تاريخ ابن خلدون
الفصل الثاني
والخمسون في أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره
اعلم أنّه قد تقدّم لنا في غير موضع أنّ الاجتماع للبشر ضروريّ وهو
معنى العمران الّذي نتكلّم فيه وأنّه لا بدّ لهم في الاجتماع من وازع
حاكم يرجعون إليه وحكمه فيهم تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند
الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثّواب والعقاب عليه الّذي جاء به
مبلّغه وتارة إلى سياسة عقليّة يوجب انقيادهم إليها ما يتوقّعونه من
ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأولى يحصل نفعها في الدّنيا
والآخرة لعلم الشّارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في
الآخرة والثّانية إنّما يحصل نفعها في الدّنيا فقط وما تسمعه من
السّياسة المدنيّة فليس من هذا الباب وإنّما معناه عند الحكماء ما يجب
أن يكون عليه كلّ واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتّى يستغنوا
عن الحكّام رأسا ويسمّون المجتمع الّذي يحصل فيه ما يسمّى من ذلك
«بالمدينة الفاضلة» ، والقوانين المراعاة في ذلك «بالسّياسة المدنيّة»
وليس مرادهم السّياسة الّتي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامّة
فإنّ هذه غير تلك وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع
وإنّما يتكلّمون عليها على جهة الفرض والتّقدير ثمّ إنّ السّياسة
العقليّة الّتي قدّمناها تكون على وجهين أحدهما يراعى
__________
[1] بعد الدراسات الحديثة المتعلقة بحياة الإنسان في المدينة والريف،
حيث أن متوسط عمر الإنسان في الريف يزيد عن مثله في المدينة كثيرا،
وهذا يؤكد نظرية ابن خلدون من هذه الناحية، لان مناخ المدينة المشبع
بدخان المصانع والمعامل والسيارات وغيرها غير مناخ الريف النظيف النقي.
(1/377)
فيها المصالح على العموم ومصالح السّلطان
في استقامة ملكه على الخصوص وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة.
وقد أغنانا الله تعالى عنها في الملّة ولعهد الخلافة لأنّ الأحكام
الشّرعيّة مغنية عنها في المصالح العامّة والخاصّة وأحكام الملك مندرجة
فيها. الوجه الثّاني أن يراعى فيها مصلحة السّلطان وكيف يستقيم له
الملك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامّة في هذه تبعا وهذه
السّياسة الّتي يحمل عليها أهل الاجتماع الّتي لسائر الملوك في العالم
من مسلم وغيره إلّا أنّ ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه
الشّريعة الإسلاميّة بحسب جهدهم فقوانينها إذا مجتمعة من أحكام شرعيّة
وآداب خلقيّة وقوانين في الاجتماع طبيعيّة، وأشياء من مراعاة الشّوكة
والعصبيّة ضروريّة والاقتداء فيها بالشّرع أوّلا ثمّ الحكماء في آدابهم
والملوك في سيرهم ومن أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب طاهر بن الحسين
لابنه عبد الله بن طاهر لمّا ولّاه المأمون الرّقّة ومصر وما بينهما
فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور عهد إليه فيه ووصّاه بجميع ما يحتاج
إليه في دولته وسلطانه من الآداب الدّينيّة والخلقيّة والسّياسة
الشّرعيّة والملوكيّة، وحثّه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشّيم بما لا
يستغني عنه ملك ولا سوقة. ونصّ الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم) أمّا
بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عزّ وجلّ
ومزايلة [1] سخطه واحفظ رعيّتك في اللّيل والنّهار والزم ما ألبسك الله
من العافية بالذّكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسئول عنه،
والعمل في ذلك كلّه بما يعصمك الله عزّ وجلّ وينجّيك يوم القيامة من
عقابه وأليم عذابه فإنّ الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرّأفة عليك
بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل فيهم والقيام بحقّه وحدوده
عليهم والذبّ عنهم والدّفع عن حريمهم ومنصبهم والحقن لدمائهم والأمن
لسربهم وإدخال الرّاحة عليهم ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه وسائلك
عنه ومثيبك عليه بما قدّمت وأخّرت ففرّغ لذلك فهمك
__________
[1] مزايلة: بمعنى الابتعاد عن.
(1/378)
وعقلك وبصرك ولا يشغلك عنه شاغل، وإنّه رأس
أمرك وملاك [1] شأنك وأوّل ما يوقفك الله عليه وليكن أوّل ما تلزم به
نفسك وتنسب إليه فعلك المواظبة على ما فرض الله عزّ وجلّ عليك من
الصّلوات الخمس والجماعة عليها بالنّاس قبلك وتوابعها على سننها من
إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عزّ وجلّ فيها ورتّل في قراءتك
وتمكّن في ركوعك وسجودك وتشهّدك ولتصرف فيه رأيك ونيّتك واحضض عليه
جماعة ممّن معك وتحت يدك وادأب عليها فإنّها كما قال الله عزّ وجلّ
تنهى عن الفحشاء والمنكر ثمّ اتّبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم والمثابرة على خلائقه واقتفاء أثر السّلف الصّالح من
بعده، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عزّ وجلّ وتقواه
وبلزوم ما أنزل الله عزّ وجلّ في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه
وائتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قم
فيه بالحقّ للَّه عزّ وجلّ ولا تميلنّ عن العدل فيما أحببت أو كرهت
لقريب من النّاس أو لبعيد وآثر الفقه وأهله والدّين وحملته وكتاب الله
عزّ وجلّ والعاملين به [2] فإنّ أفضل ما يتزيّن به المرء الفقه في
الدّين والطّلب له والحثّ عليه والمعرفة بما يتقرّب به إلى الله عزّ
وجلّ فإنّه الدّليل على الخير كلّه والقائد إليه والآمر والنّاهي عن
المعاصي والموبقات كلّها ومع توفيق الله عزّ وجلّ يزداد المرء معرفة
وإجلالا له ودركا [3] للدّرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للنّاس
من التّوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة بك والثّقة بعدلك وعليك
بالاقتصاد في الأمور كلّها فليس شيء أبين نفعا ولا أخصّ أمنا ولا أجمع
فضلا منه. والقصد داعية إلى الرّشد والرّشد دليل على التّوفيق
والتّوفيق قائد إلى السّعادة وقوام الدّين والسّنن الهادية بالاقتصاد
وكذا في دنياك كلّها. ولا تقصّر في طلب
__________
[1] ملاك: ملاك الأمر: قوامه (المنجد) .
[2] صحيح العبارة ومقتضى سياق الجملة: «وآثر الفقه وأهله. والدين
والعاملين به، وكتاب الله عز وجل وحملته» .
[3] وصولا.
(1/379)
الآخرة والأجر والأعمال الصّالحة والسّنن
المعروفة ومعالم الرّشد والإعانة والاستكثار من البرّ والسّعي له إذا
كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته ومرافقة أولياء الله في دار كرامته
أما تعلم أنّ القصد في شأن الدّنيا يورث العزّ ويمحّص من الذّنوب وأنّك
لن تحوط نفسك من قائل ولا تنصلح أمورك بأفضل منه فأته واهتد به تتمّ
أمورك وتزد مقدرتك وتصلح عامّتك وخاصّتك وأحسن ظنّك باللَّه عزّ وجلّ
تستقم لك رعيّتك والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلّها تستدم به النّعمة
عليك ولا تتهمنّ أحدا من النّاس فيما تولّيه من عملك قبل أن تكشف أمره
فإنّ إيقاع التّهم بالبراء والظّنون السّيئة بهم آثم إثم. فاجعل من
شأنك حسن الظّنّ بأصحابك واطرد عنك سوء الظّنّ بهم، وارفضه فيهم يعنك
ذلك على استطاعتهم ورياضتهم. ولا يجدنّ عدوّ الله الشّيطان في أمرك
مغمزا [1] فإنّه يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغمّ بسوء
الظّنّ بهم ما ينقص لذاذة عيشك. واعلم أنّك تجد بحسن الظّنّ قوّة
وراحة، وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به النّاس إلى محبّتك
والاستقامة في الأمور كلّها ولا يمنعك حسن الظّنّ بأصحابك والرّأفة
برعيّتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء
وحياطة الرّعيّة والنّظر في حوائجهم وحمل مئوناتهم أيسر عندك ممّا سوى
ذلك فإنّه أقوم للدّين وأحيا للسّنّة. وأخلص نيّتك في جميع هذا وتفرّد
بتقويم نفسك تفرّد من يعلم أنّه مسئول عمّا صنع ومجزيّ بما أحسن ومؤاخذ
بما أساء فإنّ الله عزّ وجلّ جعل الدّين حرزا وعزّا ورفع من اتّبعه
وعزّزه واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدّين وطريقة الهدى [2] . وأقم
حدود الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقّوه ولا
تعطّل ذلك ولا تتهاون به ولا تؤخّر عقوبة أهل العقوبة فإنّ في تفريطك
في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنّك واعتزم على أمرك في ذلك بالسّنن المعروفة
وجانب البدع والشّبهات يسلم لك دينك وتقم
__________
[1] وفي بعض النسخ وردت هذه العبارة: «ولا تتخذن عدو الله الشيطان في
أمرك معمدا» .
[2] وفي بعض النسخ طريقه الأهدى.
(1/380)
لك مروءتك. وإذا عاهدت عهدا فأوف به وإذا
وعدت خيرا فأنجزه واقبل الحسنة وادفع بها، واغمض عن عيب كلّ ذي عيب من
رعيّتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزّور، وأبغض أهل النّميمة، فإنّ
أوّل فساد أمورك في عاجلها وآجلها، تقريب الكذوب، والجراءة على الكذب،
لأنّ الكذب رأس المآثم، والزّور والنّميمة خاتمتها، لأنّ النّميمة لا
يسلم صاحبها وقائلها، لا يسلم له صاحب ولا يستقيم له أمر. وأحبب أهل
الصّلاح. والصّدق، وأعزّ الأشراف بالحقّ، وآس [1] الضّعفاء، وصل
الرّحم، وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره، والتمس فيه ثوابه
والدّار الآخرة. واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر
براءتك من ذلك لرعيّتك وأنعم بالعدل في سياستهم [2] وقم بالحقّ فيهم،
وبالمعرفة الّتي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. وأملك نفسك عند الغضب، وآثر
الحلم والوقار، وإيّاك والحدّة والطّيش والغرور فيما أنت بسبيله.
وإيّاك أن تقول أنا مسلّط أفعل ما أشاء فإنّ ذلك سريع إلى نقص الرّأي
وقلّة اليقين باللَّه [3] عزّ وجلّ وأخلص للَّه وحده النّيّة فيه
واليقين به. واعلم أنّ الملك للَّه سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه
ممّن يشاء. ولن تجد تغيّر النّعمة وحلول النّقمة على أحد أسرع منه إلى
حملة [4] النّعمة من أصحاب السّلطان والمبسوط لهم في الدّولة إذا كفروا
نعم الله وإحسانه واستطالوا بما أعطاهم الله عزّ وجلّ من فضله. ودع عنك
شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك الّتي تدّخر وتكنز البرّ والتّقوى
واستصلاح الرّعيّة وعمارة بلادهم والتّفقّد لأمورهم والحفظ لدمائهم
والإغاثة لملهوفهم. واعلم أنّ الأموال إذا اكتنزت وادّخرت في الخزائن
لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرّعيّة وإعطاء حقوقهم وكفّ الأذيّة عنهم
نمت وزكت وصلحت بها العامّة وترتّبت بها الولاية وطاب بها الزّمان
واعتقد فيها العزّ والمنفعة. فليكن كنز خزائنك تفريق
__________
[1] وفي بعض النسخ وأعن الضعفاء.
[2] وفي بعض النسخ وأنعم بالعدل سياستهم.
[3] وفي بعض النسخ وقلة اليقين للَّه.
[4] وفي بعض النسخ جهلة النعمة.
(1/381)
الأموال في عمارة الإسلام وأهله. ووفّر منه
على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم وأوف من ذلك حصصهم وتعهّد ما
يصلح أمورهم ومعاشهم فإنّك إذا فعلت ذلك قرّت النّعمة عليك [1]
واستوجبت المزيد من الله تعالى وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال
رعيّتك وعملك أقدر [2] وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس
لطاعتك وأطيب أنفسا بكلّ ما أردت [3] وأجهد نفسك فيما حدّدت لك في هذا
الباب وليعظم حقّك فيه وإنّما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله
واعرف للشّاكرين حقّهم وأثبهم عليه وإيّاك أن تنسيك الدّنيا وغرورها
هول الآخرة فتتهاون بما يحقّ عليك فإنّ التّهاون يورث التّفريط
والتّفريط يورث البوار. وليكن عملك للَّه عزّ وجلّ وارج الثّواب فيه
[4] فإنّ الله سبحانه قد أسبغ عليك فضله. واعتصم بالشكر وعليه فاعتمد
يزدك الله خيرا وإحسانا فإنّ الله عزّ وجلّ يثيب بقدر شكر الشّاكرين
وإحسان المحسنين. ولا تحقّرنّ ذنبا ولا تمالئنّ حاسدا ولا ترحمنّ فاجرا
ولا تصلنّ كفورا ولا تداهننّ عدوا ولا تصدّقنّ نمّاما ولا تأمننّ
غدّارا ولا توالينّ فاسقا ولا تتّبعنّ غاويا ولا تحمدنّ مرائيا ولا
تحقّرنّ إنسانا ولا تردّنّ سائلا فقيرا ولا تحسننّ باطلا ولا تلاحظنّ
مضحكا ولا تخلفنّ وعدا ولا تزهونّ فخرا ولا تظهرنّ غضبا ولا تبايننّ
رجاء ولا تمشينّ مرحا ولا تفرطنّ في طلب الآخرة ولا ترفع [5] للنّمام
عينا ولا تغمضنّ عن ظالم رهبة منه أو محاباة ولا تطلبنّ ثواب الآخرة في
الدّنيا. وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل
التّجارب وذوي العقل والرّأي والحكمة. ولا تدخلنّ في مشورتك أهل الرّفه
والبخل ولا تسمعنّ لهم قولا فإنّ ضررهم أكثر من نفعهم وليس شيء أسرع
فسادا لما استقبلت فيه أمر رعيّتك من الشّحّ. واعلم أنّك إذا كنت حريصا
كنت
__________
[1] وفي بعض النسخ قرت النعمة بك.
[2] وفي نسخة أخرى: وكنت بذلك على جباية أموال رعيتك وخراجك أقدر.
[3] وفي نسخة أخرى: وطب نفسا بكل ما أردت.
[4] وفي نسخة أخرى منه.
[5] وفي نسخة أخرى ترفض.
(1/382)
كثير الأخذ قليل العطيّة وإذا كنت كذلك لم
يستقم لك أمرك [1] إلّا قليلا فإنّ رعيّتك إنّما تعقد على محبّتك
بالكفّ عن أموالهم وترك الجور عليهم. وابتدئ [2] من صافاك من أوليائك
بالإفضال عليهم وحسن العطيّة لهم. واجتنب الشّحّ واعلم أنّه أوّل ما
عصى الإنسان به ربّه وإنّ العاصي بمنزلة خزي [3] وهو قول الله عزّ وجلّ
«وَمن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 59: 9» [4]
فسهّل طريق الجود بالحقّ واجعل للمسلمين كلّهم من فيئك [5] حظّا ونصيبا
وأيقن أنّ الجود أفضل أعمال العباد فأعدّه لنفسك خلقا وارض به عملا
ومذهبا. وتفقّد الجند في دواوينهم ومكانتهم [6] وأدرّ عليهم أرزاقهم
ووسّع عليهم في معايشهم يذهب الله عزّ وجلّ بذلك فاقتهم فيقوى لك أمرهم
وتزيد قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا. وحسب ذي السّلطان من
السّعادة أن يكون على جنده ورعيّته ذا رحمة في عدله وحيطته [7] وإنصافه
وعنايته وشفقته وبرّه وتوسعته فزايل مكروه أحد البابين باستشعار فضيلة
[8] الباب الآخر ولزوم العمل به تلق إن شاء الله تعالى نجاحا وصلاحا
وفلاحا. واعلم أنّ القضاء من الله تعالى بالمكان الّذي ليس فوقه شيء من
الأمور لأنّه ميزان الله الّذي تعدّل عليه أحوال النّاس في الأرض.
وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرّعيّة وتأمن السّبل
وينتصف المظلوم وتأخذ النّاس حقوقهم وتحسن المعيشة ويؤدّى حقّ الطّاعة
ويرزق الله العافية والسّلامة ويقيم الدّين ويجري السّنن والشّرائع في
مجاريها. واشتدّ في أمر الله عزّ
__________
[1] وفي نسخة أخرى لم يستقم أمرك.
[2] وفي نسخة أخرى ووال.
[3] وفي نسخة أخرى الخزي.
[4] آخر آية 16 من سورة التغابن.
[5] وفي نسخة أخرى «في فيئك» .
[6] وفي نسخة أخرى مكاتبهم
[7] وفي نسخة أخرى وعطيته.
[8] وفي نسخة أخرى فضل.
(1/383)
وجلّ وتورّع عن النّطف [1] وامض لإقامة
الحدود. وأقلّ [2] العجلة وأبعد عن الضّجر والقلق واقنع بالقسم وانتفع
بتجربتك وانتبه في صمتك واسدد في منطقك وأنصف الخصم وقف عند الشّبهة
وأبلغ في الحجّة ولا يأخذك في أحد من رعيّتك محاباة ولا مجاملة ولا
لومة لائم وتثبّت وتأنّ وراقب وانظر وتنكّر وتدبّر واعتبر وتواضع لربّك
وارفق بجميع الرّعيّة وسلّط الحقّ على نفسك ولا تسرعنّ إلى سفك دم،
فإنّ الدّماء من الله عزّ وجلّ بمكان عظيم انتهاكا لها بغير حقّها.
وانظر هذا الخراج الّذي استقامت عليه الرّعيّة وجعله الله للإسلام عزّا
ورفعة ولأهله توسعة ومنعة ولعدوّه وعدوّهم [3] كبتا وغيظا ولأهل الكفر
من معاديهم ذلّا وصغارا فوزّعه بين أصحابه بالحقّ والعدل والتّسوية
والعموم ولا تدفعنّ شيئا منه عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه ولا عن
كاتب لك ولا عن أحد من خاصّتك ولا حاشيتك ولا تأخذنّ منه فوق الاحتمال
له. ولا تكلّف أمرا فيه شطط. واحمل النّاس كلّهم على أمر الحقّ فإنّ
ذلك أجمع لأنفسهم [4] وألزم لرضاء العامّة. واعلم أنّك جعلت بولايتك
خازنا وحافظا وراعيا وإنّما سمّي أهل عملك رعيّتك لأنّك راعيهم
وقيّمهم. فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفّذه في قوام أمرهم وصلاحهم
وتقويم أودهم. واستعمل عليهم أولي الرّأي والتّدبير والتّجربة والخبرة
بالعلم والعمل [5] بالسياسة والعفاف. ووسّع عليهم في الرّزق فإنّ ذلك
من الحقوق اللّازمة لك فيما تقلّدت وأسند إليك فلا يشغلك عنه شاغل ولا
يصرفك عنه صارف فإنّك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة
النّعمة من ربّك وحسن الأحدوثة في عملك واجتررت به المحبّة من رعيّتك
وأعنت على الصّلاح فدرّت الخيرات ببلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر
الخصب في كورك وكثر خراجك وتوفّرت
__________
[1] النطف: التلطخ بالعيب.
[2] وفي نسخة أخرى «وأقلل» .
[3] في بعض النسخ لم ترد هذه الكلمة.
[4] في بعض النسخ «لألفتهم» .
[5] في بعض النسخ «والعدل» .
(1/384)
أموالك وقويت بذلك على ارتياض جندك وإرضاء
العامّة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك وكنت محمود السّياسة مرضيّ العدل
في ذلك عند عدوّك وكنت في أمورك كلّها ذا عدل وآلة وقوّة وعدّة. فنافس
[1] في ذلك ولا تقدّم عليه شيئا تحمد عاقبة أمرك إن شاء الله تعالى.
واجعل في كلّ كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار [2] عمّالك ويكتب إليك
بسيرهم وأعمالهم حتّى كأنّك مع كلّ عامل في عمله معاين لأموره كلّها.
فإن أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك فإن رأيت
السّلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدّفاع والصّنع فأمضه وإلّا
فتوقّف عنه وراجع أهل البصر والعلم به ثمّ خذ فيه عدّته فإنّه ربّما
نظر الرّجل في أمره وقدّره وأتاه على ما يهوى [3] فأغواه ذلك وأعجبه
فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقص عليه أمره. فاستعمل الحزم في كلّ ما
أردت وباشره بعد عون الله عزّ وجلّ بالقوّة. وأكثر من استخارة ربّك في
جميع أمورك. وافرغ من يومك ولا تؤخّره لغدك وأكثر مباشرته بنفسك فإنّ
للغد [4] أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الّذي أخّرت. واعلم أنّ اليوم
إذا مضى ذهب بما فيه وإذا أخّرت عمله اجتمع عليك عمل يومين فيثقلك [5]
ذلك حتّى تمرض منه. وإذا أمضيت لكلّ يوم عمله أرحت بدنك ونفسك وجمعت
أمر سلطانك وانظر أحرار النّاس وذوي الفضل منهم ممّن بلوت صفاء طويّتهم
وشهدتّ مودّتهم لك ومظاهرتهم بالنّصح والمحافظة على أمرك فاستخلصهم
وأحسن إليهم وتعاهد أهل البيوتات ممّن قد دخلت عليهم الحاجة واحتمل
مئونتهم وأصلح حالهم حتّى لا يجدوا لخلّتهم مسّا [6] وأفرد نفسك للنّظر
[7] في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك
__________
[1] في بعض النسخ «فتنافس» .
[2] في بعض النسخ «خبر» .
[3] في بعض النسخ «وقدّره وأثاه على ما يهوى» .
[4] في بعض النسخ «الغير» .
[5] في بعض النسخ «فيشغلك» .
[6] في بعض النسخ «منافرا» بمعنى مفاخرا.
[7] في بعض النسخ «بالنظر» .
(1/385)
والمحتقر الّذي لا علم له بطلب حقّه فسل
عنه أحفى مسألة ووكّل بأمثاله أهل الصّلاح من رعيّتك ومرهم برفع
حوائجهم وحالاتهم [1] إليك لتنظر فيما يصلح الله به أمرهم وتعاهد ذوي
البأساء وأيتامهم [2] وأراملهم واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء
بأمير المؤمنين أعزّه الله تعالى في العطف عليهم والصّلة لهم ليصلح
الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة. وأجر للأضرّاء من بيت المال
وقدّم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم وانصب
لمرضى المسلمين دورا تأويهم وقوّاما يرفقون بهم وأطبّاء يعالجون
أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤدّ ذلك إلى إسراف [3] في بيت المال.
واعلم أنّ النّاس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيّهم لم يرضهم ذلك ولم
تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعا في نيل الزّيادة وفضل
الرّفق منهم [4] . وربّما تبرّم المتصفّح لأمور النّاس لكثرة ما يرد
عليه ويشغل فكره وذهنه فيها [5] ما يناله به من مئونة ومشقّة. وليس من
يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالّذي
يستقبل ما يقرّبه إلى الله تعالى ويلتمس رحمته [6] وأكثر الإذن للنّاس
عليك وأبرز لهم [7] وجهك وسكّن لهم حواسّك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم
بشرك ولن لهم في المسألة والنّطق واعطف عليهم بجودك وفضلك. وإذا أعطيت
فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس للصّنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان
فإنّ العطيّة على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى. واعتبر بما ترى
من أمور الدّنيا ومن مضى قبلك من أهل السّلطان والرّئاسة في القرون
الخالية والأمم
__________
[1] في بعض النسخ «وخلالهم» .
[2] في بعض النسخ «ويتماهم» .
[3] في بعض النسخ «مسرف» .
[4] في بعض النسخ «بهم» .
[5] في بعض النسخ «ويشغل ذكره وفكره منها» .
[6] في بعض النسخ «يستقل ما يقرّبه من الله تعالى، وتلتمس به رحمته.
[7] في بعض النسخ «وأرهم» .
(1/386)
البائدة. ثمّ اعتصم في أحوالك كلّها
باللَّه سبحانه وتعالى والوقوف عند محبّته والعمل بشريعته وسنته
وبإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله عزّ
وجلّ. واعرف ما يجمع عمّالك من الأموال وما ينفقون منها ولا تجمع حراما
ولا تنفق إسرافا. وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك
اتّباع السّنن وإقامتها وإيثار مكارم الأخلاق ومعاليها وليكن أكرم
دخلائك وخاصّتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك عن إنهاء ذلك
إليك في سرّك وإعلانك [1] بما فيه من النّقص فإنّ أولئك أنصح أوليائك
ومظاهرون لك [2] . وانظر عمّالك الّذين بحضرتك وكتّابك فوقّت لكلّ رجل
منهم في كلّ يوم وقتا يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامراته وما عنده من حوائج
عمّالك وأمور الدّولة ورعيّتك ثمّ فرّغ لما يورد عليك من ذلك سمعك
وبصرك وفهمك وعقلك وكرّر النّظر فيه والتّدبّر له فما كان موافقا للحقّ
والحزم فأمضه واستخر الله عزّ وجلّ فيه وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى
المسألة عنه والتّثبّت منه ولا تمننّ على رعيّتك ولا غيرهم بمعروف
تؤتيه إليهم. ولا تقبل من أحد إلّا الوفاء والاستقامة والعون في أمور
أمير [3] المسلمين ولا تضعنّ المعروف إلّا على ذلك. وتفهّم كتابي إليك
وأنعم النّظر فيه والعمل به واستعن باللَّه على جميع أمورك واستخره
فإنّ الله عزّ وجلّ مع الصّلاح وأهله وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما
كان للَّه عزّ وجلّ رضى ولدينه نظاما ولأهله عزّا وتمكينا وللملّة
والذّمّة [4] عدلا وصلاحا وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك
وكلاءتك والسّلام. وحدّث الأخباريّون أنّ هذا الكتاب لمّا ظهر وشاع
أمره أعجب به النّاس واتّصل بالمأمون فلمّا قرئ عليه قال ما أبقى أبو
الطّيّب يعني طاهرا شيئا من أمور الدّنيا والدّين والتّدبير والرّأي
والسّياسة وصلاح الملك والرّعيّة وحفظ
__________
[1] في بعض النسخ «في ستر، وإعلامك ... »
[2] في بعض النسخ «ومظاهريك» .
[3] لم ترد هذه الكلمة في بعض النسخ.
[4] الملة: الإسلام، وأهل الذمة: أهل الكتاب من يهود ونصارى وقد دخلوا
في ذمة الإسلام وحمايتهم.
(1/387)
السّلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة
إلّا وقد أحكمه وأوصى به ثمّ أمر المأمون فكتب به إلى جميع العمّال في
النّواحي ليقتدوا به ويعملوا بما فيه هذا أحسن ما وقفت عليه في هذه
السّياسة والله أعلم.
الفصل الثالث والخمسون في أمر الفاطمي وما
يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك
اعلم أنّ في المشهور بين الكافّة من أهل الإسلام على ممرّ الأعصار أنّه
لا بدّ في آخر الزّمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيّد الدّين ويظهر
العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلاميّة ويسمّى بالمهديّ
ويكون خروج الدّجّال وما بعده من أشراط [1] السّاعة الثّابتة في
الصّحيح على أثره وأنّ عيسى ينزل من بعده فيقتل الدّجّال أو ينزل معه
فيساعده على قتله ويأتمّ بالمهديّ في صلاته ويحتجّون في الشّأن بأحاديث
خرّجها الأئمّة وتكلّم فيها المنكرون لذلك وربّما عارضوها ببعض الأخبار
وللمتصوّفة المتأخّرين في أمر هذا الفاطميّ طريقة أخرى ونوع من
الاستدلال وربّما يعتمدون في ذلك على الكشف الّذي هو أصل طرائقهم. ونحن
الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشّأن وما للمنكرين فيها من
المطاعن وما لهم في إنكارهم من المستند ثمّ نتبعه بذكر كلام المتصوّفة
ورأيهم ليتبيّن لك الصّحيح من ذلك إن شاء الله تعالى فنقول إنّ جماعة
من الأئمّة خرّجوا أحاديث المهديّ منهم التّرمذيّ وأبو داود والبزّاز
وابن ماجة والحاكم والطّبرانيّ وأبو يعلى الموصليّ وأسندوها إلى جماعة
من الصّحابة مثل عليّ وابن عبّاس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة
وأنس وأبي سعيد الخدريّ وأمّ حبيبة وأمّ سلمة وثوبان وقرّة بن إياس
وعليّ الهلاليّ وعبد الله بن الحارث بن
__________
[1] علامات.
(1/388)
جزء بأسانيد ربّما يعرّض لها المنكرون كما
نذكره إلّا أنّ المعروف عند أهل الحديث أنّ الجرح مقدّم على التّعديل
فإذا وجدنا طعنا في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء
رأي تطرّق ذلك إلى صحّة الحديث وأوهن منها ولا تقولنّ مثل ذلك ربّما
يتطرّق إلى رجال الصّحيحين فإنّ الإجماع قد اتّصل في الأمّة على
تلقّيهما بالقبول والعمل بما فيهما وفي الإجماع أعظم حماية وأحسن دفعا
وليس غير الصّحيحين بمثابتهما في ذلك فقد تجد مجالا للكلام في أسانيدها
بما نقل عن أئمّة الحديث في ذلك.
ولقد توغّل أبو بكر بن أبي خيثمة على ما نقل السهيليّ عنه في جمعه
للأحاديث الواردة في المهديّ فقال ومن أغربها إسنادا ما ذكره أبو بكر
الإسكاف في فوائد الأخبار مستندا إلى مالك بن أنس عن محمّد بن المنكدر
عن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كذّب بالمهديّ فقد
كفر ومن كذّب بالدّجال فقد كذب [1] وقال في طلوع الشّمس من مغربها مثل
ذلك فيما أحسب وحسبك هذا غلوّا. والله أعلم بصحة طريقه إلى مالك بن أنس
على أنّ أبا بكر الإسكاف عندهم متّهم وضّاع.
وأمّا التّرمذيّ فخرج هو وأبو داود بسنديهما إلى ابن عبّاس من طريق
عاصم بن أبي النّجود أحد القرّاء السّبعة إلى زرّ بن حبيش عن عبد الله
بن مسعود عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لو لم يبق من الدّنيا إلّا
يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث الله فيه رجلا منّي أو من أهل بيتي
يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي. هذا لفظ أبي داود وسكت عليه وقال
في رسالته المشهورة إنّ ما سكت عليه في كتابه فهو صالح ولفظ التّرمذيّ
لا تذهب الدّنيا حتّى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي وفي
لفظ آخر حتّى يلي رجل من أهل بيتي وكلاهما حديث حسن صحيح ورواه أيضا من
طريق موقوفا على أبي هريرة وقال
__________
[1] في بعض النسخ «فقد كفر» .
