَاعِي وَمَعَهُ اثْنَان فادعهم إِلَيّ،
قَالَ: فَذَهَبت إِلَى الْمَسْجِد الَّذِي بِظَاهِر الحلبة فَوجدت
الشَّيْخ عديا وَمَعَهُ اثْنَان، فَقلت: يَا سَيِّدي أجب الشَّيْخ عبد
الْقَادِر فَقَالَ: سمعا وَطَاعَة، وَقَامُوا فَذَهَبت مَعَهم فَقَالَ
لي الشَّيْخ عدي: يَا شاور الا تذْهب إِلَى الشَّيْخ أَحْمد كَمَا امرك
الشَّيْخ؟ قلت بلَى فَأتيت مَقْبرَة الشونيزي فَوجدت الشَّيْخ أَحْمد
وَمَعَهُ اثْنَان فَقلت: يَا سَيِّدي أجب الشَّيْخ عبد الْقَادِر
فَقَالَ: سمعا وَطَاعَة، وَقَامُوا فتوافى الشَّيْخَانِ فِي بَاب
رِبَاط الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَقت الْمغرب فَقَامَ إِلَيْهِم
الشَّيْخ وتلقاهم فَمَا لَبِثُوا غير يسير حَتَّى جَاءَ الْحَاجِب
إِلَى الشَّيْخ فوافاهما عِنْده فأسرع إِلَى الْخَلِيفَة وَأخْبرهُ
باجتماعهم، فَكتب الْخَلِيفَة إِلَيْهِم بِخَطِّهِ يسألهم الْحُضُور
وَبعث إِلَيْهِم وَلَده وحاجبه فَأَجَابُوهُ وذهبوا، وَأَمرَنِي
الشَّيْخ بِالْمَسِيرِ مَعَه، فَلَمَّا كُنَّا بالشط إِذا الشَّيْخ
عَليّ بن الهيتي رَحْمَة الله عَلَيْهِ فَتَلقاهُ الْمَشَايِخ وَسَار
مَعَهم فَأتى بِنَا إِلَى دَار حَسَنَة وَإِذا الْخَلِيفَة فِيهَا
قَائِم مشدود الْوسط وَمَعَهُ خادمان وَلَيْسَ فِي الدَّار سواهُم،
فَتَلقاهُمْ الْخَلِيفَة وَقَالَ لَهُم: يَا سادة إِن الْمُلُوك إِذا
اجتازوا برعاياهم بسطوا لَهُم الْحَرِير ليطؤه، وَوضع لَهُم ذيله
وسألهم أَن يمشوا عَلَيْهِ فَفَعَلُوا، وانْتهى بِنَا إِلَى سماط
مُهَيَّأ فجلسوا وأكلوا وأكلنا مَعَهم، ثمَّ خَرجُوا وَأتوا إِلَى
زِيَارَة قبر الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ وَكَانَت
لَيْلَة شَدِيدَة الظلمَة فَجعل الشَّيْخ عبد الْقَادِر كلما مر بِحجر
أَو خَشَبَة أَو جِدَار أَو قبر أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَيْهِ فيضيء كضوء
الْقَمَر ويمشون فِي نوره إِلَى أَن يَنْتَهِي ضوءه فيشير الشَّيْخ
إِلَى آخر فيضيء وَمَا زَالُوا يَمْشُونَ فِي النُّور وَلَيْسَ فيهم من
يتَقَدَّم الشَّيْخ عبد الْقَادِر إِلَى قبر الإِمَام أَحْمد، فَدخل
الْمَشَايِخ الْأَرْبَعَة يزورون ووقفنا على بَاب المزار حَتَّى
خَرجُوا فَلَمَّا أَرَادوا ان يتفرقوا قَالَ الشَّيْخ عدي
(2/64)
للشَّيْخ عبد الْقَادِر: أوصني، قَالَ:
أوصيك بِالْكتاب وَالسّنة ثمَّ تفَرقُوا.
وَعَن خَادِم الشَّيْخ عدي قَالَ: خدمته سبع سِنِين، وَشهِدت لَهُ
خارقات إِحْدَاهمَا إِنِّي صببت على يَدَيْهِ يَوْمًا مَاء فَقَالَ لي:
مَا تُرِيدُ؟ فَقلت أُرِيد تِلَاوَة الْقُرْآن فَإِنِّي لَا أحفظ
مِنْهُ سوى الْفَاتِحَة وَسورَة الْإِخْلَاص وَحفظه عَليّ عسير جدا
فَضرب بِيَدِهِ فِي صَدْرِي فَحفِظت الْقُرْآن كُله فِي وقتي، وَقلت
لَهُ يَوْمًا: يَا سَيِّدي أَرِنِي شَيْئا من المغيبات فَأَعْطَانِي
منديله وَقَالَ: ضَعْهُ على وَجهك فَوَضَعته، ثمَّ قَالَ لي: ارفعه
فَرَفَعته فَرَأَيْت الْمَلَائِكَة الْكَاتِبين وَرَأَيْت مَا يسطرونه
من أَعمال الْخَلَائق فأقمت على هَذِه الْحَالة ثَلَاثَة أَيَّام فتكدر
عَليّ عيشي فاستغثت إِلَيْهِ، فَوضع ذَلِك المنديل على وَجْهي ثمَّ
رفعته فاستتر عني ذَلِك الْأَمر كُله.
قَالَ: وَوصف لي يَوْمًا الشَّيْخ عقيلاً المنبجي وَهُوَ شيخ الشَّيْخ
عدي فأطنب فِي ذكره. فَقلت: يَا سَيِّدي هَل لَك ان ترينيه
فَأَعْطَانِي مرْآة وَأَمرَنِي أَن انْظُر فِيهَا فَنَظَرت شخصي ثمَّ
توارى عني شخصي وَظهر لي شخص أرَاهُ وَلَا يخفي عني من وَجهه شَيْء
فَقَالَ لي الشَّيْخ عدي: تأدب فَإِنَّهُ الشَّيْخ عقيل ودمت سَاعَة
طَوِيلَة أنظرهُ كَذَلِك ثمَّ توارى عني وَظهر لي شخصي.
وَهُوَ الشَّيْخ شرف الدّين أَبُو الْفَضَائِل عدي بن مُسَافر بن
إِسْمَاعِيل بن مُوسَى بن مَرْوَان بن الْحسن بن مَرْوَان بن الحكم بن
مَرْوَان الْأمَوِي.
وَفِي هَذَا الْكتاب الْمَذْكُور أَن أَصله من حوران، وَأَنه توفّي سنة
ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة بلاكش.
وَكَانَ فَقِيها عَالما فصيحاً رَحْمَة الله عَلَيْهِ وعلينا، بِهِ
ولعمري مَا أنصف الْمُؤلف فِي تَرْجَمته، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي صفر وزر شاور
للعاضد الْعلوِي كَانَ يخْدم الصَّالح طلائع بن زريك فولاه الصَّعِيد
ثمَّ عَزله الْوَزير الْعَادِل بن الصَّالح بن زريك فَجمع شاور جموعه
وقصده فهرب وطرده وأمسكه وَقَتله وانقرضت بِهِ دولة بني زريك.
وَفِيه يَقُول عمَارَة اليمني:
(ولت ليَالِي بني زريك وانصرمت ... والمدح وَالشُّكْر فيهم غير منصرم)
(كَأَن صَالحهمْ يَوْمًا وَعَاد لَهُم ... فِي صدر ذَا الدست لم يقْعد
وَلم يقم)
ووزر شاور وتلقب بأمير الجيوش وَأخذ أَمْوَال بني زريك، ثمَّ جمع
الضرغام ونازعه فِي الوزارة فِي رَمَضَان، فَانْهَزَمَ شاور واستنجد
بِنور الدّين، وَتمكن ضرغام وَقتل كثيرا من أُمَرَاء المصريين، فضعفت
الدولة بذلك حَتَّى خرجت الْبِلَاد من أَيْديهم.
وفيهَا: فِي جمادي الْآخِرَة توفّي عبد الؤمن بن عَليّ فِي سلا وَأخْبر
عِنْد مَوته أَن ابْنه
(2/65)
مُحَمَّدًا لَا يصلح وَأَن ابْنه يُوسُف
يصلح فقدموه وَبَايَعُوهُ وَولَايَة عبد الْمُؤمن ثَلَاث وَثَلَاثُونَ
سنة وَكسر، وَكَانَ سائسا سفاكاً للدم على الذَّنب الصَّغِير مُعظما
للدّين وَالصَّلَاة وَجمع النَّاس على فروع مَالك وأصول الْأَشْعَرِيّ.
وفيهَا: ملك الْمُؤَيد آي بِهِ قومس فَأرْسل إِلَيْهِ أرسلان بن طغرل
بك خلعة وألوية فَلبس الْمُؤَيد الْخلْع وخطب لَهُ فِي بِلَاده.
وفيهَا: كبس الفرنج نور الدّين فِي البقيعة تَحت حصن الأكراد فَركب نور
الدّين فرسا وَفِي رجله الشَّجَّة فقطعها كردِي فنجا نور الدّين وَقتل
الْكرْدِي فَوقف على مخلفيه الْوُقُوف وَسَار إِلَى بحيرة حمص وتلاحقه
الْمُسلمُونَ.
