تاريخ ابن خلدون
الفصل الخامس
والعشرون في معنى الخلافة والإمامة
لمّا كانت حقيقة الملك أنّه الاجتماع الضّروريّ للبشر ومقتضاه التّغلّب
والقهر اللّذان هما من آثار الغضب والحيوانيّة كانت أحكام صاحبه في
الغالب جائزة عن الحقّ مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم
لحملة إيّاهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته ويختلف
ذلك باختلاف
(1/237)
المقاصد من الخلف والسّلف منهم فتعسر طاعته
لذلك وتجيء العصبيّة المفضية إلى الهرج والقتل فوجب أن يرجع في ذلك إلى
قوانين سياسيّة مفروضة يسلّمها الكافّة وينقادون إلى أحكامها كما كان
ذلك للفرس وغيرهم من الأمم وإذا خلت الدّولة من مثل هذه السّياسة لم
يستتبّ أمرها ولم يتمّ استيلاؤها «سنّة الله في الّذين خلوا من قبل» .
فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدّولة وبصرائها
كانت سياسة عقليّة وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقرّرها ويشرّعها
كانت سياسة دينيّة نافعة في الحياة الدّنيا وفي الآخرة وذلك أنّ الخلق
ليس المقصود بهم دنياهم فقط فإنّها كلّها عبث وباطل إذ غايتها الموت
والفناء، والله يقول «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً 23:
115» فالمقصود بهم إنّما هو دينهم المفضي بهم إلى السّعادة في آخرتهم
«صِراطِ الله الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ 42:
53» فجاءت الشّرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة
حتّى في الملك الّذي هو طبيعيّ للاجتماع الإنسانيّ فأجرته على منهاج
الدّين ليكون الكلّ محوطا بنظر الشّارع. فما كان منه بمقتضى القهر
والتّغلّب وإهمال القوّة العصبيّة في مرعاها فجور وعدوان ومذموم عنده
كما هو مقتضى الحكمة السّياسيّة وما كان منه بمقتضى السّياسة وأحكامها
فمذموم أيضا لأنّه نظر بغير نور الله «وَمن لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ
نُوراً فَما لَهُ من نُورٍ 24: 40» لأنّ الشّارع أعلم بمصالح الكافّة
فيما هو مغيّب عنهم من أمور آخرتهم وأعمال البشر كلّها عائدة عليهم في
معادهم من ملك أو غيره قال صلّى الله عليه وسلّم «إنّما هي أعمالكم
تردّ عليكم» وأحكام السّياسة إنّما تطلع على مصالح الدّنيا فقط
«يَعْلَمُونَ ظاهِراً من الْحَياةِ الدُّنْيا 30: 7» ، ومقصود الشّارع
بالنّاس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشّرائع حمل الكافّة على الأحكام
الشّرعيّة في أحوال دنياهم وآخرتهم وكان هذا الحكم لأهل الشّريعة وهم
الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء فقد تبيّن لك من ذلك معنى
الخلافة وأنّ الملك الطّبيعيّ هو حمل الكافّة على مقتضى الغرض والشّهوة
والسّياسيّ هو حمل الكافّة على مقتضى
(1/238)
النّظر العقليّ في جلب المصالح الدّنيويّة
ودفع المضارّ والخلافة هي حمل الكافّة على مقتضى النّظر الشّرعي في
مصالحهم الأخرويّة والدّنيويّة الرّاجعة إليها إذ أحوال الدّنيا ترجع
كلّها عند الشّارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن
صاحب الشّرع في حراسة الدّين وسياسة الدّنيا به فافهم ذلك واعتبره فيما
نورده عليك من بعد والله الحكيم العليم.
الفصل السادس والعشرون في اختلاف الأمة في
حكم هذا المنصب وشروطه
وإذ قد بيّنّا حقيقة هذا المنصب وأنّه نيابة عن صاحب الشّريعة في حفظ
الدّين وسياسة الدّنيا به تسمّى خلافة وإمامة والقائم به خليفة وإماما
فأمّا تسميته إماما فتشبيها بإمام الصّلاة في اتّباعه والاقتداء به
ولهذا يقال الإمامة الكبرى وأمّا تسميته خليفة فلكونه يخلف النّبيّ في
أمّته فيقال خليفة بإطلاق وخليفة رسول الله واختلف في تسميته خليفة
الله فأجازه بعضهم اقتباسا من الخلافة العامّة الّتي للآدميّين في قوله
تعالى «إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً 2: 30» وقوله «جَعَلَكُمْ
خَلائِفَ الْأَرْضِ 6: 165» .
ومنع الجمهور منه لأنّ معنى الآية ليس عليه وقد نهى أبو بكر عنه لمّا
دعي به وقال: «لست خليفة الله ولكنّي خليفة رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم» ولأنّ الاستخلاف إنّما هو في حقّ الغائب وأمّا الحاضر فلا. ثمّ
إنّ نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشّرع بإجماع الصّحابة
والتّابعين لأنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند وفاته
بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النّظر إليه في أمورهم
وكذا في كلّ عصر من بعد ذلك ولم تترك النّاس فوضى في عصر من الأعصار
واستقرّ ذلك
(1/239)
إجماعا دالا على وجوب نصب الإمام. وقد ذهب
بعض النّاس إلى أنّ مدرك وجوبه العقل، وأنّ الإجماع الّذي وقع إنّما هو
قضاء بحكم العقل فيه.
قالوا وإنّما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر واستحالة حياتهم
ووجودهم منفردين ومن ضرورة الاجتماع التّنازع لازدحام الأغراض. فما لم
يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر وانقطاعهم مع
أنّ حفظ النّوع من مقاصد الشّرع الضّروريّة وهذا المعنى بعينه هو الّذي
لحظه الحكماء في وجوب النّبوءات في البشر وقد نبّهنا على فساده وأنّ
إحدى مقدّماته أنّ الوازع إنّما يكون بشرع من الله تسلّم له الكافّة
تسليم إيمان واعتقاد وهو غير مسلّم لأنّ الوازع قد يكون بسطوة الملك
وقهر أهل الشّوكة ولو لم يكن شرع كما في أمم المجوس وغيرهم ممّن ليس له
كتاب أو لم تبلغه الدّعوة أو نقول يكفي في رفع التّنازع معرفة كلّ واحد
بتحريم الظّلم عليه بحكم العقل فادّعاؤهم أنّ ارتفاع التّنازع إنّما
يكون بوجود الشّرع هناك ونصب الإمام هنا غير صحيح بل كما يكون بنصب
الإمام يكون بوجود الرّؤساء أهل الشّوكة أو بامتناع النّاس عن التّنازع
والتّظالم فلا ينهض دليلهم العقليّ المبنيّ على هذه المقدّمة فدلّ على
أنّ مدرك وجوبه إنّما هو بالشّرع وهو الإجماع الّذي قدّمناه.
وقد شذّ بعض النّاس فقال بعدم وجوب هذا النّصب رأسا لا بالعقل ولا
بالشّرع منهم الأصمّ من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم، والواجب عند
هؤلاء إنّما هو إمضاء الحكم الشّرع فإذا تواطأت الأمّة على العدل
وتنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام ولا يجب نصبه وهؤلاء محجوجون
بالإجماع. والّذي حملهم على هذا المذهب إنّما هو الفرار عن الملك
ومذاهبه من الاستطالة والتّغلّب والاستمتاع بالدّنيا لمّا رأوا
الشّريعة ممتلئة بذمّ ذلك والنّعي على أهله ومرغّبة في رفضه. واعلم أنّ
الشّرع لم يذمّ الملك لذاته ولا حظر القيام به وإنّما ذمّ المفاسد
النّاشئة عنه من القهر والظّلم والتّمتّع باللّذات ولا شكّ أنّ في هذه
مفاسد محظورة
(1/240)
وهي من توابعه كما أثنى على العدل والنّصفة
وإقامة مراسم الدّين والذّبّ عنه وأوجب بإزائها الثّواب وهي كلّها من
توابع الملك.
فإذا إنّما وقع الذّمّ للملك على صفة وحال دون حال أخرى ولم يذمّه
لذاته ولا طلب تركه كما ذمّ الشّهوة والغضب من المكلّفين وليس مراده
تركهما بالكلّيّة لدعاية الضّرورة إليها وأمّا المراد تصريفهما على
مقتضى الحقّ وقد كان لداود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما الملك
الّذي لم يكن لغيرهما وهما من أنبياء الله تعالى وأكرم الخلق عنده ثمّ
نقول لهم إنّ هذا الفرار عن الملك بعدم وجوب هذا النّصب [1] لا يغنيكم
شيئا لأنّكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشّريعة وذلك لا يحصل إلّا
بالعصبيّة والشّوكة والعصبيّة مقتضية بطبعها للملك فيحصل الملك وإن لم
ينصّب إمام وهو عين ما قرّرتم عنه. وإذا تقرّر أنّ هذا النّصب واجب
بإجماع فهو من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار أهل العقد والحلّ فيتعيّن
عليهم نصبه ويجب على الخلق جميعا طاعته لقوله تعالى «أَطِيعُوا الله
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ 4: 59» .
وأمّا شروط هذا المنصب فهي أربعة: العلم والعدالة والكفاية وسلامة
الحواسّ والأعضاء ممّا يؤثّر في الرّأي والعمل واختلف في شرط خامس وهو
النّسب القرشيّ فأمّا اشتراط العلم فظاهر لأنّه إنّما يكون منفّذا
لأحكام الله تعالى إذا كان عالما بها وما لم يعلمها لا يصحّ تقديمه لها
ولا يكفي من العلم إلّا أن يكون مجتهدا لأنّ التّقليد نقص والإمامة
تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال وأمّا العدالة فلأنّه منصب دينيّ
ينظر في سائر المناصب الّتي هي شرط فيها فكان أولى باشتراطها فيه.
ولا خلاف في انتفاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات
وأمثالها وفي انتفائها بالبدع الاعتقاديّة خلاف.
__________
[1] أي نصب الامام.
(1/241)
وأمّا الكفاية فهو أن يكون جريئا على إقامة
الحدود واقتحام الحروب بصيرا بها كفيلا يحمل النّاس عليها عارفا
بالعصبيّة وأحوال الدّهاء قويّا على معاناة السّياسة ليصحّ له بذلك ما
جعل إليه من حماية الدّين وجهاد العدوّ وإقامة الأحكام وتدبير المصالح.
