تاريخ ابن خلدون
الفصل الخامس
والثلاثون في التفاوت بين مراتب السيف والقلم في الدول
اعلم أنّ السّيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدّولة يستعين بها على أمره
إلّا أنّ الحاجة في أوّل الدّولة إلى السّيف ما دام أهلها في تمهيد
أمرهم أشدّ من الحاجة إلى القلم لأنّ القلم في تلك الحال خادم فقط
منفّذ للحكم السّلطانيّ والسّيف شريك في المعونة وكذلك في آخر الدّولة
حيث تضعف عصبيّتهما كما ذكرناه ويقلّ أهلها بما ينالهم من الهرم الّذي
قدّمناه فتحتاج الدّولة إلى الاستظهار بأرباب السّيوف وتقوى الحاجة
إليهم في حماية الدّولة والمدافعة عنها كما كان الشّأن أوّل الأمر في
تمهيدها فيكون للسيف مزيّة على القلم في الحالتين ويكون أرباب السّيف
حينئذ أوسع جاها وأكثر نعمة وأسنى إقطاعا وأمّا في وسط الدّولة فيستغني
صاحبها بعض الشّيء عن السّيف لأنّه قد تمهّد أمره ولم يبق همّه إلّا في
تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضّبط ومباهاة الدّول وتنفيذ الأحكام
والقلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه وتكون السّيوف
مهملة في مضاجع أغمادها إلّا إذا أنابت نائبة أو دعيت إلى سدّ فرجة [1]
وممّا سوى ذلك فلا حاجة إليها فتكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع
جاها وأعلى رتبة وأعظم نعمة وثروة وأقرب من السّلطان مجلسا وأكثر إليه
تردّدا وفي خلواته نجيّا لأنّه حينئذ آلته الّتي بها يستظهر على تحصيل
ثمرات ملكه والنّظر إلى أعطافه وتثقيف أطرافه والمباهاة بأحواله ويكون
الوزراء حينئذ وأهل السّيوف مستغنى عنهم مبعدين عن باطن السّلطان حذرين
على أنفسهم من بوادره. وفي معنى ذلك ما كتب به أبو مسلم للمنصور حين
أمره بالقدوم أمّا بعد فإنّه ممّا حفظناه من وصايا الفرس أخوف ما يكون
الوزراء إذا سكنت الدّهماء سنّة الله في عباده والله سبحانه وتعالى
أعلم.
__________
[1] الفرجة: ج فرج: كل منفرج بين شيئين وهنا بمعنى خلل.
(1/318)
الفصل السادس
والثلاثون في شارات الملك والسلطان الخاصة به
اعلم أنّ للسّلطان شارات وأحوالا تقتضيها الأبّهة والبذخ فيختصّ بها
ويتميّز بانتحالها عن الرّعيّة والبطانة وسائر الرّؤساء في دولته
فلنذكر ما هو مشتهر منها بمبلغ المعرفة «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ 12: 76» .
الآلة:
فمن شارات الملك اتّخاذ الآلة من نشر الألوية والرّايات وقرع الطّبول
والنّفخ في الأبواق والقرون وقد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في
السّياسة أنّ السّرّ في ذلك إرهاب العدوّ في الحرب فإنّ الأصوات
الهائلة لها تأثير في النّفوس بالرّوعة ولعمري إنّه أمر وجدانيّ في
مواطن الحرب يجده كلّ أحد من نفسه وهذا السّبب الّذي ذكره أرسطو إن كان
ذكره فهو صحيح ببعض الاعتبارات. وأمّا الحقّ في ذلك فهو أنّ النّفس عند
سماع النّغم والأصوات يدركها الفرح والطّرب بلا شكّ فيصيب مزاج الرّوح
نشوة يستسهل بها الصّعب ويستميت في ذلك الوجه الّذي هو فيه وهذا موجود
حتّى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء والخيل بالصّفير
والصّريح كما علمت ويزيد ذلك تأثيرا إذا كانت الأصوات متناسبة كما في
الغناء وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى لأجل ذلك تتّخذ
العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقيّة [1] لا طبلا ولا بوقا فيحدق
المغنّون بالسّلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيحرّكون نفوس الشّجعان
بضربهم إلى الاستماتة ولقد رأينا في حروب العرب من يتغنّى أمام الموكب
بالشعر ويطرب فتجيش همم الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب
وينبعث كلّ قرن إلى قرنه وكذلك زناتة من أمم المغرب يتقدّم الشّاعر
عندهم أمام الصّفوف ويتغنّى فيحرّك بغنائه الجبال الرّواسي ويبعث على
__________
[1] قوله موسيقية وفي نسخة الموسيقارية وهي صحيحة لأن الموسيقى بكسر
القاف بين التحتيتين اسم للنغم والألحان وتوقيعها ويقال فيها موسيقير
ويقال لضارب الآلة موسيقار انظر أول سفينة الشيخ محمد شهاب.
(1/319)
الاستماتة من لا يظنّ بها ويسمّون ذلك
الغناء تاصوكايت وأصله كلّه فرح يحدث في النّفس فتنبعث عنه الشّجاعة
كما تنبعث عن نشوة الخمر بما حدث عنها من الفرح والله أعلم وأمّا تكثير
الرّايات وتلوينها وإطالتها فالقصد به التّهويل لا أكثر وربّما تحدث في
النّفوس من التّهويل زيادة في الاقدام وأحوال النّفوس وتلويناتها غريبة
والله الخلّاق العليم. ثمّ إنّ الملوك والدّول يختلفون في اتّخاذ هذه
الشّارات فمنهم مكثر ومنهم مقلّل بحسب اتّساع الدّولة وعظمها فأمّا
الرّايات فإنّها شعار الحروب من عهد الخليقة ولم تزل الأمم تعقدها في
مواطن الحروب والغزوات لعهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومن بعده من
الخلفاء. وأمّا قرع الطّبول والنّفخ في الأبواق فكان المسلمون لأوّل
الملّة متجافين عنه تنزّها عن غلظة الملك ورفضا لأحواله واحتقارا
لأبّهته الّتي ليست من الحقّ في شيء حتّى إذا انقلبت الخلافة ملكا
وتبجّحوا بزهرة الدّنيا ونعيمها ولا بسهم الموالي من الفرس والرّوم أهل
الدّول السّالفة وأروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ والتّرف
فكان ممّا استحسنوه اتّخاذ الآلة فأخذوها وأذنوا لعمّالهم في اتّخاذها
تنويها بالملك وأهله فكثيرا ما كان العامل صاحب الثّغر أو قائد الجيش
يعقد له الخليفة من العبّاسيين أو العبيديين لواءه ويخرج إلى بعثه أو
عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرّايات والآلات فلا
يميّز بين موكب العامل والخليفة إلّا بكثرة الألوية وقلّتها أو بما
اختصّ به الخليفة من الألوان لرأيته كالسّواد في رايات بني العبّاس
فإنّ راياتهم كانت سودا حزنا على شهدائهم من بني هاشم ونعيا على بني
أميّة في قتلهم ولذلك سمّوا المسوّدة، ولمّا افترق أمر الهاشميّين وخرج
الطّالبيّون على العبّاسيين من كلّ جهة وعصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك
فاتّخذوا الرّايات بيضا وسمّوا المبيضة لذلك سائر أيّام العبيديّين ومن
خرج من الطّالبيّين في ذلك العهد بالمشرق كالدّاعي بطبرستان وداعي صعدة
أو من دعا إلى بدعة الرّافضة من غيرهم كالقرامطة. ولمّا نزع المأمون عن
لبس السّواد
(1/320)
وشعاره في دولته عدل إلى لون الخضرة فجعل
رايته خضراء. وأمّا الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حدّ وقد كانت آلة
العبيديين لمّا خرج العزيز إلى فتح الشّام خمسمائة من البنود وخمسمائة
من الأبواق. وأمّا ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة وغيرها فلم يختصّوا
بلون واحد بل وشّوها بالذّهب واتّخذوها من الحرير الخالص ملوّنة
واستمرّوا على الإذن فيها لعمّالهم حتّى إذا جاءت دولة الموحّدين ومن
بعدهم من زناتة قصروا الآلة من الطّبول والبنود على السّلطان وحظروها
على من سواه من عمّاله وجعلوا لها موكبا خاصّا يتبع أثر السّلطان في
مسيره يسمّى السّاقة وهم فيه بين مكثر ومقلّ باختلاف مذاهب الدّول في
ذلك فمنهم من يقتصر على سبعة من العدد تبرّكا بالسّبعة كما هو في دولة
الموحّدين وبني الأحمر بالأندلس ومنهم من يبلغ العشرة والعشرين كما هو
عند زناتة وقد بلغت في أيّام السّلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائة من
الطّبول ومائة من البنود ملوّنة بالحرير منسوجة بالذّهب ما بين كبير
وصغير ويأذنون للولاة والعمّال والقوّاد في اتّخاذ راية واحدة صغيرة من
الكتّان بيضاء وطبل صغير أيّام الحرب لا يتجاوزون ذلك وأمّا دولة
التّرك لهذا العهد بالمشرق فيتّخذون راية واحدة عظيمة وفي رأسها خصلة
كبيرة من الشّعر يسمّونها الشّالش والجتر وهي شعار السّلطان عندهم ثمّ
تتعدّد الرّايات ويسمّونها السّناجق واحدها سنجق وهي الرّاية بلسانهم.
وأمّا الطّبول فيبالغون في الاستكثار منها ويسمّونها الكوسات ويبيحون
لكلّ أمير أو قائد عسكر أن يتّخذ من ذلك ما يشاء إلّا الجتر فإنّه خاصّ
بالسلطان. وأمّا الجلالقة لهذا العهد من أمم الإفرنجة بالأندلس فأكثر
شأنهم اتّخاذ الألوية القليلة ذاهبة في الجوّ صعدا ومعها قرع الأوتار
من الطّنابير ونفخ الغيطات يذهبون فيها مذهب الغناء وطريقه في مواطن
حروبهم هكذا يبلغنا عنهم وعمّن وراءهم من ملوك العجم ومن آياته خلق
السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم «إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ
لِلْعالِمِينَ 30: 22»
.
(1/321)
السرير:
وأمّا السّرير والمنبر والتّخت والكرسيّ فهي أعواد منصوبة أو أرائك
منضّدة لجلوس السّلطان عليها مرتفعا عن أهل مجلسه أن يساويهم في
الصّعيد ولم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام وفي دول العجم وقد
كانوا يجلسون على أسرّة الذّهب وكان لسليمان بن داود صلوات الله عليهما
وسلامه كرسيّ وسرير من عاج مغشّى بالذّهب إلّا أنّه لا تأخذ به الدّول
إلّا بعد الاستفحال والتّرف شأن الأبّهة كلّها كما قلناه وأمّا في أوّل
الدّولة عند البداوة فلا يتشوّقون إليه. وأوّل من اتّخذه في الإسلام
معاوية واستأذن النّاس فيه وقال لهم إني قد بدنت [1] فأذنوا له فاتّخذه
واتّبعه الملوك الإسلاميّون فيه وصار من منازع الأبّهة ولقد كان عمرو
بن العاصي بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب ويأتيه المقوقس إلى
قصره ومعه سرير من الذّهب محمولا على الأيدي لجلوسه شأن الملوك فيجلس
عليه وهو أمامه ولا يغيرون عليه [2] وفاء له بما عقد معهم من الذّمّة
واطّراحا لأبّهة الملك. ثمّ كان بعد ذلك لبني العبّاس والعبيديّين
وسائر ملوك الإسلام شرقا وغربا من الأسرّة والمنابر والتّخوت ما عفا عن
الأكاسرة والقياصرة والله مقلّب اللّيل والنّهار.