وفيهَا: أجلى المستنجد بني أَسد أهل الْحلَّة المزيدية فَقتل مِنْهُم
وهرب الْبَاقُونَ وتشتتوا لفسادهم وسلمت بِلَادهمْ إِلَى ابْن
مَعْرُوف.
وفيهَا: توفّي سديد الدولة مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن إِبْرَاهِيم
بن الْأَنْبَارِي كَاتب إنْشَاء الْخلَافَة، فَاضل أديب عمره نَحْو
تسعين.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة: فِيهَا بذل شاور الهارب من
ضرغام لنُور الدّين ثلث أَمْوَال مصر بعد رزق جندها أَن أَعَادَهُ
إِلَى الوزارة فَأرْسل مَعَه أَسد الدّين شيركوه بن شاذي فِي عَسْكَر
فوصل مصر وَهزمَ عَسْكَر ضرغام عِنْد قبر السيدة نفيسة، وَعَاد شاور
وزيراً للعاضد ثمَّ لم يقم شاور لنُور الدّين بِشَيْء من شَرطه، فَسَار
أَسد الدّين وَاسْتولى على بلبيس والشرقية، فاستنجد شاور بالفرنج مَعَ
عَسْكَر مصر، وحصروا شيركوه ببلبيس ثَلَاثَة أشهر، وَبلغ الفرنج
حَرَكَة نور الدّين، وَأَخذه حارم فصالحوا شيركوه، فَرجع إِلَى الشَّام
بعسكره سالما.
وفيهَا: فِي رَمَضَان فتح نور الدّين قلعة حارم من الفرنج؛ وَقَاتلهمْ
فانتصر، وَقتل وَأسر، وَمِمَّنْ أسر الْبُرْنُس صَاحب أنطاكية، والقومس
صَاحب طرابلس.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة فتح نور الدّين بانياس من الفرنج: كَانَت
بيدهم من سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: توفّي جمال الدّين أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي
مَنْصُور الْأَصْبَهَانِيّ وَزِير مودود بن زنكي صَاحب الْموصل فِي
شعْبَان مَقْبُوضا عَلَيْهِ من جِهَة مخدومة من سنة ثَمَان وَخمسين،
وَكَانَ قد تعاهد الْوَزير وشيركوه أَن من مَاتَ مِنْهُمَا نَقله الآخر
إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة، فنقله شيركوه، ورتب من يقْرَأ
الْقُرْآن عِنْد شيله وحطه وَنُودِيَ فِي كل بلد نزلوه بِالصَّلَاةِ
عَلَيْهِ، وَلما أَرَادوا الصَّلَاة عَلَيْهِ بالحلة صعد شَاب على
مَوضِع موتفع وَأنْشد:
(سرى نعشه فَوق الرّقاب وطالماً ... سرى جوده فَوق الركاب ونائله)
(يمر على الْوَادي فتثني رماله ... عَلَيْهِ وبالنادي فتثني أرامله)
(2/66)
وطيف بِهِ حول الْكَعْبَة وَدفن
بِالْمَدِينَةِ فِي رِبَاط بناه لنَفسِهِ وَبَين قَبره وقبر النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْو خَمْسَة عشر ذِرَاعا.
وجمال الدّين هَذَا هُوَ الَّذِي جدد مَسْجِد الْخيف بمنى، وَبنى
الْحجر بِجَانِب الْكَعْبَة وزخرف الْكَعْبَة وبذل جملَة طائلة لصَاحب
مَكَّة وللمقتفي حَتَّى مكنه من ذَلِك، وَبنى الْمَسْجِد الَّذِي على
عَرَفَات وَعمل الدرج إِلَيْهِ وَعمل بِعَرَفَات مصانع المَاء، وَبنى
سوراً على الْمَدِينَة، وَبنى على دجلة جِسْرًا عِنْد جَزِيرَة ابْن
عمر بِالْحجرِ المنحوت وَالْحَدِيد، والرصاص، والكلس، فَقبض قبل أَن
يفرغ، وَبنى الرَّبْط وَغَيرهَا.
وفيهَا: توفّي نصر بن خلف ملك سجستان وعمره فَوق الْمِائَة وملكة
ثَمَانُون سنة، وَملك بعده ابْنه أَبُو الْفَتْح أَحْمد.
وفيهَا: توفّي الإِمَام عمر الْخَوَارِزْمِيّ خطيب بَلخ ومفتيها
وَالْقَاضِي أَبُو بكر المحمودي ذُو التصانيف، وَله مقامات فارسية.
ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي ربيع الأول توفّي شاه
مازندران رستم بن عَليّ بن شهريار بن قَارن، وَملك بعده ابْنه عَلَاء
الدّين الْحسن.
وفيهَا: ملك الْمُؤَيد آي بِهِ هراة.
وفيهَا: كَانَ بَين قلج أرسلان بن مَسْعُود صَاحب قونية وَغَيرهَا
وَبَين باغي أرسلان بن الدانشمند صَاحب ملطية حروب انهزم فِيهَا قلج
أرسلان وَاتفقَ موت باغي أرسلان فِي تِلْكَ الْمدَّة فَملك ملطية ابْن
أَخِيه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الدانشمند وَاسْتولى ذُو النُّون بن
مُحَمَّد بن الدانشمند على قيسارية.
وَملك شاهان شاه بن مَسْعُود أَخُو قلج أرسلان مَدِينَة أنكورية،
واصطلحوا على ذَلِك.
وفيهَا: توفّي عون الدّين بن هُبَيْرَة الْوَزير واسْمه يحيى بن
مُحَمَّد بن المظفر، وَدفن بمدرسته الحنبلية بِبَاب الْبَصْرَة، كَانَ
يعظمه المقتفي، وَلما مَاتَ قبض على أَوْلَاده وَأَهله.
قلت: هَذَا مُشكل، فالمقتفي توفّي سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة،
والوزير توفّي هَذِه السّنة وَإِن كَانَ الْوَزير هُوَ الَّذِي قبض على
أَوْلَاد المقتفي وَأَهله فَأَيْنَ النَّقْل بِهِ وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْقَاسِم عمر بن عِكْرِمَة بن
البرزي الشَّافِعِي تلميذ الكيا أوحد فِي الْفِقْه من جَزِيرَة ابْن
عمر.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن هبة الله بن صاعد بن هبة الله بن التلميذ
وَقد ناهز الْمِائَة، كَانَ طَبِيب الْخلَافَة حظي عِنْد المقتفي
حاذقاً أديباً عَالما مُصِيب الْفِكر قسيساً لِلنَّصَارَى يتعجب مِنْهُ
الْفُضَلَاء كَيفَ حرم الْإِسْلَام، وَكَانَ بَينه وَبَين أبي البركات
هبة الله بن ملكان الْحَكِيم تنافس على الْعَادة، وَكَانَ أَبُو
البركات يَهُودِيّا فَأسلم شَيخا وجذم فتداوى وبرأ مِنْهُ، لَكِن عمي،
وَكَانَ متكبراً وَابْن التلميذ متواضع فَعمل ابْن التلميذ فِيهِ.
(لنا صديق يَهُودِيّ حماقته ... إِذا تكلم تبدو فِيهِ من فِيهِ)
(2/67)
(يتيه وَالْكَلب أَعلَى مِنْهُ منزلَة ...
كَأَنَّهُ بعد لم يخرج من التيه)
وَلابْن التلميذ أَيْضا:
(يَا من رماني عَن قَوس فرقته ... بِسَهْم هجر على تلافيه)
(ارْض لمن غَابَ عَنْك غيبته ... فَذَاك ذَنْب عِقَابه فِيهِ)
وَله أقراباذين وحواشي كليات القانون وَشَيْخه فِي الطِّبّ أَبُو
الْحسن هبة الله بن سعيد صَاحب الْمُغنِي فِي الطِّبّ وَصَاحب
الْإِقْنَاع.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي ربيع الآخر
توفّي الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن أبي صَالح الجيلي بِبَغْدَاد ومولده
سنة سبعين وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ حنبلي الْمَذْهَب.
قلت: هُوَ الشَّيْخ محيي الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن أبي
صَالح مُوسَى جنكي دوست بن أبي عبد الله بن يحيى الزَّاهِد بن مُحَمَّد
بن دَاوُد بن مُوسَى بن عبد الله بن مُوسَى الجون بن عبد الله الْمَحْض
المجل بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله
عَنْهُم سبط أبي عبد الله الصومعي ينْسب إِلَى جيل بِكَسْر الْجِيم
بِلَاد مُتَفَرِّقَة وَرَاء طبرستان، وَيُقَال لَهَا أَيْضا جيلان
وَكيل وكيلان والصومعي الْمَذْكُور من جلة مَشَايِخ جيلان، لَهُ
الْأَحْوَال والكرامات، وَأمه أم الْخَيْر أمة الْجِيَاد فَاطِمَة بنت
أبي عبد الله الصومعي، لَهَا أَحْوَال وكرامات، قَالَت غير مرّة: لما
وضعت ابْني عبد الْقَادِر كَانَ لَا يرضع ثدييه فِي نَهَار رَمَضَان،
وغم على النَّاس هِلَال رَمَضَان فأتوني وسألوني عَنهُ فَقلت: لم يلتقم
الْيَوْم ثدياً، ثمَّ اتَّضَح أَن ذَلِك الْيَوْم كَانَ من رَمَضَان.
