تاريخ ابن خلدون
الفصل السادس
والعشرون في صناعة النجارة
هذه الصّناعة من ضروريّات العمران ومادّتها الخشب وذلك أنّ الله سبحانه
وتعالى جعل للآدميّ في كلّ مكوّن من المكوّنات منافع تكمل بها ضروراته
وكان منها الشّجر فإنّ له فيه من المنافع ما لا ينحصر ممّا هو معروف
لكلّ أحد. ومن منافعها اتّخاذها خشبا إذا يبست وأوّل منافعه أن يكون
وقودا للنّيران في معاشهم وعصيّا للاتكاء والذّود وغيرهما من
ضروريّاتهم ودعائم لما يخشى ميله من أثقالهم. ثمّ بعد ذلك منافع أخرى
لأهل البدو والحضر فأمّا أهل البدو فيتّخذون منها العمد والأوتاد
لخيامهم والحدوج لظعائنهم والرّماح والقسيّ والسّهام لسلاحهم وأمّا أهل
الحضر فالسّقف لبيوتهم والأغلاق لأبوابهم والكراسيّ لجلوسهم. وكلّ
واحدة من هذه فالخشبة مادّة لها ولا تصير إلى الصّورة الخاصّة بها إلّا
بالصّناعة.
والصّناعة المتكفّلة بذلك المحصّلة لكلّ واحد من صورها هي النّجارة على
اختلاف رتبها. فيحتاج صاحبها إلى تفصيل الخشب أوّلا: إمّا بخشب أصغر
منه أو ألواح.
(1/514)
ثمّ تركّب تلك الفضائل بحسب الصّور
المطلوبة. وهو في كلّ ذلك يحاول بصنعته إعداد تلك الفصائل بالانتظام
إلى أن تصير أعضاء لذلك الشّكل المخصوص. والقائم على هذه الصّناعة هو
النّجّار وهو ضروريّ في العمران. ثمّ إذا عظمت الحضارة وجاء التّرف
وتأنّق النّاس فيما يتّخذونه من كلّ صنف من سقف أو باب أو كرسيّ أو
ماعون، حدث التّأنّق في صناعة ذلك واستجادته بغرائب من الصّناعة
كماليّة ليست من الضّروريّ في شيء مثل التّخطيط في الأبواب والكراسيّ
ومثل تهيئة القطع من الخشب بصناعة الخرط يحكم بريها وتشكيلها ثمّ تؤلّف
على نسب مقدّرة وتلحم بالدّسائر فتبدو لرأي [1] العين ملتحمة وقد أخذ
منها اختلاف الأشكال على تناسب. يصنع هذا في كلّ شيء يتّخذ من الخشب
فيجيء آنق ما يكون. وكذلك في جميع ما يحتاج إليه من الآلات المتّخذة من
الخشب من أيّ نوع كان. وكذلك قد يحتاج إلى هذه الصّناعة في إنشاء
المراكب البحريّة ذات الألواح والدّسر وهي أجرام هندسيّة صنعت على قالب
الحوت واعتبار سبحه في الماء بقوادمه وكلكله ليكون ذلك الشّكل أعون لها
في مصادمة الماء وجعل لها عوض الحركة الحيوانيّة الّتي للسّمك تحريك
الرّياح. وربّما أعينت بحركة المقاذيف كما في الأساطيل. وهذه الصّناعة
من أصلها محتاجة إلى أصل [2] كبير من الهندسة في جميع أصنافها لأنّ
إخراج الصّور من القوّة إلى الفعل على وجه الإحكام محتاج إلى معرفة
التّناسب في المقادير إمّا عموما أو خصوصا وتناسب المقادير لا بدّ فيه
من الرّجوع إلى المهندس. ولهذا كانت أئمّة الهندسة اليونانيّون كلّهم
أئمّة في هذه الصّناعة فكان أوقليدوس صاحب كتاب الأصول في الهندسة
نجّارا وبها كان يعرف. وكذلك أبلّونيوس صاحب كتاب المخروطات وميلاوش
وغيرهم. وفيما يقال: أنّ معلّم هذه الصّناعة في الخليقة هو نوح عليه
السّلام وبها أنشأ سفينة النّجاة الّتي كانت بها معجزته عند الطّوفان.
