تاريخ ابن خلدون
الفصل الثامن في أن
عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة
والكثرة
والسّبب في ذلك أنّ الملك إنّما يكون بالعصبيّة وأهل العصبيّة هم
الحامية الّذين ينزلون بممالك الدّولة وأقطارها وينقسمون عليها فما كان
من الدّولة العامّة قبيلها وأهل عصابتها أكثر كانت أقوى وأكثر ممالك
وأوطانا وكان ملكها أوسع لذلك واعتبر ذلك بالدّولة الإسلاميّة لمّا
ألّف الله كلمة العرب على الإسلام وكان عدد المسلمين في غزوة تبوك آخر
غزوات النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مائة ألف وعشرة آلاف من مضر وقحطان
ما بين فارس وراجل إلى من أسلم منهم بعد ذلك إلى الوفاة فلمّا توجّهوا
لطلب ما في أيدي الأمم من الملك لم يكن دونه حمى ولا وزر [1] فاستبيح
حمى فارس والرّوم أهل الدّولتين العظيمتين في العالم لعهدهم والتّرك
بالمشرق والإفرنجة والبربر بالمغرب والقوط بالأندلس وخطوا من الحجاز
إلى السّوس الأقصى ومن اليمن إلى التّرك بأقصى الشّمال واستولوا على
الأقاليم السّبعة ثمّ انظر بعد ذلك دولة صنهاجة والموحّدين مع
العبيديّين قبلهم
__________
[1] المعقل والملجأ (قاموس) .
(1/204)
لمّا كان كتامة القائمين بدولة العبيديّين
أكثر من صنهاجة ومن المصامدة كانت دولتهم أعظم فملكوا إفريقية والمغرب
والشّام ومصر والحجاز ثمّ انظر بعد ذلك دولة زناتة لمّا كان عددهم أقلّ
من المصامدة قصّر ملكهم عن ملك الموحّدين لقصور عددهم عن عدد المصامدة
منذ أوّل أمرهم ثمّ اعتبر بعد ذلك حال الدّولتين لهذا العهد لزناتة بني
مرين وبني عبد الواد، كانت دولتهم أقوى منها وأوسع نطاقا وكان لهم
عليهم الغلب مرّة بعد أخرى. يقال إنّ عدد بني مرين لأوّل ملكهم كان
ثلاثة آلاف وإنّ بني عبد الواد كانوا ألفا إلّا أنّ الدّولة بالرّفه
وكثرة التّابع كثّرت من أعدادهم وعلى هذه النّسبة في أعداد المتغلّبين
لأوّل الملك يكون اتّساع الدّولة وقوّتها وأمّا طول أمدها أيضا فعلى
تلك النّسبة لأنّ عمر الحادث من قوّة مزاجه ومزاج الدّول إنّما هو
بالعصبيّة فإذا كانت العصبيّة قويّة كان المزاج تابعا لها وكان أمد
العمر طويلا والعصبيّة إنّما هي بكثرة العدد ووفوره كما قلناه والسّبب
الصّحيح في ذلك أنّ النّقص إنّما يبدو في الدّولة من الأطراف فإذا كانت
ممالكها كثيرة كانت أطرافها بعيدة عن مركزها وكثيرة وكلّ نقص يقع فلا
بدّ له من زمن فتكثر أزمان النّقص لكثرة الممالك واختصاص كلّ واحد منها
بنقص وزمان فيكون أمدها أطول الدّول لا بنو العبّاس أهل المركز ولا بنو
أميّة المستبدون بالأندلس [1] . ولم ينقص أمر جميعهم إلّا بعد
الأربعمائة من الهجرة ودولة العبيديّين كان أمدها قريبا من مائتين
وثمانين سنة ودولة صنهاجة دونهم من لدن تقليد معزّ الدّولة أمر إفريقية
لبلكين بن زيري في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة إلى حين استيلاء
الموحّدين على القلعة وبجاية سنة سبع وخمسين وخمسمائة ودولة الموحّدين
لهذا العهد تناهز مائتين وسبعين سنة وهكذا نسب الدّول في أعمارها على
نسبة القائمين بها سنّة الله الّتي قد خلت في عباده.
