تاريخ ابن خلدون

الفصل الحادي والثلاثون في الخطط الدينية الخلافية
لمّا تبيّن أنّ حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشّرع في حفظ الدّين وسياسة الدّنيا فصاحب الشّرع متصرّف في الأمرين أمّا في الدّين فبمقتضى التّكاليف الشّرعيّة الّذي هو مأمور بتبليغها وحمل النّاس عليها وأمّا سياسة الدّنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشريّ وقد قدّمنا أنّ هذا العمران ضروريّ للبشر وأنّ رعاية مصالحه كذلك لئلّا يفسد إن أهملت وقدّمنا أنّ الملك وسطوته كاف في حصول هذه المصالح.
نعم إنّما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشّرعيّة لأنّه [2] أعلم بهذه المصالح
__________
[1] (ورد في لسان العرب قول الأزهري: والّذي يقع عندي. والله أعلم. ان القرن) هل كل مدة كان فيها، أو كان فيها طبقة من أهل العلم، قلت السنون أو كثرت والدليل على هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «خيركم قرني، يعني أصحابي ثم الذين يلونهم، يعني التابعين، ثم الذين يلونهم، يعني الذين أخذوا عن التابعين» قال: وجائز أن يكون القرن لجملة الأمة، وهؤلاء قرون فيها.
[2] الضمير يعود إلى الله تعالى.

(1/272)


فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلاميّا ويكون من توابعها وقد ينفرد إذا كان في غير الملّة وله على كلّ حال مراتب خادمة ووظائف تابعة تتعيّن خططا وتتوزّع على رجال الدّولة وظائف فيقوم كلّ واحد بوظيفته حسبما يعيّنه الملك الّذي تكون يده عالية عليهم فيتمّ بذلك أمره ويحسن قيامه بسلطانه وأمّا المنصب الخلافيّ وإن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الّذي ذكرناه فتصرّفه الدّيني يختصّ بخطط ومراتب لا تعرف إلّا للخلفاء الإسلاميّين فلنذكر الآن الخطط الدّينيّة المختصّة بالخلافة ونرجع إلى الخطط الملوكيّة السّلطانيّة.
فاعلم أنّ الخطط الدّينيّة الشّرعيّة من الصّلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلّها مندرجة تحت الإمامة الكبرى الّتي هي الخلافة فكأنّها الإمام الكبير والأصل الجامع وهذه كلّها متفرّعة عنها وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرّفها في سائر أحوال الملّة الدّينيّة والدّنيويّة وتنفيذ أحكام الشّرع فيها على العموم.
فأمّا إمامة الصّلاة
فهي أرفع هذه الخطط كلّها وأرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة. ولقد يشهد لذلك استدلال الصّحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصّلاة على استخلافه في السّياسة في قولهم ارتضاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ فلولا أنّ الصّلاة أرفع من السّياسة لما صحّ القياس وإذا ثبت ذلك فاعلم أنّ المساجد في المدينة صنفان: مساجد عظيمة كثيرة الغاشية [1] معدّة للصّلوات المشهودة. وأخرى دونها مختصّة بقوم أو محلّة وليست للصّلوات العامّة فأمّا المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوّض إليه من سلطان أو من وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصّلوات الخمس والجمعة والعيدين والخسوفين والاستسقاء وتعيّن ذلك إنّما هو من طريق الأولى
__________
[1] الذين يزورونها للصلاة.

(1/273)


والاستحسان ولئلّا يفتات [1] الرّعايا عليه في شيء من النّظر في المصالح العامّة وقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة فيكون نصب الإمام لها عنده واجبا وأمّا المساجد المختصّة بقوم أو محلّة فأمرها راجع إلى الجيران ولا تحتاج إلى نظر خليفة ولا سلطان وأحكام هذه الولاية وشروطها والمولّى فيها معروفة في كتب الفقه ومبسوطة في كتب الأحكام السّلطانيّة للماورديّ وغيره فلا نطوّل بذكرها ولقد كان الخلفاء الأوّلون لا يقلّدونها لغيرهم من النّاس. وانظر من طعن من الخلفاء في المسجد عند الأذان بالصّلاة وترصّدهم لذلك في أوقاتها، يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها وأنّهم لم يكونوا مستخلفين فيها. وكذا كان رجال الدّولة الأمويّة من بعدهم استئثارا بها واستعظاما لرتبتها.
يحكى عن عبد الملك أنّه قال لحاجبه «قد جعلت لك حجابة يأبى إلّا عن ثلاثة: صاحب الطّعام فإنّه يفسد بالتّأخير والأذان بالصّلاة فإنّه داع إلى الله والبريد فإنّ في تأخيره فساد القاصية» فلمّا جاءت طبيعة الملك وعوارضه من الغلظة والتّرفّع عن مساواة النّاس في دينهم ودنياهم استنابوا في الصّلاة فكانوا يستأثرون بها في الأحيان وفي الصّلوات العامّة كالعيدين والجمعة إشارة وتنويها فعل ذلك كثير من خلفاء بني العبّاس والعبيديّين صدر دولتهم.
وأمّا الفتيا
فللخليفة تصفّح أهل العلم والتّدريس وردّ الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك ومنع من ليس أهلا لها وزجره لأنّها من مصالح المسلمين في أديانهم فتجب عليه مراعاتها لئلّا يتعرّض لذلك من ليس له بأهل فيضلّ النّاس.
وللمدرّس الانتصاب لتعليم العلم وبثّه والجلوس لذلك في المساجد فإن كانت من المساجد العظام الّتي للسّلطان الولاية عليها والنّظر في أئمّتها كما مرّ فلا بدّ من استئذانه في ذلك وإن كانت من مساجد العامّة فلا يتوقّف ذلك على إذن. على أنّه ينبغي أن يكون لكلّ أحد من المفتين والمدرّسين زاجر من نفسه يمنعه عن
__________
[1] يخالفه.

(1/274)


التّصدّي لما ليس له بأهل فيضلّ [1] به المستهدي ويضلّ به المسترشد وفي الأثر «أجرأكم على الفتيا أجرأكم على جراثيم جهنّم» فللسّلطان فيهم لذلك من النّظر ما توجبه المصلحة من إجازة أو ردّ.
وأمّا القضاء
فهو من الوظائف الدّاخلة تحت الخلافة لأنّه منصب الفصل بين النّاس في الخصومات حسما للتّداعي وقطعا للتّنازع إلّا أنّه بالأحكام الشّرعيّة المتلقّاة من الكتاب والسّنّة، فكان لذلك من وظائف الخلافة ومندرجا في عمومها وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم. وأوّل من دفعه إلى غيره وفوّضه فيه عمر رضي الله عنه فولّى أبا الدّرداء معه بالمدينة وولّى شريحا بالبصرة وولّى أبا موسى الأشعريّ بالكوفة وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الّذي تدور عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة فيه يقول أمّا بعد:
«فإنّ القضاء فريضة محكمة وسنّة متّبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنّه لا ينفع تكلّم بحقّ لا نفاذ له وآس بين النّاس في وجهك ومجلسك وعدلك حتّى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر. والصّلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحقّ فإنّ الحقّ قديم ومراجعة الحقّ خير من التّمادي في الباطل الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك ممّا ليس في كتاب ولا سنّة ثمّ اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها واجعل لمن ادّعى حقّا غائبا أو بيّنة أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بيّنته أخذت له بحقّه وإلّا استحللت القضاء عليه فإنّ ذلك أنفى للشّكّ وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلّا مجلودا في حدّ أو مجرى [2] عليه
__________
[1] في بعض النسخ: فيدلّ أي يثق به ويعتز.
[2] وفي بعض النسخ: مجرّبا.

(1/275)


شهادة زور أو ظنينا في نسب أو ولاء، فإنّ الله سبحانه عفا عن الإيمان ودرأ بالبيّنات. وإيّاك والقلق والضّجر والتّأفّف بالخصوم فإنّ استقرار الحقّ في مواطن الحقّ يعظّم الله به الأجر ويحسن به الذّكر والسّلام» .
انتهى كتاب عمر وإنّما كانوا يقلّدون القضاء لغيرهم وإن كان ممّا يتعلّق بهم لقيامهم بالسّياسة العامّة وكثرة أشغالها من الجهاد والفتوحات وسدّ الثّغور وحماية البيضة، ولم يكن ذلك ممّا يقوم به غيرهم لعظم العناية فاستحقّوا القضاء في الواقعات بين النّاس واستخلفوا فيه من يقوم به تخفيفا على أنفسهم وكانوا مع ذلك إنّما يقلّدونه أهل عصبيّتهم بالنّسب أو الولاء ولا يقلّدونه لمن بعد عنهم في ذلك. وأمّا أحكام هذا المنصب وشروطه فمعروفة في كتب الفقه وخصوصا كتب الأحكام السّلطانيّة. إلّا أنّ القاضي إنّما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط ثمّ دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التّدريج بحسب اشتغال الخلفاء والملوك بالسّياسة الكبرى واستقرّ منصب القضاء آخر الأمر على أنّه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامّة للمسلمين بالنّظر في أموال [1] المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السّفه وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه والنّظر في مصالح الطّرقات والأبنية وتصفّح الشّهود والأمناء والنّوّاب واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجرح ليحصل له الوثوق بهم وصارت هذه كلّها من تعلّقات وظيفته وتوابع ولايته. وقد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النّظر في المظالم وهي وظيفة ممتزجة من سطوة السّلطنة ونصفة القضاء وتحتاج إلى علوّ يد وعظيم رهبة تقمع الظّالم من الخصمين وتزجر المتعدّي وكأنّه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه ويكون نظره في البيّنات والتّقرير واعتماد الأمارات
__________
[1] وفي بعض النسخ: أمور.

(1/276)


والقرائن وتأخير الحكم إلى استجلاء الحقّ وحمل الخصمين على الصّلح واستحلاف الشّهود وذلك أوسع من نظر القاضي.
وكان الخلفاء الأوّلون يباشرونها بأنفسهم إلى أيّام المهتدي من بني العبّاس وربّما كانوا يجعلونها لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي إدريس الخولانيّ وكما فعله المأمون ليحيى بن أكثم والمعتصم لأحمد بن أبي داود وربّما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطّوائف [1] وكان يحيى بن أكثم يخرج أيّام المأمون بالطّائفة إلى أرض الرّوم وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرّحمن النّاصر من بني أميّة بالأندلس فكانت تولية هذه الوظائف إنّما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوّض أو سلطان متغلّب. وكان أيضا النّظر في الجرائم وإقامة الحدود في الدّولة العبّاسيّة والأمويّة بالأندلس والعبيديّين بمصر والمغرب راجعا إلى صاحب الشّرطة وهي وظيفة أخرى دينيّة كانت من الوظائف الشّرعيّة في تلك الدّول توسّع النّظر فيها عن أحكام القضاء قليلا فيجعل للتّهمة في الحكم مجالا ويفرض العقوبات الزّاجرة قبل ثبوت الجرائم ويقيم الحدود الثّابتة في محالّها ويحكم في القود [2] والقصاص ويقيم التّعزير والتّأديب في حقّ من لم ينته عن الجريمة.
ثمّ تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في الدّول الّتي تنوسي فيها أمر الخلافة فصار أمر المظالم راجعا إلى السّلطان كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن وانقسمت وظيفة الشّرطة قسمين منها وظيفة التّهمة على الجرائم وإقامة حدودها ومباشرة القطع والقصاص حيث يتعيّن ونصب لذلك في هذه الدّول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشّرعيّة ويسمّى تارة باسم الوالي وتارة باسم الشّرطة وبقي قسم التّعازير وإقامة الحدود في الجرائم الثّابتة شرعا فجمع
__________
[1] ربّما تكون محرّفة من الصوائف: أي الغزو أثناء الصيف.
[2] القود: قتل القاتل بدل القتيل (منجد) .

