تاريخ ابن خلدون

الفصل الخامس والعشرون في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط
وذلك أنّهم بطبيعة التّوحّش الّذي فيهم أهل انتهاب وعيث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر ويفرّون إلى منتجعهم بالقفر ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة إلّا إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم فكلّ معقل أو مستصعب عليهم فهم تاركوه إلى ما يسهل عنه ولا يعرضون له والقبائل الممتنعة عليهم بأوعار الجبال بمنجاة من عيثهم وفسادهم لأنّهم لا يتسنّمون إليهم الهضاب ولا يركبون الصّعاب ولا يحاولون الخطر وأمّا البسائط فمتى اقتدروا عليها بفقدان الحامية وضعف الدّولة فهي نهب لهم وطمعة لآكلهم يردّدون عليها الغارة والنّهب والزّحف لسهولتها عليهم إلى أن يصبح أهلها مغلبين لهم ثمّ يتعاورونهم باختلاف الأيدي وانحراف السّياسة إلى أن ينقرض عمرانهم والله قادر على خلقه وهو الواحد القهّار لا ربّ غيره.
__________
[1] العلوج: بمعنى كفار العجم.

(1/186)


الفصل السادس والعشرون في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب
والسّبب في ذلك أنّهم أمّة وحشيّة باستحكام عوائد التّوحّش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجبلّة وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسّياسة وهذه الطّبيعة منافية للعمران ومناقضة له فغاية الأحوال العاديّة كلها عندهم الرّحلة والتّغلب [1] وذلك مناقض للسّكون الّذي به العمران ومناف له فالحجر مثلا إنّما حاجتهم إليه لنصبه أثافيّ القدر فينقلونه من المباني ويخرّبونها عليه ويعدّونه لذلك والخشب أيضا إنّما حاجتهم إليه ليعمّدوا [2] به خيامهم ويتّخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخرّبون السّقف عليه لذلك فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الّذي هو أصل العمران هذا في حالهم على العموم وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي النّاس وأنّ رزقهم في ظلال رماحهم وليس عندهم في أخذ أموال النّاس حدّ ينتهون إليه بل كلّما امتدّت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه فإذا تمّ اقتدارهم على ذلك بالتّغلب والملك بطلت السّياسة في حفظ أموال النّاس وخرب العمران وأيضا فلأنّهم يكلّفون على أهل الأعمال من الصّنائع والحرف أعمالهم لا يرون لها قيمة ولا قسطا من الأجر والثّمن والأعمال كما سنذكره هي أصل المكاسب وحقيقتها وإذا فسدت الأعمال وصارت مجّانا ضعفت الآمال في المكاسب وانقبضت الأيدي عن العمل وابذعرّ السّاكن وفسد العمران وأيضا فإنّهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر النّاس عن المفاسد ودفاع بعضهم
__________
[1] بمعنى التنقل.
[2] عمد السقف: دعائمه وركائزه.

(1/187)


عن بعض إنّما همّهم ما يأخذونه من أموال النّاس نهبا أو غرامة فإذا توصّلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عمّا بعده من تسديد أحوالهم والنّظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد وربّما فرضوا العقوبات في الأموال حرصا على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم وذلك ليس بمغن في دفع المفاسد وزجر المتعرّض لها بل يكون ذلك زائدا فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض فتبقى الرّعايا في ملكتهم كأنّها فوضى [1] دون حكم والفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران بما ذكرناه من أنّ وجود الملك خاصّة طبيعيّة للإنسان لا يستقيم وجودهم واجتماعهم إلّا بها وتقدّم ذلك أوّل الفصل وأيضا فهم متنافسون في الرّئاسة وقلّ أن يسلّم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلّا في الأقلّ وعلى كره من أجل الحياء فيتعدّد الحكّام منهم والأمراء وتختلف الأيدي على الرّعيّة في الجباية والأحكام فيفسد العمران وينتقض. قال الأعرابيّ الوافد على عبد الملك لمّا سأله عن الحجّاج وأراد الثّناء عليه عنده بحسن السّياسة والعمران فقال: «تركته يظلم وحده» وانظر إلى ما ملكوه وتغلّبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوّض عمرانه وأقفر ساكنه وبدّلت الأرض فيه غير الأرض فاليمن قرارهم خراب إلّا قليلا من الأمصار وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الّذي كان للفرس أجمع والشّام لهذا العهد كذلك وإفريقية والمغرب لمّا جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أوّل المائة الخامسة وتمرّسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السّنين قد لحق بها وعادت بسائطه خرابا كلّها بعد أن كان ما بين السّودان والبحر الرّوميّ كلّه عمرانا تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمدر والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
__________
[1] ومما يعزى آلى سيدنا علي:
لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا

(1/188)


الفصل السابع والعشرون في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة
والسّبب في ذلك أنّهم لخلق التّوحّش الّذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمّة والمنافسة في الرّئاسة فقلّما تجتمع أهواؤهم فإذا كان الدّين بالنّبوءة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدّين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التّحاسد والتّنافس فإذا كان فيهم النّبيّ أو الوليّ الّذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلّف كلمتهم لإظهار الحقّ تمّ اجتماعهم وحصل لهم التّغلّب والملك وهم مع ذلك أسرع النّاس قبولا للحقّ والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق إلّا ما كان من خلق التّوحّش القريب المعاناة المتهيّئ لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى وبعده عمّا ينطبع في النّفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات فإنّ كلّ مولود يولد على الفطرة كما ورد في الحديث وقد تقدّم.
الفصل الثامن والعشرون في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك
والسّبب في ذلك أنّهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد مجالا في القفر وأغنى عن حاجات التّلول وحبوبها لاعتيادهم الشّظف وخشونة العيش فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتّوحّش ورئيسهم محتاج إليهم

