تاريخ ابن خلدون

الفصل الثامن عشر في علم تعبير الرؤيا
هذا العلم من العلوم الشّرعيّة وهو حادث في الملّة عند ما صارت العلوم صنائع وكتب النّاس فيها. وأمّا الرّؤيا والتّعبير لها فقد كان موجودا في السّلف كما هو في الخلف. وربّما كان في الملوك [1] والأمم من قبل إلّا أنّه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبّرين من أهل الإسلام. وإلّا فالرّؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق ولا بدّ من تعبيرها. فلقد كان يوسف الصّدّيق صلوات الله عليه يعبّر الرّؤيا كما وقع في القرآن. وكذلك ثبت عن الصّحيح عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعن أبي بكر رضي الله عنه والرؤيا مدرك من مدارك الغيب. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الرّؤيا الصّالحة جزء من ستّة وأربعين جزءا من النّبوة» . وقال: «لم يبق من المبشّرات إلّا الرّؤيا الصّالحة يراها الرّجل الصّالح أو ترى له» . وأوّل ما بدأ به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرّؤيا فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح.
وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا انفتل [2] من صلاة الغداة يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم اللّيلة رؤيا؟ يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك ممّا فيه ظهور الدّين وإعزازه. وأمّا السّبب في كون الرّؤيا مدركا للغيب فهو أنّ الرّوح القلبيّ وهو البخار اللّطيف المنبعث من تجويف القلب اللّحميّ ينتشر في الشّريانات ومع الدّم في سائر البدن وبه تكمل أفعال القوى الحيوانيّة وإحساسها. فإذا أدركه الملال بكثرة التّصرّف في الإحساس بالحواسّ الخمس وتصريف القوى الظّاهرة وغشي سطح البدن ما يغشاه من برد اللّيل انحبس الرّوح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبيّ فيستجمّ بذلك لمعاودة فعله فتعطّلت الحواسّ الظّاهرة كلّها
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: في الملل والأمم.
[2] وفي نسخة أخرى: انتقل.

(1/625)


وذلك هو معنى النّوم كما تقدّم في أوّل الكتاب. ثمّ إنّ هذا الرّوح القلبيّ هو مطيّة للرّوح العاقل من الإنسان والرّوح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته إذ حقيقته وذاته عين الإدراك. وإنّما يمنع من تعلّقه [1] للمدارك الغيبيّة ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن وقواه وحواسّه. فلو قد خلا من هذا الحجاب وتجرّد عنه لرجع إلى حقيقته وهو عين الإدراك فيعقل كلّ مدرك. فإذا تجرّد عن بعضها خفّت شواغله فلا بدّ له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرّد له وهو في هذه الحالة قد خفّت شواغل الحسّ الظّاهر كلّها وهي الشّاغل الأعظم فاستعدّ لقبول ما لك من المدارك اللّائقة من عالمه. وإذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع به إلى بدنه. إذ هو ما دام في بدنه جسمانيّ لا يمكنه التّصرّف إلّا بالمدارك الجسمانيّة. والمدارك الجسمانيّة للعلم إنّما هي الدّماغيّة والمتصرّف منها هو الخيال. فإنّه ينتزع من الصّور المحسوسة صورا خياليّة ثمّ يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النّظر والاستدلال. وكذلك تجرّد النّفس منها صورا أخرى نفسانيّة عقليّة فيترقّى التّجريد من المحسوس إلى المعقول والخيال واسطة بينهما. ولذلك إذا أدركت النّفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال فيصوّره بالصّورة المناسبة له ويدفعه إلى الحسّ المشترك فيراه النّائم كأنّه محسوس فيتنزّل المدرك من الرّوح العقليّ إلى الحسّيّ. والخيال أيضا واسطة.
هذه حقيقة الرّؤيا. ومن هذا التّقرير يظهر لك الفرق بين الرّؤيا الصّالحة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنّها كلّها صور في الخيال حالة النّوم. ولكن إن كانت تلك الصّور متنزّلة من الرّوح العقليّ المدرك فهو رؤيا. وإن كانت مأخوذة من الصّور الّتي في الحافظة الّتي كان الخيال أودعها إيّاها منذ اليقظة فهي أضغاث أحلام.
واعلم أنّ للرّؤيا الصادقة علامات تؤذن بصدقها وتشهد بصحّتها فيستشعر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تعقله.