(1/277)


ذلك للقاضي مع ما تقدّم وصار ذلك من توابع وظيفة ولايته واستقرّ الأمر لهذا العهد على ذلك وخرجت هذه الوظيفة عن أهل عصبيّة الدّولة لأنّ الأمر لمّا كان خلافة دينيّة وهذه الخطّة من مراسم الدّين فكانوا لا يولّون فيها إلّا من أهل عصبيّتهم من العرب ومواليهم بالحلف أو بالرّقّ أو بالاصطناع ممّن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه، ولمّا انقرض شأن الخلافة وطورها وصار الأمر كلّه ملكا أو سلطانا صارت هذه الخطط الدّينيّة بعيدة عنه بعض الشّيء لأنّها ليست من ألقاب الملك ولا مراسمه ثمّ خرج الأمر جملة من العرب وصار الملك لسواهم من أمم التّرك والبربر فازدادت هذه الخطط الخلافيّة بعدا عنهم بمنحاها وعصبيّتها. وذلك أنّ العرب كانوا يرون أنّ الشّريعة دينهم وأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم منهم وأحكامه وشرائعه نحلتهم بين الأمم وطريقهم، وغيرهم لا يرون ذلك إنّما يولّونها جانبا من التّعظيم لما دانوا بالملّة فقط. فصاروا يقلّدونها من غير عصابتهم ممّن كان تأهّل لها في دول الخلفاء السّالفة.
وكان أولئك المتأهّلون بما أخذهم ترف الدّول منذ مئين من السّنين قد نسوا عهد البداوة وخشونتها والتبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم ودعتهم، وقلّة الممانعة عن أنفسهم، وصارت هذه الخطط في الدّول الملوكيّة من بعد الخلفاء مختصّة بهذا الصّنف من المستضعفين في أهل الأمصار ونزل أهلها عن مراتب العزّ لفقد الأهليّة بأنسابهم وما هم عليه من الحضارة فلحقهم من الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في التّرف والدّعة، البعداء عن عصبيّة الملك الّذين هم عيال على الحامية، وصار اعتبارهم في الدّولة من أجل قيامها بالملّة وأخذها بأحكام الشّريعة، لما أنّهم الحاملون للأحكام المقتدون بها. ولم يكن إيثارهم في الدّولة حينئذ إكراما لذواتهم، وإنّما هو لما يتلمّح من التّجمّل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرّتب الشّرعيّة، ولم يكن لهم فيها من الحلّ والعقد شيء، وإن حضروه فحضور رسميّ لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحلّ والعقد إنّما هي لأهل القدرة عليه

(1/278)


فمن لا قدرة له عليه فلا حلّ له ولا عقد لديه. اللَّهمّ إلّا أخذ الأحكام الشّرعيّة عنهم، وتلقّي الفتاوى منهم فنعم والله الموفّق. وربّما يظنّ بعض النّاس أنّ الحقّ فيما وراء ذلك وأنّ فعل الملوك فيما فعلوه من إخراج الفقهاء والقضاة من الشّورى مرجوح وقد قال صلّى الله عليه وسلّم «العلماء ورثة الأنبياء» فاعلم أنّ ذلك ليس كما ظنّه [1] وحكم الملك والسّلطان إنّما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران وإلّا كان بعيدا عن السّياسة. فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئا من ذلك لأنّ الشّورى والحلّ والعقد لا تكون إلّا لصاحب عصبيّة يقتدر بها على حلّ أو عقد أو فعل أو ترك، وأمّا من لا عصبيّة له ولا يملك من أمر نفسه شيئا ولا من حمايتها وإنّما هو عيال على غيره فأيّ مدخل له في الشّورى أو أيّ معنى يدعو إلى اعتباره فيها؟ اللَّهمّ إلّا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشّرعيّة فموجودة في الاستفتاء خاصّة. وأمّا شوراه في السّياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبيّة والقيام على معرفة أحوالها وأحكامها وإنّما إكرامهم من تبرّعات الملوك والأمراء الشّاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدّين وتعظيم من ينتسب إليه بأيّ جهة انتسب وأمّا قوله صلّى الله عليه وسلّم «العلماء ورثة الأنبياء» فاعلم أنّ الفقهاء في الأغلب لهذا العهد وما احتفّ به إنّما حمّلوا الشّريعة أقوالا في كيفيّة الأعمال في العبادات وكيفيّة القضاء في المعاملات ينصّونها على من يحتاج إلى العمل بها هذه غاية أكابرهم ولا يتّصفون إلّا بالأقلّ منها وفي بعض الأحوال والسّلف رضوان الله عليهم وأهل الدّين والورع من المسلمين حملوا الشّريعة اتّصافا بها وتحقّقا بمذاهبها. فمن حملها اتّصافا وتحقّقا دون نقل فهو من الوارثين مثل أهل رسالة القشيريّ ومن اجتمع له الأمران فهو العالم وهو الوارث على الحقيقة مثل فقهاء التّابعين والسّلف والأئمّة الأربعة ومن اقتفى طريقهم وجاء على أثرهم وإذا انفرد واحد من الأمّة بأحد الأمرين فالعابد أحقّ بالوراثة من الفقيه الّذي ليس بعابد لأنّ العابد ورث بصفة والفقيه الّذي ليس بعابد لم يرث
__________
[1] الضمير يعود إلى الناس أو العامة.

(1/279)


شيئا إنّما هو صاحب أقوال ينصّها علينا في كيفيّات العمل وهؤلاء أكثر فقهاء عصرنا «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ 38: 24» .
العدالة:
وهي وظيفة دينيّة تابعة للقضاء ومن موادّ تصريفه وحقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القاضي بالشّهادة بين النّاس فيما لهم وعليهم تحمّلا عند الإشهاد وأداء عند التّنازع وكتبا في السّجلّات تحفظ به حقوق النّاس وأملاكهم وديونهم وسائر معاملاتهم وشرط هذه الوظيفة الاتّصاف بالعدالة الشّرعيّة والبراءة من الجرح ثمّ القيام بكتب السّجلّات والعقود من جهة عباراتها وانتظام فصولها ومن جهة إحكام شروطها الشّرعيّة وعقودها فيحتاج حينئذ إلى ما يتعلّق بذلك من الفقه ولأجل هذه الشّروط وما يحتاج إليه من المران [1] على ذلك والممارسة له اختصّ ذلك ببعض العدول وصار الصّنف القائمون به كأنّهم مختصّون بالعدالة وليس كذلك وإنّما العدالة من شروط اختصاصهم بالوظيفة ويجب على القاضي تصفّح أحوالهم والكشف عن سيرهم رعاية لشرط العدالة فيهم وأن لا يهمل ذلك لما يتعيّن عليه من حفظ حقوق النّاس فالعهدة عليه في ذلك كلّه وهو ضامن دركه وإذا تعيّن هؤلاء لهذه الوظيفة عمّت الفائدة في تعيين من تخفى عدالته على القضاة بسبب اتّساع الأمصار واشتباه الأحوال واضطرار القضاة إلى الفصل بين المتنازعين بالبيّنات الموثوقة فيعوّلون غالبا في الوثوق بها على هذا الصّنف ولهم في سائر الأمصار دكاكين ومصاطب يختصّون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للإشهاد وتقييده بالكتاب وصار مدلول هذه اللّفظة مشتركا بين هذه الوظيفة الّتي تبيّن مدلولها وبين العدالة الشّرعيّة الّتي هي أخت الجرح وقد يتواردان ويفترقان والله تعالى أعلم.
الحسبة والسكة
إمّا الحسبة فهي وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
__________
[1] المران بكسر الميم التمرن والاعتياد على الشيء 1 هـ-.

(1/280)


الّذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعيّن لذلك من يراه أهلا له فيتعيّن فرضه عليه ويتّخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزّر ويؤدّب على قدرها ويحمل النّاس على المصالح العامّة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطّرقات ومنع الحمّالين وأهل السّفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسّقوط بهدمها وإزالة ما يتوقّع من ضررها على السّابلة والضّرب على أيدي المعلّمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصّبيان المتعلّمين ولا يتوقّف حكمه على تنازع أو استعداء بل له النّظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع إليه وليس له إمضاء الحكم في الدّعاوي مطلقا بل فيما يتعلّق بالغشّ والتّدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين وله أيضا حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك ممّا ليس فيه سماع بيّنة ولا إنفاذ حكم وكأنّها أحكام ينزّه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء وقد كانت في كثير من الدّول الإسلاميّة مثل العبيديّين بمصر والمغرب والأمويّين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولّي فيها باختياره ثمّ لمّا انفردت وظيفة السّلطان عن الخلافة وصار نظره عامّا في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية.
وأمّا السّكّة فهي النّظر في النّقود المتعامل بها بين النّاس وحفظها ممّا يداخلها من الغشّ أو النّقص إن كان يتعامل بها عددا أو ما يتعلّق بذلك ويوصل إليه من جميع الاعتبارات ثمّ في وضع علامة السّلطان على تلك النّقود بالاستجادة والخلوص برسم تلك العلامة فيها من خاتم حديد اتّخذ لذلك ونقش فيه نقوش خاصّة به فيوضع على الدّينار بعد أن يقدّر ويضرب عليه بالمطرقة حتّى ترسم فيه تلك النّقوش وتكون علامة على جودته بحسب الغاية الّتي وقف عندها السّبك والتّخليص في متعارف أهل القطر ومذاهب الدّولة الحاكمة فإنّ السّبك والتّخليص

(1/281)


في النّقود لا يقف عند غاية وإنّما ترجع غايته إلى الاجتهاد فإذا وقف أهل أفق أو قطر على غاية من التّخليص وقفوا عندها وسمّوها إماما وعيارا يعتبرون به نقودهم وينتقدونها بمماثلته فإن نقص عن ذلك كان زيفا والنّظر في ذلك كلّه لصاحب هذه الوظيفة وهي دينيّة بهذا الاعتبار فتندرج تحت الخلافة وقد كانت تندرج في عموم ولاية القاضي ثمّ أفردت لهذا العهد كما وقع في الحبشة.
هذا آخر الكلام في الوظائف الخلافيّة وبقيت منها وظائف ذهبت بذهاب ما ينظر فيه وأخرى صارت سلطانيّة فوظيفة الإمارة والوزارة والحرب والخراج صارت سلطانيّة نتكلّم عليها في أماكنها بعد وظيفة الجهاد ووظيفة الجهاد بطلت ببطلانه إلّا في قليل من الدّول يمارسونه ويدرجون أحكامه غالبا في السّلطانيّات وكذا نقابة الأنساب الّتي يتوصّل بها إلى الخلافة أو الحقّ في بيت المال قد بطلت لدثور الخلافة ورسومها وبالجملة قد اندرجت رسوم الخلافة ووظائفها في رسوم الملك والسّياسة في سائر الدّول لهذا العهد والله مصرّف الأمور كيف يشاء.
الفصل الثاني والثلاثون في اللقب بأمير المؤمنين وانه من سمات الخلافة وهو محدث منذ عهد الخلفاء
وذلك أنّه لمّا بويع أبو بكر رضي الله عنه وكان الصّحابة رضي الله عنهم وسائر المسلمين يسمّونه خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك فلمّا بويع لعمر بعهده إليه كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكأنّهم استثقلوا هذا اللّقب بكثرته وطول إضافته وأنّه يتزايد فيما بعد دائما إلى أن ينتهي إلى الهجنة ويذهب منه التّمييز بتعدّد الإضافات وكثرتها فلا يعرف فكانوا يعدلون عن هذا اللّقب إلى ما سواه ممّا يناسبه ويدعى به مثله

(1/282)


وكانوا يسمّون قوّاد البعوث باسم الأمير وهو فعيل من الإمارة وقد كان الجاهليّة يدعون النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمير مكّة وأمير الحجاز وكان الصّحابة أيضا يدعون سعد بن أبي وقّاص أمير المؤمنين لإمارته على جيش القادسيّة وهم معظم المسلمين يومئذ واتّفق أن دعا بعض الصّحابة عمر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين فاستحسنه النّاس واستصوبوه ودعوه به.
يقال إنّ أوّل من دعاه بذلك عبد الله بن جحش وقيل عمرو بن العاصي والمغيرة بن شعبة وقيل بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول أين أمير المؤمنين وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنّه والله أمير المؤمنين وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنّه والله أمير المؤمنين حقا فدعوه بذلك وذهب لقبا له في النّاس وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم إلّا سائر دولة بني أميّة ثمّ إنّ الشّيعة خصّوا عليّا باسم الإمام نعتا له بالإمامة الّتي هي أخت الخلافة وتعريضا بمذهبهم في أنّه أحقّ بإمامة الصّلاة من أبي بكر لما هو مذهبهم وبدعتهم فخصّوه بهذا اللّقب ولمن يسوقون إليه منصب الخلافة من بعده فكانوا كلّهم يسمّون بالإمام ما داموا يدعون لهم في الخلفاء حتّى إذا يستولون على الدّولة يحوّلون [1] اللّقب فيما بعده إلى أمير المؤمنين كما فعله شيعة بني العبّاس فإنّهم ما زالوا يدعون أئمّتهم بالإمام إلى إبراهيم الّذي جهروا بالدّعاء له وعقدوا الرّايات للحرب على أمره فلمّا هلك دعي أخوه السّفّاح بأمير المؤمنين.
وكذا الرّافضة بإفريقيا فإنّهم ما زالوا يدعون أئمّتهم من ولد إسماعيل بالإمام حتّى انتهى الأمر إلى عبيد الله المهديّ وكانوا أيضا يدعونه بالإمام ولابنه أبي القاسم من بعده فلمّا استوثق لهم الأمر دعوا من بعدهما بأمير المؤمنين وكذا الأدارسة بالمغرب كانوا يلقبون إدريس بالإمام وابنه إدريس الأصغر كذلك وهكذا شأنهم وتوارث الخلفاء هذا اللّقب بأمير المؤمنين وجعلوه سمة لمن يملك
__________
[1] الأصح أن يقول: حتى إذا استولوا على الدولة حولوا اللقب.

