تاريخ ابن الوردي

ثمَّ دخلت سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة:
ملك توران شاه الْيمن

أَرَادَ صَلَاح الدّين تَحْصِيل مملكة غير مصر بِحَيْثُ إِن قَاتلهم نور الدّين وَهَزَمَهُمْ التجأوا إِلَى تِلْكَ المملكة فَجهز أَخَاهُ شمس الدولة توران شاه فِي هَذِه السّنة بعسكر إِلَى الْيمن فَجرى بَينه وَبَين عبد النَّبِي الْمُقدم ذكره قتال فَانْهَزَمَ عبد النَّبِي وَملك توران شاه زبيدا وَأسر عبد النَّبِي.

(2/80)


وَملك عدن وَأسر صَاحبهَا ياسراً، وَاسْتولى على الْيمن وأموال عبد النَّبِي وياسر، وَصَارَت الْيمن لصلاح الدّين.
وفيهَا: وَفِي رَمَضَان صلب صَلَاح الدّين جمَاعَة قصدُوا الْوُثُوب عَلَيْهِ وإعادة الدولة العلوية مِنْهُم عبد الصَّمد الْكَاتِب وَالْقَاضِي العويرس وداعي الدعاة وَعمارَة بن عَليّ اليمني الْفَقِيه الشَّاعِر.
وَمن شعره فِي أَحْوَال المصريين:
(رميت يَا دهر كف الْمجد بالشلل ... وجيده بعد حسن الحلى بالعطل)

(لهفي ولهف بني الآمال قاطبة ... على فجيعتها فِي أكْرم الدول)

(يَا عاذلي فِي هوى أَبنَاء فَاطِمَة ... لَك الْمَلَامَة إِن قصرت فِي عذلي)

(تالله زرساحة القصرين وابك معي ... عَلَيْهِمَا لَا على صفّين والجمل)

(وَقل لأهلهما وَالله مَا التحمت ... فِيكُم جروحي وَلَا قرحي بمنديل)

(مَاذَا ترى كَانَت الإفرنج فاعلة ... فِي نسل آل أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ)

(وَقد حصلتم عَلَيْهَا وَاسم جدكم ... مُحَمَّد وأبوكم خير منتعل)

(مَرَرْت بِالْقصرِ والأركان خَالِيَة ... من الْوُفُود وَكَانَت قبْلَة الْقبل)

(وَالله لَا فَازَ يَوْم الْحَشْر مبغضكم ... وَلَا نجا من عَذَاب النَّار غير ولي)

(أئمتي وهداتي والذخيرة لي ... إِذا ارتهنت بِمَا قدمت من عَمَلي)

وَله فيهم:
(غصبت أُميَّة إِرْث آل مُحَمَّد ... سفها وشنت غَارة الشنان)

(وغدت تخَالف فِي الْخلَافَة أَهلهَا ... وتقابل الْبُرْهَان بالبهتان)

(لم تقتنع حكامهم بركوبهم ... ظهر النِّفَاق وغارب الْعدوان)

(وقعودهم فِي رُتْبَة نبوية ... لم يبنها لَهُم أَبُو سُفْيَان)

(حَتَّى أضافوا بعد ذَلِك أَنهم ... أخذُوا بثأر الْكفْر فِي الْإِيمَان)

(فَأنى زِيَاد فِي الْقَبِيح زِيَادَة ... تركت يزِيد يزِيد فِي النُّقْصَان)

وفيهَا: توفّي الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن عماد الدّين زنكي بن أقسنقر صَاحب الشَّام وديار الجزيرة وَغير ذَلِك وَيَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشر شَوَّال بالخوانيق بقلعة دمشق.
كَانَ أسمر طَوِيل الْقَامَة، لَيْسَ لَهُ لحية إِلَّا فِي حنكه، حسن الصُّورَة، متسع الْملك، خطب لَهُ بالحرمين واليمن ومصر، ومولده سنة إِحْدَى عشرَة وَخَمْسمِائة، وَكَانَ من الزّهْد وَالْعِبَادَة على قدم عَظِيم، يُصَلِّي كثيرا من اللَّيْل، عادلاً كاسمه، كَمَا قيل:
(جمع الشجَاعَة والخشوع لرَبه ... مَا أحسن الْمِحْرَاب فِي الْمِحْرَاب)

قلت: وَفِي نور الدّين يَقُول أَبُو الْحُسَيْن بن مُنِير:

(2/81)


(عقد الْحق ألسن المدعينا ... أَنْت خير الْمُلُوك دنيا ودينا)

(بسط الرزق فِي البسيطة ... كَفاك فكلتا يَديك تلقي يَمِينا)

(فيد تحسم النوائب عَنَّا ... وَيَد تقسم الرغائب فِينَا)

وَالله أعلم.
وَكَانَ عَارِفًا بالفقه على مَذْهَب أبي حنيفَة وَلَيْسَ عِنْده تعصب، بنى أسوار مدن الشَّام مثل دمشق وحمص وحماه وحلب وشيرز وبعلبك وَغَيرهَا لما هدمتها الزلازل، وَبنى الْمدَارِس الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة والمشاهد والرباطات، وَلَا يحْتَمل هَذَا الْمُخْتَصر ذكر فضائله.
وَلما توفّي قَامَ ابْنه الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بِالْملكِ بعده، وعمره إِحْدَى عشرَة سنة، وَحلف لَهُ الْعَسْكَر بِدِمَشْق وَأقَام بهَا وأطاعه صَلَاح الدّين، وخطب لَهُ بِمصْر، وَضرب السِّكَّة باسمه، ودبر دولته الْأَمِير شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْملك الْمَعْرُوف بِابْن الْمُقدم. وَبلغ موت نور الدّين سيف الدّين غَازِي بن مودود بن زنكي، فَسَار من الْموصل وَملك الْبِلَاد الجزرية.
ثمَّ دخلت سنة سبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا اجْتمع على رجل من أهل الصَّعِيد يُقَال لَهُ الْكَنْز جمع كثير، وَأظْهر الْخلاف على صَلَاح الدّين فَأرْسل إِلَيْهِ صَلَاح الدّين عسكراً، فَاقْتَتلُوا فَقتل الْكَنْز وَجَمَاعَة وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، وفيهَا سلخ ربيع الأول.
ملك صَلَاح الدّين دمشق وحمص وحماه

وَسَببه أَن شمس الدّين ابْن الداية أرسل سعد الدّين كمشتكين يَسْتَدْعِي الْملك الصَّالح بن نور الدّين إِلَى حلب فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك، وَلما اسْتَقر بحلب وَتمكن كمشتكين قبض على ابْن الداية وَإِخْوَته، وعَلى الرئيس ابْن الخشاب وَإِخْوَته، واستبد كمشتكين بتدبير الْملك الصَّالح فخافه الْأُمَرَاء بِدِمَشْق فاستدعوا صَلَاح الدّين ليملكوه عَلَيْهِم فوصل إِلَيْهِم فِي جَرِيدَة سَبْعمِائة فَارس فالتقاه الْعَسْكَر وخدموه وَنزل بدار وَالِده أَيُّوب الْمَعْرُوفَة بدار العقيقي، وعصت عَلَيْهِ القلعة وفيهَا الْخَادِم ريحَان من جِهَة الصَّالح فاستماله فَسلم إِلَيْهِ القلعة فصعدها وَأخذ مَا فِيهَا من الْأَمْوَال وَقرر الْأُمُور واستخلف بهَا أَخَاهُ سيف الْإِسْلَام طغتكين، وَسَار إِلَى حمص مستهل جُمَادَى الأولى، وَكَانَت حمص وحماه وقلعة بارين وسلمية وتل خَالِد والرها فِي أقطاع فَخر الدّين مَسْعُود بن الزَّعْفَرَانِي، فَلَمَّا مَاتَ نور الدّين لم يُمكن مَسْعُود الْمقَام بحماه وحمص لسوء سيرته مَعَ النَّاس.
وَكَانَت هَذِه الْبِلَاد لَهُ ولنور الدّين فِي قلاعها نواب حكمهَا إِلَيْهِم إِلَّا بارين فَإِن قلعتها كَانَت لَهُ، وَنزل صَلَاح الدّين على حمص فِي حادي عشر جُمَادَى الأولى وَملك الْمَدِينَة وعصت عَلَيْهِ القلعة فَترك من يضيق عَلَيْهَا ورحل إِلَى حماه فَملك مدينتها مستهل جُمَادَى الْآخِرَة من هَذِه السّنة.
وَكَانَت بقلعتها الْأَمِير عز الدّين جرد بك النوري فَامْتنعَ فِي القلعة، فَذكر لَهُ صَلَاح

(2/82)