السكة:
وهي الختم على الدّنانير والدّراهم المتعامل بها بين النّاس بطابع حديد
ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة ويضرب بها على الدّينار أو الدّرهم فتخرج
رسوم تلك النّقوش عليها ظاهرة مستقيمة بعد أن يعتبر عيار النّقد من ذلك
الجنس في خلوصه بالسّبك مرّة بعد أخرى وبعد تقدير أشخاص الدّراهم
والدّنانير بوزن معيّن صحيح يصطلح عليه فيكون التّعامل بها عددا وإن لم
تقدّر أشخاصها يكون التّعامل بها وزنا ولفظ السّكّة كان اسما للطّابع
وهي الحديدة المتّخذة لذلك ثمّ نقل إلى أثرها وهي النّقوش الماثلة على
الدّنانير والدّراهم ثمّ نقل إلى القيام على ذلك والنّظر في استيفاء
حاجاته وشروطه وهي الوظيفة فصار علما
__________
[1] أي سمنت والبدن: عظم بدنه بكثرة لحمه، أصبح جسيما (قاموس)
[2] أي يهجمون على المقوقس.
(1/322)
عليها في عرف الدّول وهي وظيفة ضروريّة
للملك إذ بها يتميّز الخالص من المغشوش بين النّاس في النّقود عند
المعاملات ويتّقون في سلامتها الغشّ بختم السّلطان عليها بتلك النّقوش
المعروفة وكان ملوك العجم يتّخذونها وينقشون فيها تماثيل تكون مخصوصة
بها مثل تمثال السّلطان لعهدها أو تمثيل حصن أو حيوان أو مصنوع أو غير
ذلك ولم يزل هذا الشّأن عند العجم إلى آخر أمرهم. ولمّا جاء الإسلام
أغفل ذلك لسذاجة الدّين وبداوة العرب وكانوا يتعاملون بالذّهب والفضّة
وزنا وكانت دنانير الفرس ودراهمهم بين أيديهم ويردّونها في معاملتهم
إلى الوزن ويتصارفون بها بينهم إلى أن تفاحش الغشّ في الدّنانير
والدّراهم لغفلة الدّولة عن ذلك وأمر عبد الملك الحجّاج على ما نقل
سعيد بن المسيّب وأبو الزّناد بضرب الدّراهم وتمييز المغشوش من الخالص
وذلك سنة أربع وسبعين وقال المدائنيّ سنة خمس وسبعين ثمّ أمر بصرفها في
سائر النّواحي سنة ستّ وسبعين وكتب عليها «الله أحد الله الصّمد» ثمّ
ولّي ابن هبيرة العراق أيّام يزيد بن عبد الملك فجوّد السّكّة [1] ثمّ
بالغ خالد القسريّ في تجويدها ثمّ يوسف بن عمر بعده وقيل أوّل من ضرب
الدّنانير والدّراهم مصعب بن الزّبير بالعراق سنة سبعين بأمر أخيه عبد
الله لمّا ولي الحجاز وكتب عليها في أحد الوجهين «بركة الله» وفي الآخر
«اسم الله» ثمّ غيّرها الحجّاج بعد ذلك بسنة وكتب عليها اسم الحجّاج
وقدّر وزنها على ما كانت استقرّت أيّام عمر وذلك أنّ الدّرهم كان وزنه
أوّل الإسلام ستّة دوانق والمثقال وزنه درهم وثلاثة أسباع درهم فتكون
عشرة دراهم بسبعة مثاقيل وكان السّبب في ذلك أنّ أوزان الدّرهم أيّام
الفرس كانت مختلفة وكان منها على وزن المثقال عشرون قيراطا ومنها اثنا
عشر ومنها عشرة فلمّا احتيج إلى تقديره في الزّكاة أخذ الوسط وذلك اثنا
عشر قيراطا فكان المثقال درهما وثلاثة أسباع درهم وقيل كان منها
البغليّ بثمانية دوانق والطّبريّ أربعة دوانق والمغربيّ ثمانية دوانق
واليمنيّ ستّة دوانق فأمر عمر أن ينظر الأغلب في
__________
[1] وكانت الدنانير تسمى بالهبيرية نسبة إلى ابن هبيرة. واشتهرت
بجودتها.
(1/323)
التّعامل فكان البغليّ والطّبريّ اثني عشر
دانقا وكان الدّرهم ستّة دوانق وإن زدت ثلاثة أسباعه كان مثقالا وإذا
أنقصت ثلاثة أعشار المثقال كان درهما فلمّا رأى عبد الملك اتّخاذ
السّكّة لصيانة النّقدين الجاريين في معاملة المسلمين من الغشّ عيّن
مقدارها على هذا الّذي استقرّ لعهد عمر رضي الله عنه. واتّخذ فيه كلمات
لا صورا، لأنّ العرب كان الكلام والبلاغة أقرب مناحيهم وأظهرها مع أنّ
الشّرع ينهى عن الصّور فلمّا فعل ذلك استمرّ بين النّاس في أيّام
الملّة كلّها وكان الدّينار والدّرهم على شكلين مدوّرين والكتابة
عليهما في دوائر متوازية يكتب فيها من أحد الوجهين أسماء الله تهليلا
وتحميدا وصلاة على النّبيّ وآله. وفي الوجه الثّاني التّاريخ واسم
الخليفة وهكذا أيّام العبّاسيّين والعبيديّين والأمويّين وأمّا صنهاجة
فلم يتّخذوا سكّة إلّا آخر الأمر اتّخذها منصور صاحب بجاية ذكر ذلك ابن
حماد في تاريخه ولمّا جاءت دولة الموحّدين كان ممّا سنّ لهم المهديّ
اتّخاذ سكّة الدّرهم مربّع الشّكل وأن يرسم في دائرة الدّينار شكل
مربّع في وسطه ويملأ من أحد الجانبين تهليلا وتحميدا ومن الجانب الآخر
كتبا في السّطور باسمه واسم الخلفاء من بعده ففعل ذلك الموحّدون وكانت
سكّتهم على هذا الشّكل لهذا العهد ولقد كان المهديّ فيما ينقل ينعت قبل
ظهوره بصاحب الدّرهم المربّع نعته بذلك المتكلّمون بالحدثان من قبله
المخبرون في ملاحمهم عن دولته وأمّا أهل المشرق لهذا العهد فسكّتهم غير
مقدّرة وإنّما يتعاملون بالدّنانير والدّراهم وزنا بالصّنجات المقدّرة
بعدّة منها ولا يطبعون عليها بالسّكّة نقوش الكلمات بالتّهليل والصّلاة
واسم السّلطان كما يفعله أهل المغرب «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ 6: 96» .
ولنختم الكلام في السّكّة بذكر حقيقة الدّرهم والدّينار الشّرعيّين
وبيان حقيقة مقدارهما.
مقدار الدرهم والدينار الشرعيين
وذلك أنّ الدّينار والدّرهم مختلفا السّكّة في المقدار والموازين
بالآفاق
(1/324)
والأمصار وسائر الأعمال والشّرع قد تعرّض
لذكرهما وعلّق كثيرا من الأحكام بهما في الزّكاة والأنكحة والحدود
وغيرها فلا بدّ لهما عنده من حقيقة ومقدار معيّن في تقدير تجري عليهما
أحكامه دون غير الشّرعيّ منهما فاعلم أنّ الإجماع منعقد منذ صدر
الإسلام وعهد الصّحابة والتّابعين أنّ الدّرهم الشّرعيّ هو الّذي تزن
العشرة منه سبعة مثاقيل من الذّهب والأوقيّة منه أربعين درهما وهو على
هذا سبعة أعشار الدّينار ووزن المثقال من الذّهب اثنتان وسبعون حبّة من
الشّعير فالدّرهم الّذي هو سبعة أعشاره خمسون حبّة وخمسا حبّة وهذه
المقادير كلّها ثابتة بالإجماع فإنّ الدّرهم الجاهليّ كان بينهم على
أنواع أجودها الطّبريّ وهو أربعة دوانق والبغليّ وهو ثمانية دوانق
فجعلوا الشّرعيّ بينهما وهو ستّة دوانق فكانوا يوجبون الزّكاة في مائة
درهم بغليّة ومائة طبريّة خمسة دراهم وسطا وقد اختلف النّاس هل كان ذلك
من وضع عبد الملك أو إجماع النّاس بعد عليه كما ذكرناه. ذكر ذلك الخطام
في كتاب معالم السّنن والماورديّ في الأحكام السّلطانيّة وأنكره
المحقّقون من المتأخّرين لما يلزم عليه أن يكون الدّينار والدّرهم
الشّرعيّان مجهولين في عهد الصّحابة ومن بعدهم مع تعلّق الحقوق
الشّرعيّة بهما في الزّكاة والأنكحة والحدود وغيرها كما ذكرناه والحقّ
أنّهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر لجريان الأحكام يومئذ بما
يتعلّق بهما من الحقوق وكان مقدارهما غير مستخصّ في الخارج وإنّما كان
متعارفا بينهم بالحكم الشّرعيّ على المقدار في مقدارهما وزنتهما حتّى
استفحل الإسلام وعظمت الدّولة ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار
والوزن كما هو عند الشّرع ليستريحوا من كلفة التّقدير وقارن ذلك أيّام
عبد الملك [1] فشخّص مقدارهما وعيّنهما في الخارج كما هو في الذّهن
ونقش عليهما السّكّة باسمه وتأريخه أثر الشّهادتين الإيمانيّتين وطرح
النّقود الجاهليّة رأسا حتّى خلصت ونقش عليها سكّة وتلاشى وجودها فهذا
هو
__________
[1] مقتضى السياق «وقارن ذلك عبد الملك ... » .
(1/325)
الحقّ الّذي لا محيد عنه ومن بعد ذلك وقع
اختيار أهل السّكّة في الدّول على مخالفة المقدار الشّرعيّ في الدّينار
والدّرهم واختلفت في كلّ الأقطار والآفاق ورجع النّاس إلى تصوّر
مقاديرهما الشّرعيّة ذهنا كما كان في الصّدر الأوّل وصار أهل كلّ أفق
يستخرجون الحقوق الشّرعيّة من سكّتهم بمعرفة النّسبة الّتي بينها وبين
مقاديرها الشّرعيّة وأمّا وزن الدّينار باثنتين وسبعين حبّة من الشّعير
الوسط فهو الّذي نقله المحقّقون وعليه الإجماع إلّا ابن حزم خالف ذلك
وزعم أنّ وزنه أربع وثمانون حبّة. نقل ذلك عنه القاضي عبد الحقّ وردّه
المحقّقون وعدّوه وهما وغلطا وهو الصّحيح والله يحقّ الحقّ بكلماته
وكذلك تعلم أنّ الأوقيّة الشّرعيّة ليست هي المتعارفة بين النّاس لأنّ
المتعارفة مختلفة باختلاف الأقطار والشّرعيّة متّحدة ذهنا لا اختلاف
فيها والله خلق كلّ شيء فقدّره تقديرا.