وهذا الخبر وإن كان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بالدساتر فتبدو لمرأى.
[2] وفي نسخة أخرى: جزء.
(1/515)
ممكنا أعني كونه نجّارا إلّا أنّ كونه أوّل
من علّمها أو تعلّمها لا يقوم دليل من النّقل عليه لبعد الآماد. وإنّما
معناه والله أعلم الإشارة إلى قدم النّجارة لأنّه لم يصحّ حكاية عنها
قبل خبر نوح عليه السّلام فجعل كأنّه أوّل من تعلّمها. فتفهّم أسرار
الصّنائع في الخليقة. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الفصل السابع والعشرون في صناعة الحياكة
والخياطة
اعلم أنّ المعتدلين من البشر في معنى الإنسانيّة لا بدّ لهم من الفكر
في الدّفء كالفكر في الكنّ. ويحصل الدفء باشتمال المنسوج للوقاية من
الحرّ والبرد. ولا بدّ لذلك من إلحام الغزل حتّى يصير ثوبا واحدا، وهو
النّسج والحياكة. فإن كانوا بادية اقتصروا عليه، وإن قالوا إلى الحضارة
فصلوا تلك المنسوجة قطعا يقدّرون منها ثوبا على البدن بشكله وتعدّد
أعضائه واختلاف نواحيها. ثمّ يلائمون بين تلك القطع بالوصائل حتّى تصير
ثوبا واحدا على البدن ويلبسونها.
والصّناعة المحصّلة لهذه الملاءمة هي الخياطة.
هاتان الصّناعتان ضروريّتان في العمران لما يحتاج إليه البشر من الرّفه
[1] فالأولى لنسج الغزل من الصّوف والكتّان والقطن إسداء في الطّول
وإلحاما في العرض وإحكاما لذلك النّسج بالالتحام الشّديد، فيتمّ منها
قطع مقدّرة: فمنها الأكسية من الصّوف للاشتمال، ومنها الثّياب من القطن
والكتّان للباس.
والصّناعة الثّانية لتقدير المنسوجات على اختلاف الأشكال والعوائد،
تفصّل بالمقراض قطعا مناسبة للأعضاء البدنيّة ثمّ تلحم تلك القطع
بالخياطة المحكمة وصلا أو تنبيتا أو تفسّحا [2] على حسب نوع الصّناعة.
وهذه الصّناعة مختصّة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: من الدفء.
[2] وفي نسخة أخرى: أو تفتيحا.
(1/516)
بالعمران الحضريّ لما أنّ أهل البدو
يستغنون عنها وإنّما يشتملون الأثواب اشتمالا. وإنّما تفصيل الثّياب
وتقديرها وإلحامها بالخياطة للباس من مذاهب الحضارة وفنونها. وتفهّم
هذه في سرّ تحريم المخيط في الحجّ لما أنّ مشروعيّة الحجّ مشتملة على
نبذ العلائق الدّنيويّة كلّها والرّجوع إلى الله تعالى «كما خلقنا أوّل
مرّة، حتّى لا يعلّق العبد قلبه بشيء من عوائد ترفه، لا طيبا ولا نساء
ولا مخيطا ولا خفّا، ولا يتعرّض لصيد ولا لشيء من عوائده الّتي تلوّنت
[1] بها نفسه وخلقه، مع أنّه يفقدها بالموت ضرورة. وإنّما يجيء كأنّه
وارد إلى المحشر ضارعا بقلبه مخلصا لربّه. وكان جزاؤه إن تمّ له إخلاصه
في ذلك أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه. سبحانك ما أرفقك بعبادك
وأرحمك بهم في طلب هدايتهم إليك. وهاتان الصّنعتان قديمتان في الخليقة
لما أنّ الدّفء ضروريّ للبشر في العمران المعتدل. وأمّا المنحرف إلى
الحرّ فلا يحتاج أهله إلى دفء.
ولهذا يبلغنا عن أهل الإقليم الأوّل من السّودان أنّهم عراة في الغالب.
ولقدم هذه الصّنائع ينسبها العامّة إلى إدريس عليه السّلام وهو أقدم
الأنبياء. وربّما ينسبونها إلى هرمس وقد يقال إنّ هرمس هو إدريس. والله
سبحانه وتعالى هو الخلّاق العليم.
