تاريخ ابن خلدون

الفصل التاسع في أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات
اعلم أنّ أصول الفقه من أعظم العلوم الشّرعيّة وأجلّها قدرا وأكثرها فائدة وهو النّظر في الأدلّة الشّرعيّة من حيث تؤخذ منها الأحكام والتّآليف [1] . وأصول الأدلّة الشّرعيّة هي الكتاب الّذي هو القرآن ثمّ السّنّة المبنيّة له. فعلى عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كانت الأحكام تتلقّى منه بما يوحى إليه من القرآن ويبيّنه بقوله وفعله بخطاب شفاهيّ لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس. ومن بعده صلوات الله وسلامه عليه تعذّر الخطاب الشّفاهيّ وانحفظ القرآن بالتّواتر. وأمّا السّنّة فأجمع الصّحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها قولا أو فعلا بالنّقل الصّحيح الّذي يغلب على الظّنّ صدقه. وتعيّنت دلالة الشّرع في الكتاب والسّنّة بهذا الاعتبار ثمّ ينزّل الإجماع منزلتهما لإجماع الصّحابة على النّكير على مخالفيهم. ولا يكون ذلك إلّا عن مستند لأنّ مثلهم لا يتّفقون من غير دليل ثابت مع شهادة الأدلّة بعصمة الجماعة فصار الإجماع دليلا ثابتا في الشّرعيّات. ثمّ نظرنا في طرق استدلال الصّحابة والسّلف بالكتاب والسّنّة فإذا هم يقيسون الأشباه بالأشباه منهما، ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: التكاليف.

(1/573)


وتسليم بعضهم لبعض في ذلك. فإنّ كثيرا من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه لم تندرج في النّصوص الثّابتة فقاسوها بما ثبت وألحقوها بما نصّ عليه بشروط في ذلك الإلحاق، تصحّح تلك المساواة بين الشّبيهين أو المثلين. حتّى يغلب على الظّنّ أنّ حكم الله تعالى فيهما واحد وصار ذلك دليلا شرعيا بإجماعهم عليه، وهو القياس وهو رابع الأدلّة. واتّفق جمهور العلماء على أنّ هذه هي أصول الأدلّة وإن خالف بعضهم في الإجماع والقياس إلّا أنّه شذوذ. وألحق بعضهم بهذه الأدلّة الأربعة أدلّة أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها، لضعف مداركها وشذوذ القول فيها. فكان من أوّل مباحث هذا الفنّ النّظر في كون هذه أدلّة. فأمّا الكتاب فدليله المعجزة القاطعة في متنه والتّواتر في نقله، فلم يبق فيه مجال للاحتمال.
وأمّا السّنّة وما نقل إلينا منها فالإجماع على وجوب العمل بما يصحّ منها كما قلناه، معتضدا بما كان عليه العمل في حياته صلوات الله وسلامه عليه من إنفاذ الكتب والرّسل إلى النّواحي بالأحكام والشّرائع آمرا وناهيا. وأمّا الإجماع فلاتّفاقهم رضوان الله تعالى عليهم على إنكار مخالفتهم مع العصمة الثّابتة للأمّة.
وأمّا القياس فبإجماع الصّحابة رضي الله عنهم عليه كما قدّمناه. هذه أصول الأدلّة. ثمّ إنّ المنقول من السّنّة محتاج إلى تصحيح الخبر بالنّظر في طرق النّقل وعدالة النّاقلين لتتميّز الحالة المحصّلة للظّنّ بصدقة الّذي هو مناط وجوب العمل بالخير. وهذه أيضا من قواعد الفنّ. ويلحق بذلك عند التّعارض بين الخبرين وطلب المتقدّم منها معرفة النّاسخ والمنسوخ وهي من فصوله أيضا وأبوابه. ثمّ بعد ذلك يتعيّن النّظر في دلالة [1] الألفاظ وذلك أنّ استفادة المعاني على الإطلاق من تراكيب الكلام على الإطلاق يتوقّف على معرفة الدّلالات الوضعيّة مفردة ومركّبة. والقوانين اللّسانيّة في ذلك هي علوم النّحو والتّصريف والبيان. وحين
__________
[1] وفي نسخة أخرى: دلالات.

(1/574)


كان الكلام [1] ملكة لأهله لم تكن هذه علوما ولا قوانين ولم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها لأنّها جبلّة وملكة. فلمّا فسدت الملكة في لسان العرب قيّدها الجهابذة المتجرّدون لذلك بنقل صحيح ومقاييس مستنبطة صحيحة وصارت علوما يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى. ثمّ إنّ هناك استفادات أخرى خاصّة من تراكيب الكلام وهي استفادة الأحكام الشّرعيّة بين المعاني من أدلّتها الخاصّة من تراكيب الكلام وهو الفقه. ولا يكفي فيه معرفة الدّلالات الوضعيّة على الأطلاق بل لا بدّ من معرفة أمور أخرى تتوقّف عليها تلك الدّلالات الخاصّة وبها تستفاد الأحكام بحسب ما أصّل أهل الشّرع وجهابذة العلم من ذلك وجعلوه قوانين لهذه الاستفادة. مثل أنّ اللّغة لا تثبت قياسا والمشترك لا يراد به معناه معا والواو لا تقتضي التّرتيب والعامّ إذا أخرجت أفراد الخاصّ منه هل يبقى حجّة فيما عداها؟ والأمر للوجوب أو النّدب وللفور أو التّراخي والنّهي يقتضي الفساد أو الصّحّة والمطلق هل يحمل على المقيّد؟ والنّصّ على العلّة كاف في التّعدّد أم لا [2] ؟ وأمثال هذه. فكانت كلّها من قواعد هذا الفنّ. ولكونها من مباحث الدّلالة كانت لغويّة. ثمّ إنّ النّظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفنّ لأنّ فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاس ويماثل من الأحكام وينفتح [3] الوصف الّذي يغلب على الظّنّ أنّ الحكم علق به في الأصل من تبيّن أوصاف ذلك المحلّ أو وجود ذلك الوصف في الفرع من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه في مسائل أخرى من توابع ذلك كلّها قواعد لهذا الفنّ. (واعلم) أنّ هذا الفنّ من الفنون المستحدثة في الملّة وكان السّلف في غنية عنه بما أنّ استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد ممّا عندهم من الملكة اللّسانيّة. وأمّا القوانين الّتي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصا فمنهم أخذ معظمها. وأمّا الأسانيد فلم يكونوا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: اللسان.
[2] وفي النسخة الباريسية: في التعدي أو لا.
[3] وفي نسخة أخرى: وتنقيح.