(1/283)


الحجاز والشّام والعراق والمواطن الّتي هي ديار العرب ومراكز الدّولة وأهل الملّة والفتح وازداد لذلك في عنفوان الدّولة وبذخها لقب آخر للخلفاء يتميّز به بعضهم عن بعض لما في أمير المؤمنين من الاشتراك بينهم فاستحدث لذلك بنو العبّاس حجابا لأسمائهم الأعلام عن امتهانها في ألسنة السّوقة وصونا لها عن الابتذال فتلقّبوا بالسّفّاح والمنصور والمهديّ والهادي والرّشيد إلى آخر الدّولة واقتفى أثرهم في ذلك العبيديّون بإفريقيّة ومصر وتجافى بنو أميّة عن ذلك بالمشرق قبلهم مع الغضاضة والسّذاجة لأنّ العروبيّة ومنازعها لم تفارقهم حينئذ ولم يتحوّل عنهم شعار البداوة إلى شعار الحضارة وأمّا بالأندلس فتلقّبوا كسلفهم مع ما عملوه من أنفسهم من القصور عن ذلك بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملّة والبعد عن دار الخلافة الّتي هي مركز العصبيّة وأنّهم إنّما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم من مهالك بني العبّاس حتّى إذا جاء عبد الرحمن الدّاخل الآخر منهم وهو النّاصر بن محمّد بن الأمير عبد الله بن محمّد بن عبد الرّحمن الأوسط لأوّل المائة الرّابعة واشتهر ما نال الخلافة بالمشرق من الحجر واستبداد الموالي وعيثهم في الخلفاء بالعزل والاستبدال والقتل والسّمل ذهب عبد الرّحمن هذا إلى مثل مذاهب الخلفاء بالمشرق وإفريقية وتسمّى بأمير المؤمنين وتلقّب بالنّاصر لدين الله، وأخذت من بعده عادة ومذهب لقّن عنه ولم يكن لآبائه وسلف قومه. واستمرّ الحال على ذلك إلى أن انقرضت عصبيّة العرب أجمع وذهب رسم الخلافة وتغلّب الموالي من العجم على بني العبّاس والصّنائع على العبيديّين بالقاهرة وصنهاجة على أمراء إفريقية وزناتة على المغرب وملوك الطّوائف بالأندلس على أمر بني أميّة واقتسموه وافترق أمر الإسلام فاختلفت مذاهب الملوك بالمغرب والمشرق في الاختصاص بالألقاب بعد أن تسمّوا جميعا باسم السّلطان.
فأمّا ملوك المشرق من العجم فكان الخلفاء يخصّونهم بألقاب تشريفيّة حتّى يستشعر منها انقيادهم وطاعتهم وحسن ولايتهم مثل شرف الدّولة وعضد الدّولة

(1/284)


وركن الدّولة ومعزّ الدّولة ونصير الدّولة ونظام الملك وبهاء الدّولة وذخيرة الملك وأمثال هذه وكان العبيديّون أيضا يخصّون بها أمراء صنهاجة فلمّا استبدّوا على الخلافة قنعوا بهذه الألقاب وتجافوا عن ألقاب الخلافة أدبا معها وعدولا عن سماتها المختصّة بها شأن المتغلّبين المستبدّين كما قلناه ونزع المتأخرون أعاجم المشرق حين قوي استبدادهم على الملك وعلا كعبهم في الدّولة والسّلطان وتلاشت عصبيّة الخلافة واضمحلّت بالجملة إلى انتحال الألقاب الخاصّة بالملك مثل النّاصر والمنصور وزيادة على ألقاب يختصّون بها قبل هذا الانتحال مشعرة بالخروج عن ربقة الولاء والاصطناع بما أضافوها إلى الدّين فقط فيقولون صلاح الدّين أسد الدّين نور الدّين. وأمّا ملوك الطّوائف بالأندلس فاقتسموا ألقاب الخلافة وتوزّعوها لقوّة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها وعصبيّتها فتلقّبوا بالنّاصر والمنصور والمعتمد والمظفّر وأمثالها كما قال ابن أبي شرف [1] ينعى عليهم:
ممّا يزهّدني في أرض أندلس ... أسماء معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهرّ يحكي انتفاخا صورة الأسد
وأمّا صنهاجة فاقتصروا عن الألقاب الّتي كان الخلفاء العبيديّون يلقّبون بها للتّنويه مثل نصير الدّولة ومعزّ الدّولة واتّصل لهم ذلك لمّا أدالوا من دعوة العبيديّين بدعوة العبّاسيّين ثمّ بعدت الشّقّة بينهم وبين الخلافة ونسوا عهدها فنسوا هذه الألقاب واقتصروا على اسم السّلطان وكذا شأن ملوك مغراوة بالمغرب لم ينتحلوا شيئا من هذه الألقاب إلّا اسم السّلطان جريا على مذاهب البداوة والغضاضة. ولمّا محي رسم الخلافة وتعطّل دستها [2] وقام بالمغرب من قبائل البربر يوسف بن تاشفين ملك لمتونة فملك العدوتين وكان من أهل الخير والاقتداء نزعت به همّته إلى الدّخول في طاعة الخليفة تكميلا لمراسم دينه
__________
[1] كذا في جميع النسخ واسمه ابن شرف.
[2] الدست كلمة أعجمية لم ترد في لسان العرب ومعناها صدر البيت أو المجلس والدست من الثياب ما يكفي حاجة الإنسان (المنجد) وقد استعملها ابن خلدون بمعنى المراس.

(1/285)


فخاطب المستظهر العبّاسيّ وأوفد عليه بيعته عبد الله بن العربيّ وابنه القاضي أبا بكر من مشيخة إشبيليّة يطلبان توليته إيّاها على المغرب وتقليده ذلك فانقلبوا إليه [1] بعهد الخلافة له على المغرب واستشعار زيّهم في لبوسه [2] ورتبته وخاطبه فيه يا أمير المؤمنين تشريفا واختصاصا فاتّخذها لقبا ويقال إنّه كان دعي له بأمير المؤمنين من قبل أدبا مع رتبة الخلافة لما كان عليه هو وقومه المرابطون من انتحال الدّين واتّباع السّنّة وجاء المهديّ على أثرهم داعيا إلى الحقّ آخذا بمذاهب الأشعريّة ناعيا على أهل المغرب عدولهم عنها إلى تقليد السّلف في ترك التّأويل لظواهر الشّريعة وما يؤول إليه ذلك من التّجسيم كما هو معروف في مذهب الأشعريّة وسمّى أتباعه الموحّدين تعريضا بذلك النّكير وكان يرى رأي أهل البيت في الإمام المعصوم وأنّه لا بدّ منه في كلّ زمان يحفظ بوجوده نظام هذا العالم فسمّي بالإمام لما قلناه أوّلا من مذهب الشّيعة في ألقاب خلفائهم وأردف بالمعصوم إشارة إلى مذهبه في عصمة الإمام وتنزّه عند اتّباعه عن أمير المؤمنين أخذا بمذاهب المتقدّمين من الشّيعة ولما فيها من مشاركة الأغمار والولدان من أعقاب أهل الخلافة يومئذ بالمشرق.
ثمّ انتحل عبد المؤمن وليّ عهده اللّقب بأمير المؤمنين وجرى عليه من بعده خلفاء بني عبد المؤمن وآل أبي حفص من بعدهم استئثارا به عمّن سواهم لما دعا إليه شيخهم المهديّ من ذلك وأنّه صاحب الأمر وأولياؤه من بعده كذلك دون كلّ أحد لانتفاء عصبيّة قريش وتلاشيها فكان ذلك دأبهم. ولمّا انتقض الأمر بالمغرب وانتزعه زناتة ذهب أوّلهم مذاهب البداوة والسّذاجة وأتباع لمتونة في انتحال اللّقب بأمير المؤمنين [3] أدبا مع رتبة الخلافة الّتي كانوا على طاعتها لبني
__________
[1] الأصح أن يقول: فانقلبا إليه.
[2] اللبوس، الثياب والسلاح، قال الله تعالى: «وعلمناه صنعة لبوس لكم» قالوا: هي الدرع تلبس في الحروب (لسان العرب) .
[3] يتضح من سياق الجملة وما يليها أن الأصح أن يقول: في عدم انتحال اللقب بأمير المؤمنين.

(1/286)


عبد المؤمن أوّلا ولبني أبي حفص من بعدهم ثمّ نزع المتأخّرون منهم إلى اللّقب بأمير المؤمنين وانتحلوه لهذا العهد استبلاغا في منازع الملك وتتميما لمذاهبه وسماته وَالله غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ 12: 21.
الفصل الثالث والثلاثون في شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية واسم الكوهن عند اليهود
اعلم أنّ الملّة لا بدّ لها من قائم عند غيبة النّبيّ يحملهم على أحكامها وشرائعها ويكون كالخليفة فيهم للنّبيّ فيما جاء به من التّكاليف والنّوع الإنسانيّ أيضا بما تقدّم من ضرورة السّياسة فيهم للاجتماع البشريّ لا بدّ لهم من شخص يحملهم على مصالحهم ويزعهم عن مفاسدهم بالقهر وهو المسمّى بالملك والملّة الإسلاميّة لمّا كان الجهاد فيها مشروعا لعموم الدّعوة وحمل الكافّة على دين الإسلام طوعا أو كرها اتّخذت فيها الخلافة والملك لتوجّه الشّوكة من القائمين بها إليهما معا. وأمّا ما سوى الملّة الإسلاميّة فلم تكن دعوتهم عامّة ولا الجهاد عندهم مشروعا إلّا في المدافعة فقط فصار القائم بأمر الدّين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك وإنّما وقع الملك لمن وقع منهم بالعرض ولأمر غير دينيّ وهو ما اقتضته لهم العصبيّة لما فيها من الطّلب للملك بالطّبع لما قدّمناه لأنّهم غير مكلّفين بالتّغلّب على الأمم كما في الملّة الإسلاميّة وإنّما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصّتهم.
ولذلك بقي بنو إسرائيل من بعد موسى ويوشع صلوات الله عليهما نحو أربعمائة سنة لا يعتنون بشيء من أمر الملك إنّما همّهم إقامة دينهم فقط وكان القائم به بينهم يسمّى الكوهن كأنّه خليفة موسى صلوات الله عليه يقيم لهم أمر

(1/287)


الصّلاة والقربان ويشترطون فيه أن يكون من ذرّية هارون صلوات الله عليه لأنّ موسى لم يعقب ثمّ اختاروا لإقامة السّياسة الّتي هي للبشر بالطّبع سبعين شيخا كانوا يتلون أحكامهم العامّة والكوهن أعظم منهم رتبة في الدّين وأبعد عن شغب الأحكام واتّصل ذلك فيهم إلى أن استحكمت طبيعة العصبيّة وتمحّضت الشّوكة للملك فغلبوا الكنعانيّين على الأرض الّتي أورثهم الله بيت المقدس وما جاورها كما بيّن لهم على لسان موسى صلوات الله عليه فحاربتهم أمم الفلسطين والكنعانيّين والأرمن وأردنّ وعمّان ومأرب ورئاستهم في ذلك راجعة إلى شيوخهم وأقاموا على ذلك نحوا من أربعمائة سنة ولم تكن لهم صولة الملك وضجر بنو إسرائيل من مطالبة الأمم، فطلبوا على لسان شمويل [1] من أنبيائهم أن يأذن الله لهم في تمليك رجل عليهم فولّي عليهم طالوت وغلب الأمم وقتل جالوت ملك الفلسطين. ثمّ ملك بعده داود ثمّ سليمان صلوات الله عليهما واستفحل ملكه وامتدّ إلى الحجاز ثمّ أطراف اليمن ثمّ إلى أطراف بلاد الرّوم ثمّ افترق الأسباط من بعد سليمان صلوات الله عليه بمقتضى العصبيّة في الدّول كما قدّمناه إلى دولتين كانت إحداهما بالجزيرة والموصل للأسباط العشرة والأخرى بالقدس والشّام لبني يهوذا وبنيامين.
ثمّ غلبهم بخت نصّر ملك بابل على ما كان بأيديهم من الملك أوّلا الأسباط العشرة ثمّ ثانيا بني يهوذا وبيت المقدس بعد اتّصال ملكهم نحو ألف سنة وخرّب مسجدهم وأحرق توراتهم وأمات دينهم ونقلهم إلى أصبهان وبلاد العراق إلى أن ردّهم بعض ملوك الكيانيّة من الفرس إلى بيت المقدس من بعد سبعين سنة من خروجهم فبنوا المسجد وأقاموا أمر دينهم على الرّسم الأوّل للكهنة فقط والملك للفرس ثمّ غلب الإسكندر وبنو يونان على الفرس وصار اليهود في ملكتهم ثمّ فشل أمر اليونانيّين فاعتزّ اليهود عليهم بالعصبيّة الطّبيعيّة ودفعوهم عن
__________
[1] هو صموئيل كما في التوراة

(1/288)


الاستيلاء عليهم وقام بملكهم الكهنة الّذين كانوا فيهم من بني حشمناي وقاتلوا يونان حتّى انقرض أمرهم وغلبهم الرّوم فصاروا تحت أمرهم ثمّ رجعوا إلى بيت المقدس وفيها بنو هيرودس أصهار بني حشمناي وبقيت دولتهم فحاصروهم مدّة ثمّ افتتحوها عنوة وأفحشوا في القتل والهدم والتّحريق وخربوا بيت المقدس وأجلوهم عنها إلى رومة وما وراءها وهو الخراب الثّاني للمسجد ويسمّيه اليهود بالجلوة [1] الكبرى فلم يقم لهم بعدها ملك لفقدان العصبيّة منهم وبقوا بعد ذلك في ملكة الرّوم من بعدهم يقيم لهم أمر دينهم الرّئيس عليهم المسمّى بالكوهن ثمّ جاء المسيح صلوات الله وسلامه عليه بما جاءهم به من الدّين والنّسخ لبعض أحكام التّوراة وظهرت على يديه الخوارق العجيبة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى واجتمع عليه كثير من النّاس وآمنوا به وأكثرهم الحواريّون من أصحابه وكانوا اثني عشر وبعث منهم رسلا إلى الآفاق داعين إلى ملّته وذلك أيّام أوغسطس أوّل ملوك القياصرة وفي مدّة هيرودس ملك اليهود الّذي انتزع الملك من بني حشمناي أصهاره فحسده اليهود وكذّبوه [2] وكاتب هيرودس ملكهم ملك القياصرة أوغسطس يغريه به فأذن لهم في قتله ووقع ما تلاه القرآن من أمره وافترق الحواريّون شيعا ودخل أكثرهم بلاد الرّوم داعين إلى دين النّصرانيّة وكان بطرس كبيرهم فنزل برومة دار ملك القياصرة ثمّ كتبوا الإنجيل الّذي أنزل على عيسى صلوات الله عليه في نسخ أربع على اختلاف رواياتهم فكتب متّى إنجيله في بيت المقدس بالعبرانيّة ونقله يوحنّا بن زبدي منهم إلى اللّسان اللّاتينيّ وكتب لوقا منهم إنجيله باللّاتينيّ إلى بعض أكابر الرّوم وكتب يوحنّا بن زبدي منهم إنجيله برومة وكتب بطرس إنجيله باللّاتينيّ ونسبه إلى مرقاص [3] تلميذه واختلفت هذه النّسخ الأربع من الإنجيل مع أنّها ليست كلّها
__________
[1] الجلوة: زفاف العروس وليس لها معنى هنا والأصح أن يقول الجلاء أو الجلو من جلا.
[2] أي حسدوا المسيح وكذبوه.
[3] وهو مرقص الرسول.

