تاريخ ابن خلدون

الباب الرابع من الكتاب الأول في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق
الفصل الأول في أن الدول من المدن والأمصار وأنها إنما توجد ثانية عن الملك
وبيانه أنّ البناء واختطاط المنازل إنّما من منازع الحضارة الّتي يدعو إليها التّرف والدّعة كما قدّمناه وذلك متأخّر عن البداوة ومنازعها وأيضا فالمدن

(1/426)


والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير وهي موضوعة للعموم لا للخصوص فتحتاج إلى اجتماع الأيدي وكثرة التّعاون وليست من الأمور الضّروريّة للنّاس الّتي تعمّ بها البلوى حتّى يكون نزوعهم إليها اضطرارا بل لا بدّ من إكراههم على ذلك وسوقهم إليه مضطهدين بعصا الملك أو مرغّبين في الثّواب والأجر الّذي لا يفي بكثرته إلّا الملك والدّولة. فلا بدّ في تمصير الأمصار واختطاط المدن من الدّولة والملك. ثمّ إذا بنيت المدينة وكمل تشييدها بحسب نظر من شيّدها وبما اقتضته الأحوال السّماويّة والأرضيّة فيها فعمر الدّولة حينئذ عمر لها فإن كان عمر الدّولة قصيرا وقف الحل فيها عند انتهاء الدّولة وتراجع عمرانها وخربت وإن كان أمد الدّولة طويلا ومدّتها منفسحة فلا تزال المصانع فيها تشاد والمنازل الرّحيبة تكثر وتتعدّد ونطاق الأسواق يتباعد وينفسح إلى أن تتّسع الخطّة وتبعد المسافة وينفسح ذرع المساحة كما وقع ببغداد وأمثالها. ذكر الخطيب في تأريخه أنّ الحمّامات بلغ عددها ببغداد لعهد المأمون خمسة وستّين ألف حمّام وكانت مشتملة على مدن وأمصار متلاصقة ومتقاربة تجاوز الأربعين ولم تكن مدينة وحدها يجمعها سور واحد لإفراط العمران وكذا حال القيروان وقرطبة والمهديّة في الملّة الإسلاميّة وحال مصر القاهرة بعدها فيما بلغنا لهذا العهد وأمّا بعد انقراض الدّولة المشيّدة للمدينة فإمّا أن يكون لضواحي تلك المدينة وما قاربها من الجبال والبسائط بادية يمدّها العمران دائما فيكون ذلك حافظا لوجودها ويستمرّ عمرها بعد الدّولة كما تراه بفاس وبجاية من المغرب وبعراق العجم من المشرق الموجود لها العمران من الجبال لأنّ أهل البداوة إذا انتهت أحوالهم إلى غاياتها من الرّفه والكسب تدعو إلى الدّعة والسّكون الّذي في طبيعة البشر فينزلون المدن والأمصار ويتأهّلون وأمّا إذا لم يكن لتلك المدينة المؤسّسة مادّة تفيدها العمران بترادف السّاكن من بدوها فيكون انقراض الدّولة خرقا لسياجها فيزول حفظها ويتناقص عمرانها شيئا فشيئا إلى أن يبذعرّ [1]
__________
[1] يتفرق.

(1/427)


ساكنها وتخرب كما وقع بمصر وبغداد والكوفة بالمشرق والقيروان والمهديّة وقلعة بني حمّاد بالمغرب وأمثالها فتفهّمه وربّما ينزل المدينة بعد انقراض مختطّيها الأوّلين ملك آخر ودولة ثانية يتّخذها قرارا وكرسيّا يستغني بها عن اختطاط مدينة ينزلها فتحفظ تلك الدّولة سياجها وتتزايد مبانيها ومصانعها بتزايد أحوال الدّولة الثّانية وترفها وتستجدّ بعمرانها عمرا آخر كما وقع بفاس والقاهرة لهذا العهد والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الفصل الثاني في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار
وذلك أن القبائل والعصائب إذا حصل لهم الملك اضطرّوا للاستيلاء على الأمصار لأمرين أحدهما ما يدعو إليه الملك من الدّعة والرّاحة وحطّ الأثقال واستكمال ما كان ناقصا من أمور العمران في البدو والثّاني دفع ما يتوقّع على الملك من أمر المنازعين والمشاغبين لأنّ المصر الّذي يكون في نواحيهم ربّما يكون ملجأ لمن يروم منازعتهم والخروج عليهم وانتزاع ذلك الملك الّذي سموا إليه من أيديهم فيعتصم بذلك المصر ويغالبهم ومغالبة المصر على نهاية من الصّعوبة والمشقّة والمصر يقوم مقام العساكر المتعدّدة لما فيه من الامتناع ونكاية [1] الحرب من وراء الجدران من غير حاجة إلى كثير عدد ولا عظيم شوكة لأنّ الشّوكة والعصابة إنّما احتيج إليهما في الحرب للثّبات لما يقع من بعد كرّة القوم بعضهم على بعض عند الجولة وثبات هؤلاء بالجدران فلا يضطرّون إلى كبير عصابة ولا عدد فيكون حال هذا الحصن ومن يعتصم به من المنازعين ممّا يفتّ في عضد [2] الأمّة الّتي تروم الاستيلاء ويخضد شوكة استيلائها فإذا كانت بين
__________
[1] نكيت في العدو: أي هزمته وغلبته (لسان العرب) .
[2] فت في عضده: كسر قوته وفرق عنه أعدائه (قاموس) .