(1/575)


يحتاجون إلى النّظر فيها لقرب العصر وممارسة النّقلة وخبرتهم بهم. فلمّا انقرض السّلف وذهب الصّدر الأوّل وانقلبت العلوم كلّها صناعة كما قرّرناه من قبل احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلّة فكتبوها فنا قائما برأسه سمّوه أصول الفقه. وكان أوّل من كتب فيه الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالته المشهورة تكلّم فيها في الأوامر والنّواهي والبيان والخبر والنّسخ وحكم العلّة المنصوصة من القياس. ثمّ كتب فقهاء الحنفيّة فيه وحقّقوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها. وكتب المتكلّمون أيضا كذلك إلّا أنّ كتابة الفقهاء فيها أمسّ بالفقه وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها والشّواهد وبناء المسائل فيها على النّكت الفقهيّة. والمتكلّمون يجرّدون صور تلك المسائل عن الفقه ويميلون إلى الاستدلال العقليّ ما أمكن لأنّه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم فكان لفقهاء الحنفيّة فيها اليد الطولى من الغوص على النّكت الفقهيّة والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن. وجاء أبو زيد الدّبّوسيّ من أئمّتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم وتمّم الأبحاث والشّروط الّتي يحتاج إليها فيه وكملت صناعة أصول الفقه بكماله وتهذّبت مسائله وتمهّدت قواعده وعني النّاس بطريقة المتكلّمين فيه. وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلّمون كتاب البرهان لإمام الحرمين والمستصفى للغزاليّ وهما من الأشعريّة وكتاب العهد [1] لعبد الجبّار وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصريّ وهما من المعتزلة. وكانت الأربعة قواعد هذا الفنّ وأركانه. ثمّ لخّص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلّمين المتأخّرين وهما الإمام فخر الدّين بن الخطيب في كتاب المحصول وسيف الدّين الآمديّ في كتاب الأحكام. واختلفت طرائقهما في الفنّ بين التّحقيق والحجاج. فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلّة والاحتجاج والآمديّ مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل. وأمّا كتاب
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: كتاب العمد.

(1/576)


المحصول فاختصره تلميذ الإمام سراج الدّين الأرمويّ في كتاب التّحصيل وتاج الدّين الأرمويّ في كتاب الحاصل واقتطف شهاب الدّين القرافيّ منهما مقدّمات وقواعد في كتاب صغير سمّاه التّنقيحات. وكذلك فعل البيضاويّ في كتاب المنهاج. وعني المبتدءون بهذين الكتابين وشرحهما كثير من النّاس. وأمّا كتاب الإحكام للآمديّ وهو أكثر تحقيقا في المسائل فلخّصه أبو عمر بن الحاجب في كتابه المعروف بالمختصر الكبير. ثمّ اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم وعني أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه وحصلت زبدة طريقة المتكلّمين في هذا الفنّ في هذه المختصرات. وأمّا طريقة الحنفيّة فكتبوا فيها كثيرا وكان من أحسن كتابة فيها، للمتقدّمين تأليف أبي زيد الدّبّوسيّ وأحسن كتابة المتأخّرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمّتهم وهو مستوعب وجاء ابن السّاعاتيّ من فقهاء الحنفيّة فجمع بين كتاب الإحكام وكتاب البزدويّ في الطّريقتين وسمّي كتابه بالبدائع فجاء من أحسن الأوضاع وأبدعها وأئمّة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءة وبحثا. وأولع كثير من علماء العجم بشرحه.
والحال على ذلك لهذا العهد. هذه حقيقة هذا الفنّ وتعيين موضوعاته وتعديد التّآليف المشهورة لهذا العهد فيه. والله ينفعنا بالعلم ويجعلنا من أهله بمنّه وكرمه إنّه على كلّ شيء قدير.
وأما الخلافات.
فاعلم أنّ هذا الفقه المستنبط من الأدلّة الشّرعيّة كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم خلافا لا بدّ من وقوعه لما قدّمناه. واتّسع ذلك في الملّة اتّساعا عظيما وكان للمقلّدين أن يقلّدوا من شاءوا منهم ثمّ لمّا انتهى ذلك إلى الأئمّة الأربعة من علماء الأمصار وكانوا بمكان من حسن الظّنّ بهم اقتصر النّاس على تقليدهم ومنعوا من تقليد سواهم لذهاب الاجتهاد لصعوبته وتشعّب العلوم الّتي هي موادّه باتّصال الزّمان وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة. فأقيمت هذه المذاهب الأربعة أصول الملّة

(1/577)


وأجري الخلاف بين المتمسّكين بها والآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النّصوص الشّرعيّة والأصول الفقهيّة. وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كلّ منهم مذهب إمامه تجري على أصول صحيحة وطرائق قويمة يحتجّ بها كلّ على صحّة مذهبه الّذي قلّده وتمسّك به وأجريت في مسائل الشّريعة كلّها وفي كلّ باب من أبواب الفقه فتارة يكون الخلاف بين الشّافعيّ ومالك وأبو حنيفة يوافق أحدهما وتارة بين مالك وأبي حنيفة والشّافعيّ يوافق أحدهما وتارة بين الشّافعيّ وأبي حنيفة ومالك يوافق أحدهما وكان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمّة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم. كان هذا الصّنف من العلم يسمّى بالخلافيّات. ولا بدّ لصاحبه من معرفة القواعد الّتي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد إلّا أنّ المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلافيّات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلّته. وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمّة وأدلّتهم ومران [1] المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه.
وتآليف الحنفيّة والشّافعيّة فيه أكثر من تآليف المالكيّة لأنّ القياس عند الحنفيّة أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت فهم لذلك أهل النّظر والبحث. وأمّا المالكيّة فالأثر أكثر معتمدهم وليسوا بأهل نظر وأيضا فأكثرهم أهل الغرب وهم بادية غفل من الصّنائع إلّا في الأقلّ. وللغزاليّ رحمه الله تعالى فيه كتاب المآخذ ولأبي بكر العربيّ من المالكيّة كتاب التّلخيص جلبه من المشرق. ولأبي زيد الدّبّوسيّ كتاب التّعليقة ولابن القصّار من شيوخ المالكيّة عيون الأدلّة وقد جمع ابن السّاعاتيّ في مختصره في أصول الفقه جميع ما يبنى عليها من الفقه الخلافيّ مدرجا في كلّ مسألة ما يبنى عليها من الخلافيّات.
وأما الجدال
وهو معرفة آداب المناظرة الّتي تجري بين أهل المذاهب
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وميزات.