(1/289)


وحيا صرفا بل مشوبة بكلام عيسى عليه السّلام وبكلام الحواريّين وكلّها مواعظ وقصص والأحكام فيها قليلة جدا واجتمع الحواريّون الرّسل لذلك العهد برومة ووضعوا قوانين الملّة النّصرانيّة وصيّروها بيد أقليمنطس تلميذ بطرس وكتبوا فيها عدد الكتب الّتي يجب قبولها والعمل بها.
فمن شريعة اليهود القديمة التّوراة وهي خمسة أسفار وكتاب يوشع وكتاب القضاة وكتاب راعوث وكتاب يهوذا وأسفار الملوك أربعة وسفر بنيامين وكتب المقابيّين لابن كريون ثلاثة [1] وكتاب عزرا الإمام وكتاب أوشير [2] وقصّة هامان وكتاب أيّوب الصّدّيق ومزامير داود عليه السّلام وكتب ابنه سليمان عليه السّلام خمسة ونبؤات الأنبياء الكبار والصّغار ستّة عشر وكتاب يشوع بن شارخ [3] وزير سليمان. ومن شريعة عيسى صلوات الله عليه المتلقّاة من الحواريّين نسخ الإنجيل الأربع وكتب القتاليقون سبع رسائل وثامنها الإبريكسيس في قصص الرّسل وكتاب بولس أربع عشرة رسالة وكتاب أقليمنطس وفيه الأحكام وكتاب أبو غالمسيس وفيه رؤيا يوحنّا بن زبدي. واختلف شأن القياصرة في الأخذ بهذه الشّريعة تارة وتعظيم أهلها ثمّ تركها أخرى والتّسلّط عليهم بالقتل والبغي إلى أن جاء قسطنطين وأخذ بها واستمرّوا عليها. وكان صاحب هذا الدّين والمقيم لمراسيمه يسمّونه البطرك وهو رئيس الملّة عندهم وخليفة المسيح فيهم يبعث نوّابه وخلفاءه إلى ما بعد عنه من أمم النّصرانيّة ويسمّونه الأسقف أي نائب البطرك ويسمّون الإمام الّذي يقيم الصّلوات ويفتيهم في الدّين بالقسّيس ويسمّون المنقطع الّذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالرّاهب.
وأكثر خلواتهم في الصّوامع وكان بطرس الرّسول رأس الحواريّين وكبير
__________
[1] وفي التوراة: سفر المكابيين (بتشديد الميم والكاف) الأول والثاني وليس هناك ثالث. ولم يرد ذكر ابن كريون وربما تكون محرفة عن اسم الرجل الّذي اختصر اسفار المكابيين واسمه (يس الكريوني) نسبة إلى كريان وهي الاسم القديم لمقاطعة برقة في ليبيا.
[2] هو سفر استير (التوراة) .
[3] هو يشوع بن سيراخ (التوراة) .

(1/290)


التّلاميذ برومة يقيم بها دين النّصرانيّة إلى أن قتله نيرون خامس القياصرة فيمن قتل من البطارق والأساقفة ثمّ قام بخلافته في كرسيّ رومة آريوس [1] وكان مرقاس الإنجيليّ بالإسكندريّة ومصر والمغرب داعيا سبع سنين فقام بعده حنانيّا وتسمّى بالبطرك وهو أوّل البطاركة فيها وجعل معه اثني عشر قسّا على أنّه إذا مات البطرك يكون واحد من الاثني عشر مكانه ويختار من المؤمنين واحدا مكان ذلك الثّاني عشر فكان أمر البطاركة إلى القسوس ثمّ لمّا وقع الاختلاف بينهم في قواعد دينهم وعقائده واجتمعوا بنيقية أيّام قسطنطين لتحرير الحقّ في الدّين واتّفق ثلاثمائة وثمانية عشر من أساقفتهم على رأي واحد في الدّين فكتبوه وسمّوه الإمام وصيّروه أصلا يرجعون إليه وكان فيما كتبوه أنّ البطرك القائم بالدّين لا يرجع في تعيينه إلى اجتهاد الأقسّة كما قرّره حنانيّا تلميذ مرقاس وأبطلوا ذلك الرّأي وإنّما يقدّم عن بلاء واختبار [2] من أئمّة المؤمنين ورؤسائهم فبقي الأمر كذلك.
ثمّ اختلفوا بعد ذلك في تقرير قواعد الدّين وكانت لهم مجتمعات في تقريره ولم يختلفوا في هذه القاعدة فبقي الأمر فيها على ذلك واتّصل فيهم نيابة الأساقفة عن البطاركة وكان الأساقفة يدعون البطرك بالأب أيضا تعظيما له فاشتبه الاسم في أعصار متطاولة يقال آخرها بطركيّة هرقل بإسكندريّة فأرادوا أن يميّزوا البطرك عن الأسقف في التّعظيم فدعوه البابا ومعناه أبو الآباء وظهر هذا الاسم أوّل ظهوره بمصر على ما زعم جرجيس بن العميد في تأريخه ثمّ نقلوه إلى صاحب الكرسيّ الأعظم عندهم وهو كرسيّ بطرس الرّسول كما قدّمناه فلم يزل سمة عليه حتّى الآن ثمّ اختلفت النّصارى في دينهم بعد ذلك وفيما يعتقدونه في المسيح
__________
[1] كذا بالأصل وهو خطأ. لأن اريوس قسيس، ولم يتولّ مطلقا كرسي الباباوية ولا ما يقرب منها. وله مذهب خاص يقول بنفي الطبيعة اللاهوتية للمسيح، ولذلك حكم مجمع نيقية بتجريده من ألقابه الكهونية سنة 325 م.
[2] وفي بعض النسخ ملاء واختبار.

(1/291)


وصاروا طوائف وفرقا واستظهروا بملوك النّصرانيّة كلّ على صاحبه فاختلف الحال في العصور في ظهور فرقة دون فرقة إلى أن استقرّت لهم ثلاث طوائف هي فرقهم ولا يلتفتون إلى غيرها وهم الملكيّة واليعقوبيّة والنّسطوريّة ثمّ اختصّت كلّ فرقة منهم ببطرك فبطرك رومة اليوم المسمّى بالبابا على رأي الملكيّة ورومة للإفرنجة وملكهم قائم بتلك النّاحية وبطرك المعاهدين بمصر على رأي اليعقوبيّة وهو ساكن بين ظهرانيهم والحبشة يدينون بدينهم ولبطرك مصر فيهم أساقفة ينوبون عنه في إقامة دينهم هنالك.
واختصّ اسم البابا ببطرك رومة لهذا العهد ولا تسمّي اليعاقبة بطركهم بهذا الاسم وضبط هذه اللّفظة بباءين موحّدتين من أسفل والنّطق بها مفخّمة والثّانية مشدّدة ومن مذاهب البابا عند الإفرنجة أنّه يحضّهم على الانقياد لملك واحد يرجعون إليه في اختلافهم واجتماعهم تحرّجا من افتراق الكلمة ويتحرّى به العصبيّة الّتي لا فوقها منهم لتكون يده عالية على جميعهم ويسمّونه الإنبرذور [1] وحرفه الوسط بين الذّال والظاء المعجمتين ومباشره يضع التّاج على رأسه للتّبرّك فيسمّى المتوّج [2] ، ولعلّه معنى لفظة الإنبرذور وهذا ملخّص ما أوردناه من شرح هذين الاسمين اللّذين هما البابا والكوهن والله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء.
الفصل الرابع والثلاثون في مراتب الملك والسلطان والقابها
اعلم أنّ السّلطان في نفسه ضعيف يحمّل أمرا ثقيلا فلا بدّ له من الاستعانة
__________
[1] المشهور قديما إمبراطور بالطاء المهملة والفرنسيس تقول (أمبرور) ومعناها عندهم ملك الملوك.
[2] أي أن البابا يضع التاج على رأس الامبراطور ثم يباركه.

(1/292)


بأبناء جنسه وإذا كان يستعين بهم في ضرورة معاشه وسائر مهنه [1] فما ظنّك بسياسة نوعه ومن استرعاه الله من خلقه وعباده وهو محتاج إلى حماية الكافّة من عدوّهم بالمدافعة عنهم وإلى كفّ عدوان بعضهم على بعض في أنفسهم بإمضاء الأحكام الوازعة فيهم وكفّ العدوان عليهم في أموالهم بإصلاح سابلتهم [2] وإلى حملهم على مصالحهم وما تعمّهم به البلوى في معاشهم ومعاملاتهم من تفقّد المعايش والمكاييل والموازين حذرا من التّطفيف وإلى النّظر في السّكّة بحفظ النّقود الّتي يتعاملون بها من الغشّ وإلى سياستهم بما يريده منهم من الانقياد له والرّضى بمقاصده منهم وانفراده بالمجد دونهم فيتحمّل من ذلك فوق الغاية من معاناة القلوب قال بعض الأشراف من الحكماء: «لمعاناة نقل الجبال من أماكنها أهون عليّ من معاناة قلوب الرّجال» ثمّ إنّ الاستعانة إذا كانت بأولي القربى من أهل النّسب أو التّربية أو الاصطناع القديم للدّولة كانت أكمل لما يقع في ذلك من مجانسة خلقهم لخلقه فتتمّ المشاكلة في الاستعانة قال تعالى «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً من أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ به أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي 20: 29- 32» [3] وهو إمّا أن يستعين في ذلك بسيفه أو قلمه أو رأيه أو معارفه أو بحجّابه عن النّاس أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن النّظر في مهمّاتهم [4] أو يدفع النّظر في الملك كلّه [5] ويعوّل على كفايته في ذلك واضطلاعه فلذلك قد توجد في رجل واحد وقد تفترق في أشخاص وقد يتفرّع كلّ واحد منها إلى فروع كثيرة كالقلم يتفرّع إلى قلم الرّسائل والمخاطبات وقلم الصّكوك والإقطاعات وإلى قلم المحاسبات وهو صاحب الجباية والعطاء وديوان الجيش وكالسّيف يتفرّع إلى صاحب الحرب وصاحب الشّرطة
__________
[1] المهنة الخدمة وجمعها مهن بكسر الميم.
[2] أبناء السبيل.
[3] سورة طه (الآية 29- 32) .
[4] معنى الجملة: ان الملك يستعين بسيف هذا في شئون الحرب وقلم ذاك في شئون الكتابة. ورأي آخر في شئون السياسة.
[5] الأصح أن يقول «يدفع النظر إليه في الملك كله»

(1/293)


وصاحب البريد وولاية الثّغور ثمّ اعلم أنّ الوظائف السّلطانيّة في هذه الملّة الإسلاميّة مندرجة تحت الخلافة لاحتمال منصب الخلافة على الدّين والدّنيا كما قدّمناه فالأحكام الشّرعيّة متعلّقة بجميعها وموجودة لكلّ واحدة منها في سائر وجوهها لعموم تعلّق الحكم الشّرعيّ بجميع أفعال العباد والفقيه ينظر في مرتبة الملك والسّلطان وشروط تقليدها استبدادا على الخلافة وهو معنى السّلطان أو تعويضا منها وهو معنى الوزارة عندهم كما يأتي وفي نظره في الأحكام والأموال وسائر السّياسات مطلقا أو مقيّدا وفي موجبات العزل إن عرضت وغير ذلك من معاني الملك والسّلطان وكذا في سائر الوظائف الّتي تحت الملك والسّلطان من وزارة أو جباية أو ولاية لا بدّ للفقيه من النّظر في جميع ذلك كما قدّمناه من انسحاب حكم الخلافة الشّرعيّة في الملّة الإسلاميّة على رتبة الملك والسّلطان إلّا أنّ كلامنا في وظائف الملك والسّلطان ورتبته إنّما هو بمقتضى طبيعة العمران ووجود البشر لا بما يخصّها من أحكام الشّرع فليس من غرض كتابنا كما علمت فلا نحتاج إلى تفصيل أحكامها الشّرعيّة مع أنّها مستوفاة في كتب الأحكام السّلطانيّة مثل كتاب القاضي أبي الحسن الماورديّ وغيره من أعلام الفقهاء فإن أردت استيفاءها فعليك بمطالعتها هنالك وإنّما تكلّمنا في الوظائف الخلافيّة وأفردناها لنميّز بينها وبين الوظائف السّلطانيّة فقط لا لتحقيق أحكامها الشّرعيّة فليس من غرض كتابنا وإنّما نتكلّم في ذلك بما تقتضيه طبيعة العمران في الوجود الإنسانيّ والله الموفّق.
الوزارة:
وهي أمّ الخطط السّلطانيّة والرّتب الملوكيّة لأنّ اسمها يدلّ على مطلق الإعانة فإنّ الوزارة مأخوذة إمّا من المؤازرة وهي المعاونة أو من الوزر وهو الثّقل كأنّه يحمل مع مفاعله أوزاره وأثقاله وهو راجع إلى المعاونة المطلقة وقد كنّا قدّمنا في أوّل الفصل أنّ أحوال السّلطان وتصرّفاته لا تعدو أربعة لأنّها إمّا أن تكون في أمور حماية الكافّة وأسبابها من النّظر في الجدّ والسّلاح والحروب وسائر أمور

(1/294)


الحماية والمطالبة وصاحب هذا هو الوزير المتعارف في الدّول القديمة بالمشرق ولهذا العهد بالمغرب وإمّا أن تكون في أمور مخاطباته لمن بعد عنه في أمور جباية المال وإنفاقه وضبط ذلك من جميع وجوهه أن يكون بمضبطة وصاحب هذا هو صاحب المال والجباية وهو المسمّى بالوزير لهذا العهد بالمشرق وإمّا أن يكون في مدافعة النّاس ذوي الحاجات عنه أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن فهمه وهذا راجع لصاحب الباب الّذي يحجبه. فلا تعدو أحواله هذه الأربعة بوجه. وكلّ خطّة أو رتبة من رتب الملك والسّلطان فإليها ترجع. إلّا أنّ الأرفع منها ما كانت الإعانة فيه عامّة فيما تحت يد السّلطان من ذلك الصّنف إذ هو يقتضي مباشرة السّلطان دائما ومشاركته في كلّ صنف من أحوال ملكه وأمّا ما كان خاصّا ببعض النّاس أو ببعض الجهات فيكون دون الرّتبة الأخرى كقيادة ثغر أو ولاية جباية خاصّة أو النّظر في أمر خاصّ كحسبة الطّعام أو النّظر في السّكّة فإنّ هذه كلّها نظر في أحوال خاصّة فيكون صاحبها تبعا لأهل النّظر العامّ وتكون رتبته مرءوسة لأولئك. وما زال الأمر في الدّول قبل الإسلام هكذا حتّى جاء الإسلام وصار الأمر خلافة فذهبت تلك الخطط كلّها بذهاب رسم الملك إلى ما هو طبيعيّ من المعاونة بالرّأي والمفاوضة فيه فلم يمكن زواله إذ هو أمر لا بدّ منه فكان صلّى الله عليه وسلّم يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهمّاته العامّة والخاصّة ويخصّ مع ذلك أبا بكر بخصوصيّات أخرى حتّى كان العرب الّذين عرفوا الدّول وأحوالها في كسرى وقيصر والنّجاشيّ يسمّون أبا بكر وزيره ولم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام وكذا عمر مع أبي بكر وعليّ وعثمان مع عمر وأمّا حال الجباية والإنفاق والحسبان فلم يكن عندهم برتبة لأنّ القوم كانوا عربا أميّين لا يحسنون الكتاب [1] والحساب فكانوا يستعملون في الحساب أهل الكتاب [2] أو أفرادا من موالي العجم ممّن يجيده وكان قليلا فيهم
__________
[1] أي الكتابة.
[2] أهل الكتاب: أي النصارى واليهود.