وأمّا سلامة الحواسّ والأعضاء من النّقص والعطلة [1] كالجنون والعمى
والصّمم والخرس وما يؤثّر فقده من الأعضاء في العمل كفقد اليدين
والرّجلين والأنثيين فتشترط السّلامة منها كلّها لتأثير ذلك في تمام
عمله وقيامه بما جعل إليه وإن كان إنّما يشين في المنظر فقط كفقد إحدى
هذه الأعضاء فشرط السّلامة منه شرط كمال ويلحق بفقدان الأعضاء المنع من
التّصرّف وهو ضربان ضرب يلحق بهذه في اشتراط السّلامة منه شرط وجوب وهو
القهر والعجز عن التّصرّف جملة بالأسر وشبهه وضرب لا يلحق بهذه وهو
الحجر باستيلاء بعض أعوانه عليه من غير عصيان ولا مشاقّة فينتقل النّظر
في حال هذا المستولي فإن جرى على حكم الدّين والعدل وحميد السّياسة جاز
قراره وإلّا استنصر المسلمون بمن يقبض يده عن ذلك ويدفع علّته حتّى
ينفّذ فعل الخليفة.
وأمّا النّسب القرشيّ فلإجماع الصّحابة يوم السّقيفة على ذلك واحتجّت
قريش على الأنصار لمّا همّوا يومئذ ببيعة سعد بن عبّادة وقالوا «منّا
أمير ومنكم أمير» بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الأئمّة من قريش» وبأنّ
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أوصانا بأن نحسن إلى محسنكم ونتجاوز عن
مسيئكم ولو كانت الإمارة فيكم لم تكن الوصيّة بكم فحجّوا الأنصار
ورجعوا عن قولهم «منّا أمير ومنكم أمير» وعدلوا عمّا كانوا همّوا به من
بيعة سعد لذلك. وثبت أيضا في الصّحيح «لا يزال هذا الأمر في هذا الحيّ
من قريش» وأمثال هذه الأدلّة كثيرة إلّا أنّه لمّا ضعف أمر قريش وتلاشت
__________
[1] تعطل الرجل إذا بقي لا عمل له والاسم العطلة وفلان ذو عطلة إذا لم
تكن له صنعة يمارسها (لسان العرب) وقد استعملها ابن خلدون بمعنى فقد
الحواس أو تعطيلها.
(1/242)
عصبيّتهم بما نالهم من التّرف والنّعيم
وبما أنفقتهم الدّولة في سائر أقطار الأرض عجزوا بذلك عن حمل الخلافة
وتغلّبت عليهم الأعاجم وصار الحلّ والعقد لهم فاشتبه ذلك على كثير من
المحقّقين حتّى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشيّة وعوّلوا على ظواهر في
ذلك، مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم «اسمعوا وأطيعوا وإن ولّي عليكم
عبد حبشيّ ذو زبيبة» وهذا لا تقوم به حجّة في ذلك فإنّه خرج مخرج
التّمثيل والغرض للمبالغة في إيجاب السّمع والطّاعة ومثل قول عمر «لو
كان سالم مولى حذيفة حيّا لولّيته أو لما دخلتني فيه الظّنّة» وهو أيضا
لا يفيد ذلك لما علمت أنّ مذهب الصّحابيّ ليس بحجّة وأيضا فمولى القوم
منهم وعصبيّة الولاء حاصلة لسالم في قريش وهي الفائدة في اشتراط النّسب
ولمّا استعظم عمر أمر الخلافة ورأى شروطها كأنّها مفقودة في ظنّه عدل
إلى سالم لتوفّر شروط الخلافة عنده فيه حتّى من النّسب المفيد للعصبيّة
كما نذكر ولم يبق إلّا صراحة النّسب فرآه غير محتاج إليه إذ الفائدة في
النّسب إنّما هي العصبيّة وهي حاصلة من الولاء فكان ذلك حرصا من عمر
رضي الله عنه على النّظر للمسلمين وتقليد أمرهم لمن لا تلحقه فيه لائمة
ولا عليه فيه عهدة.
ومن القائلين بنفي اشتراط القرشيّة القاضي أبو بكر الباقلانيّ لمّا
أدرك عليه عصبيّة قريش من التّلاشي والاضمحلال واستبداد ملوك العجم من
الخلفاء فأسقط شرط القرشيّة وإن كان موافقا لرأي الخوارج لما رأى عليه
حال الخلفاء لعهده وبقي الجمهور على القول باشتراطها وصحّة الإمامة
للقرشيّ ولو كان عاجزا عن القيام بأمور المسلمين وردّ عليهم سقوط شرط
الكفاية الّتي يقوى بها على أمره لأنّه إذا ذهبت الشّوكة بذهاب
العصبيّة فقد ذهبت الكفاية وإذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرّق ذلك
أيضا إلى العلم والدّين وسقط اعتبار شروط هذا المنصب وهو خلاف
الاجتماع.
ولنتكلّم الآن في حكمة اشتراط النّسب ليتحقّق به الصّواب في هذه
المذاهب
(1/243)
فنقول: إنّ الأحكام الشّرعيّة كلّها لا بدّ
لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها وتشرع لأجلها ونحن إذا بحثنا عن الحكمة
في اشتراط النّسب القرشيّ ومقصد الشّارع منه لم يقتصر فيه على التبرّك
بوصلة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما هو في المشهور وإن كانت تلك
الوصلة موجودة والتّبرّك بها حاصلا لكنّ التّبرّك ليس من المقاصد
الشّرعيّة كما علمت فلا بدّ إذن من المصلحة في اشتراط النّسب وهي
المقصودة من مشروعيّتها وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلّا اعتبار
العصبيّة الّتي تكون بها الحماية والمطالبة ويرتفع الخلاف والفرقة
بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملّة وأهلها وينتظم حبل الألفة فيها
وذلك أنّ قريشا كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم وكان لهم على
سائر مضر العزّة بالكثرة والعصبيّة والشّرف فكان سائر العرب يعترف لهم
بذلك ويستكينون لغلبهم فلو جعل الأمر في سواهم لتوقّع افتراق الكلمة
بمخالفتهم وعدم انقيادهم ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردّهم عن
الخلاف ولا يحملهم على الكرّة فتتفرّق الجماعة وتختلف الكلمة.
والشّارع محذّر من ذلك حريص على اتّفاقهم ورفع التّنازع والشّتات بينهم
لتحصل اللّحمة والعصبيّة وتحسن الحماية بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش
لأنّهم قادرون على سوق النّاس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من
أحد من خلاف عليهم ولا فرقة لأنّهم كفيلون حينئذ بدفعها ومنع النّاس
منها فاشترط نسبهم القرشيّ في هذا المنصب وهم أهل العصبيّة القويّة
ليكون أبلغ في انتظام الملّة واتّفاق الكلمة وإذا انتظمت كلمتهم انتظمت
بانتظامها كلمة مضر أجمع فأذعن لهم سائر العرب وانقادت الأمم سواهم إلى
أحكام الملّة ووطئت جنودهم قاضية البلاد كما وقع في أيّام الفتوحات
واستمرّ بعدها في الدّولتين إلى أن اضمحلّ أمر الخلافة وتلاشت عصبيّة
العرب ويعلم ما كان لقريش من الكثرة والتّغلّب على بطون مضر من مارس
أخبار العرب وسيرهم وتفطّن لذلك في أحوالهم.
وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في كتاب السّير وغيره فإذا ثبت أنّ اشتراط
(1/244)
القرشيّة إنّما هو لدفع التّنازع بما كان
لهم من العصبيّة والغلب وعلمنا أنّ الشّارع لا يخصّ الأحكام بجيل ولا
عصر ولا أمّة علمنا أنّ ذلك إنّما هو من الكفاية فرددناه إليها وطردنا
العلّة المشتملة على المقصود من القرشيّة وهي وجود العصبيّة فاشترطنا
في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبيّة قويّة غالبة على
من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية ولا
يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشيّة إذ الدّعوة
الإسلاميّة الّتي كانت لهم كانت عامّة وعصبيّة العرب كانت وافية بها
فغلبوا سائر الأمم وإنّما يخصّ لهذا العهد كلّ قطر بمن تكون له فيه
العصبيّة الغالبة وإذا نظرت سرّ الله في الخلافة لم تعد هذا لأنّه
سبحانه إنّما جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على
مصالحهم ويردّهم عن مضارّهم وهو مخاطب بذلك ولا يخاطب بالأمر إلّا من
له قدرة عليه ألا ترى ما ذكره الإمام ابن الخطيب [1] في شأن النّساء
وأنّهنّ في كثير من الأحكام الشّرعية جعلن تبعا للرّجال ولم يدخلن في
الخطاب بالوضع. وإنّما دخلن عنده بالقياس وذلك لمّا لم يكن لهن من
الأمر شيء وكان الرّجال قوّامين عليهنّ اللَّهمّ إلّا في العبادات
الّتي كلّ أحد فيها قائم على نفسه فخطابهنّ فيها بالوضع لا بالقياس ثمّ
إنّ الوجود شاهد بذلك فإنّه لا يقوم بأمر أمّة أو جيل إلّا من غلب
عليهم وقلّ أن يكون الآمر الشّرعيّ مخالفا للأمر الوجوديّ والله تعالى
أعلم.
__________
[1] قوله الإمام ابن الخطيب هو الفخر الرازيّ قاله نصر.
(1/245)
الفصل السابع
والعشرون في مذاهب الشيعة في حكم الإمامة
اعلم أنّ الشّيعة لغة هم الصّحب والأتباع ويطلق في عرف الفقهاء
والمتكلّمين [1] من الخلف والسّلف على اتّباع عليّ وبنيه رضي الله عنهم
ومذهبهم جميعا متّفقين عليه أنّ الإمامة ليست من المصالح العامّة الّتي
تفوّض إلى نظر الأمّة ويتعيّن القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدّين
وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبيّ إغفاله ولا تفويضه إلى الأمّة بل يجب
عليه تعيين الإمام لهم ويكون معصوما من الكبائر والصّغائر وإنّ عليّا
رضي الله عنه هو الّذي عيّنه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها
ويؤوّلونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السّنّة ولا نقله
الشّريعة بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم
الفاسدة.
وتنقسم هذه النّصوص عندهم إلى جليّ وخفيّ فالجليّ مثل قوله «من كنت
مولاه فعليّ مولاه» قالوا ولم تطّرد هذه الولاية إلّا في عليّ ولهذا
قال له عمر «أصبحت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة» ومنها قوله «أقضاكم عليّ» ولا
معنى للإمامة إلّا القضاء بأحكام الله وهو المراد بأولي الأمر الواجبة
طاعتهم بقوله «أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ 4: 59» والمراد الحكم والقضاء ولهذا كان حكما
__________
[1] هم علماء التوحيد المسمّى بعلم الكلام.
