تاريخ ابن خلدون
الفصل السابع في أن
سكنى البدو لا تكون إلا للقبائل أهل العصبية
اعلم أنّ الله سبحانه ركّب في طبائع البشر الخير والشّرّ كما قال تعالى
«وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ 90: 10» وقال «فَأَلْهَمَها فُجُورَها
وَتَقْواها 91: 8» والشّرّ أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده
ولم يهذّبه الاقتداء بالدّين وعلى ذلك الجمّ الغفير إلّا من وفّقه الله
ومن أخلاق البشر فيهم الظّلم والعدوان بعض على بعض فمن امتدّت عينه إلى
متاع أخيه فقد امتدّت يده إلى أخذه إلّا أن يصدّه وازع كما قال:
والظّلم من شيم النّفوس فإن تجد ... ذا عفّة فلعلّة لا يظلم
فأمّا المدن والأمصار فعدوان بعضهم على بعض تدفعه الحكّام والدّولة بما
قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافّة أن يمتدّ بعضهم على بعض أو يعدو
عليه فهم مكبوحون بحكمة القهر والسّلطان عن التّظالم إلّا إذا كان من
الحاكم بنفسه وأمّا العدوان الّذي من خارج المدينة فيدفعه سياج الأسوار
عند الغفلة أو الغرّة ليلا أو العجز عن المقاومة نهارا أو يدفعه ازدياد
الحامية من أعوان الدّولة عند الاستعداد والمقاومة وأمّا أحياء البدو
فيزغ بعضهم عن بعض مشايخهم وكبراؤهم بما وفر في نفوس الكافّة لهم من
الوقار والتّجلّة وأمّا حللهم فإنّما يذود عنها من خارج حامية الحيّ من
أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشّجاعة فيهم ولا يصدق دفاعهم وذيادهم
إلّا إذا كانوا عصبيّة وأهل نسب واحد لأنّهم بذلك تشتدّ شوكتهم ويخشى
جانبهم إذ نعرة كلّ أحد على نسبه وعصبيّته أهمّ وما جعل الله في قلوب
(1/159)
عباده من الشّفقة والنّعرة [1] على ذوي
أرحامهم وقرباهم موجودة في الطّبائع البشريّة وبها يكون التّعاضد
والتّناصر وتعظم رهبة العدوّ لهم واعتبر ذلك فيما حكاه القرآن عن إخوة
يوسف عليه السّلام حين قالوا لأبيه لئن أكله الذّئب ونحن عصبة إنّا إذا
لخاسرون والمعنى أنّه لا يتوهّم العدوان على أحد مع وجود العصبة له
وأمّا المتفرّدون في أنسابهم فقلّ أن تصيب أحدا منهم نعرة على صاحبه
فإذا أظلم الجوّ بالشّرّ يوم الحرب تسلّل كلّ واحد منهم يبغي النّجاة
لنفسه خيفة واستيحاشا من التّخاذل فلا يقدرون من أجل ذلك على سكنى
القفر لما أنّهم حينئذ طعمة لمن يلتهمهم من الأمم سواهم وإذا تبيّن ذلك
في السّكنى الّتي تحتاج للمدافعة والحماية فبمثله يتبيّن لك في كلّ أمر
يحمل النّاس عليه من نبوة أو إقامة ملك أو دعوة إذ بلوغ الغرض من ذلك
كلّه إنّما يتمّ بالقتال عليه لما في طبائع البشر من الاستعصاء ولا بدّ
في القتال من العصبيّة كما ذكرناه آنفا فاتّخذه إماما تقتدي به فيما
نورده عليك بعد والله الموفّق للصّواب.
الفصل الثامن في أن العصبية إنما تكون من
الالتحام بالنسب أو ما في معناه
وذلك أنّ صلة الرّحم طبيعيّ في البشر إلّا في الأقلّ ومن صلتها النّعرة
على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة فإنّ القريب
يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه ويودّ لو يحول بينه
وبين ما يصله من المعاطب والمهالك نزعة طبيعيّة في البشر مذ كانوا فإذا
كان النّسب المتواصل بين المتناصرين قريبا جدّا بحيث حصل به الاتّحاد
والالتحام كانت الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجرّدها ووضوحها وإذا بعد
النّسب بعض الشّيء فربّما
__________
[1] النعرة والنعار بالضمّ فيهما والنعير: الصراخ والصياح في حرب أو شر
(قاموس) والمعنى هنا التعصب لذوي الأرحام ونجدتهم.
