تاريخ ابن خلدون
الفصل الرابع في أن
أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر
وسببه أنّ النّفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد
عليها وينطبع فيها من خير أو شرّ قال صلّى الله عليه وسلّم «كلّ مولود
يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» وبقدر ما
سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه فصاحب
الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشّرّ
وصعب عليه طريقه وكذا صاحب الشّرّ إذا سبقت إليه أيضا عوائده وأهل
الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذّ وعوائد التّرف والإقبال على
الدّنيا والعكوف على شهواتهم منها وقد تلوّنت أنفسهم بكثير من مذمومات
الخلق والشّرّ وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك
حتّى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون
في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم لا يصدّهم عنه
وازع الحشمة لما أخذتهم به عوائد السّوء في التّظاهر بالفواحش قولا
وعملا وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدّنيا مثلهم إلّا أنّه في
المقدار الضّروريّ لا في
(1/153)
التّرف ولا في شيء من أسباب الشّهوات
واللّذّات ودواعيها فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها وما يحصل فيهم من
مذاهب السّوء ومذمومات الخلق بالنّسبة إلى أهل الحضر أقلّ بكثير فهم
أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عمّا ينطبع في النّفس من سوء الملكات
بكثرة العوائد المذمومة وقبحها فيسهل علاجهم عن علاج الحضر وهو ظاهر
وقد يتوضّح فيما بعد أنّ الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد
ونهاية الشّرّ والبعد عن الخير فقد تبيّن أنّ أهل البدو أقرب إلى الخير
من أهل الحضر والله يحبّ المتّقين ولا يعترض على ذلك بما ورد في صحيح
البخاريّ من قول الحجّاج لسلمة بن الأكوع وقد بلغه أنّه خرج إلى سكنى
البادية فقال له ارتددت على عقبيك تعرّبت فقال لا ولكنّ رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم أذن لي في البدو فاعلم أنّ الهجرة افترضت أوّل الإسلام
على أهل مكّة ليكونوا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المظاهرة
والحراسة ما لا يمسّ غيرهم من بادية الأعراب وقد كان المهاجرون
يستعيذون باللَّه من التّعرّب وهو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة وقال
صلّى الله عليه وسلّم في حديث سعد بن أبي وقّاص عند مرضه بمكّة
«اللَّهمّ أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردّهم على أعقابهم» ومعناه أن
يوفّقهم لملازمة المدينة وعدم التّحوّل عنها فلا يرجعوا عن هجرتهم
الّتي ابتدءوا بها وهو من باب الرّجوع على العقب في السّعي إلى وجه من
الوجوه وقيل أنّ ذلك كان خاصّا بما قبل الفتح حين كانت الحاجة داعية
إلى الهجرة لقلّة المسلمين وأمّا بعد الفتح وحين كثر المسلمون واعتزّوا
وتكفّل الله لنبيّه بالعصمة من النّاس فإنّ الهجرة ساقطة حينئذ لقوله
صلّى الله عليه وسلّم «لا هجرة بعد الفتح» وقيل سقط إنشاؤها عمّن يسلم
بعد الفتح وقيل سقط وجوبها عمّن أسلم وهاجر قبل الفتح والكلّ مجمعون
على أنّها بعد الوفاة ساقطة لأنّ الصّحابة افترقوا من يومئذ في الآفاق
وانتشروا ولم
(1/154)
يبق إلّا فضل السّكنى بالمدينة وهو هجرة
فقول الحجّاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك تعرّبت نعى عليه
في ترك السّكنى بالمدينة بالإشارة إلى الدّعاء المأثور الّذي قدمناه
وهو قوله لا تردّهم على أعقابهم وقوله تعرّبت إشارة إلى أنّه صار من
الأعراب الّذين لا يهاجرون وأجاب سلمة بإنكار ما ألزمه من الأمرين وأنّ
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أذن له في البدو ويكون ذلك خاصّا به
كشهادة خزيمة [1] وعناق أبي بردة [2] أو يكون الحجّاج إنّما نعى عليه
ترك السّكنى بالمدينة فقط لعلمه بسقوط الهجرة بعد الوفاة وأجابه سلمة
بأنّ اغتنامه لإذن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أولى وأفضل فما آثره
به واختصّه إلّا لمعنى علمه فيه وعلى كلّ تقدير فليس دليلا على مذمّة
البدو الّذي عبّر عنه بالتّعرّب لأنّ مشروعيّة الهجرة إنّما كانت كما
علمت لمظاهرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحراسته لا لمذمّة البدو
فليس في النّعي على ترك هذا الواجب دليل على مذمّة التّعرّب والله
سبحانه أعلم وبه التّوفيق.