الخاتم
وأمّا الخاتم فهو من الخطط السّلطانيّة والوظائف الملوكيّة والختم على
الرّسائل والصّكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده وقد ثبت في
الصّحيحين أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يكتب إلى قيصر
فقيل له إنّ العجم لا يقبلون كتابا إلّا أن يكون مختوما فاتّخذ خاتما
من فضّة ونقش فيه «محمّد رسول الله» قال البخاريّ جعل الثّلاث الكلمات
ثلاثة أسطر وختم به وقال لا ينقش أحد مثله قال وتختّم به أبو بكر وعمر
وعثمان ثمّ سقط من يد عثمان في بئر أريس وكانت قليلة الماء فلم يدرك
قعرها بعد واغتمّ عثمان وتطيّر منه وصنع آخر على مثله وفي كيفيّة نقش
الخاتم والختم به وجوه وذلك أنّ الخاتم يطلق على الآلة الّتي تجعل في
الإصبع ومنه تختّم إذا لبسه ويطلق على النّهاية والتّمام ومنه ختمت
الأمر إذا بلغت آخره وختمت القرآن كذلك ومنه خاتم النّبيّين وخاتم
الأمر ويطلق على السّداد الّذي يسدّ به الأواني والدّنان ويقال فيه
ختام ومنه قوله تعالى «خِتامُهُ مِسْكٌ 83: 26» وقد غلط من فسّر ذلك
بالنّهاية والتّمام قال لأنّ آخر ما يجدونه في شرابهم ريح المسك وليس
المعنى عليه وإنّما هو من الختام هو السّداد لأنّ الخمر
(1/326)
يجعل لها في الدّنّ سداد الطّين أو القار
يحفظها ويطيّب عرفها وذوقها فبولغ في وصف خمر الجنّة بأنّ سدادها من
المسك وهو أطيب عرفا وذوقا من القار والطّين المعهودين في الدّنيا فإذا
صحّ إطلاق الخاتم على هذه كلّها صحّ إطلاقه على أثرها النّاشئ عنها
وذلك أنّ الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثمّ غمس في مداف من الطّين
أو مداد ووضع على صفح القرطاس بقي أكثر الكلمات في ذلك الصّفح وكذلك
إذا طبع به على جسم ليّن كالشّمع فإنّه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسما
فيه وإذا كانت كلمات وارتسمت فقد يقرأ من الجهة اليسرى إذا كان النّقش
على الاستقامة من اليمنى وقد يقرأ من الجهة اليمنى إذا كان النّقش من
الجهة اليسرى لأنّ الختم يقلب جهة الخطّ في الصّفح عمّا كان في النّقش
من يمين أو يسار فيحتمل أن يكون الختم بهذا الخاتم بغمسه في المداد أو
الطّين ووضعه في الصّفح فتنتقش الكلمات فيه ويكون هذا من معنى النهاية
والتّمام بمعنى صحّة ذلك المكتوب ونفوذه كأنّ الكتاب إنّما يتمّ العمل
به بهذه العلامات وهو من دونها ملغى ليس بتمام وقد يكون هذا الختم
بالخطّ آخر الكتاب أو أوّله بكلمات منتظمة من تحميد أو تسبيح أو باسم
السّلطان أو الأمير أو صاحب الكتاب من كان أو شيء من نعوته يكون ذلك
الخطّ علامة على صحّة الكتاب ونفوذه ويسمّى ذلك في المتعارف علامة،
ويسمّى ختما تشبيها له بأثر الخاتم الآصفيّ [1] في النّقش ومن هذا خاتم
القاضي الّذي يبعث به للخصوم أي علامته وخطّه الّذي ينفّذ بهما أحكامه
ومنه خاتم السّلطان أو الخليفة أي علامته. قال الرّشيد ليحيى بن خالد
لمّا أراد أن يستوزر جعفرا ويستبدل به من الفضل أخيه فقال لأبيهما
يحيى: «يا أبت إني أردت أن أحوّل الخاتم من يميني إلى شمالي» فكنى له
بالخاتم عن الوزارة لما كانت العلامة على الرّسائل والصّكوك من وظائف
الوزارة لعهدهم ويشهد لصحة هذا الإطلاق ما نقله الطّبريّ أنّ معاوية
أرسل إلى
__________
[1] نسبة إلى آصف، كاتب النبي سليمان عليه السلام.
(1/327)
الحسن عند مراودته إياه في الصّلح صحيفة
بيضاء ختم على أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصّحيفة الّتي ختمت
أسفلها ما شئت فهو لك ومعنى الختم هنا علامة في آخر الصّحيفة بخطّه أو
غيره ويحتمل أن يختم به في جسم ليّن فتنتقش فيه حروفه ويجعل على موضع
الحزم من الكتاب إذا حزم وعلى المودوعات وهو من السّداد كما مرّ وهو في
الوجهين آثار الخاتم فيطلق عليه خاتم وأوّل من أطلق الختم على الكتاب
أي العلامة معاوية لأنّه أمر لعمر بن الزّبير عند زياد بالكوفة بمائة
ألف ففتح الكتاب وصيّر المائة مائتين ورفع زياد حسابه فأنكرها معاوية
وطلب بها عمر وحبسه حتّى قضاها عنه أخوه عبد الله واتّخذ معاوية عند
ذلك ديوان الخاتم. ذكره الطّبريّ وقال آخرون وحزم الكتب ولم تكن تحزم
أي جعل لها السّداد وديوان الختم عبارة عن الكتّاب القائمين على إنفاذ
كتب السّلطان والختم عليها إمّا بالعلامة أو بالحزم وقد يطلق الدّيوان
على مكان جلوس هؤلاء الكتّاب كما ذكرناه في ديوان الأعمال والحزم للكتب
يكون إمّا بدسّ الورق كما في عرف كتّاب المغرب وإمّا بإلصاق رأس
الصّحيفة على ما تنطوي عليه من الكتاب كما في عرف أهل المشرق وقد يجعل
على مكان الدّسّ أو الإلصاق علامة يؤمن معها من فتحه والاطّلاع على ما
فيه فأهل المغرب يجعلون على مكان الدّسّ قطعة من الشّمع ويختمون عليها
بخاتم نقشت فيه علامة لذلك فيرتسم النّقش في الشّمع وكان في المشرق في
الدّول القديمة يختم على مكان اللّصق بخاتم منقوش أيضا قد غمس في مداف
من الطّين معدّ لذلك صبغه أحمر فيرتسم ذلك النّقش عليه وكان هذا الطّين
في الدّولة العبّاسيّة يعرف بطين الختم وكان يجلب من سيراف فيظهر أنّه
مخصوص بها فهذا الخاتم الّذي هو العلامة المكتوبة أو النّقش للسّداد
والحزم للكتب خاصّ بديوان الرّسائل وكان ذلك للوزير في الدّولة
العبّاسيّة ثمّ اختلف العرف وصار لمن إليه التّرسيل وديوان الكتّاب في
الدّولة ثمّ صاروا في دول المغرب يعدّون من علامات الملك وشاراته
الخاتم للإصبع فيستجيدون صوغه من الذّهب
(1/328)
ويرصّعونه بالفصوص من الياقوت والفيروزج
والزّمرّد ويلبسه السّلطان شارة في عرفهم كما كانت البردة والقضيب في
الدّولة العبّاسيّة والمظلّة في الدّولة العبيديّة والله مصرّف الأمور
بحكمه.
الطراز:
من أبّهة الملك والسّلطان ومذاهب الدّول أن ترسم أسماؤهم أو علامات
تختصّ بهم في طراز أثوابهم المعدّة للباسهم من الحرير أو الدّيباج أو
الإبريسم تعتبر كتابة خطّها في نسج الثّوب إلحاما وإسداء بخيط الذّهب
أو ما يخالف لون الثّوب من الخيوط الملوّنة من غير الذّهب على ما يحكمه
الصّنّاع في تقدير ذلك ووضعه في صناعة نسجهم فتصير الثّياب الملوكيّة
معلمة بذلك الطّراز قصد التّنويه بلابسها من السّلطان فمن دونه أو
التّنويه بمن يختصّه السّلطان بملبوسه إذا قصد تشريفه بذلك أو ولايته
لوظيفة من وظائف دولته وكان ملوك العجم من قبل الإسلام يجعلون ذلك
الطّراز بصور الملوك وأشكالهم أو أشكال وصور معيّنة لذلك ثمّ اعتاض
ملوك الإسلام عن ذلك بكتب أسمائهم مع كلمات أخرى تجري مجرى الفأل أو
السّجلّات وكان ذلك في الدّولتين من أبّهة الأمور وأفخم الأحوال وكانت
الدّور المعدّة لنسج أثوابهم في قصورهم تسمّى دور الطّراز لذلك وكان
القائم على النّظر فيها يسمّى صاحب الطّراز، ينظر في أمور الصّباغ
والآلة والحاكة فيها وإجراء أرزاقهم وتسهيل آلاتهم ومشارفة أعمالهم
وكانوا يقلّدون ذلك لخواصّ دولتهم وثقات مواليهم وكذلك كان الحال في
دولة بني أميّة بالأندلس والطّوائف من بعدهم وفي دولة العبيديّين بمصر
ومن كان على عهدهم من ملوك العجم بالمشرق ثمّ لمّا ضاق نطاق الدّول عن
التّرف والتّفنّن فيه لضيق نطاقها في الاستيلاء وتعدّدت الدّول تعطّلت
هذه الوظيفة والولاية عليها من أكثر الدّول بالجملة ولمّا جاءت دولة
الموحّدين بالمغرب بعد بني أميّة أوّل المائة السّادسة لم يأخذوا بذلك
أوّل دولتهم لما كانوا عليه من منازع الدّيانة والسّذاجة الّتي لقّنوها
عن إمامهم محمّد بن تومرت المهديّ وكانوا يتورّعون عن لباس
(1/329)
الحرير والذّهب فسقطت هذه الوظيفة من
دولتهم واستدرك منها أعقابهم آخر الدّولة طرفا لم يكن بتلك النّباهة
وأمّا لهذا العهد، فأدركنا بالمغرب في الدّولة المرينيّة لعنفوانها
وشموخها رسما جليلا لقّنوه من دولة ابن الأحمر معاصرهم بالأندلس واتّبع
هو في ذلك ملوك الطّوائف فأتى منه بلمحة شاهدة بالأثر. وأمّا دولة
التّرك بمصر والشّام لهذا العهد ففيها من الطّراز تحرير آخر على مقدار
ملكهم وعمران بلادهم إلّا أنّ ذلك لا يصنع في دورهم وقصورهم وليست من
وظائف دولتهم وإنّما ينسج ما تطلبه الدّولة من ذلك عند صنّاعه من
الحرير ومن الذّهب الخالص ويسمّونه المزركش لفظة أعجميّة ويرسم اسم
السّلطان أو الأمير عليه ويعدّه الصّنّاع لهم فيما يعدّونه للدّولة من
طرف الصّناعة اللّائقة بها «وَالله مُقَدِّرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَالله خَيْرُ الْوَارِثِينَ» .
الفساطيط والسياج
اعلم أنّ من شارات الملك وترفه اتّخاذ الأخبية والفساطيط والفازات [1]
من ثياب الكتّان والصّوف والقطن فيباهي بها في الأسفار وتنوّع منها
الألوان ما بين كبير وصغير على نسبة الدّولة في الثّروة واليسار وإنّما
يكون الأمر في أوّل الدّولة في بيوتهم الّتي جرت عادتهم باتّخاذها قبل
الملك وكان العرب لعهد الخلفاء الأوّلين من بني أميّة إنّما يسكنون
بيوتهم الّتي كانت لهم خياما من الوبر والصّوف ولم تزل العرب لذلك
العهد بادين [2] إلّا الأقلّ منهم فكانت أسفارهم لغزواتهم وحروبهم
بظعونهم وسائر حللهم وأحيائهم من الأهل والولد كما هو شأن العرب لهذا
العهد وكانت عساكرهم لذلك كثيرة الحلل بعيدة ما بين المنازل متفرّقة
الأحياء يغيب كلّ واحد منها عن نظر صاحبه من الأخرى كشأن العرب ولذلك
ما كان عبد الملك يحتاج إلى ساقة تحشد النّاس على أثره وأن يقيموا إذا
ظعن.