(1/626)


الرائي البشارة من الله ممّا ألقى إليه في نومه: فمنها سرعة انتباه الرائي عند ما يدرك الرّؤيا، كأنّه يعاجل الرجوع إلى الحسّ باليقظة ولو كان مستغرقا في نومه، لتقل ما ألقي عليه من ذلك الإدراك فيفرّ من تلك الحالة إلى حالة الحسّ الّتي تبقى النفس فيها منغمسة بالبدن وعوارضه، ومنها ثبوت ذلك الإدراك ودوامه بانطباع تلك الرّؤيا بتفاصيلها في حفظه، فلا يتخلّلها سهو ولا نسيان.
ولا يحتاج إلى إحضارها بالفكر والتذكير، بل تبقى متصوّرة في ذهنه إذا انتبه.
ولا يغرب عنه شيء منها، لأنّ الإدراك النفسانيّ ليس بزمانيّ ولا يلحقه ترتيب، بل يدركه دفعة في زمن فرد. وأضغاث الأحلام زمانيّة، لأنّها في القوى الدماغيّة يستخرجها الخيال من الحافظة إلى الحسّ المشترك كما قلناه. وأفعال البدن كلّها زمانيّة فيلحقها الترتيب في الإدراك والمتقدّم والمتأخّر. ويعرض النسيان العارض للقوى الدّماغيّة. وليس كذلك مدارك النفس الناطقة إذ ليست بزمانيّة، ولا ترتيب فيها. وما ينطبع فيها من الإدراكات فينطبع دفعة واحدة في أقرب من لمح البصر. وقد تبقى الرّؤيا بعد الانتباه حاضرة في الحفظ أيّاما من العمر، لا تشذّ بالغفلة عن الفكر بوجه إذا كان الإدراك الأوّل قويا، وإذا كان إنّما يتذكّر الرّؤيا بعد الانتباه من النّوم بإعمال الفكر والوجهة إليها، وينسى الكثير من تفاصيلها حتّى يتذكّرها فليست الرّؤيا بصادقة، وإنّما هي من أضغاث الأحلام. وهذه العلامات من خواصّ الوحي. قال الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم «لا تُحَرِّكْ به لِسانَكَ لِتَعْجَلَ به، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ 75: 16- 19» والرّؤيا لها نسبة من النّبوّة والوحي كما في الصّحيح. قال صلّى الله عليه وسلّم «الرؤيا جزء من ستّة وأربعين جزءا من النّبوّة» فلخواصّها أيضا نسبة إلى خواصّ النّبوّة، بذلك القدر، فلا تستبعد ذلك، فهذا وجه الحقّ.
والله الخالق لما يشاء.
وأمّا معنى التّعبير فاعلم أنّ الرّوح العقليّ إذا أدرك مدركة وألقاه إلى الخيال

(1/627)