(1/246)
في قضيّة الإمام يوم السّقيفة دون غيره
ومنها قوله «من يبايعني على روحه وهو وصيّ ووليّ هذا الأمر من بعدي»
فلم يبايعه إلّا عليّ.
ومن الخفيّ عندهم بعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليّا لقراءة سورة
براءة في الموسم حين أنزلت فإنّه بعث بها أوّلا، أبا بكر ثمّ أوحي إليه
ليبلّغه رجل منك أو من قومك فبعث عليّا ليكون القارئ المبلّغ قالوا:
وهذا يدلّ على تقديم عليّ. وأيضا فلم يعرف أنّه قدّم أحدا على عليّ.
وأمّا أبو بكر وعمر فقدّم عليهما في غزاتين [1] أسامة بن زيد مرّة وعمر
بن العاص أخرى وهذه كلّها أدلّة شاهدة بتعيين عليّ للخلافة دون غيره
فمنها ما هو غير معروف ومنها ما هو بعيد عن تأويلهم ثمّ منهم من يرى
أنّ هذه النّصوص تدلّ على تعيين عليّ وتشخيصه. وكذلك تنتقل منه إلى من
بعده وهؤلاء هم الإماميّة ويتبرّءون من الشّيخين حيث لم يقدّموا عليّا
ويبايعوه بمقتضى هذه النّصوص ويغمصون [2] في إمامتهما. ولا يلتفت إلى
نقل القدح فيهما من غلاتهم فهو مردود عندنا وعندهم ومنهم من يقول إنّ
هذه الأدلّة إنّما اقتضت تعيين عليّ بالوصف لا بالشّخص والنّاس مقصّرون
حيث لم يضعوا الوصف موضعه وهؤلاء هم الزّيديّة ولا يتبرّءون من
الشّيخين ولا يغمصون في إمامتهما مع قولهم بأنّ عليّا أفضل منهما
لكنّهم يجوّزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل.
ثمّ اختلفت نقول هؤلاء الشّيعة في مساق الخلافة بعد عليّ فمنهم من
ساقها في ولد فاطمة بالنّصّ عليهم واحدا بعد واحد على ما يذكر بعد
وهؤلاء يسمّون الإماميّة نسبة إلى مقالتهم باشتراط معرفة الإمام
وتعيينه في الإيمان وهي أصل عندهم ومنهم من ساقها في ولد فاطمة لكن
بالاختيار من الشّيوخ ويشترط أن يكون الإمام منهم عالما زاهدا جوادا
شجاعا ويخرج داعيا إلى إمامته وهؤلاء هم
__________
[1] كذا في جميع النسخ والأصح أن يقول غزوتين. مثنى غزوة.
[2] غمص عليه قوله: كذب عليه كلامه، عابه عليه. وغمصه: حقره واستصغره
(قاموس) .
(1/247)
الزّيديّة نسبة إلى صاحب المذهب وهو زيد بن
عليّ بن الحسين السّبط [1] وقد كان يناظر أخاه محمّدا الباقر على
اشتراط الخروج في الإمام فيلزمه الباقر أن لا يكون أبوهما زين العابدين
إماما لأنّه لم يخرج ولا تعرّض للخروج وكان مع ذلك ينعى عليه مذاهب
المعتزلة وأخذه إيّاها عن واصل بن عطاء ولمّا ناظر الإماميّة زيدا في
إمامة الشّيخين ورأوه يقول بإمامتهما ولا يتبرّأ منهما رفضوه ولم
يجعلوه من الأئمّة وبذلك سمّوا رافضة ومنهم من ساقها بعد عليّ وابنيه
السّبطين على اختلافهم في ذلك إلى أخيهما محمّد بن الحنفيّة ثمّ إلى
ولده وهم الكيسانيّة نسبة إلى كيسان مولاه وبين هذه الطّوائف اختلافات
كثيرة تركناها اختصارا ومنهم طوائف يسمّون الغلاة تجاوزوا حدّ العقل
والإيمان في القول بألوهيّة هؤلاء الأئمّة. إمّا على أنّهم بشر اتّصفوا
بصفات الألوهيّة أو أنّ الإله حلّ في ذاته البشريّة وهو قول بالحلول
يوافق مذهب النّصارى في عيسى صلوات الله عليه ولقد حرق عليّ رضي الله
عنه بالنّار من ذهب فيه إلى ذلك منهم وسخّط [2] محمّد بن الحنفيّة
المختار بن أبي عبيد لمّا بلغه مثل ذلك عنه فصرّح بلعنته والبراءة منه
وكذلك فعل جعفر الصّادق رضي الله تعالى عنه بمن بلغه مثل هذا عنه ومنهم
من يقول إنّ كمال الإمام لا يكون لغيره فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام
آخر ليكون فيه ذلك الكمال وهو قول بالتّناسخ ومن هؤلاء الغلاة من يقف
عند واحد من الأئمّة لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من يعيّن لذلك عندهم
وهؤلاء هم الواقفيّة فبعضهم يقول هو حيّ لم يمت إلّا أنّه غائب عن أعين
النّاس ويستشهدون لذلك بقصّة الخضر [3] قيل مثل ذلك في عليّ رضي الله
عنه وإنّه في السّحاب والرّعد
__________
[1] السبط: ولد البنت، ولذلك يطلق على الحسن والحسين ابني الإمام علي
(رضي الله عنهم) من فاطمة الزهراء (رضي الله عنها) بنت رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم فكل منهما سبط للرسول صلّى الله عليه وسلّم.
[2] ربما سقط حرف على من الجملة. بحيث تصبح الجملة «وسخط محمد بن
الحنفية على المختار..» .
[3] ورد ذكر هذه القصة في القرآن الكريم «سورة الكهف بين الآية 65- 85»
.
(1/248)
صوته والبرق في صوته وقالوا مثله في محمّد
بن الحنفيّة وإنّه في جبل رضوى من أرض الحجاز.
وقال شاعرهم.
ألا إنّ الأئمّة من قريش ... ولاة الحقّ أربعة سواء
عليّ والثّلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبرّ ... وسبط غيّبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتّى ... يقود الجيش يقدمه اللّواء
تغيّب لا يرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء
وقال مثله غلاة الإماميّة وخصوصا الاثنا عشريّة منهم يزعمون أنّ
الثّاني عشر من أئمّتهم وهو محمّد بن الحسن العسكريّ ويلقّبونه المهديّ
دخل في سرداب بدارهم في الحلّة [1] وتغيّب حين اعتقل مع أمّه وغاب
هنالك وهو يخرج آخر الزّمان فيملأ الأرض عدلا يشيرون بذلك إلى الحديث
الواقع في كتاب التّرمذيّ في المهديّ وهم إلى الآن ينتظرونه ويسمّونه
المنتظر لذلك، ويقفون في كلّ ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السّرداب
وقد قدّموا مركبا فيهتفون باسمه ويدعونه للخروج حتّى تشتبك النّجوم ثمّ
ينفضّون ويرجئون الأمر إلى اللّيلة الآتية وهم على ذلك لهذا العهد وبعض
هؤلاء الواقفيّة يقول إنّ الإمام الّذي مات يرجع إلى حياته الدّنيا
ويستشهدون لذلك بما وقع في القرآن الكريم من قصّة أهل الكهف والّذي مرّ
على قرية وقتيل بني إسرائيل حين ضرب بعظام البقرة الّتي أمروا بذبحها
ومثل ذلك من الخوارق الّتي وقعت على طريق المعجزة ولا يصحّ الاستشهاد
بها في غير مواضعها وكان من هؤلاء السّيّد الحميريّ ومن شعره في ذلك
إذا ما المرء شاب له قذال ... وعلّله المواشط بالخضاب [2]
فقد ذهبت بشاشته وأودى ... فقم يا صاح نبك على الشّباب
__________
[1] المعروف أنه غاب في سامراء ومقامه معروف إلى اليوم.
[2] قذال: ج قذل وأقذلة: ما بين الأذنين من مؤخر الرأس. الخضاب: الحنة.
(1/249)
إلى يوم تتوب النّاس فيه ... إلى دنياهم
قبل الحساب
فليس بعائد ما فات منه ... إلى أحد إلى يوم الإياب
أدين بأنّ ذلك دين حقّ ... وما أنا في النّشور بذي ارتياب
كذاك الله أخبر عن أناس ... حيوا من بعد درس في التّراب
وقد كفانا مئونة هؤلاء الغلاة أئمّة الشّيعة فإنّهم لا يقولون بها
ويبطلون احتجاجاتهم عليها وأمّا الكيسانيّة فساقوا الإمامة من بعد
محمّد بن الحنفيّة إلى ابنه أبي هاشم وهؤلاء هم الهاشميّة ثمّ افترقوا
فمنهم من ساقها بعده إلى أخيه عليّ ثمّ إلى ابنه الحسن بن عليّ وآخرون
يزعمون أنّ أبا هاشم لمّا مات بأرض السّراة منصرفا من الشّام أوصى إلى
محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس وأوصى محمّد إلى ابنه إبراهيم
المعروف بالإمام وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبد الله بن الحارثيّة الملقّب
بالسّفّاح وأوصى هو إلى أخيه عبد الله أبي جعفر الملقّب بالمنصور
وانتقلت في ولده بالنّصّ والعهد واحدا بعد واحد إلى آخرهم وهذا مذهب
الهاشميّة القائمين بدولة بني العبّاس وكان منهم أبو مسلم وسليمان بن
كثيّر وأبو سلمة الخلّال وغيرهم من شيعة العبّاسيّة وربّما يعضدون ذلك
بأنّ حقّهم في هذا الأمر يصل إليهم من العبّاس لأنّه كان حيّا وقت
الوفاة وهو أولى بالوراثة بعصبيّة العمومة وأمّا الزّيديّة فساقوا
الإمامة على مذهبهم فيها وإنّها باختيار أهل الحلّ والعقد لا بالنّصّ
فقالوا بإمامة عليّ ثمّ ابنه الحسن ثمّ ابنه الحسن ثمّ أخيه الحسين ثمّ
ابنه زيد بن عليّ وهو صاحب هذا المذهب وخرج بالكوفة داعيا إلى الإمامة
فقتل وصلب بالكناسة وقال الزّيديّة بإمامة ابنه يحيى من بعده فمضى إلى
خراسان وقتل بالجوزجان بعد أن أوصى إلى محمّد بن عبد الله بن حسن بن
الحسن السّبط ويقال له النّفس الزّكيّة، فخرج بالحجاز وتلقّب بالمهديّ
وجاءته عساكر المنصور فقتل وعهد إلى أخيه إبراهيم فقام بالبصرة ومعه
عيسى بن زيد بن عليّ فوجّه إليهم المنصور عساكره فهزم وقتل إبراهيم
وعيسى وكان جعفر الصّادق
(1/250)
أخبرهم بذلك كلّه وهي معدودة في كراماته
وذهب آخرون منهم إلى أنّ الإمام بعد محمّد ابن عبد الله النّفس
الزّكيّة هو محمّد بن القاسم بن عليّ بن عمر، وعمر هو أخو زيد بن عليّ
فخرج محمّد بن القاسم بالطّالقان فقبض عليه وسيق إلى المعتصم فحبسه
ومات في حبسه وقال آخرون من الزّيديّة إنّ الإمام بعد يحيى بن زيد هو
أخوه عيسى الّذي حضر مع إبراهيم بن عبد الله في قتاله مع منصور ونقلوا
الإمامة في عقبه وإليه انتسب دعيّ الزّنج كما نذكره في أخبارهم وقال
آخرون من الزّيديّة إنّ الإمام بعد محمّد بن عبد الله أخوه إدريس الّذي
فرّ إلى المغرب ومات هنالك وقام بأمره ابنه إدريس واختطّ مدينة فاس
وكان من بعده عقبه ملوكا بالمغرب إلى أن انقرضوا كما نذكره في أخبارهم.