(1/389)
الحاكم رواه الثّوريّ وشعبة وزائدة وغيرهم
من أئمّة المسلمين عن عاصم قال:
وطرق عاصم عن زرّ عن عبد الله كلّها صحيحة على ما أصّلته من الاحتجاج
بأخبار عاصم إذ هو إمام من أئمّة المسلمين (انتهى) إلّا أنّ عاصما قال
فيه أحمد بن حنبل: كان رجلا صالحا قارئا للقرآن خيّرا ثقة والأعمش أحفظ
منه وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث وقال العجليّ كان
يختلف عليه في زرّ وأبي وائل يشير بذلك إلى ضعف روايته عنهما وقال
محمّد بن سعد كان ثقة إلّا أنّه كثير الخطإ في حديثه وقال يعقوب بن
سفيان في حديثه اضطراب وقال عبد الرّحمن بن أبي حاتم قلت لأبي إنّ أبا
زرعة يقول عاصم ثقة فقال ليس محلّه هذا وقد تكلّم فيه ابن عليّة فقال
كلّ من اسمه عاصم سيّئ الحفظ وقال أبو حاتم محلّه عندي محلّ الصّدق
صالح الحديث ولم يكن بذلك الحافظ واختلف فيه قول النّسائيّ وقال ابن
حرّاش في حديثه نكرة وقال أبو جعفر العقيليّ لم يكن فيه إلّا سوء الحفظ
وقال الدّارقطنيّ في حفظه شيء وقال يحيى القطّان ما وجدت رجلا اسمه
عاصم إلّا وجدته رديء الحفظ وقال أيضا سمعت شعبة يقول حدّثنا عاصم بن
أبي النّجود وفي النّاس ما فيها وقال الذّهبيّ ثبت في القراءة وهو حسن
الحديث. وإن احتجّ أحد بأنّ الشّيخين أخرجا له فنقول أخرجا له مقرونا
بغيره لا أصلا والله أعلم.
وخرّج أبو داود في الباب عن عليّ رضي الله عنه من رواية قطن بن خليفة
عن القاسم بن أبي مرّة عن أبي الطّفيل عن عليّ عن النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم قال: «لو لم يبق من الدّهر إلّا يوم لبعث الله رجلا من أهل
بيتي يملأها عدلا كما ملئت جورا» وقطن [1] بن خليفة وإن وثقه أحمد
ويحيى بن القطّان وابن معين والنّسائيّ وغيرهم إلّا أنّ العجليّ قال:
حسن الحديث وفيه تشيّع قليل: وقال ابن معين مرّة: ثقة شيعيّ. وقال أحمد
بن عبد الله بن يونس: كنّا نمرّ على قطن وهو مطروح لا نكتب عنه. وقال
مرّة: كنت أمرّ به وأدعه مثل الكلب. وقال
__________
[1] وفي نسخ نسخة أخرى فطر بن خليفة.
(1/390)
الدّارقطنيّ: لا يحتجّ به. وقال أبو بكر بن
عيّاش: ما تركت الرّواية عنه إلّا لسوء مذهبه. وقال الجرجانيّ: زائغ
غير ثقة انتهى. وخرّج أبو داود أيضا بسنده إلى عليّ رضي الله عنه عن
مروان بن المغيرة عن عمر بن أبي قيس عن شعيب بن أبي خالد عن أبي إسحاق
النّسفيّ قال: قال عليّ ونظر إلى ابنه الحسن إنّ ابني هذا سيّد كما
سمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيخرج من صلبه رجل يسمّى باسم
نبيّكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض عدلا وقال هارون
حدّثنا عمر بن أبي قيس عن مطرّف بن طريف عن أبي الحسن عن هلال بن عمر
سمعت عليّا يقول: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «يخرج رجل من وراء
النّهر يقال له الحارث على مقدّمته رجل يقال له منصور يوطّئ أو يمكن
لآل محمّد كما مكّنت قريش لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجب على كلّ
مؤمن نصره أو قال إجابته» سكت أبو داود عليه. وقال في موضع آخر في
هارون: هو من ولد الشّيعة. وقال السّليمانيّ: فيه نظر. وقال أبو داود
في عمر بن أبي قيس: لا بأس في حديثه خطأ. وقال الذّهبي: صدق له أوهام.
وأمّا أبو إسحاق الشّيعيّ وإن خرّج عنه في الصّحيحين فقد ثبت أنّه
اختلط آخر عمره وروايته عن علي منقطعة، وكذلك رواية أبي داود عن هارون
بن المغيرة. وأمّا السّند الثّاني فأبو الحسن فيه وهلال بن عمر مجهولان
ولم يعرف أبو الحسن إلّا من رواية مطرّف بن طريف عنه انتهى. وخرّج أبو
داود أيضا عن أمّ سلمة قالت سمعت في المستدرك [1] من طريق عليّ بن نفيل
عن سعيد بن المسيّب عن أمّ سلمة قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم يقول: «المهديّ من ولد فاطمة» ولفظ الحاكم: سمعت رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم يذكر المهديّ فقال: «نعم هو حقّ وهو من بني فاطمة» ولم
يتكلّم عليه بالصّحيح ولا غيره وقد ضعّفه أبو جعفر العقيليّ وقال: لا
يتابع عليّ بن نفيل عليه ولا يعرف إلّا به. وخرّج أبو داود أيضا عن أمّ
سلمة من رواية صالح
__________
[1] وردت هذه الجملة في نسخة أخرى كما يلي: «وخرّج أبو داود أيضا عن أم
سلمة وكذا ابن ماجة والحاكم في المستدرك ... »
(1/391)
أبي الخليل [1] عن صاحب له عن أمّ سلمة
قال: يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل المدينة هاربا إلى
مكّة فيأتيه ناس من أهل مكّة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الرّكن
والمقام فيبعث إليه بعث من الشّام فيخسف بهم بالبيداء بين مكّة
والمدينة فإذا رأى النّاس ذلك أتاه أبدال [2] أهل الشّام وعصائب أهل
العراق فيبايعونه ثمّ ينشأ رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثا
فيظهرون عليهم وذلك بعث كلب والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب فيقسم المال
ويعمل في النّاس بسنّة نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم ويلقي الإسلام
بجرانه على الأرض فيلبث سبع سنين وقال بعضهم تسع سنين ثمّ رواه أبو
داود من رواية أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن أمّ سلمة فتبيّن
بذلك المبهم في الإسناد الأوّل ورجاله رجال الصّحيحين لا مطعن فيهم ولا
مغمز وقد يقال إنّه من رواية قتادة عن أبي الخليل وقتادة مدلّس وقد
عنعنه والمدلّس لا يقبل من حديثه إلّا ما صرّح فيه بالسّماع، مع أنّ
الحديث ليس فيه تصريح بذكر المهدي نعم ذكره أبو داود في أبوابه.
وخرّج أبو داود أيضا وتابعه الحاكم عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم: «المهديّ منّي أجلى الجبهة اقنى [3] الأنف
يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يملك سبع سنين» هذا لفظ أبي
داود وسكت عليه ولفظ الحاكم: «المهديّ منّا أهل البيت أشمّ الأنف أقنى
أجلى يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يعيش هكذا ويبسط يساره
وإصبعين من يمينه السّبّابة والإبهام وعقد ثلاث [4] » قال الحاكم: هذا
حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرّجاه. 1 هـ-. وعمران القطّان مختلف في
الاحتجاج به إنّما أخرج له البخاريّ استشهادا لا أصلا وكان يحيى
القطّان لا يحدّث عنه وقال يحيى بن معين: ليس بالقويّ وقال مرّة: ليس
بشيء. وقال أحمد بن حنبل
__________
[1] وفي نسخة أخرى صالح بن الخليل.
[2] الابدال: الأولياء.
[3] اجلى الجبهة: واسع الجبهة. اقنى الأنف: مرتفع أعلاه. محدوب في
الوسط.
[4] وفي نسخة أخرى: «وعقد ثلاثة» .
(1/392)
أرجو أن يكون صالح الحديث وقال يزيد بن
زريع كان حروريّا [1] وكان يرى السّيف على أهل القبلة وقال النّسائيّ
ضعيف وقال أبو عبيد الآجريّ: سألت أبا داود عنه، فقال من أصحاب الحسن
وما سمعت إلّا خيرا. وسمعته مرّة أخرى ذكره فقال: ضعيف أفتى في إبراهيم
بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدة فيها سفك الدّماء. وخرّج التّرمذيّ
وابن ماجة والحاكم عن أبي سعيد الخدريّ من طريق زيد العميّ عن أبي صديق
النّاجيّ عن أبي سعيد الخدريّ قال: خشينا أن يكون بعض شيء حدث فسألنا
نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنّ في أمّتي المهديّ يخرج
ويعيش خمسا أو سبعا أو تسعا» زيد الشّاكّ قال قلنا: وما ذاك؟ قال سنين!
قال: «فيجيء إليه الرّجل فيقول: يا مهديّ أعطني» قال: «فيحثو له في
ثوبه ما استطاع أن يحمله» لفظ التّرمذيّ وقال: هذا حديث حسن وقد روى من
غير وجه عن أبي سعيد عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولفظ ابن ماجة
والحاكم: «يكون في أمّتي المهديّ إن قصّر فسبع وإلّا فتسع فتنعم أمّتي
فيه نعمة لم يسمعوا بمثلها قطّ تؤتى الأرض أكلها ولا يدّخر منه شيء
والمال يومئذ كدوس فيقوم الرّجل فيقول: يا مهديّ أعطني فيقول خذ.»
انتهى. وزيد العميّ وإن قال فيه الدّارقطنيّ وأحمد بن حنبل ويحيى بن
معين إنّه صالح وزاد أحمد إنّه فوق يزيد الرّقاشيّ وفضل بن عيسى إلّا
أنّه قال فيه أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وقال يحيى بن
معين في رواية أخرى: لا شيء. وقال مرّة يكتب حديثه وهو ضعيف. وقال
الجرجانيّ: متماسك وقال أبو زرعة ليس:
بقويّ واهي الحديث ضعيفا وقال أبو حاتم ليس بذاك وقد حدّث عنه شعبة.
وقال النّسائيّ: ضعيف وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه ومن يروى عنهم
ضعفاء على أنّ شعبة قد روى عنه ولعلّ شعبة لم يرو عن أضعف منه.
وقد يقال إنّ حديث التّرمذيّ وقع تفسيرا لما رواه مسلم في صحيحه من
__________
[1] نسبة إلى حروراء بلدة قرب الكوفة والحرورية فرقة من الخوارج.
(1/393)
حديث جابر قال قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: «يكون في آخر أمّتي خليفة يحثو المال حثوا لا يعدّه عدّا»
ومن حديث أبي سعيد قال: «من خلفائكم خليفة يحثو المال حثوا» ومن طريق
أخرى عنهما قال: «يكون في آخر الزّمان خليفة يقسم المال ولا يعدّه»
انتهى. وأحاديث مسلم لم يقع فيها ذكر المهديّ ولا دليل يقوم على أنّه
المراد منها. ورواه الحاكم أيضا من طريق عوف الأعرابيّ عن أبي الصّدّيق
النّاجي عن أبي سعيد الخدريّ قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«لا تقوم السّاعة حتّى تملأ الأرض جورا وظلما وعدوانا ثمّ يخرج من أهل
بيتي رجل يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا» وقال فيه الحاكم:
هذا صحيح على شرط الشّيخين ولم يخرّجاه. ورواه الحاكم أيضا عن طريق
سليمان بن عبيد عن أبي الصّدّيق النّاجي عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«يخرج في آخر أمّتي المهديّ يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطي
المال صحاحا وتكثر الماشية وتعظم الأمّة يعيش سبعا أو ثمانيا» يعني
حججا وقال فيه حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه. مع أنّ سليمان بن عبيد
لم يخرّج له أحد من السّتّة لكن ذكره ابن حبّان في الثّقات ولم يرد أنّ
أحدا تكلّم فيه ثمّ رواه الحاكم أيضا من طريق أسد بن موسى عن حماد بن
سلمة عن مطر الورّاق وأبي هارون العبديّ عن أبي الصّدّيق النّاجي عن
أبي سعيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تملأ الأرض جورا
وظلما فيخرج رجل من عترتي فيملك سبعا أو تسعا فيملأ الأرض عدلا وقسطا
كما ملئت جورا وظلما» وقال الحاكم فيه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم
لأنّه أخرج عن حماد بن سلمة وعن شيخه مطر الورّاق. وأمّا شيخه الآخر
وهو أبو هارون العبديّ فلم يخرّج له. وهو ضعيف جدّا متّهم بالكذب ولا
حاجة إلى بسط أقوال الأئمّة في تضعيفه. وأمّا الرّاوي له عن حماد بن
سلمة فهو أسد بن موسى يلقّب أسد السّنّة وإن قال البخاريّ: مشهور
الحديث واستشهد به في صحيحه. واحتجّ به أبو داود والنّسائيّ
(1/394)
إلّا أنّه قال مرّة أخرى: ثقة لو لم يصنّف
كان خيرا له. وقال فيه محمّد بن حزم:
منكر الحديث. ورواه الطّبرانيّ في معجمه الأوسط من رواية أبي الواصل
عبد الحميد بن واصل عن أبي الصّدّيق النّاجي عن الحسن بن يزيد السعديّ
أحد بني بهذلة عن أبي سعيد الخدريّ قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم يقول: «يخرج رجل من أمّتي يقول بسنّتي ينزل الله عزّ وجلّ له
القطر من السّماء وتخرج الأرض بركتها وتملأ الأرض منه قسطا وعدلا كما
ملئت جورا وظلما يعمل على هذه الأمّة سبع سنين وينزل على بيت المقدس»
وقال الطّبرانيّ: فيه رواه جماعة عن أبي الصّدّيق ولم يدخل أحد منهم
بينه وبين أبي سعيد أحدا إلّا أبا الواصل فإنّه رواه عن الحسن بن يزيد
عن أبي سعيد انتهى. وهذا الحسن بن يزيد ذكره ابن أبي حاتم ولم يعرّفه
بأكثر ممّا في هذا الإسناد من روايته عن أبي سعيد ورواية أبي الصّدّيق
عنه وقال الذّهبيّ في الميزان: إنّه مجهول. لكن ذكره ابن حبّان في
الثّقات وأمّا أبو الواصل الّذي رواه عن أبي الصّدّيق فلم يخرّج له أحد
من السّتّة. وذكره ابن حبّان في الثّقات في الطّبقة الثّانية وقال فيه:
يروى عن أنس روى عنه شعبة وعتاب بن بشر وخرّج ابن ماجة في كتاب السّنن
عن عبد الله بن مسعود من طريق يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن علقمة عن
عبد الله قال بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ أقبل
فتية من بني هاشم فلمّا رآهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذرفت
عيناه وتغيّر لونه قال فقلت ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه فقال:
«إنّا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدّنيا وإنّ أهل بيتي
سيلقون بعدي بلاء وتشريدا وتطريدا حتّى يأتي قوم من قبل المشرق معهم
رايات سود فيسألون الخبر فلا يعطونه فيقاتلون وينصرون فيعطون ما سألوا
فلا يقبلونه حتّى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطا كما ملؤها
جورا فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثّلج» انتهى.