فصوّره فإنّما يصوّره في الصّور المناسبة لذلك المعنى بعض الشّيء كما يدرك معنى السّلطان الأعظم فيصوّره الخيال بصورة البحر أو يدرك العداوة فيصوّرها الخيال في صورة الحيّة. فإذا استيقظ وهو لم يعلم من أمره إلّا أنّه رأى البحر أو الحيّة فينظر المعبّر بقوّة التّشبيه بعد أن يتيقّن أنّ البحر صورة محسوسة وأنّ المدرك وراءها وهو يهتدي بقرائن أخرى تعيّن له المدرك فيقول مثلا: هو السّلطان لأنّ البحر خلق عظيم يناسب أن يشبّه بها السّلطان وكذلك الحيّة يناسب أن تشبّه بالعدوّ لعظم ضررها وكذا الأواني تشبّه بالنّساء لأنّهنّ أوعيّة وأمثال ذلك. ومن المرئيّ ما يكون صريحا لا يفتقر إلى تعبير لجلائها ووضوحها أو لقرب الشّبه [1] فيها بين المدرك وشبهه. ولهذا وقع في الصّحيح الرؤيا ثلاث:
رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشّيطان. فالرّؤيا الّتي من الله هي الصّريحة الّتي لا تفتقر إلى تأويل والّتي من الملك هي الرّؤيا الصّادقة تفتقر إلى التّعبير [2] والرّؤيا الّتي من الشّيطان هي الأضغاث. واعلم أنّ الخيال إذا ألقى إليه الرّوح مدركة. فإنّما يصوّره في القوالب المعتادة للحسّ وما لم يكن الحسّ أدركه قطّ من القوالب فلا يصوّر فيه شيئا فلا يمكن من ولد أعمى أن يصوّر له السّلطان بالبحر ولا العدوّ بالحيّة ولا النّساء بالأواني لأنّه لم يدرك شيئا من هذه وإنّما يصوّر له الخيال أمثال هذه في شبهها ومناسبها من جنس مداركه الّتي هي المسموعات والمشمومات. وليتحفّظ المعبّر من مثل هذا فربّما اختلط به التّعبير وفسد قانونه. ثمّ إنّ علم التّعبير علم بقوانين كلّيّة يبني عليها المعبّر عبارة ما يقصّ عليه. وتأويله كما يقولون: البحر يدلّ على السّلطان، وفي موضع آخر يقولون: البحر يدلّ على الغيظ، وفي موضع آخر يقولون: البحر يدلّ على الهمّ والأمر الفادح. ومثل ما يقولون: الحيّة تدلّ على العدوّ، وفي موضع آخر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: النسبة.
[2] وفي النسخة الباريسية: إلى تأويل.

(1/628)


يقولون: هي كاتم سرّ، وفي موضع آخر يقولون: تدلّ على الحياة وأمثال ذلك.
فيحفظ المعبّر هذه القوانين الكلّيّة، ويعبّر في كلّ موضع بما تقتضيه القرائن الّتي تعيّن من هذه القوانين ما هو أليق بالرّؤيا. وتلك القرائن منها في اليقظة ومنها في النّوم ومنها ما ينقدح في نفس المعبّر بالخاصّيّة الّتي خلقت فيه وكلّ ميسّر لما خلق له. ولم يزل هذا العلم متناقلا بين السّلف. وكان محمّد بن سيرين فيه من أشهر العلماء وكتب عنه في ذلك القوانين وتناقلها النّاس لهذا العهد. وألّف الكرمانيّ فيه من بعده. ثمّ ألّف المتكلّمون المتأخّرون وأكثروا. والمتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيروانيّ من علماء القيروان مثل الممتّع وغيره وكتاب الإشارة للسّالميّ من أنفع الكتب فيه وأحضرها. وكذلك كتاب المرقبة العليا لابن راشد من مشيختنا بتونس. وهو علم مضيء بنور النّبوة للمناسبة الّتي بينهما ولكونها كانت من مدارك الوحي كما وقع في الصّحيح والله علّام الغيوب.
الفصل التاسع عشر في العلوم العقلية وأصنافها
وأمّا العلوم العقليّة الّتي هي طبيعيّة للإنسان من حيث إنّه ذو فكر فهي غير مختصّة بملّة بل بوجه النّظر [1] فيها إلى أهل الملل كلّهم ويستوون في مداركها ومباحثها. وهي موجودة في النّوع الإنسانيّ منذ كان عمران الخليقة. وتسمّى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة وهي مشتملة على أربعة علوم: الأوّل علم المنطق وهو علم يعصم الذّهن عن الخطإ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة وفائدته تمييز الخطإ من الصّواب. فيما يلتمسه النّاظر في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يوجد النظر.

(1/629)


