تاريخ ابن خلدون
الفصل الثالث
والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران
اعلم أنّ العدوان على النّاس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها
واكتسابها
(1/353)
لما يرونه حينئذ من أنّ غايتها ومصيرها
انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت
أيديهم عن السّعي في ذلك وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض
الرّعايا عن السّعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيرا عامّا في جميع
أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من
جميع أبوابها وإن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته
والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنّما هو بالأعمال وسعي النّاس في
المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين فإذا قعد النّاس عن المعاش وانقبضت
أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتفضت الأحوال وابذعرّ [1]
النّاس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرّزق فيما خرج عن نطاقها
فخفّ ساكن القطر وخلت دياره وخرجت أمصاره واختلّ باختلاله حال الدّولة
والسّلطان لما أنّها صورة للعمران تفسد بفساد مادّتها ضرورة وانظر في
ذلك ما حكاه المسعوديّ في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدّين عندهم
أيّام بهرام بن بهرام وما عرّض به للملك في إنكار ما كان عليه من
الظّلم والغفلة عن عائدته على الدّولة بضرب المثال في ذلك على لسان
البوم حين سمع الملك أصواتها وسأله عن فهم كلامها فقال له: «إنّ بوما
ذكرا يروم نكاح بوم أنثى وإنّها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في
أيّام بهرام فقبل شرطها، وقال لها: إن دامت أيّام الملك أقطعتك ألف
قرية وهذا أسهل مرام» . فتنبّه الملك من غفلته وخلا بالموبذان وسأله عن
مراده فقال له أيّها الملك إنّ الملك لا يتمّ عزّه إلّا بالشّريعة
والقيام للَّه بطاعته والتّصرّف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشّريعة إلّا
بالملك ولا عزّ للملك إلّا بالرّجال ولا قوام للرّجال إلّا بالمال ولا
سبيل إلى المال إلّا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلّا بالعدل والعدل
الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرّبّ وجعل له قيّما وهو الملك وأنت
أيّها الملك عمدت إلى الضّياع فانتزعتها من أربابها
__________
[1] بمعنى تفرق.
(1/354)
وعمّارها وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم
الأموال وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة فتركوا العمارة والنّظر
في العواقب وما يصلح الضّياع وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك ووقع
الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمّار الضّياع فانجلوا عن ضياعهم
وخلّوا ديارهم وأووا إلى ما تعذّر من الضّياع فسكنوها فقلّت العمارة
وخربت الضّياع وقلّت الأموال وهلكت الجنود والرّعيّة وطمع في ملك فارس
من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع الموادّ الّتي لا تستقيم دعائم
الملك إلّا بها. فلمّا سمع الملك ذلك أقبل على النّظر في ملكه وانتزعت
الضّياع من أيدي الخاصّة وردّت على أربابها وحملوا على رسومهم السالفة
وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت
الأموال عند جباة الخراج وقويت الجنود وقطعت موادّ الأعداء وشحنت
الثّغور وأقبل الملك على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيّامه وانتظم ملكه
فتفهّم من هذه الحكاية أنّ الظّلم مخرّب للعمران وأنّ عائدة الخراب في
العمران على الدّولة بالفساد والانتقاض. ولا تنظر في ذلك إلى أنّ
الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدّول الّتي بها ولم يقع فيها
خراب واعلم أنّ ذلك إنّما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل
المصر فلمّا كان المصر كبيرا وعمرانه كثيرا وأحواله متّسعة بما لا
ينحصر كان وقوع النّقص فيه بالاعتداء والظّلم يسيرا لأنّ النّقص إنّما
يقع بالتّدريج فإذا خفي بكثرة الأحوال واتّساع الأعمال في المصر لم
يظهر أثره إلّا بعد حين وقد تذهب تلك الدّولة المعتدية من أصلها قبل
خراب وتجيء الدّولة الأخرى فترفعه بجدّتها وتجبر النّقص الّذي كان
خفيّا فيه فلا يكاد يشعر به إلّا أنّ ذلك في الأقلّ النّادر والمراد من
هذا أنّ حصول النّقص في العمران عن الظّلم والعدوان أمر واقع لا بدّ
منه لما قدّمناه ووباله عائد على الدّول. ولا تحسبنّ الظّلم إنّما هو
أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل
الظّلم أعمّ من ذلك وكلّ من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير
حقّ أو فرض عليه
(1/355)
حقّا لم يفرضه الشّرع فقد ظلمه فجباة
الأموال بغير حقّها ظلمة والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة
والمانعون لحقوق النّاس ظلمة وخصّاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك
كلّه عائد على الدّولة بخراب العمران الّذي هو مادّتها لإذهابه الآمال
من أهله واعلم أنّ هذه هي الحكمة المقصودة للشّارع في تحريم الظّلم وهو
ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النّوع البشريّ
وهي الحكمة العامّة المراعية للشّرع في جميع مقاصده الضّروريّة الخمسة
من حفظ الدّين والنّفس والعقل والنّسل والمال. فلمّا كان الظّلم كما
رأيت مؤذنا بانقطاع النّوع لما أدّى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة
الخطر فيه موجودة، فكان تحريمه مهمّا، وأدلّته من القرآن والسّنّة
كثيرة، أكثر من أن يأخذها قانون الضّبط والحصر. ولو كان كلّ واحد قادرا
على الظّلم لوضع بإزائه من العقوبات الزّاجرة ما وضع بإزاء غيره من
المفسدات للنّوع الّتي يقدر كلّ أحد على اقترافها من الزّنا والقتل
والسّكر إلّا أنّ الظّلم لا يقدر عليه إلّا من يقدر عليه لأنّه إنّما
يقع من أهل القدرة والسّلطان فبولغ في ذمّه وتكرير الوعيد فيه عسى أن
يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ 41: 46» ولا تقولنّ إنّ العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في
الشّرع وهي من ظلم القادر لأنّ المحارب زمن حرابته قادر فإنّ في الجواب
عن ذلك طريقين. أحدهما أن تقول العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في
نفس أموال على ما ذهب إليه كثير وذلك إنّما يكون بعد القدرة عليه
والمطالبة بجنايته وأمّا نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة.
الطّريق الثّاني أن تقول: المحارب لا يوصف بالقدرة لأنّا إنّما نعني
بقدرة الظّالم اليد المبسوطة الّتي لا تعارضها قدرة فهي المؤذنة
بالخراب وأمّا قدرة المحارب فإنّما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال
والمدافعة عنها بيد الكلّ موجودة شرعا وسياسة فليست من القدر المؤذن
بالخراب والله قادر على ما يشاء.
(1/356)
فصل:
ومن أشدّ الظّلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير
الرّعايا بغير حقّ وذلك أنّ الأعمال من قبيل المتموّلات كما سنبيّن في
باب الرّزق لأنّ الرّزق والكسب إنّما هو قيّم أعمال أهل العمران. فإذا
مساعيهم وأعمالهم كلّها متموّلات ومكاسب لهم بل لا مكاسب لهم سواها
فإنّ الرّعيّة المعتملين في العمارة إنّما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم
ذلك فإذا كلّفوا العمل في غير شأنهم واتّخذوا سخريّا في معاشهم بطل
كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك وهو متموّلهم فدخل عليهم الضّرر وذهب
لهم حظّ كبير من معاشهم بل هو معاشهم بالجملة وإن تكرّر ذلك عليهم أفسد
آمالهم في العمارة وقعدوا عن السّعي فيها جملة فأدّى ذلك إلى انتقاض
العمران وتخريبه والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق
الاحتكار:
وأعظم من ذلك في الظّلم وإفساد العمران والدّولة التّسلّط على أموال
النّاس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان ثمّ فرض البضائع عليهم بأرفع
الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشّراء والبيع وربّما تفرض عليهم
تلك الأثمان على التّواحي والتّعجيل [1] فيتعلّلون في تلك الخسارة
الّتي تلحقهم بما تحدّثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك
البضائع الّتي فرضت عليهم بالغلاء إلى بيعها بأبخس الأثمان، وتعود
خسارة ما بين الصّفقتين على رءوس أموالهم. وقد يعمّ ذلك أصناف التّجّار
المقيمين بالمدينة والواردين من الآفاق في البضائع وسائر السّوقة وأهل
الدّكاكين في المآكل والفواكه وأهل الصّنائع فيما يتّخذ من الآلات
والمواعين فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطّبقات وتتوالى على السّاعات
وتجحف برءوس الأموال ولا يجدون عنها وليجة إلّا القعود عن الأسواق
لذهاب رءوس الأموال في جبرها بالأرباح ويتثاقل الواردون من الآفاق
لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك فتكسد الأسواق ويبطل معاش الرّعايا
لأنّ عامّته من البيع والشّراء وإذا كانت الأسواق عطلا منها بطل معاشهم
وتنقص جباية
__________
[1] وفي بعض النسخ: التراخي والتأجيل.