(1/189)


غالبا للعصبيّة الّتي بها المدافعة فكان مضطرّا إلى إحسان ملكتهم وترك مراغمتهم [1] لئلّا يختلّ عليه شأن عصبيّته فيكون فيها هلاكه وهلاكهم وسياسة الملك والسّلطان تقتضي أن يكون السّائس وازعا بالقهر وإلّا لم تستقم سياسته وأيضا فإنّ من طبيعتهم كما قدّمناه أخذ ما في أيدي النّاس خاصّة والتّجافي عمّا سوى ذلك من الأحكام بينهم ودفاع بعضهم عن بعض فإذا ملكوا أمّة من الأمم جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في أيديهم وتركوا ما سوى ذلك من الأحكام بينهم وربّما جعلوا العقوبات على المفاسد في الأموال حرصا على تكثير الجبايات وتحصيل الفوائد فلا يكون ذلك وازعا وربّما يكون باعثا بحسب الأغراض الباعثة على المفاسد واستهانة ما يعطي من ماله في جانب غرضه فتنمو المفاسد بذلك ويقع تخريب العمران فتبقى تلك الأمّة كأنّها فوضى مستطيلة أيدي بعضها على بعض فلا يستقيم لها عمران وتخرب سريعا شأن الفوضى كما قدّمناه فبعدت طباع العرب لذلك كلّه عن سياسة الملك وإنّما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم وتبدّلها بصبغة دينيّة تمحو ذلك منهم وتجعل الوازع لهم من أنفسهم وتحملهم على دفاع النّاس بعضهم عن بعض كما ذكرناه واعتبر ذلك بدولتهم في الملّة لمّا شيّد لهم الدّين أمر السّياسة بالشّريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرا وباطنا وتتابع فيها الخلفاء عظم حينئذ ملكهم وقوي سلطانهم.
كان رستم [2] إذا رأى المسلمين يجتمعون للصّلاة يقول أكل عمر كبدي يعلّم الكلاب الآداب ثمّ إنّهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدّولة أجيال نبذوا الدّين فنسوا السّياسة ورجعوا إلى قفرهم وجهلوا شأن عصبيّتهم مع أهل الدّولة ببعدهم عن الانقياد وإعطاء النّصفة فتوحّشوا كما كانوا ولم يبق لهم من اسم الملك إلّا أنّهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم ولمّا ذهب أمر الخلافة وامّحي رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم وغلب عليهم العجم دونهم وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك
__________
[1] عدائهم وهجرانهم.
[2] رستم هو قائد جيوش الفرس في معركة القادسية.

(1/190)


ولا سياسته بل قد يجهل الكثير منهم أنّهم قد كان لهم ملك في القديم وما كان في القديم لأحد من الأمم في الخليقة ما كان لأجيالهم من الملك ودول عاد وثمود والعمالقة وحمير والتّبابعة شاهدة بذلك ثمّ دولة مضر في الإسلام بني أميّة وبني العبّاس لكن بعد عهدهم بالسّياسة لمّا نسوا الدّين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدّول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد فلا يكون ماله وغايته إلّا تخريب ما يستولون عليه من العمران كما قدّمناه وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247.
الفصل التاسع والعشرون في أن البوادي من القبائل والعصائب مغلوبون لأهل الأمصار
قد تقدّم لنا أنّ عمران البادية ناقص عن عمران الحواضر والأمصار لأنّ الأمور الضروريّة في العمران ليس كلّها موجودة لأهل البدو. وإنّما توجد لديهم في مواطنهم أمور الفلح وموادّها معدومة ومعظمها الصّنائع فلا توجد لديهم في الكلّيّة من نجّار وخيّاط وحدّاد وأمثال ذلك ممّا يقيم لهم ضروريّات معاشهم في الفلح وغيره وكذا الدّنانير والدّراهم مفقودة لديهم وإنّما بأيديهم أعواضها من مغلّ الزّراعة وأعيان الحيوان أو فضلاته ألبانا وأوبارا وأشعارا وإهابا ممّا يحتاج إليه أهل الأمصار فيعوّضونهم عنه بالدّنانير والدّراهم إلّا أنّ حاجتهم إلى الأمصار في الضّروريّ وحاجة أهل الأمصار إليهم في الحاجيّ [1] والكماليّ فهم محتاجون إلى الأمصار بطبيعة وجودهم فما داموا في البادية ولم يحصل لهم ملك ولا استيلاء على الأمصار فهم محتاجون إلى أهلها ويتصرّفون في مصالحهم وطاعتهم متى دعوهم إلى ذلك وطالبوهم به وإن كان في المصر ملك كان خضوعهم وطاعتهم لغلب الملك
__________
[1] بمعنى الضروريّ.

(1/191)


وإن لم يكن في المصر ملك فلا بدّ فيه من رئاسة ونوع استبداد من بعض أهله على الباقين وإلّا انتقض عمرانه وذلك الرّئيس يحملهم على طاعته والسّعي في مصالحه إمّا طوعا ببذل المال لهم ثمّ يبدي لهم ما يحتاجون إليه من الضّروريّات في مصره فيستقيم عمرانهم وإمّا كرها إن تمّت قدرته على ذلك ولو بالتّغريب بينهم حتّى يحصل له جانب منهم يغالب به الباقين فيضطرّ الباقون إلى طاعته بما يتوقّعون لذلك من فساد عمرانهم وربّما لا يسعهم مفارقة تلك النّواحي إلى جهات أخرى لأنّ كلّ الجهات معمور بالبدو الّذين غلبوا عليها ومنعوها من غيرها فلا يجد هؤلاء ملجأ إلّا طاعة المصر فهم بالضّرورة مغلوبون لأهل الأمصار والله قاهر فوق عباده وهو الواحد الأحد القهّار.

(1/192)