تاريخ ابن خلدون
الفصل الثالث في ان
العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة
والسّبب في ذلك أنّ تعليم العلم كما قدّمناه من جملة الصّنائع. وقد
كنّا قدّمنا أنّ الصّنائع إنّما تكثر في الأمصار. وعلى نسبة عمرانها في
الكثرة والقلّة والحضارة والتّرف تكون نسبة الصّنائع في الجودة والكثرة
لأنّه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم
انصرفت إلى ما وراء المعاش من التّصرّف في خاصيّة الإنسان وهي العلوم
والصّنائع. ومن تشوّف بفطرته إلى العلم ممّن نشأ في القرى والأمصار غير
المتمدّنة فلا يجد فيها التّعليم الّذي هو صناعيّ لفقدان الصّنائع في
أهل البدو. كما قدّمناه ولا بدّ له من الرّحلة في طلبه إلى الأمصار
المستبحرة شأن الصّنائع كلّها. واعتبر ما قرّرناه بحال بغداد وقرطبة
والقيروان والبصرة والكوفة لمّا كثر عمرانها صدر الإسلام واستوت فيها
الحضارة، كيف زخرت فيها بحار العلم وتفنّنوا في اصطلاحات التّعليم
وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون حتّى أربوا على المتقدّمين
وفاتوا المتأخّرين. ولمّا تناقص عمرانها وابذعرّ سكّانها انطوى ذلك
البساط بما عليه جملة، وفقد العلم بها والتّعليم، وانتقل إلى غيرها من
أمصار الإسلام. ونحن لهذا العهد نرى أنّ العلم والتّعليم إنّما هو
بالقاهرة من بلاد مصر لما أنّ عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ
آلاف من السّنين، فاستحكمت فيها الصّنائع وتفنّنت ومن جملتها
(1/548)
تعليم العلم. وأكّد ذلك فيها وحفظه ما وقع
لهذه العصور بها منذ مائتين من السّنين في دولة التّرك من أيّام صلاح
الدّين بن أيّوب وهلمّ جرّا. وذلك أنّ أمراء التّرك في دولتهم يخشون
عادية سلطانهم على من يتخلّفونه من ذرّيّتهم لما له عليهم من الرّقّ أو
الولاء ولما يخشى من معاطب الملك ونكباته. فاستكثروا من بناء المدارس
والزّوايا والرّبط [1] ووقفوا عليها الأوقاف المغلّة يجعلون فيها شركا
[2] لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها مع ما فيهم غالبا من الجنوح إلى
الخير والتماس الأجور في المقاصد والأفعال. فكثرت الأوقاف لذلك وعظمت
الغلّات والفوائد وكثر طالب العلم ومعلّمه بكثرة جرايتهم منها وارتحل
إليها النّاس في طلب العلم من العراق والمغرب ونفقت بها أسواق العلوم
وزخرت بحارها. والله يخلق ما يشاء.
الفصل الرابع في أصناف العلوم الواقعة في
العمران لهذا العهد
اعلم أنّ العلوم الّتي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار تحصيلا
وتعليما هي على صنفين: صنف طبيعيّ للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف
نقليّ يأخذه عمّن وضعه. والأوّل هي العلوم الحكميّة الفلسفيّة وهي
الّتي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشريّة
إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتّى يقفه [3]
نظره ويحثّه [4] على الصّواب من الخطإ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر.
والثاني هي العلوم النّقليّة الوضعيّة وهي كلّها مستندة إلى الخبر عن
الواضع الشّرعيّ. ولا مجال فيها للعقل
__________
[1] جمع رباط: الحصن أو المكان الّذي يرابط فيه الجيش، والأنسب كلمة
رباطات وهي المعاهد المبنية والموقوفة للفقراء.
[2] الشرك: الحصة.
[3] قوله: حتى يقفه نظره. يستعمل وقف متعديا فتقول: وقفته على كذا أي
اطلعته عليه. قاله نصر.
[4] وفي نسخة أخرى: بحثه.
(1/549)
إلّا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول
لأنّ الجزئيّات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النّقل الكلّيّ بمجرّد
وضعه فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسيّ. إلّا أنّ هذا القياس يتفرّع عن
الخبر بثبوت الحكم في الأصل وهو نقليّ فرجع هذا القياس إلى النّقل
لتفرّعه عنه. وأصل هذه العلوم النّقلية كلّها هي الشّرعيّات من الكتاب
والسّنّة الّتي هي مشروعة لنا من الله ورسوله وما يتعلّق بذلك من
العلوم الّتي تهيّئوها للإفادة. ثمّ يستتبع ذلك علوم اللّسان العربيّ
الّذي هو لسان الملّة وبه نزّل القرآن. وأصناف هذه العلوم النّقليّة
كثيرة لأنّ المكلّف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه
وعلى أبناء جنسه وهي مأخوذة من الكتاب والسّنّة بالنّصّ أو بالإجماع أو
بالإلحاق فلا بدّ من النّظر بالكتاب ببيان ألفاظه أوّلا وهذا هو علم
التّفسير ثمّ بإسناد نقله وروايته إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
الّذي جاء به من عند الله واختلاف روايات القرّاء في قراءته وهذا هو
علم القراءات ثمّ بإسناد السّنّة إلى صاحبها والكلام في الرّواة
النّاقلين لها ومعرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم بعلم [1]
ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك، وهذه هي علوم الحديث. ثمّ لا بدّ في
استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانونيّ يفيد العلم بكيفيّة هذا
الاستنباط وهذا هو أصول الفقه. وبعد هذا تحصل الثّمرة بمعرفة أحكام
الله تعالى في أفعال المكلّفين وهذا هو الفقه. ثمّ إنّ التّكاليف منها
بدنيّ، ومنها قلبي، وهو المختصّ بالإيمان وما يجب أن يعتقد ممّا لا
يعتقد.
وهذه هي العقائد الإيمانيّة في الذّات والصّفات وأمور الحشر والنّعيم
والعذاب والقدر. والحجاج عن هذه بالأدلّة العقليّة هو علم الكلام. ثمّ
النّظر في القرآن والحديث لا بدّ أن تتقدّمه العلوم اللّسانيّة لأنّه
متوقّف عليها وهي أصناف. فمنها علم اللّغة وعلم النّحو وعلم البيان
وعلم الآداب حسبما نتكلّم عليها. وهذه العلوم النّقليّة كلّها مختصّة
بالملّة الإسلاميّة وأهلها وإن كانت كلّ ملّة على الجملة لا بدّ
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ويعمل.
(1/550)
فيها من مثل ذلك فهي مشاركة لها في الجنس
البعيد من حيث إنّها العلوم الشّرعيّة [1] المنزلة من عند الله تعالى
على صاحب الشّرعية المبلغ لها. وأمّا على الخصوص فمباينة لجميع الملل
لأنّها ناسخة لها. وكلّ ما قبلها من علوم الملل فمهجورة والنّظر فيها
محظور. فقد نهى الشّرع عن النّظر في الكتب المنزلة غير القرآن. قال
صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا
آمنّا بالّذي أنزل علينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد» ورأى النّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم في يد عمر رضي الله عنه ورقة من التّوراة فغضب
حتّى تبيّن الغضب في وجهه ثمّ قال: «ألم آتكم بها بيضاء نقيّة؟ والله
لو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا أتباعي. ثمّ إنّ هذه العلوم الشّرعيّة
قد نفقت أسواقها في هذه الملّة بما لا مزيد عليه وانتهت فيها مدارك
النّاظرين إلى الغاية الّتي لا شيء فوقها وهذّبت الاصطلاحات ورتّبت
الفنون فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتّنميق. وكان لكلّ فنّ رجال
يرجع إليهم فيه وأوضاع يستفاد منها التّعليم. واختصّ المشرق من ذلك
والمغرب بما هو مشهور منها حسبما نذكره الآن عند تعديد هذه الفنون. وقد
كسدت لهذا العهد أسواق العلم بالمغرب لتناقص العمران فيه وانقطاع سند
العلم والتّعليم كما قدّمناه في الفصل قبله. وما أدري ما فعل الله
بالمشرق والظّنّ به نفاق العلم فيه واتّصال التّعليم في العلوم وفي
سائر الصّنائع الضّروريّة والكماليّة لكثرة عمرانه والحضارة ووجود
الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف الّتي اتّسعت بها أرزاقهم.