وهذا الحديث يعرف عند المحدّثين بحديث الرّايات. ويزيد بن أبي
(1/395)
زياد راويه قال فيه شعبة: كان رفّاعا يعني
يرفع الأحاديث الّتي لا تعرف مرفوعة. وقال محمّد بن الفضيل: من كبار
أئمّة الشّيعة. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالحافظ وقال مرّة: حديثه
ليس بذلك. وقال يحيى بن معين: ضعيف. وقال العجليّ: جائز الحديث، وكان
بآخره يلقّن. وقال أبو زرعة: ليّن يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وقال أبو
حاتم: ليس بالقويّ. وقال الجرجانيّ: سمعتهم يضعّفون حديثه. وقال أبو
داود: لا أعلم أحدا ترك حديثه وغيره أحبّ إليّ منه. وقال ابن عديّ هو
من شيعة أهل الكوفة ومع ضعفه يكتب حديثه. وروى له مسلم لكن مقرونا
بغيره. وبالجملة فالأكثرون على ضعفه.
وقد صرّح الأئمة بتضعيف هذا الحديث الّذي رواه عن إبراهيم عن علقمة عن
عبد الله وهو حديث الرّايات. وقال وكيع بن الجرّاح فيه: ليس بشيء.
وكذلك قال أحمد بن حنبل وقال أبو قدامة سمعت أبا أسامة يقول في حديث
يزيد عن إبراهيم في الرّايات لو حلف عندي خمسين يمينا أسامة [1] ما
صدّقته أهذا مذهب إبراهيم؟ أهذا مذهب علقمة؟ أهذا مذهب عبد الله؟ وأورد
العقيليّ هذا الحديث في الضّعفاء وقال الذّهبيّ ليس بصحيح. وخرّج ابن
ماجة عن عليّ رضي الله عنه من رواية ياسين العجليّ عن إبراهيم بن محمّد
بن الحنفيّة عن أبيه عن جدّه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«المهديّ منّا أهل البيت يصلح الله به في ليلة» . وياسين العجليّ وإن
قال فيه ابن معين ليس به بأس فقد قال البخاريّ فيه نظر. وهذه اللّفظة
من اصطلاحه قويّة في التّضعيف جدّا. وأورد له ابن عديّ في الكامل
والذّهبيّ في الميزان هذا الحديث على وجه الاستنكار له وقال هو معروف
به. وخرّج الطّبرانيّ في معجمه الأوسط عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال
للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أمنّا المهديّ أم من غيرنا يا رسول
الله؟» فقال: «بل منّا بنا يختم الله كما بنا فتح وبنا يستنقذون من
الشّرك وبنا يؤلّف الله قلوبهم بعد
__________
[1] في نسخة أخرى: قسامة.
(1/396)
عداوة بيّنة كما بنا ألّف بين قلوبهم بعد
عداوة الشّرك» . قال عليّ: «أمؤمنون أم كافرون؟» قال: «مفتون وكافر» .
انتهى. وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال. وفيه عمر بن جابر
الحضرميّ وهو أضعف منه. قال أحمد بن حنبل: روي عن جابر مناكير وبلغني
أنّه كان يكذب وقال النّسائيّ:
ليس بثقة وقال كان ابن لهيعة شيخا أحمق ضعيف العقل وكان يقول: «عليّ في
السّحاب» وكان يجلس معنا فيبصر سحابة فيقول: «هذا عليّ قد مرّ في
السّحاب» وخرّج الطّبرانيّ عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم قال: «يكون في آخر الزّمان فتنة يحصل النّاس فيها
كما يحصل الذّهب في المعدن فلا تسبّوا أهل الشّام ولكن سبّوا أشرارهم
فإنّ فيهم الابدال [1] يوشك أن يرسل على أهل الشّام صيّب من السّماء
فيفرّق جماعتهم حتّى لو قاتلتهم الثّعالب غلبتهم فعند ذلك يخرج خارج من
أهل بيتي في ثلاث رايات المكثر يقول بهم خمسة عشر ألفا والمقلّ يقول
بهم اثنا عشر ألفا وأمارتهم «أمت أمت» [2] يلقون سبع رايات تحت كلّ
راية منها رجل يطلب الملك فيقتلهم الله جميعا ويردّ الله إلى المسلمين
ألفتهم ونعمتهم وقاصيتهم ورأيهم [3] هـ-.
وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال ورواه الحاكم في المستدرك
وقال صحيح الإسناد ولم يخرّجاه في روايته ثمّ يظهر الهاشميّ فيردّ الله
النّاس إلى ألفتهم إلخ وليس في طريقه ابن لهيعة وهو إسناد صحيح كما
ذكر.
وخرّج الحاكم في المستدرك عن عليّ رضي الله عنه من رواية أبي الطّفيل
عن محمّد بن الحنفيّة قال: «كنّا عند عليّ رضي الله عنه فسأله رجل عن
المهديّ فقال له: هيهات ثمّ عقد بيده سبعا فقال ذلك يخرج في آخر
الزّمان إذا قال الرّجل الله الله قتل ويجمع الله له قوما قزعا [4]
كقزع السّحاب يؤلّف الله بين قلوبهم فلا
__________
[1] الأولياء.
[2] هذه الكلمة كانت كلمة السر بين أفراد المسلمين في غزوة بدر.
[3] في نسخة أخرى: «رايتهم» .
[4] أي أفواجا.
(1/397)
يستوحشون إلى أحد ولا يفرحون بأحد دخل فيهم
عدّتهم على عدّة أهل بدر لم يسبقهم الأوّلون ولا يدركهم الآخرون وعلى
عدد أصحاب طالوت الّذين جاوزوا معه النّهر. قال أبو الطّفيل قال ابن
الحنفيّة: أتريده؟ قلت: نعم. قال: فإنّه يخرج من بين هذين الأخشبين [1]
قلت لا جرم والله ولا أدعها حتّى أموت» ومات بها يعني مكّة قال الحاكم:
«هذا حديث صحيح على شرط الشّيخين» .
وإنّما هو على شرط مسلم فقط فإنّ فيه عمّارا الذّهبيّ [2] ويونس بن أبي
إسحاق ولم يخرّج لهما البخاريّ وفيه عمرو بن محمّد العبقريّ ولم يخرّج
له البخاريّ احتجاجا بل استشهادا مع ما ينضمّ إلى ذلك من تشيّع عمّار
الذّهبيّ وهو وإن وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم النسائيّ وغيرهم فقد
قال عليّ بن المدنيّ [3] عن سفيان أنّ بشر بن مروان قطع عرقوبيه قلت في
أيّ شيء؟ قال: في التّشيّع.
وخرّج ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه في رواية سعد بن عبد
الحميد بن جعفر عن عليّ بن زياد اليماميّ عن عكرمة بن عمّار عن إسحاق
بن عبد الله عن أنس قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«نحن ولد عبد المطّلب سادات أهل الجنّة أنا وحمزة وعليّ وجعفر والحسن
والحسين والمهديّ» . انتهى.
وعكرمة بن عمّار وإن أخرج له مسلم فإنّما أخرج له متابعة. وقد ضعّفه
بعض ووثّقه آخرون وقال أبو حاتم الرّازيّ: هو مدلّس فلا يقبل إلى أن
يصرّح بالسّماع عليّ بن زياد. قال الذّهبيّ في الميزان: لا ندري من هو،
ثمّ قال الصّواب فيه: عبد الله بن زياد وسعد بن عبد الحميد وإن وثقه
يعقوب بن أبي شيبة وقال فيه يحيى بن معين ليس به بأس فقد تكلّم فيه
الثّوريّ قالوا لأنّه رآه يفتي في مسائل ويخطئ فيها. وقال ابن حبّان:
كان ممّن فحش عطاؤه فلا يحتجّ فيه. وقال أحمد بن حنبل: سعيد [4] بن عبد
الحميد يدّعي أنّه سمع عرض
__________
[1] «الجبلان المطيفان بمكة وهما: أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه
على قعيقان» .
[2] وفي نسخة أخرى «عمّارا الدّهني» .
[3] وفي نسخة أخرى «علي بن المديني» .
[4] وفي نسخة أخرى «سعد بن عبد الحميد» .
(1/398)
كتب مالك والنّاس ينكرون عليه ذلك وهو
هاهنا ببغداد لم يحتجّ [1] فكيف سمعها؟ وجعله الذّهبيّ ممّن لم يقدح
فيه كلام من تكلّم فيه وخرّج الحاكم في مستدركه من رواية مجاهد عن ابن
عبّاس موقوفا عليه قال مجاهد قال لي ابن عبّاس: لو لم أسمع أنّك مثل
أهل البيت ما حدّثتك بهذا الحديث قال فقال مجاهد: فإنّه في ستر لا
أذكره لمن يكره قال فقال ابن عبّاس: «منّا أهل البيت أربعة منّا
السّفّاح ومنّا المنذر ومنّا المنصور ومنّا المهديّ» قال فقال مجاهد:
بيّن لي هؤلاء الأربعة. فقال ابن عبّاس: «أمّا السّفّاح فربّما قتل
أنصاره وعفا عن عدوّه، وأمّا المنذر أراه قال فإنّه يعطي المال الكثير
ولا يتعاظم في نفسه ويمسك القليل من حقّه وأمّا المنصور فإنّه يعطى
النّصر على عدوّه الشّطر ممّا كان يعطي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
ويرهب منه عدوّه على مسيرة شهرين والمنصور يرهب منه عدوّه على مسيرة
شهر وأمّا المهديّ الّذي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وتأمن البهائم
السّباع وتلقي الأرض أفلاذ كبدها» . قال: «قلت وما أفلاذ كبدها؟» قال:
«أمثال الأسطوانة من الذّهب والفضّة» . وقال الحاكم هذا حديث صحيح
الإسناد ولم يخرّجاه وهو من رواية إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه
وإسماعيل ضعيف وإبراهيم أبوه وإن خرّج له مسلّم فالأكثرون على تضعيفه.
وخرّج ابن ماجة عن ثوبان قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«يقتتل عند كبركم [2] ثلاثة كلّهم ابن خليفة ثمّ لا يصير إلى واحد منهم
ثمّ تطلع الرّايات السّود من قبل المشرق فيقتلونهم قتلا لم يقتله قوم»
ثمّ ذكر شيئا لا أحفظه قال:
«فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوا على الثّلج فإنّه خليفة الله المهديّ»
. 1 هـ-.
ورجاله رجال الصّحيحين إلّا أنّ فيه أبا قلابة الجرميّ وذكر الذّهبيّ
وغيره أنّه مدلس وفيه سفيان الثّوريّ وهو مشهور بالتّدليس وكلّ واحد
منهما عنعن ولم يصرّح بالسّماع فلا يقبل وفيه عبد الرّزاق بن همّام
وكان مشهورا بالتّشيّع وعمي
__________
[1] وفي نسخة أخرى «لم يحجّ» .
[2] وفي نسخة أخرى «كنزكم» .
(1/399)
في آخر وقته فخلّط قال ابن عديّ: «حدّث
بأحاديث في الفضائل لم يوافقه عليها أحد» ونسبوه إلى التّشيّع. انتهى.
وخرّج ابن ماجة عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزّيديّ من طريق ابن
لهيعة عن أبي زرعة عن عمر بن جابر الحضرميّ عن عبد الله بن الحارث بن
جزء قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يخرج ناس من المشرق
فيوطّئون للمهديّ» . يعني سلطانه. قال الطّبرانيّ: تفرّد به ابن لهيعة
وقد تقدّم لنا في حديث عليّ الّذي خرّجه الطّبراني في معجمه الأوسط أنّ
ابن لهيعة ضعيف وأنّ شيخه عمر بن جابر أضعف منه وخرّج البزّار في مسندة
والطّبرانيّ في معجمه الأوسط واللّفظ للطّبرانيّ عن أبي هريرة عن
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يكون في أمّتي المهديّ إن قصّر
فسبع وإلّا فثمان وإلّا فتسع تنعم فيها أمّتي نعمة لم ينعموا بمثلها
ترسل السّماء عليهم مدرارا ولا تدّخر الأرض شيئا من النّبات والمال
كدوس يقوم الرّجل يقول يا مهديّ أعطني فيقول خذ» . قال الطّبرانيّ
والبزّار تفرّد به محمّد بن مروان العجليّ زاد البزّار: ولا نعلم أنّه
تابعه عليه أحد وهو وإن وثقه أبو داود وابن حبّان أيضا بما ذكره في
الثّقات وقال فيه يحيى بن معين صالح وقال مرّة ليس به بأس فقد اختلفوا
فيه وقال أبو زرعة: ليس عندي بذلك وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: رأيت
محمّد بن مروان العجليّ حدّث بأحاديث وأنا شاهد لم نكتبها تركتها على
عمد وكتب بعض أصحابنا عنه كأنّه ضعّفه. وخرّجه أبو يعلى الموصليّ في
مسندة عن أبي هريرة وقال: «حدّثني خليلي أبو القاسم صلّى الله عليه
وسلّم قال: لا تقوم السّاعة حتّى يخرج عليهم رجل من أهل بيتي فيضربهم
حتّى يرجعوا إلى الحقّ قال قلت:
وكم يملك؟ قال: خمسا واثنتين قال قلت وما خمسا واثنتين قال لا أدري» .
وهذا السّند غير محتجّ به وإن قال فيه بشير بن نهيك وقال فيه أبو حاتم
لا يحتجّ به فقد احتجّ به الشّيخان ووثقه النّاس ولم يلتفتوا إلى قول
أبي حاتم لا يحتجّ به إلّا أنّه قال فيه رجاء [1] ابن أبي رجاء
اليشكريّ وهو مختلف فيه قال
__________
[1] وفي نسخة أخرى: «إلا أن فيه رجاء» .
(1/400)
أبو زرعة ثقة وقال يحيى بن معين: ضعيف.
وقال أبو داود: ضعيف. وقال مرّة: صالح. وعلّق له البخاريّ في صحيحه
حديثا واحدا. وخرّج أبو بكر البزّار في مسندة والطّبرانيّ في معجمه
الكبير والأوسط عن قرّة بن إياس قال قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: «لتملأنّ الأرض جورا وظلما فإذا ملئت جورا وظلما بعث الله رجلا
من أمّتي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأها عدلا وقسطا كما ملئت جورا
وظلما فلا تمنع السّماء من قطرها شيئا ولا تدّخر الأرض من نباتها يلبث
فيكم سبعا أو ثمانيا أو تسعا» . يعني سنين. 1 هـ-. وفيه داود بن
المحبّي بن المحرم [1] عن أبيه وهما ضعيفان جدّا. وخرّج الطّبرانيّ في
معجمه الأوسط عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في
نفر من المهاجرين والأنصار وعليّ بن أبي طالب عن يساره والعبّاس عن
يمينه إذ تلاحى العباس ورجل من الأنصار فأغلظ الأنصاريّ للعبّاس فأخذ
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيد العبّاس وبيد عليّ» وقال: «سيخرج من
صلب هذا فتى يملأ الأرض جورا وظلما وسيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض
قسطا وعدلا فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التّميميّ فإنّه يقبل من قبل
المشرق وهو صاحب راية المهديّ» . انتهى. وفيه عبد الله بن عمر وعبد
الله بن لهيعة وهما ضعيفان. 1 هـ-.
وخرّج الطّبرانيّ في معجمه الأوسط عن طلحة بن عبد الله عن النّبيّ صلّى
الله عليه وسلّم قال: «ستكون فتنة لا يسكن منها جانب إلّا تشاجر جانب
حتّى ينادي مناد من السّماء إنّ أميركم فلان. 1 هـ-. وفيه المثنّى بن
الصّباح وهو ضعيف جدّا. وليس في الحديث تصريح بذكر المهديّ وإنّما
ذكروه في أبوابه وترجمته استئناسا. فهذه جملة الأحاديث الّتي خرّجها
الأئمّة في شأن المهديّ وخروجه آخر الزّمان. وهي كما رأيت لم يخلص منها
من النّقد إلّا القليل والأقلّ منه. وربّما تمسّك المنكرون لشأنه بما
رواه محمّد بن خالد الجنديّ عن أبان بن صالح بن أبي عيّاش عن الحسن
البصريّ عن أنس بن مالك عن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: داود بن المجبّر بن قحدم.