وَقَوله فِي النّسَب الجون: هُوَ لقب لمُوسَى، وَكَانَ آدم اللَّوْن،
وَله تَقول أمة هِنْد بنت أبي عُبَيْدَة:
(إِنَّك أَن تكون جوناً انزعا ... أَجْدَر أَن تَضُرهُمْ أَو تنفعا)
وحملت بِهِ وَهِي ابْنة سِتِّينَ سنة، وَيُقَال: لَا تحمل لستين سنة
إِلَّا قرشية وَلَا لخمسين إِلَّا عَرَبِيَّة وَأم ابْنه عبد الله أم
سَلمَة بنت مُحَمَّد بن طَلْحَة بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي
بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُم، والمحض لقب لعبد الله بِمَعْنى
الْخَالِص لِأَن أَبَاهُ الْحسن بن الْحسن بن عَليّ وَأمه فَاطِمَة بنت
الْحُسَيْن بن عَليّ فنسبه من أَبَوَيْهِ خَالص لسلامته من الموَالِي
وانتهائه إِلَى عَليّ كرم الله وَجهه، والمجل بِضَم الْمِيم وَفتح
الْجِيم من الإجلال اسْم مفعول من أجللته.
وَفَاطِمَة: هَذِه خلف عَلَيْهَا بعد الْحسن ابْن الْحسن.
عبد الله الْمطرف: بن عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان وَولد لَهُ
مُحَمَّد الديباج لقب بِهِ لحسنه، ولقب أَبوهُ بالمطرف لجماله، وَأم
الْمطرف حَفْصَة بنت عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُم.
والمطرف بِضَم الْمِيم وَفتح الرَّاء من أطرفته بِكَذَا، وَكَانَ
الشَّيْخ نحيف الْبدن ربع
(2/68)
الْقَامَة عريض الصَّدْر واللحية طويلها
أسمر مقرون الحاجبين حفياً ذَا صَوت جَهورِي، كَانَ يجلس لوعظه رجلَانِ
وَثَلَاثَة، ثمَّ تسامعوا وازدحموا فَجَلَسَ فِي الْمصلى بِبَاب الحلبة
ثمَّ ضَاقَ بهم الوسع فَحمل الْكُرْسِيّ إِلَى خَارج الْبَلَد وَجعل
فِي الْمصلى وَجَاء النَّاس على الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير
وَالْجمال يقفون بمدار الْمجْلس كالسور، وَكَانَ يحضر مَجْلِسه نَحْو
من سبعين ألفا، وَأَن الْأَوْلِيَاء وَالْمَلَائِكَة ليزدحمون فِي
مَجْلِسه، وَمن لَا يرى فِيهِ أَكثر مِمَّن يرى.
وَعَن الشَّيْخ أبي زَكَرِيَّا يحيى بن أبي نصر بن عمر الْبَغْدَادِيّ
المشاه الصحراوي قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول: استدعيت الجان مرّة
بالعزائم وأبطأت عَليّ إجابتهم أَكثر من عادتي ثمَّ أَتَوْنِي
وَقَالُوا لي: لَا تعد تستدعينا إِذا كَانَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر
يتَكَلَّم على النَّاس، فَقلت: وَلم؟ قَالُوا بالحضرة، قلت وَأَنْتُم
أَيْضا؟ قَالُوا: إِن ازدحامنا بمجلسه أَشد من ازدحام الْإِنْس، وَإِن
منا طوائف كَثِيرَة أسلمت وتابت على يَدَيْهِ.
وَعَن أبي الْبَقَاء عبد الله بن الْحُسَيْن الْحَنْبَلِيّ العكبري
قَالَ: سَمِعت يحيى بن نجاح الأديب يَقُول: قلت فِي نَفسِي أُرِيد أحصي
كم يقص الشَّيْخ عبد الْقَادِر شعرًا من الثَّوَاب فِي مجْلِس وعظه،
فَحَضَرت الْمجْلس وَمَعِي خيط فَكلما قصّ شعرًا عقدت عقدَة تَحت
ثِيَابِي فِي الْخَيط وَأَنا فِي آخر النَّاس وَإِذا بِهِ يَقُول: أَنا
أحل وَأَنت تعقد.
وَعَن الْخضر الْحُسَيْنِي الْموصِلِي أَن الشَّيْخ كَانَ يتَكَلَّم
فِي أول مَجْلِسه بأنواع الْعُلُوم وَكَانَ إِذا صعد الْكُرْسِيّ لَا
يبصق أحد وَلَا يتمخط وَلَا يَتَنَحْنَح وَلَا يتَكَلَّم وَلَا يقوم
هَيْبَة لَهُ إِلَى وسط الْمجْلس فَيَقُول الشَّيْخ مضى القال وعطفاً
بِالْحَال فيضطرب النَّاس اضطراباً شَدِيدا ويتداخلهم الْحَال والوجد،
وَكَانَ يعد من كراماته أَن أقْصَى النَّاس فِي مَجْلِسه يسمع صَوته
كَمَا يسمعهُ أَدْنَاهُم مِنْهُ على كثرتهم، وَكَانَ يتَكَلَّم على
خواطر أهل الْمجْلس ويواجههم بالكشف.
وَكَانَ النَّاس يضعون أَيْديهم فِي مَجْلِسه فَتَقَع على رجال بَينهم
يدركونهم باللمس وَلَا يرونهم ويسمعون وَقت كَلَامه فِي الفضاء حسا
وصياحاً، وَرُبمَا سمعُوا وجبة سَاقِطَة من الجو إِلَى أَرض الْمجْلس
وَذَلِكَ رجال الْغَيْب وَغَيرهم.
وَعَن الْحَافِظ أبي زرْعَة طَاهِر بن مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي
الرَّازِيّ قَالَ: حضرت مجْلِس الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلي
بِبَغْدَاد سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة فَسَمعته يَقُول: إِنَّمَا
كَلَامي على رجال يحْضرُون مجلسي من وَرَاء جبل قَاف أَقْدَامهم فِي
الْهَوَاء وَقُلُوبهمْ فِي حَضْرَة الْقُدس، تكَاد قلانسهم وطواقيهم
تحترق من شدَّة شوقهم إِلَى رَبهم عز وَجل، وَكَانَ ابْنه عبد
الرَّزَّاق إِذْ ذَاك جَالِسا على الْمِنْبَر تَحت رجل أَبِيه فَرفع
رَأسه إِلَى الْهَوَاء فشخص سَاعَة ثمَّ غشى عَلَيْهِ واحترقت طاقيته
وزيقه فَنزل الشَّيْخ وأطفأها، وَقَالَ: وَأَنت أَيْضا يَا عبد
الرَّزَّاق مِنْهُم، وَقَالَ: فَسَأَلت عبد الرَّزَّاق مَا أغشاه؟
فَقَالَ: لما نظرت إِلَى الْهَوَاء رَأَيْت
(2/69)
رجَالًا واقفين مطرقين منصتين لكَلَامه
وَقد ملأوا الْأُفق وَفِي لباسهم وثيابهم النَّار، وَمِنْهُم من يصبح
ويعد فِي الْهَوَاء وَمِنْهُم من يسْقط إِلَى أَرض الْمجْلس وَمِنْهُم
من يرعد فِي مَكَانَهُ وَكَانَ يكْتب مَا يَقُول فِي مَجْلِسه
أَرْبَعمِائَة محبرة عَالم وَغَيره، قَالَه فِي بهجة الْأَسْرَار.
وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ كثيرا مَا يخطو فِي الْهَوَاء فِي مَجْلِسه
على رُؤُوس النَّاس خطوَات ثمَّ يرجع إِلَى الْكُرْسِيّ، وَكم مَاتَ
فِي مَجْلِسه من رجل، وَكَانَ يحضرهُ مثل الشَّيْخ بغابن بطو
وَالشَّيْخ أبي سعد القيلوني وَالشَّيْخ عَليّ بن الهبتي وَالشَّيْخ
نجيب الدّين عبد الْقَادِر السهروردي وَالشَّيْخ أبي حَكِيم بن دِينَار
وَالشَّيْخ ماجد الْكرْدِي وَالشَّيْخ مطر الباذراني وَالْقَاضِي أبي
يعلى مُحَمَّد بن الْفراء وَالْقَاضِي أبي الْحسن عَليّ بن
الدَّامغَانِي وَالْإِمَام أبي الْفَتْح بن المنى.
وَكَانَ الشَّيْخ عدي بن مُسَافر غير مرّة يخرج من زاويته بلاكش إِلَى
الْجَبَل ويدير دارة بعكازة ويدخلها وَيَقُول: من أَرَادَ أَن يسمع
كَلَام الشَّيْخ عبد الْقَادِر فَلْيدْخلْ هَذِه الدارة فيدخلها
أكَابِر أَصْحَابه ويسمعون كَلَامه وَرُبمَا كتب بَعضهم مَا يسمعهُ،
وأرخ ذَلِك الْيَوْم وَيَأْتِي بَغْدَاد ويقابل مَا كتبه بِمَا كتبه
أهل بَغْدَاد من كَلَام الشَّيْخ فِي ذَلِك الْيَوْم فيتفقان.
وَكَانَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر يَقُول: فِي الْوَقْت الَّذِي يدْخل
فِيهِ الشَّيْخ عدي الدارة لأهل مَجْلِسه عبر الشَّيْخ عدي بن مُسَافر
فِيكُم.
وَقَالَ الشَّيْخ عَليّ الفرنتي: رَأَيْت أَرْبَعَة من الْمَشَايِخ
يتصرفون فِي قُبُورهم كتصرف الْأَحْيَاء: الشَّيْخ عبد الْقَادِر
وَالشَّيْخ مَعْرُوف الْكَرْخِي وَالشَّيْخ عقيل المنبجي وَالشَّيْخ
حَيَاة بن قيس رَضِي الله عَنْهُم.
وَقدم رضى الله عَنهُ بَغْدَاد سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعمِائَة، وَقَرَأَ الْقُرْآن وأتقنه، وتفقه على كثيرين مذهبا
وَخِلَافًا وأصولاً، وَسمع الحَدِيث من خلق أكَابِر، وَقَرَأَ الْأَدَب
على أبي زَكَرِيَّا يحيى بن عَليّ التبريزي تلميذ أبي الْعَلَاء المعري
وَصَحب الشَّيْخ الْعَارِف أَبَا الْخَيْر قدوة الْمُحَقِّقين حماداً
الدياس وَأخذ عَنهُ علم الطَّرِيقَة وَأخذ الْخِرْقَة الشَّرِيفَة من
يَد القَاضِي أبي سعد المخرمي، وَلَقي جمَاعَة من أَعْيَان زهاد
الزَّمَان وَعُظَمَاء العارفين بالعجم وَالْعراق.
وَلَقَد كَانَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية
الْحَنْبَلِيّ رَحمَه الله يَقُول: كرامات الشَّيْخ عِنْد الْقَادِر
ثَابِتَة بالتواتر، والمؤلف رَحمَه الله قصر فِي تَرْجَمته وَأطَال
القَوْل فِي ذكر من قد لَا يعبأ الله بِهِ وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا عَاد
شيركوه بألفي فَارس إِلَى الديار المصرية من عِنْد نور الدّين فاستولى
على الجيزة فاستنجد شاور بالفرنج والتقوا عَليّ الإيوان فَهَزَمَهُمْ
شيركوه.
ثمَّ ملك الْإسْكَنْدَريَّة وَجعل فِيهَا ابْن أَخِيه صَلَاح الدّين
يُوسُف وَاجْتمعَ عَسْكَر مصر والفرنج وحصروا صَلَاح الدّين
بالإسكندرية ثَلَاثَة أشهر، فَسَار شيركوه إِلَيْهِم فَصَالحهُمْ على
(2/70)
تَسْلِيم الْإسْكَنْدَريَّة إِلَيْهِم
ويحملون لَهُ مَالا فَعَاد عَنْهُم واصطلح الفرنج والمصريون على شحنة
للفرنج بِالْقَاهِرَةِ، وَتَكون أَبْوَابهَا بيد فرسانهم، وَلَهُم من
دخل مصر كل سنة مائَة ألف دِينَار.
وفيهَا: فتح نور الدّين صافيتا والعريمة.
وفيهَا: عصى غَازِي بن حسان صَاحب منبج على نور الدّين فسير إِلَيْهِ
عسكراً فحصروه وَأخذ مِنْهُ منبج وأقطعها لقطب الدّين نيال أخي غَازِي
الْمَذْكُور، إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُ صَلَاح الدّين يُوسُف بن
أَيُّوب سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: توفّي فَخر الدّين قرا أرسلان بن دَاوُد بن سقمان بن أرتق
صَاحب حصن كيفا، وَملك بعده ابْنه نور الدّين مَحْمُود.
قلت: وفيهَا تَقْرِيبًا توفّي الشَّيْخ ماجد الْكرْدِي بجبل حمرين من
الْعرَاق، وَكَانَت لَهُ كرامات ظَاهِرَة وأحوال فاخرة، تخرج
بِصُحْبَتِهِ أَعْيَان، وَقصد من كل أفق وَمَكَان.
وَمن كَلَامه: الصمت عبَادَة من غير عناء، وزينة من غير حلي وهيبة من
غير سُلْطَان وحصن من غير سور، وراحة الْكَاتِبين، وغنية من
الِاعْتِذَار وَكفى بِالْمَرْءِ علما أَن يخْشَى الله تَعَالَى، وَكفى
بِهِ جهلا أَن يعجب بِنَفسِهِ، وَالْعجب فضل حمق يُغطي بِهِ صَاحبه
عُيُوب نَفسه، فَلم يدر أَيْن يذهب بِهِ فَصَرفهُ إِلَى الْكبر وَمَا
خلق الله سُبْحَانَهُ من عَجِيبَة إِلَّا ونقشها فِي صُورَة
الْآدَمِيّ، وَلَا أوجد أمرا غَرِيبا إِلَّا وسلكه فِيهَا، وَلَا أبرز
سرا إِلَّا وَجعل فِيهِ مِفْتَاح علمه، فَهُوَ نُسْخَة مختصرة من
الْعَالم.
وَعَن الشَّيْخ ذِي الكرامات مَكَارِم القوساني ذِي الشُّهْرَة
الْعَظِيمَة بقوسان، قَالَ: جَاءَ رجل من أَصْحَابنَا إِلَى الشَّيْخ
ماجد الْكرْدِي مودعاً حَاجا فِي غير أشهر الْحَج على قدم التَّجْرِيد
بِلَا زَاد وَلَا رَفِيق، فَأخْرج لَهُ الشَّيْخ ماجد ركوته وَقَالَ:
هَذَا مَاء إِن أردْت الْوضُوء وَلبن إِن عطشت وَسَوِيق إِن جعت،
فَوجدَ مِنْهَا الرجل كل مَا قَالَه الشَّيْخ سفرا وَإِقَامَة بالحجاز
ورجوعاً إِلَى الْعرَاق، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فَارق زين
الدّين عَليّ كجك بن بكتكين نَائِب مودود بن زنكي مخدومه، وَاسْتقر فِي
أربل إقطاعه وَاقْتصر عَلَيْهَا لعماه وطرشه.
وفيهَا: توفّي عبد الْكَرِيم أَبُو سعد مُحَمَّد بن الْمَنْصُور بن أبي
بكر المظفر السَّمْعَانِيّ الْفَقِيه الْمروزِي الشَّافِعِي مكثر من
سَماع الحَدِيث، سَافر فِي طلبه إِلَى بِلَاد يطول ذكرهَا، تزيد
شُيُوخه على أَرْبَعَة آلَاف، وَله كتاب الْأَنْسَاب ثَمَانِيَة
مجلدات، وذيل تَارِيخ مرو.
وَكَانَ ابْن الْجَوْزِيّ يَقُول: إِنَّه كَانَ يَأْخُذ الشَّيْخ
بِبَغْدَاد ويغربه إِلَى مَا فَوق نهر عِيسَى، وَيَقُول: حَدثنِي فلَان
بِمَا وَرَاء النَّهر وَهَذَا بَارِد فَأَي حَاجَة للسمعاني إِلَى
هَذَا التَّدْلِيس، وَقد سَافر إِلَى مَا وَرَاء النَّهر وذنبه عِنْد
ابْن الْجَوْزِيّ أَنه شَافِعِيّ، فَابْن الْجَوْزِيّ لم يبْق على أحد
غير الْحَنَابِلَة.
(2/71)
ومولده السَّمْعَانِيّ فِي شعْبَان سنة
سِتّ وَخَمْسمِائة، وَهُوَ إِمَام ابْن إِمَام ابْن إِمَام أَبُو
إِمَام، فَإِن ابْنه أَبَا المظفر عبد الرَّحِيم كَانَ رحْلَة أَيْضا،
ونسبته أَيْضا إِلَى سمْعَان بطن من تَمِيم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا ملك نور الدّين
قلعة جعبر من صَاحبهَا شهَاب الدّين مَالك بن عَليّ بن مَالك بن سَالم
بن مَالك بن بدران بن الْمُقَلّد بن الْمسيب الْعقيلِيّ، كَانَت
بِأَيْدِيهِم من أَيَّام السُّلْطَان ملك شاه وَلم يقدر نور الدّين
عَلَيْهَا إِلَّا بعد أَن أسرت بَنو كلاب صَاحبهَا فَاسْتَحْضرهُ
واجتهد بِهِ على تَسْلِيمهَا فَأبى فَأرْسل عَسْكَر مقدمه فَخر الدّين
مَسْعُود بن أبي عَليّ الزَّعْفَرَانِي وَردفهُ بعسكر مقدمه مجد الدّين
أبي بكر بن الداية رَضِيع نور الدّين وحصروها فَمَا نالوها وَفِي الآخر
عوضه عَنْهَا سروج وأعمالها والملوحة وَعشْرين ألف دِينَار مُعجلَة،
وناب فِي بزاعة وتسلمها.
قلت: وفيهَا توفّي الشَّيْخ عَليّ بن الهيتي ببلدة زريدان من أَعمال
نهر الْملك وَقد زَاد على مائَة وَعشْرين سنة وقبره بهَا يزار.
