تاريخ ابن خلدون
الفصل الثاني
والعشرون في أن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عوده إلى
شعب آخر منها ما دامت لهم العصبية
والسّبب في ذلك أنّ الملك إنّما حصل لهم بعد سورة الغلب والإذعان لهم
من سائر الأمم سواهم فيتعيّن منهم المباشرون للأمر الحاملون سرير الملك
ولا يكون ذلك لجميعهم لما هم عليه من الكثرة الّتي يضيق عنها نطاق
المزاحمة والغيرة الّتي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرّتبة فإذا
تعيّن أولئك القائمون بالدّولة انغمسوا في النّعيم وغرقوا في بحر
التّرف والخصب واستعبدوا إخوانهم من ذلك الجيل وأنفقوهم في وجوه
الدّولة ومذاهبها وبقي الّذين بعدوا عن الأمر وكبحوا عن المشاركة في
ظلّ من عزّ الدّولة الّتي شاركوها بنسبهم وبمنجاة من الهرم لبعدهم عن
التّرف وأسبابه فإذا استولت على الأوّلين الأيّام وأباد غضراءهم الهرم
فطبختهم الدّولة وأكل الدّهر عليهم وشرب بما أرهف النّعيم من حدّهم
واستقت غريزة التّرف من مائهم وبلغوا غايتهم من طبيعة التّمدّن
الإنسانيّ والتّغلّب السّياسيّ (شعر) :
كدود القزّ ينسج ثمّ يفنى ... بمركز نسجه في الانعكاس
__________
[1] سورة المزّمل الآية 20.
(1/182)
كانت حينئذ عصبيّة الآخرين موفورة وسورة
غلبهم من الكاسر محفوظة وشارتهم في الغلب معلومة فتسمو آمالهم إلى
الملك الّذي كانوا ممنوعين منه بالقوّة الغالبة من جنس عصبيّتهم وترتفع
المنازعة لما عرف من غلبهم فيستولون على الأمر ويصير إليهم وكذا يتّفق
فيهم مع من بقي أيضا منتبذا عنه من عشائر أمّتهم فلا يزال الملك ملجئا
في الأمّة إلى أن تنكسر سورة العصبيّة منها أو يفنى سائر عشائرها سنّة
الله في الحياة الدّنيا «وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ
43: 35» [1] واعتبر هذا بما وقع في العرب لمّا انقرض ملك عاد قام به من
بعدهم إخوانهم من ثمود ومن بعدهم إخوانهم العمالقة ومن بعدهم إخوانهم
من حمير أيضا ومن بعدهم إخوانهم التّبابعة من حمير أيضا ومن بعدهم
الأذواء كذلك ثمّ جاءت الدّولة لمضر وكذا الفرس لمّا انقرض أمر
الكينيّة ملك من بعدهم السّاسانيّة حتّى تأذّن الله بانقراضهم أجمع
بالإسلام وكذا اليونانيّون انقرض أمرهم وانتقل إلى إخوانهم من الرّوم
وكذا البربر بالمغرب لمّا انقرض أمر مغراوة وكتامة الملوك الأوّل منهم
رجع إلى صنهاجة ثمّ الملثّمين من بعدهم ثمّ من بقي من شعوب زناتة وهكذا
سنّة الله في عباده وخلقه وأصل هذا كلّه إنّما يكون بالعصبيّة وهي
متفاوتة في الأجيال والملك يخلقه التّرف ويذهبه كما سنذكره [2] بعد
فإذا انقرضت دولة فإنّما يتناول الأمر منهم من له عصبيّة مشاركة
لعصبيّتهم الّتي عرف لها التّسليم والانقياد وأونس منها الغلب لجميع
العصبيّات وذلك إنّما يوجد في النّسب القريب منهم لأنّ تفاوت العصبيّة
بحسب ما قرب من ذلك النّسب الّتي هي فيه أو بعد حتّى إذا وقع في العالم
تبديل كبير من تحويل ملّة أو ذهاب عمران أو ما شاء الله من قدرته
فحينئذ يخرج عن ذلك الجيل إلى الجيل الّذي يأذن الله بقيامه بذلك
التّبديل كما وقع لمضر حين غلبوا على الأمم والدّول وأخذوا الأمر من
أيدي أهل العالم بعد أن كانوا مكبوحين عنه أحقابا.
__________
[1] سورة الزخرف آخر الآية 35.
[2] ذكر ابن خلدون هذا في الفصلين 16 و 18 ولعله غير ترتيب الفصول فكان
هذا الفصل سابقا للفصلين المذكورين ثم أصبح لاحقا. ولم ينتبه ابن خلدون
إلى هذه الكلمة ليحذفها أو يبدلها.