__________
[1] مظلة بعامودين.
[2] من البداوة.
(1/330)
ونقل أنّه استعمل في ذلك الحجّاج حين أشار
به روح بن زنباع وقصّتهما في إحراق فساطيط روح وخيامه لأوّل ولايته حين
وجدهم مقيمين في يوم رحيل عبد الملك قصّة مشهورة. ومن هذه الولاية تعرف
رتبة الحجّاج بين العرب فإنّه لا يتولّى إرادتهم على الظّعن إلّا من
يأمن بوادر السّفهاء من أحيائهم بما له من العصبيّة الحائلة دون ذلك
ولذلك اختصّه عبد الملك بهذه الرّتبة ثقة بغنائه فيها بعصبيّته وصرامته
فلمّا تفنّنت الدّولة العربيّة في مذاهب الحضارة والبذخ ونزلوا المدن
والأمصار وانتقلوا من سكنى الخيام إلى سكنى القصور ومن ظهر الخفّ إلى
ظهر الحافر اتّخذوا للسّكنى في أسفارهم ثياب الكتّان يستعملون منها
بيوتا مختلفة الأشكال مقدّرة الأمثال من القوراء [1] والمستطيلة
والمربّعة ويحتفلون فيها بأبلغ مذاهب الاحتفال والزّينة ويدير الأمير
والقائد للعساكر على فساطيطه وفازاته من بينهم سياجا من الكتّان يسمّى
في المغرب بلسان البربر الّذي هو لسان أهله أفراك بالكاف والقاف ويختصّ
به السّلطان بذلك القطر لا يكون لغيره. وأمّا في المشرق فيتّخذه كلّ
أمير وإن كان دون السّلطان ثمّ جنحت الدّعة بالنّساء والولدان إلى
المقام بقصورهم ومنازلهم فخفّ لذلك ظهرهم وتقاربت السّياج بين منازل
العسكر واجتمع الجيش والسّلطان في معسكر واحد يحصره البصر في بسيطة
زهوا أنيقا لاختلاف ألوانه واستمرّ الحال على ذلك في مذاهب الدّول في
بذخها وترفها. وكذا كانت دولة الموحّدين وزناتة الّتي أظلّتنا كان
سفرهم أوّل أمرهم في بيوت سكناهم قبل الملك من الخيام والقياطين [2]
حتّى إذا أخذت الدّولة في مذاهب التّرف وسكنى القصور وعادوا إلى سكنى
الأخبية والفساطيط بلغوا من ذلك فوق ما أرادوه وهو من التّرف بمكان
إلّا أنّ العساكر به تصير عرضة للبيات لاجتماعهم في مكان واحد تشملهم
فيه الصّيحة ولخفّتهم من الأهل
__________
[1] القوراء: الواسعة.
[2] القياطين: المخادع.
(1/331)
والولد الّذين تكون الاستماتة دونهم فيحتاج
في ذلك إلى تحفّظ آخر والله القويّ العزيز.
المقصورة للصلاة والدعاء في الخطبة
وهما من الأمور الخلافيّة ومن شارات الملك الإسلاميّ ولم يعرف في غير
دول الإسلام. فأمّا البيت المقصورة من المسجد لصلاة السّلطان فيتّخذ
سياجا على المحراب فيحوزه وما يليه فأوّل من اتّخذها معاويّة بن أبي
سفيان حين طعنه الخارجيّ والقصّة معروفة وقيل أوّل من اتّخذها مروان بن
الحكم حين طعنه اليمانيّ ثمّ اتّخذها الخلفاء من بعدهما وصارت سنّة في
تمييز السّلطان عن النّاس في الصّلاة وهي إنّما تحدث عند حصول التّرف
في الدّول والاستفحال شأن أحوال الأبّهة كلّها وما زال الشّأن ذلك في
الدّول الإسلاميّة كلّها وعند افتراق الدّولة العبّاسيّة وتعدّد الدّول
بالمشرق وكذا بالأندلس عند انقراض الدّولة الأمويّة وتعدّد ملوك
الطّوائف وأمّا المغرب فكان بنو الأغلب يتّخذونها بالقيروان ثمّ
الخلفاء العبيديّون ثمّ ولاتهم على المغرب من صنهاجة بنو باديس بفاس
وبنو حماد بالقلعة ثمّ ملك الموحّدين سائر المغرب والأندلس ومحوا ذلك
الرّسم على طريقة البداوة الّتي كانت شعارهم ولمّا استفحلت الدّولة
وأخذت بحظّها من التّرف وجاء أبو يعقوب المنصور ثالث ملوكهم فاتّخذ هذه
المقصورة وبقيت من بعده سنّة لملوك المغرب والأندلس وهكذا كان الشّأن
في سائر الدّول سنّة الله في عباده.
وأمّا الدّعاء على المنابر في الخطبة فكان الشّأن أوّلا عند الخلفاء
ولاية الصّلاة بأنفسهم فكانوا يدعون لذلك بعد الصّلاة على النّبيّ صلّى
الله عليه وسلّم والرّضى عن أصحابه وأوّل من اتّخذ المنبر عمرو بن
العاص لمّا بنى جامعه بمصر وأوّل من دعا للخليفة على المنبر ابن عبّاس
دعا لعليّ رضي الله عنهما في خطبته وهو بالبصرة عامل له عليها فقال
اللَّهمّ انصر عليّا على الحقّ واتّصل العمل على ذلك فيما بعد وبعد أخذ
(1/332)
عمرو بن العاص المنبر بلغ عمر بن الخطّاب
ذلك فكتب إليه عمر بن الخطّاب أمّا بعد فقد بلغني أنّك اتّخذت منبرا
ترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائما والمسلمون تحت
عقبيك فعزمت عليك إلّا ما كسرته فلمّا حدثت الأبّهة وحدث في الخلفاء
المانع من الخطبة والصّلاة استنابوا فيهما فكان الخطيب يشيد بذكر
الخليفة على المنبر تنويها باسمه ودعاء له بما جعل الله مصلحة العالم
فيه ولأنّ تلك السّاعة مظنّة للإجابة ولما ثبت عن السّلف في قولهم من
كانت له دعوة صالحة فليضعها في السّلطان وكان الخليفة يفرد بذلك فلمّا
جاء الحجر والاستبداد صار المتغلّبون على الدّول كثيرا ما يشاركون
الخليفة في ذلك ويشاد باسمهم عقب اسمه وذهب ذلك بذهاب تلك الدّول وصار
الأمر إلى اختصاص السّلطان بالدّعاء له على المنبر دون من سواه وحظر أن
يشاركه فيه أحد أو يسمو إليه وكثيرا ما يغفل المعاهدون من أهل الدّول
هذا الرّسم عند ما تكون الدّولة في أسلوب الغضاضة ومناحي البداوة في
التّغافل والخشونة ويقنعون بالدّعاء على الإبهام والإجمال لمن ولي أمور
المسلمين ويسمّون مثل هذه الخطبة إذا كانت على هذا المنحى عبّاسيّة
يعنون بذلك أنّ الدّعاء على الإجمال إنّما يتناول العبّاسيّ تقليدا في
ذلك لما سلف من الأمر ولا يحفلون بما وراء ذلك من تعيينه والتّصريح
باسمه يحكى أنّ يغمراسن بن زيّان عاهد دولة بني عبد الوادّ لمّا غلبه
الأمير أبو زكريّا يحيى بن أبي حفص على تلمسان ثمّ بدا له في إعادة
الأمر إليه على شروط شرطها كان فيها ذكر اسمه على منابر عمله فقال
يغمراسن تلك أعوادهم يذكرون عليها من شاءوا وكذلك يعقوب بن عبد الحقّ
عاهد دولة بني مرين حضره رسول المنتصر الخليفة بتونس من بني أبي حفص
وثالث ملوكهم وتخلّف بعض أيّامه عن شهود الجمعة فقيل له لم يحضر هذا
الرّسول كراهية لخلوّ الخطبة من ذكر سلطانه فأذن في الدّعاء له وكان
ذلك سببا لأخذهم بدعوته وهكذا شأن الدّول في بدايتها وتمكّنها في
الغضاضة والبداوة فإذا انتبهت عيون سياستهم
(1/333)
ونظروا في أعطاف ملكهم واستتمّوا شيات [1]
الحضارة ومفاني البذخ والأبّهة انتحلوا جميع هذه السّمات وتفنّنوا فيها
وتجاروا إلى غايتها وأنفوا من المشاركة فيها وجزعوا من افتقادها وخلوّ
دولتهم من آثارها والعالم بستان والله على كلّ شيء رقيب.
الفصل السابع والثلاثون في الحروب ومذاهب
الأمم وترتيبها
اعلم أنّ الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليفة منذ براها
الله وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصّب لكلّ منها أهل
عصبيّته فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطّائفتان إحداهما تطلب الانتقام
والأخرى تدافع كانت الحرب وهو أمر طبيعيّ في البشر لا تخلو عنه أمّة
ولا جيل وسبب هذا الانتقام في الأكثر إمّا غيرة ومنافسة. وإمّا عدوان
وإمّا غضب للَّه ولدينه وإمّا غضب للملك وسعي في تمهيده فالأوّل أكثر
ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة والثّاني وهو
العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشيّة السّاكنين بالقفر كالعرب
والتّرك والتّركمان والأكراد وأشباههم لأنّهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم
ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب ولا بغية
لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك وإنّما همّهم ونصب أعينهم غلب
النّاس على ما في أيديهم والثّالث هو المسمّى في الشّريعة بالجهاد
والرّابع هو حروب الدّول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها فهذه
أربعة أصناف من الحروب الصّنفان الأوّلان منها حروب بغي وفتنة
والصّنفان الأخيران حروب جهاد وعدل وصفة الحروب الواقعة بين أهل
الخليقة منذ أوّل وجودهم على نوعين نوع بالزّحف
__________
[1] ألوان الحضارة.
