تاريخ ابن خلدون

الفصل الرابع في أن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين اما من نبوة أو دعوة حق
وذلك لأنّ الملك إنّما يحصل بالتّغلّب والتّغلّب إنّما يكون بالعصبيّة واتّفاق الأهواء على المطالبة وجمع القلوب وتأليفها إنّما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه قال تعالى «لَوْ أَنْفَقْتَ ما في الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ 8: 63» وسرّه أنّ

(1/197)


القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدّنيا حصل التّنافس وفشا الخلاف وإذا انصرفت إلى الحقّ ورفضت الدّنيا والباطل وأقبلت على الله اتّحدت وجهتها فذهب التّنافس وقلّ الخلاف وحسن التّعاون والتّعاضد واتّسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدّولة كما نبيّن لك بعد إن شاء الله سبحانه وتعالى وبه التّوفيق لا ربّ سواه.
الفصل الخامس في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها
والسّبب في ذلك كما قدّمناه أنّ الصّبغة الدّينيّة تذهب بالتنافس والتّحاسد الّذي في أهل العصبيّة وتفرد الوجهة إلى الحقّ فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأنّ الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وهم مستميتون عليه وأهل الدّولة الّتي هم طالبوها وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل وتخاذلهم لتقيّة الموت حاصل فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعاجلهم الفناء بما فيهم من التّرف والذّلّ كما قدّمناه وهذا كما وقع للعرب صدر الإسلام في الفتوحات فكانت جيوش المسلمين بالقادسيّة واليرموك بضعة وثلاثين ألفا في كلّ معسكر وجموع فارس مائة وعشرين ألفا بالقادسيّة وجموع هرقل على ما قاله الواقديّ أربعمائة ألف فلم يقف للعرب أحد من الجانبين وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم واعتبر ذلك أيضا في دولة لمتونة ودولة الموحّدين فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممّن يقاومهم في العدد والعصبيّة أو يشفّ [1] عليهم إلّا أنّ الاجتماع الدّينيّ ضاعف قوّة عصبيّتهم بالاستبصار
__________
[1] يشفّ: يزيد.

(1/198)


والاستماتة كما قلناه فلم يقف لهم شيء واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدّين وفسدت كيف ينتقض الأمر ويصير الغلب على نسبة العصبيّة وحدها دون زيادة الدّين فتغلب الدّولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزّائدة القوّة عليها الّذين غلبتهم بمضاعفة الدّين لقوّتها ولو كانوا أكثر عصبيّة منها وأشدّ بداوة واعتبر هذا في الموحّدين مع زناتة لمّا كانت زناتة أبدى [1] من المصامدة وأشدّ توحّشا وكان للمصامدة الدّعوة الدّينيّة باتّباع المهديّ فلبسوا صبغتها وتضاعفت قوّة عصبيّتهم بها فغلبوا على زناتة أوّلا واستتبعوهم وإن كانوا من حيث العصبيّة والبداوة أشدّ منهم فلمّا خلوا من تلك الصّبغة الدّينيّة انتقضت عليهم زناتة من كلّ جانب وغلبوهم على الأمر وانتزعوه منهم وَالله غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ 12: 21.
الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم
وهذا لما قدّمناه من أنّ كلّ أمر تحمل عليه الكافّة فلا بدّ له من العصبيّة وفي الحديث الصّحيح كما مرّ «ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى النّاس بخرق العوائد فما ظنّك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبيّة وقد وقع هذا لابن قسيّ شيخ الصّوفية وصاحب كتاب خلع النّعلين في التّصوّف ثار بالأندلس داعيا إلى الحقّ وسمّي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهديّ فاستتبّ له الأمر قليلا لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحّدين ولم تكن هناك عصائب ولا قبائل يدفعونه عن شأنه فلم يلبث حين استولى الموحّدون على المغرب أن أذعن لهم ودخل في دعوتهم وتابعهم من معقلة
__________
[1] أبدى: من البداوة وأبدى أفعل التفضيل من بدا ومعناها أشد بداوة.