والله سبحانه وتعالى هو الفعّال لما يريد وبيده التّوفيق والإعانة.
الفصل الخامس في علوم القرآن من التفسير
والقراءات
القرآن هو كلام الله المنزل على نبيّه المكتوب بين دفّتي المصحف. وهو
متواتر بين الأمّة إلّا أنّ الصّحابة رووه عن رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم على طرق مختلفة في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: علوم الشريعة.
(1/551)
بعض ألفاظه وكيفيّات الحروف في أدائها.
وتنوقل ذلك واشتهر إلى أن استقرّت منها سبع طرق معيّنة تواتر نقلها
أيضا بأدائها واختصّت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجمّ الغفير
فصارت هذه القراءات السّبع أصولا للقراءة. وربّما زيد بعد ذلك قراءات
أخر لحقت بالسّبع إلّا أنّها عند أئمة القراءة لا تقوى قوّتها في
النّقل. وهذه القراءات السّبع معروفة في كتبها. وقد خالف بعض النّاس في
تواتر طرقها لأنّها عندهم كيفيّات للأداء وهو غير منضبط. وليس ذلك
عندهم بقادح في تواتر القرآن. وأباه الأكثر وقالوا بتواترها وقال آخرون
بتواتر غير الأداء منها كالمدّ والتّسهيل [1] لعدم الوقوف على كيفيّته
بالسّمع وهو الصّحيح. ولم يزل القرّاء يتداولون هذه القراءات وروايتها
إلى أن كتبت العلوم ودوّنت فكتبت فيما كتب من العلوم وصارت صناعة
مخصوصة وعلما منفردا وتناقله النّاس بالمشرق والأندلس في جيل بعد جيل.
إلى أن ملك بشرق الأندلس مجاهد من موالي العامريّين وكان معتنيا بهذا
الفنّ من بين فنون القرآن لمّا أخذه به مولاه المنصور بن أبي العامر
واجتهد في تعليمه وعرضه على من كان من أئمّة القرّاء بحضرته فكان سهمه
في ذلك وافرا. واختصّ مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية والجزائر الشّرقيّة
فنفقت بها سوق القراءة لما كان هو من أئمّتها وبما كان له من العناية
بسائر العلوم عموما وبالقراءات خصوصا. فظهر لعهده أبو عمرو الدّانيّ
وبلغ الغاية فيها ووقفت عليه معرفتها. وانتهت إلى روايته أسانيدها
وتعدّدت تآليفه فيها. وعوّل النّاس عليها وعدلوا عن غيرها واعتمدوا من
بينها كتاب التّيسير له. ثمّ ظهر بعد ذلك فيما يليه من العصور والأجيال
أبو القاسم بن فيرّه [2] من أهل شاطبة فعمد إلى تهذيب ما دوّنه أبو
عمرو وتلخيصه فنظم ذلك كلّه في قصيدة لغز فيها أسماء القرّاء بحروف (أب
ج د) ترتيبا أحكمه ليتيسّر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: والتمهيل.
[2] ورد ذكره في كتاب الأعلام لخير الدين الزركلي وهو القاسم بن فيره
بن خلف بن أحمد الرعينيّ أبو محمد الشاطبي إمام القراء وكان ضريرا.
(1/552)
عليه ما قصده من الاختصار وليكون أسهل
للحفظ لأجل نظمها. فاستوعب فيها الفنّ استيعابا حسنا وعني النّاس
بحفظها وتلقينها للولدان [1] المتعلّمين وجرى العمل على ذلك في أمصار
المغرب والأندلس. وربّما أضيف إلى فنّ القراءات فنّ الرّسم أيضا وهي
أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطّيّة لأنّ فيه حروفا كثيرة وقع
رسمها على غير المعروف من قياس الخطّ كزيادة الياء في بأييد وزيادة
الألف في لا أذبحنّه ولا أوضعوا والواو في جزاء الظّالمين وحذف الألفات
في مواضع دون أخرى وما رسم فيه من التّاءات ممدودا، والأصل فيه مربوط
على شكل الهاء وغير ذلك وقد مرّ تعليل هذا الرّسم المصحفيّ عند الكلام
في الخطّ.
فلمّا جاءت هذه المخالفة لأوضاع الخطّ وقانونه احتيج إلى حصرها، فكتب
النّاس فيها أيضا عند كتبهم في العلوم. وانتهت بالمغرب إلى أبي عمر
الدّانيّ المذكور فكتب فيها كتبا من أشهرها: كتاب المقنع وأخذ به
النّاس وعوّلوا عليه. ونظمه أبو القاسم الشّاطبيّ في قصيدته المشهورة
على رويّ الرّاء وولع النّاس بحفظها. ثمّ كثر الخلاف في الرّسم في
كلمات وحروف أخرى، ذكرها أبو داود سليمان بن نجاح من موالي مجاهد في
كتبه وهو من تلاميذ [2] أبي عمرو الدّانيّ والمشتهر بحمل علومه ورواية
كتبه ثمّ نقل بعده خلاف آخر فنظم الخرّاز من المتأخّرين بالمغرب أرجوزة
أخرى زاد فيها على المقنع خلافا كثيرا، وعزاه لناقليه، واشتهرت
بالمغرب، واقتصر النّاس على حفظها. وهجروا بها كتب أبي داود وأبي عمرو
والشّاطبيّ في الرّسم.
وأمّا التفسير.
فاعلم أنّ القرآن نزّل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلّهم
يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه. وكان ينزّل جملا جملا
وآيات آيات لبيان التّوحيد والفروض الدّينيّة بحسب الوقائع. ومنها ما
هو
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: للولد.
[2] وفي النسخة الباريسية: وهو تلميذ.
(1/553)
في العقائد الإيمانيّة، ومنها ما هو في
أحكام الجوارح، ومنها ما يتقدّم ومنها ما يتأخّر ويكون ناسخا له. وكان
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو المبيّن لذلك كما قال تعالى:
«لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ 16: 44» [1] فكان
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يبيّن المجمل ويميّز النّاسخ من المنسوخ
ويعرّفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها
منقولا عنه. كما علم من قوله تعالى: «إِذا جاءَ نَصْرُ الله
وَالْفَتْحُ 110: 1» إنّها نعي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمثال
ذلك ونقل ذلك عن الصّحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وتداول ذلك
التّابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم. ولم يزل متناقلا بين الصّدر الأوّل
والسّلف حتّى صارت المعارف علوما ودونت الكتب فكتب الكثير من ذلك ونقلت
الآثار الواردة فيه عن الصّحابة والتّابعين وانتهى ذلك إلى الطّبريّ
والواقديّ والثّعالبيّ وأمثال ذلك من المفسّرين فكتبوا فيه ما شاء الله
أن يكتبوه من الآثار. ثمّ صارت علوم اللّسان صناعيّة [2] من الكلام في
موضوعات اللّغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التّراكيب فوضعت الدّواوين
في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب فتنوسي
ذلك وصارت تتلقّى من كتب أهل اللّسان. فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن
لأنّه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم. وصار التّفسير على صنفين: تفسير
نقليّ مسند إلى الآثار المنقولة عن السّلف وهي معرفة النّاسخ والمنسوخ
وأسباب النّزول ومقاصد الآي.
وكلّ ذلك لا يعرف إلّا بالنّقل عن الصّحابة والتّابعين. وقد جمع
المتقدّمون في ذلك وأوعوا، إلّا أنّ كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغثّ
والسّمين والمقبول والمردود. والسّبب في ذلك أنّ العرب لم يكونوا أهل
كتاب ولا علم وإنّما غلبت عليهم البداوة والأمّيّة. وإذا تشوّقوا إلى
معرفة شيء ممّا تتشوّق إليه النّفوس البشريّة [3] في أسباب المكوّنات
وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم
ويستفيدونه منهم وهم أهل التّوراة من اليهود ومن تبع دينهم
__________
[1] سورة النحل (من الآية 44) .