(1/334)
صفوفا ونوع بالكرّ والفرّ أمّا الّذي
بالزّحف فهو قتال العجم كلّهم على تعاقب أجيالهم وأمّا الّذي بالكرّ
والفرّ فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب وقتال الزّحف أوثق وأشدّ
من قتال الكرّ والفرّ وذلك لأنّ قتال الزّحف ترتّب فيه الصّفوف وتسوّى
كما تسوّى القداح أو صفوف الصّلاة ويمشون بصفوفهم إلى العدوّ قدما،
فلذلك تكون أثبت عند المصارع وأصدق في القتال وأرهب للعدوّ. لأنّه
كالحائط الممتدّ والقصر المشيد لا يطمع في إزالته وفي التّنزيل «إِنَّ
الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ
بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ 61: 4» أي يشدّ بعضهم بعضا بالثّبات وفي الحديث
الكريم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» ومن هنا يظهر لك حكمة
إيجاب الثّبات وتحريم التّولّي في الزّحف فإنّ المقصود من الصّفّ في
القتال حفظ النّظام كما قلناه فمن ولّى العدوّ ظهره فقد أخلّ بالمصافّ
وباء بإثم الهزيمة إن وقعت وصار كأنّه جرّها على المسلمين وأمكن منهم
عدوّهم فعظم الذّنب لعموم المفسدة وتعدّيها إلى الدّين بخرق سياجه فعدّ
من الكبائر ويظهر من هذه الأدلّة أنّ قتال الزّحف أشدّ عند الشّارع
وأمّا قتال الكرّ والفرّ فليس فيه من الشّدّة والأمن من الهزيمة ما في
قتال الزّحف إلّا أنّهم قد يتّخذون وراءهم في القتال مصافّا ثابتا
يلجئون إليه في الكرّ والفرّ ويقوم لهم مقام قتال الزّحف كما نذكره
بعد. ثمّ إنّ الدّول القديمة الكثيرة الجنود المتّسعة الممالك كانوا
يقسمون الجيوش والعساكر أقساما يسمّونها كراديس ويسوّون في كلّ كردوس
صفوفه وسبب ذلك أنّه لمّا كثرت جنودهم الكثرة البالغة وحشدوا من قاصية
النّواحي استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضا إذا اختلطوا في مجال الحرب
واعتوروا مع عدوّهم الطّعن والضّرب فيخشى من تدافعهم فيما بينهم لأجل
النّكراء [1] وجهل بعضهم ببعض فلذلك كانوا يقسمون العساكر جموعا
ويضمّون المتعارفين بعضهم لبعض ويرتّبونها قريبا من التّرتيب الطّبيعيّ
في الجهات الأربع ورئيس العساكر
__________
[1] نكراء الدهر: شدّته، النكر بفتح النون وضمها: الدهاء والفطنة.
(المنجد) .
(1/335)
كلّها من سلطان أو قائد في القلب ويسمّون
هذا التّرتيب التّعبئة وهو مذكور في أخبار فارس والرّوم والدّولتين
وصدر الإسلام فيجعلون بين يدي الملك عسكرا منفردا بصفوفه متميزا بقائده
ورايته وشعاره ويسمّونه المقدّمة ثمّ عسكرا آخر ناحية اليمين عن موقف
الملك وعلى سمته يسمّونه الميمنة ثمّ عسكرا آخر من ناحية الشّمال كذلك
يسمّونه الميسرة ثمّ عسكرا آخر من وراء العسكر يسمّونه السّاقة ويقف
الملك وأصحابه في الوسط بين هذه الأربع ويسمّون موقفه القلب فإذا تمّ
لهم هذا التّرتيب المحكم إمّا في مدى واحد للبصر أو على مسافة بعيدة
أكثرها اليوم واليومان بين كلّ عسكرين منها أو كيفما أعطاه حال العساكر
في القلّة والكثرة فحينئذ يكون الزّحف من بعد هذه التّعبئة وانظر ذلك
في أخبار الفتوحات وأخبار الدّولتين بالمشرق وكيف كانت العساكر لعهد
عبد الملك تتخلّف عن رحيله لبعد المدى في التّعبئة فاحتيج لمن يسوقها
من خلفه وعيّن لذلك الحجّاج بن يوسف كما أشرنا إليه وكما هو معروف في
أخباره وكان في الدّولة الأمويّة بالأندلس أيضا كثير منه وهو مجهول
فيما لدينا لأنّا إنّما أدركنا دولا قليلة العساكر لا تنتهي في مجال
الحرب إلى التناكر بل أكثر الجيوش من الطّائفتين معا يجمعهم لدينا حلّة
[1] أو مدينة ويعرف كلّ واحد منهم قرنه ويناديه في حومة الحرب باسمه
ولقبه فاستغنى عن تلك التّعبئة.
ومن مذاهب أهل الكرّ والفرّ في الحروب ضرب المصافّ وراء عسكرهم من
الجمادات والحيوانات العجم فيتّخذونها ملجأ للخيّالة في كرّهم وفرّهم
يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب وأقرب إلى الغلب وقد يفعله
أهل الزّحف أيضا ليزيدهم ثباتا وشدّة فقد كان الفرس وهم أهل الزّحف
يتّخذون الفيلة في الحروب ويحمّلون عليها أبراجا من الخشب أمثال
الصّروح مشحونة بالمقاتلة والسّلاح والرّايات ويصفّونها وراءهم في حومة
الحرب كأنّها حصون فتقوى بذلك نفوسهم
__________
[1] الحلة: ج حلل وحلال: كل ثوب جديد أو عموما الثوب الساتر لجميع
البدن والحلّة: الزنبيل الكبير من القصب. والحلّة من الشيء جهته
(المنجد) .
(1/336)
ويزداد وثوقهم وانظر ما وقع من ذلك في
القادسيّة وإنّ فارس في اليوم الثّالث اشتدّوا بهم على المسلمين حتّى
اشتدّت رجالات من العرب فخالطوهم وبعجوها بالسّيوف على خراطيمها فنفرت
ونكصت [1] على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن فجفا معسكر فارس لذلك
وانهزموا في اليوم الرّابع. وأمّا الرّوم وملوك القوط بالأندلس وأكثر
العجم فكانوا يتّخذون لذلك الأسرّة ينصبون للملك سريره في حومة الحرب
ويحفّ به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه وترفع
الرّايات في أركان السّرير ويحدق به سياج آخر من الرّماة والرّجّالة
فيعظم هيكل السّرير ويصير فئة للمقاتلة وملجأ للكرّ والفرّ وجعل ذلك
الفرس أيّام القادسيّة وكان رستم [2] جالسا على سرير نصبه لجلوسه حتّى
اختلفت صفوف فارس وخالطه العرب في سريره ذلك فتحوّل عنه إلى الفرات
وقتل. وأمّا أهل الكرّ والفرّ من العرب وأكثر الأمم البدويّة الرّحّالة
فيصفّون لذلك إبلهم والظهر الّذي يحمل ظعائنهم فيكون فئة لهم ويسمّونها
المجبوذة وليس أمّة من الأمم إلّا وهي تفعل في حروبها وتراه أوثق في
الجولة وآمن من الغرّة والهزيمة وهو أمر مشاهد وقد أغفلته الدّول
لعهدنا بالجملة واعتاضوا عنه بالظّهر الحامل للأثقال والفساطيط
يجعلونها ساقة من خلفهم ولا تغني غناء الفيلة والإبل فصارت العساكر
بذلك عرضة للهزائم ومستشعرة للفرار في المواقف. وكان الحرب أوّل
الإسلام كلّه زحفا وكان العرب إنّما يعرفون الكرّ والفرّ لكن حملهم على
ذلك أوّل الإسلام أمران أحدهما أنّ أعداءهم كانوا يقاتلون زحفا
فيضطرّون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم.
والثّاني أنّهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصّبر،
ولما رسخ فيهم من الإيمان والزّحف إلى الاستماتة أقرب. وأوّل من أبطل
الصّفّ في الحروب وصار إلى التّعبئة كراديس مروان بن الحكم في قتال
الضّحّاك الخارجيّ والجبيريّ بعده قال الطّبريّ لمّا ذكر قتال الجبيريّ
«فولّى الخوارج عليهم شيبان بن عبد
__________
[1] أحجمت.
[2] هو قائد الجيوش الفارسية في معركة القادسية.
(1/337)
العزيز اليشكريّ ويلقّب أبا الذّلفاء
قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل الصّفّ من يومئذ» انتهى. فتنوسي
قتال الزّحف بإبطال الصّفّ ثمّ تنوسي الصّفّ وراء المقاتلة بما داخل
الدّول من التّرف وذلك أنّها حينما كانت بدويّة وسكناهم الخيام كانوا
يستكثرون من الإبل وسكنى النّساء والولدان معهم في الأحياء فلمّا حصلوا
على ترف الملك وألفوا سكنى القصور والحواضر وتركوا شأن البادية والقفر
نسوا لذلك عهد الإبل والظّعائن وصعب عليهم اتّخاذها فخلّفوا النّساء في
الأسفار وحملهم الملك والتّرف على اتّخاذ الفساطيط والأخبيّة فاقتصروا
على الظّهر الحامل للأثقال [1] والأبنية وكان ذلك صفتهم في الحرب ولا
يغني كلّ الغناء لأنّه لا يدعو إلى الاستماتة كما يدعو إليها الأهل
والمال فيخفّ الصّبر من أجل ذلك وتصرفهم الهيعات [2] وتخرّم صفوفهم.
ولما ذكرناه من ضرب المصافّ وراء العساكر وتأكّده في قتال الكرّ والفرّ
صار ملوك المغرب يتّخذون طائفة من الإفرنج في جندهم واختصّوا بذلك لأنّ
قتال أهل وطنهم كلّه بالكرّ والفرّ والسّلطان يتأكّد في حقّه ضرب
المصافّ ليكون ردءا للمقاتلة أمامه فلا بدّ من أن يكون أهل ذلك الصّفّ
من قوم متعوّدين للثّبات في الزّحف وإلّا أجفلوا على طريقة أهل الكرّ
والفرّ فانهزم السّلطان والعساكر بإجفالهم فاحتاج الملوك بالمغرب أن
يتّخذوا جندا من هذه الأمّة المتعوّدة الثّبات في الزّحف وهم الإفرنج
ويرتّبون مصافّهم المحدق بهم منها هذا على ما فيه من الاستعانة بأهل
الكفر. وإنّهم استخفّوا ذلك للضّرورة الّتي أريناكها من تخوّف الإجفال
على مصافّ السّلطان والإفرنج لا يعرفون غير الثّبات في ذلك لأنّ عادتهم
في القتال الزّحف فكانوا أقوم بذلك من غيرهم مع أنّ الملوك في المغرب
إنّما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب والبربر وقتالهم على الطّاعة
وأمّا في الجهاد فلا يستعينون بهم حذرا من ممالأتهم على المسلمين هذا
هو
__________
[1] قوله للاثقال والأبنية مراده بالأبنية الخيام كما يدل عليه قوله في
فصل الخندق الآتي قريبا إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم 1 هـ-.
[2] الأصوات المخيفة.
(1/338)
الواقع لهذا العهد وقد أبدينا سببه والله
بكلّ شيء عليم. وبلغنا أنّ أمم التّرك لهذا العهد قتالهم مناضلة
بالسّهام وأنّ تعبئة الحرب عندهم بالمصافّ وأنّهم يقسمون بثلاثة صفوف
يضربون صفّا وراء صفّ ويترجّلون عن خيولهم ويفرّغون سهامهم بين أيديهم
ثمّ يتناضلون جلوسا وكلّ صف ردء للّذي أمامه أن يكبسهم العدوّ إلى أن
يتهيّأ النّصر لإحدى الطّائفتين على الأخرى وهي تعبئة محكمة غريبة.