وبقي أمر الزّيديّة بعد ذلك غير منتظم وكان منهم الدّاعي الّذي ملك
طبرستان وهو الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن عليّ
بن الحسين السّبط وأخوه محمّد بن زيد ثمّ قام بهذه الدّعوة في الدّيلم
النّاصر الأطروش منهم، وأسلموا على يده وهو الحسن بن عليّ بن الحسن بن
عليّ بن عمر وعمر أخو زيد بن علي فكانت لبنيه بطبرستان دولة وتوصّل
الدّيلم من نسبهم إلى الملك والاستبداد على الخلفاء ببغداد كما نذكر في
أخبارهم. وأمّا الإماميّة فساقوا الإمامة من عليّ الرّضى [1] إلى ابنه
الحسن بالوصيّة ثمّ إلى أخيه الحسين ثمّ إلى ابنه عليّ زين العابدين
ثمّ إلى ابنه محمّد الباقر ثمّ إلى ابنه جعفر الصّادق ومن هنا افترقوا
فرقتين فرقة ساقوها إلى ولده إسماعيل ويعرفونه بينهم بالإمام وهم
الإسماعيليّة وفرقة ساقوها إلى ابنه موسى الكاظم وهم الاثنا عشريّة
لوقوفهم عند الثّاني عشر من الأئمّة وقولهم بغيبته إلى آخر الزّمان كما
مرّ فأمّا الإسماعيليّة فقالوا بإمامة إسماعيل الإمام بالنّصّ من أبيه
جعفر وفائدة النّصّ عليه عندهم وإن كان قد مات قبل أبيه إنّما هو بقاء
الإمامة في عقبه كقصّة هارون مع موسى صلوات الله عليهما قالوا ثمّ
انتقلت الإمامة من إسماعيل إلى ابنه محمّد المكتوم وهو أوّل الأئمّة
__________
[1] يقصد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
(1/251)
المستورين لأنّ الإمام عندهم قد لا يكون له
شوكة فيستتر وتكون دعاته ظاهرين إقامة للحجّة على الخلق وإذا كانت له
شوكة ظهر وأظهر دعوته قالوا وبعد محمّد المكتوم ابنه جعفر الصّادق [1]
وبعده ابنه محمّد الحبيب وهو آخر المستورين وبعده ابنه عبد الله
المهديّ الّذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشّيعيّ في كتامة وتتابع
النّاس على دعوته ثمّ أخرجه من معتقله بسجلماسة وملك القيروان والمغرب
وملك بنوه من بعده مصر كما هو معروف في أخبارهم ويسمّى هؤلاء نسبة إلى
القول بإمامة إسماعيل ويسمّون أيضا بالباطنيّة نسبة إلى قولهم بالإمام
الباطن أي المستور ويسمّون أيضا الملحدة لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد
ولهم مقالات قديمة ومقالات جديدة دعا إليها الحسن بن محمّد الصّبّاح في
آخر المائة الخامسة وملك حصونا بالشّام والعراق ولم تزل دعوته فيها إلى
أن توزّعها الهلاك بين ملوك التّرك بمصر وملوك التّتر بالعراق فانفرضت.
ومقالة هذا الصّبّاح في دعوته مذكورة في كتاب «الملل والنّحل»
للشّهرستانيّ، وأمّا الاثنا عشريّة فربّما خصّوا باسم الإماميّة عند
المتأخرين منهم فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصّادق لوفاة أخيه
الأكبر إسماعيل الإمام في حياة أبيهما جعفر فنصّ على إمامة موسى هذا،
ثمّ ابنه عليّ الرّضا الّذي عهد إليه المأمون ومات قبله فلم يتمّ له
أمر ثمّ ابنه محمّد التّقيّ ثمّ ابنه عليّ الهادي ثمّ ابنه محمّد الحسن
العسكري ثمّ ابنه محمّد المهديّ المنتظر الّذي قدّمناه قبل وفي كلّ
واحدة من هذه المقالات للشّيعة اختلاف كثير إلّا أنّ هذه أشهر مذاهبهم
ومن أراد استيعابها ومطالعتها فعليه بكتاب الملل والنّحل لابن حزم [2]
والشهرستاني وغيرهما ففيها بيان ذلك والله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء
إلى صراط مستقيم وهو العليّ الكبير.
__________
[1] لقب الإسماعيلية جعفر بن محمد المكتوم بلقب جده الثاني جعفر
الصادق.
[2] كتاب ابن حزم اسمه: «الفصل في الملل والنّحل» وكتاب الشهرستاني
«الملل والنحل» .
(1/252)
الفصل الثامن
والعشرون في انقلاب الخلافة إلى الملك
اعلم أنّ الملك غاية طبيعية للعصبيّة ليس وقوعه عنها باختيار إنّما هو
بضرورة الوجود وترتيبه كما قلناه من قبل وأنّ الشّرائع والدّيانات وكلّ
أمر يحلّ عليه الجمهور فلا بدّ فيه من العصبيّة إذ المطالبة لا تتمّ
إلّا بها كما قدّمناه.
فالعصبيّة ضروريّة للملّة وبوجودها يتمّ أمر الله منها وفي الصّحيح «ما
بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» ثمّ وجدنا الشّارع قد ذمّ
العصبيّة وندب إلى اطّراحها وتركها فقال «إنّ الله أذهب عنكم عبّيّة
[1] الجاهليّة وفخرها بالآباء أنتم بنو آدم وآدم من تراب» وقال تعالى
«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ 49: 13» ووجدناه أيضا قد
ذمّ الملك وأهله ونعى على أهله أحوالهم من الاستمتاع بالخلاق [2]
والإسراف في غير القصد والتّنكّب عن صراط الله وإنّما حضّ على الألفة
في الدّين وحذّر من الخلاف والفرقة، واعلم أنّ الدّنيا كلّها وأحوالها
مطيّة للآخرة ومن فقد المطيّة فقد الوصول، وليس مراده فيما ينهى عنه أو
يذمّه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكليّة أو اقتلاعه من
أصله وتعطيل القوى الّتي ينشأ عليها بالكلّيّة إنّما قصده تصريفها في
أغراض الحقّ جهد الاستطاعة حتّى تصير المقاصد كلّها حقّا وتتّحد الوجهة
كما قال صلّى الله عليه وسلّم «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته
إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها
فهجرته إلى ما هاجر إليه» فلم يذمّ الغضب وهو يقصد نزعه من الإنسان
فإنّه لو زالت منه قوّة الغضب لفقد منه الانتصار للحقّ وبطل الجهاد
وإعلاء كلمة الله وإنّما يذمّ الغضب
__________
[1] عبة بضم العين وكسرها الموحدة المشددة وتشديد المثناة التحتية
الكبر والفخر والنخوة أهـ- قاموس.
[2] الخلاق: النصيب الوافر من الخير، وبكسر الخاء نوع من الطيب أعظم
أجزائه الزعفران.
(1/253)
للشّيطان وللأغراض الذّميمة فإذا كان الغضب
لذلك كان مذموما وإذا كان الغضب في الله وللَّه كان ممدوحا وهو من
شمائله صلّى الله عليه وسلّم وكذا ذمّ الشّهوات أيضا ليس المراد
إبطالها بالكلّيّة فإنّ من بطلت شهوته كان نقصا في حقّه وإنّما المراد
تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح ليكون الإنسان عبدا متصرّفا
طوع الأوامر الإلهيّة وكذا العصبيّة حيث ذمّها الشّارع وقال: «لَنْ
تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ 60: 3» فإنّما مراده حيث
تكون العصبيّة على الباطل وأحواله كما كانت في الجاهليّة وأن يكون لأحد
فخر بها أو حقّ على أحد لأنّ ذلك مجان من أفعال العقلاء وغير نافع في
الآخرة الّتي هي دار القرار فأمّا إذا كانت العصبيّة في الحقّ وإقامة
أمر الله فأمر مطلوب ولو بطل لبطلت الشّرائع إذ لا يتمّ قوامها إلّا
بالعصبيّة كما قلناه من قبل وكذا الملك لمّا ذمّه الشّارع لم يذمّ منه
الغلب بالحقّ وقهر الكافّة على الدّين ومراعاة المصالح وإنّما ذمّه لما
فيه من التّغلّب بالباطل وتصريف الآدميّين طوع الأغراض والشّهوات كما
قلناه، فلو كان الملك مخلصا في غلبه للنّاس أنّه للَّه ولحملهم على
عبادة الله وجهاد عدوّه لم يكن ذلك مذموما وقد قال سليمان صلوات الله
عليه «وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ من بَعْدِي 38: 35»
لما علم من نفسه أنّه بمعزل عن الباطل في النّبوة والملك. ولمّا لقي
معاوية عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشّام في أبّهة
الملك وزيّه من العديد والعدّة استنكر ذلك وقال: «أكسرويّة يا معاوية؟»
فقال: «يا أمير المؤمنين أنا في ثغر تجاه العدوّ وبنا إلى مباهاتهم
بزينة الحرب والجهاد حاجة» فسكت ولم يخطّئه لما احتجّ عليه بمقصد من
مقاصد الحقّ والدّين فلو كان القصد رفض الملك من أصله لم يقنعه الجواب
في تلك الكسرويّة وانتحالها بل كان يحرّض على خروجه عنها بالجملة
وإنّما أراد عمر بالكسرويّة ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب
الباطل والظّلم والبغي وسلوك سبله والغفلة عن الله وأجابه معاوية بأنّ
القصد بذلك ليس كسرويّة فارس وباطلهم وإنّما قصده بها وجه الله
(1/254)
فسكت، وهكذا كان شأن الصّحابة في رفض الملك
وأحواله ونسيان عوائده حذرا من التباسها بالباطل فلمّا استحضر رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم استخلف أبا بكر على الصّلاة إذ هي أهمّ أمور
الدّين وارتضاه النّاس للخلافة وهي حمل الكافّة على أحكام الشّريعة ولم
يجر للملك ذكر لما أنّه مظنّة للباطل ونحلة يومئذ لأهل الكفر وأعداء
الدّين فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متّبعا سنن صاحبه وقاتل أهل
الرّدّة حتّى اجتمع العرب على الإسلام ثمّ عهد إلى عمر فاقتفى أثره
وقاتل الأمم فغلبهم وأذن للعرب بانتزاع ما بأيديهم من الدّنيا والملك
فغلبوهم عليه وانتزعوه منهم ثمّ صارت إلى عثمان بن عفّان ثمّ إلى عليّ
رضي الله عنهما والكلّ متبرّءون من الملك منكّبون عن طرقه وأكّد ذلك
لديهم ما كانوا عليه من غضاضة الإسلام وبداوة العرب فقد كانوا أبعد
الأمم عن أحوال الدّنيا وترفها لا من حيث دينهم الّذي يدعوهم إلى
الزّهد في النّعيم ولا من حيث بداوتهم ومواطنهم وما كانوا عليه من
خشونة العيش وشظفه الّذي ألفوه، فلم تكن أمّة من الأمم أسغب عيشا من
مضر لمّا كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع ولا ضرع وكانوا ممنوعين من
الأرياف وحبوبها لبعدها واختصاصها بمن وليها من ربيعة واليمن فلم
يكونوا يتطاولون إلى خصبها ولقد كانوا كثيرا ما يأكلون العقارب
والخنافس ويفخرون بأكل العلهز وهو وبر الإبل يمهونه [1] بالحجارة في
الدّم ويطبخونه وقريبا من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم ومساكنهم حتّى
إذا اجتمعت عصبيّة العرب على الدّين بما أكرمهم الله من نبوة محمّد
صلّى الله عليه وسلّم زحفوا إلى أمم فارس والرّوم وطلبوا ما كتب الله
لهم من الأرض بوعد الصّدق فابتزّوا ملكهم واستباحوا دنياهم فزخرت بحار
الرّفه لديهم حتّى كان الفارس الواحد يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون
ألفا من الذّهب أو نحوها فاستولوا من ذلك على ما لا يأخذه الحصر وهم مع
ذلك على خشونة عيشهم فكان عمر يرقّع ثوبه بالجلد وكان عليّ يقول:
__________
[1] أي يضربونه بالحجارة حتى يرق.