(1/295)


وأمّا أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه لأنّ الأميّة كانت صفتهم الّتي امتازوا بها وكذا حال المخاطبات وتنفيذ الأمور لم تكن عندهم رتبة خاصّة للأمّيّة الّتي كانت فيهم والأمانة العامّة في كتمان القول وتأديته ولم تخرج السّياسة إلى اختياره لأنّ الخلافة إنّما هي دين ليست من السّياسة الملكيّة في شيء وأيضا فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد لخليفة أحسنها لأنّ الكلّ كانوا يعبّرون عن مقاصدهم بأبلغ العبارات ولم يبق إلّا الخطّ فكان الخليفة يستنيب في كتابته متى عنّ له من يحسنه وأمّا مدافعة ذوي الحاجات عن أبوابهم فكان محظورا بالشّريعة فلم يفعلوه فلمّا انقلبت الخلافة إلى الملك وجاءت رسوم السّلطان وألقابه كان أوّل شيء بدئ به في الدّولة شأن الباب وسدّه دون الجهور بما كانوا يخشون عن أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم كما وقع بعمر وعليّ ومعاوية وعمر بن العاصي وغيرهم مع ما في فتحه من ازدحام النّاس عليهم وشغلهم بهم عن المهمّات فاتّخذوا من يقوم لهم بذلك وسمّوه الحاجب وقد جاء أنّ عبد الملك لمّا ولّى حاجبه قال له «قد ولّيتك حجابة بابي إلّا عن ثلاثة المؤذّن للصّلاة فإنّه داعي الله وصاحب البريد فأمر ما جاء به وصاحب الطّعام لئلّا يفسد» ثمّ استفحل الملك بعد ذلك فظهر المشاور والمعين في أمور القبائل والعصائب واستئلافهم وأطلق عليه اسم الوزير وبقي أمر الحسبان في الموالي والذّمّيّين واتّخذ للسّجلّات كاتب مخصوص حوطة على أسرار السّلطان أن تشتهر فتفسد سياسته مع قومه ولم يكن بمثابة الوزير لأنّه إنّما احتيج له من حيث الخطّ والكتاب لا من حيث اللّسان الّذي هو الكلام إذ اللّسان لذلك العهد على حاله لم يفسد فكانت الوزارة لذلك أرفع رتبهم يومئذ في سائر دولة بني أميّة فكان النّظر للوزير عامّا في أحوال التّدبير والمفاوضات وسائر أمور الحمايات والمطالبات وما يتبعها من النّظر في ديوان الجند وفرض العطاء بالأهليّة وغير ذلك فلمّا جاءت دولة بني العبّاس واستفحل الملك وعظمت مراتبه وارتفعت وعظم شأن الوزير وصارت إليه النّيابة في إنفاذ الحلّ والعقد

(1/296)


تعيّنت مرتبته في الدّولة وعنت لها الوجوه وخضعت لها الرّقاب وجعل لها النّظر في ديوان الحسبان لما تحتاج إليه خطّته من قسم الأعطيات في الجند فاحتاج إلى النّظر في جمعه وتفريقه وأضيف إليه النّظر فيه ثمّ جعل له النّظر في القلم والتّرسيل لصون أسرار السّلطان ولحفظ البلاغة لما كان اللّسان قد فسد عند الجمهور وجعل الخاتم لسجلّات السّلطان ليحفظها من الذّياع والشّياع [1] ودفع إليه فصار اسم الوزير جامعا لخطّتي السّيف والقلم وسائر معاني الوزارة والمعاونة حتّى لقد دعي جعفر بن يحيى بالسّلطان أيّام الرّشيد إشارة إلى عموم نظره وقيامه بالدّولة ولم يخرج عنه من الرّتب السّلطانيّة كلّها إلّا الحجابة الّتي هي القيام على الباب فلم تكن له لاستنكافه عن مثل ذلك ثمّ جاء في الدّولة العبّاسيّة شأن الاستبداد على السّلطان [2] وتعاور فيها استبداد الوزارة مرّة والسّلطان أخرى وصار الوزير إذا استبدّ محتاجا إلى استنابة الخليفة إيّاه لذلك لتصحّ الأحكام الشّرعيّة وتجيء على حالها كما تقدّمت فانقسمت الوزارة حينئذ إلى وزارة تنفيذ وهي حال ما يكون السّلطان قائما على نفسه وإلى وزارة تفويض وهي حال ما يكون الوزير مستبدّا عليه ثمّ استمرّ الاستبداد وصار الأمر لملوك العجم وتعطّل رسم الخلافة ولم يكن لأولئك المتغلّبين أن ينتحلوا ألقاب الخلافة واستنكفوا من مشاركة الوزراء في اللّقب لأنّهم خول لهم فتسمّوا بالإمارة والسّلطان وكان المستبدّ على الدّولة يسمّى أمير الأمراء أو بالسّلطان إلى ما يحلّيه به الخليفة من ألقابه كما تراه في ألقابهم وتركوا اسم الوزارة إلى من يتولّاها للخليفة في خاصّته ولم يزل هذا الشّأن عندهم إلى آخر دولتهم وفسد اللّسان خلال ذلك كلّه وصارت صناعة ينتحلها بعض النّاس فامتهنت وترفّع الوزراء عنها لذلك ولأنّهم عجم وليست تلك البلاغة هي المقصودة من لسانهم فتخيّر لها من سائر الطّبقات واختصّت به وصارت خادمة للوزير واختصّ اسم الأمير بصاحب الحروب والجند وما يرجع إليها ويده مع ذلك عالية
__________
[1] الذياع والشياع: ليسا من مصادر ذاع وشاع والأصح أن يقول: الذيوع والشيوع.
[2] أي الخليفة كما يتضح من العبارة اللاحقة.

(1/297)


على أهل الرّتب وأمره نافذ في الكلّ إمّا نيابة أو استبدادا واستمرّ الأمر على هذا ثمّ جاءت دولة التّرك آخرا بمصر فرأوا أنّ الوزارة قد ابتذلت بترفّع أولئك عنها ودفعها لمن يقوم بها للخليفة المحجور ونظره مع ذلك متعقّب بنظر الأمير فصارت مرءوسة ناقصة فاستنكف أهل هذه الرّتبة العالية في الدّولة عن اسم الوزارة وصار صاحب الأحكام والنّظر في الجند يسمّى عندهم بالنّائب لهذا العهد وبقي اسم الحاجب في مدلوله واختصّ اسم الوزير عندهم بالنّظر في الجباية. وأمّا دولة بني أميّة بالأندلس فأنفوا اسم الوزير في مدلوله أوّل الدّولة ثمّ قسموا خطّته أصنافا وأفردوا لكلّ صنف وزيرا فجعلوا لحسبان المال وزيرا وللتّرسيل وزيرا وللنّظر في حوائج المتظلّمين وزيرا وللنّظر في أحوال أهل الثّغور وزيرا وجعل لهم بيت يجلسون فيه على فرش منضدة لهم وينفّذون أمر السّلطان هناك كلّ فيما جعل له وأفرد للتّردّد بينهم وبين الخليفة واحد منهم ارتفع عنهم بمباشرة السّلطان في كلّ وقت فارتفع مجلسه عن مجالسهم وخصوه باسم الحاجب ولم يزل الشّأن هذا إلى آخر دولتهم فارتفعت خطّة الحاجب ومرتبته على سائر الرّتب حتّى صار ملوك الطّوائف ينتحلون لقبها فأكثرهم يومئذ يسمّى الحاجب كما نذكره ثمّ جاءت دولة الشّيعة بإفريقيّة والقيروان وكان للقائمين بها رسوخ في البداوة فأغفلوا أمر هذه الخطط أوّلا وتنقيح أسمائها كما تراه في أخبار دولتهم، ولمّا جاءت دولة الموحّدين من بعد ذاك أغفلت الأمر أوّلا للبداوة ثمّ صارت إلى انتحال الأسماء والألقاب وكان اسم الوزير لمن يحجب السّلطان في مجلسه ويقف بالوفود والدّاخلين على السّلطان عند الحدود في تحيّتهم وخطابهم والآداب الّتي تلزم في الكون بين يديه ورفعوا خطّة الحجابة عنه ما شاءوا ولم يزل الشّأن ذلك إلى هذا العهد وأمّا في دولة التّرك بالمشرق فيسمّون هذا الّذي يقف بالنّاس على حدود الآداب في اللّقاء والتّحيّة في مجالس السّلطان والتّقدّم بالوفود بين يديه الدّويدار

(1/298)


ويضيفون إليه استتباع كاتب السّرّ وأصحاب البريد المتصرّفين في حاجات السّلطان بالقاصية وبالحاضرة وحالهم على ذلك لهذا العهد والله مولّي الأمور لمن يشاء.
الحجابة:
قد قدّمنا أنّ هذا اللّقب كان مخصوصا في الدّولة الأمويّة والعبّاسيّة بمن يحجب السّلطان عن العامّة ويغلق بابه دونهم أو يفتحه لهم على قدره في مواقيته وكانت هذه منزّلة يوما عن الخطط مرءوسة لها إذ الوزير متصرّف فيها بما يراه وهكذا كانت سائر أيّام بني العبّاس وإلى هذا العهد فهي بمصر مرءوسة لصاحب الخطّة العليا المسمّى بالنّائب. وأمّا في الدّولة الأمويّة بالأندلس فكانت الحجابة لمن يحجب السّلطان عن الخاصّة والعامّة ويكون واسطة بينه وبين الوزراء فمن دونهم فكانت في دولتهم رفيعة غاية كما تراه في أخبارهم كابن حديد وغيره من حجّابهم ثمّ لمّا جاء الاستبداد على الدّولة اختصّ المستبدّ باسم الحجابة لشرفها فكان المنصور بن أبي عامر وأبناؤه كذلك ولمّا بدوا في مظاهر الملك وأطواره جاء من بعدهم من ملوك الطّوائف فلم يتركوا لقبها وكانوا يعدّونه شرفا لهم وكان أعظمهم ملكا بعد انتحال ألقاب الملك وأسمائه لا بدّ له من ذكر الحاجب وذي الوزارتين يعنون به السّيف والقلم ويدلّون بالحجابة على حجابة السّلطان عن العامّة والخاصّة وبذي الوزارتين عن جمعه لخطّتي السّيف والقلم. ثمّ لم يكن في دول المغرب وإفريقية ذكر لهذا الاسم للبداوة الّتي كانت فيهم وربّما يوجد في دولة العبيديّين بمصر عند استعظامها وحضارتها إلّا أنّه قليل. ولمّا جاءت دولة الموحّدين لم تستمكن فيها الحضارة الدّاعية إلى انتحال الألقاب وتمييز الخطط وتعيينها بالأسماء إلّا آخرا فلم يكن عندهم من الرّتب إلّا الوزير فكانوا أوّلا يخصّون بهذا الاسم الكاتب المتصرّف المشارك للسّلطان في خاصّ أمره كابن عطيّة وعبد السّلام الكوميّ وكان له مع ذلك النّظر في الحساب والأشغال الماليّة ثمّ صار بعد ذلك اسم الوزير لأهل نسب

(1/299)


الدّولة من الموحّدين كابن جامع وغيره ولم يكن اسم الحاجب معروفا في دولتهم يومئذ. وأمّا بنو أبي حفص بإفريقيّة فكانت الرّئاسة في دولتهم أوّلا والتّقدّم لوزير والرّأي والمشورة وكان يخصّ باسم شيخ الموحّدين وكان له النّظر في الولايات والعزل وقود العساكر والحروب واختصّ الحسبان والدّيوان برتبة أخرى ويسمّى متولّيها بصاحب الأشغال ينظر فيها النّظر المطلق في الدّخل والخرج ويحاسب ويستخلص الأموال ويعاقب على التّفريط وكان من شرطه أن يكون من الموحّدين واختصّ عندهم القلم أيضا بمن يجيد التّرسيل ويؤتمن على الأسرار لأنّ الكتابة لم تكن من منتحل القوم ولا التّرسيل بلسانهم فلم يشترط فيه النّسب واحتاج السّلطان لاتّساع ملكه وكثرة المرتزقين بداره إلى قهرمان خاصّ بداره في أحواله يجريها على قدرها وترتيبها من رزق وعطاء وكسوة ونفقة في المطابخ والإصطبلات وغيرهما وحصر الذّخيرة وتنفيذ ما يحتاج إليه في ذلك على أهل الجباية فخصّوه باسم الحاجب وربّما أضافوا إليه كتابة العلامة على السّجلّات إذا اتّفق أنّه يحسن صناعة الكتابة وربما جعلوه لغيره واستمرّ الأمر على ذلك وحجب السّلطان نفسه عن النّاس فصار هذا الحاجب واسطة بين النّاس وبين أهل الرّتب كلّهم ثمّ جمع له آخر الدّولة السّيف والحرب ثمّ الرأي والمشورة فصارت الخطّة أرفع الرّتب وأوعبها [1] للخطط ثمّ جاء الاستبداد والحجر مدّة من بعد السّلطان الثّاني عشر منهم ثمّ استبدّ بعد ذلك حفيده السّلطان أبو العبّاس على نفسه وأذهب آثار الحجر والاستبداد بإذهاب خطّة الحجابة الّتي كانت سلّما إليه وباشر أموره كلّها بنفسه من غير استعانة بأحد والأمر على ذلك لهذا العهد.
وأمّا دولة زناتة بالمغرب وأعظمها دولة بني مرين فلا أثر لاسم الحاجب عندهم وأمّا رئاسة الحرب والعساكر فهي للوزير ورتبة القلم في الحسبان والرّسائل راجعة إلى من يحسنها من أهلها وإن اختصّت ببعض البيوت المصطنعين في
__________
[1] بمعنى استيعابها للخطط.