[2] وفي نسخة أخرى: صناعة.
[3] وفي النسخة الباريسية: النفوس الإنسانية.
(1/554)
من النّصارى. وأهل التّوراة الّذين بين
العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلّا ما تعرفه العامّة من
أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الّذين أخذوا بدين اليهوديّة. فلمّا أسلموا
بقوا على ما كان عندهم ممّا لا تعلّق له بالأحكام الشّرعيّة الّتي
يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم
وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه وعبد الله بن سلام
وأمثالهم. فامتلأت التّفاسير من المنقولات عندهم [1] في أمثال هذه
الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست ممّا يرجع إلى الأحكام فيتحرّى في
الصّحّة الّتي يجب بها العمل. وتساهل المفسّرون في مثل ذلك وملئوا كتب
التّفسير بهذه المنقولات.
وأصلها كما قلناه عن أهل التّوراة الّذين يسكنون البادية، ولا تحقيق
عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلّا أنّهم بعد صيتهم وعظمت أقدارهم،
لما كانوا عليه من المقامات في الدّين والملّة، فتلقّيت بالقبول من
يومئذ. فلمّا رجع النّاس إلى التّحقيق والتّمحيص وجاء أبو محمّد بن
عطيّة من المتأخرين بالمغرب فلخّص تلك التّفاسير كلّها وتحرّى ما هو
أقرب إلى الصّحّة منها ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب
والأندلس حسن المنحى. وتبعه القرطبيّ في تلك الطّريقة على منهاج واحد
في كتاب آخر مشهور بالمشرق.
والصّنف الآخر من التّفسير وهو ما يرجع إلى اللّسان من معرفة اللّغة
والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب. وهذا
الصّنف من التّفسير قلّ أن ينفرد عن الأوّل إذ الأوّل هو المقصود
بالذّات. وإنّما جاء هذا بعد أن صار اللّسان وعلومه صناعة [2] . نعم قد
يكون في بعض التّفاسير غالبا ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفنّ من
التّفاسير كتاب الكشّاف للزّمخشريّ [3] من أهل خوارزم العراق إلّا أنّ
مؤلّفه من أهل الاعتزال في العقائد فيأتي بالحجاج على
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: من المنقولات عنهم.
[2] وفي نسخة أخرى: صناعات.
[3] (ورد في معجم البلدان: خوارزم ليس اسما للمدينة إنما هو اسم
للناحية بجملتها وورد في كتاب الأعلام للزركلي، الزمخشريّ ولد في زمخشر
من قرى خوارزم) .
(1/555)
مذاهبهم الفاسدة حيث تعرض له في آي القرآن
من طرق البلاغة. فصار ذلك للمحقّقين من أهل السّنّة انحراف عنه وتحذير
للجمهور من مكامنه مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلّق باللّسان
والبلاغة وإذا كان النّاظر فيه واقفا مع ذلك على المذاهب السّنّيّة
محسنا للحجاج عنها فلا جرم إنّه مأمون من غوائله فلتغتنم مطالعته
لغرابة فنونه في اللّسان. ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض
العراقيّين وهو شرف الدّين الطّيبيّ من أهل توريز من عراق العجم شرح
فيه كتاب الزّمخشريّ هذا وتتبّع ألفاظه وتعرّض لمذاهبه في الاعتزال
بأدلّة تزيّفها [1] ويبيّن أنّ البلاغة إنّما تقع في الآية على ما يراه
أهل السّنّة لا على ما يراه [2] المعتزلة فأحسن في ذلك ما شاء مع
إمتاعه في سائر فنون البلاغة وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ 12:
76.
الفصل السادس في علوم الحديث
وأمّا علوم الحديث فهي كثيرة ومتنوّعة لأنّ منها ما ينظر في ناسخه
ومنسوخه وذلك بما ثبت في شريعتنا من جواز النّسخ ووقوعه لطفا من الله
بعباده وتخفيفا عنهم باعتبار مصالحهم الّتي تكفّل الله لهم بها. قال
تعالى: «ما نَنْسَخْ من آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها
أَوْ مِثْلِها 2: 106» [3] (ومعرفة الناسخ والمنسوخ وإن كان عاقا
للقرآن والحديث إلّا أنّ الّذي في القرآن منه اندرج في تفاسيره وبقي ما
كان خاصّا بالحديث راجعا إلى علومه. فإذا تعارض الخبران بالنّفي
والإثبات وتعذّر الجمع بينهما ببعض التّأويل وعلم تقدّم أحدهما تعيّن
أنّ المتأخّر ناسخ) .
ومعرفة النّاسخ والمنسوخ من أهمّ علوم الحديث وأصعبها. قال الزّهريّ:
«أعيا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وأدلته يزيفها.
[2] وفي النسخة الباريسية: لا على مذهب المعتزلة.
[3] سورة البقرة الآية 106
(1/556)
الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم من منسوخه» .
وكان للشّافعيّ رضي الله عنه فيه قدم راسخة. (ومن علوم الأحاديث [1]
النّظر في الأسانيد ومعرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على
السّند الكامل الشّروط لأنّ العمل إنّما وجب بما يغلب على الظّنّ صدقه
من أخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيجتهد في الطّريق الّتي
تحصّل ذلك الظّنّ وهو بمعرفة رواة الحديث بالعدالة والضّبط. وإنّما
يثبت ذلك بالنّقل عن أعلام الدّين لتعديلهم وبراءتهم من الجرح والغفلة
ويكون لنا ذلك دليلا على القبول أو التّرك. وكذلك مراتب هؤلاء النّقلة
من الصّحابة والتّابعين وتفاوتهم في ذلك وتميّزهم فيه واحدا واحدا.
وكذلك الأسانيد تتفاوت باتّصالها وانقطاعها بأن يكون الرّاوي لم يلق
الرّاوي الّذي نقل عنه وبسلامتها من العلل الموهنة لها وتنتهي بالتفاوت
إلى طرفين فحكم [2] بقبول الأعلى وردّ الأسفل. ويختلف في المتوسّط بحسب
المنقول عن أئمّة الشّأن. ولهم في ذلك ألفاظ اصطلحوا على وضعها لهذه
المراتب المرتّبة. مثل الصّحيح والحسن والضّعيف والمرسل والمنقطع
والمعضل والشّاذّ والغريب، وغير ذلك من ألقابه المتداولة بينهم.
وبوّبوا على كلّ واحد منها ونقلوا ما فيه من الخلاف لأئمّة اللّسان أو
الوفاق. ثمّ النّظر في كيفيّة أخذ الرّواية [3] بعضهم عن بعض بقراءة أو
كتابة أو مناولة أو إجازة وتفاوت رتبها وما للعلماء في ذلك من الخلاف
بالقبول والرّدّ. ثمّ اتّبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث
من غريب أو مشكل أو تصحيف أو مفترق منها أو مختلف وما يناسب ذلك. هذا
معظم ما ينظر فيه أهل الحديث وغالبة وكانت أحوال نقلة الحديث في عصور
السّلف من الصّحابة والتّابعين معروفة عند أهل بلده فمنهم بالحجاز
ومنهم بالبصرة والكوفة من العراق ومنهم بالشّام ومصر والجميع معروفون
مشهورون في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الحديث.
[2] وفي النسخة الباريسية: إلى طريقتين يحكم..
[3] وفي نسخة أخرى: الرواة.
(1/557)
أعصارهم وكانت طريقة أهل الحجاز في أعصارهم
في الأسانيد أعلى ممّن سواهم وأمتن في الصّحّة لاستبدادهم [1] في شروط
النّقل من العدالة والضّبط وتجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك) [2]
وسند [3] الطّريقة الحجازيّة بعد السّلف الإمام مالك عالم المدينة رضي
الله تعالى عنه ثمّ أصحابه مثل الإمام محمّد بن إدريس الشّافعيّ رضي
الله تعالى عنه، وابن وهب وابن بكير والقضبي ومحمّد بن الحسن ومن بعدهم
الإمام أحمد بن حنبل وفي آخرين من أمثالهم. وكان علم الشّريعة في مبدإ
هذا الأمر نقلا صرفا شمّر لها السّلف وتحرّوا الصّحيح حتّى أكملوها.