(1/357)
السّلطان أو تفسد لأنّ معظمها من أوسط
الدّولة وما بعدها إنّما هو من المكوس على البياعات كما قدّمناه ويؤول
ذلك إلى تلاشي الدّولة وفساد عمران المدينة ويتطرّق هذا الخلل على
التّدريج ولا يشعر به. هذا ما كان بأمثال هذه الذّرائع والأسباب إلى
أخذ الأموال وأمّا أخذها مجّانا والعدوان على النّاس في أموالهم وحرمهم
ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة وتنتقض
الدّولة سريعا بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض ومن أجل هذه
المفاسد حظر الشّرع ذلك كلّه وشرع المكايسة في البيع والشّراء وحظر أكل
أموال النّاس بالباطل سدّا لأبواب المفاسد المفضية إلى انتقاض العمران
بالهرج أو بطلان المعاش واعلم أنّ الدّاعي لذلك كلّه إنّما هو حاجة
الدّولة والسّلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من التّرف في
الأحوال فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدّخل على القوانين
المعتادة يستحدثون ألقابا ووجوها يوسّعون بها الجباية ليفي لهم الدّخل
بالخرج ثمّ لا يزال التّرف يزيد والخرج بسببه يكثر والحاجة إلى أموال
النّاس تشتدّ ونطاق الدّولة بذلك يزيد إلى أن تمحّي دائرتها ويذهب
برسمها ويغلبها طالبها والله أعلم.
الفصل الرابع والأربعون في أن الحجاب كيف
يقع في الدول وفي أنه يعظم عند الهرم
اعلم أنّ الدّولة في أوّل أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدّمناه
لأنّه لا بدّ لها من العصبيّة الّتي بها يتمّ أمرها ويحصل استيلاؤها
والبداوة هي شعار العصبيّة والدّولة إن كان قيامها بالدّين فإنّه بعيد
عن منازع الملك وإن كان قيامها بعزّ الغلب فقط فالبداوة الّتي بها يحصل
الغلب بعيدة أيضا عن منازع الملك ومذاهبه فإذا كانت الدّولة في أوّل
أمرها بدويّة كان صاحبها على حال الغضاضة والبداوة والقرب من النّاس
وسهولة الإذن فإذا رسخ عزّه وصار إلى الانفراد
(1/358)
بنفسه عن النّاس للحديث مع أوليائه في
خواصّ شئونه لما يكثر حينئذ بحاشيته فيطلب الانفراد من العامّة ما
استطاع ويتّخذ الإذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه وأهل دولته
ويتّخذ حاجبا له عن النّاس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة ثمّ إذا استفحل
الملك وجاءت مذاهبه ومنازعة استحالت أخلاق صاحب الدّولة إلى أخلاق
الملك وهي أخلاق غريبة مخصوصة يحتاج مباشرها إلى مداراتها ومعاملتها
بما يجب لها وربّما جهل تلك الأخلاق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا
يرضيهم فسخطوا وصاروا إلى حالة الانتقام منه فانفرد بمعرفة هذه الآداب
الخواصّ من أوليائهم وحجبوا غير أولئك الخاصّة عن لقائهم في كلّ وقت
حفظا على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم على النّاس من التّعرّض لعقابهم
فصار حجاب آخر أخصّ من الحجاب الأوّل يفضي إليهم منه خواصّهم من
الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامّة [1] . والحجاب الثّاني يفضي
إلى مجالس الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامّة [1] . والحجاب
الأوّل يكون في أوّل الدّولة كما ذكرنا كما حدث لأيّام معاوية وعبد
الملك وخلفاء بني أميّة وكان القائم على ذلك الحجاب يسمّى عندهم الحاجب
جريا على مذهب الاشتقاق الصّحيح. ثمّ لمّا جاءت دولة بني العبّاس وجدت
الدّولة من التّرف والعزّ ما هو معروف وكملت خلق الملك على ما يجب فيها
فدعا ذلك إلى الحجاب الثّاني وصار اسم الحاجب أخصّ به وصار بباب
الخلفاء داران للعبّاسيّة: دار الخاصّة ودار العامّة كما هو مسطور في
أخبارهم. ثمّ حدث في الدّول حجاب ثالث أخصّ من الأوّلين وهو عند محاولة
الحجر على صاحب الدّولة وذلك أنّ أهل الدّولة وخواصّ الملك إذا نصبوا
الأبناء من
__________
[1] علق الدكتور علي عبد الواحد وافي على هذه العبارة في نسخة لجنة
البيان العربيّ» فقال: (هكذا وردت العبارة في جميع النسخ ولا بد أن
يكون قد حدث فيها حذف وتكرار والوضع الصحيح للعبارة هو ما يلي «فصار
لهم حجاب آخر أخص من الحجاب الأول يفضي إليهم منه خواصّهم من الأولياء،
ويحجب دونه من سواهم من الخاصة والعامة، بينما كان الحجاب الأول يفضي
إليهم منه الخاصة ويحجب دونه من سواهم من العامة والحجاب الأول يكون في
أول الدولة كما ذكرنا ... » ) وقد سهّل هذا السقط وهذه الزيادة وجود
كلمة «سواهم» في الجملتين.
(1/359)
الأعقاب وحاولوا الاستبداد عليهم فأوّل ما
يبدأ به ذلك المستبدّ أن يحجب عنه بطانة ابنه وخواصّ أوليائه يوهمه أنّ
في مباشرتهم إيّاه خرق حجاب الهيبة وفساد قانون الأدب ليقطع بذلك لقاء
الغير ويعوّده ملابسة أخلاقه هو حتّى لا يتبدّل به سواه إلى أن يستحكم
الاستيلاء عليه فيكون هذا الحجاب من دواعيه وهذا الحجاب لا يقع في
الغالب إلّا أواخر الدّولة كما قدّمناه في الحجر ويكون دليلا على هرم
الدّولة ونفاد قوّتها وهو ممّا يخشاه أهل الدّول على أنفسهم لأنّ
القائمين بالدّولة يحاولون على ذلك بطباعهم عند هرم الدّولة وذهاب
الاستبداد من أعقاب ملوكهم لما ركّب في النّفوس من محبّة الاستبداد
بالملك وخصوصا مع التّرشيح لذلك وحصول دواعيه ومباديه.