(1/255)
«يا صفراء ويا بيضاء غرّي غيري» وكان أبو
موسى يتجافى عن أكل الدّجاج لأنّه لم يعهدها للعرب لقلّتها يومئذ وكانت
المناخل مفقودة عندهم بالجملة وإنّما يأكلون الحنطة بنخالها ومكاسبهم
مع هذا أتمّ ما كانت لأحد من أهل العالم قال المسعوديّ في أيّام عثمان
اقتنى الصّحابة الضّياع والمال فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة
ألف دينار وألف ألف درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائتا
ألف [1] دينار وخلّف إبلا وخيلا كثيرة وبلغ الثّمن الواحد من متروك
الزّبير بعد وفاته خمسين ألف دينار وخلّف ألف فرس وألف أمة وكانت غلّة
طلحة من العراق ألف دينار كلّ يوم ومن ناحية السّراة أكثر من ذلك وكان
على مربط عبد الرّحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم
وبلغ الرّبع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفا وخلّف زيد بن ثابت
من الفضّة والذّهب ما كان يكسر بالفئوس غير ما خلّف من الأموال
والضّياع بمائة ألف دينار وبنى الزّبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر
والكوفة والإسكندريّة وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيّد داره بالمدينة
وبناها بالجصّ والآجر والسّاج وبنى سعد بن أبي وقّاص داره بالعقيق ورفع
سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات وبنى المقداد داره بالمدينة
وجعلها مجصّصة الظّاهر والباطن وخلّف يعلى بن منبّه [2] خمسين ألف
دينار وعقارا وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم 1 هـ- كلام
المسعوديّ. فكانت مكاسب القوم كما تراه ولم يكن ذلك منعيّا عليهم في
دينهم إذ هي أموال حلال لأنّها غنائم وفيوء ولم يكن تصرّفهم فيها
بإسراف إنّما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه فلم يكن ذلك بقادح
فيهم وإن كان الاستكثار من الدّنيا مذموما فإنّما يرجع إلى ما أشرنا
إليه من الإسراف والخروج به عن القصد وإذا كان حالهم قصدا ونفقاتهم في
سبل الحقّ ومذاهبه كان ذلك الاستكثار عونا لهم على طرق الحقّ واكتساب
__________
[1] وفي بعض النسخ مائة ألف.
[2] يعلى بن منيه أو يعلى بن أميه (أعلام الرجال) .
(1/256)
الدّار الآخرة فلمّا تدرّجت البداوة
والغضاضة إلى نهايتها وجاءت طبيعة الملك الّتي هي مقتضى العصبيّة كما
قلناه وحصل التّغلّب والقهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرّفه
والاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التّغلّب في باطل ولا خرجوا به
عن مقاصد الدّيانة ومذاهب الحقّ، ولمّا وقعت الفتنة بين عليّ ومعاوية
وهي مقتضى العصبيّة كان طريقهم فيها الحقّ والاجتهاد ولم يكونوا في
محاربتهم لغرض دنيويّ أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهّمه
متوهّم وينزع إليه ملحد وإنّما اختلف اجتهادهم في الحقّ وسفّه كلّ واحد
نظر صاحبه باجتهاده في الحقّ فاقتتلوا عليه وإن كان المصيب عليّا فلم
يكن معاويّة قائما فيها بقصد الباطل إنّما قصد الحقّ وأخطأ والكلّ
كانوا في مقاصدهم على حق ثمّ اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد
واستئثار الواحد به ولم يكن لمعاوية أن يدفع عن نفسه وقومه فهو أمر
طبيعيّ ساقته العصبيّة بطبيعتها واستشعرته بنو أميّة ومن لم يكن على
طريقة معاوية في اقتفاء الحقّ من أتباعهم فاعصوصبوا عليه واستماتوا
دونه ولو حملهم معاويّة على غير تلك الطّريقة وخالفهم في الانفراد
بالأمر لوقوع في افتراق الكلمة الّتي كان جمعها وتأليفها أهمّ عليه من
أمر ليس وراءه كبير مخالفة وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
يقول إذا رأى القاسم بن محمّد بن أبي بكر «لو كان لي من الأمر شيء
لولّيته الخلافة» ولو أراد أن يعهد إليه لفعل ولكنّه كان يخشى من بني
أميّة أهل الحلّ والعقد لما ذكرناه فلا يقدر أن يحوّل الأمر عنهم لئلّا
تقع الفرقة. وهذا كلّه إنّما حمل عليه منازع الملك الّتي هي مقتضى
العصبيّة فالملك إذا حصل وفرضنا أنّ الواحد انفرد به وصرفه في مذاهب
الحقّ ووجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه ولقد انفرد سليمان وأبوه داود
صلوات الله عليهما بملك بني إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك من
الانفراد به وكانوا ما علمت من النّبوة والحقّ وكذلك عهد معاوية إلى
يزيد خوفا من افتراق الكلمة بما كانت بنو أميّة لم يرضوا تسليم الأمر
إلى من سواهم. فلو قد عهد إلى
(1/257)
غيره اختلفوا عليه مع أنّ ظنّهم كان به
صالحا ولا يرتاب أحد في ذلك ولا يظنّ بمعاوية غيره فلم يكن ليعهد إليه
وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق حاشا الله لمعاوية من ذلك وكذلك كان
مروان بن الحكم وابنه وإن كانوا ملوكا لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل
البطالة والبغي إنّما كانوا متحرّين لمقاصد الحقّ جهدهم إلّا في ضرورة
تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الّذي هو أهمّ لديهم من كلّ
مقصد يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتّباع والاقتداء وما علم السّلف من
أحوالهم ومقاصدهم فقد احتجّ مالك في الموطّإ [1] بعمل عبد الملك وأمّا
مروان فكان من الطّبقة الأولى من التّابعين وعدالتهم معروفة ثمّ تدرّج
الأمر في ولد عبد الملك وكانوا من الدّين بالمكان الّذي كانوا عليه
وتوسّطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة والصّحابة
جهده ولم يهمل. ثمّ جاء خلفهم واستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم
الدّنيويّة ومقاصدهم ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحرّي القصد فيها
واعتماد الحقّ في مذاهبها فكان ذلك ممّا دعا النّاس إلى أن نعوا عليهم
أفعالهم وأدالوا بالدّعوة العبّاسيّة منهم وولّي رجالها الأمر فكانوا
من العدالة بمكان وصرّفوا الملك في وجوه الحقّ ومذاهبه ما استطاعوا
حتّى جاء بنو الرّشيد من بعده فكان منهم الصّالح والطّالح ثمّ أفضى
الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك والتّرف حقّه وانغمسوا في الدّنيا
وباطلها ونبذوا الدّين وراءهم ظهريّا فتأذّن الله بحربهم وانتزاع الأمر
من أيدي العرب جملة وأمكن سواهم والله لا يظلم مثقال ذرّة. ومن تأمّل
سير هؤلاء الخلفاء والملوك واختلافهم في تحرّي الحقّ من الباطل علم
صحّة ما قلناه وقد حكاه المسعوديّ مثله في أحوال بني أميّة عن أبي جعفر
المنصور وقد حضر عمومته وذكروا بني أميّة فقال: «أمّا عبد الملك فكان
جبّارا لا يبالي بما صنع وأمّا سليمان فكان همّه بطنه وفرجه وأمّا عمر
فكان أعور بين عميان وكان رجل القوم هشام» قال ولم يزل بنو أميّة
ضابطين لما مهّد لهم من السّلطان يحوّطونه ويصونون ما وهب الله لهم منه
مع
__________
[1] هو كتاب مشهور في الحديث لمالك بن أنس.