وَكَانَت لَهُ كرامات ظَاهِرَة وأفعال خارقة، وَهُوَ أحد من تذكر عَنهُ
القطبية وَأحد الْأَرْبَعَة الَّذين تسميهم مَشَايِخ الْعرَاق البروة
على معنى أَنهم يبرؤن الأكمة والأبرص وهم الشَّيْخ عبد الْقَادِر
الجيلي، وَالشَّيْخ عَليّ بن الهيتي، وَالشَّيْخ بَقَاء بن بطو،
وَالشَّيْخ أَبُو سعد القليوبي.
وَكَانَ قد اعترى الصمم الشَّيْخ مُحَمَّد الْخياط الْوَاعِظ
الْبَغْدَادِيّ وَجرى ذكر البروة فَقَالَ: اللَّهُمَّ بحرمتهم عاف
سَمْعِي فَزَالَ صممه فِي الْحَال، قَالَ أَبُو الْفرج الصرصري وَأَنا
رَأَيْته أَصمّ، ورأيته يسمع التناجي، وألبس أَبُو بكر الصّديق رَضِي
الله عَنهُ أَبَا بكر بن هوار فِي الْيَوْم خرقتين ثوبا وطاقية،
فَاسْتَيْقَظَ فوجدهما عَلَيْهِ وأعطاهما لمريده الشَّيْخ أبي مُحَمَّد
الشنبكي وأعطاهما الشنبكي لمريده تَاج العارفين أبي الْوَفَاء وأعطاهما
تَاج العارفين لمريده الشَّيْخ عَليّ بن الهيتي وأعطاهما ابْن الهيتي
لمريده الشَّيْخ عَليّ بن إِدْرِيس، ثمَّ فقدتا من بعده، وَابْن الهيتي
الَّذِي أَتَاهُ الْخطاب يَا ملكي تصرف فِي ملكي.
وَقَالَ عبد الْقَادِر: كل من دخل بَغْدَاد من الْأَوْلِيَاء من عَالم
الْغَيْب، أَو الشَّهَادَة، فَهُوَ فِي ضيافتنا وَنحن فِي ضِيَافَة
الشَّيْخ عَليّ بن الهيتي، وَكَانَ يتَمَثَّل بِهَذِهِ الأبيات:
(إِن رحت أطلبه لَا يَنْقَضِي سَفَرِي ... أَو جِئْت أحضرهُ أوحشت فِي
الْحَضَر)
(فَمَا أرَاهُ وَلَا يَنْفَكّ عَن نَظَرِي ... وَفِي ضميري وَلَا
أَلْقَاهُ فِي عمري)
(فليتني غبت عَن جسمي بِرُؤْيَتِهِ ... وَعَن فُؤَادِي وَعَن سَمْعِي
وَعَن بَصرِي)
وَفِي بهجة الْأَسْرَار أَنه قَالَ: لَو دنت نملة دهماء فِي لَيْلَة
ظلماء على صَخْرَة سَوْدَاء من جبل قَاف وَلم يعلمني بهَا رَبِّي
مِنْهُ إِلَيّ بِلَا وَاسِطَة، ويطلعني عَلَيْهَا عيَانًا لتفطرت
مرارتي.
وَركب مرّة دَابَّته وأتى بَلْدَة من أَعمال نهر الْملك وَنزل عِنْد
رجل فاحتفل بِهِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ: إذبح هَذِه الدَّجَاجَة
وَهَذِه وَهَذِه فَفعل فَخرج من بطونها حبات ذهب، وَكَانَت أُخْته
(2/72)
قد فقدت عنبرية من ذهب فاتهمها أَهلهَا
وهموا بقتلها تِلْكَ اللَّيْلَة، فَقَالَ: إِن الله أطلعني على مَا فِي
نفوسكم واستأذنت رَبِّي فِي أَن أكشف لكم عَن هَذِه الْقَضِيَّة،
وأنفذكم من الهلكة، فَأذن لي، وكراماته كَثِيرَة مَشْهُورَة وَالله
أعلم.
ذكر ملك شيركوه مصر، وَقتل شاور وبتداء الدولة الأيوبية
فِيهَا: فِي ربيع الأول سَار أَسد الدّين شيركوه بن شاذي بالعسكر
النوري إِلَى مصر وَكَانَ قد أرسل العاضد الْخَلِيفَة يستغيث بِنور
الدّين، وَأرْسل فِي الْكتب شُعُور النِّسَاء لِأَن الفرنج ملكوا بلبيس
قتلا وسبياً ونهباً، وحصروا الْقَاهِرَة فِي عَاشر صفر، وأحرق شاور مصر
لِئَلَّا يملكهَا الفرنج، وَأمر أَهلهَا بالانتقال إِلَى الْقَاهِرَة،
وَبقيت النَّار تحرقها أَرْبَعَة وَخمسين يَوْمًا، وصانع شاور الفرنج
على ألف ألف دِينَار.
وَمِمَّنْ أرسل نور الدّين مَعَ شيركوه إِلَى مصر ابْن أَخِيه صَلَاح
الدّين يُوسُف كَارِهًا أحب نور الدّين مسيره.
وَفِيه: ذهَاب الْملك من بَيته وَكره صَلَاح الدّين الْمسير.
وَفِيه: ملكه وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم، وَعَسَى أَن
تحبوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لكم.
وَمن جملَة مَا أعْطى نور الدّين شيركوه لهَذِهِ الْحَرَكَة مِائَتي
ألف دِينَار سوى الثِّيَاب وَالدَّوَاب وَالسِّلَاح وأنفقت فِي
الْعَسْكَر، فَلَمَّا قَارب شيركوه مصر رَحل عَنْهَا الفرنج إِلَى
بِلَادهمْ وَوصل الْقَاهِرَة فِي رَابِع ربيع الآخر وَاجْتمعَ بالعاضد،
وخلع عَلَيْهِ وَعَاد إِلَى خيامه، وأجرى على شيركوه الإقامات وماطله
شاور فِيمَا كَانَ بذل لنُور الدّين من تَقْرِير الال وإفراد ثلث
المَال وَصَارَ يعده ويمنيه ويركب إِلَيْهِ وعزم على عمل دَعْوَة يقبض
فِيهَا على شيركوه فَمَنعه ابْنه الْكَامِل بن شاور، فعزم الْعَسْكَر
النوري على الفتك بشاور وَلَا سِيمَا صَلَاح الدّين، وجرد بك، فنهاهم
شيركوه عَنهُ.
وَاتفقَ أَن شاور ركب إِلَى شيركوه على عَادَته فَلم يجده وَكَانَ قد
مضى لزيارة قبر الإِمَام الشَّافِعِي فَسَار صَلَاح الدّين وجرد بك
مَعَ شاور إِلَى شيركوه ووثب صَلَاح الدّين وجرد بك وَمن مَعَهُمَا على
شاور وألقوه إِلَى اأرض وأمسكوه فِي سَابِع ربيع الآخر فهرب أَصْحَابه،
ثمَّ لم يُمكن شيركوه إِلَّا إتْمَام ذَلِك وَبلغ العاضد ذَلِك فَطلب
مِنْهُ إرْسَال رَأس شاور فَقتله وَأرْسل إِلَى العاضد بِرَأْسِهِ ثمَّ
دخل شيركوه الْقصر فَخلع عَلَيْهِ العاضد خلع الوزارة، ولقبه الْملك
الْمَنْصُور أَمِير الجيوش، وَكتب منشوره بالإنشاء الفاضلي، وَكتب
العاضد بِخَطِّهِ على طرته هَذَا عهد لم يعْهَد لوزير بِمثلِهِ فتقلد
أَمَانَة رآك أَمِير الْمُؤمنِينَ أَهلا لحملها وخد كتاب أَمِير
الْمُؤمنِينَ بِقُوَّة واسحب ذيل الفخار بِأَن اعتزت خدمتك إِلَى نبوة
النُّبُوَّة.
(2/73)
وَفِيه يَقُول الْعِمَاد الْكَاتِب من
قصيدة أرسلها من الشَّام إِلَيْهِ:
(بالجد أدْركْت مَا أدْركْت لَا اللّعب ... كم رَاحَة جنيت من دوحة
التَّعَب)
(يَا شيركوه بن شاذي الْملك دَعْوَة من ... نَادَى فَعرف خير ابْن
بِخَير أَب)
(تمل من ملك مصر رُتْبَة قصرت ... عَنْهَا الْمُلُوك فطالت سَائِر
الرتب)
وَفِي شيركوه وَقتل شاور يَقُول عرقلة الدِّمَشْقِي:
(لقد فَازَ بِالْملكِ الْعَقِيم خَليفَة ... لَهُ شيركوه العاضدي
وَزِير)
(هُوَ الْأسد الضاري الَّذِي جلّ خطبه ... وشاور كلب للرِّجَال عقور)
(طَغى وبغى حَتَّى لقد قَالَ صَحبه ... على مثلهَا كَانَ العنيز
يَدُور)
(فَلَا رحم الرَّحْمَن تربة قَبره ... وَلَا زَالَ فِيهَا مُنكر
وَنَكِير)
وَأما الْكَامِل بن شاور فَلَمَّا قتل أَبوهُ دخل الْقصر فَكَانَ آخر
الْعَهْد بِهِ وَلما بلغ شيركوه الأمنية أَتَتْهُ الْمنية فَتوفي يَوْم
السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا، فولايته
شَهْرَان وَخَمْسَة أَيَّام.