(الموجودات وعوارضها) [1] ليقف على تحقيق الحقّ في الكائنات نفيا وثبوتا بمنتهى فكره. ثمّ النّظر بعد ذلك عندهم إمّا في المحسوسات من الأجسام العنصريّة والمكوّنة عنها من المعدن والنّبات والحيوان والأجسام الفلكيّة والحركات الطّبيعيّة. والنّفس الّتي تنبعث عنها الحركات وغير ذلك. ويسمّى هذا الفنّ بالعلم الطّبيعيّ وهو العلم الثّاني منها. وإمّا أن يكون النّظر في الأمور الّتي وراء الطّبيعة من الرّوحانيّات ويسمّونه العلم الإلهيّ وهو الثّالث منها. والعلم الرّابع وهو النّاظر في المقادير ويشتمل على أربعة علوم وتسمّى التّعاليم. أوّلها:
علم الهندسة وهو النّظر في المقادير على الإطلاق. إمّا المنفصلة من حيث كونها معدودة أو المتّصلة وهي إمّا ذو بعد واحد وهو الخطّ أو ذو بعدين وهو السّطح، أو ذو أبعاد ثلاثة وهو الجسم التّعليميّ. ينظر في هذه المقادير وما يعرض لها إمّا من حيث ذاتها أو من حيث نسبة بعضها إلى بعض. وثانيها علم الأرتماطيقي وهو معرفة ما يعرض للكمّ المنفصل الّذي هو العدد ويؤخذ له من الخواصّ والعوارض اللّاحقة. وثالثها علم الموسيقى وهو معرفة نسب الأصوات والنّغم بعضها من بعض وتقديرها بالعدد وثمرته معرفة تلاحين الغناء. ورابعها علم الهيئة وهو تعيين الأشكال للأفلاك وحصر أوضاعها وتعدّدها لكلّ كوكب من السّيّارة والثابتة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السّماويّة المشاهدة الموجودة لكلّ واحد منها ومن رجوعها واستقامتها وإقبالها وإدبارها. فهذه أصول العلوم الفلسفيّة وهي سبعة: المنطق وهو المقدّم منها وبعده التّعاليم فالأرتماطيقي أوّلا ثمّ الهندسة ثمّ الهيئة ثمّ الموسيقى ثمّ الطّبيعيّات ثمّ الإلهيّات ولكلّ واحد منها فروع تتفرّع عنه. فمن فروع الطّبيعيّات الطّبّ ومن فروع علم العدد علم الحساب والفرائض والمعاملات ومن فروع الهيئة الأزياج وهي قوانين لحساب [2] حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك (ومن فروعها النّظر في
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: في التصورات والتصديقات الذاتية والعرضية.
[2] وفي نسخة أخرى: حسبانات.

(1/630)


النّجوم على الأحكام النّجوميّة) [1] ونحن نتكلّم عليها واحدا بعد واحد إلى آخرها.
واعلم أنّ أكثر من عني بها في الأجيال الّذين عرفنا أخبارهم الأمّتان العظيمتان في الدّولة قبل الإسلام وهما فارس والرّوم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفورا فيهم والدّولة والسّلطان قبل الإسلام وعصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارهم. وكان للكلدانيّين ومن قبلهم من السّريانيّين ومن عاصرهم من القبط عناية بالسّحر والنّجامة وما يتبعها من الطّلاسم [2] وأخذ ذلك عنهم الأمم من فارس ويونان فاختصّ بها القبط وطمى بحرها فيهم كما وقع في المتلوّ من خبر هاروت وماروت وشأن السّحرة وما نقله أهل العلم من شأن البراريّ [3] بصعيد مصر. ثمّ تتابعت الملل بحظر ذلك وتحريمه فدرست علومه وبطلت كأن لم تكن إلّا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصّنائع. والله أعلم بصحّتها. مع أنّ سيوف الشّرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها. وأمّا الفرس فكان شأن هذه العلوم العقليّة عندهم عظيما ونطاقها متّسعا لما كانت عليه دولتهم من الضّخامة واتّصال الملك. ولقد يقال إنّ هذه العلوم إنّما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا وغلب على مملكة الكينيّة فاستولى على كتبهم وعلومهم. إلّا أنّ المسلمين لمّا افتتحوا بلاد فارس، وأصابوا من كتبهم وصحائف علومهم ممّا لا يأخذه الحصر ولمّا فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد بن أبي وقّاص إلى عمر بن الخطّاب ليستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله. فطرحوها في الماء أو في النّار وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا. وأمّا الرّوم فكانت الدّولة منهم ليونان أوّلا وكان لهذه العلوم بينهم مجال رحب وحملها مشاهير من رجالهم مثل
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ومن فروع النظر في النجوم علم الأحكام النجومية.
[2] وفي النسخة الباريسية: من التأثيرات والطلسمات.
[3] وفي نسخة أخرى: البرابي.