(1/199)


بحصن أركش [1] وأمكنهم من ثغره وكان أوّل داعية لهم بالأندلس وكانت ثورته تسمّى ثورة المرابطين ومن هذا الباب أحوال الثّوّار القائمين بتغيير المنكر من العامّة والفقهاء فإنّ كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدّين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنّهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثّواب عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتلثلثون [2] بهم من الغوغاء والدّهماء ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في هذا السّبيل مأزورين [3] غير مأجورين لأنّ الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم وإنّما أمر به حيث تكون القدرة عليه قال صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» وأحوال الملوك والدّول راسخة قويّة لا يزحزحها ويهدم بناءها إلّا المطالبة القويّة الّتي من ورائها عصبيّة القبائل والعشائر كما قدّمناه وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيّدون من الله بالكون كلّه لو شاء، لكنّه إنّما أجرى الأمور على مستقرّ العادة والله حكيم عليم فإذا ذهب أحد من النّاس هذا المذهب وكان فيه محقّا قصّر به الانفراد عن العصبيّة فطاح في هوّة الهلاك وأمّا إن كان من المتلبّسين بذلك في طلب الرّئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك لأنّه أمر الله لا يتمّ إلّا برضاه وإعانته والإخلاص له والنّصيحة للمسلمين ولا يشكّ في ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة وأوّل ابتداء هذه النّزعة في الملّة ببغداد حين وقعت فتنة طاهر [4] وقتل الأمين وأبطأ المأمون بخراسان عن مقدّم العراق ثمّ عهد لعليّ بن موسى الرّضى من آل الحسين فكشف بنو العبّاس عن
__________
[1] لم نعثر على حصن اركش في معجم البلدان وكذلك في المراجع التي بين أيدينا وربما هناك تحريف بالاسم وهو حصن اركون، وهو حصن منيع في الأندلس وموقعه ينسجم مع سياق الحديث عن المرابطين بالأندلس.
[2] وفي بعض النسخ المتشبثون.
[3] الأصح موزورين.
[4] هو طاهر بن الحسين، كان قائدا لجيش المأمون زمن الخلاف بين الأخوين الأمين والمأمون وقد خرج أيام الأمين.

(1/200)


وجه النّكير عليه وتداعوا للقيام وخلع طاعة المأمون والاستبدال منه وبويع إبراهيم بن المهديّ فوقع الهرج [1] ببغداد وانطلقت أيدي الزّعرة [2] بها من الشّطّار [3] والحربيّة [4] على أهل العافية والصّون وقطعوا السّبيل وامتلأت أيديهم من نهاب النّاس وباعوها علانية في الأسواق واستعدى [5] أهلها الحكّام فلم يعدوهم فتوافر أهل الدّين والصّلاح على منع الفسّاق وكفّ عاديتهم وقام ببغداد رجل يعرف بخالد الدّريوش ودعا النّاس إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فأجابه خلق وقاتل أهل الزّعارة فغلبهم وأطلق يده فيهم بالضّرب والتّنكيل ثمّ قام من بعده رجل آخر من سواد أهل بغداد يعرف بسهل بن سلامة الأنصاريّ ويكنى أبا حاتم وعلّق مصحفا في عنقه ودعا النّاس إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم فاتّبعه النّاس كافّة من بين شريف ووضيع من بني هاشم فمن دونهم ونزل قصر طاهر واتّخذ الدّيوان وطاف ببغداد ومنع كلّ من أخاف المارّة ومنع الخفارة [6] لأولئك الشّطّار وقال له خالد الدّريوش أنا لا أعيب على السّلطان فقال له سهل لكني أقاتل كلّ من خالف الكتاب والسّنّة كائنا من كان وذلك سنة إحدى ومائتين وجهّز له إبراهيم بن المهديّ العساكر فغلبه وأسره وانحلّ أمره سريعا وذهب ونجا بنفسه ثمّ اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحقّ ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبيّة ولا يشعرون بمغبّة أمرهم ومآل أحوالهم والّذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إمّا المداواة إن كانوا من أهل الجنون وإمّا التّنكيل بالقتل أو الضّرب إن أحدثوا هرجا وإمّا إذاعة السّخريّة منهم وعدّهم من جملة
__________
[1] الفتنة.
[2] الزعرة ج زعر وفي العامية ازعر وزعران وهم ذوي الأخلاق السيئة. (قاموس) .
[3] اللصوص والمجرمين.
[4] هو نهب مال الإنسان بأجمعه. وفي الحديث الحارب الميشلح أي الغاصب الناهب، الّذي يعرّي الناس ثيابهم.
[5] طلب النجدة والعون.
[6] المحافظة أي منع المحافظة عليهم.

(1/201)