(1/183)
الفصل الثالث
والعشرون في أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه
ونحلته وسائر أحواله وعوائده
والسّبب في ذلك أنّ النّفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه
إمّا لنظره بالكمال بما وقر [1] عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من
أنّ انقيادها ليس لغلب طبيعيّ إنّما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك
واتّصل لها اعتقادا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبّهت به وذلك هو
الاقتداء أو لما تراه والله أعلم من أنّ غلب الغالب لها ليس بعصبيّة
ولا قوّة بأس وإنّما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضا
بذلك عن الغلب وهذا راجع للأوّل ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدا بالغالب
في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتّخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله وانظر
ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبّهين بهم دائما وما ذلك إلّا
لاعتقادهم الكمال فيهم وانظر إلى كلّ قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله
زيّ الحامية وجند السّلطان في الأكثر لأنّهم الغالبون لهم حتّى أنّه
إذا كانت أمّة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا
التّشبّه والاقتداء حظّ كبير كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم
الجلالقة فإنّك تجدهم يتشبّهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من
عوائدهم وأحوالهم حتّى في رسم التّماثيل في الجدران والمصانع والبيوت
حتّى لقد يستشعر من ذلك النّاظر بعين الحكمة أنّه من علامات الاستيلاء
والأمر للَّه. وتأمّل في هذا سرّ قولهم العامّة على دين الملك
__________
[1] وقر: يوقر وقارة ووقارا الرجل: كان رزينا ذا وقار (المنجد) .
(1/184)
فإنّه من بابه إذ الملك غالب لمن تحت يده
والرّعيّة مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم
والمتعلّمين بمعلّميهم والله العليم الحكيم وبه سبحانه وتعالى
التّوفيق.
الفصل الرابع والعشرون في أن الأمة إذا
غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء
والسّبب في ذلك والله أعلم ما يحصل في النّفوس من التّكاسل إذا ملك
أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم فيقصر الأمل
ويضعف التّناسل والاعتمار إنّما هو عن جدّة الأمل وما يحدث عنه من
النّشاط في القوى الحيوانيّة فإذا ذهب الأمل بالتّكاسل وذهب ما يدعو
إليه من الأحوال وكانت العصبيّة ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم تناقص
عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم بما خضد
[1] الغلب من شوكتهم فأصبحوا مغلّبين لكلّ متغلّب وطعمة لكلّ آكل وسواء
كانوا حصلوا على غايتهم من الملك أم لم يحصلوا. وفيه والله أعلم سرّ
آخر وهو أنّ الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الّذي خلق له
والرّئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزّه تكاسل حتّى عن شبع بطنه
وريّ كبده وهذا موجود في أخلاق الأناسيّ. ولقد يقال مثله في الحيوانات
المفترسة وإنّها لا تسافد إلّا إذا كانت في ملكة الآدميّين فلا يزال
هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء
والبقاء للَّه وحده واعتبر ذلك في أمّة الفرس كيف كانت قد ملأت العالم
كثرة ولمّا فنيت حاميتهم في أيّام العرب بقي منهم كثير وأكثر من الكثير
يقال إنّ سعدا أحصى ما وراء المدائن فكانوا مائة ألف وسبعة وثلاثين
ألفا منهم سبعة وثلاثون
__________
[1] خضد: خضدا العود: كسره ولم يبن.
(1/185)
ألفا ربّ بيت ولمّا تحصّلوا في ملكة العرب وقبضة القهر لم يكن بقاؤهم
إلّا قليلا ودثروا كأن لم يكونوا ولا تحسبنّ أنّ ذلك لظلم نزل بهم أو
عدوان شملهم فملكة الإسلام في العدل ما علمت وإنّما هي طبيعة في
الإنسان إذا غلب على أمره وصار آلة لغيره ولهذا إنّما تذعن للرّقّ في
الغالب أمم السّودان لنقص الإنسانيّة فيهم وقربهم من عرض الحيوانات
العجم كما قلناه أو من يرجو بانتظامه في ربقة الرّقّ حصول رتبة أو
إفادة مال أو عزّ كما يقع لممالك التّرك بالمشرق والعلوج [1] من
الجلالقة والإفرنجة فإنّ العادة جارية باستخلاص الدّولة لهم فلا يأنفون
من الرّقّ لما يأملونه من الجاه والرّتبة باصطفاء الدّولة والله سبحانه
وتعالى أعلم وبه التّوفيق. |