وكان من مذاهب الأوّل في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عند ما
يتقاربون للزّحف حذرا من معرّة البيات والهجوم على العسكر باللّيل لما
في ظلمته ووحشته من مضاعفة الخوف فيلوذ الجيش بالفرار وتجد النّفوس في
الظّلمة سترا من عاره فإذا تساووا في ذلك أرجف العسكر ووقعت الهزيمة
فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم [1]
ويديرون الحفائر نطاقا عليهم من جميع جهاتهم حرصا أن يخالطهم العدوّ
بالبيات فيتخاذلوا. وكانت للدّول في أمثال هذا قوّة وعليه اقتدار
باحتشاد الرّجال وجمع الأيدي عليه في كلّ منزل من منازلهم بما كانوا
عليه من وفور العمران وضخامة الملك فلمّا خرب العمران وتبعه ضعف الدّول
وقلّة الجنود وعدم الفعلة نسي هذا الشّأن جملة كأنّه لم يكن والله خير
القادرين. وانظر وصيّة علي رضي الله عنه وتحريضه لأصحابه يوم صفّين تجد
كثيرا من علم الحرب ولم يكن أحد أبصر بها منه قال في كلام له: «فسوّوا
صفوفكم كالبنيان المرصوص وقدّموا الدّارع وأخّروا الحاسر وعضّوا على
الأضراس فإنّه أنبى للسّيوف عن الهام والتووا على أطراف الرّماح فإنّه
أصون للأسنّة وغضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش وأسكن للقلوب واخفتوا
الأصوات فإنّه أطرد للفشل وأولى بالوقار وأقيموا راياتكم فلا تميلوها
ولا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم واستعينوا بالصّدق والصّبر فإنّه بقدر
الصّبر ينزل النّصر» وقال الأشتر يومئذ يحرّض الأزد: «عضّوا على
النّواجذ من الأضراس واستقبلوا القوم بهامكم وشدّوا
__________
[1] خيامهم.
(1/339)
شدّة قوم موتورين يثأرون بآبائهم وإخوانهم
حناقا على عدوّهم وقد وطّنوا على الموت أنفسهم لئلّا يسبقوا بوتر ولا
يلحقهم في الدّنيا عار» وقد أشار إلى كثير من ذلك أبو بكر الصّيرفيّ
شاعر لمتونة وأهل الأندلس في كلمة يمدح بها تاشفين بن عليّ بن يوسف
ويصف ثباته في حرب شهدها ويذكّره بأمور الحرب في وصايا تحذيرات تنبّهك
على معرفة كثير من سياسة الحرب يقول فيها.
يا أيّها الملأ الّذي يتقنّع ... من منكم الملك الهمام الأروع
ومن الّذي غدر العدوّ به دجى ... فانفضّ كلّ وهو لا يتزعزع
تمضي الفوارس والطّعان يصدّها ... عنه ويدمرها الوفاء فترجع
واللّيل من وضح التّرائك إنّه ... صبح على هام الجيوش يلمّع
أنّى فزعتم يا بني صنهاجة ... وإليكم في الرّوع كان المفزع
إنسان عين لم يصبها منكم ... حضن وقلب أسلمته الأضلع
وصددتم عن تاشفين وإنّه ... لعقابه لو شاء فيكم موضع
ما أنتم إلّا أسود خفيّة ... كلّ لكلّ كريهة مستطلع
يا تاشفين أقم لجيشك عذره ... باللّيل والعذر الّذي لا يدفع
ومنها في سياسة الحرب
أهديك من أدب السّياسة ما به ... كانت ملوك الفرس قبلك تولع
لا إنّني أدري بها لكنّها ... ذكرى تحضّ المؤمنين وتنفع
والبس من الحلق المضاعفة الّتي ... وصّى بها صنع الصّنائع تبّع
والهندوانيّ الرّقيق فإنّه ... أمضى على حدّ الدّلاص وأقطع
واركب من الخيل السّوابق عدّة ... حصنا حصينا ليس فيه مدفع
خندق عليك إذا ضربت محلّة ... سيّان تتبع ظافرا أو تتبع
والواد لا تعبره وانزل عنده ... بين العدوّ وبين جيشك يقطع
(1/340)
واجعل مناجزة الجيوش عشيّة ... ووراءك
الصّدق الّذي هو أمنع
وإذا تضايقت الجيوش بمعرك ... ضنك فأطراف الرّماح توسّع
واصدمه أوّل وهلة لا تكترث ... شيئا فإظهار النّكول يضعضع
واجعل من الطّلّاع أهل شهامة ... للصّدق فيهم شيمة لا تخدع
لا تسمع الكذّاب جاءك مرجفا ... لا رأي للكذّاب فيما يصنع
قوله واصدمه أوّل وهلة لا تكترث البيت مخالف لما عليه النّاس في أمر
الحرب فقد قال عمر لأبي عبيد بن مسعود الثّقفيّ لمّا ولّاه حرب فارس
والعراق فقال له اسمع وأطع من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
وأشركهم في الأمر ولا تجيبنّ مسرعا حتّى تتبيّن فإنّها الحرب ولا يصلح
لها الرّجل المكيث [1] الّذي يعرف الفرصة والكفّ وقال له في أخرى:
«إنّه لن يمنعني أن أؤمر سليطا إلّا سرعته في الحرب وفي التّسرّع في
الحرب إلّا عن بيان ضياع والله لولا ذلك لأمرته لكنّ الحرب لا يصلحها
إلّا الرّجل المكيث» هذا كلام عمر وهو شاهد بأنّ التّثاقل في الحرب
أولى من الخفوف حتّى يتبيّن حال تلك الحرب وذلك عكس ما قاله الصّيرفيّ
إلّا أن يريد أنّ الصّدم بعد البيان [2] فله وجه والله تعالى أعلم. ولا
وثوق في الحرب بالظّفر وإن حصلت أسبابه من العدّة والعديد وإنّما
الظّفر فيها والغلب من قبيل البحث والاتّفاق وبيان ذلك أنّ أسباب الغلب
في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة وهي الجيوش ووفورها وكمال الأسلحة
واستجادتها وكثرة الشّجعان وترتيب المصافّ ومنه صدق القتال وما جرى
مجرى ذلك ومن أمور خفيّة وهي إمّا من خداع البشر وحيلهم في الإرجاف
والتّشانيع الّتي يقع بها التّخذيل وفي التّقدّم إلى الأماكن المرتفعة
ليكون الحرب من أعلى فيتوهّم المنخفض لذلك وفي الكمون في الغياض
ومطمئنّ الأرض والتّواري بالكدى [3] حول العدوّ حتّى يتداولهم العسكر
__________
[1] المكيث: الرزين المتأني (المنجد) .
[2] كلمة البيان ليس لها معنى في هذه الجملة ولعلها محرفة من كلمة بيات
كما يقتضيه سياق المعنى.
[3] يقال: الحافر بلغ الكدية فلا يمكنه أن يحفر، حفر فأكدى أي بلغ
الصلب والكدى الأرض الصلبة. (المنجد) .
(1/341)
دفعة وقد تورّطوا فيتلفّتون إلى النّجاة
وأمثال ذلك وإمّا أن تكون تلك الأسباب الخفيّة أمورا سماويّة لا قدرة
للبشر على اكتسابها تلقى في القلوب فيستولي الرّهب عليهم لأجلها فتختلّ
مراكزهم فتقع الهزيمة وأكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفيّة
لكثرة ما يعتمل لكلّ واحد من الفريقين فيها حرصا على الغلب فلا بدّ من
وقوع التّأثير في ذلك لأحدهما ضرورة ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم
«الحرب خدعة» ومن أمثال العرب «ربّ حيلة أنفع من قبيلة» فقد تبيّن أنّ
وقوع الغلب في الحروب غالبا عن أسباب خفيّة غير ظاهرة ووقوع الأشياء عن
الأسباب الخفيّة هو معنى البخت كما تقرّر في موضعه فاعتبره وتفهّم من
وقوع الغلب عن الأمور السّماويّة كما شرحناه معنى قوله صلّى الله عليه
وسلّم «نصرت بالرّعب مسيرة شهر» وما وقع من غلبه للمشركين في حياته
بالعدد القليل وغلب المسلمين من بعده كذلك في الفتوحات فإنّ الله
سبحانه وتعالى تكفّل لنبيّه بإلقاء الرّعب في قلوب الكافرين حتّى
يستولي على قلوبهم فينهزموا معجزة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم فكان
الرّعب في قلوبهم سببا للهزائم في الفتوحات الإسلاميّة كلّها أنّه خفيّ
عن العيون. وقد ذكر الطّرطوشيّ: أنّ من أسباب الغلب في الحرب أن تفضّل
عدّة الفرسان المشاهير من الشّجعان في أحد الجانبين على عدّتهم في
الجانب الآخر مثل أن يكون أحد الجانبين فيه عشرة أو عشرون من الشّجعان
المشاهير وفي الجانب الآخر ثمانيّة أو ستّة عشر فالجانب الزّائد ولو
بواحد يكون له الغلب وأعاد في ذلك وأبدى وهو راجع إلى الأسباب الظّاهرة
الّتي قدّمنا وليس بصحيح. وإنّما الصّحيح المعتبر في الغلب حال
العصبيّة أن يكون في أحد الجانبين عصبيّة واحدة جامعة لكلّهم وفي
الجانب الآخر عصائب متعدّدة لأنّ العصائب إذا كانت متعدّدة يقع بينها
من التّخاذل ما يقع في الوحدان المتفرّقين الفاقدين للعصبيّة تنزّل كلّ
عصابة منهم منزلة الواحد ويكون الجانب الّذي عصابته متعدّدة لا يقاوم
الجانب الّذي عصبته واحدة لأجل ذلك فتفهّمه واعلم أنّه أصحّ في
الاعتبار ممّا ذهب إليه الطّرطوشيّ ولم
(1/342)
يحمله على ذلك إلّا نسيان شأن العصبيّة في
حلّة وبلدة وأنّهم إنّما يرون ذلك الدّفاع والحماية والمطالبة إلى
الوحدان والجماعة النّاشئة عنهم لا يعتبرون في ذلك عصبيّة ولا نسبا وقد
بيّنّا ذلك أوّل الكتاب مع أنّ هذا وأمثاله على تقدير صحّته إنّما هو
من الأسباب الظّاهرة مثل اتّفاق الجيش في العدّة وصدق القتال وكثرة
الأسلحة وما أشبهها فكيف يجعل ذلك كفيلا بالغلب ونحن قد قرّرنا لك الآن
أنّ شيئا منها لا يعارض الأسباب الخفيّة من الحيل والخداع ولا الأمور
السّماويّة من الرّعب والخذلان الإلهيّ فافهمه وتفهّم أحوال الكون
«وَالله يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ 73: 20» .
ويلحق بمعنى الغلب في الحروب وأنّ أسبابه خفيّة وغير طبيعيّة حال
الشّهرة والصّيت فقلّ أن تصادف موضعها في أحد من طبقات النّاس من
الملوك والعلماء والصّالحين والمنتحلين للفضائل على العموم وكثير ممّن
اشتهر بالشّرّ وهو بخلافه وكثير ممّن تجاوزت عنه الشّهرة وهو أحقّ بها
وأهلها وقد تصادف موضعها وتكون طبقا على صاحبها والسّبب في ذلك أنّ
الشّهرة والصّيت إنّما هما بالإخبار والإخبار يدخلها الذّهول عن
المقاصد عند التّناقل ويدخلها التّعصّب والتّشييع ويدخلها الأوهام
ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال لخفائها بالتّلبيس والتّصنّع
أو لجهل النّاقل ويدخلها التّقرّب لأصحاب التّجلّة والمراتب الدّنيويّة
بالثّناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذّكر بذلك والنّفوس مولعة
بحبّ الثّناء والنّاس متطاولون إلى الدّنيا وأسبابها من جاه أو ثروة
وليسوا من الأكثر براغبين في الفضائل ولا منافسين في أهلها وأين مطابقة
الحقّ مع هذه كلّها فتختلّ الشّهرة عن أسباب خفيّة من هذه وتكون غير
مطابقة وكلّ ما حصل بسبب خفيّ فهو الّذي يعبّر عنه بالبخت كما تقرّر
والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق
.