الصّفّاعين [1] وقد ينتسب بعضهم إلى الفاطميّ المنتظر إمّا بأنّه هو أو بأنّه داع له وليس مع ذلك على علم من أمر الفاطميّ ولا ما هو وأكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبّسين يطلبون بمثل هذه الدّعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم وعجزوا عن التّوصّل إليها بشيء من أسبابها العاديّة فيحسبون أنّ هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤمّلونه من ذلك ولا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة وتسوء عاقبة مكرهم وقد كان لأوّل هذه المائة خرج بالسّوس رجل من المتصوّفة يدعى التّويذريّ عمد إلى مسجد ماسة بساحل البحر هناك وزعم أنّه الفاطميّ المنتظر تلبيسا على العامّة هنالك بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك وأنّ من ذلك المسجد يكون أصل دعوته فتهافتت عليه طوائف من عامّة البربر تهافت الفراش ثمّ خشي رؤساؤهم اتّساع نطاق الفتنة فدسّ إليه كبير المصامدة يومئذ عمر السّكسيويّ من قتله في فراشه وكذلك خرج في غماره أيضا لأوّل هذه المائة رجل يعرف بالعبّاس وادّعى مثل هذه الدّعوة واتّبع نعيقه الأرذلون من سفهاء تلك القبائل وأعمارهم [2] وزحف إلى بادس من أمصارهم ودخلها عنوة. ثمّ قتل لأربعين يوما من ظهور دعوته ومضى في الهالكين الأوّلين وأمثال ذلك كثير والغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبيّة في مثلها وأمّا إن كان التّلبيس فأحرى أن لا يتمّ له أمر وأن يبوء بإثمه وذلك جزاء الظّالمين والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق لا ربّ غيره ولا معبود سواه.
الفصل السابع في أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها
والسّبب في ذلك أنّ عصابة الدّولة وقومها القائمين بها الممهّدين لها لا بدّ
__________
[1] الكذابين.
[2] اغمارهم: احداثهم الذين لم يفقهوا الأمور بعد.

(1/202)


من توزيعهم حصصا على الممالك والثّغور الّتي تصير إليهم ويستولون عليها لحمايتها من العدوّ وإمضاء أحكام الدّولة فيها من جباية وردع وغير ذلك فإذا توزّعت العصائب كلّها على الثّغور والممالك فلا بدّ من نفاد عددها وقد بلغت الممالك حينئذ إلى حدّ يكون ثغرا للدّولة وتخما لوطنها ونطاقا لمركز ملكها فإن تكفّلت الدّولة بعد ذلك زيادة على ما بيدها بقي دون حامية وكان موضعا لانتهاز الفرصة من العدوّ والمجاور ويعود وبال ذلك على الدّولة بما يكون فيه من التّجاسر وخرق سياج الهيبة وما كانت العصابة موفورة ولم ينفد عددها في توزيع الحصص على الثّغور والنّواحي بقي في الدّولة قوّة على تناول ما وراء الغاية حتّى ينفسح نطاقها إلى غايته والعلّة الطّبيعيّة في ذلك هي قوّة العصبيّة من سائر القوى الطّبيعيّة وكلّ قوّة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها والدّولة في مركزها أشدّ ممّا يكون في الطّرف والنّطاق وإذا انتهت إلى النّطاق الّذي هو الغاية عجزت وأقصرت عمّا وراءه شأن الأشعّة والأنوار إذا انبعثت من المراكز والدّوائر المنفسحة على سطح الماء من النّقر عليه ثمّ إذا أدركها الهرم والضّعف فإنّما تأخذ في التّناقص من جهة الأطراف ولا يزال المركز محفوظا إلى أن يتأذّن الله بانقراض الأمر جملة فحينئذ يكون انقراض المركز وإذا غلب على الدّولة من مركزها فلا ينفعها بقاء الأطراف والنّطاق بل تضمحلّ لوقتها فإنّ المركز كالقلب الّذي تنبعث منه الرّوح فإذا غلب على القلب وملك انهزم جميع الأطراف وانظر هذا في الدّولة الفارسيّة كان مركزها المدائن فلمّا غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع ولم ينفع يزدجرد ما بقي بيده من أطراف ممالكه وبالعكس من ذلك الدّولة الرّوميّة بالشّام لمّا كان مركزها القسطنطينيّة وغلبهم المسلمون بالشّام تحيّزوا إلى مركزهم بالقسطنطينيّة ولم يضرّهم انتزاع الشّام من أيديهم فلم يزل ملكهم متّصلا بها إلى أن تأذّن الله بانقراضه وانظر أيضا شأن العرب أوّل الإسلام لمّا كانت عصائبهم موفورة كيف غلبوا على ما جاورهم من الشّام والعراق

(1/203)


ومصر لأسرع وقت ثمّ تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السّند والحبشة وإفريقية والمغرب ثمّ إلى الأندلس فلمّا تفرّقوا حصصا على الممالك والثّغور ونزلوها حامية ونفد عددهم في تلك التّوزيعات أقصروا عن الفتوحات بعد وانتهى أمر الإسلام ولم يتجاوز تلك الحدود ومنها تراجعت الدّولة حتّى تأذّن الله بانقراضها وكذا كان حال الدّول من بعد ذلك كلّ دولة على نسبة القائمين بها في القلّة والكثرة وعند نفاد عددهم بالتّوزيع ينقطع لهم الفتح والاستيلاء سنّة الله في خلقه.