(1/578)


الفقهيّة وغيرهم فإنّه لمّا كان باب المناظرة في الرّدّ والقبول متّسعا وكلّ واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج. ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ فاحتاج الأئمّة إلى أن يضعوا آدابا وأحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرّدّ والقبول وكيف يكون حال المستدلّ والمجيب وحيث يسوغ له أن يكون مستدلا وكيف يكون مخصوصا [1] منقطعا ومحلّ اعتراضه أو معارضته وأين يجب عليه السّكوت ولخصمه الكلام والاستدلال.
ولذلك قيل فيه إنّه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال الّتي يتوصّل بها إلى حفظ رأي وهدمه سواء كان ذلك الرّأي من الفقه أو غيره. وهي طريقتان طريقة البزدويّ وهي خاصّة بالأدلّة الشّرعيّة من النّصّ والإجماع والاستدلال وطريقة العميديّ وهي عامّة في كلّ دليل يستدلّ به من أيّ علم كان وأكثره استدلال. وهو من المناحي الحسنة والمغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة. وإذا اعتبرنا النّظر المنطقيّ كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطيّ والسّوفسطائيّ.
إلّا أنّ صور الأدلّة والأقيسة فيه محفوظة مراعاة يتحرّى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي. وهذا العميديّ هو أوّل من كتب فيها ونسبت الطّريقة إليه. وضع الكتاب المسمّى بالإرشاد مختصرا وتبعه من بعده من المتأخّرين كالنّسفيّ وغيره جاءوا على أثره وسلكوا مسلكه وكثرت في الطّريقة التّآليف. وهي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم والتّعليم في الأمصار الإسلاميّة. وهي مع ذلك كماليّة وليست ضروريّة والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مخصوصا.

(1/579)


الفصل العاشر في علم الكلام
هو علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة والرّدّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السّلف وأهل السّنّة. وسرّ هذه العقائد الإيمانيّة هو التّوحيد. فلنقدّم هنا لطيفة في برهان عقليّ يكشف لنا عن التّوحيد على أقرب الطّرق والمآخذ ثمّ نرجع إلى تحقيق علمه [1] وفيما ينظر ويشير إلى حدوثه في الملّة وما دعا إلى وضعه فنقول: اعلم أنّ الحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذّوات أو من الأفعال البشريّة أو الحيوانيّة فلا بدّ لها من أسباب متقدّمة عليها بها تقع في مستقرّ العادة وعنها يتمّ كونه. وكلّ واحد من هذه الأسباب حادث أيضا فلا بدّ له من أسباب أخرى ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتّى تنتهي إلى مسبّب الأسباب وموجدها وخالقها سبحانه لا إله إلّا هو. وتلك الأسباب في ارتقائها تتفسّح وتتضاعف [2] طولا وعرضا ويحار العقل في إدراكها وتعديدها. فإذا لا يحصرها إلّا العلم المحيط سيّما الأفعال البشريّة والحيوانيّة فإنّ من جملة أسبابها في الشّاهد القصود والإرادات إذ لا يتمّ كون الفعل إلّا بإرادته والقصد إليه. والقصود والإرادات أمور نفسانيّة ناشئة في الغالب عن تصوّرات سابقة يتلو بعضها بعضا. وتلك التّصوّرات هي أسباب قصد الفعل وقد تكون أسباب تلك التّصوّرات تصوّرات أخرى وكلّ ما يقع في النّفس من التّصوّرات مجهول سببه، إذ لا يطّلع أحد على مبادئ الأمور النّفسانيّة ولا على ترتيبها. إنّما هي أشياء يلقيها الله في الفكر يتبع بعضها بعضا والإنسان عاجز عن معرفة مبادئها وغاياتها. وإنّما يحيط علما في الغالب بالأسباب الّتي هي طبيعة ظاهرة
__________
[1] أي علم الكلام.
[2] وفي نسخة أخرى: تتضاعف فتنفسخ.

(1/580)


ويقع في مداركها على نظام وترتيب لأنّ الطّبيعة محصورة للنّفس وتحت طورها.
وأمّا التّصوّرات فنطاقها أوسع من النّفس لأنّها للعقل الّذي هو فوق طور النّفس فلا تدرك الكثير منها فضلا عن الإحاطة. وتأمّل من ذلك حكمة الشّارع في نهيه عن النّظر إلى الأسباب والوقوف معها فإنّه واد يهيم فيه الفكر ولا يحلو [1] منه بطائل ولا يظفر بحقيقة. قال الله: «ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ 6: 91» . وربّما انقطع في وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلّت قدمه وأصبح من الضّالين الهالكين نعوذ باللَّه من الحرمان والخسران المبين. ولا تحسبنّ أنّ هذا الوقوف أو الرّجوع عنه في قدرتك واختيارك بل هو لون يحصل للنّفس وصبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها. إذ لو علمناها لتحرّزنا منها. فلنتحرّز من ذلك بقطع النّظر عنها جملة. وأيضا فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبّباتها مجهول لأنّها إنّما يوقف عليها بالعادة لاقتران الشّاهد بالاستناد إلى الظّاهر.
وحقيقة التّأثير وكيفيّته مجهولة، «وَما أُوتِيتُمْ من الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 17: 85» . فلذلك أمرنا بقطع النّظر عنها وإلغائها جملة والتّوجّه إلى مسبّب الأسباب كلّها وفاعلها وموجدها لترسخ صفة التّوحيد في النّفس على ما علّمنا الشّارع الّذي هو أعرف بمصالح ديننا وطرق سعادتنا لاطّلاعه على ما وراء الحسّ. قال صلّى الله عليه وسلّم: «من مات يشهد أن لا إله إلّا الله دخل الجنّة» . فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع وحقّت عليه كلمة الكفر وأن سبح في بحر النّظر والبحث عنها وعن أسبابها وتأثيراتها واحدا بعد واحد فأنا الضّامن له أن لا يعود إلّا بالخيبة. فلذلك نهانا الشّارع عن النّظر في الأسباب وأمرنا بالتّوحيد المطلق «قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ 112: 1- 4» [2] ولا تثقنّ بما يزعم لك الفكر من أنّه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كلّه
__________
[1] لم يحل بطائل: أي لم يظفر ولم يستفد منه (لسان العرب)
[2] سورة الإخلاص.

(1/581)


وسفه رأيه في ذلك. واعلم أنّ الوجود عند كلّ مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها والأمر في نفسه بخلاف ذلك والحقّ من ورائه. ألا ترى الأصمّ كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات. وكذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيّات ولولا ما يردّهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافّة لما أقرّوا به لكنّهم يتّبعون الكافّة في إثبات هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكرا للمعقولات وساقطة لديه بالكلّيّة فإذا علمت هذا فلعلّ هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا لأنّ إدراكاتنا مخلوقة محدثة وخلق الله أكبر من خلق النّاس. والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقا من ذلك والله من ورائهم محيط. فاتّهم إدراكك ومدركاتك في الحصر واتبع ما أمرك الشّارع به من اعتقادك وعملك فهو أحرص على سعادتك وأعلم بما ينفعك لأنّه من طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينيّة لا كذب فيها.
غير أنّك لا تطمع أن تزن به أمور التّوحيد والآخرة وحقيقة النّبوة وحقائق الصّفات الإلهيّة وكلّ ما وراء طوره فإنّ ذلك طمع في محال. ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الّذي يوزن به الذّهب فطمع أن يزن به الجبال وهذا لا يدرك. على أنّ الميزان في أحكامه غير صادق لكنّ العقل قد يقف عنده ولا يتعدّى طوره حتّى يكون له أن يحيط باللَّه وبصفاته فإنّه ذرّة من ذرّات الوجود الحاصل منه. وتفطّن في هذا الغلط ومن يقدّم العقل على السّمع في أمثال هذه القضايا وقصور فهمه واضمحلال رأيه فقد تبيّن لك الحقّ من ذلك وإذ تبيّن ذلك فلعلّ الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضلّ العقل في بيداء الأوهام ويحار وينقطع. فإذا التّوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب وكيفيّات تأثيرها وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها

(1/582)


إذ لا فاعل غيره وكلّها ترتقي إليه وترجع إلى قدرته وعلمنا به إنّما هو من حيث صدورنا عنه لا غير وهذا هو معنى ما نقل عن بعض الصّدّيقين: «العجز عن الإدراك إدراك» . ثمّ إنّ المعتبر في هذا التّوحيد ليس هو الإيمان فقط الّذي هو تصديق حكميّ فإنّ ذلك من حديث النّفس وإنّما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيّف بها النّفس كما أنّ المطلوب من الأعمال والعبادات أيضا حصول ملكة الطّاعة والانقياد وتفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود حتّى ينقلب المريد السّالك ربّانيّا. والفرق بين الحال والعلم في العقائد فرق ما بين القول والاتّصاف. وشرحه أنّ كثيرا من النّاس يعلم أنّ رحمة اليتيم والمسكين قربة إلى الله تعالى مندوب إليها ويقول بذلك ويعترف به ويذكر مأخذه من الشّريعة وهو لو رأى يتيما أو مسكينا من أبناء المستضعفين لفرّ عنه واستنكف أن يباشره فضلا عن التّمسّح عليه للرّحمة وما بعد ذلك من مقامات العطف والحنوّ والصّدقة. فهذا إنّما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم ولم يحصل له مقام الحال والاتّصاف.
ومن النّاس من يحصل له مع مقام العلم والاعتراف بأنّ رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأوّل وهو الاتّصاف بالرّحمة وحصول ملكتها. فمتى رأى يتيما أو مسكينا بادر إليه ومسح عليه والتمس الثّواب في الشّفقة عليه لا يكاد يصبر عن ذلك ولو دفع عنه. ثمّ يتصدّق عليه بما حضره من ذات يده وكذا علمك بالتّوحيد مع اتّصافك به والعلم حاصل عن الاتّصاف ضرورة وهو أوثق مبنى من العلم الحاصل قبل الاتّصاف. وليس الاتّصاف بحاصل عن مجرّد العلم حتّى يقع العمل ويتكرّر مرارا غير منحصرة فترسخ الملكة ويحصل الاتّصاف والتّحقيق ويجيء العلم الثّاني النّافع في الآخرة. فإنّ العلم الأوّل المجرّد عن الاتّصاف قليل الجدوى والنّفع وهذا علم أكثر النّظّار والمطلوب إنّما هو العلم الحاليّ النّاشئ عن العادة. واعلم أنّ الكمال عند الشّارع في كلّ ما كلف به إنّما هو في هذا فما طلب اعتقاده فالكمال فيه في العلم الثّاني الحاصل عن الاتّصاف وما طلب عمله من

(1/583)


العبادات فالكمال فيها في حصول الاتّصاف والتّحقّق بها. ثمّ إنّ الإقبال على العبادات والمواظبة عليها هو المحصّل لهذه الثّمرة الشّريفة. قال صلّى الله عليه وسلّم: «في رأس العبادات جعلت قرّة عيني في الصّلاة» فإنّ الصّلاة صارت له صفة وحالا يجد فيها منتهى لذّاته وقرّة عينه وأين هذا من صلاة النّاس ومن لهم بها؟ «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ 107: 4- 5» [1] اللَّهمّ وفّقنا «واهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ 1: 6- 7» [2] فقد تبيّن لك من جميع ما قرّرناه أنّ المطلوب في التّكاليف كلّها حصول ملكة راسخة في النّفس يحصل [3] عنها علم اضطراريّ للنّفس هو التّوحيد وهو العقيدة الإيمانيّة وهو الّذي تحصّل به السّعادة وأنّ ذلك سواء في التّكاليف القلبيّة والبدنيّة. ويتفهّم منه أنّ الإيمان الّذي هو أصل التّكاليف وينبوعها هو بهذه المثابة ذو مراتب. أوّلها التّصديق القلبيّ الموافق للسان وأعلاها حصول كيفيّة من ذلك الاعتقاد القلبيّ وما يتبعه من العمل مستولية على القلب فيستتبع الجوارح. وتندرج في طاعتها جميع التّصرّفات حتّى تنخرط الأفعال كلّها في طاعة ذلك التّصديق الإيمانيّ. وهذا أرفع مراتب الإيمان وهو الإيمان الكامل الّذي لا يقارف المؤمن معه صغيرة ولا كبيرة إذ حصول الملكة ورسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة عين قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن» وفي حديث هرقل لمّا سأل أبا سفيان بن حرب عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأحواله فقال في أصحابه: «هل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا! قال: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. ومعناه أنّ ملكة الإيمان إذا استقرّت عسر على النّفس مخالفتها شأن الملكات إذا استقرّت فإنّها تحصل بمثابة الجبلّة والفطرة وهذه هي المرتبة العالية من الإيمان وهي في المرتبة الثّانية من العصمة.
__________
[1] سورة الماعون: الآية 4 و 5.
[2] سورة الفاتحة: الآية 5 و 6.
[3] وفي نسخة أخرى: ينشأ.

(1/584)


لأنّ العصمة واجبة للأنبياء وجوبا سابقا وهذه حاصلة للمؤمنيّة حصولا تابعا لأعمالهم وتصديقهم. وبهذه الملكة ورسوخها يقع التّفاوت في الإيمان كالّذي يتلى عليك من أقاويل السّلف. وفي تراجم البخاريّ رضي الله عنه في باب الإيمان كثير منه. مثل أنّ الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص وأنّ الصّلاة والصّيام من الإيمان وأنّ تطوّع رمضان من الإيمان والحياء من الإيمان. والمراد بهذا كلّه الإيمان الكامل الّذي أشرنا إليه وإلى ملكته وهو فعليّ. وأمّا التّصديق الّذي هو أوّل مراتبه فلا تفاوت فيه. فمن اعتبر أوائل الأسماء وحمله على التّصديق منع من التّفاوت كما قال أئمّة المتكلّمين ومن اعتبر أواخر الأسماء وحمله على هذه الملكة الّتي هي الإيمان الكامل ظهر له التّفاوت. وليس ذلك بقادح في اتّحاد حقيقته الأولى الّتي هي التّصديق إذ التّصديق موجود في جميع رتبه لأنّه أقلّ ما يطلق عليه اسم الإيمان وهو المخلّص من عهدة الكفر والفيصل [1] بين الكافر والمسلم فلا يجزي أقلّ منه. وهو في نفسه حقيقة واحدة لا تتفاوت وإنّما التّفاوت في الحال الحاصلة عن الأعمال كما قلناه فافهم. واعلم أنّ الشّارع وصف لنا هذا الإيمان الّذي في المرتبة الأولى الّذي هو تصديق وعيّن أمورا مخصوصة كلّفنا التّصديق بها بقلوبنا واعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بها بألسنتنا وهي العقائد الّتي تقرّرت في الدّين. قال صلّى الله عليه وسلّم حين سئل عن الإيمان فقال: «أن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه» وهذه هي العقائد الإيمانيّة المقرّرة في علم الكلام. ولنشر إليها مجملة لتتبيّن لك حقيقة هذا الفنّ وكيفيّة حدوثه فنقول. اعلم أنّ الشّارع لمّا أمرنا بالإيمان بهذا الخالق الّذي ردّ الأفعال كلّها إليه وأفرده به كما قدّمناه وعرفنا أنّ في هذا الإيمان نجاتنا عند الموت إذا حضرنا لم يعرّفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود وهو إذ ذاك متعذّر على إدراكنا ومن فوق طورنا. فكلّفنا أوّلا: اعتقاد تنزيهه في ذاته عن مشابهة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الفاصل.