الدّين إِن غَرَضه حفظ بِلَاد الصَّالح عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِبه وقصده من جرد بك الْمسير إِلَى حلب فِي رِسَالَة فاستحلفه جرد بك على ذَلِك.
وَسَار برسالة صَلَاح الدّين إِلَى حلب واستخلف بقلعة حماه أَخَاهُ فَلَمَّا وصل جرد بك إِلَى حلب سجنه كمشتكين وَبلغ ذَلِك أَخَاهُ فَسلم قلعة حماة إِلَى صَلَاح الدّين ثمَّ حصر حلب وَبهَا الصُّلْح بن نور الدّين فقاتله عَن حلب وصده وَأرْسل كمشتكين إِلَى سِنَان مقدم الإسماعيلية أَمْوَالًا ليقتلوا صَلَاح الدّين فَوَثَبَ عَلَيْهِ جمَاعَة فَقتلُوا دونه، وَفِي مستهل رَجَب رَحل عَن حلب لنزول الفرنج على حمص، وَنزل صَلَاح الدّين على حماه ثامن رَجَب وَقصد حمص، فَرَحل الفرنج عَنْهَا وَحصر قلعتها، وملكها فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من شعْبَان.
ثمَّ ملك بعلبك فَأرْسل الْملك الصَّالح إِلَى ابْن عَمه سيف الدّين غَازِي صَاحب الْموصل يستنجده فَجهز جَيْشًا صَحبه أَخِيه عز الدّين مَسْعُود بن مودود وَقدم على الْجَيْش عز الدّين مَحْمُود سلفندر أكبر أمرائه، وَطلب أَخَاهُ الْأَكْبَر زنكي صَاحب سنجار لينجده أَيْضا، فَامْتنعَ مصانعة لصلاح الدّين فبذل صَلَاح الدّين فحصره غَازِي بسنجار، ووصلت النجدة إِلَى حلب وَسَارُوا هم وعسكر حلب إِلَى صَلَاح الدّين فبذل صَلَاح الدّين لَهُم وحمص وحماه لتبقى لَهُ دمشق ليَكُون فِيهَا نَائِبا للصالح فَأَبَوا وَسَارُوا إِلَيْهِ فَاقْتَتلُوا عِنْد قُرُون حماه، فانكسر عَسْكَر الْموصل وحلب، وغنم صَلَاح الدّين وَعَسْكَره أَمْوَالهم وتبعهم حَتَّى حصرهم بحلب، وَحِينَئِذٍ قطع خطْبَة الْملك الصَّالح منع سكته واستبد بالسلطنة فأرسلوا إِلَيْهِ على أَن يكون لَهُ مَا بِيَدِهِ من الشَّام، وللصالح مَا بقى بِيَدِهِ مِنْهُ، فَفعل وَرجع عَنْهُم فِي شَوَّال مِنْهَا.
وَفِي الْعشْر الأول من شَوَّال ملك صَلَاح الدّين قلعة بارين من صَاحبهَا فَخر الدّين مَسْعُود بن الزَّعْفَرَانِي النوري.
وفيهَا: ملك البهلوان بن إيلدكز تبريز من ابْن أقسنقر الأحمديلي.
وفيهَا: مَاتَ سملة التركماني صَاحب خوز ستان وَملك ابْنه.
وفيهَا: وَقع بَين الْخَلِيفَة وَبَين قيماز مقدم عسكره فتْنَة فنهب دَار قيماز وهرب إِلَى الْحلَّة ثمَّ إِلَى الْموصل فعطش فَمَاتَ هُوَ وَأكْثر أَصْحَابه قبل وصولهم الْموصل فَحمل وَدفن بِظَاهِر بَاب الْعِمَادِيّ، وَلما هرب قيماز خلع الْخَلِيفَة على عضد الدّين الْوَزير واستوزره.
قلت: وفيهَا تَقْرِيبًا توفّي الشَّيْخ قضيب البان الْموصِلِي بالموصل وَهُوَ أحد الْأَوْلِيَاء الْمَشْهُورين والنبلاء الْمَذْكُورين، لَهُ كرامات ظَاهِرَة وأحوال فاخرة. عَن الشَّيْخ أبي الْحسن على الفريثي قَالَ: دخلت على قضيب البان بِبَيْت لَهُ بالموصل فرأيته ملْء الْبَيْت، ثمَّ عدت إِلَيْهِ فرأيته فِي زَاوِيَة الْبَيْت على قدر العصفور، فَخرجت ثمَّ عدت إِلَيْهِ فرأيته كحالة الْمُعْتَاد، فَقلت: يَا سَيِّدي أَخْبرنِي مَا الْحَالة الأولى وَمَا الْحَالة الثَّانِيَة؟ فَقَالَ: يَا عَليّ أَو رأيتهما؟ قلت: نعم قَالَ: لَا بُد أَن تعمى، أما الْحَالة الأولى: فَكَانَ عِنْدِي بالجمال، وَأما الْحَالة الثَّانِيَة فَكنت عِنْد بالجلال، وكف بصر الشَّيْخ الفريثي قبل مَوته بِيَسِير.
وَعَن أبي مُحَمَّد المارديني مَا خلاصته: أَن شَارِح التَّنْبِيه كَمَال الدّين ابْن يُونُس وَقع

(2/83)


فِي قضيب البان بمدرسة الْموصل، فَدخل عَلَيْهِم قضيب البان فَبُهِتُوا وَقَالَ: يَا ابْن يُونُس أَنْت تعلم كل مَا يُعلمهُ الله تَعَالَى؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَإِنِّي أَنا من الْعلم الَّذِي لَا تعلمه أَنْت، فَلم يدر ابْن يُونُس مَا يَقُول، فَتَبِعَهُ المارديني فَأخذ من الْأَزِقَّة سبع كسر فَأتى بَاب عَجُوز فَقَالَت: يَا قضيب البان أَبْطَأت علينا فناولها الْكسر وَانْصَرف وأتى بَاب الْموصل وَهُوَ مغلق فانفتح لَهُ فَخرج والمارديني خَلفه وَمَشى يَسِيرا وَإِذا نهر يجْرِي عِنْده شَجَرَة فَخلع ثِيَابه واغتسل فِيهِ وَلَيْسَ ثيابًا معلقَة على الشَّجَرَة وَصلى إِلَى الْفجْر، وَغلب على المارديني النّوم إِلَى أَن أيقظه حر الشَّمْس وَهُوَ بصحراء مقفرة خَالِيَة، فتحير فَمر بِهِ ركب فَأَتَاهُم وسألهم وَقَالَ أَنا من الْموصل وَخرجت مِنْهَا اللَّيْلَة وَقت الْعشَاء فأنكروا أمره وَقَالُوا: مَا نَدْرِي أَيْن يكون الْموصل؟ فاستخبره شيخ مِنْهُم مَا قصَّته، فَأخْبرهُ فَقَالَ لَا يقدر على ردك إِلَى الْموصل إِلَّا الَّذِي جَاءَ بك إِلَى هُنَا، يَا أخي أَنْت بِبِلَاد الْمغرب وَبَيْنك وَبَين الْموصل سِتَّة أشهر، وَسَارُوا فجَاء قضيب البان لَيْلًا وَفعل كفعلة الأول وَعند الْفجْر نزع تِلْكَ الثِّيَاب وَلبس ثِيَابه.
قَالَ المارديني: وَسَار وتبعته ثمَّ لم نَلْبَث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى جِئْنَا الْموصل، فَالْتَفت إِلَيّ وعرك أُذُنِي وَقَالَ: لَا تعد إِلَى مثلهَا، وَإِيَّاك وإفشاء الْأَسْرَار، وعزم قَاضِي الْموصل أَن يَقُول للسُّلْطَان فِي إِخْرَاج قضيب البان من الْموصل فِي سره، قَالَ: فَرَأَيْت قضيب البان مُقبلا على هَيئته الْمَعْرُوفَة فَمشى خطْوَة وَإِذا هُوَ عَليّ هَيْئَة كردِي ثمَّ مَشى خطْوَة وَإِذا هُوَ على هَيْئَة بدوي، ثمَّ مَشى خطْوَة وَإِذا هُوَ على هَيْئَة فَقِيه بِصُورَة غير الصُّور الْمُتَقَدّمَة، وَقَالَ لي: يَا قَاضِي هَذِه أَربع صور رأيتهن فَمن هُوَ قضيب البان مِنْهُنَّ حَتَّى تَقول للسُّلْطَان فِي إِخْرَاجه فَلم أتمالك أَن اكببت على يَدَيْهِ أقبلهما وَأَسْتَغْفِر وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي عَاشر شَوَّال استنجد غَازِي بن مودود بن زنكي صَاحب الْموصل بِصَاحِب حصن كيفا وَصَاحب ماردين واقتتلوا مَعَ صَلَاح الدّين فكسرهم وَوصل غَازِي الْموصل مرغوباً وَقصد بعض القلاع فثبته وزيره وَأخذ صَلَاح الدّين أثقالهم وَحصر بزاعة ثمَّ تسلمها وَفتح منبج عنْوَة وَأسر صَاحبهَا نيال بن حسان، وَكَانَ شَدِيد البغض لصلاح الدّين وَأخذ موجوده ثمَّ أطلقهُ فأقطعه غَازِي الرقة.
ثمَّ نَازل صَلَاح الدّين عزازاً وتسلمها حادي عشر ذِي الْحجَّة فَوَثَبَ إسماعيلي عَلَيْهِ فجرحه فِي رَأسه، فَقبض صَلَاح الدّين يَدي الْإِسْمَاعِيلِيّ وبقى يضْرب بالسكين فَلَا يُؤثر حَتَّى قتل الْإِسْمَاعِيلِيّ.
ووثب ثَان وثالث فقتلا فذعر وَعرض جنده وَأبْعد من أنكرهُ مِنْهُم، ثمَّ نَازل حلب منتصف ذِي الْحجَّة وحصرها وَبهَا الصَّالح بن نور الدّين وَانْقَضَت هَذِه السّنة وَهُوَ محاصرها، فسألوا صَلَاح الدّين فِي الصُّلْح فأجابهم إِلَيْهِ وأخرجوا إِلَيْهِ بِنْتا صَغِيرَة لنُور الدّين فأكرمها وَأَعْطَاهَا كثيرا، وعلموها أَن تطلب قلعة عزاز فسلمها إِلَيْهِم ورحل عَن حلب فِي الْعشْرين من الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة.