(1/258)
تسنّمهم معالي الأمور ورفضهم دنيّاتها حتّى
أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين فكانت همّتهم قصد الشّهوات وركوب
اللّذّات من معاصي الله جهلا باستدراجه وأمنا لمكره مع اطّراحهم صيانة
الخلافة واستخفافهم بحقّ الرّئاسة وضعفهم عن السّياسة فسلبهم الله
العزّ وألبسهم الذّلّ ونفى عنهم النّعمة ثمّ استحضر عبد الله [1] ابن
مروان فقصّ عليه خبره مع ملك النّوبة لمّا دخل أرضهم فارّا أيّام
السّفّاح قال أقمت مليّا ثمّ أتاني ملكهم فقعد على الأرض وقد بسطت لي
فرش ذات قيمة فقلت ما منعك عن القعود على ثيابنا [2] فقال إنّي ملك
وحقّ لكلّ ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله ثمّ قال لي: لم
تشربون الخمر وهي محرّمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا
وأتباعنا قال: فلم تطئون الزّرع بدوابّكم والفساد محرّم عليكم؟ قلت:
فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم قال:
فلم تلبسون الدّيباج والذّهب والحرير وهو محرّم عليكم في كتابكم؟ قلت:
ذهب منّا الملك وانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على
الكره منّا، فأطرق ينكث بيده في الأرض ويقول عبيدنا وأتباعنا وأعاجم
دخلوا في ديننا ثمّ رفع رأسه إليّ وقال: «ليس كما ذكرت بل أنتم قوم
استحللتم ما حرّم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهيتم وظلمتم فيما ملكتم
فسلبكم الله العزّ وألبسكم الذّلّ بذنوبكم وللَّه نقمة لم تبلغ غايتها
فيكم وأنا خائف أن يحلّ بكم العذاب وأنتم ببلدي فينالني معكم وإنّما
الضّيافة ثلاث فتزوّد ما احتجت إليه وارتحل عن أرضي» فتعجّب المنصور
وأطرق فقد تبيّن لك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك وأنّ الأمر كان في
أوّله خلافة ووازع كلّ أحد فيها من نفسه وهو الدّين وكانوا يؤثرونه على
أمور دنياهم وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافّة فهذا عثمان لمّا
حصر في الدّار جاءه الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وابن جعفر وأمثالهم
يريدون
__________
[1] قوله عبد الله كذا في النسخة التونسية وبعض الفارسية وفي بعضها عبد
الملك وأظنه تصحيفا (قاله نصر) .
[2] فرشنا.
(1/259)
المدافعة عنه فأبى ومنع من سلّ السّيوف بين
المسلمين مخافة الفرقة وحفظا للإلفة الّتي بها حفظ الكلمة ولو أدّى إلى
هلاكه. وهذا عليّ أشار عليه المغيرة لأوّل ولايته باستبقاء الزّبير
ومعاوية وطلحة على أعمالهم حتّى يجتمع النّاس على بيعته وتتّفق الكلمة
وله بعد ذلك ما شاء من أمره وكان ذلك من سياسة الملك فأبى فرارا من
الغشّ الّذي ينافيه الإسلام وغدا عليه المغيرة من الغداة فقال:
«لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثمّ عدت إلى نظري فعلمت أنّه ليس من
الحقّ والنّصيحة وأنّ الحقّ فيما رأيته أنت» فقال عليّ: «لا والله بل
أعلم أنّك نصحتني بالأمس وغششتني اليوم ولكن منعني ممّا أشرت به زائد
الحقّ وهكذا كانت أحوالهم في إصلاح دينهم بفساد دنياهم ونحن
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع
فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحرّي الدّين
ومذاهبه والجري على منهاج الحقّ ولم يظهر التّغيّر إلّا في الوازع
الّذي كان دينا ثمّ انقلب عصبيّة وسيفا وهكذا كان الأمر لعهد معاوية
ومروان وابنه عبد الملك والصّدر الأوّل من خلفاء بني العبّاس إلى
الرّشيد وبعض ولده ثمّ ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلّا اسمها وصار
الأمر ملكا بحتا وجرت طبيعة التّغلّب إلى غايتها واستعملت في أغراضها
من القهر والتّقلّب في الشّهوات والملاذّ وهكذا كان الأمر لولد عبد
الملك ولمن جاء بعد الرّشيد من بني العبّاس واسم الخلافة باقيا فيهم
لبقاء عصبيّة العرب والخلافة والملك في الطّورين ملتبس بعضهما ببعض ثمّ
ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبيّة العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم
وبقي الأمر ملكا بحتا كما كان الشّأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون
بطاعة الخليفة تبرّكا والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم وليس للخليفة
منه شيء وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديّين
ومغراوة وبني يفرن أيضا مع خلفاء بني أميّة بالأندلس والعبيديّين
بالقيروان فقد تبيّن أنّ الخلافة قد
(1/260)
وجدت بدون الملك أوّلا ثمّ التبست معانيهما
واختلطت ثمّ انفرد الملك حيث افترقت عصبيّته من عصبيّة الخلافة والله
مقدّر اللّيل والنّهار وهو الواحد القهّار
الفصل التاسع والعشرون في معنى البيعة
[1] اعلم أنّ البيعة هي العهد على الطّاعة كأنّ المبايع يعاهد أميره
على أنّه يسلّم له النّظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء
من ذلك ويطيعه فيما يكلّفه به من الأمر على المنشّط والمكره وكانوا إذا
بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد فأشبه ذلك
فعل البائع والمشتري فسمّي بيعة مصدر باع وصارت البيعة مصافحة بالأيدي
هذا مدلولها في عرف اللّغة ومعهود الشّرع وهو المراد في الحديث في بيعة
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة وعند الشّجرة وحيثما ورد هذا
اللّفظ ومنه بيعة الخلفاء ومنه أيمان البيعة كان الخلفاء يستحلفون على
العهد ويستوعبون الأيمان كلّها لذلك فسمّي هذا الاستيعاب أيمان البيعة
وكان الإكراه فيها أكثر وأغلب ولهذا لمّا أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط
يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه ورأوها قادحة في أيمان البيعة، ووقع
ما وقع من محنة الإمام رضى الله عنه وأمّا البيعة المشهورة لهذا العهد
فهي تحيّة الملوك الكسرويّة من تقبيل الأرض أو اليد أو الرّجل أو
الذّيل أطلق عليها اسم البيعة الّتي هي العهد على الطّاعة مجازا لما
كان هذا الخضوع في التّحيّة والتزام الآداب من لوازم الطّاعة وتوابعها
وغلب فيه حتّى صارت حقيقيّة عرفيّة واستغنى بها عن مصافحة أيدي النّاس
الّتي هي الحقيقة في الأصل لما في المصافحة لكلّ أحد من التّنزّل
والابتذال المنافيين للرّئاسة وصون المنصب الملوكيّ إلّا في الأقلّ
__________
[1] البيعة بفتح الموحدة أما بكسرها على وزن شيعة بسكون الياء فيها فهي
معبد النصارى. 1 هـ-.
(1/261)
ممّن يقصد التّواضع من الملوك فيأخذ به
نفسه مع خواصّه ومشاهير أهل الدّين من رعيّته فافهم معنى البيعة في
العرف فإنّه أكيد على الإنسان معرفته لما يلزمه من حقّ سلطانه وإمامه
ولا تكون أفعاله عبثا ومجّانا واعتبر ذلك من أفعالك مع الملوك والله
القويّ العزيز.
الفصل الثلاثون في ولاية العهد
اعلم أنّا قدّمنا الكلام في الإمامة ومشروعيّتها لما فيها من المصلحة
وأنّ حقيقتها للنّظر في مصالح الأمّة لدينهم ودنياهم فهو وليّهم
والأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته
ويقيم لهم من يتولّى أمورهم كما كان هو يتولّاها ويثقون بنظره لهم في
ذلك كما وثقوا به فيما قبل وقد عرف ذلك من الشّرع بإجماع الأمّة على
جوازه وانعقاده إذ وقع بعهد أبي بكر رضي الله عنه لعمر بمحضر من
الصّحابة وأجازوه وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضي الله عنه وعنهم
وكذلك عهد عمر في الشّورى إلى السّتّة بقيّة العشرة وجعل لهم أن
يختاروا للمسلمين ففوّض بعضهم إلى بعض حتّى أفضى ذلك إلى عبد الرّحمن
بن عوف فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متّفقين على عثمان وعلى عليّ فآثر
عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إيّاه على لزوم الاقتداء بالشّيخين في
كلّ ما يعنّ دون اجتهاده فانعقد أمر عثمان لذلك وأوجبوا طاعته والملأ
من الصّحابة حاضرون للأولى والثّانية ولم ينكره أحد منهم فدلّ على
أنّهم متّفقون على صحّة هذا العهد عارفون بمشروعيّته.
والإجماع حجّة كما عرف ولا يتّهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه
أو ابنه لأنّه مأمون على النّظر لهم في حياته فأولى أن لا يحتمل فيها
تبعة بعد مماته
(1/262)
خلافا لمن قال باتهامه في الولد والوالد أو
لمن خصّص التّهمة بالولد دون الوالد فإنّه بعيد عن الظنّة في ذلك كلّه
لا سيّما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقّع مفسدة
فتنتفي الظنّة في ذلك رأسا كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد وإن كان
فعل معاوية مع وفاق النّاس له حجّة في الباب والّذي دعا معاوية لإيثار
ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنّما هو مراعاة المصلحة في اجتماع
النّاس واتّفاق أهوائهم باتّفاق أهل الحلّ والعقد عليه حينئذ من بني
أميّة إذ بنو أميّة يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش وأهل الملّة
أجمع وأهل الغلب منهم فآثره بذلك دون غيره ممّن يظنّ أنّه أولى بها
وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصا على الاتّفاق واجتماع الأهواء الّذي
شأنه أهمّ عند الشّارع.
وإن كان لا يظنّ بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك
وحضور أكابر الصّحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الرّيب فيه
فليسوا ممّن يأخذهم في الحقّ هوادة وليس معاوية ممّن تأخذه العزّة في
قبول الحقّ فإنّهم كلّهم أجلّ من ذلك وعدالتهم مانعة منه وفرار عبد
الله بن عمر من ذلك إنّما هو محمول على تورّعه من الدّخول في شيء من
الأمور مباحا كان أو محظورا كما هو معروف عنه ولم يبق في المخالفة لهذا
العهد الّذي اتّفق عليه الجمهور إلّا ابن الزّبير وندور المخالف معروف
ثمّ إنّه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الّذين كانوا يتحرّون
الحقّ ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بني أميّة والسّفّاح
والمنصور والمهديّ والرّشيد من بني العبّاس وأمثالهم ممّن عرفت عدالتهم
وحسن رأيهم للمسلمين والنّظر لهم ولا يعاب عليهم إيثار أبنائهم
وإخوانهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير شأن أولئك
الخلفاء فإنّهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك وكان الوازع دينيّا
فعند كلّ أحد وازع من نفسه فعهدوا إلى من يرتضيه الدّين فقط وآثروه على
غيره ووكلوا كلّ من يسمو إلى ذلك إلى وازعه.