__________
[1] هناك تشويش في معنى العبارة وربما تكون العبارة: يتساوى في ذلك بنو
العباس أهل المركز وبنوا أمية المستبدون بالأندلس.
(1/205)
الفصل التاسع في ان
الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل ان تستحكم فيها دولة
والسّبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء وأنّ وراء كلّ رأي منها وهوى
عصبيّة تمانع دونها فيكثر الانتقاض على الدّولة والخروج عليها في كلّ
وقت وإن كانت ذات عصبيّة لأنّ كلّ عصبيّة ممّن تحت يدها تظنّ في نفسها
منعة وقوّة وانظر ما وقع من ذلك بإفريقيّة والمغرب منذ أوّل الإسلام
ولهذا العهد فإنّ ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيّات فلم
يغن فيهم الغلب الأوّل الّذي كان لابن أبي سرح عليهم وعلى الإفرنجة
شيئا وعاودوا بعد ذلك الثّورة والرّدّة مرّة بعد أخرى وعظم الإثخان [1]
من المسلمين فيهم ولمّا استقرّ الدّين عندهم عادوا إلى الثّورة والخروج
والأخذ بدين الخوارج مرّات عديدة قال ابن أبي زيد ارتدّت البرابرة
بالمغرب اثنتي عشرة مرّة ولم تستقرّ كلمة الإسلام فيهم إلّا لعهد ولاية
موسى بن نصير فما بعده وهذا معنى ما ينقل عن عمر أنّ إفريقة مفرّقة
لقلوب أهلها إشارة إلى ما فيها من كثرة العصائب والقبائل الحاملة لهم
على عدم الإذعان والانقياد ولم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصّفة ولا
الشّام إنّما كانت حاميتها من فارس والرّوم والكافّة دهماء أهل مدن
وأمصار فلمّا غلبهم المسلمون على الأمر وانتزعوه من أيديهم لم يبق فيها
ممانع ولا مشاقّ [2] والبربر قبائلهم بالمغرب أكثر من أن تحصى وكلّهم
بادية وأهل عصائب وعشائر وكلّما هلكت قبيلة عادت الأخرى مكانها وإلى
دينها من الخلاف والرّدّة فطال أمر العرب في تمهيد الدّولة بوطن
إفريقية والمغرب وكذلك كان الأمر بالشّام لعهد بني إسرائيل كان فيه من
__________
[1] اثخن في العدو: أكثر في القتل والجرح وورد في الآية 67 من سورة
الأنفال «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ
في الْأَرْضِ 8: 67» .
[2] مخالف وفي الآية 4 من سورة الحشر «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا الله
وَرَسُولَهُ 59: 4» .