(2/84)


وفيهَا: سَار أَمِير الْحَاج الْعِرَاقِيّ طاشتكين وَأمره الْخَلِيفَة بعزل صَاحب مَكَّة مكثر بن عِيسَى فَقَاتلهُمْ فَانْهَزَمَ مكثر وَأقَام أَخَاهُ دَاوُد مَكَانَهُ بِمَكَّة.
وفيهَا: فِي رَمَضَان قدم شمس الدّين توران شاه بن أَيُّوب من الْيمن إِلَى الشَّام وَكتب إِلَى أَخِيه صَلَاح الدّين أبياتاً من شعر ابْن المنجم الْمصْرِيّ الدَّار والوفاة المعري الأَصْل وَهُوَ نَشأ الْملك أبي الْحسن عَليّ بن مفرج وَهِي:
(وإلي صَلَاح الدّين أَشْكُو أنني ... من بعده مضني الجوانح مولع)

(جزعاً لبعد الدَّار عَنهُ وَلم أكن ... لَوْلَا هَوَاهُ لبعد دَار أجزع)

(ولأركبن إِلَيْهِ متن عزائمي ... ويخب بِي ركب الغرام ويوسع)

(ولأسرين اللَّيْل لَا يسري بِهِ ... طيف الخيال وَلَا البروق اللمع)

(وأقد من إِلَيْهِ قلبِي مخبرا ... إِنِّي بجسمي عَن قريب أتبع)

(حَتَّى أشاهد مِنْهُ أسعد طلعة ... من أفقها صبح السَّعَادَة يطلع)

وفيهَا: توفّي الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن بن هبة الله بن عَسَاكِر الدِّمَشْقِي نور الدّين من أَعْيَان الشَّافِعِيَّة والمحدثين لَهُ تَارِيخ دمشق ثَمَانُون مجلداً فِيهِ غرائب، وَولد سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة.
قلت: وَمن شعره وَلَا باس بِهِ.
(إِلَّا إِن الحَدِيث أجل علم ... وأشرفه الْأَحَادِيث العوالي)

(وأنفع كل نوع مِنْهُ عِنْدِي ... وَأحسنه الْفَوَائِد فِي الأمالي)

(وَإنَّك لن ترى للْعلم شَيْئا ... تحَققه كأفواه الرِّجَال)

(فَكُن يَا صَاح ذَا حرص عَلَيْهِ ... وخذه عَن الرِّجَال بِلَا ملال)

(وَلَا تَأْخُذهُ من صحف فترمى ... من التَّصْحِيف بالداء العضال)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا نهب وَخرب وأحرق صَلَاح الدّين بلد الإسماعيلية وَحصر قلعة مصيات فَسَأَلَهُ شهَاب الدّين الجارمي صَاحب حماه خَال صَلَاح الدّين الصفح عَنْهُم بسؤال سِنَان فَرَحل عَنْهُم إِلَى مصر وَكَانَ بعيد عهد بهَا وَقد قرر الشَّام فَأمر بِبِنَاء السُّور الدائر على مصر والقاهرة والقلعة على جبل المقطم، ودور ذَلِك تِسْعَة وَعِشْرُونَ ألف ذِرَاع وثلاثمائة ذِرَاع بالذراع القاسمي وَلم يزل الْعَمَل فِيهِ حَتَّى مَاتَ صَلَاح الدّين.
وفيهَا: بنى صَلَاح الدّين الْمدرسَة على قبر الإِمَام الشَّافِعِي بالقرافة بِمصْر والمارستان بِالْقَاهِرَةِ.
وفيهَا: توفّي كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن الْقَاسِم الشهرزوري قَاضِي الشَّام
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا وصل صَلَاح الدّين إِلَى عسقلان فِي

(2/85)


جُمَادَى الأولى، وَشن الغارات على الفرنج فطلعت الفرنج وَهُوَ فِي بعض الْعَسْكَر فَقَاتلهُمْ أَشد قتال فَقتل أَحْمد بن تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بعد أثر جيد فِي الفرنج، وقاربت حملات الفرنج السُّلْطَان فَانْهَزَمَ إِلَى مصر على الْبَريَّة وَمَعَهُ من سلم فَلَقوا مشقة وعطشاً، وَهلك دَوَاب كَثِيرَة، وَأسر الفرنج الْعَسْكَر المتفرق فِي الإغارة، وَأسر الْفَقِيه عِيسَى من أكبر أَصْحَاب صَلَاح الدّين، فافتداه بعد سِنِين بستين ألف دِينَار، وَكتب بِخَط يَده إِلَى أَخِيه توران شاه بِدِمَشْق يذكر لَهُ ذَلِك، وَفِي أَوله:
(ذكرتك والخطى يخْطر بَيْننَا ... وَقد نهلت منا المثقفة السمر)

وَيَقُول فِيهِ:
(لقد أَشْرَفنَا الْهَلَاك غير مر ... وَمَا ثبتَتْ إِلَّا وَفِي نَفسهَا أَمر)

وفيهَا: حصر الفرنج حماه طَمَعا بهزيمة صَلَاح الدّين وَبعده وَبهَا شهَاب الدّين الحارمي خَال صَلَاح الدّين مَرِيضا، وهجموا بعض أطرافها، وكادوا يملكونها، فجد الْمُسلمُونَ فِي الْقِتَال ثمَّ رحلوا عَنْهَا إِلَى حارم فَمَاتَ صَاحب حماه وَمَات ابْن لَهُ جميل قبله بِثَلَاثَة أَيَّام.
وفيهَا: قبض الْملك الصَّالح على كمشتكين متغلباً على الْأَمر، وَكَانَت لَهُ حارم، فعذب كمشتكين وَأَصْحَابه فِيهَا يرونه ليسلموا قلعة حارم فأصروا على الِامْتِنَاع حَتَّى مَاتَ من الْعَذَاب وَوصل الفرنج من حِصَار حماه، وحصروا حارم أَرْبَعَة أشهر، فداراهم الصَّالح بِمَال فرحلوا عَنْهَا بعد بُلُوغ أَهلهَا الْجهد، ثمَّ أرسل الْملك الصَّالح عسكراً حصروها وتسلموها، فاستناب بقلعتها سرخك مَمْلُوك أَبِيه.
وفيهَا: فِي الْمحرم خطب للسُّلْطَان طغرل بك بن أرسلان بن طغرل بك بن مُحَمَّد بن ملك شاه، الْمُقِيم بِبِلَاد إيلدكز، وَكَانَ أَبوهُ أرسلان الْمُقدم ذكره قد توفّي.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة عبر عضد الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن هبة الله وَزِير الْخَلِيفَة دجلة عَازِمًا على الْحَج فَقتله الإسماعيلية وَحمل مجروحاً إِلَى منزله فَمَاتَ ومولده سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: توفّي صَدَقَة بن الْحُسَيْن الْحداد الَّذِي ذيل تَارِيخ ابْن الزَّعْفَرَانِي بِبَغْدَاد.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا أرسل صَلَاح الدّين إِلَى شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْملك بن الْمُقدم ليسلم بعلبك إِلَى توران شاه حَسْبَمَا سَأَلَهُ، فعصى بهَا، فَأرْسل صَلَاح الدّين، وحصره طَويلا، ثمَّ عوض عَنْهَا وَسلمهَا إِلَى توران شاه.
وفيهَا: كَانَ غلاء، وَتَبعهُ وباء، وفيهَا: سير صَلَاح الدّين ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين عمر إِلَى حماه، وَابْن عَمه مُحَمَّد بن شيركوه إِلَى حمص فاستقرا بهما. وفيهَا: توفّي سعد بن مُحَمَّد بن سعد الحيص بيص الشَّاعِر.

(2/86)


وَللَّه قَوْله:
(لَا تلمني فِي شقائي بالعلا ... وغد الْعَيْش لربات الحجال)

(سيف عز زانه رونقه ... فَهُوَ بالطبع غَنِي عَن صقال)

قلت: تفقه بِالريِّ وَتكلم فِي المخلاف، وَغلب عَلَيْهِ الْأَدَب وَأخذ النَّاس عَنهُ أدباً وفضلاً كثيرا، وَكَانَ يلبس زِيّ الْعَرَب ويتقلده شيفاً، وَفِيه تيه فَعمل فِيهِ أَبُو الْقَاسِم بن أبي
الْفضل:
(كم تبارى وَكم تطول ... طرطوراً وَمَا فِيك شَعْرَة من تَمِيم)

(فَكل الضَّب واقرط الحنظل ... الْيَابِس واشرب مَا شِئْت بَوْل الظليم)

(لَيْسَ ذَا وَجه من بضيف وَلَا يقرى ... وَلَا يدْفع الْأَذَى عَن حَرِيم)

فإجابه:
(لَا تضع من عَظِيم قدر وَإِن ... كنت مشار إِلَيْهِ بالتعظيم)

(ولع الْخمر بالعقول رمى ... الْخمر بتنجيسها وبالتحريم)

(فالشريف الْكَرِيم ينحط قدرا ... بالتجري على الشريف الْكَرِيم)

وَعمل فِيهِ خطيب الحويزة الْبُحَيْرِي:
(لسنا وحقك حيص بيص ... من الأعارب فِي الصميم)

(وَلَقَد كذبت على بحير ... كَمَا كذبت على تَمِيم)

وَكتب الحيص بيص إِلَى الْوَزير ابْن هُبَيْرَة وَقد طلب مِنْهُ أَن يحضر مائدته فِي شهر رَمَضَان:
(صن مَنْكِبي عَن زحام إِن نصبت لَهُ ... تمكن الطعْن من عَقْلِي وَمن خلقي)