(1/428)


أجنابهم أمصار انتظموها في استيلائهم للأمن من مثل هذا الانخرام وإن لم يكن هناك مصر استحدثوه ضرورة لتكميل عمرانهم أوّلا وحطّ أثقالهم وليكون شجا في حلق من يروم العزّة والامتناع عليهم من طوائفهم وعصائبهم فتعيّن أنّ الملك يدعو إلى نزول الأمصار والاستيلاء عليها والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق لا ربّ سواه.
الفصل الثالث في أن المدن العظيمة والهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير
قد قدّمنا ذلك في آثار الدّولة من المباني وغيرها وأنّها تكون على نسبتها وذلك أنّ تشييد المدن إنّما يحصل باجتماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم فإذا كانت الدّولة عظيمة متّسعة الممالك حشر الفعلة من أقطارها وجمعت أيديهم على عملها وربّما استعين في ذلك في أكثر الأمر بالهندام الّذي يضاعف القويّ والقدر في حمل أثقال البناء لعجز القوّة البشريّة وضعفها عن ذلك كالمخّال [1] وغيره وربّما يتوهّم كثير من النّاس إذا نظر إلى آثار الأقدمين ومصانعهم العظيمة مثل إيوان كسرى وأهرام مصر وحنايا المعلّقة وشرشال بالمغرب إنّما كانت بقدرهم متفرّقين أو مجتمعين فيتخيّل لهم أجساما تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير في طولها وقدرها لتناسب بينها وبين القدر الّتي صدرت تلك المباني عنها ويغفل عن شأن الهندام والمخّال وما اقتضته في ذلك الصّناعة الهندسيّة وكثير من المتغلّبين في البلاد يعاين في شأن البناء واستعمال الحيل في نقل الأجرام عند أهل الدّولة المعتنين بذلك من العجم ما يشهد له بما قلناه عيانا وأكثر آثار الأقدمين لهذا العهد تسمّيها
__________
[1] لم نعثر على هذه الكلمة في القاموس ولا في لسان العرب. والمعروف المخل وهو آلة حديدية تستعمل لرفع الحجارة.

(1/429)


العامّة عاديّة نسبة إلى قوم عاد لتوهّمهم أنّ مباني عاد ومصانعهم إنّما عظمت لعظم أجسامهم وتضاعف قدرهم. وليس كذلك، فقد نجد آثارا كثيرة من آثار الّذين تعرف مقادير أجسامهم من الأمم وهي في مثل ذلك العظم أو أعظم كإيوان كسرى ومباني العبيديّين من الشّيعة بإفريقيّة والصّنهاجيّين وأثرهم باد إلى اليوم في صومعة قلعة بني حمّاد وكذلك بناء الأغالبة في جامع القيروان وبناء الموحّدين في رباط الفتح ورباط السّلطان أبي سعيد لعهد أربعين سنة في المنصورة بإزاء تلمسان وكذلك الحنايا الّتي جلب إليها أهل قرطاجنّة الماء في القناة الرّاكبة عليها ماثلة لهذا العهد وغير ذلك من المباني والهياكل الّتي نقلت إلينا أخبار أهلها قريبا وبعيدا وتيقّنا أنّهم لم يكونوا بإفراط في مقادير أجسامهم وإنّما هذا رأي ولع به القصّاص عن قوم عاد وثمود والعمالقة. ونجد بيوت ثمود في الحجر منحوتة إلى هذا العهد وقد ثبت في الحديث الصّحيح أنّها بيوتهم يمرّ بها الرّكب الحجازيّ أكثر السّنين ويشاهدونها لا تزيد في جوّها ومساحتها وسمكها على المتعاهد وإنّهم ليبالغون فيما يعتقدون من ذلك حتّى إنّهم ليزعمون أنّ عوج بن عناق من جيل العمالقة كان يتناول السّمك من البحر طريئا فيشويه في الشّمس يزعمون بذلك أنّ الشّمس حارّة فيما قرب منها ولا يعلمون أنّ الحرّ فيما لدينا هو الضّوء لانعكاس الشّعاع بمقابلة سطح الأرض والهواء وأمّا الشّمس في نفسها فغير حارّة ولا باردة وإنّما هي كوكب مضيء لا مزاج له وقد تقدّم شيء من هذا في الفصل الثّاني حيث ذكرنا أنّ آثار الدّولة على نسبة قوّتها في أصلها. والله يخلق ما يشاء ويحكم ما يريد
.

(1/430)