وكتب مالك رحمه الله كتاب الموطّإ أودعه أصول الأحكام من الصّحيح
المتّفق عليه ورتّبه على أبواب الفقه. ثمّ عني الحافظ بمعرفة طرق
الأحاديث
__________
[1] وفي نسخة أخرى: لاشتدادهم.
[2] إن المحصور بين () ورد في النسخة الباريسية على شكلين: ورد في
الشرح كما في نسختنا هذه.
وورد في المتن على الوجه التالي: ومن علوم الحديث معرفة القوانين التي
وضعها أئمة المحدثين لمعرفة الأسانيد والرواة وأسمائهم وكيفية أخذ
بعضهم عن بعض وأحوالهم وطبقاتهم واختلاف اصطلاحاتهم. وتحصيل ذلك ان
الإجماع واقع على وجود العمل بالخير الثابت عن رسول الله وذلك بشرط أن
يغلب على الظن صدقه.
فيجب على المجتهد تحقيق الطرق التي تحصل ذلك الظن. وذلك بالنظر في
أسانيد الحديث بمعرفة رواته بالعدالة والضبط والإتقان والبراءة من
السهو والغفلة. بوصف عدول الأمة لهم بذلك. ثم تفاوت مراتبهم فيه. ثم
كيفية رواية بعضهم عن بعض. بسماع الراويّ من الشيخ أو قراءته عليه أو
سماعه يقرأ عليه. وكتابة الشيخ له أو مناولته أو أجازته في الصحة
والقبول منقول عنهم. وأعلى مراتب المقبول عندهم الصحيح ثم الحسن. وأدون
مراتبها الضعيف. وتشتمل على المرسل والمنقطع والفصل والعلل والشاذ
والغريب والمنكر: فمنها ما اختلفوا في رده ومنها ما اجتمعوا عليه. وذلك
شأنهم في الصحيح: فمنه ما اجتمعوا على قبوله وصحته. ومنه ما اختلفوا
فيه. وبينهم في تفسير هذه الألقاب اختلاف كثير ثم اتبعوا ذلك بالكلام
في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو تصحيف أو مفترق.
ووضعوا لهذه الفصول كلها قانونا كفيلا ببيان تلك المراتب والألقاب
وسلامة الطرق عن دخول النقص فيها. وأول من وضع في هذا القانون من فحول
أئمة الحديث أبو عبد الله الحاكم وهو الّذي هذبه وأظهر محاسنه.
وتواليفه فيه مشهورة. ثم كتب أئمتهم فيه من بعده. واشتهر كتاب
للمتأخرين فيه كتاب أبي عمر بن الصلاح. كان في أوائل المائة السابعة
وتلاه محيي الدين النووي بمثل ذلك. والفن شريف في مغزاه لأنه معرفة ما
يحفظ به السنن المنقولة عن صاحب الشريعة حتى يتعين قبولها أو ردها.
واعلم أن رواة السنة من الصحابة والتابعين معروفون في أوصار الإسلام.
منهم بالحجاز وبالكوفة والبصرة ثم بالشام ومصر. والجميع معروفون
ومشهورون في أعصارهم. وكانت طريقة أهل الحجاز في الأسانيد أعلى ممن
سواهم وأمتن في الصحة. لاشتدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط.
بتجافيهم عن قبول المستورين المجهولة أحوالهم.
[3] وفي نسخة أخرى: وسيّد.
(1/558)
وأسانيدها المختلفة. وربّما يقع إسناد
الحديث من طرق متعدّدة عن رواة مختلفين وقد يقع الحديث أيضا في أبواب
متعدّدة باختلاف المعاني الّتي اشتمل عليها. وجاء محمّد بن إسماعيل
البخاريّ إمام المحدّثين في عصره فخرّج أحاديث السّنّة على أبوابها في
مسندة الصّحيح بجميع الطّرق الّتي للحجازيّين والعراقيّين والشّاميّين.
واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه وكرّر الأحاديث يسوقها
في كلّ باب بمعنى ذلك الباب الّذي تضمّنه الحديث فتكرّرت لذلك أحاديثه
حتّى يقال: إنّه اشتمل على تسعة [1] آلاف حديث ومائتين، منها ثلاثة
آلاف متكرّرة وفرق الطّرق والأسانيد عليها مختلفة في كلّ باب. ثمّ جاء
الإمام مسلم بن الحجّاج القشيريّ رحمه الله تعالى فألّف مسندة الصّحيح.
حذا فيه حذو البخاريّ في نقل المجمع عليه وحذف المتكرّر منها وجمع
الطّرق والأسانيد وبوّبه على أبواب الفقه وتراجمه. ومع ذلك فلم يستوعبا
الصّحيح كلّه. وقد استدرك النّاس عليهما في ذلك. ثمّ كتب أبو داود
السّجستانيّ وأبو عيسى التّرمذيّ وأبو عبد الرّحمن النّسائيّ في السّنن
بأوسع من الصّحيح وقصدوا ما توفّرت فيه شروط العمل إمّا من الرّتبة
العالية في الأسانيد وهو الصّحيح كما هو معرف وإمّا من الّذي دونه من
الحسن وغيره ليكون ذلك إماما للسّنّة والعمل. وهذه هي المسانيد
المشهورة في الملّة وهي أمّهات كتب الحديث في السّنّة فإنّها وإن
تعدّدت ترجع إلى هذه في الأغلب. ومعرفة هذه الشّروط والاصطلاحات كلّها
هي علم الحديث وربّما يفرد عنها النّاسخ والمنسوخ فيجعل فنّا برأسه
وكذا الغريب. وللنّاس فيه تآليف مشهورة ثمّ المؤتلف والمختلف. وقد ألّف
النّاس في علوم الحديث وأكثروا. ومن فحول علمائه وأئمّتهم أبو عبد الله
الحاكم وتآليفه فيه مشهورة وهو الّذي هذّبه وأظهر محاسنه. وأشهر كتاب
للمتأخّرين فيه كتاب أبي عمرو بن الصّلاح كان لعهد أوائل المائة
السّابعة وتلاه
__________
[1] قوله تسعة الّذي في النووي على مسلم انها سبعة بتقديم السين فحرره
نصر.
(1/559)
محيي الدّين النّوويّ بمثل ذلك. والفنّ
شريف في مغزاه لأنّه معرفة ما يحفظ به السّنن المنقولة عن صاحب
الشّريعة. وقد انقطع لهذا العهد تخريج شيء من الأحاديث واستدراكها على
المتقدّمين إذ العادة تشهد بأنّ هؤلاء الأئمّة على تعدّدهم وتلاحق
عصورهم وكفايتهم واجتهادهم لم يكونوا ليغفلوا شيئا من السّنّة أو
يتركوه حتّى يعثر عليه المتأخّر، هذا بعيد عنهم وإنّما تنصرف العناية
لهذا العهد إلى تصحيح الأمّهات المكتوبة وضبطها بالرّواية عن مصنّفيها
والنّظر في أسانيدها إلى مؤلّفها وعرض ذلك على ما تقرّر في علم الحديث
من الشّروط والأحكام لتتّصل الأسانيد محكمة إلى منتهاها. ولم يزيدوا في
ذلك على العناية بأكثر من هذه الأمّهات الخمس إلّا في القليل. فأمّا
البخاريّ وهو أعلاها رتبة فاستصعب النّاس شرحه واستغلقوا منحاه من أجل
ما يحتاج إليه من معرفة الطّرق المتعدّدة ورجالها من أهل الحجاز
والشّام والعراق ومعرفة أحوالهم واختلاف النّاس فيهم.