(وَإِن رضيت بِهِ فالذل منقصة ... وَكم تكلفته عمدا وَلم أطق)

(وهبه بعض عطاياك الَّتِي سلفت ... فالجود بالعز فَوق الْجُود بالورق)

(وَإِن توهم قوم أَنه حمق ... فطالما شبه التوقير بالحمق)
وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَت شهدة بنت أَحْمد بن عمر الأبري سَمِعت من السراج وطراد وقاربت مائَة سنة وَسمع عَلَيْهَا خلق لعلو إسنادها.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فتح صَلَاح الدّين حصناً كَانَ بناه الفرنج عِنْد بانياس وَبَيت يَعْقُوب.
وَفِيه يَقُول بهاء الدّين عَليّ بن الساعاتي الدِّمَشْقِي:
(أتسكن أوطان النَّبِيين عصبَة ... تمين لَدَى إيمَانهَا وَهِي تحلف)

(نصحتكم والنصح للدّين وَاجِب ... ذَروا بَيت يَعْقُوب فقد جَاءَ يُوسُف)

(2/87)


وفيهَا: كَانَ حصن رعبان بيد شمس الدّين بن الْمُقدم فطمع فِيهِ قلج أرسلان بن مَسْعُود بن قلج أرسلان صَاحب الرّوم فَأرْسل نَحْو عشْرين الْفَا ليحصروه فَسَار إِلَيْهِم تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه فِي ألف فَارس فَهَزَمَهُمْ.
وفيهَا: ثَانِي ذِي الْقعدَة توفّي المستضىء بِأَمْر الله الْحسن بن المستنجد وَأمه أم ولد أرمنية، وخلافته نَحْو تسع سِنِين وَسَبْعَة أشهر، ومولده سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة، وَكَانَ حسن السِّيرَة، حكم فِي دولته الظهير أَبُو بكر بن الْعَطَّار بعد قتل الْوَزير عضد الدّين، فَأخذ ابْن الْعَطَّار بعده الْبيعَة لِابْنِهِ النَّاصِر لدين الله وَهُوَ الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ مِنْهُم فَحكم أستاذ الدَّار مجد الدّين أَبُو الْفضل فَقبض فِي سَابِع ذِي الْقعدَة على ظهير الدّين بن الْعَطَّار وَنقل إِلَى التَّاج وَأخرج مَيتا على رَأس حمال لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشر ذِي الْقعدَة، فألقته الْعَامَّة عَن رَأس الْحمال، وسحب بِحَبل فِي ذكره، وَوَضَعُوا فِي يَده مغرفة، مغموسة فِي الْعذرَة وَيَقُولُونَ: وَقع لنا يَا مَوْلَانَا هَذَا. مَعَ حسن سيرته وعفته عَن أَمْوَالهم، ثمَّ خلص وَدفن.
قلت:
(إِذا نلْت العلى رَاع الرعايا ... فَإِن الْقَوْم أَعدَاء الْمَعَالِي)

(يرَوْنَ علا الْفَتى ذَنبا عَظِيما ... وَإِن أمنوه فِي نفس وَمَال)
وَالله أعلم.
وفيهَا: عوض صَلَاح الدّين أَخَاهُ توران شاه بالإسكندرية عَن بعلبك حسب سُؤَاله. وأقطع بعلبك لفرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب، وَأقَام توران شاه بالإسكندرية وَبهَا مَاتَ.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي ثَالِث صفر توفّي سيف الدّين غَازِي بن مودود بن زنكي صَاحب الْموصل والجزيرة بالسل وعمره نَحْو ثَلَاثِينَ وولايته عشر سِنِين وَكسر، وَكَانَ مليح الثِّيَاب أَبيض عَاقِلا عادلاً عفيفاً غيوراً وَأوصى بِالْملكِ إِلَى أَخِيه مَسْعُود، وَأعْطى ابْنه سنجر شاه بن غَازِي الجزيرة وقلاعها وَكَانَ مُدبر الدولة مُجَاهِد الدّين قيماز.
وفيهَا: وصل صَلَاح الدّين رعبان فَصَالحه قلج أرسلان صَاحب الرّوم، فَرجع عَنهُ وَشن الغارات على بِلَاد ابْن لبون الأرمني، فَصَالحه على مَال وَأسرى.
وفيهَا: توفّي توران شاه بالإسكندرية، وَكَانَ لَهُ مَعَ الْإسْكَنْدَريَّة أَكثر الْيمن، مَاتَ وَعَلِيهِ مِائَتَا ألف دِينَار غير مَا كَانَ يحمل إِلَيْهِ من الْيمن، وَدخل الْإسْكَنْدَريَّة لسخائه، فَقضى صَلَاح الدّين دينه لما عَاد إِلَى مصر فِي شعْبَان مِنْهَا، واستخلف صَلَاح الدّين بِالشَّام ابْن أَخِيه فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب صَاحب بعلبك.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا عزم الْبُرْنُس صَاحب الكرك على

(2/88)


الْمسير إِلَى الْمَدِينَة حرسها الله تَعَالَى فَأَغَارَ مرخشاه على بِلَاده وَأقَام مُقَابِله فَفرق الْبُرْنُس جموعه وثنى عزمه.
قلت:
(قصد الْبُرْنُس مكيدة عظمت ... فانحاز عَنْهَا خاسراً خاسى)

(أيخاف خير الْخلق من أحد ... وَالله يعصمه من النَّاس)

وَالله أعلم.
وفيهَا: استولى عَسْكَر صَلَاح الدّين على الْيمن لاخْتِلَاف نائبي توران شاه فِيهِ بعد مَوته، وهما عز الدّين عُثْمَان بن الزنجبيلي بعدن، وحطان بن كَامِل بن منقذ بزبيد.
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بن نور الدّين مَحْمُود بن زنكي صَاحب حلب، وعمره نَحْو تسع عشرَة سنة بالقولنج وصف لَهُ الْخمر فَمَاتَ وَلم يَسْتَعْمِلهُ وَلم يعرف لَهُ شَيْء مِمَّا يتعاطاه الشبَّان.
وَكَانَ حَلِيمًا عفيف الْفرج وَالْيَد وَاللِّسَان، ملازماً لأمور الدّين وَأوصى بِملك حلب إِلَى ابْن عَمه عز الدّين مَسْعُود بن مودود بن زنكي صَاحب الْموصل فَسَار إِلَيْهَا بعد موت الصَّالح وَمَعَهُ قيماز، وَاسْتقر فِي ملكهَا، فكاتبه أَخُوهُ زنكي صَاحب سنجار أَن يُعْطِيهِ حلب وَيَأْخُذ سنجار، وَأَشَارَ قيماز بذلك، فَأجَاب وَعَاد مَسْعُود إِلَى الْموصل.
وفيهَا: فِي شعْبَان توفّي أَبُو البركات عِنْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أبي سعد النَّحْوِيّ بن الْأَنْبَارِي.
لَهُ فِي النَّحْو تصانيف حَسَنَة، كَانَ فَقِيها.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي خَامِس الْمحرم قصد صَلَاح الدّين الشَّام، وَخرج الْأَعْيَان لوداعه، وَقَالَ: كل فِي فِرَاقه شَيْئا، فَأَنْشد معلم لبَعض أَوْلَاده:
(تمتّع من شميم عرار نجد ... فَمَا بعد العشية من عرار)

فتطير السُّلْطَان وتنكد الْحَاضِرُونَ فَلم يعد صَلَاح الدّين إِلَى مصر مَعَ طول الْمدَّة، وأغار صَلَاح الدّين فِي طَرِيقه على الفرنج وغنم وَوصل دمشق فِي حادي عشر صفر وَاجْتمعَ الفرنج قرب الكرك ليكونوا على طَرِيقه لما سَار فانتهز فرخشاه الفرصة وَفتح بعسكر الشَّام الشقيف وأغار على مَا يجاوره.
وفيهَا: سير السُّلْطَان أَخَاهُ سيف الْإِسْلَام طغتكين إِلَى الْيمن وَبهَا حطَّان بن منقذ الْكِنَانِي وَعز الدّين عُثْمَان الزنجبيلي عادا إِلَى ولايتهما لوفاة نَائِب صَلَاح الدّين الَّذِي عزلهما، فتحصن حطَّان فِي قلعة فأنزله طغتكين بتلطف، وَأحسن صحبته، ثمَّ قبض عَلَيْهِ وَأخذ مَاله، وَمن جملَته سَبْعُونَ غلافاً زردية مَمْلُوءَة ذَهَبا عينا، ثمَّ سجنه فِي قلعة، فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ.