شيركوه وَأَيوب
ابْنا شاذي من بلد دوين من الأكراد الروادية قصدا الْعرَاق وخدما بهروز
شحنة السلجوقية بِبَغْدَاد.
وَكَانَ أَيُّوب أكبر من شيركوه فَجعله بهروز مستحفظاً على قلعة تكريت
وَلما كسر عَسْكَر الْخَلِيفَة زنكي وَمر على تكريت خدماه، ثمَّ قتل
شيركوه إنْسَانا بتكريت فأخرجهما بهروز من تكريت فلحقا بزنكي فأقطعهما
إقطاعات جليلة ثمَّ جعل أَيُّوب مستحفظاً لقلعة بعلبك لما فتحهَا،
وَلما حاصره عَسْكَر دمشق بعد موت زنكي سلمهَا إِلَيْهِم على إقطاع
كثير شرطوه لَهُ، وَبَقِي أَيُّوب من أكبر أُمَرَاء دمشق وَبَقِي
شيركوه بعد زنكي مَعَ نور الدّين، وأقطعه حمص والرحبة وَقدمه على
الْعَسْكَر لشجاعته.
وَلما أَرَادَ نور الدّين ملك دمشق أَمر شيركوه فكاتب أَخَاهُ أَيُّوب
فساعد على ذَلِك، وبقيا مَعَ نور الدّين إِلَى أَن أرسل شيركوه إِلَى
مصر مرّة بعد أُخْرَى حَتَّى ملكهَا.
وَلما توفّي شيركوه طلب جمَاعَة من الْأُمَرَاء النورية التَّقَدُّم
على الْعَسْكَر، وَولَايَة الوزارة العاضدية مِنْهُم عز الدولة
الياروقي، وقطب الدّين نيال بن حسان المنبجي، وَسيف الدّين عَليّ بن
أَحْمد المشطوب الهكاري، وشهاب الدّين مَحْمُود الحارمي خَال صَلَاح
الدّين فأحضر العاضد صَلَاح الدّين وولاه الوزارة، ولقبه بِالْملكِ
النَّاصِر فَلم يطعه المذكورون.
وَكَانَ مَعَ صَلَاح الدّين الْفَقِيه عِيسَى الهكاري فاستمال إِلَى
صَلَاح الدّين المشطوب والحارمي، وَقَالَ للحارمي: هَذَا ابْن أختك
وَملكه لَك، وَكَذَا فعل بالباقين فمالوا إِلَيْهِ إِلَّا
(2/74)
الياروقي قَالَ: أَنا لَا أخدم يُوسُف
وَعَاد إِلَى نور الدّين بِالشَّام وَثَبت قدم صَلَاح الدّين على أَنه
نَائِب نور الدّين.
وَكَانَ نور الدّين يُكَاتب صَلَاح الدّين بالأمير الأسفهسلار وعلامته
على رَأس الْكتاب تَعَظُّمًا عَن أَن يكْتب اسْمه.
وَكَانَ لَا يفرده بِكِتَاب بل إِلَى الْأَمِير صَلَاح الدّين وكافة
الْأُمَرَاء بالديار المصرية يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا.
ثمَّ أرسل صَلَاح الدّين يطْلب من نور الدّين أَبَاهُ أَيُّوب وَأَهله
فأرسلهم فَأَعْطَاهُمْ بِمصْر الإقطاعات وَتمكن من الْبِلَاد وَضعف
أَمر العاضد وهجر صَلَاح الدّين الشّرْب وَاللَّهْو، وتقمص الْجد.
قَالَ ابْن الْأَثِير: رَأَيْت كثيرا مِمَّن ابْتَدَأَ الْملك يتنقل
الْملك إِلَى غير عقبه، تغلب مُعَاوِيَة وَملك فانتقل إِلَى بني
مَرْوَان بعده وَملك السفاح فانتقل إِلَى عقب أَخِيه الْمَنْصُور وَملك
نصر بن أَحْمد الساماني فانتقل إِلَى أَخِيه إِسْمَاعِيل وعقبه، ثمَّ
ملك عماد الدولة بن بويه فانتقل إِلَى عقب أَخِيه ركن الدولة.
ثمَّ ملك طغرل بك السلجوقي فانتقل إِلَى عقب أَخِيه دَاوُد، ثمَّ ملك
شيركوه فانتقل إِلَى ابْن أَخِيه، ثمَّ لم يبْق فِي عقب صَلَاح الدّين
بل انْتقل إِلَى أَخِيه الْعَادِل وعقبه، وَلم يبْق لأَوْلَاد صَلَاح
الدّين غير حلب وَسبب ذَلِك كَثْرَة قتل من يتَوَلَّى أَولا، وَأَخذه
الْملك وعيون أَهله وَقُلُوبهمْ مُتَعَلقَة بِهِ فَيحرم عقبه، ثمَّ أَن
صَلَاح الدّين قتل مؤتمن الْخلَافَة، وَكَانَ مقدم السودَان حفاظ
الْقصر فَجرى بَينه وَبينهمْ بَين القصرين وقْعَة عَظِيمَة انهزم
فِيهَا السودَان وتبعهم صَلَاح الدّين فأجلاهم قتلا وتشريداً، وَحكم
على الْقصر وَأقَام فِيهِ بهاء الدّين قُرَّة قوش الْأَسدي الْخصي
الْأَبْيَض وَبَقِي لَا يجْرِي فِي الْقصر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة
إِلَّا بِأَمْر صَلَاح الدّين.
وفيهَا: كسر إيلدكز إينانج صَاحب الرّيّ، وأطمع إيلدكز غلْمَان إينانج
فِي الإقطاعات إِن قَتَلُوهُ فَقَتَلُوهُ فَلم يَفِ لَهُم وَلحق بَعضهم
وَهُوَ الْقَائِل بخوارزم شاه فصلبه لخيانته أستاذه.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الفارقي أحد الزهاد ذَوي
الكرامات الْمُتَكَلِّمين على الخواطر وَكَلَامه مَجْمُوع مَشْهُور.
وفيهَا: توفّي ياروق أرسلان مقدم كَبِير تركماني عَظِيم الْخلقَة سكن
بِظَاهِر حلب وعمائر أَتْبَاعه بِظَاهِر قونق يعرف بالياروقية.
قلت وفيهَا: توفّي الشَّيْخ أَبُو عمر وَعُثْمَان بن مَرْزُوق بن حميد
بن سَلامَة الْقرشِي الْحَنْبَلِيّ بِمصْر، وَدفن بالقرافة شَرْقي قبر
الشَّافِعِي وقبره مَعْرُوف أفتى بِمصْر، ودرس وناظر وَخرج وأملى وقصده
الطّلبَة.
وَله كرامات ظَاهِرَة، وَمن كَلَامه الطَّرِيق إِلَى معرفَة الله
تَعَالَى وَصِفَاته الْفِكر وَالِاعْتِبَار
(2/75)
بِحكمِهِ وآياته، وَلَا سَبِيل للألباب
إِلَى معرفَة كنه ذَاته وَلَو تناهت الحكم الإلهية فِي حد الْعُقُول،
أَو انحصرت الْقُدْرَة الربانية فِي دَرك الْعُلُوم لَكَانَ ذَلِك
تقصيراً فِي الْحِكْمَة ونقصاً فِي الْقُدْرَة وَلَكِن احْتَجَبت أسرار
الْأَزَل عَن الْعُقُول كَمَا استنرت سبحات الْجلَال عَن الْأَبْصَار،
فقد رَجَعَ معنى الْوَصْف فِي الْوَصْف، وعمى الْفَهم عَن الدَّرك،
وَدَار الْملك فِي الْملك، وانْتهى الْمَخْلُوق إِلَى مثله وَأسْندَ
الطّلب إِلَى شكله، وخشعت الْأَصْوَات للرحمن، فَلَا تسمع إِلَّا همسا،
فَجَمِيع الْمَخْلُوقَات من الذّرة إِلَى الْعَرْش سبل مُتَّصِلَة
إِلَى مَعْرفَته، وحجج بَالِغَة على أزليته، والكون جَمِيعه ألسن ناطقة
بوحدانيته، وَالْعلم كُله كتاب يقْرَأ حُرُوف أشخاصه المتبصرون على قدر
بصائرهم.
قيل: أَنه كَانَ من أوتاد مصر، وَزَاد النّيل سنة زِيَادَة عَظِيمَة
وَخيف الْغَرق فاستغاث النَّاس بِهِ فَأتى إِلَى شاطئ النّيل
وَتَوَضَّأ مِنْهُ فنقص فِي الْحَال نَحْو ذراعين وَنزل حَتَّى زرع
النَّاس فِي الْيَوْم الثَّانِي، وَلم يطلع النّيل سنة وغلا السّعر
وَفَاتَ أَكثر وَقت الزَّرْع وَخيف الْهَلَاك فَتَوَضَّأ فِي شاطئ
النّيل بإبريق كَانَ مَعَ خادمه فَزَاد النّيل فِي ذَلِك الْيَوْم،
وَتَتَابَعَتْ زِيَادَته حَتَّى انْتهى إِلَى حَده وبورك فِي زرع
تِلْكَ السّنة ببركة الشَّيْخ.