وأمّا من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبيّة قد أشرفت على غايتها من
الملك
(1/263)
والوازع الدّينيّ قد ضعف واحتيج إلى الوازع
السّلطانيّ والعصبانيّ فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبيّة لردّت ذلك
العهد وانتفض أمره سريعا وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف.
سأل رجل عليّا رضي الله عنه: «ما بال المسلمين اختلفوا عليك ولم
يختلفوا على أبي بكر وعمر؟» فقال: «لأنّ أبا بكر وعمر كانا واليين على
مثلي وأنا اليوم وال على مثلك» يشير إلى وازع الدّين أفلا ترى إلى
المأمون لمّا عهد إلى عليّ بن موسى بن جعفر الصّادق وسمّاه الرّضا كيف
أنكرت العبّاسيّة ذلك ونقضوا بيعته وبايعوا لعمّه إبراهيم بن المهديّ
وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السّبل وتعدّد الثّوّار والخوارج ما كاد
أن يصطلم الأمر حتّى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد وردّ أمرهم
لمعاهده فلا بدّ من اعتبار ذلك في العهد فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث
فيها من الأمور والقبائل والعصبيّات وتختلف باختلاف المصالح ولكلّ واحد
منها حكم يخصّه لطفا من الله بعباده وأمّا أن يكون القصد بالعهد حفظ
التّراث على الأبناء فليس من المقاصد الدّينيّة إذ هو أمر من الله يخصّ
به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسّن فيه النيّة ما أمكن خوفا من العبث
بالمناصب الدّينيّة والملك للَّه يؤتيه من يشاء،
وعرض هنا أمور تدعو الضّرورة إلى بيان الحقّ فيها.
فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيّام خلافته
فإيّاك أن تظنّ بمعاوية رضي الله عنه أنّه علم ذلك من يزيد فإنّه أعدل
من ذلك وأفضل بل كان يعذله أيّام حياته في سماع الغناء وينهاه عنه وهو
أقلّ من ذلك وكانت مذاهبهم فيه مختلفة ولمّا حدث في يزيد ما حدث من
الفسق اختلف الصّحابة حينئذ في شأنه فمنهم من رأى الخروج عليه ونقض
بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين وعبد الله بن الزّبير رضي الله عنهما
ومن اتّبعهما في ذلك ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة
القتل مع العجز عن الوفاء به لأنّ شوكة يزيد يومئذ هي
(1/264)
عصابة بني أميّة وجمهور أهل الحلّ والعقد
من قريش وتستتبع عصبيّة مضر أجمع وهي أعظم من كلّ شوكة ولا تطاق
مقاومتهم فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الدّعاء بهدايته
والرّاحة منه وهذا كان شأن جمهور المسلمين والكلّ مجتهدون ولا ينكر على
أحد من الفريقين فمقاصدهم في البرّ وتحرّي الحقّ معروفة وفّقنا الله
للاقتداء بهم.
والأمر الثّاني هو شأن العهد مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وما
تدّعيه الشّيعة من وصيّته لعليّ رضي الله عنه
وهو أمر لم يصحّ ولا نقله أحد من أئمّة النّقل والّذي وقع في الصّحيح
من طلب الدّواة والقرطاس ليكتب الوصيّة وأنّ عمر منع من ذلك فدليل واضح
على أنّه لم يقع وكذا قول عمر رضي الله عنه حين طعن وسئل في العهد
فقال: «إن أعهد فقد عهد من هو خير منّي» يعني أبا بكر «وإن أترك فقد
ترك من هو خير منّي» يعني النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يعهد وكذلك
قول عليّ للعبّاس رضي الله عنهما حين دعاه للدّخول إلى النّبيّ صلّى
الله عليه وسلّم يسألانه عن شأنهما في العهد فأبى عليّ من ذلك وقال
إنّه إن منعنا منها فلا نطمع فيها آخر الدّهر وهذا دليل على أنّ عليّا
علم أنّه لم يوص ولا عهد إلى أحد وشبهة الإماميّة في ذلك إنّما هي كون
الإمامة من أركان الدّين كما يزعمون وليس كذلك وإنّما هي من المصالح
العامّة المفوّضة إلى نظر الخلق ولو كانت من أركان الدّين لكان شأنها
شأن الصّلاة ولكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصّلاة ولكان
يشتهر كما اشتهر أمر الصّلاة واحتجاج الصّحابة على خلافة أبي بكر
بقياسها على الصّلاة في قولهم ارتضاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
لديننا أفلا نرضاه لدنيانا دليل على أنّ الوصيّة لم تقع.
ويدلّ ذلك أيضا على أنّ أمر الإمامة والعهد بها لم يكن مهمّا كما هو
اليوم وشأن العصبيّة المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجاري العادة
لم يكن يومئذ بذلك الاعتبار لأنّ أمر الدّين والإسلام كان كلّه بخوارق
العادة من تأليف القلوب عليه واستماتة النّاس دونه وذلك من أجلّ
الأحوال الّتي كانوا يشاهدونها في حضور
(1/265)
الملائكة لنصرهم وتردّد خبر السّماء بينهم
وتجدّد خطاب الله في كلّ حادثة تتلى عليهم فلم يحتج إلى مراعاة
العصبيّة لما شمل النّاس من صبغة الانقياد والإذعان وما يستفزّهم من
تتابع المعجزات الخارقة والأحوال الإلهيّة الواقعة والملائكة المتردّدة
الّتي وجموا منها ودهشوا من تتابعها فكان أمر الخلافة والملك والعهد
والعصبيّة وسائر هذه الأنواع مندرجا في ذلك القبيل كما وقع فلمّا انحصر
ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات ثمّ بفناء القرون الّذين شاهدوها
فاستحالت تلك الصّبغة قليلا قليلا وذهبت الخوارق وصار الحكم للعادة كما
كان فاعتبر أمر العصبيّة ومجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح
والمفاسد وأصبح الملك والخلافة والعهد بهما مهمّا من المهمّات الأكيدة
كما زعموا ولم يكن ذلك من قبل فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم غير مهمّة فلم يعهد فيها ثمّ تدرّجت الأهميّة
زمان الخلافة بعض الشّيء بما دعت الضّرورة إليه في الحماية والجهاد
وشأن الرّدّة والفتوحات فكانوا بالخيار في الفعل والتّرك كما ذكرناه عن
عمر رضي الله عنه ثمّ صارت اليوم من أهمّ الأمور للإلفة على الحماية
والقيام بالمصالح فاعتبرت فيها العصبيّة الّتي هي سرّ الوازع عن الفرقة
والتّخاذل ومنشأ الاجتماع والتّوافق الكفيل بمقاصد الشّريعة وأحكامها.
والأمر الثّالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصّحابة والتّابعين
فاعلم أنّ اختلافهم إنّما يقع في الأمور الدّينيّة وينشأ عن الاجتهاد
في الأدلّة الصّحيحة والمدارك المعتبرة والمجتهدون إذا اختلفوا فإن
قلنا إنّ الحقّ في المسائل الاجتهاديّة واحد من الطّرفين ومن لم يصادفه
فهو مخطئ فإنّ جهته لا تتعيّن بإجماع فيبقى الكلّ على احتمال الإصابة
ولا يتعيّن المخطئ منها والتأثيم مدفوع عن الكلّ إجماعا وإن قلنا إنّ
الكلّ حقّ وإنّ كلّ مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطإ والتّأثيم وغاية
الخلاف الّذي بين الصّحابة والتّابعين أنّه خلاف اجتهاديّ في مسائل
دينيّة ظنّيّة وهذا حكمه والّذي وقع من ذلك في الإسلام إنّما هو
(1/266)
واقعة عليّ مع معاوية ومع الزّبير وعائشة
وطلحة وواقعة الحسين مع يزيد وواقعة ابن الزّبير مع عبد الملك فأمّا
واقعة عليّ فإنّ النّاس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في الأمصار فلم
يشهدوا بيعة عليّ والّذين شهدوا فمنهم من بايع ومنهم من توقّف حتّى
يجتمع النّاس ويتّفقوا على إمام كسعد وسعيد وابن عمر وأسامة بن زيد
والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن سلام وقدامة بن مظعون وأبي سعيد الخدريّ
وكعب بن مالك والنّعمان بن بشير وحسّان بن ثابت ومسلمة بن مخلد وفضالة
بن عبيد وأمثالهم من أكابر الصّحابة والّذين كانوا في الأمصار عدلوا عن
بيعته أيضا إلى الطّلب بدم عثمان وتركوا الأمر فوضى حتّى يكون شورى بين
المسلمين لمن يولّونه وظنّوا بعليّ هوادة في السّكوت عن نصر عثمان من
قاتله لا في الممالأة عليه فحاش للَّه من ذلك.
ولقد كان معاوية إذا صرّح بملامته إنّما يوجّهها عليه في سكوته فقط ثمّ
اختلفوا بعد ذلك فرأى عليّ أنّ بيعته قد انعقدت ولزمت من تأخّر عنها
باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة دار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
وموطن الصّحابة وأرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع النّاس
واتّفاق الكلمة فيتمكّن حينئذ من ذلك ورأى الآخرون أنّ بيعته لم تنعقد
لافتراق الصّحابة أهل الحلّ والعقد بالآفاق ولم يحضر إلّا قليل ولا
تكون البيعة إلّا باتّفاق أهل الحلّ والعقد ولا تلزم بعقد من تولّاها
من غيرهم أو من القليل منهم وإنّ المسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أوّلا
بدم عثمان ثمّ يجتمعون على إمام وذهب إلى هذا معاوية وعمرو بن العاص
وأمّ المؤمنين عائشة والزّبير وابنه عبد الله وطلحة وابنه محمّد وسعد
وسعيد والنّعمان بن بشير ومعاوية بن خديج ومن كان على رأيهم من
الصّحابة الّذين تخلّفوا عن بيعة عليّ بالمدينة كما ذكرنا إلّا أنّ أهل
العصر الثاني من بعدهم اتّفقوا على انعقاد بيعة عليّ ولزومها للمسلمين
أجمعين وتصويب رأيه فيما ذهب إليه وتعيين الخطإ من جهة معاوية ومن كان
على رأيه وخصوصا طلحة والزّبير
(1/267)
لانتقاضهما على عليّ بعد البيعة له فيما
نقل مع دفع التّأثيم عن كلّ من الفريقين كالشّأن في المجتهدين وصار ذلك
إجماعا من أهل العصر الثّاني على أحد قولي أهل العصر الأوّل كما هو
معروف.