(1/585)


المخلوقين وإلّا لما صحّ أنّه خالق لهم لعدم الفارق على هذا التّقدير ثمّ تنزيهه عن صفات النّقص وإلّا لشابه المخلوقين ثمّ توحيده بالاتّحاد وإلّا لم يتمّ الخلق للتّمانع ثمّ اعتقاد أنّه عالم قادر فبذلك تتمّ الأفعال شاهد قضيّته لكمال الاتّحاد [1] والخلق ومريد وإلّا لم يخصص شيء من المخلوقات ومقدّر لكلّ كائن وإلّا فالإرادة حادثة. وأنّه يعيدنا بعد الموت تكميلا لعنايته بالإيجاد ولو كان لأمر فإن [2] كان عبثا فهو للبقاء السّرمديّ بعد الموت. ثمّ اعتقاد بعثة الرّسل للنّجاة من شقاء هذا المعاد لاختلاف أحواله بالشّقاء والسّعادة وعدم معرفتنا بذلك وتمام لطفه بنا في الإيتاء [3] بذلك وبيان الطّريقين. وأنّ الجنّة للنّعيم وجهنّم للعذاب. هذه أمّهات العقائد الإيمانيّة معلّلة بأدلّتها العقليّة وأدلّتها من الكتاب والسّنّة كثيرة.
وعن تلك الأدلّة أخذها السّلف وأرشد إليها العلماء وحقّقها الأئمّة إلّا أنّه عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد أكثر مثارها من الآي المتشابهة فدعا ذلك إلى الخصام والتّناظر والاستدلال بالعقل وزيادة إلى النّقل. فحدث بذلك علم الكلام. ولنبيّن لك تفصيل هذا المجمل. وذلك أنّ القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتّنزيه المطلق الظّاهر الدّلالة من غير تأويل في آي كثيرة وهي سلوب [4] كلّها وصريحة في بابها فوجب الإيمان بها. ووقع في كلام الشّارع صلوات الله عليه وكلام الصّحابة والتّابعين تفسيرها على ظاهرها. ثمّ وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التّشبيه مرّة في الذات وأخرى في الصّفات. فأمّا السلف فغلبوا أدلّة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها، وعلموا استحالة التشبيه. وقضوا بأنّ الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرّضوا لمعناها ببحث ولا تأويل. وهذا معنى قول
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الإيجاد.
[2] وفي نسخة أخرى: ولو كان للغناء الصرف.
[3] وفي نسخة أخرى: الإنباء.
[4] السلوب من النوق: التي القت ولدها لغير تمام. وظبيه سلوب وسلب أي سلبت ولدها (لسان العرب) وهنا بمعنى ينقصها التأويل.

(1/586)


الكثير منهم: اقرءوها كما جاءت أي آمنوا بأنّها من عند الله. ولا تتعرّضوا لتأويلها ولا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء، فيجب الوقف والإذعان له. وشذّ لعصرهم مبتدعة اتّبعوا ما تشابه من الآيات وتوغّلوا في التّشبيه. ففريق أشبهوا [1] في الذّات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملا بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التّجسيم الصّريح ومخالفة آي التّنزيه المطلق الّتي هي أكثر موارد وأوضح دلالة لأنّ معقوليّة الجسم تقتضي النّقص والافتقار. وتغليب آيات السّلوب في التّنزيه المطلق الّتي هي أكثر موارد وأوضح دلالة أولى من التّعلّق بظواهر هذه الّتي لنا عنها غنية وجمع بين الدّليلين بتأويلها ثمّ يفرّون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام. وليس ذلك بدافع عنهم لأنّه قول متناقض وجمع بين نفي وإثبات إن كانا بالمعقوليّة واحدة من الجسم، وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقوليّة المتعارفة فقد وافقونا في التّنزيه ولم يبق إلّا جعلهم لفظ الجسم اسما من أسمائه.
ويتوقّف مثله على الأذن. وفريق منهم ذهبوا إلى التّشبيه في الصّفات كإثبات الجهة والاستواء والنّزول والصّوت والحرف وأمثال ذلك. وآل قولهم إلى التّجسيم فنزعوا مثل الأوّلين إلى قولهم صوت لا كالأصوات جهة لا كالجهات نزول لا كالنّزول يعنون من الأجسام. واندفع ذلك بما اندفع به الأوّل، ولم يبق في هذه الظّواهر إلّا اعتقادات السّلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي لئلّا يكرّ [2] النّفي على معانيها بنفيها مع أنّها صحيحة ثابتة من القرآن. ولهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرّسالة لابن أبي زيد وكتاب المختصر له وفي كتاب الحافظ ابن عبد البرّ وغيرهم فإنّهم يحومون على هذا المعنى. ولا تغمض عينك عن القرائن الدّالّة على ذلك في غضون كلامهم. ثمّ لمّا كثرت العلوم والصّنائع وولع النّاس بالتّدوين والبحث في سائر الأنحاء وألّف المتكلّمون في التّنزيه حدثت بدعة المعتزلة في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: شبّهوا.
[2] يعود.

(1/587)