وَكَانَ يطوى لَهُ الْبعيد، وكراماته مَجْمُوعَة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا حصر الفرنج دمياط،
وَكَانَت مشحونة بِالرِّجَالِ والذخائر من جِهَة صَلَاح الدّين خمسين
يَوْمًا، وأغار نور الدّين على بِلَادهمْ فرحلوا وَمَا ظفروا بهَا،
قَالَ صَلَاح الدّين: مَا رَأَيْت أكْرم من العاضد أرسل إِلَيّ مُدَّة
مقَام الفرنج على دمياط ألف ألف دِينَار مصرية سوى الثِّيَاب
وَغَيرهَا.
وفيهَا: حاصر نور الدّين الكرك ثمَّ رَحل عَنْهَا.
وفيهَا: زلزل الشَّام عَظِيما فاشتغل كل من الْمُسلمين والفرنج بعمارة
مَا خرب عَن الْحَرْب.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ قطب الدّين مودود بن زنكي صَاحب
الْموصل بالحمى المحرقة وعمره أَرْبَعُونَ تَقْرِيبًا، وَملكه إِحْدَى
وَعِشْرُونَ سنة وَخَمْسَة أشهر وَنصف.
وَكَانَ حسن السِّيرَة، وَصرف أَرْبَاب الدولة الْملك عَن ابْنه عماد
الدّين زنكي بن مودود إِلَى سيف الدّين غَازِي بن مودود وَهُوَ
الْأَصْغَر فَسَار زنكي إِلَى عَمه نور الدّين مستنصراً بِهِ.
وفيهَا: توفّي طغرل بك بن قاروت بك صَاحب كرمان، وَملك بعده ابْنه
بهْرَام شاه ونزعه أَخُوهُ أرسلان شاه فاتفق موت أرسلان شاه.
وفيهَا: توفّي مجد الدّين أَبُو بكر بن الداية رَضِيع نور الدّين مقطع
حلب وحارم وقلعة جعبر فَأقر نور الدّين أَخَاهُ عليا على ذَلِك.
(2/76)
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن
طغرل بحماة مكابداً للفقر، وَله سلوان المطاع، وَكتاب نجباء
الْأَبْنَاء، وَشرح مقامات الحريري، ومولده بصقلية، قلت: وَله ينبوع
الْحَيَاة فِي تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم، وَله خير الْبشر بِخَير
الْبشر وَغير ذَلِك وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي تَاسِع ربيع
الآخر توفّي المستنجد بِاللَّه أَبُو المظفر يُوسُف بن المقتفي بن
المستظهر بِاللَّه، ومولده مستهل ربيع الآخر سنة عشر وَخَمْسمِائة.
كَانَ أسمر، تَامّ الْقَامَة، طَوِيل اللِّحْيَة، مرض وخشية أستاذ
دَاره عضد الدولة أَبُو الْفرج ابْن رَئِيس الرؤساء، وقطب الدّين
قيماز، فوصف لَهُ الطَّبِيب دُخُول الْحمام بإشارتهما ليهلك،
فَدَخلَهَا وأغلق الْبَاب فَمَاتَ وأحضر عضد الدولة وقطب الدّين.
المستضيء بِأَمْر الله: وَهُوَ الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ مِنْهُم ابْن
المستنجد، وشرطا عَلَيْهِ أَن يكون عضد الدولة وزيراً، وَابْنه كَمَال
الدّين أستاذ الدَّار وقطب الدّين أَمِير الْعَسْكَر فأجابهم
فَبَايعُوهُ يَوْم موت أَبِيه بيعَة خَاصَّة وَفِي غده بيعَة عَامَّة
وَكَانَ حسن السِّيرَة أطلق كثيرا من المكوس وشدد على المفسدين، واسْمه
الْحسن وكنيته أَبُو مُحَمَّد وَلم ينل الْخلَافَة من اسْمه الْحسن غير
الْحسن بن عَليّ والمستضيء.
وفيهَا: انتزع نور الدّين الْموصل من غَازِي ابْن أَخِيه وقررها وَأطلق
مكوسها ثمَّ وَهبهَا لسيف الدّين غَازِي وَأعْطى زنكي بن مودود سنجار.
وفيهَا: غزا صَلَاح الدّين الفرنج قرب عسقلان وَعَاد إِلَى مصر ثمَّ
حصر أيله بحراً وَبرا وَهِي على سَاحل الْبَحْر الشَّرْقِي، وَفتحهَا
من الفرنج فِي ربيع الآخر، واستباح أَهلهَا وَمَا فِيهَا.
وَعَاد صَلَاح الدّين وَهدم دَار الشّحْنَة وَتسَمى دَار المعونة
بِمصْر وبناها مدرسة للشَّافِعِيَّة، وَبنى دَار الْعدْل مدرسة
للشَّافِعِيَّة، وعزل الْقُضَاة الشِّيعَة، ورتب قَضَاء شافعية،
وَذَلِكَ فِي الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة.
وَكَذَلِكَ اشْترى تَقِيّ الدّين عمر ابْن أخي صَلَاح الدّين منَازِل
الْعِزّ وبناها مدرسة للشَّافِعِيَّة.
وفيهَا: توفّي القَاضِي ابْن الْجلَال من أَعْيَان كتاب المصريين صَاحب
ديوَان الْإِنْشَاء بهَا.
ذكر الْخطْبَة العباسية بِمصْر وانقراض الدولة العلوية
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ خَمْسمِائَة: وفيهَا فِي ثَانِي جُمُعَة
من الْمحرم قطعت خطْبَة العاضد لدين الله أبي مُحَمَّد عبد الله بن
الْأَمِير يُوسُف بن الْحَافِظ لدين الله أبي الميمون عبد الْمجِيد بن
أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أبي تَمِيم معد بن
الظَّاهِر لإعزاز دين الله
(2/77)
أبي الْحسن عَليّ بن الْحَاكِم بِأَمْر
الله أبي عَليّ مَنْصُور بن الْعَزِيز بِاللَّه أبي مَنْصُور نزار بن
الْمعز لدين الله أبي تَمِيم بن الْمَنْصُور بِاللَّه أبي الظَّاهِر
إِسْمَاعِيل بن الْقَائِم بِأَمْر الله أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن
الْمهْدي بِاللَّه أبي مُحَمَّد عبيد الله أول الْخُلَفَاء العلويين من
هَذَا الْبَيْت.
وَسبب ذَلِك: أَن نور الدّين أرسل إِلَى صَلَاح الدّين يَأْمُرهُ حتما
جزما بِقطع الْخطْبَة العلوية وَإِقَامَة الْخطْبَة العباسية فَرَاجعه
خوف الْفِتْنَة، فأصر نور الدّين وَمرض العاضد فَأمر صَلَاح الدّين
بِالْخطْبَةِ للمستضيء وَقطع خطْبَة العاضد فَلم ينتطح فِيهِ عنزان،
فَاشْتَدَّ مرض العاضد وَلم يُعلمهُ بذلك أحد من أَهله فَتوفي فِي
يَوْم عَاشُورَاء وَلم يعلم بِقطع خطبَته، فَجَلَسَ صَلَاح الدّين
للعزاء وَاسْتولى على قصر الْخلَافَة وعَلى نفائسه وتحفه وَكتبه وَمَا
لَا يُحْصى، فَمِنْهُ جبل باقوت وَزنه سَبْعَة عشر درهما، وَكَانَ
بِالْقصرِ طبل للقولنج إِذا ضرب بِهِ الْإِنْسَان حبق فَكسر بِلَا علم،
وَنقل أهل العاضد إِلَى مَوضِع من الْقصر ووكل بهم من يحفظهم وَتصرف
فِي العبيد وَالْإِمَاء بيعا وعتقا وَهبة. وَكَانَ العاضد فِي الْمَرَض
قد طلب صَلَاح الدّين فظنها خديعة فَلم يمض إِلَيْهِ، فَلَمَّا توفّي
نَدم لتخلفه عَنهُ وَجَمِيع من خطب لَهُ بالخلافة مِنْهُم أَرْبَعَة
عشر الْمهْدي والقائم والمنصور والمعز والعزيز وَالْحَاكِم وَالظَّاهِر
والمستنصر والمستعلي والآمر والحافظ والظافر والفائز والعاضد، ومدتهم
من ظُهُور الْمهْدي بسجلماسة فِي ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَتِسْعين
وَمِائَتَيْنِ إِلَى أَن توفّي العاضد فِي هَذِه السّنة مِائَتَان
وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سنة تَقْرِيبًا. وَلما وصل خبر الْخطْبَة
العباسية بِمصْر إِلَى بَغْدَاد ضربت البشائر أَيَّامًا وسيرت الْخلْع
مَعَ عماد الدّين صندل من خَواص الدولة المقتفوية إِلَى نور الدّين
وَصَلَاح الدّين والخطباء، ووسيرت الْأَعْلَام السود.