(2/89)


وَأما الزنجبيلي فهرب نَحْو الشَّام وَأرْسل أَمْوَاله فِي الْبَحْر فصادفتهم مراكب فِيهَا أَصْحَاب ظغتكين فَأَخَذُوهَا وصفت الْيمن لسيف الْإِسْلَام طغتكين، وفيهَا نزل صَلَاح الدّين قرب طبرية، وَشن الغارات على مثل بيسان وجينين والغور من بِلَاد الفرنج فغنم وَقتل، ثمَّ عَاد إِلَى دمشق، ثمَّ حصر بيروت وأغار ثمَّ عَاد ثمَّ عبر الْفُرَات من البيرة فَصَارَ مَعَه مظفر الدّين كوك بوري بن عَليّ بن بكتكين صَاحب حران.
واستمال صَلَاح الدّين مُلُوك الْأَطْرَاف فَصَارَ مَعَه نور الدّين مُحَمَّد بن قَرَأَ أرسلان صَاحب حصن كيفا، وحاصر الرها وملكها وَسلمهَا إِلَى كوك بوري ثمَّ أَخذ الرقة من نيال بن حسان المنبجي، فَسَار نيال إِلَى مَسْعُود صَاحب الْموصل ثمَّ ملك صَلَاح الدّين قرقيسيا وماكسين وعرابان والخابور جَمِيعًا، ثمَّ ملك نَصِيبين ثمَّ قلعتها وأقطعها لأبي الهيجاء السمين، ثمَّ حصر الْموصل وَبهَا صَاحبهَا عز الدّين مَسْعُود وَمُجاهد الدّين قيماز، وَقد شحنت رجَالًا وسلاحاً وَأقَام منجنيقاً فأقاموا من دَاخل تِسْعَة مجانيق وضايقها، وَنزل السُّلْطَان قبالة بَاب كِنْدَة وَصَاحب حصن كيفا على بَاب الجسر وبوري عَليّ بَاب الْعِمَادِيّ فِي رَجَب مِنْهَا، وَجرى الْقِتَال فَرَأى فِي الْأَمر طولا، فَرَحل وحاصر سنجار وملكها، واستناب بهَا سعد الدّين بن معِين الدّين أنز من أحسن الْأُمَرَاء صُورَة وَمعنى، ثمَّ قصد حران وعزل فِي طَرِيقه أَبَا الهيجاء السمين عَن نَصِيبين.
وفيهَا: سير الْبُرْنُس صَاحب الكرك أسطولاً فِي بَحر أَيْلَة فرْقَتَيْن فرقة حصرت حصن أيله، وَفرْقَة نَحْو عيذاب يفسدون فِي السواحل بَغْتَة، وَلم يعْهَد بِهَذَا الْبَحْر فرنج قطّ، فعمر الْعَادِل أَبُو بكر نَائِب النَّاصِر بِمصْر أسطولاً فِي بَحر عيذاب، وأرسله مَعَ حسام الدّين لُؤْلُؤ الْحَاجِب مُتَوَلِّي الأسطول بِمصْر فأوقع لُؤْلُؤ بمحاصري أَيْلَة فَقتل وَأسر، ثمَّ طلب الْفرْقَة الثَّانِيَة وَقد عزموا على دُخُول الْمَدِينَة وَمَكَّة حرسهما الله تَعَالَى فَبلغ رابغ فأدركهم بساحل الْحَوْرَاء وَقَاتلهمْ أَشد قتال فَقتل أَكْثَرهم وَأسر البَاقِينَ وَأرْسل بَعضهم إِلَى منى لينحروا بهَا وَعَاد بالباقين فَقتلُوا عَن آخِرهم بِمصْر.
قلت:
(لقد طمع الْبُرْنُس بمستحيل ... فجر لِقَوْمِهِ سفك الدِّمَاء)

(وَلَو ترك النَّبِي بِلَا دفاع ... لدافع عَنهُ أَمْلَاك السَّمَاء)

وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي عز الدّين فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب صَاحب بعلبك وَكَانَ شجاعاً شَاعِرًا وَبلغ صَلَاح الدّين وَهُوَ بالجزيرة مَوته، فَأرْسل شمس الدّين مُحَمَّد بن الْمُقدم ليَكُون بِدِمَشْق وَأقر بعلبك على بهْرَام شاه بن فرخشاه.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْعَبَّاس الشَّيْخ أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد بن الرِّفَاعِي من سَواد وَاسِط، وَكَانَ صَالحا ذَا قبُول عَظِيم عِنْد النَّاس، وَله من التلامذة مَا لَا يُحْصى.

(2/90)


قلت: وَمن كَلَامه لَو تكلم الرجل فِي الذَّات وَالصِّفَات، كَانَ سُكُوته أفضل وَلَو خطى من قَاف إِلَى قَاف كَانَ جُلُوسه أفضل، وَلَو أكل مَلأ الْبَيْت طَعَاما ثمَّ تنفس عَلَيْهِ فأحرقه، كَانَ جوعه أفضل.
قَالَ ابْن خلكان: كَانَ الشَّيْخ أَحْمد فَقِيها شافعياً، أَصله من الْمغرب، ولأتباعه أَحْوَال عَجِيبَة من أكل الْحَيَّات وَهِي حَيَّة وَالنُّزُول إِلَى التنانير وَهِي تتضرم بالنَّار فيطفؤنها.
وَيُقَال: إِنَّهُم فِي بِلَادهمْ يركبون الْأسود وَلم يعقب وَإِنَّمَا الْعقب لِأَخِيهِ وكراماته مَشْهُورَة وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي بقرطبة خلف بن عبد الْملك بن مَسْعُود بن بشكوال الخزرجي الْأنْصَارِيّ من عُلَمَاء الأندلس، لَهُ تصانيف مفيدة، ومولده سنة أَربع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة.
وفيهَا: توفّي بِدِمَشْق قطب الدّين مَسْعُود بن مُحَمَّد بن مَسْعُود النَّيْسَابُورِي الْفَقِيه الشَّافِعِي، إِمَام فِي الْعُلُوم الدِّينِيَّة صنف عقيدة لصلاح الدّين فاقرأها أَوْلَاده الصغار.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا ملك صَلَاح الدّين آمد وَسلمهَا إِلَى نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان بن دَاوُد بن سقمان بن أرتق صَاحب حصن كيفا، ثمَّ ملك تل خَالِد من عمل حلب، ثمَّ عينتاب سلمهَا إِلَيْهِ صَاحبهَا نَاصِر الدّين مُحَمَّد أَخُو الشَّيْخ إِسْمَاعِيل النوري فأقره عَلَيْهَا وَبَقِي مَعَه وَمن أمرائه وتسلم بعد المحاصرة حلب من زنكي فِي صفر، وعوضه عَنْهَا بسنجار ونصيبين، والخابور والرقة وسروج.
وَكَانَ زنكي قد ضجر من اقتراحات أُمَرَاء حلب عَلَيْهِ فناداه السفلة بحلب: يَا حمَار بِعْت حلب بسنجار.
وَمن عَجِيب الِاتِّفَاق: أَن مُحي الدّين بن الزكي قَاضِي دمشق مدح السُّلْطَان بقصيدة مِنْهَا:
(وفتحكم حَلبًا بِالسَّيْفِ فِي صفر ... مُبشر بفتوح الْقُدس فِي رَجَب)

فَفتح الْقُدس فِي رَجَب سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة.
وَمِمَّنْ قتل على حِصَار حلب تَاج الدّين بوري أَخُو السُّلْطَان الْأَصْغَر وَعمل عماد الدّين زنكي للسُّلْطَان دَعْوَة حافلة فَبينا هُوَ فِيهَا إِذْ أسره شخص بِمَوْت أَخِيه بوري فَأمر بتجهيزه سرا وَلم يظْهر ذَلِك لِئَلَّا ينكد عَلَيْهِم وَكَانَ يَقُول مَا وَقعت حلب علينا رخيصة بِمَوْت بوري، ووثب أهل قلعة حارم على سرخك نَائِب الصَّالح بهَا، وقبضوا عَلَيْهِ وسلموها للسُّلْطَان بعد امْتِنَاعه عَن التَّسْلِيم ومكاتبة الفرنج، وَقرر صَلَاح الدّين بِلَاد حلب وأقطع عزازاً لِسُلَيْمَان بن حيدر.
وفيهَا: قبض مَسْعُود صَاحب الْموصل على قيماز نَائِبه.
وفيهَا قرر السُّلْطَان ابْنه الْملك الظَّاهِر غَازِي بحلب، ثمَّ سَار وتجهز من دمشق

(2/91)