تعميم هذا التّنزيه في آي السّلوب فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم والقدرة والإرادة والحياة زائدة على أحكامها لما يلزم على ذلك من تعدّد القديم بزعمهم وهو مردود بأنّ الصّفات ليست عين الذّات ولا غيرها وقضوا بنفي صفة الإرادة فلزمهم نفي القدر لأنّ معناه سبق الإرادة للكائنات وقضوا بنفي السّمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام. وهو مردود لعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللّفظ وإنّما هو إدراك المسموع أو المبصر. وقضوا بنفي الكلام لشبه ما في السّمع والبصر ولم يعقلوا صفة الكلام الّتي تقوم بالنّفس فقضوا بأنّ القرآن مخلوق وذلك بدعة صرّح السّلف بخلافها. وعظم ضرر هذه البدعة ولقّنها بعض الخلفاء عن أئمّتهم فحمل النّاس عليها وخالفهم أئمّة السّلف فاستحلّ لخلافهم إيسار [1] كثير منهم ودماؤهم، وكان ذلك سببا لانتهاض أهل السّنّة بالأدلّة العقليّة على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع وقام بذلك الشّيخ أبو الحسن الأشعريّ إمام المتكلّمين فتوسّط بين الطّرق ونفى التّشبيه وأثبت الصّفات المعنويّة وقصر التّنزيه على ما قصره عليه السّلف. وشهدت له الأدلّة المخصّصة لعمومه فأثبت الصّفات الأربع المعنويّة والسّمع والبصر والكلام القائم بالنّفس بطريق النّقل والعقل. وردّ على المبتدعة في ذلك كلّه وتكلّم معهم فيما مهّدوه لهذه البدع من القول بالصّلاح والأصلح والتّحسين والتّقبيح وكمّل العقائد في البعثة وأحوال المعاد والجنة والنّار والثّواب والعقاب. وألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإماميّة من قولهم إنّها من عقائد الإيمان [2] وإنّه يجب على النّبيّ تعيينها والخروج
__________
[1] بمعنى أموال وفي نسخة أخرى ابشار.
[2] وفي كتاب الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي (أصل الشيعة وأصولها) ما يلي:
الإمامة: قد أنبأناك ان هذا هو الأصل الّذي امتازت به الإمامية وافترقت عن سائر فرق المسلمين. وهو فرق جوهري أصلي. وما عداه من الفروق فرعية عرضية. كالفروق التي تقع بين أئمة الاجتهاد عندهم كالحنفي والشافعيّ وغيرهما. وعرفت أن مرادهم بالإمامة كونها منصبا إلهيا يختاره الله بسابق علمه بعباده كما يختار النبي. ويأمر النبي بأن يدل الأمة عليه ويأمرهم باتباعه. ويعتقدون أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه بأن ينص على علي وينصبه علما للناس من بعده. وكان النبي يعلم أن الناس ذلك اليوم وإلى اليوم ليسوا في مستوى واحد

(1/588)


عن العهدة في ذلك لمن هي له، وكذلك على الأمّة. وقصارى أمر الإمامة أنّها قضيّة مصلحيّة إجماعيّة ولا تلحق بالعقائد فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفنّ وسمّوا مجموعه علم الكلام: إمّا لما فيه من المناظرة على البدع وهي كلام صرف وليست براجعة إلى عمل، وإمّا لأنّ سبب وضعه والخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النّفسيّ. وكثر أتباع الشّيخ أبي الحسن الأشعريّ واقتفى طريقته من بعده تلميذه كابن مجاهد وغيره. وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلانيّ فتصدّر للإمامة في طريقتهم وهذّبها ووضع المقدّمات العقليّة الّتي تتوقّف عليها الأدلّة والأنظار وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء. وأنّ العرض لا يقوم بالعرض وأنّه لا يبقى زمانين. وأمثال ذلك ممّا تتوقّف عليه أدلّتهم. وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانيّة في وجوب اعتقادها لتوقّف تلك الأدلّة عليها وأنّ بطلان الدّليل يؤذن ببطلان المدلول. وجملت [1] هذه الطّريقة وجاءت من أحسن الفنون النّظريّة والعلوم الدّينيّة. إلّا أنّ صور الأدلّة فيها بعض الأحيان، على غير الوجه الصّناعيّ لسذاجة القوم ولأنّ صناعة المنطق الّتي تسير بها الأدلّة وتعتبر بها الأقيسة ولم تكن حينئذ ظاهرة في الملّة، ولو ظهر منها بعض الشّيء فلم يأخذ به المتكلّمون لملابستها للعلوم الفلسفيّة المباينة للعقائد الشّرعيّة بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك. ثمّ جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلّانيّ من أئمّة الأشعريّة إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في الطّريقة كتاب الشّامل وأوسع القول فيه. ثمّ لخّصه في كتاب الإرشاد واتّخذه النّاس إماما لعقائدهم. ثمّ انتشرت من بعد ذلك
__________
[ () ] من الإيمان واليقين بنزاهة النبي وعصمته عن الهوى والعرض. ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك فأوحى إليه، «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ 5: 67» . فلم بدا من الامتثال بعد هذا الإنذار الشديد فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غديرهم فنادى وجلهم يسمعون: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا اللَّهمّ نعم» فقال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» إلى آخر ما قال. ثم أكّد ذلك في مواطن أخرى تلويحا وتصريحا، واشارة ونصحا حتى أدى الوظيفة وبلغ عند الله المعذرة (ص 107- 108) (طبعة دار البحار- بيروت) .
[1] وفي نسخة أخرى: كملت.

(1/589)


علوم [1] المنطق في الملّة وقرأه النّاس وفرّقوا بينه وبين العلوم الفلسفيّة بأنّه قانون ومعيار للأدلّة فقط يسبر به الأدلّة منها كما يسبر من سواها. ثمّ نظروا في تلك القواعد والمقدّمات في فنّ الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين الّتي أدلّت إلى ذلك وربّما أنّ كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطّبيعيّات والإلهيّات. فلمّا سبروها بمعيار المنطق ردّهم إلى ذلك فيها ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي فصارت هذه الطّريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى وتسمّى طريقة المتأخّرين وربّما أدخلوا فيها الرّدّ على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانيّة وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم. وأوّل من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزاليّ رحمه الله وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم ثمّ توغّل المتأخّرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما. واعلم أنّ المتكلّمين لمّا كانوا يستدلّون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود البارئ وصفاته وهو نوع استدلالهم غالبا. والجسم الطّبيعيّ الّذي ينظر فيه الفيلسوف في الطّبيعيّات وهو بعض من هذه الكائنات. إلّا أنّ نظره فيها مخالف لنظر المتكلّم وهو ينظر في الجسم من حيث يتحرّك ويسكن والمتكلّم ينظر فيه من حيث يدلّ على الفاعل. وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيّات إنّما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته ونظر المتكلّم في الوجود من حيث إنّه يدلّ على الموجد. وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنّما هو العقائد الإيمانيّة بعد فرضها صحيحة من الشّرع من حيث يمكن أن يستدلّ عليها بالأدلّة العقليّة فترفع البدع وتزول الشّكوك والشّبيه [2] عن تلك العقائد وإذا تأمّلت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: علم.
[2] وفي نسخة أخرى: الشبه.