(1/300)


دولتهم وقد تجمع عندهم وقد تفرّق وأمّا باب السّلطان وحجبه عن العامّة فهي رتبة عندهم فيسمّى صاحبها عندهم بالمزوار ومعناه المقدّم على الجنادرة المتصرّفين بباب السّلطان في تنفيذ أوامره وتصريف عقوباته وإنزال سطواته وحفظ المعتقلين في سجونه والعريف عليهم في ذلك فالباب له وأخذ النّاس بالوقوف عند الحدود في دار العامّة راجع إليه فكأنّها وزارة صغرى. وأمّا دولة بني عبد الوادّ فلا أثر عندهم لشيء من هذه الألقاب ولا تمييز الخطط لبداوة دولتهم وقصورها وإنّما يخصّون باسم الحاجب في بعض الأحوال منفّذ الخاصّ بالسّلطان في داره كما كان في دولة بني أبي حفص وقد يجمعون له الحسبان والسّجلّ كما كان فيها حملهم على ذلك تقليد الدّولة بما كانوا في تبعتها وقائمين بدعوتها منذ أوّل أمرهم.
وأمّا أهل الأندلس لهذا العهد فالمخصوص عندهم بالحسبان وتنفيذ حال السّلطان وسائر الأمور الماليّة يسمّونه بالوكيل وأمّا الوزير فكالوزير إلّا أنّه يجمع له التّرسيل والسّلطان عندهم يضع خطّه على السّجلّات كلّها فليس هناك خطّة العلامة كما لغيرهم من الدّول. وأمّا دولة التّرك بمصر فاسم الحاجب عندهم موضوع لحاكم من أهل الشّوكة وهم التّرك ينفّذ الأحكام بين النّاس في المدينة وهم متعدّدون وهذه الوظيفة عندهم تحت وظيفة النّيابة الّتي لها الحكم في أهل الدّولة وفي العامّة على الإطلاق وللنّائب التّولية والعزل في بعض الوظائف على الأحيان ويقطع القليل من الأرزاق ويبتها وتنفّذ أوامره كما تنفّذ المراسم السّلطانيّة وكان له النّيابة المطلقة عن السّلطان وللحجّاب الحكم فقط في طبقات العامّة والجند عند التّرافع إليهم وإجبار من أبى الانقياد للحكم وطورهم تحت طور النّيابة والوزير في دولة التّرك هو صاحب جباية الأموال في الدّولة على اختلاف أصنافها من خراج أو مكس أو جزية ثمّ في تصريفها في الإنفاقات السّلطانيّة أو الجرايات المقدّرة وله مع ذلك التّولية والعزل في سائر العمّال المباشرين لهذه

(1/301)


الجباية والتّنفيذ على اختلاف مراتبهم وتباين أصنافهم ومن عوائدهم أن يكون هذا الوزير من صنف القبط القائمين على ديوان الحسبان والجباية لاختصاصهم بذلك في مصر منذ عصور قديمة وقد يولّيها السّلطان بعض الأحيان لأهل الشّوكة من رجالات التّرك أو أبنائهم على حسب الدّاعية لذلك والله مدبّر الأمور ومصرّفها بحكمته لا إله إلّا هو ربّ الأوّلين والآخرين
ديوان الأعمال والجبايات
اعلم أنّ هذه الوظيفة من الوظائف الضّروريّة للملك وهي القيام على أعمال الجبايات وحفظ حقوق الدّولة في الدّخل والخرج وإحصاء العساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم في إبّاناتها والرّجوع في ذلك إلى القوانين الّتي يرتّبها قومة تلك الأعمال وقهارمة الدّولة وهي كلّها مسطورة في كتاب شاهد بتفاصيل ذلك في الدّخل والخرج مبنيّ على جزء كبير من الحساب لا يقوم به إلّا المهرة من أهل تلك الأعمال ويسمّى ذلك الكتاب بالدّيوان وكذلك مكان جلوس العمّال المباشرين لها. ويقال إنّ أصل هذه التّسمية أنّ كسرى نظر يوما إلى كتّاب ديوانه وهم يحسبون على أنفسهم كأنّهم يحادثون فقال ديوانه أي مجانين بلغة الفرس فسمّي موضعهم بذلك وحذفت الهاء لكثرة الاستعمال تخفيفا فقيل ديوان ثمّ نقل هذا الاسم إلى كتاب هذه الأعمال المتضمّن للقوانين والحسبانات وقيل إنّه اسم للشّياطين بالفارسيّة سمّي الكتّاب بذلك لسرعة نفوذهم في فهم الأمور ووقوفهم على الجليّ منها والخفيّ وجمعهم لما شذّ وتفرّق ثمّ نقل إلى مكان جلوسهم لتلك الأعمال وعلى هذا فيتناول اسم الدّيوان كتاب الرّسائل ومكان جلوسه بباب السّلطان على ما يأتي بعد وقد تفرد هذه الوظيفة بناظر واحد ينظر في سائر هذه الأعمال وقد يفرد كلّ صنف منها بناظر كما يفرد في بعض الدّول النّظر في العساكر وإقطاعاتهم وحسبان أعطياتهم أو غير ذلك على حسب مصطلح الدّولة وما

(1/302)


قرّره أوّلوها. واعلم أنّ هذه الوظيفة إنّما تحدث في الدّول عند تمكّن الغلب والاستيلاء والنّظر في أعطاف الملك وفنون التّمهيد. وأوّل من وضع الدّيوان في الدّولة الإسلاميّة عمر رضي الله عنه يقال لسبب مال أتى به أبو هريرة رضي الله عنه من البحرين فاستكثروه وتعبوا في قسمه فسموا إلى إحصاء الأموال وضبط العطاء والحقوق فأشار خالد بن الوليد بالدّيوان وقال: «رأيت ملوك الشّام يدوّنون» فقبل منه عمر وقيل بل أشار عليه به الهرمزان لمّا رآه يبعث البعوث بغير ديوان فقيل له ومن يعلم بغيبة من يغيب منهم فإنّ من تخلّف أخلّ بمكانه وإنّما يضبط ذلك الكتاب فأثبت لهم ديوانا وسأل عمر عن اسم الدّيوان فعبّر له ولمّا اجتمع ذلك أمر عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من كتّاب قريش فكتبوا ديوان العساكر الإسلاميّة على ترتيب الأنساب مبتدأ من قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما بعدها الأقرب فالأقرب هكذا كان ابتداء ديوان الجيش وروى الزّهريّ بن سعيد بن المسيّب أنّ ذلك كان في المحرّم سنة عشرين وأمّا ديوان الخراج والجبايات فبقي بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل ديوان العراق بالفارسيّة وديوان الشّام بالرّوميّة وكتّاب الدّواوين من أهل العهد من الفريقين ولمّا جاء عبد الملك بن مروان واستحال الأمر ملكا وانتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة ومن سذاجة الأميّة إلى حذق الكتابة وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتّاب والحسبان فأمر عبد الملك سليمان بن سعد والي الأردنّ لعهده أن ينقل ديوان الشّام إلى العربيّة فأكمله لسنة من يوم ابتدائه ووقف عليه سرحون كاتب عبد الملك فقال لكتّاب الرّوم: «اطلبوا العيش في غير هذه الصّناعة فقد قطعها الله عنكم» . وأمّا ديوان العراق فأمر الحجّاج كاتبه صالح بن عبد الرّحمن وكان يكتب بالعربيّة والفارسيّة ولقّن ذلك عن زادان فروخ كاتب الحجّاج قبله ولمّا قتل زادان في حرب عبد الرّحمن بن الأشعث استخلف الحجّاج صالحا هذا مكانه وأمره أن ينقل الدّيوان من الفارسيّة

(1/303)


إلى العربيّة ففعل ورغم لذلك كتّاب الفرس وكان عبد الحميد بن يحيى يقول للَّه درّ صالح ما أعظم منّته على الكتّاب ثمّ جعلت هذه الوظيفة في دولة بني العبّاس مضافة إلى من كان له النّظر فيه كما كان شأن بني برمك وبني سهل بن نوبخت وغيرهم من وزراء الدّولة. وأمّا ما يتعلّق بهذه الوظيفة من الأحكام الشّرعيّة ممّا يختصّ بالجيش أو بيت المال في الدّخل والخرج وتمييز النّواحي بالصلح والعنوة وفي تقليد هذه الوظيفة لمن يكون وشروط النّاظر فيها والكاتب وقوانين الحسبانات فأمر راجع إلى كتب الأحكام السّلطانيّة وهي مسطورة هنالك وليست من غرض كتابنا وإنّما نتكلّم فيها من حيث طبيعة الملك الّذي نحن بصدد الكلام فيه وهذه الوظيفة جزء عظيم من الملك بل هي ثالثة أركانه لأنّ الملك لا بدّ له من الجند والمال والمخاطبة لمن غاب عنه فاحتاج صاحب الملك إلى الأعوان في أمر السّيف وأمر القلم وأمر المال فينفرد صاحبها لذلك بجزء من رئاسة الملك وكذلك كان الأمر في دولة بني أميّة بالأندلس والطّوائف بعدهم وأمّا في دولة الموحّدين فكان صاحبها إنّما يكون من الموحّدين يستقلّ بالنّظر في استخراج الأموال وجمعها وضبطها وتعقّب نظر الولاة والعمّال فيها ثمّ تنفيذها على قدرها وفي مواقيتها وكان يعرف بصاحب الأشغال وكان ربّما يليها في الجهات غير الموحّدين ممّن يحسنها. ولمّا استبدّ بنو أبي حفص بإفريقيّة وكان شان الجالية من الأندلس فقدم عليهم أهل البيوتات وفيهم من كان يستعمل ذلك في الأندلس مثل بني سعيد أصحاب القلعة جوار غرناطة المعروفين ببني أبي الحسن فاستكفوا بهم في ذلك وجعلوا لهم النّظر في الأشغال كما كان لهم بالأندلس ودالوا فيها بينهم وبين الموحّدين ثمّ استقلّ بها أهل الحسبان والكتّاب وخرجت عن الموحّدين ثمّ لمّا استغلظ أمر الحاجب ونفذ أمره في كلّ شأن من شئون الدّولة تعطّل هذا الرّسم وصار صاحبه مرءوسا للحاجب وأصبح من جملة الجباة وذهبت تلك الرّئاسة الّتي كانت له في الدّولة. وأمّا دولة بني مرين لهذا العهد فحسبان

(1/304)


العطاء والخراج مجموع لواحد وصاحب هذه الرّتبة هو الّذي يصحّح الحسبانات كلّها ويرجع إلى ديوانه ونظره معقّب بنظر السّلطان أو الوزير وخطّه معتبر في صحّة الحسبان في الخارج والعطاء هذه أصول الرّتب والخطط السّلطانيّة وهي الرّتب العالية الّتي هي عامّة النّظر ومباشرة للسّلطان. وأمّا هذه الرّتبة في دولة التّرك فمتنوّعة وصاحب ديوان العطاء يعرف بناظر الجيش وصاحب المال مخصوص باسم الوزير وهو النّاظر في ديوان الجباية العامّة للدّولة وهو أعلى رتب النّاظرين في الأموال لأنّ النّظر في الأموال عندهم يتنوّع إلى رتب كثيرة لانفساح دولتهم وعظمة سلطانهم واتّساع الأموال والجبايات عن أن يستقلّ بضبطها الواحد من الرّجال ولو بلغ في الكفاية مبالغه فتعيّن للنّظر العامّ منها هذا المخصوص باسم الوزير وهو مع ذلك رديف لمولى من موالي السّلطان وأهل عصبيّته وأرباب السّيوف في الدّولة يرجع نظر الوزير إلى نظره ويجتهد جهده في متابعته ويسمّى عندهم أستاذ الدّولة وهو أحد الأمراء الأكابر في الدّولة من الجند وأرباب السّيوف ويتبع هذه الخطّة خطط عندهم أخرى كلّها راجعة إلى الأموال والحسبان مقصورة النّظر إلى أمور خاصّة مثل ناظر الخاصّ وهو المباشر لأموال السّلطان الخاصّة به من إقطاعاته أو سهمانه من أموال الخراج وبلاد الجباية ممّا ليس من أموال المسلمين العامّة وهو تحت يد الأمير أستاذ الدّار وإن كان الوزير من الجند فلا يكون لأستاذ الدّار نظر عليه ونظر الخاصّ تحت يد الخازن لأموال السّلطان من مماليكه المسمّى خازن الدّار لاختصاص وظيفتهما بمال السّلطان الخاصّ. هذا بيان هذه الخطّة بدولة التّرك بالمشرق بعد ما قدّمناه من أمرها بالمغرب والله مصرّف الأمور لا ربّ غيره.
ديوان الرسائل والكتابة
هذه الوظيفة غير ضروريّة في الملك لاستغناء كثير من الدّول عنها رأسا كما