ولقد سئل عليّ رضي الله عنه عن قتلى الجمل وصفّين فقال: «والّذي نفسي
بيده لا يموتنّ أحد من هؤلاء وقلبه نقيّ إلّا دخل الجنّة» يشير إلى
الفريقين نقله الطّبريّ وغيره فلا يقعنّ عندك ريب في عدالة أحد منهم
ولا قدح في شيء من ذلك فهم من علمت وأقوالهم وأفعالهم إنّما هي عن
المستندات وعدالتهم مفروغ منها عند أهل السّنّة إلّا قولا للمعتزلة
فيمن قاتل عليّا لم يلتفت إليه أحد من أهل الحقّ ولا عرّج عليه وإذا
نظرت بعين الإنصاف عذرت النّاس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان
واختلاف الصّحابة من بعد وعلمت أنّها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمّة
بينما المسلمون قد أذهب الله عدوّهم وملّكهم أرضهم وديارهم ونزلوا
الأمصار على حدودهم بالبصرة والكوفة والشّام ومصر وكان أكثر العرب
الّذين نزلوا هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم ولا ارتاضوا بخلقه مع ما كان فيهم من الجاهليّة من الجفاء
والعصبيّة والتّفاخر والبعد عن سكينة الإيمان وإذا بهم عند استفحال
الدّولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين والأنصار من قريش وكنانة وثقيف
وهذيل وأهل الحجاز ويثرب السّابقين الأوّلين إلى الإيمان فاستنكفوا من
ذلك وغصّوا به لما يرون لأنفسهم من التّقدّم بأنسابهم وكثرتهم ومصادمة
فارس والرّوم مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس بن ربيعة وقبائل كندة
والأزد من اليمن وتميم وقيس من مضر فصاروا إلى الغضّ من قريش والأنفة
عليهم، والتّمريض في طاعتهم والتّعلّل في ذلك بالتّظلّم منهم
والاستعداء عليهم والطّعن فيهم بالعجز عن السّويّة والعدل في القسم عن
السّويّة وفشت المقالة بذلك وانتهت إلى المدينة وهم من علمت فأعظموه
وأبلغوه عثمان فبعث إلى الأمصار من يكشف له الخبر.
(1/268)
بعث ابن عمر ومحمّد بن مسلمة وأسامة بن زيد
وأمثالهم فلم ينكروا على الأمراء شيئا ولا رأوا عليهم طعنا وأدّوا ذلك
كما علموه فلم ينقطع الطّعن من أهل الأمصار وما زالت الشّناعات تنمو
ورمي الوليد بن عقبة وهو على الكوفة بشرب الخمر وشهد عليه جماعة منهم
وحدّه عثمان وعزله ثمّ جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل
العمّال وشكوا إلى عائشة وعليّ والزبير وطلحة وعزل لهم عثمان بعض
العمّال فلم تنقطع بذلك ألسنتهم بل وفد سعيد بن العاصي وهو على الكوفة
فلمّا رجع اعترضوه بالطّريق وردّوه معزولا ثمّ انتقل الخلاف بين عثمان
ومن معه من الصّحابة بالمدينة ونقموا عليه امتناعه من العزل فأبى إلّا
أن يكون على جرحة [1] ثمّ نقلوا النّكير إلى غير ذلك من أفعاله وهو
متمسّك بالاجتهاد وهم أيضا كذلك ثمّ تجمّع قوم من الغوغاء وجاءوا إلى
المدينة يظهرون طلب النّصفة من عثمان وهم يضمرون خلاف ذلك من قتله
وفيهم من البصرة والكوفة ومصر وقام معهم في ذلك عليّ وعائشة والزّبير
وطلحة وغيرهم يحاولون تسكين الأمور ورجوع عثمان إلى رأيهم وعزل لهم
عامل مصر فانصرفوا قليلا ثمّ رجعوا وقد لبّسوا بكتاب مدلّس يزعمون
أنّهم لقوة في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم وحلف عثمان على ذلك
فقالوا مكّنّا من مروان فإنّه كاتبك فحلف مروان فقال ليس في الحكم أكثر
من هذا فحاصروه بداره ثمّ بيّتوه على حين غفلة من النّاس وقتلوه وانفتح
باب الفتنة فلكلّ من هؤلاء عذر فيما وقع وكلّهم كانوا مهتمّين بأمر
الدّين ولا يضيعون شيئا من تعلّقاته.
ثمّ نظروا بعد هذا الواقع واجتهدوا والله مطّلع على أحوالهم وعالم بهم
ونحن لا نظنّ بهم إلّا خيرا لما شهدت به أحوالهم ومقالات الصّادق فيهم
وأمّا الحسين فإنّه لمّا ظهر فسق يزيد عند الكافّة من أهل عصره بعثت
شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره فرأى الحسين
أنّ الخروج على يزيد متعيّن من أجل فسقه لا سيّما من له القدرة على ذلك
وظنّها من نفسه بأهليّته
__________
[1] ما تجرح به شهادة خصمك أو حجته.
(1/269)
وشوكته فأمّا الأهليّة فكانت كما ظنّ
وزيادة وأمّا الشّوكة فغلط يرحمه الله فيها لأنّ عصبيّة مضر كانت في
قريش وعصبيّة عبد مناف إنّما كانت في بني أميّة تعرف ذلك لهم قريش
وسائر النّاس ولا ينكرونه وإنّما نسي ذلك أوّل الإسلام لما شغل النّاس
من الذّهول بالخوارق وأمر الوحي وتردّد الملائكة لنصرة المسلمين
فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبيّة الجاهليّة ومنازعها ونسيت ولم يبق
إلّا العصبيّة الطّبيعيّة في الحماية والدّفاع ينتفع بها في إقامة
الدّين وجهاد المشركين والدّين فيها محكم والعادة معزولة حتّى إذا
انقطع أمر النّبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشّيء للعوائد
فعادت العصبيّة كما كانت ولمن كانت وأصبحت مضر أطوع لبني أميّة من
سواهم بما كان لهم من ذلك قبل فقد تبيّن لك غلط الحسين إلّا أنّه في
أمر دنيويّ لا يضرّه الغلط فيه وأمّا الحكم الشّرعيّ فلم يغلط فيه
لأنّه منوط بظنّه وكان ظنّه القدرة على ذلك ولقد عذله ابن العبّاس وابن
الزّبير وابن عمر وابن الحنفيّة أخوه وغيره في مسيره إلى الكوفة وعلموا
غلطه في ذلك ولم يرجع عمّا هو بسبيله لما أراده الله.
وأمّا غير الحسين من الصّحابة الّذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشّام
والعراق ومن التّابعين لهم فرأوا أنّ الخروج على يزيد وإن كان فاسقا لا
يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدّماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا
الحسين ولا أنكروا عليه ولا أثّموه لأنّه مجتهد وهو أسوة المجتهدين ولا
يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره
فإنّهم أكثر الصّحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه وكان الحسين
يستشهد بهم وهو بكربلاء على فصله وحقّه ويقول سلوا جابر بن عبد الله
وأبا سعيد الخدريّ وأنس بن مالك وسهل بن سعيد وزيد بن أرقم وأمثالهم
ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرّض لذلك لعلمه أنّه عن اجتهاد
وإن كان هو على اجتهاد ويكون ذلك كما يحدّ الشّافعيّ والمالكيّ
والحنفيّ على شرب النّبيذ واعلم أنّ الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عن
(1/270)
اجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن اجتهادهم
وإنّما انفرد بقتاله يزيد وأصحابه ولا تقولنّ إنّ يزيد وإن كان فاسقا
ولم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة واعلم أنّه إنّما ينفذ
من أعمال الفاسق ما كان مشروعا وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع
الإمام العادل وهو مفقود في مسألتنا فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا
ليزيد بل هي من فعلاته المؤكّدة لفسقه والحسين فيها شهيد مثاب وهو على
حقّ واجتهاد والصّحابة الّذين كانوا مع يزيد على حقّ أيضا واجتهاد وقد
غلط القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكيّ في هذا فقال في كتابه الّذي
سمّاه بالعواصم والقواصم ما معناه:
إنّ الحسين قتل بشرع جدّه وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام
العادل ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل
الآراء وأمّا ابن الزّبير فإنّه رأى في منامه ما رآه الحسين وظنّ كما
ظنّ وغلطه في أمر الشّوكة أعظم لأنّ بني أسد لا يقاومون بني أميّة في
جاهليّة ولا إسلام. والقول بتعيّن الخطاء في جهة مخالفة كما كان في جهة
معاوية مع عليّ لا سبيل إليه. لأنّ الإجماع هنالك قضى لنا به ولم نجده
هاهنا. وأمّا يزيد فعيّن خطأه فسقه.
وعبد الملك صاحب ابن الزّبير أعظم النّاس عدالة وناهيك بعدالته احتجاج
مالك بفعله وعدول ابن عبّاس وابن عمر إلى بيعته عن ابن الزّبير وهم معه
بالحجاز مع أنّ الكثير [1] من الصّحابة كانوا يرون أنّ بيعة ابن
الزّبير لم تنعقد لأنّه لم يحضرها أهل العقد والحلّ كبيعة مروان وابن
الزّبير على خلاف ذلك والكلّ مجتهدون محمولون على الحقّ في الظّاهر وإن
لم يتعيّن في جهة منهما والقتل الّذي نزل به بعد تقرير ما قرّرناه يجيء
على قواعد الفقه وقوانينه مع أنّه شهيد مثاب باعتبار قصده وتحرّيه
الحقّ هذا هو الّذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السّلف من الصّحابة
والتّابعين فهم خيار الأمّة وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الّذي يختصّ
__________
[1] كذا في جميع النسخ ومقتضى السياق: هذا إلى أن الكثير.
(1/271)
بالعدالة والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول «خير النّاس قرني» [1]
ثمّ الّذين يلونهم مرّتين أو ثلاثا ثمّ يفشو الكذب فجعل الخيرة وهي
العدالة مختصّة بالقرن الأوّل والّذي يليه فإيّاك أن تعوّد نفسك أو
لسانك التّعرّض لأحد منهم ولا يشوّش قلبك بالرّيب في شيء ممّا وقع منهم
والتمس لهم مذاهب الحقّ وطرقه ما استطعت فهم أولى النّاس بذلك وما
اختلفوا إلّا عن بيّنة وما قاتلوا أو قتلوا إلّا في سبيل جهاد أو إظهار
حقّ واعتقد مع ذلك أنّ اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمّة ليقتدي كلّ
واحد بمن يختاره منهم ويجعله إمامه وهاديه ودليله فافهم ذلك وتبيّن
حكمة الله في خلقه وأكوانه واعلم أنّه على كلّ شيء قدير وإليه الملجأ
والمصير والله تعالى أعلم. |