(1/160)
تنوسي بعضها ويبقى منها شهرة فتحمل على
النّصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه فرارا من الغضاضة الّتي يتوهّمها
في نفسه من ظلم من هو منسوب إليه بوجه ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ
نعرة كلّ أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة الّتي تلحق النّفس من اهتضام
جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النّسب وذلك لأجل اللّحمة
الحاصلة من الولاء مثل لحمة النّسب أو قريبا منها ومن هذا تفهم معنى
قوله صلّى الله عليه وسلّم «تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم»
بمعنى أنّ النّسب إنّما فائدته هذا الالتحام الّذي يوجب صلة الأرحام
حتّى تقع المناصرة والنّعرة وما فوق ذلك مستغنى عنه إذ النّسب أمر
وهميّ لا حقيقة له ونفعه إنّما هو في هذه الوصلة والالتحام فإذا كان
ظاهرا واضحا حمل النّفوس على طبيعتها من النّعرة كما قلناه وإذا كان
إنّما يستفاد من الخبر البعيد ضعف فيه الوهم وذهبت فائدته وصار الشّغل
به مجّانا [1] ومن أعمال اللهو المنهيّ عنه ومن هذا الاعتبار معنى
قولهم النّسب علم لا ينفع وجهالة لا تضرّ بمعنى أنّ النّسب إذا خرج عن
الوضوح وصار من قبيل العلوم ذهبت فائدة الوهم فيه عن النّفس وانتفت
النّعرة الّتي تحمل عليها العصبيّة فلا منفعة فيه حينئذ والله سبحانه
وتعالى أعلم.
الفصل التاسع في أن الصريح من النسب إنما
يوجد للمتوحشين في القفر من العرب ومن في معناهم
وذلك لما اختصّوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن حملتهم
عليها الضّرورة الّتي عيّنت لهم تلك القسمة وهي لمّا كان معاشهم من
القيام على الإبل ونتاجها ورعايتها والإبل تدعوهم إلى التّوحّش في
القفر لرعيها من شجره
__________
[1] الأصوب أن يقول مجانة أو مجونا.
(1/161)
ونتاجها في رماله كما تقدّم والقفر مكان
الشّظف والسّغب [1] فصار لهم إلفا وعادة وربيت فيه أجيالهم حتّى تمكّنت
خلقا وجبلّة فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم ولا يأنس
بهم أحد من الأجيال بل لو وجد واحد منهم السّبيل إلى الفرار من حاله
وأمكنه ذلك لما تركه فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها
ولا تزال بينهم محفوظة صريحة واعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة وثقيف
وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة لمّا كانوا أهل شظف ومواطن غير ذات
زرع ولا ضرع وبعدوا من أرياف الشّام والعراق ومعادن الأدم والحبوب كيف
كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها اختلاط ولا عرف فيها شوب. وأمّا
العرب الّذين كانوا بالتّلول وفي معادن الخصب للمراعي والعيش من حمير
وكهلان مثل لخم وجذام وغسّان وطيّ وقضاعة وإياد فاختلطت أنسابهم
وتداخلت شعوبهم ففي كلّ واحد من بيوتهم من الخلاف عند النّاس ما تعرف
وإنّما جاءهم ذلك من قبل العجم ومخالطتهم وهم لا يعتبرون المحافظة على
النّسب في بيوتهم وشعوبهم وإنّما هذا للعرب [2] فقط. قال عمر رضى الله
تعالى عنه «تعلّموا النّسب ولا تكونوا كنبط السّواد» إذا سئل أحدهم عن
أصله قال من قرية كذا هذا أي ما لحق هؤلاء العرب أهل الأرياف من
الازدحام مع النّاس على البلد الطّيّب والمراعي الخصيبة فكثر الاختلاط
وتداخلت الأنساب وقد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن
فيقال جند قنّسرين جند دمشق جند العواصم وانتقل ذلك إلى الأندلس ولم
يكن لاطّراح العرب أمر النّسب وإنّما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح
حتّى عرفوا بها وصارت لهم علامة زائدة على النّسب يتميّزون بها عند
أمرائهم ثمّ وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم
__________
[1] السغب: الجوع مع التعب.
[2] بمعنى ان المحافظة على النسب محصورة في العرب سكان البادية
والأرياف أو كما يعني بهم ابن خلدون (العرب المتوحشون) .
(1/162)
وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبيّة فاطرحت ثمّ تلاشت
القبائل ودثرت فدثرت العصبيّة بدثورها وبقي ذلك في البدو كما كان والله
وارث الأرض ومن عليها. |