فَأحرق بيسان، وَشن الإغارات على تِلْكَ النواحي، وَأرْسل إِلَى نَائِبه أَخِيه الْعَادِل بِمصْر أَن يلاقيه إِلَى الكرك، فاجتمعا عَلَيْهَا وحصراها، ثمَّ رحلا عَنْهَا، وَأرْسل ابْن أَخِيه المظفر عمر نَائِبا إِلَى مصر مَوضِع الْعَادِل، وَوصل دمشق وَأعْطى الْعَادِل حلب وقلعتها وأعمالها فِي رَمَضَان مِنْهَا، وأحضر الظَّاهِر مِنْهَا.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي مُحَمَّد بن بختيار بن عبد الله الشَّاعِر الْمَعْرُوف بالأبله.
وفيهَا: توفّي شاهر بن سكمان بن ظهير الدّين إِبْرَاهِيم بن سكمان القطبي صَاحب خلاط وعمره أَربع وَسِتُّونَ سنة وملكها بعده بكتمر مَمْلُوك أَبِيه صَاحب ميافارقين اخْتَارَهُ أَكثر أهل خلاط وكاتبوه فَحَضَرَ وَملك.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة فِيهَا: سَار أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن عبد الْمُؤمن فِي جمع عَظِيم وَحصر شنترين وَمرض فَمَاتَ فِي ربيع الأول وَحمل إِلَى أشبيلية وَمُدَّة ملكه اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سنة وشهور، استقام ملكه لتدبيره الْجيد، وبويع بعده ابْنه يَعْقُوب، وكنيته أَبُو يُوسُف يَوْم وَفَاة أَبِيه لقربهم من الْعَدو، فَأَقَامَ راية الْجِهَاد.
وفيهَا: غزا صَلَاح الدّين الكرك، وأحضر عَسَاكِر مصر مَعَه، وَملك ربضها، فَاجْتمع الفرنج وقصدوه، فَخرج عَنْهَا بالعسكر ليتلقاهم فَوَجَدَهُمْ فِي وعر، فَسَار وأحرق نابلس، وَنهب تِلْكَ النواحي، وَأسر وَقتل وسبى فَأكْثر ثمَّ اسْتَنْفَذَ مَا فِي سبصطية الَّتِي بهَا مشْهد زَكَرِيَّا من أسرى الْمُسلمين ثمَّ سَار إِلَى جينين ثمَّ إِلَى دمشق.
وفيهَا: مَاتَ قطب الدّين إيلغازي بن نجم الدّين البي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صَاحب ماردين، وَقَامَ بعده ابْنه حسام الدّين بولق أرسلان وَكَانَ هُوَ وأخوته صغَارًا وَدبره مَمْلُوك أَبِيه نظام الدّين البقش حَتَّى كبر وَكَانَ بِهِ هوج فَمَاتَ بولق وَأقَام البقش بعده أَخَاهُ الْأَصْغَر نَاصِر الدّين أرتق أرسلان بن إيلغازي صُورَة، وَكَانَ لُؤْلُؤ مَمْلُوك البقش قد تغلب عَلَيْهِ إِلَى سنة إِحْدَى وسِتمِائَة فَمَرض البقش وَأَتَاهُ نَاصِر الدّين يعودهُ، فَلَمَّا خرج خرج مَعَه لُؤْلُؤ فَقتله نَاصِر الدّين بسكين، ثمَّ عَاد إِلَى البقش فَقتله وَهُوَ مَرِيض وَاسْتقر بماردين بِلَا مُنَازع.
وفيهَا: توفّي شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين عبد الرَّحِيم بن إِسْمَاعِيل بن أبي سعيد أَحْمد سَار برسالة الْخَلِيفَة وَمَعَهُ شهَاب الدّين بشير ليصلحا بَين صَلَاح الدّين وَبَين عز الدّين مَسْعُود صَاحب الْموصل، فَلم يَنْتَظِم حَالهمَا ومرضا بِدِمَشْق، ثمَّ سارا إِلَى الْعرَاق فِي الْحر، فَمَاتَ بشير فِي السبخة، وَمَات شيخ الشُّيُوخ فِي الرحبة، وَدفن بمشهد البوق، وَكَانَ أوحد عصره، جمع بَين رياسة الدّين وَالدُّنْيَا.
وفيهَا: فِي الْمحرم أطلق مَسْعُود صَاحب الْموصل مُجَاهِد الدّين قيماز من الْحَبْس وَأحسن إِلَيْهِ.

(2/92)


ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا حصر السُّلْطَان الْموصل ثَانِيًا فَأرْسل إِلَيْهِ عز الدّين مَسْعُود والدته وَابْنَة عَمه نور الدّين وَجَمَاعَة من النِّسَاء يطْلبُونَ مِنْهُ ترك الْموصل وَمَا بِأَيْدِيهِم فردهم واستقبح مِنْهُ ذَلِك، وحاصرها، وبلغه وَفَاة شاه أرمن صَاحب خلاط فِي ربيع الآخر مِنْهَا، فَسَار إِلَيْهَا باستدعاء أَهلهَا ليملكها.
وفيهَا: توفّي نور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان بن دَاوُد صَاحب الْحصن وآمد، وَملك بعده إبنه قطب الدّين سقمان صَغِيرا وَدبره القوام بن سماقا الأسعدي، وَحضر سقمان إِلَى صَلَاح الدّين وَهُوَ عَليّ ميافارقين فأقره وَأقَام مَعَه أَمِيرا من أَصْحَاب أبي سقمان وحاصر ميافارقين وَكَانَت لصَاحب ماردين المتوفي، وَبهَا من يحفظها من جِهَة شَاة أرمن صَاحب خلاط المتوفي، وملكها صَلَاح الدّين فِي جُمَادَى الأولى ثمَّ رَجَعَ عَن قصد خلاط إِلَى الْموصل فَجَاءَتْهُ رسل مَسْعُود فِي الصُّلْح، وَاتفقَ مرض السُّلْطَان فَسَار من كفر زمار عَائِدًا إِلَى حران، فلحقته رسل الْموصل بالإجابة إِلَى مَا طلب وَهُوَ أَن تسلم إِلَيْهِ شهرزور وأعمالها وَولَايَة الْقرى بل وَمَا وَرَاء الزاب، ويخطب لَهُ وتضرب لَهُ السِّكَّة باسمه، وتسلم السُّلْطَان ذَلِك وَتمّ الصُّلْح وَوصل إِلَى حران مَرِيضا حَتَّى أيس مِنْهُ ثمَّ عوفي وَعَاد إِلَى دمشق فِي الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: لَيْلَة عيد الْأَضْحَى شرب بحمص صَاحبهَا نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه فَأصْبح مَيتا، قيل دس السُّلْطَان عَلَيْهِ سما لمكاتبته أهل دمشق فِي مَرضه وَأقر السُّلْطَان مَوْضِعه إبنه شيركوه وعمره اثْنَتَا عشرَة سنة.
وفيهَا: توفّي الْحَافِظ مُحَمَّد بن عمر بن أَحْمد الْأَصْفَهَانِي الْمَدِينِيّ إِمَام فِي الْحِفْظ والمعرفة مؤلف فِي عُلُوم الحَدِيث لَهُ المغيث تَكْمِلَة غريبي الْهَرَوِيّ واستدرك عَلَيْهِ ومولده سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة.
قلت: وفيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي الشَّيْخ حَيَاة بن قيس الْحَرَّانِي وَهُوَ أحد الْأَرْبَعَة الَّذين يتصرفون فِي قُبُورهم كتصرف الْأَحْيَاء وَقد تقدم ذكرهم جَاءَهُ الشَّيْخ رغيب الرَّحبِي زَائِرًا فوافاه بعد الصُّبْح جَالِسا وَبَين يَدَيْهِ معزى لَهُ فَسلم عَلَيْهِ وَجلسَ على دكة بإزائه وَبَينهمَا أَكثر من عشرَة أَذْرع فَلم يكلمهُ فَقَالَ فِي نَفسه جِئْت إِلَيْهِ من الرحبة، واشتغل عني بمعزى فَقَالَ: يَا رغيب قد أمرت أَن أعطب فِيك شَيْئا بِسَبَب إعتراضك فاختر إِمَّا من ظاهرك وَإِمَّا من باطنك فَقَالَ لَا يَا سَيِّدي بل من ظاهري فَمد الشَّيْخ حَيَاة إصبعه يَسِيرا فسالت عين الشَّيْخ رغيب على خُذْهُ فَقَامَ وَقبل الأَرْض وَعَاد إِلَى الرحبة ثمَّ رَأَوْهُ بعد سِنِين بِمَكَّة صَحِيح الْعَينَيْنِ فَسَأَلَ فَقَالَ: كنت فِي فِي سَماع ببلدنا وَفِيه رجل من مريدي الشَّيْخ حَيَاة فَوضع يَده على عَيْني فَردَّتْ صَحِيحَة كَمَا ترى وَلما أَشَارَ الشَّيْخ بإصبعه إِلَى عَيْني وسالت على خدي انفتحت فِي قلبِي عين شاهدت بهَا أسراراً، وَقد زَادَت عجائب من آيَات الله تَعَالَى وَبنى بِنَجْرَان مَسْجِدا وَحضر الشَّيْخ رغيب قبلته فنازعه المهندس فِي الْقبْلَة، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ: انْظُر ترى

(2/93)


الْكَعْبَة بإزائك فَنظر فَإِذا الْكَعْبَة لَيْسَ بَينه وَبَينهَا شَيْء يَحْجُبهُ فَخر مغشياً عَلَيْهِ.
وَمن كَلَامه: قيمَة القشور بلبابها وَقِيمَة الْقُصُور ببنائها وَقِيمَة الرِّجَال بألبابها، وَعز العبيد بأربابها وفخر الْأَحِبَّة بأحبابها.
وَمن إنشاده:
(وَإِذا الرِّيَاح مَعَ الْعشي تناوحت ... نبهن حاسدة وهجن غيوراً)

(وأمتن ذَا بِوُجُود وجد دَائِم ... وأقمن ذَا وكشفن عَنهُ ستوراً)

وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا أحضر السُّلْطَان ابْنه الْأَفْضَل من مصر وأقطعه دمشق، ثمَّ استدعى تَقِيّ الدّين من مصر وزاده على حماه منبج والمعرة وَكفر طَابَ وميارفارقين، وَجعل الْعَادِل والعزيز عُثْمَان ابْنه بِمصْر، وأقطع الْعَادِل عوض حلب حران والرها.
وفيهَا: فِي أَولهَا توفّي البهلوان مُحَمَّد بن إيلدكز صَاحب الْجَبَل وهمدان والري وأصبهان وأذربيجان وَغَيرهَا، وَكَانَ حسن السِّيرَة، وَملك بعده أَخُوهُ عُثْمَان قزل أرسلان، وَكَانَ السُّلْطَان طغرل بك السلجوقي مَعَ البهلوان، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْخطْبَة، فَتمكن بِمَوْتِهِ، وَاسْتولى على بعض الْبِلَاد، وَجَرت بَينه وَبَين قزل حروب.
وفيهَا: غدر الْبُرْنُس صَاحب الكرك وَأسر قافلة من الْمُسلمين فطلبهم السُّلْطَان بِحكم الْهُدْنَة فَأبى فَنَذر السُّلْطَان قَتله بِيَدِهِ.
وفيهَا: توفّي أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي الْوَحْش بري بن عبد الْجَبَّار بن بري الْمصْرِيّ بِمصْر، إِمَام فِي اللُّغَة والنحو، قَرَأَ عَلَيْهِ الْجُزُولِيّ وَغَيره، ومولده بِمصْر سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا ضايق السُّلْطَان الكرك خوفًا على الْحجَّاج من الْبُرْنُس وأغار بعض عسكره على بلد عكا وغنموا، ثمَّ حصر مَدِينَة طبرية وَفتحهَا بِالسَّيْفِ وَكَانَت للقومس صَاحب طرابلس، وَكَانَ مهادن السُّلْطَان فَاجْتمع إِلَى الفرنج للحرب.
وقْعَة حطين