ولذلك يحتاج إلى إمعان النّظر في التّفقه في تراجمه لأنّه يترجم
التّرجمة ويورد فيها الحديث بسند أو طريق ثمّ يترجم أخرى ويورد فيها
ذلك الحديث بعينه لما تضمّنه من المعنى الّذي ترجم به الباب. وكذلك في
ترجمة وترجمة إلى أن يتكرّر الحديث في أبواب كثيرة بحسب معانيه
واختلافها ومن شرحه ولم يستوف هذا فيه فلم يوفّ حقّ الشّرح كابن بطّال
وابن المهلّب وابن التّين ونحوهم. ولقد سمعت كثيرا من شيوخنا رحمهم
الله يقولون: شرح كتاب البخاريّ دين على الأمّة يعنون أنّ أحدا من
علماء الأمّة لم يوفّ ما يجب له من الشّرح بهذا الاعتبار. وأمّا صحيح
مسلّم فكثرت عناية علماء المغرب به وأكبّوا عليه وأجمعوا على تفصيله
على كتاب البخاريّ من غير الصّحيح ممّا لم يكن على شرطه وأكثر ما وقع
له في التّراجم. وأملى الإمام المارزيّ من فقهاء المالكيّة عليه شرحا
وسمّاه (المعلّم بفوائد مسلم) اشتمل على عيون من علم الحديث وفنون من
الفقه ثمّ أكمله القاضي عيّاض من بعده وتمّمه وسمّاه إكمال المعلّم
وتلاهما محيي
(1/560)
الدّين النّوويّ بشرح استوفى ما في
الكتابين وزاد عليهما فجاء شرحا وافيا. وأمّا كتب السّنن الأخرى وفيها
معظم مآخذ الفقهاء فأكثر شرحها في كتب الفقه إلّا ما يختصّ بعلم الحديث
فكتب النّاس عليها واستوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من علم الحديث
وموضوعاتها والأسانيد الّتي اشتملت على الأحاديث المعمول بها من
السّنّة. واعلم أنّ الأحاديث قد تميّزت مراتبها لهذا العهد بين صحيح
وحسن وضعيف ومعلول وغيرها تنزّلها أئمّة الحديث وجهابذته وعرّفوها. ولم
يبق طريق في تصحيح ما يصحّ من قبل. ولقد كان الأئمّة في الحديث يعرّفون
الأحاديث بطرقها وأسانيدها بحيث لو روي حديث بغير سنده وطريقه يفطنون
إلى أنّه قلب عن وضعه ولقد وقع مثل ذلك للإمام محمّد بن إسماعيل
البخاريّ حين ورد على بغداد وقصد المحدّثون امتحانه فسألوه عن أحاديث
قبلوا أسانيدها فقال: «لا أعرف هذه ولكن حدّثني فلان» . ثمّ أتى بجميع
تلك الأحاديث على الوضع الصّحيح وردّ كلّ متن إلى سنده وأقرّوا له
بالإمامة. واعلم أيضا أنّ الأئمّة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه
الصّناعة والإقلال فأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقال بلغت روايته إلى
سبعة عشر حديثا أو نحوها ومالك رحمه الله إنّما صحّ عنده ما في كتاب
الموطّإ [1] وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها. وأحمد بن حنبل رحمه الله
تعالى في مسندة خمسون ألف حديث ولكلّ ما أدّاه إليه اجتهاده في ذلك.
وقد تقوّل بعض المبغضين المتعسّفين إلى أنّ منهم من كان قليل البضاعة
في الحديث فلهذا قلّت روايته. ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار
الأئمّة لأنّ الشّريعة إنّما تؤخذ من الكتاب والسّنّة. ومن كان قليل
البضاعة من الحديث فيتعيّن عليه طلبه وروايته والجدّ والتّشمير في ذلك
ليأخذ الدّين عن أصول صحيحة ويتلقّى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها.
وإنّما قلّل منهم من قلّل
__________
[1] الّذي في شرح الزرقاني على الموطأ حكاية أقوال خمسة في عدة أحاديثه
أولها 500 ثانيها 700 ثالثها ألف ونيف رابعها 1720 خامسها 666 وليس فيه
قول بما في هذه النسخة قاله نصر الهوريني.
(1/561)
الرّواية لأجل المطاعن الّتي تعترضه فيها
والعلل الّتي تعرض في طرقها سيّما والجرح مقدّم عند الأكثر فيؤدّيه
الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث وطرق
الأسانيد ويكثر ذلك فتقلّ روايته لضعف في الطّرق.
هذا مع أنّ أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأنّ المدينة
دار الهجرة ومأوى الصّحابة ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم
بالجهاد أكثر.
والإمام أبو حنيفة إنّما قلّت روايته لما شدّد في شروط الرّواية
والتّحمّل وضعف رواية الحديث اليقينيّ إذا عارضها الفعل النّفسيّ.
وقلّت من أجلها رواية فقلّ حديثه. لأنّه ترك رواية الحديث متعمّدا
فحاشاه من ذلك. ويدلّ على أنّه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد
مذهبه بينهم والتّعويل عليه واعتباره ردّا وقبولا. وأمّا غيره من
المحدّثين وهم الجمهور فتوسّعوا في الشّروط وكثر حديثهم والكلّ عن
اجتهاد وقد توسّع أصحابه من بعده في الشّروط وكثرت روايتهم.
وروى الطّحطاوي [1] فأكثر وكتب مسندة وهو جليل القدر إلّا أنّه لا يعدل
الصّحيحين لأنّ الشّروط الّتي اعتمدها البخاريّ ومسلم في كتابيهما مجمع
عليها بين الأمّة كما قالوه. وشروط الطّحطاويّ غير متّفق عليها
كالرّواية عن المستور الحال وغيره فلهذا قدّم الصّحيحان بل وكتب السّنن
المعروفة عليه لتأخّر شروطه عن شروطهم. ومن أجل هذا قيل في الصّحيحين
بالإجماع على قبولهما من جهة الإجماع على صحّة ما فيهما من الشّروط
المتّفق عليها. فلا تأخذك ريبة في ذلك فالقوم أحقّ النّاس بالظّنّ
الجميل بهم والتماس المخارج الصّحيحة لهم. والله سبحانه وتعالى أعلم
بما في حقائق الأمور.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الطحاوي.
(1/562)
الفصل السابع في علم
الفقه وما يتبعه من الفرائض
الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلّفين بالوجوب والحذر [1]
والنّدب والكراهة والإباحة وهي متلقّاة من الكتاب والسّنّة وما نصبه
الشّارع لمعرفتها من الأدلّة فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلّة قيل
لها فقه. وكان السّلف يستخرجونها من تلك الأدلّة على اختلاف فيما
بينهم. ولا بدّ من وقوعه ضرورة.
فإنّ الأدلّة غالبها من النّصوص وهي بلغة العرب وفي اقتضاءات ألفاظها
لكثير من معانيها وخصوصا الأحكام الشرعيّة اختلاف بينهم معروف. وأيضا
فالسّنّة مختلفة الطّرق في الثّبوت وتتعارض في الأكثر أحكامها فتحتاج
إلى التّرجيح وهو مختلف أيضا. فالأدلّة من غير النّصوص مختلف فيها
وأيضا فالوقائع المتجدّدة لا توفّى بها النّصوص. وما كان منها غير ظاهر
في المنصوص [2] فيحمل على المنصوص لمشابهة بينهما وهذه كلّها إشارات
[3] للخلاف ضروريّة الوقوع. ومن هنا وقع الخلاف بين السلف والأئمّة من
بعدهم. ثمّ إنّ الصّحابة كلّهم لم يكونوا أهل فتيا ولا كان الدّين يؤخذ
عن جميعهم. وإنّما كان ذلك مختصّا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه
ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالته بما تلقّوه من النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم أو ممّن سمعه منهم ومن عليتهم. وكانوا يسمّون لذلك القرّاء
أي الّذين يقرءون الكتاب لأنّ العرب كانوا أمّة أمّيّة، فاختصّ من كان
منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ. وبقي الأمر كذلك صدر
الملّة. ثمّ عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمّيّة من العرب بممارسة
الكتاب وتمكّن الاستنباط
__________
[1] وفي نسخة أخرى: والحظر.
[2] وفي نسخة أخرى: النصوص.
[3] وفي نسخة أخرى: مثارات.
(1/563)
وكمل الفقه وأصبح صناعة وعلما فبدّلوا باسم
الفقهاء والعلماء من القرّاء. وانقسم الفقه فيهم إلى طريقتين: طريقة
أهل الرّأي والقياس وهم أهل العراق وطريقة أهل الحديث وهم أهل الحجاز.