الفصل الخامس والأربعون في انقسام الدولة
الواحدة بدولتين
اعلم أن أوّل ما يقع من آثار الهرم في الدّولة انقسامها وذلك أنّ الملك
عند ما يستفحل ويبلغ من أحوال التّرف والنّعيم إلى غايتها ويستبدّ صاحب
الدّولة بالمجد وينفرد به ويأنف حينئذ عن المشاركة يصير إلى قطع
أسبابها ما استطاع بإهلاك من استراب به من ذوي قرابته المرشّحين لمنصبه
فربّما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم ونزعوا إلى القاصية إليهم من
يلحق بهم مثل حالهم من الاعتزار والاسترابة ويكون نطاق الدّولة قد أخذ
في التّضايق ورجع عن القاصية فيستبدّ ذلك النّازع من القرابة فيها ولا
يزال أمره يعظم بتراجع نطاق الدّولة حتّى يقاسم الدّولة أو يكاد وانظر
ذلك في الدّولة الإسلاميّة العربيّة حين كان أمرها حريزا مجتمعا ونطاقا
ممتدّا في الاتّساع وعصبيّة بني عبد مناف واحدة غالبة على سائر مضر
ينبض عرق من الخلافة سائر أيّامه إلّا ما كان من بدعة الخوارج
المستميتين في شأن بدعتهم لم يكن ذلك لنزعة ملك ولا رئاسة ولم يتمّ
(1/360)
أمرهم لمزاحمتهم العصبيّة القويّة ثمّ لمّا
خرج الأمر من بني أميّة واستقلّ بنو العبّاس بالأمر. وكانت الدّولة
العربيّة قد بلغت الغاية من الغلب والتّرف وآذنت بالتّقلّص عن القاصية
نزع عبد الرّحمن الدّاخل إلى الأندلس قاصية دولة الإسلام فاستحدث بها
ملكا واقتطعها عن دولتهم وصيّر الدّولة دولتين ثمّ نزع إدريس إلى
المغرب وخرج به وقام بأمره وأمر ابنه من بعده البرابرة من أوربّة
ومغيلة وزناتة واستولى على ناحية المغربين ثمّ ازدادت الدّولة تقلّصا
فاضطرب الأغالبة في الامتناع عليهم ثمّ خرج الشّيعة وقام بأمرهم كتامة
وصنهاجة واستولوا على إفريقية والمغرب ثمّ مصر والشّام والحجاز وغلبوا
على الأدارسة وقسموا الدّولة دولتين أخريين وصارت الدّولة العربيّة
ثلاث دول: دولة بني العبّاس مركز العرب وأصلهم ومادّتهم الإسلام، ودولة
بني أميّة المجدّدين بالأندلس ملكهم القديم وخلافتهم بالمشرق، ودولة
العبيديّين بإفريقيّة ومصر والشّام والحجاز ولم تزل هذه الدّولة إلى أن
أصبح انقراضها متقاربا أو جميعا وكذلك انقسمت دولة بني العبّاس بدول
أخرى وكان بالقاصية بنو ساسان فيما وراء النّهر وخراسان والعلويّة في
الدّيلم وطبرستان وآل ذلك إلى استيلاء الدّيلم على العراقين وعلى بغداد
والخلفاء ثمّ جاء السّلجوقيّة فملكوا جميع ذلك ثمّ انقسمت دولتهم أيضا
بعد الاستفحال كما هو معروف في أخبارهم وكذلك اعتبره في دولة صنهاجة
بالمغرب وإفريقية لمّا بلغت إلى غايتها أيّام باديس بن المنصور، خرج
عليه عمّه حمّاد واقتطع ممالك العرب لنفسه ما بين جبل أوراس إلى تلمسان
وملويّة واختطّ القلعة بجبل كتامة حيال المسيلة ونزلها واستولى على
مركزهم أشير بجبل تيطرى واستحدث ملكا آخر قسيما لملك آل باديس وبقي آل
باديس بالقيروان وما إليها ولم يزل ذلك إلى أن انقرض أمرهما جميعا.
وكذلك دولة الموحّدين، لمّا تقلّص ظلّها ثار بإفريقيّة بنو أبي حفص
فاستقلّوا بها واستحدثوا ملكا لأعقابهم بنواحيها ثمّ لمّا استفحل أمرهم
واستولى على الغاية خرج على الممالك الغربيّة من
(1/361)
أعقابهم الأمير أبو زكريّا يحيى ابن
السّلطان أبي إسحاق إبراهيم رابع خلفائهم واستحدث ملكا بجباية وقسنطينة
وما إليها، أورثه بنيه وقسموا به الدّولة قسمين ثمّ استولوا على كرسيّ
الحضرة بتونس ثمّ انقسم ما بين أعقابهم ثمّ عاد الاستيلاء فيهم وقد
ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين وثلاث وفي غير أعياص الملك من قومه
كما وقع في ملوك الطّوائف بالأندلس وملوك العجم بالمشرق وفي ملك صنهاجة
بإفريقيّة فقد كان لآخر دولتهم في كلّ حصن من حصون إفريقية ثائر مستقلّ
بأمره كما تقدّم ذكره وكذا حال الجريد والزّاب من إفريقية قبيل هذا
العهد كما نذكره وهكذا شأن كلّ دولة لا بدّ وأن يعرض فيها عوارض الهرم
بالتّرف والدّعة وتقلّص ظلّ الغلب فينقسم أعياصها أو من يغلب من رجال
دولتها الأمر ويتعدّد فيها الدّول والله وارث الأرض ومن عليها.