وَلما فتحت طبرية اجْتمعت مُلُوك الفرنج فَارِسًا وراجلاً وَسَارُوا إِلَى السُّلْطَان فَركب إِلَيْهِم من عِنْد طبرية لخمس بَقينَ من ربيع الآخر، والتقى الْجَمْعَانِ، وَرَأى القرمس شدَّة الْأَمر فَحمل على من قدامه، وَهُنَاكَ تَقِيّ الدّين صَاحب حماه فَفرج لَهُ وَعطف عَلَيْهِم، فنجى القومس إِلَى طرابلس وَمَات بعد قَلِيل غيظاً وَنصر الله الْمُسلمين، وَأَحْدَقُوا بالفرنج وأبادوهم قتلا وأسراً، وَأسر ملكهم الْكَبِير، والبرنس أرباط صَاحب الكرك وَصَاحب جبيل

(2/94)


وَابْن الهنفري ومقدم الداوية وَجَمَاعَة من الاسبتارية، وَمَا أصيبوا مُنْذُ خَرجُوا إِلَى الشَّام سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة بِمِثْلِهَا، وَلما انْقَضى المصاف جلس السُّلْطَان فِي خيمته وأجلس ملك الفرنج إِلَى جَانِبه وَقد اشْتَدَّ عطشه فَسَقَاهُ السُّلْطَان مَاء مثلوجاً، فسقى مِنْهُ الْبُرْنُس صَاحب الكرك، فَقَالَ السُّلْطَان: إِن هَذَا الملعون لم يشرب بإذني فَيكون أَمَانًا لَهُ ثمَّ ذكر السُّلْطَان الْبُرْنُس بِقَصْدِهِ الْحَرَمَيْنِ الشريفين، وَقَامَ السُّلْطَان بِنَفسِهِ فَضرب عُنُقه فارتعد ملك الفرنج فسكنه السُّلْطَان.
ثمَّ عَاد وَفتح قلعة طبرية بالأمان وعكا بالأمان، وَفتح عسكره الناصرة، وقيسارية وهيفا وصفورية وفعليثا والغولة وَغَيرهَا بِالسَّيْفِ، ونابلس وقلعتها بالأمان، وَفتح الْعَادِل بعد ذَلِك يافا عنْوَة.
ثمَّ فتح السُّلْطَان تبنين بالأمان، وتسلم صيدا خَالِيَة، ثمَّ بيروت بعد حِصَار فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى بالأمان، وَكَانَ من جملَة الأسرى صَاحب جبيل، فبذل جبيلاً فَأطلق، وَكَانَ عدوا شَدِيدا على الْمُسلمين وَمَا حمدت عَاقِبَة إِطْلَاقه.
وفيهَا: حضر المركيس فِي سفينة إِلَى عكا وَهِي للْمُسلمين وَلم يعلم بذلك وَاتفقَ عدم هبوب الْهَوَاء فراسل الْملك الْأَفْضَل بعكا مرَارًا ينْتَظر هبوب الرّيح، إِلَى أَن هبت فأقلع إِلَى صور، وَاجْتمعَ عَلَيْهِ الفرنج الَّذين بهَا، وَملك صور، وَكَانَ وُصُول المركيس إِلَى صور وَإِطْلَاق الفرنج الَّذين أَخذ السُّلْطَان بِلَادهمْ بالأمان وَحَملهمْ إِلَى صور من أعظم أَسبَاب الضَّرَر وَقُوَّة الفرنج ورواح عكا، ثمَّ حاصر السُّلْطَان عسقلان أَرْبَعَة عشر يَوْمًا وتسلمها بالأمان سلخ جُمَادَى الْآخِرَة، ثمَّ فتح عسكره الرملة والداروم وغزة وَبَيت لحم وَبَيت جِبْرِيل والنطرون وَغَيرهَا، ثمَّ نَازل السُّلْطَان الْقُدس وَبِه من النَّصَارَى عدد لَا يُحْصى، وضايقه بالنقابين وَاشْتَدَّ الْقِتَال وعلق السُّور وَطلب الفرنج الْأمان، فَقَالَ: آخذها مثل مَا أخذت من الْمُسلمين بِالسَّيْفِ فعاودوه فَأجَاب بِشَرْط أَن يُؤَدِّي كل رجل عشرَة دَنَانِير، وكل امْرَأَة خَمْسَة، وكل طِفْل دينارين، وَمن عجز أسر، وتسلم الْمَدِينَة يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب.
قلت: قَالَ ابْن خلكان وَلَيْلَته لَيْلَة الْمِعْرَاج الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي الْقُرْآن وَشهد فَتحه كثير من أَرْبَاب الْخرق والزهد وَالْعُلَمَاء من مصر وَالشَّام بِحَيْثُ لم يتَخَلَّف مِنْهُم أحد، وَالله أعلم.
وَرفعت الْأَعْلَام الإسلامية على أسواره، ورتب على أبوابه من يقبض المَال الْمَشْرُوط، فخان المرتبون وَلم يحملوا مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيل.
وَكَانَ على رَأس قبَّة الصَّخْرَة صَلِيب كَبِير مَذْهَب فَقلع فَضَجَّ الْمُسلمُونَ فَرحا وسروراً، وضج الْكفَّار حزنا وثبوراً.

(2/95)


وَكَانَ الفرنج قد عمِلُوا فِي غربي الْمَسْجِد الْأَقْصَى هرياً ومستراحاً فأزيل ذَلِك وأعيد إِلَى التبجيل والتعظيم.
وَكَانَ السُّلْطَان نور الدّين مَحْمُود قد عمل منبراً بحلب وتعب عَلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا لأجل الْقُدس فأحضر السُّلْطَان الْمِنْبَر للجامع الْأَقْصَى، وَأقَام بعد فَتحه بِظَاهِرِهِ إِلَى الْخَامِس وَالْعِشْرين من شعْبَان ورتب أَحْوَاله وَتقدم بِعَمَل الرَّبْط والمدارس الشَّافِعِيَّة.
قلت: وَصليت فِيهِ الْجُمُعَة يَوْم فَتحه، وخطب يَوْمئِذٍ بِالنَّاسِ القَاضِي محيي الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن يحيى بن عَليّ بن عبد الْعَزِيز عَليّ بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن عبد الْعَزِيز بن أبان بن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنْهُم الْقرشِي الْمَعْرُوف بِابْن الزكي قَاضِي دمشق، خطب بِالْخطْبَةِ البديعة من تصنيفه الْمَعْرُوفَة بالقدسية.
وَكتب لَهُ القَاضِي الْفَاضِل إِلَى الإِمَام النَّاصِر لدين الله أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن المستضيء رِسَالَة تَتَضَمَّن الْفتُوح طَوِيلَة.
مِنْهَا: وَقد صَارَت أُمُور الْإِسْلَام إِلَى أحسن مصائرها، وأسست عقائد أَهله على أحسن بصائرها، وتقلص ظلّ الْكَافِر الْمَبْسُوط وَصدق الله أهل دينه، فَلَمَّا وَقع الشَّرْط وَقع الْمَشْرُوط وَكَانَ الدّين غَرِيبا فَهُوَ الْآن فِي وَطنه، والفوز معروضاً، فقد بذلت الْأَنْفس فِي ثمنه، واسترد الْمُسلمُونَ تراثاً كَانَ عَنْهُم آبقاً وظفروا يقظة بِمَا لم يصدقُوا أَنهم يظفرون بِهِ طبقًا على النأي طَارِقًا واستقرت على الْأَعْلَى أَقْدَامهم، وخفقت على الْأَقْصَى أعلامهم وتلاقت على الصَّخْرَة قبلهم وشفيت بهَا وَإِن كَانَت صَخْرَة كَمَا يشفى بِالْمَاءِ غليلهم.
وَلما قدم الدّين عَلَيْهَا عرف سويداء قلبه، وهنى كفؤها الْحجر الْأسود بَيت عصمتها من الْكَافِر بحزبه.
وَكَانَ الْخَادِم لَا يسْعَى سَعْيه إِلَّا لهَذِهِ العظمة، وَلَا يقاسي تِلْكَ الْبُؤْس إِلَّا رَجَاء هَذِه النِّعْمَة.
وأقيمت الْخطْبَة يَوْم الْجمع فَكَادَتْ السَّمَوَات يتفطرن للسُّجُود لَا للوجوم وَالْكَوَاكِب مِنْهَا تنثر للطرب لَا للرجوم، وَرفعت إِلَى الله كلمة التَّوْحِيد وَكَانَت طريقها مسدودة، وطهرت قُبُور الْأَنْبِيَاء، وَكَانَت بالنجاسات مكدودة، وأقيمت الْخمس، وَكَانَ التَّثْلِيث يقعدها، وجهرت الْأَلْسِنَة بِاللَّه أكبر، وَكَانَ سحر الْكفْر يعقدها وَالله أعلم.
ثمَّ أَن السُّلْطَان رَحمَه الله حاصر صور تَاسِع رَمَضَان وَطلب الأسطول فوصل إِلَيْهِ فِي عشر شوان، فكبسهم الفرنج فِي الشواني، وَأخذُوا خمس شوان وَلم يسلم من الْمُسلمين إِلَّا من سبح وَطَالَ حصارها، فَرَحل عَنْهَا فِي آخر شَوَّال أول كانون وَأقَام بعكا، وَأعْطى العساكر الدستور فقصدوا أوطانهم، وَبَقِي بحلقته فِي عكا وَأرْسل فَفتح هونين بالأمان.