(1/590)


حال الفنّ في حدوثه وكيف تدرّج كلام النّاس فيه صدرا بعد صدر وكلّهم يفرض العقائد صحيحة ويستنهض الحجج والأدلّة علمت حينئذ ما قرّرناه لك في موضوع الفنّ وأنّه لا يعدوه. ولقد اختلطت الطّريقتان عند هؤلاء المتأخّرين والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميّز أحد الفنّين من الآخر. ولا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاويّ في الطّوالع ومن جاء بعده من علماء العجم في جميع تآليفهم. إلّا أنّ هذه الطّريقة قد يعنى بها بعض طلبة العلم للاطّلاع على المذاهب والإغراق في معرفة الحجاج لوفور ذلك فيها. وأمّا محاذاة طريقة السّلف بعقائد علم الكلام فإنّما هو في الطّريقة القديمة للمتكلّمين وأصلها كتاب الإرشاد وما حذا حذوه. ومن أراد إدخال الرّدّ على الفلاسفة في عقائده فعليه بكتب الغزاليّ والإمام ابن الخطيب فإنّها وإن وقع فيها مخالفة للاصطلاح القديم فليس فيها من الاختلاط في المسائل والالتباس في الموضوع ما في طريقة هؤلاء المتأخّرين من بعدهم وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أنّ هذا العلم الّذي هو علم الكلام غير ضروريّ لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا والأئمّة، من أهل السّنّة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودوّنوا والأدلّة العقليّة إنّما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا. وأمّا الآن فلم يبق منها إلّا كلام تنزّه البارئ عن كثير إيهاماته وإطلاقه ولقد سئل الجنيد رحمه الله عن قوم مرّ بهم بعض المتكلّمين يفيضون فيه فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: قوم ينزّهون الله بالأدلّة عن صفات الحدوث وسمات النّقص. فقال: «نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب» لكنّ فائدته في آحاد النّاس وطلبة العلم فائدة معتبرة إذ لا يحسن بحامل السّنّة الجهل بالحجج النّظريّة على عقائدها. والله وليّ المؤمنين
.

(1/591)


الفصل الحادي عشر في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر
[1] اعلم أنّ عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة، كالعناصر وآثارها والمكوّنات الثّلاثة عنها، الّتي هي المعدن والنبات والحيوان. وهذه كلّها متعلّقات القدرة الإلهيّة وعلى أفعال صادرة عن الحيوانات، واقعة بمقصودها، متعلّقة بالقدرة الّتي جعل الله لها عليها: فمنها منتظم مرتّب، وهي الأفعال البشريّة، ومنها غير منتظم ولا مرتّب، وهي أفعال الحيوانات غير البشر. وذلك الفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطّبع أو بالوضع، فإذا قصد إيجاد شيء من الأشياء، فلأجل الترتيب بين الحوادث لا بدّ من التفطّن بسببه أو علّته أو شرطه، وهي على الجملة مبادئه، إذ لا يوجد إلّا ثانيا عنها ولا يمكن إيقاع المتقدّم متأخّرا ولا المتأخر متقدّما. وذلك المبدأ قد يكون له مبدأ آخر من تلك المبادئ لا يوجد إلّا متأخّرا عنه، وقد يرتقي ذلك أو ينتهي. فإذا انتهى إلى آخر المبادئ في مرتبتين أو ثلاث أو أزيد، وشرع في العمل الّذي يوجد به ذلك الشّيء بدأ بالمبدإ الأخير الّذي انتهى إليه الفكر، فكان أوّل عمله. ثمّ تابع ما بعده إلى آخر المسبّبات الّتي كانت أوّل فكرته. مثلا: لو فكّر في إيجاد سقف يكنّه انتقل بذهنه إلى الحائط الّذي يدعمه، ثمّ إلى الأساس الّذي يقف عليه الحائط فهو آخر الفكر. ثمّ يبدأ في العمل بالأساس، ثمّ بالحائط، ثمّ بالسّقف.
وهو آخر العمل.
وهذا معنى قولهم: (أوّل العمل آخر الفكرة، وأوّل الفكرة آخر العمل) ، فلا يتمّ فعل الإنسان في الخارج إلّا بالفكر في هذه المرتّبات لتوقّف بعضها على
__________
[1] هذا الفصل غير موجود في طبعة بولاق وبعض الطبعات الأخرى. نقلناه عن الطبعة الباريسية تحقيق وردت بعد: «فصل في الفكر الإنساني» .

(1/592)


بعض. ثمّ يشرع في فعلها. وأوّل هذا الفكر هو المسبّب الأخير، وهو آخرها في العمل. وأوّلها في العمل هو المسبّب الأوّل وهو آخرها في الفكر. ولأجل العثور على هذا الترتيب يحصل الانتظام في الأفعال البشريّة.
وأمّا الأفعال الحيوانيّة لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الّذي يعثر به الفاعل على التّرتيب فيما يفعل، إذ الحيوانات إنّما تدرك بالحواسّ ومدركاتها متفرّقة خليّة من الرّبط لأنّه لا يكون إلّا بالفكر. ولمّا كانت الحواسّ المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة، وغير المنتظمة إنّما هي تبع لها، اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها، فكانت مسخّرة للبشر. واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث، بما فيه، فكان كلّه في طاعته وتسخّره. وهذا معنى الاستحلاف المشار إليه في قوله تعالى: «إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً 2: 30 [1] » فهذا الفكر هو الخاصّة البشريّة الّتي تميّز بها البشر عن غيره من الحيوان. وعلى قدر حصول الأسباب والمسبّبات في الفكر مرتّبة تكون إنسانيّته. فمن النّاس من تتوالى له السببيّة في مرتبتين أو ثلاث، ومنهم من لا يتجاوزها، ومنهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيّته أعلى. واعتبر ذلك بلاعب الشّطرنج: فإنّ في اللاعبين من يتصوّر الثّلاث حركات والخمس الّذي ترتيبها وضعيّ، ومنهم من يقصّر عن ذلك لقصور ذهنه. وإن كان هذا المثال غير مطابق، لأنّ لعب الشّطرنج بالملكة، ومعرفة الأسباب والمسبّبات بالطبع، لكنّه مثال يحتذي به الناظر في تعقّل ما يورد عليه من القواعد. والله خلق الإنسان وفضّله على كثير ممّن خلق تفضيلا.
__________
[1] من آية (30) من سورة البقرة.

(1/593)


الفصل الثاني عشر في العقل التجريبي وكيفية حدوثه [1]
إنّك تسمع في كتب الحكماء قولهم أنّ الإنسان هو مدنيّ الطبع، يذكرونه في إثبات النّبوّات وغيرها. والنسبة فيه إلى المدينة، وهي عندهم كناية عن الاجتماع البشريّ. ومعنى هذا القول، أنّه لا تمكّن حياة المنفرد من البشر، ولا يتمّ وجوده إلّا مع أبناء جنسه. وذلك لما هو عليه من العجز عن استكمال وجوده وحياته، فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبدا بطبعه. وتلك المعاونة لا بدّ فيها من المفاوضة أوّلا، ثمّ المشاركة وما بعدها. وربّما تفضي المعاملة عند اتّحاد الأعراض إلى المنازعة والمشاجرة فتنشأ المنافرة والمؤالفة، والصداقة والعداوة. ويؤول إلى الحرب والسّلم بين الأمم والقبائل. وليس ذلك على أيّ وجه اتّفق، كما بين الهمل من الحيوانات، بل للبشر بما جعل الله فيهم من انتظام الأفعال وترتيبها بالفكر، كما تقدّم. جعل منتظما فيهم، ويسرّهم لإيقاعه على وجوه سياسيّة وقوانين حكميّة، ينكبون فيها عن المفاسد إلى المصالح، وعن الحسن إلى القبيح، بعد أن يميّزوا القبائح والمفسدة، بما ينشأ عن الفعل من ذلك عن تجربة صحيحة، وعوائد معروفة بينهم: فيفارقون الهمل من الحيوان، وتظهر عليهم نتيجة الفكر في انتظام الأفعال وبعدها عن المفاسد.
هذه المعاني الّتي يحصل بها ذلك لا تبعد عن الحسّ كلّ البعد ولا يتعمّق فيها الناظر، بل كلّها تدرك بالتجربة وبها يستفاد، لأنّها معان جزئيّة تتعلّق بالمحسوسات وصدقها وكذبها، يظهر قريبا في الواقع، فيستفيد طالبها حصول العلم بها من ذلك. ويستفيد كلّ واحد من البشر القدر الّذي يسّر له منها مقتنصا له بالتّجربة بين الواقع في معاملة أبناء جنسه، حتّى يتعيّن له ما يجب
__________
[1] نقل هذا الفصل أيضا عن الطبعة الباريسية.