الفصل الثامن والعشرون في صناعة التوليد
وهي صناعة يعرف بها العمل في استخراج المولود الآدميّ من بطن أمّه من
الرّفق في إخراجه من رحمها وتهيئة أسباب ذلك. ثمّ ما يصلحه بعد الخروج
على ما نذكر. وهي مختصّة بالنّساء في غالب الأمر لما أنّهنّ الظّاهرات
بعضهنّ على عورات بعض. وتسمّى القائمة على ذلك منهنّ القابلة. استعير
فيها معنى الإعطاء
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تكونت.
(1/517)
والقبول كأنّ النّفساء تعطيها الجنين
وكأنّها تقبله. وذلك أنّ الجنين إذا استكمل خلقه في الرّحم وأطواره
وبلغ إلى غايته والمدّة الّتي قدّرها الله لمكثه هي تسعة أشهر في
الغالب فيطلب الخروج بما جعل الله في المولود من النّزوع لذلك ويضيق
عليه المنفذ فيعسر. وربّما مزّق بعض جوانب الفرج بالضّغط وربّما انقطع
بعض ما كان من الأغشية من الالتصاق والالتحام بالرّحم. وهذه كلّها آلام
يشتدّ لها الوجع وهو معنى الطّلق فتكون القابلة معينة في ذلك بعض
الشّيء بغمز الظّهر والوركين وما يحاذي الرّحم من الأسافل تساوق بذلك
فعل الدّافعة في إخراج الجنين وتسهيل ما يصعب منه بما يمكنها وعلى ما
تهتدي إلى معرفة عسرة. ثمّ إن أخرج الجنين بقيت بينه وبين الرّحم
الوصلة حيث كان يتغذّى منها متّصلة من سرّته بمعاه. وتلك الوصلة عضو
فضليّ لتغذية المولود خاصّة فتقطعها القابلة من حيث لا تتعدّى مكان
الفضلة ولا تضرّ بمعاه ولا برحم أمّه ثمّ تدمل مكان الجراحة منه بالكيّ
أو بما تراه من وجوه الاندمال. ثمّ إنّ الجنين عند خروجه من ذلك المنفذ
الضّيق وهو رطب العظام سهل الانعطاف والانثناء فربّما تتغيّر أشكال
أعضائه وأوضاعها لقرب التّكوين ورطوبة الموادّ فتتناوله القابلة بالغمز
والإصلاح حتّى يرجع كلّ عضو إلى شكله الطّبيعيّ ووضعه المقدّر له
ويرتدّ خلقه سويّا. ثمّ بعد ذلك تراجع النّفساء وتحاذيها بالغمز
والملاينة لخروج أغشية الجنين لأنّها ربّما تتأخّر عن خروجه قليلا.
ويخشى عند ذلك أن تراجع الماسكة حالها الطّبيعيّة قبل استكمال خروج
الأغشية وهي فضلات فتتعفّن ويسري عفنها إلى الرّحم فيقع الهلاك فتحاذر
القابلة هذا وتحاول في إعانة الدّفع إلى أن تخرج تلك الأغشية الّتي
كانت قد تأخّرت ثمّ ترجع إلى المولود فتمرّخ [1] أعضاءه بالأدهان
والذّرورات [2] القابضة لتشدّه وتجفّف رطوبات الرّحم وتحنّكه لرفع
لهاته وتسعطه لاستفراغ نطوف دماغه وتغرغره باللّعوق لدفع السّدد من
معاه وتجويفها عن
__________
[1] تمرّخ: تدهن (قاموس) .
[2] الذرورات: ج اذرة وهو ما يذر في العين أو الجرح من دواء.
(1/518)
الالتصاق. ثمّ تداوي النّفساء بعد ذلك من
الوهن الّذي أصابها بالطّلق وما لحق رحمها من ألم الانفصال، إذ المولود
إن لم يكن عضوا طبيعيّا فحالة التّكوين في الرّحم صيّرته بالالتحام
كالعضو المتّصل فلذلك كان في انفصاله ألم يقرب من ألم القطع. وتداوي مع
ذلك ما يلحق الفرج من ألم من جراحة التّمزيق عند الضّغط في الخروج.