(1/305)


في الدّول العريقة في البداوة الّتي لم يأخذها تهذيب الحضارة ولا استحكام الصّنائع وإنّما أكّد الحاجة إليها في الدّولة الإسلاميّة شأن اللّسان العربيّ والبلاغة في العبارة عن المقاصد فصار الكتّاب يؤدّي كنه الحاجة بأبلغ من العبارة اللّسانيّة في الأكثر وكان الكاتب للأمير يكون من أهل نسبه ومن عظماء قبيله كما كان للخلفاء وأمراء الصّحابة بالشّام والعراق لعظم أمانتهم وخلوص أسرارهم فلمّا فسد اللّسان وصار صناعة اختصّ بمن يحسنه وكانت عند بني العبّاس رفيعة وكان الكاتب يصدر السّجلّات مطلقة ويكتب في آخرها اسمه ويختم عليها بخاتم السّلطان وهو طابع منقوش فيه اسم السّلطان أو شارته يغمس في طين أحمر مذاب بالماء ويسمّى طين الختم ويطبع به على طرفي السّجلّ عند طيّه وإلصاقه ثمّ صارت السّجلّات من بعدهم تصدّر باسم السّلطان ويضع الكاتب فيها علامته أوّلا أو آخرا على حسب الاختيار في محلّها وفي لفظها ثمّ قد تنزل هذه الخطّة بارتفاع المكان عند السّلطان لغير صاحبها من أهل المراتب في الدّولة أو استبداد وزير عليه فتصير علامة هذا الكتاب ملغاة الحكم بعلامة الرّئيس عليه يستدل بها فيكتب صورة علامته المعهودة والحكم لعلامة ذلك الرّئيس كما وقع آخر الدّولة الحفصيّة لمّا ارتفع شأن الحجابة وصار أمرها إلى التّفويض ثمّ الاستبداد صار حكم العلامة الّتي للكاتب ملغى وصورتها ثابتة إتباعا لما سلف من أمرها فصار الحاجب يرسم للكاتب إمضاء كتابه ذلك بخطّ يصنعه ويتخيّر له من صيغ الإنفاذ ما شاء فيأتمر الكاتب له ويضع العلامة المعتادة وقد يختصّ السّلطان لنفسه بوضع ذلك إذا كان مستبدّا بأمره قائما على نفسه فيرسم الأمر للكاتب ليضع علامته، ومن خطط الكتابة التّوقيع وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السّلطان في مجالس حكمه وفصله ويوقّع على القصص المرفوعة إليه أحكامها والفصل فيها متلقّاة من السّلطان بأوجز لفظ وأبلغه فإمّا أن تصدر كذلك وإمّا أن يحذو الكاتب على مثالها في سجلّ يكون بيد صاحب القصّة ويحتاج الموقّع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها

(1/306)


توقيعه وقد كان جعفر بن يحيى يوقّع في القصص بين يدي الرّشيد ويرمي بالقصّة إلى صاحبها فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفنونها حتّى قيل إنّها كانت تباع كلّ قصّة منها بدينار وهكذا كان شأن الدّول، واعلم أنّ صاحب هذه الخطّة لا بدّ من أن يتخيّر أرفع طبقات النّاس وأهل المروءة والحشمة منهم وزيادة العلم وعارضة البلاغة فإنّه معرّض للنّظر في أصول العلم لما يعرض في مجالس الملوك ومقاصد أحكامهم من أمثال ذلك ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الآداب والتّخلّق بالفضائل مع ما يضطرّ إليه في التّرسيل وتطبيق مقاصد الكلام من البلاغة وأسرارها وقد تكون الرّتبة في بعض الدّول مستندة إلى أرباب السّيوف لما يقتضيه طبع الدّولة من البعد عن معاناة العلوم لأجل سذاجة العصبيّة فيختصّ السّلطان أهل عصبيّته بخطط دولته وسائر رتبه فيقلّد المال والسّيف والكتابة منهم فأمّا رتبة السّيف فتستغني عن معاناة العلم وأمّا المال والكتابة فيضطرّ إلى ذلك البلاغة في هذه والحسبان في الأخرى فيختارون لها من هذه الطّبقة ما دعت إليه الضّرورة ويقلّدونه إلّا أنّه لا تكون يد آخر من أهل العصبيّة غالبة على يده ويكون نظره منصرفا عن نظره كما هو في دولة التّرك لهذا العهد بالمشرق فإنّ الكتابة عندهم وإن كانت لصاحب الإنشاء إلّا أنّه تحت يد أمير من أهل عصبيّة السّلطان يعرف بالدّويدار وتعويل السّلطان ووثوقه به واستنامته في غالب أحواله إليه وتعويله على الآخر في أحوال البلاغة وتطبيق المقاصد وكتمان الأسرار وغير ذلك من توابعها. وأمّا الشّروط المعتبرة في صاحب هذه الرّتبة الّتي يلاحظها السّلطان في اختياره وانتقائه من أصناف النّاس فهي كثيرة وأحسن من استوعبها عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتّاب وهي: «أمّا بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفّقكم وأرشدكم فإنّ الله عزّ وجلّ جعل النّاس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومن بعد الملوك المكرّمين أصنافا وإن كانوا في الحقيقة

(1/307)


سواء وصرّفهم في صنوف الصّناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتّاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرّزانة بكم ينتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها وبنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلّا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم الّتي بها يسمعون وأبصارهم الّتي بها يبصرون وألسنتهم الّتي بها ينطقون وأيديهم الّتي بها يبطشون فأمتعكم الله بما خصّكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النّعمة عليكم وليس أحد من أهل الصّناعات كلّها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيّها الكتّاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإنّ الكاتب يحتاج في نفسه ويحتاج منه صاحبه الّذي يثق به في مهمّات أموره أن يكون حليما في موضع الحلم فهيما في موضع الحكم مقداما في موضع الإقدام محجما في موضع الإحجام مؤثرا للعفاف والعدل والإنصاف كتوما للأسرار وفيّا عند الشّدائد عالما بما يأتي من النّوازل يضع الأمور مواضعها والطّوارق في أماكنها قد نظر في كلّ فنّ من فنون العلم فأحكمه وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فيعدّ لكلّ أمر عدّته وعتاده ويهيّئ لكلّ وجه هيئته وعادته فتنافسوا يا معشر الكتّاب في صنوف الآداب وتفقّهوا في الدّين وابدءوا بعلم كتاب الله عزّ وجلّ والفرائض ثمّ العربيّة فإنّها ثقاف ألسنتكم ثمّ أجيدوا الخطّ فإنّه حلية كتبكم وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وأيّام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإنّ ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم ولا تضيعوا النّظر في الحساب فإنّه قوام كتّاب الخراج وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيّها ودنيّها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنّها مذلّة للرّقاب مفسدة للكتّاب ونزّهوا صناعتكم عن الدّناءة واربأوا بأنفسكم عن السّعاية والنّميمة وما

(1/308)


فيه أهل الجهالات وإيّاكم والكبر والسّخف والعظمة فإنّها عداوة مجتلبة من غير إحنة وتحابّوا في الله عزّ وجلّ في صناعتكم وتواصوا عليها بالّذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنّبل من سلفكم وإن نبا الزّمان برجل منكم فاعطفوا عليه وآسوه حتّى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره وإن أقعد أحدا منكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظّموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته وليكن الرّجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه فإن عرضت في الشّغل محمدة فلا يصفها إلّا إلى صاحبه وإن عرضت مذمّة فليحملها هو من دونه وليحذر السّقطة والزّلّة والملل عند تغيّر الحال فإنّ العيب إليكم معشر الكتّاب أسرع منه إلى القرّاء وهو لكم أفسد منه لهم فقد علمتم أنّ الرّجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقّه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وخيره ونصيحته وكتمان سرّه وتدبير أمره ما هو جزاء لحقّه ويصدّق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه فاستشعروا ذلك وفّقكم الله من أنفسكم في حالة الرّخاء والشّدّة والحرمان والمؤاساة والإحسان والسّرّاء والضّرّاء فنعمت السّيمة هذه من وسم بها من أهل هذه الصّناعة الشّريفة وإذا ولّي الرّجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عزّ وجلّ وليؤثر طاعته وليكن على الضّعيف رفيقا وللمظلوم منصفا «فإنّ الخلق عيال الله وأحبّهم إليه أرفقهم بعياله» ثمّ ليكن بالعدل حاكما وللأشراف مكرما وللفيء موفّرا وللبلاد عامرا وللرّعيّة متألّفا وعن أذاهم متخلّفا وليكن في مجلسه متواضعا حليما وفي سجلّات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقا وإذا صحب أحدكم رجلا فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها وقبحها أعانه على ما يوافقه من الحسن واحتال على صرفه عمّا يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة وقد علمتم أنّ سائس البهيمة إذا كان بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها فإن كانت رموحا [1] لم يهجها إذا ركبها وإن كانت شبوبا [2] اتّقاها من بين يديها وإن خاف
__________
[1] كثيرة الرفس.
[2] كثيرة رفع اليدين.

(1/309)


منها شرودا توقّاها من ناحية رأسها وإن كانت حرونا قمع برفق هواها في طرقها [1] فإن استمرّت عطفها يسيرا فيسلس له قيادها وفي هذا الوصف من السّياسة دلائل لمن ساس النّاس وعاملهم وجرّبهم وداخلهم والكاتب بفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يحاوره من النّاس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرّفق لصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة الّتي لا تحير جوابا ولا تعرف صوابا ولا تفهم خطابا إلّا بقدر ما يصيّرها إليه صاحبها الرّاكب عليها ألا فارفقوا رحمكم الله في النّظر واعملوا ما أمكنكم فيه من الرّويّة والفكر تأمنوا بإذن الله ممّن صحبتموه النّبوة والاستثقال والجفوة ويصير منكم إلى الموافقة وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشّفقة إن شاء الله. ولا يجاوزنّ الرّجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقّه فإنّكم مع ما فضّلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التّقصير وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التّضييع والتّبذير واستعينوا على عفافكم بالقصد في كلّ ما ذكرته لكم وقصصته عليكم واحذروا متالف السّرف وسوء عاقبة التّرف فإنّهما يعقبان الفقر ويذلّان الرّقاب ويفضحان أهلهما وسيّما الكتّاب وأرباب الآداب وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض فاستدلّوا على مؤتنف [2] أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثمّ اسلكوا من مسالك التّدبير أوضحها محجّة وأصدقها حجّة وأحمدها عاقبة واعلموا أنّ للتّدبير آفة متلفة وهو الوصف الشّاغل لصاحبه عن إنقاذ علمه ورويّته فليقصد الرّجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه وليوجز في ابتدائه وجوابه وليأخذ بمجامع حججه فإنّ ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للتّشاغل عن إكثاره وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضرّ ببدنه وعقله وأدبه فإنّه إن ظنّ منكم ظانّ أو قال قائل إنّ الّذي برز من جميل صنعته وقوّة حركته إنّما هو
__________
[1] بمعنى الضرب.
[2] الجديد الّذي لم تسبق فيه تجربة.

(1/310)


بفضل حيلته وحسن تدبيره فقد تعرّض بظنّه أو مقالته إلى أن يكله الله عزّ وجلّ إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف وذلك على من تأمّله غير خاف ولا يقل أحد منكم إنّه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التّدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته فإنّ أعقل الرّجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره ورأى أنّ أصحابه أعقل منه وأحمد في طريقته وعلى كلّ واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جلّ ثناؤه من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه ولا يكاثر [1] على أخيه أو نظيره وصاحبه وعشيرة وحمد الله واجب على الجميع وذلك بالتّواضع لعظمته والتّذلّل لعزّته والتّحدّث بنعمته وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل من تلزمه النّصيحة يلزمه العمل وهو جوهر هذا الكتاب وغرّة كلامه بعد الّذي فيه من ذكر الله عزّ وجلّ فلذلك جعلته آخره وتمّمته به تولّانا الله وإيّاكم يا معشر الطّلبة والكتبة بما يتولّى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده فإنّ ذلك إليه وبيده والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته» .
الشرطة:
ويسمّى صاحبها لهذا العهد بإفريقيّة الحاكم وفي دولة أهل الأندلس صاحب المدينة وفي دولة التّرك الوالي. وهي وظيفة مرءوسة لصاحب السّيف في الدّولة وحكمه نافذ في صاحبها في بعض الأحيان وكان أصل وضعها في الدّولة العبّاسيّة لمن يقيم أحكام الجرائم في حال استبدادها أوّلا ثمّ الحدود بعد استيفائها فإنّ التّهم الّتي تعرض في الجرائم لا نظر للشّرع إلّا في استيفاء حدودها وللسّياسة النّظر في استيفاء موجباتها بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفّت به القرائن لما توجبه المصلحة العامّة في ذلك فكان الّذي يقوم بهذا الاستبداد وباستيفاء الحدود بعده إذا تنزّه عنه القاضي يسمّى صاحب الشّرطة وربّما جعلوا إليه النّظر في الحدود والدّماء بإطلاق، وأفردوها من نظر القاضي ونزّهوا هذه المرتبة وقلّدوها كبار القوّاد وعظماء الخاصّة من مواليهم ولم تكن عامّة التّنفيذ في
__________
[1] يتعاظم أو يفاخر.