الفصل السادس والأربعون في أن الهرم إذا
نزل بالدولة لا يرتفع
قد قدّمنا ذكر العوارض المؤذنة بالهرم وأسبابه واحدا بعد واحد وبيّنّا
أنّها تحدث للدّولة بالطّبع وأنّها كلّها أمور طبيعيّة لها وإذا كان
الهرم طبيعيّا في الدّولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطّبيعيّة كما
يحدث الهرم في المزاج الحيوانيّ والهرم من الأمراض المزمنة الّتي لا
يمكن دواؤها ولا ارتفاعها لما أنّه طبيعيّ والأمور الطّبيعيّة لا
تتبدّل وقد يتنبّه كثير من أهل الدّول ممّن له يقظة في السّياسة فيرى
ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم ويظنّ أنّه ممكن الارتفاع فيأخذ نفسه
بتلافي الدّولة وإصلاح مزاجها عن ذلك الهرم ويحسبه أنّه لحقها بتقصير
من قبله من أهل الدّولة وغفلتهم وليس كذلك فإنّها أمور طبيعيّة للدّولة
والعوائد هي المانعة له من تلافيها والعوائد منزلة طبيعيّة أخرى فإنّ
من أدرك مثلا أباه وأكثر
(1/362)
أهل بيته يلبسون الحرير والدّيباج ويتحلّون
بالذّهب في السّلاح والمراكب ويحتجبون عن النّاس في المجالس والصّلوات
فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللّباس والزّيّ
والاختلاط بالنّاس إذ العوائد حينئذ تمنعه وتقبّح عليه مرتكبه ولو فعله
لرمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة، وخشي عليه عائدة ذلك
وعاقبته في سلطانه وانظر شأن الأنبياء في إنكار العوائد ومخالفتها لولا
التّأييد الإلهيّ والنّصر السّماويّ وربّما تكون العصبيّة قد ذهبت
فتكون الأبّهة تعوّض عن موقعها من النّفوس فإذا أزيلت تلك الأبّهة مع
ضعف العصبيّة تجاسرت الرّعايا على الدّولة بذهاب أوهام الأبّهة فتتدرّع
الدّولة بتلك الأبّهة ما أمكنها حتّى ينقضي الأمر وربّما يحدث عند آخر
الدّولة قوّة توهم أنّ الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها إيماضة الخمود
كما يقع في الذّبال المشتعل فإنّه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم
أنّها اشتعال وهي انطفاء فاعتبر ذلك ولا تغفل سرّ الله تعالى وحكمته في
اطّراد وجوده على ما قدّر فيه «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ 13: 38» .
الفصل السابع والأربعون في كيفية طروق
الخلل للدولة
اعلم أنّ مبنى الملك على أساسين لا بدّ منهما فالأوّل الشّوكة
والعصبيّة وهو المعبّر عنه بالجند والثّاني المال الّذي هو قوام أولئك
الجند وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. والخلل إذا طرق الدّولة
طرقها في هذين الأساسين فلنذكر أوّلا طروق الخلل في الشّوكة والعصبيّة
ثمّ نرجع إلى طروقه في المال والجباية.