(1/206)
قبائل فلسطين وكنعان وبني عيصو وبني مدين
وبني لوط والرّوم واليونان والعمالقة وأكريكش والنّبط من جانب الجزيرة
والموصل ما لا يحصى كثرة وتنوّعا في العصبيّة فصعب على بني إسرائيل
تمهيد دولتهم ورسوخ أمرهم واضطرب عليهم الملك مرّة بعد أخرى وسرى ذلك
الخلاف إليهم فاختلفوا على سلطانهم وخرجوا عليه ولم يكن لهم ملك موطّد
سائر أيّامهم إلى أن غلبهم الفرس ثمّ يونان ثمّ الرّوم آخر أمرهم عند
الجلاء والله غالب على أمره وبعكس هذا أيضا الأوطان الخالية من
العصبيّات يسهل تمهيد الدّولة فيها ويكون سلطانها وازعا لقلّة الهرج
والانتقاض ولا تحتاج الدّولة فيها إلى كثير من العصبيّة كما هو الشّأن
في مصر والشّام لهذا العهد إذ هي خلو من القبائل والعصبيّات كأن لم يكن
الشّام معدنا لهم كما قلناه فملك مصر في غاية الدّعة والرّسوخ لقلّة
الخوارج وأهل العصائب إنّما هو سلطان ورعيّة ودولتها قائمة بملوك
التّرك وعصائبهم يغلبون على الأمر واحدا بعد واحد وينتقل الأمر فيهم من
منبت إلى منبت والخلافة مسمّاة للعبّاسيّ من أعقاب الخلفاء ببغداد وكذا
شأن الأندلس لهذا العهد فإنّ عصبيّة ابن الأحمر سلطانها لم تكن لأوّل
دولتهم بقويّة ولا كانت كرّات [1] إنّما يكون أهل بيت من بيوت العرب
أهل الدّولة الأمويّة بقوا من ذلك القلّة وذلك أنّ أهل الأندلس لمّا
انقرضت الدّولة العربيّة منهم وملكهم البربر من لمتونة والموحّدين
سئموا ملكتهم وثقلت وطأتهم عليهم فأشربت القلوب بغضائهم وأمكن
الموحّدون والسّادة في آخر الدّولة كثيرا من الحصون للطّاغية [2] في
سبيل الاستظهار به على شأنهم من تملّك الحضرة مراكش فاجتمع من كان بقي
بها من أهل العصبيّة القديمة معادن من بيوت العرب تجافى بهم المنبت عن
الحاضرة والأمصار بعض الشّيء ورسخوا في العصبيّة مثل ابن هود وابن
الأحمر وابن مردنيش وأمثالهم فقام ابن هود بالأمر ودعا بدعوة الخلافة
العبّاسيّة بالمشرق وحمل النّاس على الخروج
__________
[1] متتالية ومتتابعة.
[2] الاسم الّذي أطلقه عرب الأندلس على ملك الفرنج في البرتغال
وقشتالة.
(1/207)
على الموحّدين فنبذوا إليهم العهد وأخرجوهم
واستقلّ ابن هود بالأمر في الأندلس ثمّ سما ابن الأحمر للأمر وخالف ابن
هود في دعوته فدعا هؤلاء لابن أبي حفص صاحب إفريقية من الموحّدين وقام
بالأمر وتناوله بعصابة قريبة من قرابته كانوا يسمّون الرّؤساء ولم يحتج
لأكثر منهم لقلّة العصائب بالأندلس وإنّها سلطان ورعيّة ثمّ استظهر بعد
ذلك على الطّاغية بمن يجيز إليه البحر من أعياص زناتة فصاروا معه عصبة
على المثاغرة والرّبّاط ثمّ سما لصاحب من ملوك زناتة أمل في الاستيلاء
على الأندلس فصار أولئك الأعياص عصابة ابن الأحمر على الامتناع منه إلى
أن تأثّل [1] أمره ورسخ وألفته النّفوس وعجز النّاس عن مطالبته وورثه
أعقابه لهذا العهد فلا تظنّ أنّه بغير عصابة فليس كذلك وقد كان مبدؤه
بعصابة إلّا أنّها قليلة وعلى قدر الحاجة فإنّ قطر الأندلس لقلّة
العصائب والقبائل فيه يغني عن كثرة العصبيّة في التّغلّب عليهم والله
غنيّ عن العالمين.
الفصل العاشر في ان من طبيعة الملك
الانفراد بالمجد
وذلك أنّ الملك كما قدّمناه إنّما هو بالعصبيّة والعصبيّة متألّفة من
عصبات كثيرة تكون واحدة منها أقوى من الأخرى كلّها فتغلبها وتستولي
عليها حتّى تصيّرها جميعا في ضمنها وبذلك يكون الاجتماع والغلب على
النّاس والدّول وسرّه أنّ العصبيّة العامّة للقبيل هي مثل المزاج
للمتكوّن والمزاج إنّما يكون عن العناصر وقد تبيّن في موضعه أنّ
العناصر إذا اجتمعت متكافئة فلا يقع منها مزاج أصلا بل لا بدّ من أن
تكون واحدة منها هي الغالبة على الكلّ حتّى تجمعها وتؤلّفها وتصيّرها
عصبيّة واحدة شاملة لجميع العصائب وهي موجودة في ضمنها
__________
[1] ترسخ وتأصّل.