(1/311)


طبقات النّاس إنّما كان حكمهم على الدّهماء وأهل الرّيب والضّرب على أيدي الرّعاع والفجرة. ثمّ عظمت نباهتها في دولة بني أميّة بالأندلس ونوّعت إلى شرطة كبرى وشرطة صغرى وجعل حكم الكبرى على الخاصّة والدّهماء وجعل له الحكم على أهل المراتب السّلطانيّة والضّرب على أيديهم في الظّلامات وعلى أيدي أقاربهم ومن إليهم من أهل الجاه وجعل صاحب الصّغرى مخصوصا بالعامّة ونصب لصاحب الكبرى كرسيّ بباب دار السّلطان ورجال يتبوّءون المقاعد بين يديه فلا يبرحون عنها إلّا في تصريفه وكانت ولايتها للأكابر من رجالات الدّولة حتّى كانت ترشيحا للوزارة والحجابة.
وأمّا في دولة الموحّدين بالمغرب فكان لها حظّ من التّنويه وإن لم يجعلوها عامّة وكان لا يليها إلّا رجالات الموحّدين وكبراؤهم ولم يكن له التّحكّم على أهل المراتب السّلطانيّة ثمّ فسد اليوم منصبها وخرجت عن رجال الموحّدين وصارت ولايتها لمن قام بها من المصطنعين. وأمّا في دولة بني مرين لهذا العهد بالمشرق فولايتها في بيوت مواليهم وأهل اصطناعهم وفي دولة التّرك بالمشرق في رجالات التّرك أو أعقاب أهل الدّولة قبلهم من التّرك يتخيّرونهم لها في النّظر بما يظهر منهم من الصّلابة والمضاء في الأحكام لقطع موادّ الفساد وحسم أبواب الدّعارة وتخريب مواطن الفسوق وتفريق مجامعه مع إقامة الحدود الشّرعيّة والسّياسيّة كما تقتضيه رعاية المصالح العامّة في المدينة والله مقلّب اللّيل والنّهار وهو العزيز الجبّار والله تعالى أعلم.
قيادة الأساطيل:
وهي من مراتب الدّولة وخططها في ملك المغرب وإفريقية ومرءوسة لصاحب السّيف وتحت حكمه في كثير من الأحوال ويسمّى صاحبها في عرفهم البلمند بتفخيم اللّام منقولا من لغة الإفرنجة فإنّه اسمها في اصطلاح لغتهم وإنّما اختصّت هذه المرتبة بملك إفريقية والمغرب لأنّهما جميعا على ضفّة البحر الرّوميّ من جهة الجنوب وعلى عدوته الجنوبيّة بلاد البربر كلّهم

(1/312)


من سبتة إلى الشّام وعلى عدوته الشّماليّة بلاد الأندلس والإفرنجة والصّقالبة والرّوم إلى بلاد الشّام أيضا ويسمّى البحر الرّوميّ والبحر الشّاميّ نسبة إلى أهل عدوته والسّاكنون بسيف هذا البحر وسواحله من عدوتيه يعانون من أحواله ما لا تعانيه أمّة من أمم البحار فقد كانت الرّوم والإفرنجة والقوط بالعدوة الشّماليّة من هذا البحر الرّوميّ وكانت أكثر حروبهم ومتاجرهم في السّفن فكانوا مهرة في ركوبه والحرب في أساطيله ولمّا أسفّ [1] من أسفّ منهم إلى ملك العدوة الجنوبيّة مثل الرّوم إلى إفريقية والقوط إلى المغرب أجازوا [2] في الأساطيل وملكوها وتغلّبوا على البربر بها وانتزعوا من أيديهم أمرها وكان لها بها المدن الحافلة مثل قرطاجنّة وسبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة وكان صاحب قرطاجنّة من قبلهم يحارب صاحب رومة ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر السّاكنين حفافيه معروفة في القديم والحديث ولمّا ملك المسلمون مصر كتب عمر بن الخطّاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن صف لي البحر» فكتب إليه: «إنّ البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود» فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه ولم يركبه أحد من العرب إلّا من افتات على عمر في ركوبه ونال من عقابه كما فعل بعرفجة بن هرثمة الأزديّ سيّد بجيلة لمّا أغزاه عمّان فبلغه غزوة في البحر فأنكر عليه وعنّفه أنّه ركب البحر للغزو ولم يزل الشّأن ذلك حتّى إذا كان لعهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه والجهاد على أعواده والسّبب في ذلك أنّ العرب لبداوتهم لم يكونوا مهرة في ثقافته وركوبه والرّوم والإفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التّقلّب على أعواده مرنوا عليه وأحكموا الدّارية بثقافته فلمّا استقرّ الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم وتقرّب كلّ ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النّواتية في حاجاتهم البحريّة أمما وتكرّرت ممارستهم للبحر
__________
[1] دنا.
[2] قطعوا.

(1/313)


وثقافته واستحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه وأنشئوا السّفن فيه والشّواني وشحنوا الأساطيل بالرّجال والسّلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر واختصّوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته مثل الشّام وإفريقية والمغرب والأندلس وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسّان بن النّعمان عامل إفريقية والمغرب والأندلس وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسّان بن النّعمان عامل إفريقية باتّخاذ دار صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحريّة حرصا على مراسم الجهاد ومنها كان فتح صقلّيّة أيّام زيادة الله الأوّل ابن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا وفتح قوصرّة أيضا في أيّامه بعد أن كان معاوية بن حديج أغزى صقلّيّة أيّام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه وفتحت على يد ابن الأغلب وقائده أسد بن الفرات وكانت من بعد ذلك أساطيل إفريقية والأندلس في دولة العبيديّين والأمويّين تتعاقب إلى بلادهما في سبيل الفتنة فتجوس خلال السّواحل بالإفساد والتّخريب.
وانتهى أسطول الأندلس أيّام عبد الرّحمن النّاصر إلى مائتي مركب أو نحوها وأسطول إفريقية كذلك مثله أو قريبا منه وكان قائد الأساطيل بالأندلس ابن دماحس ومرفأها للحطّ والإقلاع بجاية والمرية وكانت أساطيلها مجتمعة من سائر الممالك من كلّ بلد تتّخذ فيه السّفن أسطول يرجع نظره إلى قائد من النّواتية يدبّر أمر حربه وسلاحه ومقاتلته ورئيس يدبّر أمر جريته بالرّيح أو بالمجاذيف وأمر إرسائه في مرفئه فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطانيّ مهمّ عسكرت بمرفئها المعلوم وشحنها السّلطان برجاله وأنجاد عساكره ومواليه وجعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته يرجعون كلّهم إليه ثمّ يسرّحهم لوجههم وينتظر إيابهم بالفتح والغنيمة وكان المسلمون لعهدة الدّولة الإسلاميّة قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه فلم يكن للأمم النّصرانيّة قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه وامتطوا ظهره للفتح سائر أيّامهم فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم وملكوا سائر

(1/314)


الجزائر المنقطعة عن السّواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلّيّة وقوصرّة ومالطة وأقريطش وقبرس وسائر ممالك الرّوم والإفرنج وكان أبو القاسم الشّيعيّ وأبناؤه يغزون أساطيلهم من المهديّة جزيرة جنوة فتنقلب بالظّفر والغنيمة وافتتح مجاهد العامريّ صاحب دانية من ملوك الطّوائف جزيرة سردانية في أساطيله سنة خمس وأربعمائة وارتجعها النّصارى لوقتها والمسلمون خلال ذلك كلّه قد تغلّبوا على كثير من لجّة هذا البحر وصارت أساطيلهم فيهم جائية وذاهبة والعساكر الإسلاميّة تجيز البحر في الأساطيل من صقلّيّة إلى البرّ الكبير المقابل لها من العدوة الشّماليّة فتوقع بملوك الأفرنج وتثخن في ممالكهم كما وقع في أيّام بني الحسين ملوك صقلّيّة القائمين فيها بدعوة العبيديّين وانحازت أمم النّصرانيّة بأساطيلهم إلى الجانب الشّماليّ الشّرقيّ منه من سواحل الإفرنجة والصّقالبة وجزائر الرّومانيّة لا يعدونها وأساطيل المسلمين قد ضربت عليهم ضراء الأسد على فريسته وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدّة وعددا واختلفت في طرقه سلما وحربا فلم تظهر للنّصرانيّة فيه ألواح حتّى إذا أدرك الدّولة العبيديّة والأمويّة الفشل والوهن وطرقها الاعتلال مدّ النّصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشّرقيّة مثل صقلّيّة وإقريطش ومالطة فملكوها ثمّ ألحّوا على سواحل الشّام في تلك الفترة وملكوا طرابلس وعسقلان وصور وعكّا واستولوا على جميع الثّغور بسواحل الشّام وغلبوا على بيت المقدس وبنوا عليه كنيسة لمظهر دينهم وعبادتهم وغلبوا بني خزرون على طرابلس ثمّ على قابس وصفاقس ووضعوا عليهم الجزية ثمّ ملكوا المهدية مقرّ ملوك العبيديّين من يد أعقاب بلكّين بن زيري وكانت لهم في المائة الخامسة الكرّة بهذا البحر وضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشّام إلى أن انقطع ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدّولة العبيديّة عناية تجاوزت الحدّ كما هو معروف في أخبارهم فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك وبقيت بإفريقيّة والمغرب فصارت مختصّة بها وكان الجانب الغربيّ من هذا

(1/315)


البحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوّة لم يتحيّفه عدو ولا كانت لهم به كرّة فكان قائد الأسطول به لعهد لمتونة بني ميمون رؤساء جزيرة قادس ومن أيديهم أخذها عبد المؤمن بتسليمهم وطاعتهم وانتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد العدوتين جميعا. ولمّا استفحلت دولة الموحّدين في المائة السّادسة وملكوا العدوتين أقاموا خطّة هذا الأسطول على أتمّ ما عرف وأعظم ما عهد وكان قائد أسطولهم أحمد الصّقلّيّ أصله من صدّ غيار الموطّنين بجزيرة جربة من سرويكش أسرة النّصارى من سواحلها وربي عندهم واستخلصه صاحب صقلّيّة واستكفاه ثمّ هلك، وولي ابنه فأسخطه ببعض النّزعات وخشي على نفسه ولحق بتونس ونزل على السّيّد بها من بني عبد المؤمن وأجاز مراكش فتلقّاه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن بالمبرّة والكرامة وأجزل الصّلة وقلّده أمر أساطيله فجلّى في جهاد أمم النّصرانيّة وكانت له آثار وأخبار ومقامات مذكورة في دولة الموحّدين. وانتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا بعد فيما عهدناه ولمّا قام صلاح الدّين يوسف بن أيّوب ملك مصر والشّام لعهده باسترجاع ثغور الشّام من يد أمم النّصرانيّة وتطهير بيت المقدس تتابعت أساطيلهم بالمدد لتلك الثّغور من كلّ ناحية قريبة لبيت المقدس الّذي كانوا قد استولوا عليه فأمدّوهم بالعدد والأقوات ولم تقاومهم أساطيل الإسكندريّة لاستمرار الغلب لهم في ذلك الجانب الشّرقيّ من البحريّة وتعدّد أساطيلهم فيه وضعف المسلمين منذ زمان طويل عن ممانعتهم هناك كما أشرنا إليه قبل فأوفد صلاح الدّين على أبي يعقوب المنصور سلطان المغرب لعهده من الموحّدين رسوله عبد الكريم بن منقذ من بيت بني منقذ ملوك شيزر، وكان ملكها من أيديهم وأبقى عليهم في دولته فبعث عبد الكريم منهم هذا إلى ملك المغرب طالبا مدد الأساطيل لتحول في البحر بين أساطيل الأجانب وبين مرامهم من أمداد النّصرانيّة بثغور الشّام وأصحبه كتابه إليه في ذلك من إنشاء الفاضل البيسانيّ يقول في افتتاحه

(1/316)


«فتح الله لسيّدنا أبواب المناهج والميامن» حسبما نقله العماد الأصفهانيّ في كتاب الفتح القيسيّ فنقم عليهم المنصور تجافيهم عن خطابه بأمير المؤمنين وأسرّها في نفسه وحملهم على مناهج البرّ والكرامة وردّهم إلى مرسلهم ولم يجبه إلى حاجته من ذلك وفي هذا دليل على اختصاص ملك المغرب بالأساطيل وما حصل للنّصرانيّة في الجانب الشّرقيّ من هذا البحر من الاستطالة وعدم عناية الدّول بمصر والشّام لذلك العهد وما بعده لشأن الأساطيل البحريّة والاستعداد منها للدّولة ولمّا هلك أبو يعقوب المنصور واعتلّت دولة الموحّدين واستولت أمم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس وألجئوا المسلمين إلى سيف البحر وملكوا الجزائر الّتي بالجانب الغربيّ من البحر الرّوميّ قويت ريحهم في بسيط هذا البحر واشتدّت شوكتهم وكثرت فيه أساطيلهم وتراجعت قوّة المسلمين فيه إلى المساواة معهم كما وقع لعهد السّلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب فإنّ أساطيله كانت عند مرامه الجهاد مثل عدّة النّصرانيّة وعديدهم ثمّ تراجعت عن ذلك قوّة المسلمين في الأساطيل لضعف الدّولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدويّة بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسيّة ورجع النّصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدّربة فيه والمران عليه والبصر بأحواله وغلب الأمم في لجّته على أعواده وصار المسلمون فيه كالأجانب إلّا قليلا من أهل البلاد السّاحليّة لهم المران عليه لو وجدوا كثرة من الأنصار والأعوان أو قلّة من الدّولة تستجيش لهم أعوانا وتوضح لهم في هذا الغرض مسلكا وبقيت الرّتبة لهذا العهد في الدّولة الغربيّة محفوظة والرّسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء والرّكوب معهودا لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السّلطانيّة في البلاد البحريّة والمسلمون يستهبّون الرّيح على الكفر وأهله فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الحدثان أنّه لا بدّ للمسلمين من الكرّة على النّصرانيّة وافتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة وأنّ ذلك يكون في الأساطيل والله وليّ المؤمنين وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1/317)