واعلم أنّ تمهيد الدّولة وتأسيسها كما قلناه إنّما يكون بالعصبيّة
وأنّه لا بدّ من عصبيّة كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها وهي عصبيّة
صاحب الدّولة الخاصّة من عشيرة وقبيلة فإذا جاءت الدّولة طبيعة الملك
من التّرف وجدع أنوف أهل
(1/363)
العصبيّة كان [1] أوّل ما يجدع أنوف عشيرته
وذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك فيستبدّ في جدع أنوفهم بما بلغ
من سوادهم لمكانهم من الملك والعزّ والغلب فيحيط بهم هادمان وهما
التّرف والقهر ثمّ يصير القهر آخرا إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم
عند رسوخ الملك لصاحب الأمر فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه
فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النّعمة والتّرف الّذي تعوّدوا الكثير
منه فيهلكون ويقلّون وتفسد عصبيّة صاحب الدّولة منهم وهي العصبيّة
الكبرى الّتي كانت تجمع بها العصائب وتستتبعها فتنحلّ عروتها وتضعف
شكيمتها وتستبدل عنها بالبطانة من موالي النّعمة وصنائع الإحسان وتتّخذ
منهم عصبيّة إلّا أنّها ليست مثل تلك الشّدّة الشّكيميّة لفقدان الرّحم
والقرابة منها وقد كنّا قدّمنا أنّ شأن العصبيّة وقوّتها إنّما هي
بالقرابة والرّحم لما جعل الله في ذلك فينفرد صاحب الدّولة عن العشير
والأنصار الطّبيعيّة ويحسّ بذلك أهل العصائب الأخرى فيتجاسرون عليه
وعلى بطانته تجاسرا طبيعيّا فيهلكهم صاحب الدّولة ويتبعهم بالقتل واحدا
بعد واحد ويقلّد الآخر من أهل الدّولة في ذلك، الأوّل مع ما يكون قد
نزل بهم من مهلكة التّرف الّذي قدّمنا فيستولي عليهم الهلاك بالتّرف
والقتل حتّى يخرجوا عن صبغة تلك العصبيّة ويفشوا بعزّتها وثورتها
ويصيروا أوجز على الحماية ويقلّون لذلك فتقلّ الحماية الّتي تنزل
بالأطراف والثّغور فتتجاسر الرّعايا على بعض الدّعوة في الأطراف ويبادر
الخوارج على الدّولة من الأعياص وغيرهم إلى تلك الأطراف لما يرجون
حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم وأمنهم من وصول الحامية
إليهم ولا يزال ذلك يتدرّج ونطاق الدّولة يتضايق حتّى تصير الخوارج في
أقرب الأماكن إلى مركز الدّولة وربّما انقسمت الدّولة عند ذلك بدولتين
أو ثلاث على قدر قوّتها في الأصل كما قلناه ويقوم بأمرها غير أهل
عصبيّتها لكن إذعانا لأهل عصبيّتها ولغلبهم المعهود واعتبر هذا في دولة
العرب في الإسلام كيف انتهت أوّلا إلى الأندلس والهند والصّين
__________
[1] أي صاحب الدولة.
(1/364)
وكان أمر بني أميّة نافذا في جميع العرب
بعصبيّة بني عبد مناف حتّى لقد أمر سليمان بن عبد الملك بدمشق بقتل عبد
العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل ولم يردّ أمره. ثمّ تلاشت عصبيّة
بني أميّة بما أصابهم من التّرف فانقرضوا. وجاء بنو العبّاس فغضّوا من
أعنّة بني هاشم وقتلوا الطّالبيّين وشرّدوهم فانحلّت عصبيّة عبد مناف
وتلاشت وتجاسر العرب عليهم فاستبدّ عليهم أهل القاصية مثل بني الأغلب
بإفريقيّة وأهل الأندلس وغيرهم وانقسمت الدّولة ثمّ خرج بنو إدريس
بالمغرب وقام البربر بأمرهم إذعانا للعصبيّة الّتي لهم وأمنا أن تصلهم
مقاتلة أو حامية للدّولة. فإذا خرج الدّعاة آخرا فيتغلّبون على الأطراف
والقاصية وتحصل لهم هناك دعوة وملك تنقسم به الدّولة وربّما يزيد ذلك
متى زادت الدّولة تقلّصا إلى أن ينتهي إلى المركز وتضعف البطانة بعد
ذلك بما أخذ منها التّرف فتهلك وتضمحلّ وتضعف الدّولة المنقسمة كلّها
وربّما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبيّة بما حصل لها من الصّبغة
في نفوس أهل إيالتها وهي صبغة الانقياد والتّسليم منذ السّنين الطّويلة