(1/401)
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال:
«لا مهديّ إلّا عيسى بن مريم» وقال يحيى بن معين في محمّد بن خالد
الجندي: إنّه ثقة. وقال البيهقيّ: تفرّد به محمّد بن خالد.
وقال الحاكم فيه: إنّه رجل مجهول واختلف عليه في إسناده فمرّة يروونه
[1] كما تقدّم وينسب ذلك لمحمّد بن إدريس الشّافعيّ ومرّة يروونه [1]
عن محمّد بن خالد عن أبان عن الحسن عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
مرسلا. قال البيهقيّ: فرجع إلى رواية محمّد بن خالد وهو مجهول عن أبان
بن أبي عيّاش وهو متروك عن الحسن عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو
منقطع وبالجملة فالحديث ضعيف مضطرب. وقد قيل «أن لا مهديّ إلّا عيسى»
أي لا يتكلّم في المهد إلّا عيسى يحاولون بهذا التّأويل ردّ الاحتجاج
به أو الجمع بينه وبين الأحاديث وهو مدفوع بحديث جريج ومثله من
الخوارق. وأمّا المتصوّفة فلم يكن المتقدّمون منهم يخوضون في شيء من
هذا وإنّما كان كلامهم في المجاهدة بالأعمال وما يحصل عنها من نتائج
المواجد والأحوال وكان كلام الإماميّة والرافضة من الشّيعة في تفضيل
عليّ رضي الله عنه والقول بإمامته وادّعاء الوصيّة له بذلك من النّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم، والتّبرّي من الشّيخين كما ذكرناه في مذاهبهم
ثمّ حدث فيهم بعد ذلك القول بالإمام المعصوم وكثرت التّآليف في
مذاهبهم. وجاء الإسماعيليّة منهم يدّعون الوهيّة الإمام بنوع من الحلول
وآخرون يدّعون رجعة من مات من الأئمّة بنوع التّناسخ، وآخرون منتظرون
مجيء من يقطع بموته منهم وآخرون منتظرون عود الأمر في أهل البيت
مستدلّين على ذلك بما قدّمناه من الأحاديث في المهديّ وغيرها. ثمّ حدث
أيضا عند المتأخّرين من الصّوفيّة الكلام في الكشف وفيما وراء الحسّ
وظهر من كثير منهم القول على الإطلاق بالحلول والوحدة فشاركوا فيها
الإماميّة والرّافضة لقولهم بألوهيّة الأئمّة وحلول الإله فيهم.
وظهر منهم أيضا القول بالقطب والإبدال وكأنّه يحاكي مذهب الرّافضة في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يروى.
(1/402)
الإمام والنّقباء. وأشربوا أقوال الشّيعة
وتوغّلوا في الدّيانة بمذاهبهم، حتّى جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة
أنّ عليّا رضي الله عنه ألبسها الحسن البصريّ وأخذ عليه العهد بالتزام
الطّريقة. واتّصل ذلك عنهم بالجنيد من شيوخهم. ولا يعلم هذا عن عليّ من
وجه صحيح. ولم تكن هذه الطّريقة خاصّة بعليّ كرّم الله وجهه بل
الصّحابة كلّهم أسوة في طريق الهدى وفي تخصيص هذا بعليّ دونهم رائحة من
التّشيّع قويّة يفهم منها ومن غيرها من القوم دخلهم [1] في التّشيّع
وانخراطهم في سلكه. وظهر منهم أيضا القول بالقطب وامتلأت كتب
الإسماعيليّة من الرّافضة وكتب المتأخرين من المتصوّفة بمثل ذلك في
الفاطميّ المنتظر. وكان بعضهم يمليه على بعض ويلقّنه بعضهم عن بعض
وكأنّه مبنيّ على أصول واهية من الفريقين وربّما يستدلّ بعضهم بكلام
المنجّمين في القرانات وهو من نوع الكلام في الملاحم ويأتي الكلام
عليها في الباب الّذي يلي هذا. وأكثر من تكلّم من هؤلاء المتصوّفة
المتأخّرين في شأن الفاطميّ، ابن العربيّ، الحاتميّ في كتاب (عنقاء
مغرب) وابن قسيّ في كتاب (خلع النّعلين) وعبد الحقّ بن سبعين وابن أبي
واصل [2] تلميذه في شرحه لكتاب (خلع النّعلين) . وأكثر كلماتهم في شأنه
ألغاز وأمثال وربّما يصرّحون في الأقلّ أو يصرّح مفسّرو كلامهم. وحاصل
مذهبهم فيه على ما ذكر ابن أبي واصل أنّ النّبوة بها ظهر الحقّ والهدى
بعد الضّلال والعمى وأنّها تعقبها الخلافة ثمّ يعقب الخلافة الملك ثمّ
يعود تجبّرا وتكبّرا وباطلا.
قالوا: ولمّا كان في المعهود من سنّة الله رجوع الأمور إلى ما كانت وجب
أن يحيا أمر النّبوة والحقّ بالولاية ثمّ بخلافتها ثمّ يعقبها الدّجل
مكان الملك والتّسلّط ثمّ يعود الكفر بحاله. يشيرون بهذا لما وقع من
شأن النّبوة والخلافة بعدها والملك بعد الخلافة. هذه ثلاث مراتب. وكذلك
الولاية الّتي هي لهذا الفاطميّ والدّجل بعدها كناية عن خروج الدّجّال
على أثره والكفر من بعد ذلك. فهي ثلاث
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يفهم منها ومن غيرها مما تقدم دخولهم.
[2] وفي نسخة أخرى: ابن أبي واطيل.
(1/403)
مراتب على نسبة الثّلاث المراتب الأولى.
قالوا: ولمّا كان أمر الخلافة لقريش حكما شرعيّا بالإجماع الّذي لا
يوهنه إنكار من يزاول علمه وجب أن تكون الإمامة فيمن هو أخصّ من قريش
بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إمّا ظاهرا كبني عبد المطّلب وإمّا
باطنا ممّن كان من حقيقة الآل، والآل من إذا حضر لم يلقّب [1] من هو
آله.
وابن العربيّ الحاتميّ سمّاه في كتابه «عنقاء مغرب» من تأليفه: خاتم
الأولياء وكنى عنه بلبنة الفضّة إشارة إلى حديث البخاريّ في باب خاتم
النّبيّين قال صلّى الله عليه وسلّم: «مثلي فيمن قبلي من الأنبياء كمثل
رجل ابتنى بيتا وأكمله حتّى إذا لم يبق منه إلّا موضع لبنة فأنا تلك
اللّبنة» فيفسّرون خاتم النّبيّين باللّبنة حتّى أكملت البنيان ومعناه
النّبيّ الّذي حصلت له النّبوة الكاملة. ويمثّلون الولاية في تفاوت
مراتبها بالنّبوءة ويجعلون صاحب الكمال فيها خاتم الأولياء أي حائز
الرّتبة الّتي هي خاتمة الولاية كما كان خاتم الأنبياء حائزا للمرتبة
التي هي خاتمة النّبوة. فكنى الشّارح [2] عن تلك المرتبة الخاتمة بلبنة
البيت في الحديث المذكور.
وهما على نسبة واحدة فيهما. فهي لبنة واحدة في التّمثيل. ففي النّبوة
لبنة ذهب وفي الولاية لبنة فضّة للتّفاوت بين الرّتبتين كما بين الذّهب
والفضّة.
فيجعلون لبنة الذّهب كناية عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولبنة
الفضّة كناية عن هذا الوليّ الفاطميّ المنتظر وذلك خاتم الأنبياء وهذا
خاتم الأولياء. وقال ابن العربيّ فيما نقل ابن أبي واصل عنه وهذا
الإمام المنتظر هو من أهل البيت من ولد فاطمة وظهوره يكون من بعد مضيّ
(خ ف ج) من الهجرة ورسم حروفا ثلاثة يريد عددها بحساب الجمّل وهو الخاء
المعجمة بواحدة من فوق ستّمائة والفاء أخت القاف بثمانين والجيم
المعجمة بواحدة من أسفل ثلاثة وذلك ستّمائة وثلاث وثمانون سنة وهي آخر
القرن السّابع ولمّا انصرم هذا العصر ولم يظهر حمل ذلك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: لم يغب.
[2] وفي نسخة أخرى: الشارع.
(1/404)
بعض المقلّدين لهم على أنّ المراد بتلك
المدّة مولده وعبّر بظهوره عن مولده وأنّ خروجه يكون بعد العشر
السبعمائة فإنّه الإمام النّاجم من ناحية المغرب. قال:
«وإذا كان مولده كما زعم ابن العربيّ سنة ثلاث وثمانين وستّمائة فيكون
عمره عند خروجه ستّا وعشرين سنة» قال وزعموا أنّ خروج الدّجّال يكون
سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة من اليوم المحمّديّ وابتداء اليوم المحمّديّ
عندهم من يوم وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى تمام ألف سنة» قال
ابن أبيّ واصل في شرحه كتاب (خلع النّعلين) الوليّ المنتظر القائم بأمر
الله المشار إليه بمحمّد المهديّ وخاتم الأولياء وليس هو بنبيّ وإنّما
هو وليّ ابتعثه روحه وحبيبه. قال صلّى الله عليه وسلّم: «العالم في
قومه كالنّبيّ في أمّته» . وقال: «علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل ولم
تزل البشرى تتابع به من أوّل اليوم المحمّديّ إلى قبيل الخمسمائة نصف
اليوم وتأكّدت وتضاعفت بتباشير المشايخ بتقريب وقته وازدلاف زمانه منذ
انقضت إلى هلمّ جرّا» قال وذكر الكنديّ: «أنّ هذا الوليّ هو الّذي
يصلّي بالنّاس صلاة الظّهر ويجدّد الإسلام ويظهر العدل ويفتح جزيرة
الأندلس ويصل إلى رومية فيفتحها ويسير إلى المشرق فيفتحه ويفتح
القسطنطينيّة ويصير له ملك الأرض فيتقوّى المسلمون ويعلو الإسلام
ويطّهّر دين الحنفيّة فإنّ من صلاة الظّهر إلى صلاة العصر وقت صلاة»
قال عليه الصّلاة والسّلام: «ما بين هذين وقت» وقال الكنديّ أيضا:
«الحروف العربيّة غير المعجمة يعني المفتتح بها سور القرآن جملة عددها
سبعمائة وثلاث وأربعون وسبع دجّاليّة [1] ثمّ ينزل عيسى في وقت صلاة
العصر فيصلح الدّنيا وتمشي الشّاة مع الذّئب ثمّ مبلغ [2] ملك العجم
بعد إسلامهم مع عيسى مائة وستّون عاما عدد حروف المعجم وهي (ق ي ن)
دولة العدل منها أربعون عاما قال ابن أبي واصل وما ورد من قوله لا
مهديّ إلّا عيسى فمعناه لا مهدي تساوي هدايته ولايته وقيل لا يتكلّم في
المهد إلّا عيسى وهذا
__________
[1] نسبة إلى دجال.
[2] وفي نسخة أخرى: ثم يبقى.
(1/405)
مدفوع بحديث جريج وغيره. وقد جاء في
الصّحيح أنّه قال: «لا يزال هذا الأمر قائما حتّى تقوم السّاعة أو يكون
عليهم اثنا عشر خليفة يعني قرشيّا» . وقد أعطى الوجود أنّ منهم من كان
في أوّل الإسلام ومنهم من سيكون في آخره. وقال: «الخلافة بعدي ثلاثون
أو إحدى وثلاثون أو ستّ وثلاثون وانقضاؤها في خلافة الحسن وأوّل أمر
معاوية فيكون أوّل أمر معاوية خلافة أخذا بأوائل الأسماء فهو سادس
الخلفاء وأمّا سابع الخلفاء فعمر بن عبد العزيز.
والباقون خمسة من أهل البيت من ذرّيّة عليّ يؤيّده قوله: «إنّك لذو
قرنيها» يريد الأمّة أي إنّك لخليفة في أوّلها وذرّيّتك في آخرها.
وربّما استدلّ بهذا الحديث القائلون بالرّجعة، فالأوّل هو المشار إليه
عندهم بطلوع الشّمس من مغربها. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم إذا هلك
كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والّذي نفسي بيده
لتنفقنّ كنوزهما في سبيل الله وقد أنفق عمر بن الخطّاب كنوز كسرى في
سبيل الله والّذي يهلك قيصر وينفق كنوزه في سبيل الله هو هذا المنتظر
حين يفتح القسطنطينيّة: فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش. كذا
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ومدّة حكمه بضع» والبضع من ثلاث إلى تسع
وقيل إلى عشر وجاء ذكر أربعين وفي بعض الرّوايات سبعين. وأمّا الأربعون
فإنّها مدّته ومدّة الخلفاء الأربعة الباقين من أهله القائمين بأمره من
بعده على جميعهم السّلام قال وذكر أصحاب النّجوم والقرانات أنّ مدّة
بقاء أمره وأهل بيته من بعده مائة وتسعة وخمسون عاما فيكون الأمر على
هذا جاريا على الخلافة والعدل أربعين أو سبعين ثمّ تختلف الأحوال فتكون
ملكا» انتهى كلام ابن أبي واصل. وقال في موضع آخر: «نزول عيسى يكون في
وقت صلاة العصر من اليوم المحمّديّ حين تمضي ثلاثة أرباعه» قال وذكر
الكنديّ يعقوب بن إسحاق في كتاب الجفر الّذي
(1/406)
ذكر فيه القرانات: «أنّه إذا وصل القرآن
إلى الثّور على رأس ضحّ بحرفين الضّاد [1] المعجمة والحاء المهملة»
يريد ثمانية وتسعين وستّمائة من الهجرة ينزل المسيح فيحكم في الأرض ما
شاء الله تعالى قال وقد ورد في الحديث أنّ عيسى ينزل عند المنارة
البيضاء شرقيّ دمشق ينزل بين مهرودتين يعني حلّتين مزعفرتين صفراوين
ممصّرتين واضعا كفّيه على أجنحة الملكين له لمّة كأنّما خرج من ديماس
إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللّؤلؤ كثير خيلان الوجه
وفي حديث آخر مربوع الخلق وإلى البياض والحمرة. وفي آخر: أنّه يتزوّج
في الغرب. والغرب دلو البادية يريد أنّه يتزوّج منها وتلد زوجته. وذكر
وفاته بعد أربعين عاما. وجاء أنّ عيسى يموت بالمدينة ويدفن إلى جانب
عمر بن الخطّاب. وجاء أنّ أبا بكر وعمر يحشران بين نبيّين قال ابن أبي
واطيل:
«والشّيعة تقول إنّه هو المسيح مسيح المسائح من آل محمّد قلت وعليه حمل
بعض المتصوّفة حديث لا مهديّ إلّا عيسى أي لا يكون مهديّ إلّا المهديّ
الّذي نسبته إلى الشّريعة المحمّديّة نسبة عيسى إلى الشّريعة الموسويّة
في الاتباع وعدم النّسخ إلى كلام من أمثال هذا يعيّنون فيه الوقت
والرّجل والمكان بأدلّة واهية وتحكّمات مختلفة فينقضي الزّمان ولا أثر
لشيء من ذلك فيرجعون إلى تجديد رأي آخر منتحل كما تراه من مفهومات
لغويّة وأشياء تخييليّة وأحكام نجوميّة في هذا انقضت أعمار الأوّل منهم
والآخر.