(1/594)


وينبغي، فعلا وتركا. وتحصل في ملابسة الملكة في معاملة أبناء جنسه. ومن تتبّع ذلك سائر عمره حصل له العثور على كلّ قضيّة. ولا بدّ بما تسعه التجربة من الزّمن. وقد يسهّل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب زمن التجربة، إذ قلّد فيها الآباء والمشيخة والأكابر، ولقّن عنهم ووعى تعليمهم، فيستغني عن طول المعانات في تتبّع الوقائع واقتناص هذا المعنى من بينها. ومن فقد العلم في ذلك والتقليد فيه أو أعرض عن حسن استماعه واتّباعه، طال عناؤه في التأديب بذلك، فيجري في غير مألوف ويدركها على غير نسبة، فتوجد آدابه ومعاملاته سيّئة الأوضاع بادية الخلل، ويفسد حاله في معاشه بين أبناء جنسه. وهذا معنى القول المشهور: «من لم يؤدّبه والده أدّبه الزّمان» . أي من لم يلقّن الآداب في معاملة البشر من والديه- وفي معناهما المشيخة والأكابر- ويتعلّم ذلك منهم، رجع إلى تعلّمه بالطّبع من الواقعات على توالي الأيّام، فيكون الزمان معلّمه ومؤدّبه لضرورة ذلك بضرورة المعاونة الّتي في طبعه.
وهذا هو العقل التجريبيّ، وهو يحصل بعد العقل التمييزيّ الّذي تقع به الأفعال كما بيّناه. وبعد هذين مرتبة العقل النظريّ الّذي تكفّل بتفسيره أهل العلوم، فلا يحتاج إلى تفسيره في هذا الكتاب. والله جعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون.
الفصل الثالث عشر في علوم البشر وعلوم الملائكة
إنّا نشهد في أنفسنا بالوجدان الصّحيح وجود ثلاثة عوالم: أوّلها: عالم الحسّ، ونعتبره بمدارك الحسّ الّذي شاركنا فيه الحيوانات بالإدراك، ثمّ نعتبر الفكر الّذي اختصّ به البشر فنعلم منه وجود النفس الإنسانيّة علما ضروريّا بما بين جنبينا من مدارك العلميّة الّتي هي فوق مدارك الحسّ، فتراه عالما آخر فوق

(1/595)


عالم الحسّ. ثمّ نستدلّ على عالم ثالث فوقنا بما نجد فينا من آثاره الّتي تلقى في أفئدتنا كالإرادات والوجهات، نحو الحركات الفعليّة، فنعلم أنّ هناك فاعلا يبعثنا عليها من عالم فوق عالمنا وهو عالم الأرواح والملائكة. وفيه ذوات مدركة لوجود آثارها فينا مع ما بيننا وبينها من المغايرة. وربّما يستدلّ على هذا العالم الأعلى الروحانيّ وذواته بالرّؤيا وما نجد في النوم، ويلقى إلينا فيه من الأمور الّتي نحن في غفلة عنها في اليقظة، وتطابق الواقع في الصّحيحة منها، فنعلم أنّها حقّ ومن عالم الحقّ. وأمّا أضغاث الأحلام فصور خياليّة يخزنها الإدراك في الباطن ويجول فيها الفكر بعد الغيبة عن الحسّ. ولا نجد على هذا العالم الروحانيّ برهانا أوضح من هذا، فنعلمه كذلك على الجملة ولا ندرك له تفصيلا.
وما يزعمه الحكماء الإلهيّون في تفصيل ذواته وترتيبها، المسمّاة عندهم بالعقول، فليس شيء من ذلك بيقينيّ لاختلال شرط البرهان النّظريّ فيه، كما هو مقرّر في كلامهم في المنطق. لأنّ من شرطه أن تكون قضاياه أوّليّة ذاتيّة.
وهذه الذوات الروحانيّة مجهولة الذاتيّات، فلا سبيل للبرهان فيها. ولا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلّا ما نقتبسه من الشّرعيّات الّتي يوضحها الإيمان ويحكمها. وأعقد هذه العوالم في مدركنا عالم البشر، لأنّه وجدانيّ مشهود في مداركنا الجسمانيّة والروحانيّة. ويشترك في عالم الحسّ مع الحيوانات وفي عالم العقل والأرواح مع الملائكة الّذين ذواتهم من جنس ذواته، وهي ذوات مجرّدة عن الجسمانيّة والمادّة، وعقل صرف يتّحد فيه العقل والعاقل والمعقول، وكأنّه ذات حقيقتها الإدراك والعقل، فعلومهم حاصلة دائما مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتّة.
وعلم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة. فهو كلّه مكتسب، والذات الّتي يحصل فيها صور المعلومات وهي النفس مادّة هيولانيّة تلبس صور الوجود بصور المعلومات الحاصلة فيها شيئا شيئا، حتّى

(1/596)


تستكمل، ويصحّ وجودها بالموت في مادّتها وصورتها. فالمطلوبات فيها متردّدة بين النفي والإثبات دائما، بطلب أحدهما بالوسط الرابط بين الطّرفين. فإذا حصل وصار معلوما افتقر إلى بيان المطابقة، وربّما أوضحها البرهان الصّناعيّ، لكنّه من وراء الحجاب. وليس كالمعاينة الّتي في علوم الملائكة. وقد ينكشف ذلك الحجاب فيصير إلى المطابقة بالعيان الإدراكيّ. فقد تبيّن أنّ البشر جاهل بالطبع للتردّد في علمه، وعالم بالكسب والصناعة لتحصيله المطلوب بفكرة الشروط الصناعيّة. وكشف الحجاب الّذي أشرنا إليه إنّما هو بالرّياضة بالأذكار الّتي أفضلها صلاة تنتهي عن الفحشاء والمنكر، وبالتنزّه عن المتناولات المهمّة ورأسها الصوم، وبالوجهة إلى الله بجميع قواه. والله علّم الإنسان ما لم يعلم.