الّتي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوّليّتها فلا يعقلون إلّا
التّسليم لصاحب الدّولة فيستغني بذلك عن قوّة العصائب ويكفي صاحبها بما
حصل لها في تمهيد أمرها الإجراء على الحامية من جنديّ ومرتزق ويعضد ذلك
ما وقع في النّفوس عامّة من التّسليم فلا يكاد أحد يتصوّر عصيانا أو
خروجا إلّا والجمهور منكرون عليه مخالفون له فلا يقدر على التّصدّي
لذلك ولو جهد جهده وربّما كانت الدّولة في هذا الحال أسلم من الخوارج
والمنازعة لاستحكام صبغة التّسليم والانقياد لهم فلا تكاد النّفوس
تحدّث سرّها بمخالفة ولا يختلج في ضميرها انحراف عن الطّاعة فيكون أسلم
من الهرج والانتقاض الّذي يحدث من العصائب والعشائر ثمّ لا يزال أمر
الدّولة كذلك وهي تتلاشى في ذاتها شأن الحرارة الغريزيّة في البدن
العادم للغذاء إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور ولكلّ أجل كتاب ولكلّ
دولة أمد والله يقدّر اللّيل والنّهار وهو
(1/365)
الواحد القهّار. وأمّا الخلل الّذي يتطرّق
من جهة المال فاعلم أنّ الدّولة في أوّلها تكون بدويّة كما مرّ فيكون
خلق الرّفق بالرّعايا والقصد في النّفقات والتّعفّف عن الأموال فتتجافى
عن الإمعان في الجباية والتّحذلق والكيس في جمع الأموال وحسبان العمّال
ولا داعية حينئذ إلى الإسراف في النّفقة فلا تحتاج الدّولة إلى كثرة
المال ثمّ يحصل الاستيلاء ويعظم ويستفحل الملك فيدعو إلى التّرف ويكثر
الإنفاق بسببه فتعظم نفقات السّلطان وأهل الدّولة على العموم بل يتعدّى
ذلك إلى أهل المصر ويدعو ذلك إلى الزّيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل
الدّولة ثمّ يعظم التّرف فيكثر الإسراف في النّفقات وينتشر ذلك في
الرّعيّة لأنّ النّاس على دين ملوكها وعوائدها ويحتاج السّلطان إلى ضرب
المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف
المدينة الشّاهد عليهم بالرّفه ولما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه
وأرزاق جنده ثمّ تزيد عوائد التّرف فلا تفي بها المكوس وتكون الدّولة
قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرّعايا فتمتدّ
أيديهم إلى جمع المال من أموال الرّعايا من مكس أو تجارة أو نقد في بعض
الأحوال بشبهة أو بغير شبهة ويكون الجند في ذلك الطّور قد تجاسر على
الدّولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبيّة فتتوقّع ذلك منهم
وتداوى بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم ولا تجد عن ذلك وليجة وتكون
جباة الأموال في الدّولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطّور بكثرة الجباية
وكونها بأيديهم وبما اتّسع لذلك من جاههم فيتوجّه إليهم باحتجان
الأموال من الجباية وتفشو السّعاية فيهم، بعضهم من بعض للمنافسة والحقد
فتعمّهم النّكبات والمصادرات واحدا واحدا إلى أن تذهب ثروتهم وتتلاشى
أحوالهم ويفقد ما كان للدّولة من الأبّهة والجمال بهم وإذا اصطلمت
نعمتهم تجاوزتهم الدّولة إلى أهل الثّروة من الرّعايا سواهم ويكون
الوهن في هذا الطّور قد لحق الشّوكة وضعفت عن الاستطالة والقهر فتنصرف
سياسة صاحب الدّولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال ويراه أرفع من
(1/366)
السّيف لقلّة غنائه فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النّفقات وأرزاق
الجند ولا يغنى فيما يريد ويعظم الهرم بالدّولة ويتجاسر عليها أهل
النّواحي والدّولة تنحلّ عراها في كلّ طور من هذه إلى أن تفضي إلى
الهلاك وتتعوّض من الاستيلاء الكلل فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي
القائمين بها وإلّا بقيت وهي تتلاشى إلى أن تضمحلّ كالذّبال في السّراج
إذا فني زيته وطفئ والله مالك الأمور ومدبّر الأكوان لا إله إلّا هو. |