وأمّا المتصوّفة الّذين عاصرناهم فأكثرهم يشيرون إلى ظهور رجل مجدّد
لأحكام الملّة ومراسم الحقّ ويتحيّنون ظهوره لما قرب من عصرنا فبعضهم
يقول من ولد فاطمة وبعضهم يطلق القول فيه سمعناه من جماعة أكبرهم أبو
يعقوب البادسيّ كبير الأولياء بالمغرب كان في أوّل هذه المائة الثّامنة
وأخبرني عنه حافده صاحبنا أبو يحيى زكريّا عن أبيه أبي محمّد عبد الله
عن أبيه الوليّ أبي
__________
[1] الضاد عند المغاربة بتسعين والصاد بستين. 1 هـ-. قاله نصر.
(1/407)
يعقوب المذكور هذا آخر ما اطّلعنا عليه أو
بلغنا من كلام هؤلاء المتصوّفة وما أورده أهل الحديث من أخبار المهديّ
قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا والحقّ الّذي ينبغي أن يتقرّر لديك
أنّه لا تتمّ دعوة من الدّين والملك إلّا بوجود شوكة عصبيّة تظهره
وتدافع عنه من يدفعه حتّى يتمّ أمر الله فيه. وقد قرّرنا ذلك من قبل
بالبراهين القطعيّة الّتي أريناك هناك وعصبيّة الفاطميّين بل وقريش
أجمع قد تلاشت من جميع الآفاق ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيّتهم على
عصبيّة قريش إلّا ما بقي بالحجاز في مكّة وينبع بالمدينة من الطّالبين
من بني حسن وبني حسين وبني جعفر وهم منتشرون في تلك البلاد وغالبون
عليها وهم عصائب بدويّة متفرّقون في مواطنهم وإماراتهم يبلغون آلافا من
الكثرة فإن صحّ ظهور هذا المهديّ فلا وجه لظهور دعوته إلّا بأن يكون
منهم ويؤلّف الله بين قلوبهم في اتّباعه حتّى تتمّ له شوكة وعصبيّة
وافية بإظهار كلمته وحمل النّاس عليها وأمّا على غير هذا الوجه مثل أن
يدعو فاطميّ منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الآفاق من غير عصبيّة
ولا شوكة إلّا مجرّد نسبة في أهل البيت فلا يتمّ ذلك ولا يمكن لما
أسلفناه من البراهين الصّحيحة. وأمّا ما تدّعيه العامّة والأغمار من
الدّهماء ممّن لا يرجع في ذلك إلى عقل يهديه ولا علم يفيده فيجيبون [1]
ذلك على غير نسبة وفي غير مكان، تقليدا لما اشتهر من ظهور فاطمي ولا
يعلمون حقيقة الأمر كما بيّنّاه وأكثر ما يجيبون [2] في ذلك القاصية من
الممالك وأطراف العمران مثل الزّاب بإفريقيّة والسّوس من المغرب. ونجد
الكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رباطا بماسة لما كان ذلك الرّباط
بالمغرب من الملثّمين من كدالة واعتقادهم أنّه منهم أو قائمون بدعوته
زعما لا مستند لهم إلّا غرابة تلك الأمم وبعدهم عن يقين المعرفة
بأحوالها من كثرة أو قلّة أو ضعف أو قوّة ولبعد القاصية عن منال
الدّولة وخروجها عن نطاقها فتقوى عندهم الأوهام في ظهوره هناك بخروجه
عن ربقة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ولا علم يقيده، فيتحينون.
[2] وفي نسخة أخرى: يتحينون.
(1/408)
الدّولة ومنال الأحكام والقهر ولا محصول
لديهم في ذلك إلّا هذا. وقد يقصد ذلك الموضع كثير من ضعفاء العقول
للتّلبيس بدعوة يمييه [1] تمامها وسواسا وحمقا، وقتل كثير منهم. اخبرني
شيخنا محمّد بن إبراهيم الأبلّيّ قال خرج برباط ماسة لأوّل المائة
الثّامنة وعصر السّلطان يوسف بن يعقوب رجل من منتحلي التّصوّف يعرف
بالتّويزريّ نسبة إلى توزر مصغّرا وادّعى أنّه الفاطميّ المنتظر
واتّبعه الكثير من أهل السّوس من ضالّة وكزولة وعظم أمره وخافه رؤساء
المصامدة على أمرهم فدسّ عليه السّكسيويّ من قتله بياتا وانحلّ أمره.
وكذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السّابعة وعشر التّسعين منها رجل
يعرف بالعبّاس وادّعى أنّه الفاطميّ واتّبعه الدّهماء من غمارة ودخل
مدينة فاس عنوة وحرق أسواقها وارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة ولم
يتمّ أمره. وكثير من هذا النّمط. وأخبرني شيخنا المذكور بغريبة في مثل
هذا وهو أنّه صحب في حجّة في رباط العباد وهو مدفن الشّيخ أبي مدين في
جبل تلمسان المطلّ عليها رجلا من أهل البيت من سكّان كربلاء كان متبوعا
معظّما كثير التّلميذ والخادم. قال وكان الرّجال من موطنه يتلقّونه
بالنّفقات في أكثر البلدان. قال وتأكّدت الصّحبة بيننا في ذلك الطّريق
فانكشف لي أمرهم وأنّهم إنّما جاءوا من موطنهم بكربلاء لطلب هذا الأمر
وانتحال دعوة الفاطميّ بالمغرب. فلمّا عاين دولة بني مرين ويوسف بن
يعقوب يومئذ منازل تلمسان قال لأصحابه: ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط وليس
هذا الوقت وقتنا. ويدلّ هذا القول من هذا الرّجل على أنّه مستبصر في
أنّ الأمر لا يتمّ إلّا بالعصبيّة المكافئة لأهل الوقت فلمّا علم أنّه
غريب في ذلك الوطن ولا شوكة له وأنّ عصبيّة بني مرين لذلك العهد لا
يقاومها أحد من أهل المغرب استكان ورجع إلى الحقّ وأقصر عن مطامعه.
وبقي عليه أن يستيقن أنّ عصبيّة الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت لا سيّما
في المغرب إلّا أنّ التّعصّب لشأنه لم
__________
[1] كذا في جميع النسخ وهو تحريف ولا معنى لكلمة يميه، ومقتضى السياق
أن تكون العبارة:
«بدعوة يكون تمامها وسواسا وحمقا» وفي نسخة لجنة البيان العربيّ «بدعوة
تمنيه النفس تمامها» .
(1/409)
يتركه لهذا القول والله يعلم وأنتم لا
تعلمون. وقد كانت بالمغرب لهذه العصور القريبة نزعة من الدّعاة إلى
الحقّ والقيام بالسّنّة لا ينتحلون فيها دعوة فاطميّ ولا غيره وإنّما
ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السّنّة وتغيير
المنكر ويعني بذلك ويكثر تابعه. وأكثر ما يعنون بإصلاح السّابلة لما
أنّ أكثر فساد الأعراب فيها لما قدّمناه من طبيعة معاشهم فيأخذون في
تغيير المنكر بما استطاعوا إلّا أنّ الصبغة الدّينيّة فيهم لم تستحكم
لما أنّ توبة العرب ورجوعهم إلى الدّين إنّما يقصدون بها الإقصار عن
الغارة والنّهب لا يعقلون في توبتهم وإقبالهم إلى مناحي الدّيانة غير
ذلك لأنّها المعصية الّتي كانوا عليها قبل المقربة ومنها توبتهم، فتجد
ذلك المنتحل للدّعوة والقائم بزعمه بالسّنّة غير متعمّقين في فروع
الاقتداء والاتّباع إنّما دينهم الإعراض عن النّهب والبغي وإفساد
السّابلة ثمّ الإقبال على طلب الدّنيا والمعاش بأقصى جهدهم. وشتّان بين
طلب هذا الأجر من إصلاح الخلق ومن طلب الدّنيا فاتّفاقهما ممتنع لا
تستحكم له صبغة في الدّين ولا يكمل له نزوع عن الباطل على الجملة ولا
يكثرون. ويختلف حال صاحب الدّعوة معهم في استحكام دينه وولايته في نفسه
دون تابعه فإذا هلك انحلّ أمرهم وتلاشت عصبيّتهم وقد وقع ذلك بإفريقيّة
لرجل من كعب من سليم يسمّى قاسم بن مرّة بن أحمد في المائة السّابعة
ثمّ من بعده لرجل آخر من بادية رياح من بطن منهم يعرفون بمسلّم وكان
يسمّى سعادة وكان أشدّ دينا من الأوّل وأقوم طريقة في نفسه ومع ذلك فلم
يستتبّ أمر تابعه كما ذكرناه حسبما يأتي ذكر ذلك في موضعه عند ذكر
قبائل سليم ورياح وبعد ذلك ظهر ناس بهذه الدّعوة يتشبّهون بمثل ذلك
ويلبّسون فيها وينتحلون اسم السّنّة وليسوا عليها إلّا الأقلّ فلا يتمّ
لهم ولا لمن بعدهم شيء من أمرهم. انتهى
.
(1/410)
الفصل الرابع
والخمسون في ابتداء الدول والأمم وفي الكلام على الملاحم والكشف عن
مسمى الجفر
اعلم أنّ من خواصّ النّفوس البشريّة التّشوّق إلى عواقب أمورهم وعلم ما
يحدث لهم من حياة وموت وخير وشرّ سيّما الحوادث العامّة كمعرفة ما بقي
من الدّنيا ومعرفة مدد الدّول أو تفاوتها والتّطلع إلى هذا طبيعة
مجبولون عليها ولذلك تجد الكثير من النّاس يتشوّقون إلى الوقوف على ذلك
في المنام والأخبار من الكهّان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك والسّوقة
معروفة ولقد نجد في المدن صنفا من النّاس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم
بحرص النّاس عليه فينتصبون لهم في الطّرقات والدّكاكين يتعرّضون لمن
يسألهم عنه فتغدو عليهم وتروح نسوان المدينة وصبيانها وكثير من ضعفاء
العقول يستكشفون عواقب أمرهم في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة
والعداوة وأمثال ذلك ما بين خطّ في الرّمل ويسمّونه المنجّم وطرق
بالحصى والحبوب ويسمّونه الحاسب ونظر في المرايا والمياه ويسمّونه ضارب
المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرّر في الشّريعة من
ذمّ ذلك وإنّ البشر محجوبون عن الغيب إلّا من أطلعه الله عليه من عنده
في نوم أو ولاية. وأكثر ما يعتني [1] بذلك ويتطلّع إليه الأمراء
والملوك في آماد دولتهم ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه وكلّ
أمّة من الأمم يوجد لهم كلام من كاهن أو منجّم أو وليّ في مثل ذلك من
ملك يرتقبونه أو دولة يحدّثون أنفسهم بها وما يحدث لهم من الحرب
والملاحم ومدّة بقاء الدّولة وعدد الملوك فيها والتّعرّض لأسمائهم
ويسمّى مثل ذلك الحدثان وكان في العرب الكهّان
__________
[1] الأصح أن يقول: وأكثر من يعتني.
(1/411)
والعرّافون يرجعون إليهم في ذلك وقد أخبروا
بما سيكون للعرب من الملك والدّولة كما وقع لشقّ وسطيح في تاويل رؤيا
ربيعة بن نصر من ملوك اليمن أخبرهم بملك الحبشة بلادهم ثمّ رجوعها
إليهم ثمّ ظهر الملك والدّولة للعرب من بعد ذلك وكذا تأويل سطيح لرؤيا
الموبذان حيث بعث إليه كسرى بها مع عبد المسيح وأخبرهم بظهور دولة
العرب. وكذا كان في جيل البربر كهّان من أشهرهم موسى بن صالح من بني
يفرن ويقال من غمرة له كلمات حدثانيّة على طريقة الشّعر برطانتهم وفيها
حدثان كثير ومعظمه فيما يكون. لزناتة من الملك والدّولة بالمغرب وهي
متداولة بين أهل الجيل وهم يزعمون تارة أنّه وليّ وتارة أنّه كاهن وقد
يزعم بعض مزاعمهم أنّه كان نبيّا لأنّ تاريخه عندهم قبل الهجرة بكثير
والله أعلم. وقد يستند الجيل إلى خبر الأنبياء إن كان لعهدهم كما وقع
لبني إسرائيل فإنّ أنبياءهم المتعاقبين فيهم كانوا يخبرونهم بمثله عند
ما يعنونهم في السّؤال عنه. وأمّا في الدّولة الإسلاميّة فوقع منه كثير
فيما يرجع إلى بقاء الدّنيا ومدّتها على العموم وفيما يرجع إلى الدّولة
وأعمارها على الخصوص وكان المعتمد في ذلك في صدر الإسلام لآثار منقولة
عن الصّحابة وخصوصا مسلمة بني إسرائيل مثل كعب الأخبار ووهب بن منبّه
وأمثالهما وربّما اقتبسوا بعض ذلك من ظواهر مأثورة وتأويلات محتملة.
ووقع لجعفر وأمثاله من أهل البيت كثير من ذلك مستندهم فيه والله أعلم
الكشف بما كانوا عليه من الولاية وإذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من
الأولياء في ذويهم وأعقابهم وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ فيكم
محدّثين» فهم أولى النّاس بهذه الرّتب الشّريفة والكرامات الموهوبة.
وأمّا بعد صدر الملّة وحين علق النّاس على العلوم والاصطلاحات وترجمت
كتب الحكماء إلى اللّسان العربيّ. فأكثر معتمدهم في ذلك كلام المنجّمين
في الملك والدّول وسائر الأمور العامّة من القرانات وفي المواليد
والمسائل وسائر الأمور الخاصّة من الطّوالع لها وهي شكل الفلك عند
حدوثها فلنذكر الآن ما وقع لأهل
(1/412)
الأثر في ذلك ثمّ نرجع إلى كلام المنجّمين.
أمّا أهل الأثر فلهم في مدّة الملل وبقاء الدّنيا على ما وقع في كتاب
السّهيليّ فإنّه نقل عن الطّبريّ ما يقتضي أنّ مدّة بقاء الدّنيا منذ
الملّة خمسمائة سنة ونقض ذلك بظهور كذبه ومستند الطّبريّ في ذلك أنّه
نقل عن ابن عبّاس أنّ الدّنيا جمعة من جمع الآخرة ولم يذكر لذلك دليلا.