(1/208)
وتلك العصبيّة الكبرى إنّما تكون لقوم أهل
بيت ورئاسة فيهم، ولا بدّ من أن يكون واحد منهم رئيسا لهم غالبا عليهم
فيتعيّن رئيسا للعصبيّات كلّها لغلب منبته لجميعها وإذا تعيّن له ذلك
فمن الطّبيعة الحيوانيّة خلق الكبر والأنفة فيأنف حينئذ من المساهمة
والمشاركة في استتباعهم والتّحكّم فيهم ويجيء خلق التّألّه الّذي في
طباع البشر مع ما تقتضيه السّياسة من انفراد الحاكم لفساد الكلّ
باختلاف الحكّام «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا
21: 22» [1] فتجدع حينئذ أنوف العصبيّات وتفلح شكائمهم عن أن يسموا إلى
مشاركته في التّحكّم وتقرع عصبيّتهم عن ذلك وينفرد به ما استطاع حتّى
لا يترك لأحد منهم في الأمر لا ناقة ولا جملا فينفرد بذلك المجد
بكلّيّته ويدفعهم عن مساهمته وقد يتمّ ذلك للأوّل من ملوك الدّولة وقد
لا يتمّ إلّا للثّاني والثّالث على قدر ممانعة العصبيّات وقوّتها إلّا
أنّه أمر لا بدّ منه في الدّول سنّة الله الّتي قد خلت في عباده والله
تعالى أعلم.
الفصل الحادي عشر في ان من طبيعة الملك
الترف
وذلك أنّ الأمّة إذا تغلّبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها
ونعمتها فتكثر عوائدهم ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله
ورقّته وزينته ويذهبون إلى اتّباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم وتصير
لتلك النّوافل عوائد ضروريّة في تحصيلها وينزعون مع ذلك إلى رقّة
الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والآنية ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون
فيه غيرهم من الأمم في أكل الطّيّب ولبس الأنيق وركوب الفاره [2]
ويناغي خلفهم في ذلك سلفهم إلى آخر الدّولة وعلى قدر ملكهم يكون حظّهم
من ذلك وترفهم فيه إلى أن يبلغوا من ذلك
__________
[1] سورة الأنبياء الآية 22.
[2] الفارة في الفرس والبرذون والحمار: الجيد السير.
(1/209)
الغاية الّتي للدّولة إلى أن تبلغها بحسب قوّتها وعوائد من قبلها سنّة
الله في خلقه والله تعالى أعلم.
الفصل الثاني عشر في ان من طبيعة الملك
الدعة والسكون
وذلك أنّ الأمّة لا يحصل لها الملك إلّا بالمطالبة والمطالبة غايتها
الغلب والملك وإذا حصلت الغاية انقضى السّعي إليها (قال الشاعر)
عجبت لسعي الدّهر بيني وبينها ... فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدّهر
فإذا حصل الملك أقصروا عن المتاعب الّتي كانوا يتكلفونها في طلبه
وآثروا الرّاحة والسّكون والدّعة ورجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من
المباني والمساكن والملابس فيبنون القصور ويجرون المياه ويغرسون
الرّياض ويستمتعون بأحوال الدّنيا ويؤثرون الرّاحة على المتاعب
ويتأنّقون في أحوال الملابس والمطاعم والآنية والفرش ما استطاعوا
ويألفون ذلك ويورثونه من بعدهم من أجيالهم ولا يزال ذلك يتزايد فيهم
إلى أن يتأذّن الله بأمره وهو خير الحاكمين والله تعالى أعلم. |