وكان الحديث قليلا في أهل العراق لما قدّمناه فاستكثروا من القياس
ومهروا فيه فلذلك قيل أهل الرّأي. ومقدّم جماعتهم الّذي استقرّ المذهب
فيه وفي أصحابه أبو حنيفة وإمام أهل الحجاز مالك بن أنس والشّافعيّ من
بعده. ثمّ أنكر القياس طائفة من العلماء وأبطلوا العمل به وهم
الظّاهريّة. وجعلوا المدارك [1] كلّها منحصرة في النّصوص والإجماع
وردّوا القياس الجليّ والعلّة المنصوصة إلى النّصّ، لأنّ النّصّ على
العلّة نصّ على الحكم في جميع محالّها. وكان إمام هذا المذهب داود بن
عليّ وابنه وأصحابهما. وكانت هذه المذاهب الثّلاثة هي مذاهب الجمهور
المشتهرة بين الأمّة. وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به
وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصّحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة
الأئمّة ورفع الخلاف عن أقوالهم وهي كلّها أصول واهية وشذّ بمثل ذلك
الخوارج ولم يحتفل [2] الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الإنكار
والقدح. فلا نعرف شيئا من مذاهبهم ولا نروي كتبهم ولا أثر لشيء منها
إلّا في مواطنهم. فكتب الشّيعة في بلادهم وحيث كانت دولتهم [3] قائمة
في المغرب والمشرق واليمن والخوارج كذلك. ولكلّ منهم كتب وتآليف وآراء
في الفقه غريبة. ثمّ درس مذهب أهل الظّاهر اليوم بدروس أئمّته وإنكار
الجمهور على منتحله ولم يبق إلّا في الكتب المجلّدة [4] وربّما يعكف
كثير من الطّالبين ممّن تكلّف بانتحال مذهبهم على تلك الكتب يروم أخذ
فقههم منها ومذهبهم فلا يخلو بطائل ويصير إلى مخالفة الجمهور وإنكارهم
عليه وربّما عدّ بهذه النّحلة من أهل
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مدارك الشرع.
[2] وفي نسخة أخرى: ولم يحفل.
[3] وفي نسخة أخرى: دولهم.
[4] وفي النسخة الباريسية: في الكتب المخلدة.
(1/564)
البدع بنقله [1] العلم من الكتب من غير
مفتاح المعلّمين. وقد فعل ذلك ابن حزم بالأندلس على علوّ رتبته في حفظ
الحديث وصار إلى مذهب أهل الظّاهر ومهر فيه باجتهاد زعمه في أقوالهم.
وخالف إمامهم داود وتعرّض للكثير من الأئمّة المسلمين فنقم النّاس ذلك
عليه وأوسعوا مذهبه استهجانا وإنكارا، وتلقّوا كتبه بالإغفال والتّرك
حتّى إنّها ليحصر بيعها بالأسواق وربّما تمزّق في بعض الأحيان. ولم يبق
إلا مذهب أهل الرّأي من العراق وأهل الحديث من الحجاز.
فأمّا أهل العراق فإمامهم الّذي استقرّت عنده مذاهبهم أبو حنيفة
النّعمان بن ثابت ومقامه في الفقه لا يلحق شهد له بذلك أهل جلدته
وخصوصا مالك والشّافعيّ. وأمّا أهل الحجاز فكان إمامهم مالك ابن أنس
الأصبحيّ إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى واختصّ بزيادة مدرك آخر
للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره وهو عمل أهل المدينة لأنّه رأى
أنّهم فيما ينفسون [2] عليه من فعل أو ترك متابعون لمن قبلهم ضرورة
لدينهم واقتدائهم، وهكذا إلى الجبل المباشرين لفعل النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم الآخذين ذلك عنه. وصار ذلك عنده من أصول الأدلّة الشّرعيّة.
وظنّ كثير أنّ ذلك من مسائل الإجماع فأنكره لأنّ دليل الإجماع لا يخصّ
أهل المدينة من سواهم بل هو شامل للأمّة. واعلم أنّ الإجماع إنّما هو
الاتّفاق على الأمر الدّينيّ عن اجتهاد. ومالك رحمه الله تعالى لم
يعتبر عمل أهل المدينة من هذا المعنى وإنّما اعتبره من حيث اتّباع
الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشّارع صلوات الله وسلامه
عليه.
وضرورة اقتدائهم بعين ذلك يعمّ الملّة [3] ذكرت في باب الإجماع
والأبواب بها من حيث ما فيها من الاتّفاق الجامع بينها وبين الإجماع.
إلّا أنّ اتّفاق أهل
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بتلقيه.
[2] وفي نسخة أخرى: يتفقون.
[3] وفي النسخة الباريسية: (تعين ذلك نعم المسألة) وهو تحريف.
(1/565)
الإجماع عن نظر واجتهاد في الأدلّة واتّفاق
هؤلاء في فعل أو ترك مستندين إلى مشاهدة من قبلهم. ولو ذكرت المسألة في
باب فعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتقريره أو مع الأدلّة المختلف
فيها مثل مذهب الصّحابيّ وشرع من قبلنا والاستصحاب لكان أليق بها ثمّ
كان من بعد مالك بن أنس محمّد بن إدريس المطّلبيّ الشّافعيّ رحمهما
الله تعالى. رحل إلى العراق من بعد مالك ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة
وأخذ عنهم ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق واختصّ بمذهب،
وخالف مالكا رحمه الله تعالى في كثير من مذهبه. وجاء من بعدهما أحمد بن
حنبل رحمه الله. وكان من علية المحدّثين وقرأ أصحابه على أصحاب الإمام
أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث فاختصّوا بمذهب آخر. ووقف
التّقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة ودرس المقلّدون لمن سواهم. وسدّ
النّاس باب الخلاف وطرقه لمّا كثر تشعّب الاصطلاحات في العلوم. ولما
عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد ولمّا خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله
ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه فصرّحوا بالعجز والإعواز وردّوا النّاس
إلى تقليد هؤلاء كلّ من اختصّ به من المقلّدين. وحظروا أن يتداول
تقليدهم لما فيه من التّلاعب ولم يبق إلّا نقل مذاهبهم. وعمل كلّ مقلّد
بمذهب من قلّده منهم بعد تصحيح الأصول واتّصال سندها بالرّواية لا
محصول اليوم للفقه غير هذا. ومدّعي الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه
مهجور تقليده وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمّة
الأربعة. فأمّا أحمد بن حنبل فمقلّده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد
وأصالته في معاضدة الرّواية وللأخبار بعضها ببعض. وأكثرهم بالشّام
والعراق من بغداد ونواحيها وهم أكثر النّاس حفظا للسّنّة ورواية الحديث
وميلا بالاستنباط إليه عن القياس ما أمكن. وكان لهم ببغداد صولة وكثرة
حتّى كانوا يتواقعون مع الشّيعة في نواحيها. وعظمت الفتنة من أجل ذلك
ثمّ انقطع ذلك عند استيلاء التّتر عليها. ولم يراجع وصارت كثرتهم
بالشّام. وأمّا أبو حنيفة فقلّده
(1/566)
اليوم أهل العراق ومسلمة الهند والصّين وما
وراء النّهر وبلاد العجم كلّها. ولمّا كان مذهبه أخصّ بالعراق ودار
السّلام وكان تلميذه صحابة الخلفاء من بني العبّاس فكثرت تآليفهم
ومناظراتهم مع الشّافعيّة وحسنت مباحثهم في الخلافيّات، وجاءوا منها
بعلم مستظرف وأنظار غريبة وهي بين أيدي النّاس. وبالمغرب منها شيء قليل
نقله إليه القاضي بن العربيّ وأبو الوليد الباجيّ في رحلتهما.
وأمّا الشّافعيّ فمقلّدوه بمصر أكثر ممّا سواها وقد كان انتشر مذهبه
بالعراق وخراسان وما وراء النّهر وقاسموا الحنفيّة في الفتوى والتّدريس
في جميع الأمصار.
وعظمت مجالس المناظرات بينهم وشحنت كتب الخلافيّات بأنواع استدلالاتهم.