وسرّه والله أعلم تقدير الدّنيا بأيّام خلق السّماوات والأرض وهي سبعة
ثمّ اليوم بألف سنة لقوله: «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ
سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» 22: 47 وقد ثبت في الصّحيحين: أنّ رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم قال: «أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر
إلى غروب الشّمس» وقال: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» وأشار بالسّبّابة
والوسطى وقدّر ما بين صلاة العصر وغروب الشّمس حين صيرورة ظلّ كلّ شيء
مثليه يكون على التّقريب نصف سبع، وكذلك وصل الوسطى على السّبّابة
فتكون هذه المدّة نصف سبع الجمعة كلّها وهو خمسمائة سنة ويؤيّده قوله
صلّى الله عليه وسلّم: «لن يعجز الله أن يؤخّر هذه الأمّة نصف يوم»
فدلّ ذلك على أنّ مدّة الدّنيا قبل الملّة خمسة آلاف وخمسمائة سنة وعن
وهب بن منبّه أنّها خمسة آلاف وستّمائة سنة أعني الماضي وعن كعب أنّ
مدّة الدّنيا كلّها ستّة آلاف سنة قال السّهيليّ: «وليس في الحديثين ما
يشهد لشيء ممّا ذكره مع وقوع الوجود بخلافه» . فأمّا قوله: «لن يعجز
الله ان يؤخّر هذه الأمّة نصف يوم» فلا يقتضي نفي الزّيادة على النّصف
وأمّا قوله: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» فإنّما فيه الإشارة إلى القرب
وأنّه ليس بينه وبين السّاعة نبيّ غيره ولا شرع غير شرعه ثمّ رجع
السّهيليّ إلى تعيين أمد الملّة من مدرك آخر لو ساعده التّحقيق وهو
أنّه جمع الحروف المقطّعة في أوائل السّور بعد حذف المكرّر قال وهي
أربعة عشر حرفا يجمعها قولك (ألم يسطع نص حق كره) فأخذ عددها بحساب
الجمّل فكان سبعمائة وثلاثة [1] أضافه إلى المنقضي من الألف الآخر قبل
بعثته فهذه هي مدّة
__________
[1] هذا العدد غير مطابق كما أن المترجم التركي لم يطابق في قوله 930
وإنما المطابق للحروف المذكورة 692
(1/413)
الملّة قال ولا يبعد ذلك أن يكون من
مقتضيات هذه الحروف وفوائدها قلت:
وكونه لا يبعد لا يقتضي ظهوره ولا التّعويل عليه. والّذي حمل السّهيليّ
على ذلك إنّما هو ما وقع في كتاب السّير لابن إسحاق في حديث ابني أخطب
من أخبار اليهود وهما أبو ياسر وأخوه حيّ حين سمعا من الأحرف المقطّعة
(الم 2: 1) وتأوّلاها على بيان المدّة بهذا الحساب فبلغت إحدى وسبعين
فاستقلّا المدّة وجاء حيّ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسأله: هل
مع هذا غيره؟ فقال (المصّ) ثمّ استزاد (الرّثم) ثمّ استزاد (المرّ)
فكانت إحدى وسبعين ومائتين فاستطال المدّة وقال:
قد لبّس علينا أمرك يا محمّد حتّى لا ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ثمّ
ذهبوا عنه وقال لهم أبو ياسر ما يدريكم لعلّه أعطى عددها كلّها تسعمائة
وأربع سنين قال ابن إسحاق فنزل قوله تعالى: «مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ
هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ» 3: 7. 1 هـ-. ولا يقوم
من القصّة دليل على تقدير الملّة بهذا العدد لأنّ دلالة هذه الحروف على
تلك الأعداد ليست طبيعيّة ولا عقليّة وإنّما هي بالتّواضع والاصطلاح
الّذي يسمّونه حساب الجمّل نعم إنّه قديم مشهور وقدم الاصطلاح لا يصير
حجّة وليس أبو ياسر وأخوه حيّ ممّن يؤخذ رأيه في ذلك دليلا ولا من
علماء اليهود لأنّهم كانوا بادية بالحجاز غفلا عن الصّنائع والعلوم
حتّى عن علم شريعتهم وفقه كتابهم وملّتهم وإنّما يتلقّفون مثل هذا
الحساب كما تتلقّفه العوامّ في كلّ ملّة فلا ينهض للسّهيليّ دليل على
ما ادّعاه من ذلك. ووقع في الملّة في حدثان دولتها على الخصوص مسند من
الأثر إجماليّ في حديث خرّجه أبو داود عن حذيفة بن اليمان من طريق شيخه
محمّد بن يحيى الذّهبيّ عن سعيد بن أبي مريم عن عبد الله بن فروخ عن
أسامة بن زيد اللّيثيّ عن أبي قبيصة بن ذؤيب عن أبيه قال قال حذيفة بن
اليمان: والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه والله ما ترك رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم من قائد فئة إلى أن تنقضي الدّنيا لا يبلغ من معه
ثلاثمائة فصاعدا إلّا قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته وسكت عليه
أبو
(1/414)
داود وقد تقدّم أنّه قال في رسالته ما سكت
عليه في كتابه فهو صالح وهذا الحديث إذا كان صحيحا فهو مجمل ويفتقر في
بيان إجماله وتعيين مبهماته إلى آثار أخرى يجوّد أسانيدها. وقد وقع
إسناد هذا الحديث في غير كتاب السّنن على غير هذا الوجه فوقع في
الصّحيحين من حديث حذيفة أيضا قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فينا خطيبا فما ترك شيئا يكون في مقامه ذاك إلى قيام السّاعة إلّا حدّث
عنه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علّمه أصحابه هؤلاء. 1 هـ-. ولفظ
البخاريّ: ما ترك شيئا إلى قيام السّاعة إلّا ذكره وفي كتاب التّرمذيّ
من حديث أبي سعيد الخدريّ قال صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
يوما صلاة العصر بنهار ثمّ قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام
السّاعة إلّا أخبرنا به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه 1 هـ- وهذه
الأحاديث كلّها محمولة على ما ثبت في الصّحيحين من أحاديث الفتن
والاشتراط لا غير لأنّه المعهود من الشّارع صلوات الله وسلامه عليه في
أمثال هذه العمومات وهذه الزّيادة الّتي تفرّد بها أبو داود في هذه
الطّريق شاذّة منكرة مع أنّ الأئمّة اختلفوا في رجاله فقال ابن أبي
مريم في ابن فروخ أحاديثه مناكير. وقال البخاريّ يعرف منه وينكر وقال
ابن عديّ أحاديثه غير محفوظة وأسامة بن زيد وإن خرّج له في الصّحيحين
ووثّقه ابن معين فإنّما خرّج له البخاريّ استشهادا وضعّفه يحيى بن سعيد
وأحمد بن حنبل وقال ابن حاتم يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وأبو قبيصة ابن
ذؤيب مجهول. فتضعف هذه الزّيادة الّتي وقعت لأبي داود في هذا الحديث من
هذه الجهات مع شذوذها كما مرّ. وقد يستندون في حدثان الدّول على الخصوص
إلى كتاب الجفر ويزعمون أنّ فيه علم ذلك كلّه من طريق الآثار والنّجوم
لا يزيدون على ذلك ولا يعرفون أصل ذلك ولا مستنده واعلم أنّ كتاب الجفر
كان أصله أنّ هارون بن سعيد العجليّ وهو رأس الزّيديّة كان له كتاب
يرويه عن جعفر الصّادق وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم ولبعض
الأشخاص منهم على الخصوص وقع ذلك لجعفر ونظائره
(1/415)
من رجالاتهم على طريق الكرامة والكشف الّذي
يقع لمثلهم من الأولياء وكان مكتوبا عند جعفر في جلد ثور صغير فرواه
عنه هارون العجليّ وكتبه وسمّاه الجفر باسم الجلد الّذي كتب فيه لأنّ
الجفر في اللّغة هو الصّغير وصار هذا الاسم علما على هذا الكتاب عندهم
وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مرويّة عن جعفر
الصّادق. وهذا الكتاب لم تتّصل روايته ولا عرف عينه وإنّما يظهر منه
شواذّ من الكلمات لا يصحبها دليل ولو صحّ السّند إلى جعفر الصّادق لكان
فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه فهم أهل الكرامات وقد صحّ عنه
أنّه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصحّ كما يقول وقد حذّر
يحيى ابن عمه زيد من مصرعه وعصاه فخرج وقتل بالجوزجان كما هو معروف.
وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنّك بهم علما ودينا وآثارا من
النّبوة وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطّيّبة وقد ينقل
بين أهل البيت كثير من هذا الكلام غير منسوب إلى أحد وفي أخبار دولة
العبيديّين كثير منه وانظر ما حكاه ابن الرّقيق في لقاء أبي عبد الله
الشّيعيّ لعبيد الله المهديّ مع ابنه محمّد الحبيب وما حدّثاه به وكيف
بعثاه إلى ابن حوشب داعيتهم باليمن فأمره بالخروج إلى المغرب وبثّ
الدّعوة فيه على علم لقّنه أنّ دعوته تتمّ هناك وأنّ عبيد الله لمّا
بنى المهديّة بعد استفحال دولتهم بإفريقيّة قال: «بنيتها ليعتصم بها
الفواطم ساعة من نهار» وأراهم موقف صاحب الحمار أبي يزيد بالهديّة وكان
يسأل عن منتهى موقفه حتّى جاءه الخبر ببلوغه إلى المكان الّذي عيّنه
جدّه أبو عبيد الله فأيقن بالظّفر وبرز من البلد فهزمه واتّبعه إلى
ناحية الزّاب فظفر به وقتله ومثل هذه الأخبار كثيرة.
وأمّا المنجّمون فيستندون في حدثان الدّول إلى الأحكام النّجوميّة أمّا
في الأمور العامّة مثل الملك والدّول فمن القرانات وخصوصا بين
العلويّين وذلك أنّ العلويّين زحل والمشتري يقترنان في كلّ عشرين سنة
مرّة ثمّ يعود القران إلى
(1/416)
برج آخر في تلك المثلّثة من التّثليث
الأيمن ثمّ بعده إلى آخر كذلك إلى أن يتكرّر في المثلّثة الواحدة اثنتي
عشرة مرّة تستوي بروجه الثّلاثة في ستّين سنة ثمّ يعود فيستوي بها في
ستين سنة ثمّ يعود ثالثة ثمّ رابعة فيستوي في المثلّثة باثنتي عشرة
مرّة وأربع عودات في مائتين وأربعين سنة ويكون انتقاله في كلّ برج على
التّثليث الأيمن وينتقل من المثلّثة إلى المثلّثة الّتي تليها أعني
البرج الّذي يلي البرج الأخير من القران الّذي قبله في المثلّثة وهذا
القران الّذي هو قران العلويّين ينقسم إلى كبير وصغير ووسط فالكبير هو
اجتماع العلويّين في درجة واحدة من الفلك إلى أن يعود إليها بعد
تسعمائة وستّين سنة مرّة واحدة والوسط هو اقتران العلويّين في كلّ
مثلّثة اثنتي عشرة مرّة وبعد مائتين وأربعين سنة ينتقل إلى مثلّثة أخرى
والصّغير هو اقتران العلويّين في درجة برج وبعد عشرين سنة يقترنان في
برج آخر على تثليثه الأيمن في مثل درجة أو دقائقه مثال ذلك وقع القران
يكون أوّل دقيقة من الحمل وبعد عشرين يكون في أوّل دقيقة من الأسد وهذه
كلها ناريّة وهذا كلّه قران صغير ثمّ يعود إلى أوّل الحمل بعد ستّين
سنة ويسمّى دور القران وعود القران وبعد مائتين وأربعين ينتقل من
النّاريّة إلى التّرابيّة لأنّها بعدها وهذا قران وسط ثمّ ينتقل إلى
الهوائيّة ثمّ المائيّة ثمّ يرجع إلى أوّل الحمل في تسعمائة وستّين سنة
وهو الكبير والقران الكبير يدلّ على عظام الأمور مثل تغيير الملك
والدّولة وانتقال الملك من قوم إلى قوم والوسط على ظهور المتغلّبين
والطّالبين للملك والصّغير على ظهور الخوارج والدّعاة وخراب المدن أو
عمرانها ويقع في أثناء هذه القرانات قران النّحسين في برج السّرطان في
كلّ ثلاثين سنة مرّة ويسمّى الرّابع وبرج السّرطان هو طالع العالم وفيه
وبال زحل وهبوط المرّيخ فتعظم دلالة هذا القران في الفتن والحروب وسفك
الدّماء وظهور الخوارج وحركة العساكر وعصيان الجند والوباء والقحط
ويدوم ذلك أو ينتهي على قدر السّعادة والنّحوسة في وقت قرانهما على قدر
تيسير الدّليل فيه. قال جراس بن
(1/417)
أحمد الحاسب في الكتاب الّذي ألّفه لنظام
الملك ورجوع المرّيخ إلى العقرب له أثر عظيم في الملّة الإسلاميّة
لأنّه كان دليلها فالمولد النّبويّ كان عند قران العلويّين ببرج العقرب
فلمّا رجع هنالك حدث التّشويش على الخلفاء وكثر المرض في أهل العلم
والدّين ونقصت أحوالهم وربّما انهدم بعض بيوت العبادة وقد يقال إنّه
كان عند قتل عليّ رضي الله عنه ومروان من بني أميّة والمتوكّل من بني
العبّاس فإذا روعيت هذه الأحكام مع أحكام القرانات كانت في غاية
الإحكام وذكر شاذان البلخيّ: أنّ الملّة تنتهي إلى ثلاثمائة وعشرين.
وقد ظهر كذب هذا القول. وقال أبو معشر: يظهر بعد المائة والخمسين منها
اختلاف كثير ولم يصحّ ذلك. وقال خراش: رأيت في كتب القدماء أنّ
المنجّمين أخبروا كسرى عن ملك العرب وظهور النّبوة فيهم. وأنّ دليلهم
الزّهرة وكانت في شرفها فيبقى الملك فيهم أربعين سنة وقال أبو معشر في
كتاب القرانات القسمة إذا انتهت إلى السّابعة والعشرين من الحوت فيها
شرف الزّهرة ووقع القران مع ذلك ببرج العقرب وهو دليل العرب ظهرت حينئذ
دولة العرب وكان منهم نبيّ ويكون قوّة ملكه ومدّته على ما بقي من درجات
شرف الزّهرة وهي إحدى عشرة درجة بتقريب من برج الحوت ومدّة ذلك ستّمائة
وعشر سنين وكان ظهور أبي مسلم عند انتقال الزّهرة ووقوع القسمة أوّل
الحمل وصاحب الجدّ المشتري. وقال يعقوب بن إسحاق الكنديّ إنّ مدّة
الملّة تنتهي إلى ستّمائة وثلاث وتسعين سنة. قال: لأنّ الزّهرة كانت
عند قران الملّة في ثمان وعشرين درجة وثلاثين دقيقة من الحوت فالباقي
إحدى عشرة درجة وثمان عشرة دقيقة ودقائقها ستّون فيكون ستّمائة وثلاثا
وتسعين سنة. قال: وهذه مدّة الملّة باتّفاق الحكماء ويعضده الحروف
الواقعة في أوّل السّور بحذف المكرّر واعتباره بحساب الجمّل. قلت وهذا
هو الّذي ذكره السّهيليّ والغالب أنّ الأوّل هو مستند السّهيليّ فيما
نقلناه عنه. قال خراش [1] :
__________
[1] وفي نسخة أخرى: جراس.
(1/418)
«سأل هرمز إفريد الحكيم عن مدّة أردشير
وولده ملوك السّاسانيّة» فقال:
«دليل ملكه المشتري» وكان في شرفه فيعطى أطول السّنين وأجودها أربعمائة
وسبعا وعشرين سنة ثمّ تزيد الزّهرة وتكون في شرفها وهي دليل العرب
فيملكون لأنّ طالع القران الميزان وصاحبه الزّهرة وكانت عند القران في
شرفها فدلّ أنّهم يملكون ألف سنة وستّين سنة. وسأل كسرى أنوشروان وزيره
بزرجمهر الحكيم عن خروج الملك من فارس إلى العرب فأخبره: أنّ القائم
منهم يولد لخمس وأربعين من دولته ويملك المشرق والمغرب والمشتري يغوص
إلى الزّهرة وينتقل القران من الهوائيّة إلى العقرب وهو مائيّ وهو دليل
العرب فهذه الأدلّة تفضي للملّة بمدة دور الزّهرة وهي ألف وستّون سنة.