(1/343)
الفصل الثامن
والثلاثون في الجباية وسبب قلتها وكثرتها
اعلم أنّ الجباية أوّل الدّولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة وآخر
الدّولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة والسّبب في ذلك أنّ الدّولة
إن كانت على سنن الدّين فليست تقتضي إلّا المغارم الشّرعيّة من
الصّدقات والخراج والجزية وهي قليلة الوزائع لأنّ مقدار الزّكاة من
المال قليل كما علمت وكذا زكاة الحبوب والماشية وكذا الجزية والخراج
وجميع المغارم الشّرعيّة وهي حدود لا تتعدّى وإن كانت على سنن التّغلّب
والعصبيّة فلا بدّ من البداوة في أوّلها كما تقدّم والبداوة تقتضي
المسامحة والمكارمة وخفض الجناح والتّجافي عن أموال النّاس والغفلة عن
تحصيل ذلك إلّا في النّادر فيقلّ لذلك مقدار الوظيفة الواحدة والوزيعة
الّتي تجمع الأموال من مجموعها وإذا قلّت الوزائع والوظائف على
الرّعايا نشطو للعمل ورغبوا فيه فيكثر الاعتمار ويتزايد لحصول الاغتباط
بقلّة المغرم وإذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع فكثرت
الجباية الّتي هي جملتها فإذا استمرّت الدّولة واتّصلت وتعاقب ملوكها
واحدا بعد واحد واتّصفوا بالكيس وذهب سرّ [1] البداوة والسّذاجة وخلقها
من الإغضاء والتّجافي وجاء الملك العضوض [2] والحضارة الدّاعية إلى
الكيس وتخلّق أهل الدّولة حينئذ بخلق التّحذلق وتكثّرت عوائدهم
وحوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النّعيم والتّرف فيكثّرون الوظائف
والوزائع حينئذ على الرّعايا والأكرة [3] والفلّاحين وسائر أهل
__________
[1] وفي نسخة أخرى شرّ ولعلها محرفة من كلمة أثر كما يقتضي معنى
السياق.
[2] ج العضّ: الشديد القوي (المنجد) .
[3] الأكرة ج أكار وأكارون: الحراث (المنجد) .
(1/344)
المغارم ويزيدون في كلّ وظيفة ووزيعة
مقدارا عظيما لتكثر لهم الجباية ويضعون المكوس على المبايعات وفي
الأبواب كما نذكر بعد ثمّ تتدرّج الزّيادات فيها بمقدار بعد مقدار
لتدرّج عوائد الدّولة في التّرف وكثرة الحاجات والإنفاق بسببه حتّى
تثقل المغارم على الرّعايا وتهضمهم وتصير عادة مفروضة لأنّ تلك
الزّيادة تدرّجت قليلا قليلا ولم يشعر أحد بمن زادها على التّعيين ولا
من هو واضعها إنّما ثبت على الرّعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من
نفوسهم بقلّة النّفع إذا قابل بين نفعه ومغارمه وبين ثمرته وفائدته
فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة فتنقص جملة الجباية حينئذ
بنقصان تلك الوزائع منها وربّما يزيدون في مقدار الوظائف إذا رأوا ذلك
النّقص في الجباية ويحسبونه جبرا لما نقص حتى تنتهي كلّ وظيفة ووزيعة
إلى غاية ليس وراءها نفع ولا فائدة لكثرة الإنفاق حينئذ في الاعتمار
وكثرة المغارم وعدم وفاء الفائدة المرجوّة به فلا تزال الجملة في نقص
ومقدار الوزائع والوظائف في زيادة لما يعتقدونه من جبر الجملة بها إلى
أن ينتقص العمران بذهاب الآمال من الاعتمار ويعود وبال ذلك على الدّولة
لأنّ فائدة الاعتمار عائدة إليها وإذا فهمت ذلك علمت أنّ أقوى الأسباب
في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف على المعتمرين ما أمكن فبذلك تنبسط
النّفوس إليه لثقتها بإدراك المنفعة فيه والله سبحانه وتعالى «مالك
الأمور كلها وبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ 23: 88» [1]
الفصل التاسع والثلاثون في ضرب المكوس
أواخر الدولة
اعلم أنّ الدّولة تكون في أوّلها بدويّة كما قلنا فتكون لذلك قليلة
الحاجات لعدم التّرف وعوائده فيكون خرجها وإنفاقها قليلا فيكون في
الجباية حينئذ وفاء
__________
[1] سورة يس من الآية الأخيرة.
(1/345)
بأزيد منها كثير عن حاجاتهم ثمّ لا تلبث أن
تأخذ بدين الحضارة في التّرف وعوائدها وتجري على نهج الدّول السّابقة
قبلها فيكثر لذلك خراج أهل الدّولة ويكثر خراج السّلطان خصوصا كثرة
بالغة بنفقته في خاصّته وكثرة عطائه ولا تفي بذلك الجباية فتحتاج
الدّولة إلى الزّيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء
والسّلطان من النّفقة فيزيد في مقدار الوظائف والوزائع أوّلا كما قلناه
ثمّ يزيد الخراج والحاجات والتّدريج في عوائد التّرف وفي العطاء
للحامية ويدرك الدّولة الهرم وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من
الأعمال والقاصية فتقلّ الجباية وتكثر العوائد ويكثر بكثرتها أرزاق
الجند وعطاؤهم فيستحدث صاحب الدّولة أنواعا من الجباية يضربها على
البياعات ويفرض لها قدرا معلوما على الأثمان في الأسواق وعلى أعيان
السّلع في أموال المدينة وهو مع هذا مضطرّ لذلك بما دعاه إليه طرق
النّاس من كثرة العطاء من زيادة الجيوش والحامية وربّما يزيد ذلك في
أواخر الدّولة زيادة بالغة فتكسد الأسواق لفساد الآمال ويؤذن ذلك
باختلال العمران ويعود على الدّولة ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحلّ.
وقد كان وقع منه بأمصار المشرق في أخريات الدّولة العبّاسيّة
والعبيديّة كثير وفرضت المغارم حتّى على الحاجّ في الموسم وأسقط صلاح
الدّين أيّوب تلك الرّسوم جملة وأعاضها بآثار الخير وكذلك وقع بالأندلس
لعهد الطّوائف حتّى محى رسمه يوسف بن تاشفين أمير المرابطين وكذلك وقع
بأمصار الجريد بإفريقيّة لهذا العهد حين استبدّ بها رؤساؤها والله
تعالى أعلم.
الفصل الأربعون في أن التجارة من السلطان
مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية
اعلم أنّ الدّولة إذا ضاقت جبايتها بما قدّمناه من التّرف وكثرة
العوائد
(1/346)
والنّفقات وقصّر الحاصل من جبايتها على
الوفاء بحاجاتها ونفقاتها واحتاجت إلى مزيد المال والجباية فتارة توضع
المكوس على بياعات الرّعايا وأسواقهم كما قدّمنا ذلك في الفصل قبله
وتارة بالزّيادة في ألقاب المكوس إن كان قد استحدث من قبل وتارة
بمقاسمة العمّال والجباة وامتكاك [1] عظامهم لما يرون أنّهم قد حصلوا
على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان وتارة باستحداث
التّجارة والفلاحة للسّلطان على تسمية الجباية لما يرون التّجّار
والفلّاحين يحصلون على الفوائد والغلّات مع يسارة [2] أموالهم وأنّ
الأرباح تكون على نسبة رءوس الأموال فيأخذون في اكتساب الحيوان
والنّبات لاستغلاله في شراء البضائع والتّعرّض بها لحوالة الأسواق
ويحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد وهو غلط عظيم وإدخال
الضّرر على الرّعايا من وجوه متعدّدة فأوّلا مضايقة الفلّاحين
والتّجّار في شراء الحيوان والبضائع وتيسير أسباب ذلك فإنّ الرّعايا
متكافئون في اليسار متقاربون ومزاحمة بعضهم بعضا تنتهي إلى غاية
موجودهم أو تقرب وإذا رافقهم السّلطان في ذلك وماله أعظم كثيرا منهم
فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته ويدخل على النفوس من
ذلك غمّ ونكد ثمّ إنّ السّلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرّض له
غضّا أو بأيسر ثمن أو لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه
ثمّ إذا حصل فوائد الفلاحة ومغلّها كلّه من زرع أو حرير أو عسل أو سكّر
أو غير ذلك من أنواع الغلّات وحصلت بضائع التّجارة من سائر الأنواع فلا
ينتظرون به حوالة الأسواق ولا نفاق البياعات لما يدعوهم إليه تكاليف
الدّولة فيكلّفون أهل تلك الأصناف من تاجر أو فلّاح بشراء تلك البضائع
ولا يرضون في أثمانها إلّا القيم وأزيد فيستوعبون في ذلك ناضّ [3]
أموالهم وتبقى تلك البضائع بأيديهم عروضا جامدة ويمكثون عطلا من
الإدارة
__________
[1] متك الشيء حطّمه وكسّره والمعنى هنا مجاز.
[2] قلة.
[3] ناض: الدرهم والدينار ويقال استخلصه منه نضا أي نقدا (المنجد) .
(1/347)
الّتي فيها كسبهم ومعاشهم وربّما تدعوهم
الضّرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السّلع على كساد من الأسواق
بأبخس ثمن. وربّما يتكرّر ذلك على التاجر والفلّاح منهم بما يذهب رأس
ماله فيقعد عن سوقه ويتعدّد ذلك ويتكرّر ويدخل به على الرّعايا من
العنت والمضايقة وفساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السّعي في ذلك جملة
ويؤدّي إلى فساد الجباية فإنّ معظم الجباية إنّما هي من الفلّاحين
والتّجّار ولا سيّما بعد وضع المكوس ونموّ الجباية بها فإذا انقبض
الفلّاحون عن الفلاحة وقعد التّجّار عن التّجارة ذهبت الجباية جملة أو
دخلها النّقص المتفاحش وإذا قايس السّلطان بين ما يحصل له من الجباية
وبين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنّسبة إلى الجباية أقلّ من القليل
ثمّ إنّه ولو كان مفيدا فيذهب له بحظّ عظيم من الجباية فيما يعانيه من
شراء أو بيع فإنّه من البعيد أن يوجد فيه من المكس ولو كان غيره في تلك
الصّفقات لكان تكسّبها كلّها حاصلا من جهة الجباية ثمّ فيه التّعرّض
لأهل عمرانه واختلال الدّولة بفسادهم ونقصهم فإنّ الرّعايا إذا قعدوا
عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتّجارة نقصت وتلاشت بالنّفقات وكان فيها
تلاف أحوالهم، فافهم ذلك [1] وكان الفرس لا يملّكون عليهم إلّا من أهل
بيت المملكة ثمّ يختارونه من أهل الفضل والدّين والأدب والسّخاء
والشّجاعة والكرم ثمّ يشترطون عليه مع ذلك العدل وأن لا يتّخذ صنعة
فيضرّ بجيرانه ولا يتاجر فيحبّ غلاء الأسعار في البضائع وأن لا يستخدم
العبيد فإنّهم لا يشيرون بخير ولا مصلحة. واعلم أنّ السّلطان لا ينمي
ماله ولا يدرّ موجودة إلّا الجباية وإدرارها إنّما يكون بالعدل في أهل
الأموال والنّظر لهم بذلك فبذلك تنبسط آمالهم وتنشرح صدورهم للأخذ في
تثمير الأموال وتنميتها فتعظم منها جباية
__________
[1] علق الدكتور علي عبد الواحد وافي على ذلك في نسخة لجنة البيان
العربيّ فيقول:
(يتفق ما يراه ابن خلدون في صدد الأضرار المترتبة على دخول الحكومة
مشترية في السوق وعلى اشتغالها بالتجارة أو احتكارها لبعض الأصناف
واعتبار ذلك ضرائب غير مباشرة على المستهلكين ... يتفق ذلك مع ما يراه
كثير من المحدثين من علماء الاقتصاد السياسي. انظر كتابنا في «الاقتصاد
السياسي» فصل «المنافسة الحرة» . ص 194- 200 في الطبعة الخامسة) .