(2/96)


وفيهَا: سَار شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْملك بن الْمُقدم أَمِيرا على الْحَج ليجمع بَين الْغُزَاة وزيارة الْقُدس والخليل وَالْحج فِي سنة فَوقف بِعَرَفَات، أَرَادَ طاشتكين أَمِير الْحَاج الْعِرَاقِيّ مَنعه من الْإِفَاضَة قبله، فاتفقوا مَعَ الشاميين فَقتل بَينهم جمَاعَة وَابْن الْمُقدم يمْنَع جماعته من الْقِتَال وَلَو مكنهم لَا نتصفوا فجرح وَمَات شَهِيدا وَدفن بمقبرة الْمُعَلَّى رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: ملك السُّلْطَان طغرل بك بن أرسلان شاه السلجوقي كثيرا من الْبِلَاد، وَأرْسل قزل بن إيلدكز إِلَى الْخَلِيفَة يستنجده ويخوفه عَاقِبَة أَمر طغرل بك.
وفيهَا: غزا شهَاب الدّين الغوري الْهِنْد.
وفيهَا: قتل الْخَلِيفَة النَّاصِر أستاذ دَاره مجد الدّين أَبَا الْفضل بن الصاحب وَلم يكن للخليفة مَعَه حكم، وَظهر لَهُ أَمْوَال عَظِيمَة أخذت كلهَا.
وفيهَا: استوزر الْخَلِيفَة النَّاصِر أَبَا المطهر عبيد الله بن يُونُس ولقبه جلال الدّين، وَمَشى أَرْبَاب الدولة فِي ركابه حَتَّى قَاضِي الْقُضَاة، وَكَانَ يمشي وَيَقُول: لعن الله طول الْعُمر.
وفيهَا: توفّي قَاضِي الْقُضَاة الدَّامغَانِي ولي الْقَضَاء للمقتفي.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا شَتَّى السُّلْطَان بعكا، ثمَّ سَار وَجعل قيماز النجمي يحاصر كَوْكَب، وَدخل دمشق ففرح النَّاس بِهِ وَسَار فِي نصف ربيع الأول وَنزل على بحيرة قدس، وَثمّ نزل تَحت حصن الأكراد ثمَّ أنطرسوس فَوَجَدَهَا خَالِيَة ثمَّ مرقية كَذَلِك، ثمَّ نزل تَحت المرقب فَوَجَدَهُ لَا يرام فوصل جبلة فِي ثامن جُمَادَى الأولى، وتسلمها جعل فِيهَا سَابق الدّين عُثْمَان بن الداية يحفظها، ثمَّ حصر قلعتي اللاذقية وملكها وَسلمهَا إِلَى ابْن أَخِيه المظفر تَقِيّ الدّين عمر فحصنها ثمَّ حاصر صهيون وتسلمها بالأمان وَسلمهَا إِلَى الْأَمِير منكورس صَاحب أبي قبيس من أَصْحَابه.
ثمَّ ملك عسكره بلاطنس خَالِيا من الفرنج وحصن الْعِيد وحصن الجماهرتين ثمَّ سَار السُّلْطَان عَن صهيون ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة وَحصر الشغر وبكاس خَالِيَة.
وتسلم الشغر بالأمان سادس جُمَادَى الْآخِرَة، وَحصر ابْنه الظَّاهِر غَازِي سرمينية وَأنزل أَهلهَا على قطيعة، وَهدم الْحصن فعفى أَثَره، واطلق من هَذِه الْحُصُون أسرى الْمُسلمين وَأَعْطَاهُمْ كسْوَة وَنَفَقَة.
ثمَّ ملك السُّلْطَان برزية زحفاً بِالسَّيْفِ فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى وسبى وَأسر وَقتل، وَحكى ابْن الْأَثِير هَذَا كُله عَن مُشَاهدَة، ثمَّ نزل السُّلْطَان جسر الْحَدِيد أَيَّامًا.
ثمَّ حاصر دير بساك وأمنهم بثيابهم فَقَط، وتسلمها تَاسِع عشر رَجَب ثمَّ تسلم بغراس بالأمان مثل دير بساك، وَأرْسل بيمند صَاحب أنطاكية يطْلب مِنْهُ الْهُدْنَة وَيُطلق كل أَسِير عِنْده

(2/97)


فَأَجَابَهُ وَصَالَحَهُ ثَمَانِيَة أشهر، ثمَّ دخل السُّلْطَان حلب ثَالِث شعْبَان، وَثمّ دخل دمشق وَأعْطى زنكي بن مودود دستوراً وَغَيره من المشارقة، وزار السُّلْطَان فِي طَرِيقه من حلب قبر عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ بدير سمْعَان من النقيرة، وزار الشَّيْخ الصَّالح أَبَا زَكَرِيَّا المغربي الْمُقِيم هُنَاكَ، وَله كرامات، وَكَانَ مَعَ السُّلْطَان أَبُو فليته قَاسم بن مهنى الْحُسَيْنِي صَاحب مَدِينَة الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَحضر مَعَه فتوحاته، وَكَانَ يرجع إِلَى قَوْله تبركاُ بِصُحْبَتِهِ، وَدخل السُّلْطَان دمشق فِي رَمَضَان الْمُعظم، فأشير عَلَيْهِ بتفريق العساكر ليريحوا ويستريحوا، فَقَالَ: إِن الْعُمر قصير، وَالْأَجَل غير مَأْمُون، وَكَانَ لما سَار إِلَى الشمَال قد ترك على الكرك وَغَيرهَا من يحصرها وَأَخُوهُ بِتِلْكَ الْجِهَات يُبَاشر ذَلِك فتسلم الكرك بالأمان والشوبك، وَمَا بِتِلْكَ الْجِهَات من الْبِلَاد، ثمَّ سَار من دمشق فحصر صفد، وتسلمها بالأمان ثمَّ كَوْكَب وَعَلَيْهَا قيماز النجمي فتسلمها بالأمان فِي منتصف ذِي الْقعدَة، سير أَهلهَا إِلَى صور وَمَا كَانَ مصلحَة ثمَّ عيد الْأَضْحَى بالقدس ثمَّ أَقَامَ بعكا إِلَى سلخ السّنة.
وفيهَا: أرسل قزل بن إيلدكز يستنجد الإِمَام النَّاصِر على طغرل بك السلجوقي ويحذره عاقبته، فَأرْسل الْخَلِيفَة عسكراً إِلَيْهِ والتقوا ثامن ربيع الأول مِنْهَا قرب هَمدَان فانكسر عَسْكَر الْخَلِيفَة وغنم طغرل بك مِنْهُم وَأسر مقدم الْعَسْكَر جلال الدّين عبيد الله وَزِير الْخَلِيفَة.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن عبد الله الْكَاتِب ابْن التعاويذي الشَّاعِر، وَله وَقد صودرت جمَاعَة من الْكتاب بِبَغْدَاد من قصيدة:
(يَا قَاصِدا بَغْدَاد جز عَن بَلْدَة ... للجور فِيهَا زخرة وعباب)

(إِن كنت طَالب حَاجَة فَارْجِع فقد ... سدت على الراجي بهَا الْأَبْوَاب)

(وَالنَّاس قد قَامَت قيامتهم فَلَا ... أَنْسَاب بَينهم وَلَا أَسبَاب)

(والمرء يُسلمهُ أَبوهُ وعرسه ... ويخونه الْقُرَبَاء والأحباب)

(لَا شَافِع تغني شَفَاعَته وَلَا ... جَان لَهُ مِمَّا جناه متاب)

(شهدُوا معادهم فَعَاد مُصدقا ... من كَانَ قبل ببعثه يرتاب)

(حشر وميزان وَعرض جرائد ... وصحائف منشورة وحساب)

(مَا فاتهم من يَوْم مَا وعدوا بِهِ ... فِي الْحَشْر إِلَّا رَاحِم وهاب)

قلت وَمَا أحسن قَوْله:
(مَا لإنسانيتي شَاهد ... عِنْدِي سوى أَنِّي فِي خسر)

وَكتب إِلَى صَاحبه الْعِمَاد الْأَصْفَهَانِي رِسَالَة وقصيدة يطْلب مِنْهُ فَرْوَة مِنْهَا قد كلف مكارمه وَإِن لم يكن للجود عَلَيْهَا كلفه وأتحفه بِمَا وَجهه إِلَيْهِ من أمله وَهُوَ لعمر الله تحفه إهداء فَرْوَة دمشقية سَرِيَّة نقية يلين لمسها ويزين لبسهَا، دباغتها نظيفة وخياطتها لَطِيفَة طَوِيلَة

(2/98)


كَطُولِهِ سابغه كأنعمه حَالية كذكرها جميلَة كَفِعْلِهِ وَاسِعَة كصدره نقية كعرضه رفيعة كقدره.
وَأول القصيدة:
(بِأبي من ذبت فِي الْحبّ لَهُ شوقاً وصبوة ... )

وَالله أعلم.
ومولده ابْن التعاويذي سنة تسع عشرَة وَخَمْسمِائة.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا نزل السُّلْطَان بمرج عُيُون وَحضر إِلَيْهِ صَاحب شقيف أريون فخادعه ثمَّ أمْسكهُ وحبسه فِي دمشق.