الفصل الخامس في أن أهل البدو أقرب إلى
الشجاعة من أهل الحضر
والسّبب في ذلك أنّ أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدّعة
وانغمسوا في النّعيم والتّرف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم
وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الّذي يسوسهم والحامية الّتي تولّت حراستهم
واستناموا إلى الأسوار الّتي تحوطهم والحرز الّذي يحول دونهم فلا
تهيجهم هيعة [3] ولا ينفر لهم صيد فهم غارّون [4] آمنون، قد ألقوا
السّلاح وتوالت على ذلك منهم الأجيال وتنزّلوا منزلة
__________
[1] هو خذيمة بن ثابت الأنصاري من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم وقد جعل شهادته بشهادة رجلين.
[2] العناق: أم الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها السنة. وقد أجاز
النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بردة ابن نيار خاصة أن يضحّي بها قصد
ابن خلدون فهو استثناء الخصوصيات من عموم الأحكام، لما ورد بشأنها في
أحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
[3] هيعة: الصوت المرعب والمخيف.
[4] غارّون: مطمئنون.
(1/155)
النّساء والولدان الّذين هم عيال على أبي
مثواهم حتّى صار ذلك خلقا يتنزّل منزلة الطّبيعة وأهل البدو لتفرّدهم
عن المجتمع وتوحّشهم في الضّواحي وبعدهم عن الحامية وانتباذهم عن
الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا
يثقون فيها بغيرهم فهم دائما يحملون السّلاح ويتلفّتون عن كلّ جانب في
الطّرق ويتجافون عن الهجوع إلّا غرارا في المجالس وعلى الرّجال وفوق
الأقتاب ويتوجّسون للنّبئات [1] والهيعات ويتفرّدون في القفر والبيداء
مدلين بيأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقا والشّجاعة سجيّة
يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ وأهل الحضر مهما خالطوهم
في البادية أو صاحبوهم في السّفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئا من
أمر أنفسهم وذلك مشاهد بالعيان حتّى في معرفة النّواحي والجهات وموارد
المياه ومشارع السّبل وسبب ذلك ما شرحناه وأصله أنّ الإنسان ابن عوائده
ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه فالّذي ألفه في الأحوال حتّى صار خلقا
وملكة وعادة تنزّل منزلة الطّبيعة والجبلة واعتبر ذلك في الآدميّين
تجده كثيرا صحيحا والله يخلق ما يشاء.
__________
[1] يتوجسون: يتسمعون. النبآت: الأصوات الخفية.