(1/348)
السّلطان وأمّا غير ذلك من تجارة أو فلج
فإنّما هو مضرّة عاجلة للرّعايا وفساد للجباية ونقص للعمارة وقد ينتهي
الحال بهؤلاء المنسلخين للتّجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلّبين في
البلدان أنّهم يتعرّضون لشراء الغلّات والسّلع من أربابها الواردين على
بلدهم ويفرضون لذلك من الثّمن ما يشاءون ويبيعونها في وقتها لمن تحت
أيديهم من الرّعايا بما يفرضون من الثّمن وهذه أشدّ من الأولى وأقرب
إلى فساد الرّعيّة واختلال أحوالهم وربّما يحمل السّلطان على ذلك من
يداخله من هذه الأصناف أعني التّجّار والفلّاحين لما هي صناعته الّتي
نشأ عليها فيحمل السّلطان على ذلك ويضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه
من جمع المال سريعا ولا سيّما مع ما يحصل له من التّجارة بلا مغرم ولا
مكس فإنّها أجدر بنموّ الأموال وأسرع في تثميره ولا يفهم ما يدخل على
السّلطان من الضّرر بنقص جبايته فينبغي للسّلطان أن يحذر من هؤلاء
ويعرض عن سعايتهم المضرّة بجبايته وسلطانه والله يلهمنا رشد أنفسنا
وينفعنا بصالح الأعمال والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي والأربعون في أن ثروة السلطان
وحاشيته إنما تكون في وسط الدولة
والسّبب في ذلك أنّ الجباية في أوّل الدّولة تتوزّع على أهل القبيل
والعصبيّة بمقدار غنائهم وعصبيّتهم ولأنّ الحاجة إليهم في تمهيد
الدّولة كما قلناه من قبل فرئيسهم في ذلك متجاف لهم عمّا يسمون إليه من
الاستبداد عليهم فله عليهم عزّة وله إليهم حاجة فلا يطيّر [1] في
سهمانه من الجباية إلّا الأقلّ من حاجته فتجد حاشيته لذلك وأذياله من
الوزراء والكتّاب والموالي متملّقين في الغالب وجاههم متقلّص لأنّه من
جاه مخدومهم ونطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه من أهل عصبيّته
__________
[1] طيّر واطار المال: قسّمه.
(1/349)
فإذا استفحلت طبيعة الملك وحصل لصاحب
الدّولة الاستبداد على قومه قبض أيديهم عن الجبايات إلّا ما يطير لهم
بين النّاس في سهمانهم وتقلّ حظوظهم إذ ذاك لقلّة غنائهم في الدّولة
بما انكبح من أعنّتهم وصار الموالي والصّنائع مساهمين لهم في القيام
بالدّولة وتمهيد الأمر فينفرد صاحب الدّولة حينئذ بالجباية أو معظمها
ويحتوي على الأموال ويحتجنها للنّفقات في مهمّات الأحوال فتكثر ثروته
وتمتلئ خزائنه ويتّسع نطاق جاهه ويعتزّ على سائر قومه فيعظم حال حاشيته
وذويه من وزير وكاتب وحاجب ومولى وشرطيّ ويتّسع جاههم ويقتنون الأموال
ويتأثّلونها [1] . ثمّ إذا أخذت الدّولة في الهرم بتلاشي العصبيّة
وفناء القليل المعاهدين للدّولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان
والأنصار لكثرة الخوارج والمنازعين والثّوّار وتوهّم الانتقاض فصار
خراجه لظهرائه وأعوانه وهم أرباب السّيوف وأهل العصبيّات وأنفق خزائنه
وحاصله في مهمّات الدّولة وقلّت مع ذلك الجباية لما قدّمناه من كثرة
العطاء والإنفاق فيقلّ الخراج وتشتدّ حاجة الدّولة إلى المال فيتقلّص
ظلّ النّعمة والتّرف عن الخواصّ والحجّاب والكتّاب بتقلّص الجاه عنهم
وضيق نطاقه على صاحب الدّولة ثمّ تشتدّ حاجة صاحب الدّولة إلى المال
وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثّله آباؤهم من الأموال في غير
سبيلها من إعانة صاحب الدّولة ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم
وسلفهم من المناصحة ويرى صاحب الدّولة أنّه أحقّ بتلك الأموال الّتي
اكتسبت في دولة سلفه وبجاههم فيصطلمها وينتزعها منهم لنفسه شيئا فشيئا
وواحدا بعد واحد على نسبة رتبهم وتنكّر الدّولة لهم ويعود وبال ذلك على
الدّولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثّروة والنّعمة من بطانتها
ويتقوّض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعوه. وانظر ما
وقع من ذلك لوزراء الدّولة العبّاسيّة في بني قحطبة وبني برمك وبني سهل
وبني طاهر وأمثالهم ثمّ في الدّولة الأمويّة بالأندلس عند
__________
[1] تأثل المال: اكتسبه وثمّره.
(1/350)
انحلالها أيّام الطّوائف في بني شهيد وبني
أبي عبدة وبني حدير وبني برد وأمثالهم وكذا في الدّولة الّتي أدركناها
لعهدنا سنّة الله الّتي قد خلت في عباده.
فصل:
ولما يتوقّعه أهل الدّولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون
إلى الفرار عن الرّتب والتّخلّص من ربقة السّلطان بما حصل في أيديهم من
مال الدّولة إلى قطر آخر ويرون أنّه أهنأ لهم وأسلم في إنفاقه وحصول
ثمرته وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة لأحوالهم ودنياهم واعلم
أنّ الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع فإنّ صاحب هذا الغرض إذا
كان هو الملك نفسه فلا تمكّنه الرّعيّة من ذلك طرفة عين ولا أهل
العصبيّة المزاحمون له بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه وإتلاف لنفسه
بمجاري العادة بذلك لأنّ ربقة الملك يعسر الخلاص منها ولا سيّما عند
استفحال الدّولة وضيق نطاقها وما يعرض فيها من البعد عن المجد والخلال
والتّخلّق بالشّرّ وأمّا إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السّلطان
وحاشيته وأهل الرّتب في دولته فقلّ أن يخلّى بينه وبين ذلك.
أمّا أوّلا فلما يراه الملوك أنّ ذويهم وحاشيتهم بل وسائر رعاياهم
مماليك لهم مطّلعون على ذات صدورهم فلا يسمحون بحلّ ربقته من الخدمة
ضنّا بأسرارهم وأحوالهم أن يطّلع عليها أحد، وغيرة من خدمته لسواهم
ولقد كان بنو أميّة بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السّفر لفريضة الحجّ
لما يتوهّمونه من وقوعهم بأيدي بني العبّاس فلم يحجّ سائر أيّامهم أحد
من أهل دولتهم وما أبيح الحجّ لأهل الدّول من الأندلس إلّا بعد فراغ
شأن الأمويّة ورجوعها إلى الطّوائف وأمّا ثانيا فلأنّهم وإن سمحوا بحلّ
ربقته فلا يسمحون بالتّجافي عن ذلك المال لما يرون أنّه جزء من مالهم
كما يرون أنّه جزء من دولتهم إذ لم يكتسب إلّا بها وفي ظلّ جاهها،
فتحوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال والتقامه كما هو جزء من الدّولة
ينتفعون به ثمّ إذا توهّمنا أنّه خلّص بذلك المال إلى قطر آخر وهو في
النّادر الأقلّ فتمتدّ إليه أعين الملوك بذلك القطر وينتزعونه بالإرهاب
والتّخويف تعريضا أو
(1/351)
بالقهر ظاهرا لما يرون أنّه مال الجباية
والدّول وأنّه مستحقّ للإنفاق في المصالح وإذا كانت أعينهم تمتدّ إلى
أهل الثّروة واليسار المتكسّبين من وجوه المعاش فأحرى بها أن تمتدّ إلى
أموال الجباية والدّول الّتي تجد السّبيل إليه بالشّرع والعادة ولقد
حاول السّلطان أبو يحيى زكريّا بن أحمد اللّحيانيّ تاسع أو عاشر ملوك
الحفصيّين بإفريقة الخروج عن عهدة الملك واللّحاق بمصر فرارا من طلب
صاحب الثّغور الغربيّة لمّا استجمع لغزو تونس فاستعمل اللّحيانيّ
الرّحلة إلى ثغر طرابلس يورّي بتمهيده وركب السّفين من هنالك وخلص إلى
الإسكندريّة بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصّامت [1]
والذّخيرة وباع كلّ ما كان بخزائنهم من المتاع والعقار والجوهر حتّى
الكتب واحتمل ذلك كلّه إلى مصر ونزل على الملك النّاصر محمّد بن قلاون
سنة سبع عشرة من المائة الثّامنة فأكرم نزله ورفع مجلسه ولم يزل يستخلص
ذخيرته شيئا فشيئا بالتّعريض إلى أن حصل عليها ولم يبق معاش ابن
اللّحيانيّ إلّا في جرابته الّتي فرضت له إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين
حسبما نذكره في أخباره فهذا وأمثاله من جملة الوسواس الّذي يعتري أهل
الدّول لما يتوقّعونه من ملوكهم من المعاطب وإنّما يخلصون إن اتّفق لهم
الخلاص بأنفسهم وما يتوهّمونه من الحاجة فغلط ووهم والّذي حصل لهم من
الشّهرة بخدمة الدّول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السّلطانيّة
أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التّجارة والفلاحة والدّول أنساب
لكن:
النّفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع
والله سبحانه هو الرّزّاق وهو الموفّق بمنّه وفضله والله أعلم.
__________
[1] الأموال النقدية.
(1/352)
الفصل الثاني والأربعون في أن نقص العطاء
من السلطان نقص في الجباية
والسّبب في ذلك أنّ الدّولة والسّلطان هي السّوق الأعظم للعالم ومنه
مادّة العمران فإذا احتجن السّلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم
يصرفها في مصارفها قلّ حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية وانقطع أيضا ما
كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم وقلّت نفقاتهم جملة وهم معظم السّواد
ونفقاتهم أكثر مادّة للأسواق ممّن سواهم فيقع الكساد حينئذ في الأسواق
وتضعف الأرباح في المتاجر فيقلّ الخراج لذلك لأنّ الخراج والجباية
إنّما تكون من الاعتمار والمعاملات ونفاق الأسواق وطلب النّاس للفوائد
والأرباح ووبال ذلك عائد على الدّولة بالنّقص لقلّة أموال السّلطان
حينئذ بقلّة الخراج فإنّ الدّولة كما قلناه هي السّوق الأعظم أمّ
الأسواق كلّها وأصلها ومادّتها في الدّخل والخرج فإن كسدت وقلّت
مصارفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشدّ منه وأيضا
فالمال إنّما هو متردّد بين الرّعيّة والسّلطان منهم إليه ومنه إليهم
فإذا حبسه السّلطان عنده فقدته الرّعيّة سنّة الله في عباده. |