وهذه كلّها أدواء نجد هؤلاء القوابل أبصر بدوائها. وكذلك ما يعرض
للمولود مدّة الرّضاع من أدواء في بدنه إلى حين الفصال نجدهنّ أبصر بها
من الطّبيب الماهر. وما ذاك إلّا لأنّ بدن الإنسان في تلك الحالة إنّما
هو بدن إنسانيّ بالقوّة فقط. فإذا جاوز الفصال صار بدنا إنسانيّا
بالفعل فكانت حاجته حينئذ إلى الطّبيب أشدّ. فهذه الصّناعة كما تراه
ضروريّة في العمران للنّوع الإنسانيّ، لا يتمّ كون أشخاصه في الغالب
دونها. وقد يعرض لبعض أشخاص النّوع الاستغناء عن هذه الصّناعة، إمّا
بخلق الله ذلك لهم معجزة وخرقا للعادة كما في حقّ الأنبياء صلوات الله
وسلامه عليهم أو بإلهام وهداية يلهم لها المولود ويفطر عليها فيتمّ
وجودهم من دون هذه الصّناعة. فأمّا شأن المعجزة من ذلك فقد وقع كثيرا.
ومنه ما روي أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولد مسرورا مختونا واضعا
يديه على الأرض شاخصا ببصره إلى السّماء. وكذلك شأن عيسى في المهد وغير
ذلك. وأمّا شأن الإلهام فلا ينكر. وإذا كانت الحيوانات العجم تختصّ
بغرائب الإلهامات كالنّحل وغيرها فما ظنّك بالإنسان المفضّل عليها.
وخصوصا بمن اختصّ بكرامة الله. ثمّ الإلهام العامّ للمولودين في
الإقبال على الثّدي أوضح شاهد على وجود الإلهام العامّ لهم. فشأن
العناية الإلهيّة أعظم من أن يحاط به. ومن هنا يفهم بطلان رأي
الفارابيّ وحكماء الأندلس فيما احتجّوا به لعدم انقراض الأنواع
واستحالة انقطاع المكوّنات. وخصوصا في النّوع الإنسانيّ، وقالوا: لو
انقطعت أشخاصه لاستحال وجودها بعد ذلك لتوقّفه على وجود هذه الصّناعة
الّتي لا يتمّ كون الإنسان إلّا بها. إذ لو قدّرنا مولودا دون هذه
الصّناعة وكفالتها إلى حين
(1/519)
الفصال [1] لم يتمّ بقاؤه أصلا. ووجود الصّنائع دون الفكر ممتنع لأنّها
ثمرته وتابعة له. وتكلّف ابن سينا في الرّدّ على هذا الرّأي لمخالفته
إيّاه وذهابه إلى إمكان انقطاع الأنواع وخراب عالم التّكوين ثمّ عوده
ثانيا لاقتضاءات فلكيّة وأوضاع غريبة تنذر في الأحقاب بزعمه فتقتضي
تخمير طينة مناسبة لمزاجه بحرارة مناسبة فيتمّ كونه إنسانا ثمّ يقيّض
له حيوان يخلق فيه إلهاما لتربيته والحنوّ عليه إلى أن يتمّ وجوده
وفصاله. وأطنب في بيان ذلك في الرّسالة الّتي سمّاها رسالة حيّ بن
يقظان. وهذا الاستدلال غير صحيح وإن كنّا نوافقه على انقطاع الأنواع
لكن من غير ما استدلّ به. فإنّ دليله مبنيّ على إسناد الأفعال إلى
العلّة الموجبة. ودليل القول بالفاعل المختار يردّ عليه ولا واسطة على
القول بالفاعل المختار بين الأفعال والقدرة القديمة ولا حاجة إلى هذا
التّكلّف. ثمّ لو سلّمناه جدلا فغاية ما يبنى عليه اطّراد وجود هذا
الشّخص بخلق الإلهام لترتيبه في الحيوان الأعجم. وما الضّرورة الدّاعية
لذلك؟ وإذا كان الإلهام يخلق في الحيوان الأعجم فما المانع من خلقه
للمولود نفسه كما قرّرناه أوّلا. وخلق الإلهام في شخص لمصالح نفسه أقرب
من خلقه فيه لمصالح غيره فكلا المذهبين شاهدان على أنفسهما بالبطلان في
مناحيهما لما قرّرته لك والله تعالى أعلم. |