تاريخ ابن خلدون
الباب الثاني في العمران البدويّ والأمم
الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه فصول وتمهيدات
الفصل الأول في أن أجيال البدو والحضر
طبيعية
اعلم أنّ اختلاف الأجيال في أحوالهم إنّما هو باختلاف نحلتهم من المعاش
فإنّ اجتماعهم إنّما هو للتّعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروريّ
منه ونشيط قبل الحاجيّ والكماليّ فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة
والزّراعة ومنهم من
(1/149)
ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر
والمعز والنّحل والدّود لنتاجها واستخراج فضلاتها وهؤلاء القائمون على
الفلح والحيوان تدعوهم الضّرورة ولا بدّ إلى البدو لأنّه متّسع لما لا
يتّسع له الحواضر من المزارع والفدن [1] والمسارح للحيوان وغير ذلك
فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمرا ضروريا لهم وكان حينئذ اجتماعهم
وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكنّ والدّفء إنّما
هو بالمقدار الّذي يحفظ الحياة ويحصّل بلغة العيش من غير مزيد عليه
للعجز عمّا وراء ذلك ثمّ إذا اتّسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل
لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرّفه دعاهم ذلك إلى السّكون والدّعة
وتعاونوا في الزّائد على الضّرورة واستكثروا من الأقوات والملابس
والتّأنّق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتّحضّر ثمّ
تزيد أحوال الرّفه والدّعة فتجيء عوائد التّرف البالغة مبالغها في
التّأنّق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في
أنواعها من الحرير والدّيباج وغير ذلك ومعالاة البيوت والصّروح وإحكام
وضعها في تنجيدها [2] والانتهاء في الصّنائع في الخروج من القوّة إلى
الفعل إلى غايتها فيتّخذون القصور والمنازل ويجرون فيها المياه ويعالون
في صرحها ويبالغون في تنجيدها ويختلفون في استجادة ما يتّخذونه لمعاشهم
من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون وهؤلاء هم الحضر ومعناه الحاضرون
أهل الأمصار والبلدان ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصّنائع ومنهم من
ينتحل التّجارة وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو لأنّ أحوالهم
زائدة على الضّروريّ ومعاشهم على نسبة وجدهم فقد تبيّن أنّ أجيال البدو
والحضر طبيعيّة لا بدّ منها كما قلناه.
__________
[1] الفدن: ج فدّان: مزرعة (منجد)
[2] ترتيبها وتزيينها.
(1/150)
الفصل الثاني في أن
جيل العرب في الخلقة طبيعيّ
قد قدّمنا في الفصل قبله أنّ أهل البدو هم المنتخلون للمعاش الطّبيعيّ
من الفلح والقيام على الأنعام وأنّهم مقتصرون على الضّروريّ من الأقوات
والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد ومقصّرون عمّا فوق ذلك من
حاجيّ أو كماليّ يتّخذون البيوت من الشّعر والوبر أو الشّجر أو من
الطّين والحجارة غير منجّدة إنّما هو قصد الاستظلال والكنّ لا ما وراءه
وقد يأوون إلى الغيران [1] والكهوف وأمّا أقواتهم فيتناولون بها يسيرا
بعلاج أو بغير علاج البتّة إلّا ما مسّته النّار فمن كان معاشه منهم في
الزّراعة والقيام بالفلح كان المقام به أولى من الظّعن وهؤلاء سكّان
المدر والقرى والجبال وهم عامّة البربر والأعاجم ومن كان معاشه في
السّائمة مثل الغنم والبقر فهم ظعّن في الأغلب لارتياد المسارح والمياه
لحيواناتهم فالتّقلّب في الأرض أصلح بهم ويسمّون شاوية ومعناه القائمون
على الشّاء والبقر ولا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطّيّبة وهؤلاء
مثل البربر والتّرك وإخوانهم من التّركمان والصّقالبة وأمّا من كان
معاشهم في الإبل فهم أكثر ظعنا وأبعد في القفر مجالا لأنّ مسارح
التّلول ونباتها وشجرها لا يستغني بها الإبل في قوام حياتها عن مراعي
الشّجر بالقفر وورود مياهه الملحة [2] والتّقلّب فصل الشّتاء في نواحيه
فرارا من أذى البرد إلى دفء هوائه وطلبا لماخض النتاج في رماله إذ
الإبل أصعب الحيوان فصالا
__________
[1] الغور: ما انحدر واطمأن من الأرض وجمعها مغاور ومغارات. وهذا مقتضى
السياق. وقد استعمل ابن خلدون الغيران بهذا المعنى. والأصح مغاور أو
مغارات.
[2] يقال: أملح الماء: صار «ملحا» بعد أن كان عذبا (قاموس) .
(1/151)
ومخاضا وأحوجها في ذلك إلى الدّفء فاضطرّوا
إلى إبعاد النّجعة وربّما زادتهم الحامية عن التلول أيضا فأوغلوا في
القفار نفرة عن الضّعة منهم فكانوا لذلك أشدّ النّاس توحّشا وينزلون من
أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم
وهؤلاء هم العرب وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب والأكراد
والتّركمان والتّرك بالمشرق إلّا أنّ العرب أبعد نجعة وأشدّ بداوة
لأنّهم مختصّون بالقيام على الإبل فقط وهؤلاء يقومون عليها وعلى
الشّياه والبقر معها فقد تبيّن لك أنّ جيل العرب طبيعيّ لا بدّ منه في
العمران والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل الثالث في أن البدو أقدم من الحضر
وسابق عليه وان البادية أصل العمران والأمصار مدد لها
قد ذكرنا أنّ البدو هم المقتصرون على الضّروريّ في أحوالهم العاجزون
عمّا فوقه وأنّ الحضر المعتنون بحاجات التّرف والكمال في أحوالهم
وعوائدهم ولا شكّ أنّ الضّروريّ أقدم من الحاجيّ والكماليّ وسابق عليه
ولأنّ الضّروريّ أصل والكماليّ فرع ناشئ عنه فالبدو أصل للمدن والحضر،
وسابق عليهما لأنّ أوّل مطالب الإنسان الضّروريّ ولا ينتهي إلى الكمال
والتّرف إلّا إذا كان الضّروريّ حاصلا فخشونة البداوة قبل رقّة الحضارة
ولهذا نجد التّمدّن غاية للبدويّ يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحة
منها ومتى حصل على الرّياش الّذي يحصل له به أحوال التّرف وعوائده عاج
إلى الدّعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة وهكذا شأن القبائل المتبدّية
كلّهم والحضريّ لا يتشوّف إلى أحوال البادية إلّا لضرورة تدعوه إليها
أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته وممّا يشهد لنا أنّ البدو أصل للحضر
(1/152)
ومتقدّم عليه أنّا إذا فتّشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أوّليّة أكثرهم
من أهل البدو الّذين بناحية ذلك المصر وعدلوا إلى الدّعة والتّرف الّذي
في الحضر وذلك يدلّ على أنّ أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة
وأنّها أصل لها فتفهّمه. ثمّ إنّ كلّ واحد من البدو والحضر متفاوت
الأحوال من جنسه فربّ حيّ أعظم من حيّ وقبيلة أعظم من قبيلة ومصر أوسع
من مصر ومدينة أكثر عمرانا من مدينة فقد تبيّن أنّ وجود البدو متقدّم
على وجود المدن والأمصار وأصل لها بما أنّ وجود المدن والأمصار من
عوائد التّرف والدّعة الّتي هي متأخرة عن عوائد الضّرورة المعاشيّة
والله أعلم. |