وسأل كسرى أبرويز أليوس الحكيم عن ذلك فقال مثل قول بزرجمهر. وقال
توفيل الرّوميّ المنجّم في أيّام بني أميّة: إنّ ملّة الإسلام تبقى
مدّة القران الكبير تسعمائة وستّين سنة فإذا عاد القران إلى برج العقرب
كما كان في ابتداء الملّة وتغيّر وضع الكواكب عن هيئتها في قران الملّة
فحينئذ إمّا أن يفتر العمل به أو يتجدّد من الأحكام ما يوجب خلاف
الظّنّ. قال خراش: واتّفقوا على أنّ خراب العالم يكون باستيلاء الماء
والنّار حتّى تهلك سائر المكوّنات وذلك عند ما يقطع قلب الأسد أربعا
وعشرين درجة وهي حدّ المرّيخ، وذلك بعد مضيّ تسعمائة وستّين سنة. وذكر
خراش: أنّ ملك زابلستان بعث إلى المأمون بحكيمه ذوبان أتحفه به في
هديّة وأنّه تصرّف للمأمون في الاختيارات بحروب أخيه وبعقد اللّواء
لطاهر وأنّ المأمون أعظم حكمته فسأله عن مدّة ملكهم فأخبره بانقطاع
الملك من عقبه واتّصاله في ولد أخيه وأنّ العجم يتغلّبون على الخلافة
من الدّيلم في دولة سنة خمسين ويكون ما يريده الله ثمّ يسوء حالهم ثمّ
تظهر الترك من شمال المشرق فيملكون إلى الشّام والفرات وسيحون وسيملكون
بلاد الرّوم ويكون ما يريده الله فقال له المأمون:
من أين لك هذا؟ فقال: من كتب الحكماء ومن أحكام صصّة بن داهر الهنديّ
(1/419)
الّذي وضع الشّطرنج. قلت والتّرك الّذين
أشار إلى ظهورهم بعد الدّيلم هم السّلجوقيّة وقد انقضت دولتهم أوّل
القرن السّابع. قال خراش: وانتقال القران إلى المثلّثة المائيّة من برج
الحوت يكون سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة ليزدجرد وبعدها إلى برج العقرب
حيث كان قران الملّة سنة ثلاث وخمسين. قال: والّذي في الحوت هو أوّل
الانتقال والّذي في العقرب يستخرج منه دلائل الملّة. قال:
وتحويل السّنة الأولى من القران الأوّل في المثلّثات المائيّة في ثاني
رجب سنة ثمان وستّين وثمانمائة ولم يستوف الكلام على ذلك. وأمّا مستند
المنجّمين في دولة على الخصوص فمن القران الأوسط وهيئة الفلك عند وقوعه
لأنّ له دلالة عندهم على حدوث الدّولة وجهاتها من العمران والقائمين
بها من الأمم وعدد ملوكهم وأسمائهم وأعمارهم ونحلهم وأديانهم وعوائدهم
وحروبهم كما ذكر أبو معشر في كتابه في القرانات وقد توجد هذه الدّلالة
من القران الأصغر إذا كان الأوسط دالّا عليه فمن يوجد الكلام في الدّول
وقد كان يعقوب بن إسحاق الكنديّ منجّم الرّشيد والمأمون وضع في
القرانات الكائنة في الملّة كتابا سمّاه الشّيعة بالجفر باسم كتابهم
المنسوب إلى جعفر الصّادق وذكر فيه فيما يقال حدثان: دولة بني العبّاس
وأنّها نهايته وأشار إلى انقراضها والحادثة على بغداد أنّها تقع في
انتصاف المائة السّابعة وأنّه بانقراضها يكون انقراض الملّة ولم نقف
على شيء من خبر هذا الكتاب ولا رأينا من وقف عليه ولعلّه غرق في كتبهم
الّتي طرحها هلاكو ملك التّتر في دجلة عند استيلائهم على بغداد وقتل
المستعصم آخر الخلفاء وقد وقع بالمغرب جزء منسوب إلى هذا الكتاب
يسمّونه الجفر الصّغير والظّاهر أنّه وضع لبني عبد المؤمن لذكر
الأوّلين من ملوك الموحّدين فيه على التّفصيل ومطابقة من تقدّم عن ذلك
من حدثانه وكذّب ما بعده وكان في دولة بني العبّاس من بعد الكنديّ
منجّمون وكتب في الحدثان وانظر ما نقله الطّبريّ في أخبار المهديّ عن
أبي بديل من أصحاب صنائع الدّولة قال بعث إليّ الرّبيع والحسن في
غزاتهما مع
(1/420)
الرّشيد أيّام أبيه فجئتهما جوف اللّيل
فإذا عندهما كتاب من كتب الدّولة يعني الحدثان وإذا مدّة المهديّ فيه
عشر سنين فقلت: هذا الكتاب لا يخفى على المهديّ وقد مضى من دولته ما
مضى فإذا وقف عليه كنتم قد نعيتم إليه نفسه.
قالا: فما الحيلة فاستدعيت عنبسة الورّاق مولى آل بديل وقلت له انسخ
هذه الورقة واكتب مكان عشر أربعين ففعل فو الله لولا أني رأيت العشرة
في تلك الورقة والأربعين في هذه ما كنت أشكّ أنّها هي ثمّ كتب النّاس
من بعد ذلك في حدثان الدّول منظوما ومنثورا ورجزا ما شاء الله أن
يكتبوه وبأيدي النّاس متفرّقة كثير منها وتسمّى الملاحم. وبعضها في
حدثان الملّة على العموم وبعضها في دولة على الخصوص وكلّها منسوبة إلى
مشاهير من أهل الخليقة وليس منها أصل يعتمد على روايته عن واضعه
المنسوب إليه فمن هذه الملاحم بالمغرب قصيدة ابن مرّانة من بحر الطّويل
على رويّ الرّاء وهي متداولة بين النّاس وتحسب العامّة أنّها من
الحدثان العامّ فيطلقون الكثير منها على الحاضر والمستقبل والّذي
سمعناه من شيوخنا أنّها مخصوصة بدولة لمتونة لأنّ الرّجل كان قبيل
دولتهم وذكر فيها استيلاءهم على سبتة من يد موالي بني حمّود وملكهم
لعدوة الأندلس ومن الملاحم بيد أهل المغرب أيضا قصيدة تسمّى التّبعيّة
أوّلها:
طربت وما ذاك منّي طرب ... وقد يطرب الطّائر المغتصب
وما ذاك منّي للهو أراه ... ولكن لتذكار بعض السّبب
قريبا من خمسمائة بيت أو ألف فيما يقال ذكر فيها كثيرا من دولة
الموحّدين وأشار فيها إلى الفاطميّ وغيره والظّاهر أنّها مصنوعة ومن
الملاحم بالمغرب أيضا ملعّبة من الشّعر الزّجليّ منسوبة لبعض اليهود
ذكر فيها أحكام القرانات لعصره العلويّين والنّحسين وغيرهما وذكر ميتته
قتيلا بفاس وكان كذلك فيما زعموه وأوّله:
في صبغ ذا الأزرق لشرفه خيارا ... فافهموا يا قوم هذي الاشارا
(1/421)
نجم زحل أخبر بذي العلاما ... وبدّل الشكلا
وهي سلاما
شاشية زرقا بدل العماما ... وشاش أزرق بدل الغرارا
يقول في آخره
قد تم ذا التجنيس لإنسان يهودي ... يصلب في بلدة فاس في يوم عيد
حتى يجيه الناس من البوادي ... وقتله يا قوم على الفراد
وأبياته نحو الخمسمائة وهي في القرانات الّتي دلّت على دولة الموحّدين
ومن ملاحم المغرب أيضا قصيدة من عروض المتقارب على رويّ الباء في حدثان
دولة بني أبي حفص بتونس من الموحّدين منسوبة لابن الأبّار. وقال لي
قاضي قسنطينيّة الخطيب الكبير أبو عليّ بن باديس وكان بصيرا بما يقوله
وله قدم في التّنجيم فقال لي: إنّ هذا ابن الأبّار ليس هو الحافظ
الأندلسيّ الكاتب مقتول المستنصر وإنّما هو رجل خيّاط من أهل تونس
تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ وكان والدي رحمه الله تعالى ينشد هذه
الأبيات من هذه الملحمة وبقي بعضها في حفظي مطلعها:
عذيري من زمن قلّب ... يغرّ ببارقه الأشنب
ومنها.
ويبعث من جيشه قائدا ... ويبقى هناك على مرقب
فتأتي إلى الشّيخ أخباره ... فيقبل كالجمل الأجرب
ويظهر من عدله سيرة ... وتلك سياسة مستجلب
ومنها في ذكر أحوال تونس على العموم.
فإمّا [1] رأيت الرّسوم امّحت ... ولم يرع حقّ لذي منصب
__________
[1] قوله فإما رأيت أصله فان رأيت زيدت ما وأدغمت في إن الشرطية
المحذوف نونها خطأ وفي نسخة فلما رأيت والأولى هي الموجودة في النسخة
التونسية. 1 هـ-. قاله نصر.
(1/422)
فخذ في التّرحّل عن تونس ... وودّع معالمها
واذهب
فسوف تكون بها فتنة ... تضيف البريء إلى المذنب
ووقفت بالمغرب على ملحمة أخرى في دولة بني أبي حفص هؤلاء بتونس فيها
بعد السّلطان أبي يحيى الشّهير عاشر ملوكهم ذكر محمّد أخيه من بعده
يقول فيها:
وبعد أبي عبد الإله شقيقه ... ويعرف بالوثّاب في نسخة الأصل
إلّا أنّ هذا الرّجل لم يملكها بعد أخيه وكان يمنيّ بذلك نفسه إلى أن
هلك ومن الملاحم في المغرب أيضا الملعّبة المنسوبة إلى الهوثنيّ [1]
على لغة العامّة في عروض البلد:
دعني بدمعي الهتان ... فترت الأمطار ولم تفتر
واستقت كلها الويدان ... وانى تملى وتغدر
البلاد كلّها تروي ... فأولى بها ميل ما تدري
ما بين الصيف والشتوي ... والعام والربيع تجري
قال حين صحّت الدعوى: ... دعني نبكي ومن عذر
أنادي من ذي الأزمان ... ذا القرن اشتد وتمري
وهي طويلة ومحفوظة بين عامّة المغرب الأقصى والغالب عليها الوضع لأنّه
لم يصحّ منها قول إلّا على تأويل تحرّفه العامّة أو الحارف فيه من
ينتحلها من الخاصّة ووقفت بالمشرق على ملحمة منسوبة لابن العربيّ
الحاتميّ في كلام طويل شبه الألغاز لا يعلم تأويله إلّا الله لتحلّله
إلى أوفاق عدديّة ورموز ملغوزة وأشكال حيوانات تامّة ورءوس مقطّعة
وتماثيل من حيوانات غريبة. وفي آخرها قصيدة على رويّ اللّام والغالب
أنّها كلّها غير صحيحة لأنّها لم تنشأ عن أصل علميّ
__________
[1] وفي نسخة أخرى الهوشنى.
(1/423)
من نجامة ولا غيرها وسمعت أيضا أنّ هناك
ملاحم أخرى منسوبة لابن سيناء وابن عقاب وليس في شيء منها دليل على
الصّحّة لأنّ ذلك إنّما يؤخذ من القرانات ووقفت بالمشرق أيضا على ملحمة
من حدثان دولة التّرك منسوبة إلى رجل من الصّوفيّة يسمّى الباجربقيّ
وكلّها إلغاز بالحروف أوّلها.
إن شئت تكسف سرّ الجفر يا سائلي ... من علم جفر وصيّ والد الحسن
فافهم وكن واعيا حرفا وجملته ... والوصف فافهم كفعل الحاذق الفطن
أمّا الّذي قبل عصري لست أذكره ... لكنّني أذكر الآتي من الزّمن
بشهر بيبرس يبقى بعد خمستها ... بحاء ميم بطيش نام في الكنن
شين له أثر من تحت سرّته ... له القضاء قضى أي ذلك المنن
فمصر والشّام مع أرض العراق له ... وأذربيجان في ملك إلى اليمن
ومنها:
وآل بوران لما نال طاهرهم ... الفاتك الباتك المعنيّ بالسمن
لخلع سين ضعيف السّن سين أتى ... لا لوفاق ونوت ذي قرن
قوم شجاع له عقل ومشورة ... يبقى بحاء وأين بعد ذو سمن
ومنها:
من بعد باء من الأعوام قتلته ... يلي المشورة ميم الملك ذو اللسن
ومنها:
هذا هو الأعرج الكلبيّ فأعن به ... في عصره فتن ناهيك من فتن
يأتي من الشرق في جيش يقدّمهم ... عار عن القاف قاف جدّ بالفتن
بقتل دال ومثل الشام أجمعها ... أبدت بشجو على الأهلين والوطن
إذا أتى زلزلت يا ويح مصر من ... الزلزال ما زال حاء غير مقتطن
طاء وظاء وعين كلّهم حبسوا ... هلكا وينفق أموالا بلا ثمن
(1/424)
يسير القاف قافا عند جمعهم هوّن به إنّ ذاك
الحصن في سكن وينصبون أخاه وهو صالحهم لا سلّم الألف سين لذاك بني تمّت
ولايتهم بالحاء لا أحد من السنين يداني الملك في الزمن
ويقال إنه أشار إلى الملك الظاهر وقدوم أبيه عليه بمصر:
يأتي إليه أبوه بعد هجرته ... وطول غيبته والشّظف والرزن
وأبياتها كثيرة والغالب أنّها موضوعة ومثل صنعتها كان في القديم كثير
ومعروف الانتحال.
حكى المؤرّخون لأخبار بغداد أنّه كان بها أيّام المقتدر ورّاق ذكيّ
يعرف بالدّاناليّ [1] يبلّ الأوراق ويكتب فيها بخطّ عتيق يرمز فيه
بحروف من أسماء أهل الدّولة ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال
الرّفعة والجاه كأنّها ملاحم ويحصل على ما يريده منهم من الدّنيا وإنّه
وضع في بعض دفاتره ميما مكرّرة ثلاث مرّات وجاء به إلى مفلح مولى
المقتدر. فقال له: هذا كناية عنك وهو مفلح مولى المقتدر وذكر عنه ما
يرضاه ويناله من الدّولة ونصب لذلك علامات يموّه بها عليه فبذل له ما
أغناه به ثمّ وضعه للوزير ابن القاسم بن وهب على مفلح هذا وكان معزولا
فجاءه بأوراق مثلها وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف وبعلامات ذكرها
وأنّه يلي الوزارة للثّاني عشر من الخلفاء وتستقيم الأمور على يديه
ويقهر الأعداء وتعمر الدّنيا في أيّامه وأوقف مفلحا هذا على الأوراق
وذكر فيها كوائن أخرى وملاحم من هذا النّوع ممّا وقع وممّا لم يقع ونسب
جميعه إلى دانيال فأعجب به مفلح. ووقف عليه المقتدر واهتدى من تلك
الأمور والعلامات إلى ابن وهب وكان ذلك سببا لوزارته بمثل هذه الحيلة
العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز والظّاهر أنّ هذه الملحمة
الّتي ينسبونها إلى
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الدنيالي.
(1/425)
الباجربقيّ من هذا النّوع. ولقد سألت أكمل الدّين ابن شيخ الحنفيّة من
العجم بالدّيار المصريّة عن هذه الملحمة وعن هذا الرّجل الّذي تنسب
إليه من الصّوفيّة وهو الباجربقيّ وكان عارفا بطرائقهم فقال كان من
القلندريّة المبتدعة في حلق اللّحية وكان يتحدّث عمّا يكون بطريق الكشف
ويومي إلى رجال معيّنين عنده ويلغز عليهم بحروف يعيّنها في ضمنها لمن
يراه منهم وربّما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها فتنوقلت
عنه وولع النّاس بها وجعلوها ملحمة مرموزة وزاد فيها الخرّاصون من ذلك
الجنس في كلّ عصر وشغل العامّة بفكّ رموزها وهو أمر ممتنع إذ الرّمز
إنّما يهدي إلى كشفه قانون يعرف قبله ويوضع له وأمّا مثل هذه الحروف
فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النّظم لا يتجاوزوه فرأيت من
كلام هذا الرّجل الفاضل شفاء لما كان في النّفس من أمر هذه الملحمة
«وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا الله 7: 43» والله
سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق. |