وَكَانَ العاضد قد رأى فِي مَنَامه أَن عقرباً خرجت من مَسْجِد بِمصْر
مَعْرُوف بالعاضد ولدغته فَاسْتَيْقَظَ واستدعى معبراً فَعبر لَهُ بأذى
يصله من شخص بِالْمَسْجِدِ فَتقدم بإحضار من فِيهِ فأحضر شخص صوفي
اسْمه نجم الدّين الخوبشاني فاستخبره العاضد عَن مُقَدّمَة وَسبب
مقَامه بِالْمَسْجِدِ فَأخْبرهُ بِالصَّحِيحِ فِي ذَلِك، وَرَآهُ
العاضد أَضْعَف من أَن يَنَالهُ بمكروه فوصله بِمَال وَقَالَ لَهُ:
ادْع لنا يَا شيخ وَأمره بالإنصراف، فَلَمَّا أَرَادَ صَلَاح الدّين
إِزَالَة الدولة العلوية وَالْقَبْض عَلَيْهِم كَانَ نجم الدّين
الخوبشاني من جملَة من بَالغ بالإفتاء بمساويهم وسلب الْإِيمَان
عَنْهُم فَصحت الرُّؤْيَا.
وفيهَا: جرى بَين نور الدّين وَصَلَاح الدّين الوحشة بَاطِنا فَإِن
صَلَاح الدّين نَازل الشوبك وَهِي للفرنج، ثمَّ رَحل خوفًا أَن
يَأْخُذهُ فَلم يبْق لنُور الدّين مَا يعوقه عَن مصر، وَبلغ ذَلِك نور
الدّين فكتمه وَجمع صَلَاح الدّين بِمصْر أَقَاربه وأكابره، وَقَالَ:
بَلغنِي أَن نور الدّين يقصدنا فَمَا الرَّأْي؟ فَقَالَ تَقِيّ الدّين
عمر ابْن أَخِيه: نقاتله، فَأنْكر نجم الدّين أَيُّوب أبوهم ذَلِك،
وَقَالَ: أَنا والدكم لَو رَأَيْت نور الدّين نزلت وَقبلت الأَرْض بَين
يَدَيْهِ أكتب إِلَيْهِ
(2/78)
لَو جَاءَنِي من عنْدك إِنْسَان وَاحِد
وربط المنديل فِي عنقِي وجرني إِلَيْك سارعت إِلَى ذَلِك وانفضوا، ثمَّ
خلا أَيُّوب بِأَبِيهِ وَقَالَ: لَو قصدنا نور الدّين أَنا كنت أول من
يمنعهُ ويقاتله، وَلَكِن إِذا أظهرنَا ذَلِك يتْرك نور الدّين جَمِيع
مَا هُوَ فِيهِ ويقصدنا وَلَا نَدْرِي مَا يكون من ذَلِك، وَإِذا
أظهرنَا لَهُ الطَّاعَة تَمَادى الْوَقْت بِمَا يحصل بِهِ الْكِفَايَة
من عِنْد الله فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وفيهَا: توفّي الْأَمِير مُحَمَّد بن مردبيس صَاحب شَرْقي الأندلس:
مرسيه وبلنسيه وَغَيرهمَا، فَسلم أَوْلَاده بِلَاده ليوسف بن عبد
الْمُؤمن فسر بذلك وَتزَوج أختهم وأجزل لَهُم وَكَانَ قد قصدهم فِي
مائَة ألف فكفي الْقِتَال.
وفيهَا: عبر الخطا نهر جيحون، فَسَار خوارزم شاه أرسلان بن أتسز بن
مُحَمَّد بن أنوشتكين إِلَى لِقَائِه، فَرجع خوارزم شاه لمرضه، وَأرْسل
عسكراً فَقَاتلُوا الخطا فَانْهَزَمَ عَسْكَر خوارزم شاه وَأسر مقدمهم
وَرجع الخطا إِلَى بِلَادهمْ.
وفيهَا: اتخذ نور الدّين الْحمام الهوادي المناسيب لتصل الْأَخْبَار
إِلَيْهِ فِي يَوْمه.
وفيهَا: عزل المستضئ وزيره عضد الدولة ابْن رَئِيس الرؤوساء مكْرها من
جِهَة قيماز.
وفيهَا: مَاتَ يحيى بن سعدون الْأَزْدِيّ الأندلسي الْقُرْطُبِيّ
إِمَام فِي الْقِرَاءَة والنحو وَغَيره بالموصل.
وفيهَا: توفّي أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد بن أَحْمد بن أَحْمد
بن الخشاب الْبَغْدَادِيّ، تضلع من الْأَدَب والنحو وَالتَّفْسِير
والْحَدِيث قَلِيل الاكتراث بالمأكل والملبس.
وفيهَا: توفّي نصر الله بن عبد الله بن مخلوف بن عَليّ بن عبد النُّور
ابْن قلاقس الشَّاعِر الإسكندري فِي مدح القَاضِي الْفَاضِل وَفِي
كَثْرَة أَسْفَاره يَقُول:
(وَالنَّاس كثر وَلَكِن لَا يقدر لي ... الْأَمر افقة الملاح
وَالْحَادِي)
قلت: وَمَا أحسن قَول ابْن عنين فِي كَثْرَة أَسْفَاره فِي الْمشرق:
(أشقق قلب الشرق حَتَّى كأنني ... أفتش فِي سودائه عَن سنا الْفجْر)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا توفّي خوارزم
شاه أرسلان بن أتسز بن مُحَمَّد أنوشتكين، وَقد عَاد من قتال الخطا
مَرِيضا.
وَملك بعده ابْنه الصَّغِير سُلْطَان شاه مَحْمُود بتدبير والدته،
وَلما بلغ ابْنه الْكَبِير عَلَاء الدّين تكش وَهُوَ مُقيم فِي اقطاعه
خبر ذَلِك استنجد بالخطا وطرد سُلْطَان شاه، واستنجد سُلْطَان شاه
بملوك الْأَطْرَاف، وطرد تكش، وَكَانَ الْحَرْب بَينهم سجالا حَتَّى
مَاتَ سُلْطَان شاه سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة، وَاسْتقر تكش
فِي ملك خوارزم.
(2/79)
وَفِي تِلْكَ الحروب قتل الْمُؤَيد آي بِهِ، قَتله تكش صبرا، وَملك
بعده طغان شاه بن الْمُؤَيد آي بِهِ.
وفيهَا: سَار شمس الدولة توران شاه بن أَيُّوب من مصر إِلَى النّوبَة
للتغلب عَلَيْهَا فَلم تعجبه فغنم وَعَاد.
وفيهَا: توفّي شمس الدّين إيلدكز بهمدان.
وَملك بعده مُحَمَّد البهلوان، وَكَانَ إيلدكز مَمْلُوكا للكمال
السميرمي وَزِير مَحْمُود، فَلَمَّا ولي مَسْعُود كبره حَتَّى ملك
أذربيجان وأصبهان والري، وَكَانَ عسكره خمسين ألفا وخطب فِي بِلَاده
بالسلطنه لأرسلان طغرل بك اسْما، وَكَانَ حسن السِّيرَة.
وفيهَا: سَار طَائِفَة من التّرْك من مصر مَعَ قراقوش مَمْلُوك تَقِيّ
الدّين عمر بن شاهنشاه إِلَى إفريقية، وحاصروا طرابلس الغرب ثمَّ
فتحهَا قراقوش، وَملك كثيرا من تِلْكَ الْبِلَاد.
وفيهَا: غزا يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بِلَاد الفرنج بالأندلس.
وفيهَا: استولى نور الدّين على مرعش وبهسنا ومرزبان وسيواس من بِلَاد
قلج أرسلان فَأرْسل يستعطفه فَقَالَ نور الدّين: لَا أرْضى حَتَّى ترد
ملطية على ذِي النُّون بن الدانشمند فبذل لَهُ سيواس مصالحة عَنْهَا،
فَلَمَّا مَاتَ نور الدّين أَخذ قلج أرسلان سيواس من ابْن الدانشمند.
وفيهَا: حصر صَلَاح الدّين الكرك وواعد نور الدّين بالاجتماع عَلَيْهَا
فَلَمَّا قَارب نور الدّين الكرك خافه صَلَاح الدّين، فَعَاد إِلَى مصر
وَأرْسل تحفاً إِلَى نور الدّين وَاعْتذر بِمَرَض أَبِيه وَالْخَوْف من
ذهَاب مصر لَو مَاتَ فعذره نور الدّين ظَاهرا وَوجد صَلَاح الدّين
أَبَاهُ قد مَاتَ بِوُقُوعِهِ عَن فرس نفرت بِهِ فِي السَّابِع
وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة مِنْهَا.
وفيهَا: توفّي أَبُو نزار حسن بن أبي الْحسن صافي بن عبد الله بن نزار
النَّحْوِيّ ملك النُّحَاة وَقد ناهز الثَّمَانِينَ، كَانَ معجباً
بِنَفسِهِ يسْخط على من يخاطبه بِغَيْر ذَلِك.
قَرَأَ الْفِقْه على مَذْهَب الشَّافِعِي والأصولين وَالْخلاف، وبرع
فِي النَّحْو وسافر إِلَى خُرَاسَان وكرمان وغزته واستوطن دمشق. |