(1/156)
الفصل السادس في أن
معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم
وذلك أنّه ليس كلّ أحد مالك أمر نفسه إذ الرّؤساء والأمراء المالكون
لأمر النّاس قليل بالنّسبة إلى غيرهم فمن الغالب أن يكون الإنسان في
ملكة غيره، ولا بدّ فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة لا يعاني منها حكم
ولا منع وصدّ كان النّاس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو
جبن واثقين بعدم الوازع حتّى صار لهم الإذلال جبلّة لا يعرفون سواها
وأمّا إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسّطوة والإخافة فتكسر حينئذ
من سورة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التّكاسل في النّفوس
المضطهدة كما نبيّنه وقد نهى عمر سعدا رضي الله عنهما عن مثلها لمّا
أخذ زهرة بن حوبة سلب الجالنوس وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفا من الذّهب
وكان اتّبع الجالنوس يوم القادسيّة فقتله وأخذ سلبه فانتزعه منه سعد
وقال له هلّا انتظرت في اتّباعه إذني وكتب إلى عمر يستأذنه فكتب إليه
عمر تعمد إلى مثل زهرة وقد صلّى بما صلّى به [1] وبقي عليك ما بقي من
حربك وتكسر فوقه [2] وتفسد قلبه وأمضى له عمر سلبه وأمّا إذا كانت
الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلّيّة لأنّ وقوع العقاب به ولم يدافع
عن نفسه يكسبه المذلّة الّتي تكسر من سورة بأسه بلا شكّ وأمّا إذا كانت
الأحكام تأديبيّة وتعليميّة وأخذت من عهد الصّبا أثّرت في ذلك بعض
الشّيء لمرباه على المخافة والانقياد
__________
[1] بمعنى قاسي شدائد الحرب.
[2] تثبط همته.
(1/157)
فلا يكون مدلّا ببأسه ولهذا نجد المتوحّشين
من العرب [1] أهل البدو أشدّ بأسا ممّن تأخذه الأحكام ونجد أيضا الّذين
يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التّأديب والتّعليم في
الصّنائع والعلوم والدّيانات ينقص ذلك من بأسهم كثيرا ولا يكادون
يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين
للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمّة الممارسين للتّعليم والتّأديب في
مجالس الوقار والهيبة فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس. ولا
تستنكر ذلك بما وقع في الصّحابة من أخذهم بأحكام الدّين والشّريعة ولم
ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشدّ النّاس بأسا لأنّ الشّارع صلوات الله
عليه لمّا أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلي
عليهم من التّرغيب والتّرهيب ولم يكن بتعليم صناعيّ ولا تأديب تعليميّ
إنّما هي أحكام الدّين وآدابه المتلقّاة نقلا يأخذون أنفسهم بها بما
رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتّصديق فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما
كانت ولم تخدشها أظفار التّأديب والحكم قال عمر رضي الله عنه «من لم
يؤدّ به الشّرع لا أدّبه الله» حرصا على أن يكون الوازع لكلّ أحد من
نفسه ويقينا بأنّ الشّارع أعلم بمصالح العباد ولمّا تناقص الدّين في
النّاس وأخذوا بالأحكام الوازعة ثمّ صار الشّرع علما وصناعة يؤخذ
بالتّعليم والتّأديب ورجع النّاس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى
الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم فقد تبيّن أنّ الأحكام السّلطانيّة
والتّعليميّة مفسدة للبأس لأنّ الوازع فيها ذاتيّ ولهذا كانت هذه
الأحكام السّلطانيّة والتّعليميّة ممّا تؤثّر في أهل الحواضر في ضعف
نفوسهم وخضد [2] الشّوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم وكهولهم والبدو
بمعزل من هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السّلطان والتّعليم والآداب
ولهذا قال محمّد بن أبي زيد في كتابه في أحكام المعلّمين والمتعلّمين
«أنّه لا ينبغي للمؤدّب أن يضرب أحدا من الصّبيان في التّعليم فوق
ثلاثة أسواط» نقله عن شريح القاضي
__________
[1] المتوحشين من العرب: بمعنى البدو أو سكان البادية.
[2] انكسار الشوكة.
(1/158)
واحتجّ له بعضهم بما وقع في حديث بدء الوحي من شأن الغطّ وأنّه كان
ثلاث مرّات وهو ضعيف ولا يصلح شأن الغطّ أن يكون دليلا على ذلك لبعده
عن التّعليم المتعارف والله الحكيم الخبير. |