ثمّ درس ذلك كلّه بدروس المشرق وأقطاره. وكان الإمام محمّد بن إدريس
الشّافعيّ لمّا نزل على بني عبد الحكم بمصر أخذ عنه جماعة منهم. وكان
من تلميذه بها: البويطيّ والمزنيّ وغيرهم، وكان بها من المالكيّة جماعة
من بني عبد الحكم وأشهب وابن القاسم وابن المواز وغيرهم ثمّ الحارس بن
مسكين وبنوه ثمّ القاضي أبو إسحاق بن شعبان وأولاده. ثمّ انقرض فقه أهل
السّنّة من مصر بظهور دولة الرّافضة وتداول بها فقه أهل البيت وتلاشى
من سواهم [1] وارتحل إليها القاضي عبد الوهاب من بغداد، آخر المائة
الرابعة على ما أعلم، من الحاجة والتقليب في المعاش. فتأذّن خلفاء
العبيديّين بإكرامه، وإظهار فضله نعيا على بني العبّاس في اطّراح مثل
هذا الإمام، والاغتباط به.
فنفقت سوق المالكيّة بمصر قليلا، إلى أن ذهبت دولة العبيديّين من
الرّافضة على يد صلاح الدّين يوسف بن أيّوب فذهب منها فقه أهل البيت
وعاد فقه الجماعة إلى الظّهور بينهم ورجع إليهم فقه الشّافعيّ وأصحابه
من أهل العراق والشّام فعاد إلى أحسن ما كان ونفقت سوقه واشتهر منهم
محيي الدّين النّوويّ من الحلبة الّتي ربيت في ظلّ الدّولة الأيّوبيّة
بالشّام وعزّ الدّين بن عبد السّلام أيضا. ثمّ ابن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وكاد من سواهم يتلاشوا ويذهبوا.
(1/567)
الرّقعة بمصر وتقيّ الدّين بن دقيق العيد
ثمّ تقيّ الدّين السّبكيّ بعدهما إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام
بمصر لهذا العهد وهو سراج الدّين البلقينيّ فهو اليوم أكبر الشّافعيّة
بمصر كبير العلماء بل أكبر العلماء من أهل العصر [1] . وأمّا مالك رحمه
الله تعالى فاختصّ بمذهبه أهل المغرب والأندلس. وإن كان يوجد في غيرهم
إلّا أنّهم لم يقلّدوا غيره إلّا في القليل لما أنّ رحلتهم كانت غالبا
إلى الحجاز وهو منتهى سفرهم. والمدينة يومئذ دار العلم ومنها خرج إلى
العراق ولم يكن العراق في طريقهم فاقتصروا عن الأخذ عن علماء المدينة.
وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلميذه من بعده. فرجع إليه
أهل المغرب والأندلس وقلّدوه دون غيره ممّن لم تصل إليهم طريقته. وأيضا
فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس ولم يكونوا يعانون
الحضارة الّتي لأهل العراق فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة
البداوة، ولهذا لم يزل المذهب المالكيّ غضّا عندهم، ولم يأخذه تنقيح
الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب. ولمّا صار مذهب كلّ إمام
علما مخصوصا عند أهل مذهبه ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس
فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق وتفريقها عند الاشتباه بعد
الاستناد إلى الأصول المقرّرة من مذاهب إمامهم. وصار ذلك كلّه يحتاج
إلى ملكة راسخة يقتدر بها على ذلك النّوع من التّنظير أو التّفرقة
واتّباع مذهب إمامهم فيهما ما استطاعوا. وهذه الملكة هي علم الفقه لهذا
العهد. وأهل المغرب جميعا مقلّدون لمالك رحمه الله. وقد كان تلاميذه
افترقوا بمصر والعراق، فكان بالعراق منهم القاضي إسماعيل وطبقته مثل
ابن خويز منداد وابن اللّبّان [2] والقاضي وأبي بكر الأبهريّ والقاضي
أبي حسين [3] بن القصّار والقاضي عبد الوهّاب ومن بعدهم. وكان بمصر ابن
القاسم وأشهب وابن عبد الحكم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فهو اليوم كبير الشافعية بمصر، لا بل كبير العلماء
من أهل العصر.
[2] وفي النسخة الباريسية: ابن المنتاب.
[3] وفي النسخة الباريسية: أبو الحسن.
(1/568)
والحارث بن مسكين وطبقتهم ورحل من الأندلس
يحيى بن يحيى اللّيثي، ولقي مالكا. وروى عنه كتاب الموطأ، وكان من جملة
أصحابه. ورحل بعده عبد الملك بن حبيب فأخذ عن ابن القاسم وطبقته وبثّ
مذهب مالك في الأندلس ودوّن فيه كتاب الواضحة. ثمّ دوّن العتبيّ من
تلامذته كتاب العتبيّة.
ورحل من إفريقية أسد بن الفرات فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أوّلا، ثمّ
انتقل إلى مذهب مالك. وكتب على ابن القاسم [1] في سائر أبواب الفقه
وجاء إلى القيروان بكتابه وسمّي الأسدية نسبة إلى أسد بن الفرات، فقرأ
بها سحنون على أسد ثمّ ارتحل إلى المشرق ولقي ابن القاسم وأخذ عنه
وعارضه بمسائل الأسديّة فرجع عن كثير منها. وكتب سحنون مسائلها ودوّنها
وأثبت ما رجع عنه منها وكتب لأسد [2] وأن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك
فترك النّاس كتابه واتّبعوا مدوّنة سحنون على ما كان فيها من اختلاط
المسائل في الأبواب فكانت تسمّى المدوّنة والمختلطة. وعكف أهل القيروان
على هذه المدوّنة وأهل الأندلس على الواضحة والعتبيّة. ثمّ اختصر ابن
أبي زيد المدوّنة والمختلطة في كتابه المسمّى بالمختصر ولخّصه أيضا أبو
سعيد البرادعيّ من فقهاء القيروان في كتابه المسمّى بالتّهذيب وأعتمده
المشيخة من أهل إفريقية وأخذوا به وتركوا ما سواه. وكذلك اعتمد أهل
الأندلس كتاب العتبيّة وهجروا الواضحة وما سواها. ولم تزل علماء المذهب
يتعاهدون هذه الأمّهات بالشّرح والإيضاح والجمع فكتب أهل إفريقية على
المدوّنة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن يونس واللّخميّ وابن محرز
التّونسيّ وابن بشير وأمثالهم. وكتب أهل الأندلس على العتبيّة ما شاء
الله أن يكتبوا مثل ابن رشد وأمثاله. وجمع ابن أبي زيد جميع ما في
الأمّهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النّوادر فاشتمل على
جميع أقوال المذاهب وفرّع الأمّهات كلّها في
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وكتب عن ابن القاسم.
[2] وفي نسخة أخرى: وكتب معه ابن القاسم إلى أسد أن يمحو من أسديته ما
رجع عنه.
(1/569)
هذا الكتاب ونقل ابن يونس معظمه في كتابه
على المدوّنة وزخرت بحار المذهب المالكيّ في الأفقين إلى انقراض دولة
قرطبة والقيروان. ثمّ تمسّك بهما أهل المغرب بعد ذلك (إلى أن جاء كتاب
أبي عمرو بن الحاجب لخّص فيه طرق أهل المذهب في كلّ باب وتعديد أقوالهم
في كلّ مسألة فجاء كالبرنامج للمذهب. وكانت الطّريقة المالكيّة بقيت في
مصر من لدن الحارث بن مسكين وابن المبشّر وابن اللهيث وابن الرّشيق
وابن شاس. وكانت بالإسكندريّة في بني عوف وبني سند وابن عطاء الله. ولم
أدر عمّن أخذها أبو عمرو بن الحاجب لكنّه جاء بعد انقراض دولة
العبيديّين وذهاب فقه أهل البيت وظهور فقهاء السّنّة من الشّافعيّة
والمالكيّة ولمّا جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السّابعة) [1] عكف
عليه الكثير من طلبة المغرب وخصوصا أهل بجاية لما كان
__________
[1] الموجود بين القوسين ورد في النسخة الباريسية كما يلي:
وتميزت للمذهب المالكي ثلاث طرق: للقرويين وكبيرهم سحنون الآخذ عن أبي
القاسم، وللقرطبيين وكبيرهم ابن حبيب. الآخذ عن مالك ومطرف وابن
الماجشون وأصبغ. وللعراقيين وكبيرهم القاضي إسماعيل وأصحابه. وكانت
طريقة المصريين تابعة العراقيين وان القاضي عبد الوهاب انتقل إليها من
بغداد آخر المائة الرابعة وأخذ أهلها عنه، وكانت للطريقة المالكية بمصر
من لدن الحارث بن مسكين وابن ميسر وابن اللهيب وابن رشيق وكانت خافية
بسبب ظهور الرافضة وفقه أهل البيت. وأما طريقة العراقيين. فكانت مهجورة
عند أهل القيروان والأندلس لبعدها وخفاء مدركها وقلة اطلاعهم على
مآخذهم فيها. والقوم أهل اجتهاد. وان كان خاصا. لا يرون التقليد ولا
يرضونه طريقا. وكذلك نجد أهل المغرب والأندلس لا يأخذون برأي العراقيين
فيما لا يجدون فيه رواية عن الإمام أو أحد من أصحابه. ثم امتزجت الطرق
بعد ذلك ورحل أبو بكر الطرطوشي من الأندلس في المائة السادسة. ونزل
البيت المقدس وأوطنه. وأخذ عنه أهل مصر والإسكندرية ومزجوا طريقة
الأندلسية بطريقتهم المصرية. وكان من جملة أصحابه الفقيه سند صاحب
الطراز وأصحابه. وأخذ عنهم جماعة.
كان منهم بنو عوف وأصحابه. وأخذ عنهم أبو عمر بن الحاجب وبعده شهاب
الدين القرافي. واتصل ذلك في تلك الأمصار. وكان فقه الشافعية أيضا قد
انقرض بمصر منذ دولة العبيديين من أهل البيت. فظهر بعدهم في الفقهاء
الذين جددوه: الرافعي فقيه خراسان منهم. وظهر بالشام محيي الدين النووي
من تلك الحلبة ثم امتزجت طريقة المغاربة من المالكية أيضا بطريقة
العراقيين، من لدن الشرمساحي. كان بالإسكندرية ظاهرا في الطريقة
المغربية والمصرية. فبنى المستنصر العباسي أبو المعتصم وابن الظاهر
مدرسته ببغداد واستدعاه لها من خلفاء العبيديين الذين كانوا يومئذ
بالقاهرة فأذنوا له في الرحيل إليه. فلما قدم بغداد ولاه تدريس
المستنصرية، وأقام هنالك إلى أن استولى هولاكو على بغداد سنة ست وخمسين
من المائة السابعة. وخلص من تيار تلك النكبة وخلا سبيله.
فعاش لك إلى أن مات في أيام ابنه أحمد ابغا. وتلخصت طرق هؤلاء المصريين
ممتزجة بطرق المغاربة كما
(1/570)
كبير مشيختهم أبو عليّ ناصر الدّين
الزّواويّ هو الّذي جلبه إلى المغرب. فإنّه كان قرأ على أصحابه بمصر
ونسخ مختصره ذلك فجاء به وانتشر بقطر بجاية في تلميذه، ومنهم انتقل إلى
سائر الأمصار المغربيّة وطلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون
قراءته ويتدارسونه لما يؤثر عن الشّيخ ناصر الدّين من التّرغيب فيه.
وقد شرحه جماعة من شيوخهم: كابن عبد السّلام وابن رشد [1] وابن هارون
وكلّهم من مشيخة أهل تونس وسابق حلبتهم في الإجادة في ذلك ابن عبد
السّلام وهم مع ذلك يتعاهدون كتاب التّهذيب في دروسهم. وَالله يَهْدِي
من يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 2: 213.
الفصل الثامن في علم الفرائض
وهو معرفة فروض الوراثة وتصحيح سهام الفريضة ممّا تصحّ باعتبار فروضها
الأصول أو مناسختها. وذلك إذا هلك أحد الورثة وانكسرت سهامه على فروض
ورثته فإنّه حينئذ يحتاج إلى حسب تصحيح [2] الفريضة الأولى حتّى يصل
أهل الفروض جميعا في الفريضتين إلى فروضهم من غير تجزئة. وقد تكون هذه
المناسخات أكثر من واحد واثنين وتتعدّد لذلك بعدد أكثر. وبقدر ما تحتاج
إلى الحسبان وكذلك إذا كانت فريضة ذات وجهين مثل أن يقرّ بعض الورثة
بوارث وينكره الآخر فتصحّح على الوجهين حينئذ. وينظر مبلغ السّهام ثمّ
تقسم التّركة على نسب سهام الورثة من أصل الفريضة. وكلّ ذلك يحتاج إلى
الحسبان وكان
__________
[ () ] ذكرناه في مختصر أبي عمر ماجب، بذكر فقه الباب في مسائل
المتفرقة، وبذكر الأقوال في كل مسألة على تعدادها فجاء كالبرنامج
للمذهب. ولما ظهر بالمغرب آخر المائة السابعة.
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن راشد.
[2] وفي نسخة أخرى: حسبان يصحّح.
(1/571)
غالبا فيه وجعلوه فنّا مفردا. وللنّاس فيه
تآليف كثيرة أشهر ما عند المالكيّة من متأخّري الأندلس كتاب ابن ثابت
ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفيّ ثمّ الجعديّ ومن متأخّري إفريقية ابن
النّمر [1] الطّرابلسيّ وأمثالهم. وأمّا الشّافعيّة والحنفيّة
والحنابلة فلهم فيه تآليف كثيرة وأعمال عظيمة صعبة شاهدة لهم باتّساع
الباع في الفقه والحساب وخصوصا أبا المعالي رضي الله تعالى عنه وأمثاله
من أهل المذاهب وهو فنّ شريف لجمعه بين المعقول والمنقول والوصول به
إلى الحقوق في الوراثات بوجوه صحيحة يقينيّة عند ما تجهل الحظوظ وتشكل
على القاسمين. وللعلماء من أهل الأمصار بها عناية. ومن المصنّفين من
يحتاج فيها إلى الغلوّ في الحساب وفرض المسائل الّتي تحتاج إلى استخراج
المجهولات من فنون الحساب كالجبر والمقابلة والتّصرّف في الجذور وأمثال
ذلك فيملئون بها تآليفهم. وهو وإن لم يكن متداولا بين النّاس ولا يفيد
فيما يتداولونه من وراثتهم لغرابته وقلّة وقوعه فهو يفيد المران وتحصيل
الملكة في المتداول على أكمل الوجوه. وقد يحتجّ الأكثر من أهل هذا
الفنّ على فضله بالحديث المنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ الفرائض
ثلث العلم وأنّها أوّل ما ينسى وفي رواية نصف العلم خرّجه أبو نعيم
الحافظ واحتجّ به أهل الفرائض بناء على أنّ المراد بالفرائض فروض
الوراثة. والّذي يظهر أنّ هذا المحلّ [2] بعيد وأنّ المراد بالفرائض
إنّما هي الفرائض التّكليفيّة في العبادات والعادات والمواريث وغيرها.
وبهذا المعنى يصحّ فيها النّصفيّة والثّلثيّة. وأمّا فروض الوراثة فهي
أقلّ من ذلك كلّه بالنّسبة إلى علم [3] الشّريعة كلّها يعني هذا المراد
أنّ حمل لفظ الفرائض على هذا الفنّ المخصوص أو تخصيصه بفروض الوراثة
إنّما هو اصطلاح ناشئ للفقهاء
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن المنمر.
[2] وفي نسخة أخرى: المحمل
[3] وفي نسخة أخرى: علوم.
(1/572)
عند حدوث الفنون والاصطلاحات. ولم يكن صدر الإسلام يطلق على هذا إلّا
على عمومه مشتقّا من الفرض الّذي هو لغة التّقدير أو القطع. وما كان
المراد به في إطلاقه إلّا جميع الفروض كما قلناه وهي حقيقته الشّرعيّة
فلا ينبغي أن يحمل إلّا على ما كان يحمل في عصرهم فهو أليق بمرادهم
منه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق. |