(1/631)


أساطين الحكمة وغيرهم. واختصّ فيها المشّاءون منهم أصحاب الرّواق بطريقة حسنة في التّعليم كانوا يقرءون في رواق يظلّهم من الشّمس والبرد على ما زعموا.
واتّصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه بقراط الدّنّ، ثمّ إلى تلميذه أفلاطون ثمّ إلى تلميذه أرسطو ثمّ إلى تلميذه الإسكندر الأفرودسيّ، وتامسطيون وغيرهم. وكان أرسطو معلّما للإسكندر ملكهم الّذي غلب الفرس على ملكهم وانتزع الملك من أيديهم. وكان أرسخهم في هذه العلوم قدما وأبعدهم فيه صيتا وشهرة. وكان يسمّى المعلّم الأوّل فطار له في العالم ذكر.
ولمّا انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النّصرانيّة هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشّرائع فيها. وبقيت في صحفها ودواوينها مخلّدة باقية في خزائنهم ثمّ ملكوا الشّام وكتب هذه العلوم باقية فيهم. ثمّ جاء الله بالإسلام وكان لأهله الظّهور الّذي لا كفاء له وابتزّوا الرّوم ملكهم فيما ابتزّوه للأمم. وابتدأ أمرهم بالسّذاجة والغفلة عن الصّنائع حتّى إذا تبحبح [1] من السّلطان والدّولة وأخذ الحضارة [2] بالحظّ الّذي لم يكن لغيرهم من الأمم وتفنّنوا في الصّنائع والعلوم. تشوّقوا إلى الاطّلاع على هذه العلوم الحكميّة بما سمعوا من الأساقفة والاقسّة المعاهدين بعض ذكر منها وبما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها.
فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الرّوم أنّ يبعث إليه بكتب التّعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدس وبعض كتب الطّبيعيّات. فقرأها المسلمون واطّلعوا على ما فيها وازدادوا حرصا على الظّفر بما بقي منها. وجاء المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصا وأوفد الرّسل على ملوك الرّوم في استخراج علوم اليونانيّين وانتساخها بالخطّ العربيّ وبعث المترجمين لذلك فأوعى منه واستوعب. وعكف عليها النّظّار من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها. وخالفوا كثيرا من آراء المعلّم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: انتجع.
[2] وفي نسخة أخرى: وأخذوا من الحضارة.

(1/632)


الأوّل واختصّوه بالرّدّ والقبول لوقوف الشّهرة عنده. ودوّنوا في ذلك الدّواوين وأربوا على من تقدّمهم في هذه العلوم وكان من أكابرهم في الملّة أبو نصر الفارابيّ وأبو عليّ بن سينا بالمشرق والقاضي أبو الوليد بن رشد والوزير أبو بكر بن الصّائغ بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم. واختصّ هؤلاء بالشّهرة والذّكر واقتصر كثيرون على انتحال التّعاليم وما ينضاف إليها من علوم النّجامة والسّحر والطّلسمات. ووقفت الشّهرة في هذا المنتحل على جابر بن حيّان من أهل المشرق ومسلمة بن أحمد المجريطيّ من أهل الأندلس وتلميذه. ودخل على الملّة من هذه العلوم وأهلها داخلة واستهوت الكثير من النّاس بما جنحوا إليها وقلّدوا آراءها والذّنب في ذلك لمن ارتكبه. ولو شاء الله ما فعلوه. ثمّ إنّ المغرب والأندلس لمّا ركدت ريح العمران بهما وتناقصت العلوم بتناقصه اضمحلّ ذلك منهما إلّا قليلا من رسومه تجدها في تفاريق من النّاس وتحت رقبة من علماء السّنّة. ويبلغنا عن أهل المشرق أنّ بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصا في عراق العجم وما بعده فيما وراء النّهر وأنّهم على بحّ [1] من العلوم العقليّة لتوفّر عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم. ولقد وقفت بمصر على تآليف في المعقول متعدّدة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان يشتهر بسعد الدّين التّفتازانيّ منها في علم الكلام وأصول الفقه والبيان تشهد بأنّ له ملكة راسخة في هذه العلوم. وفي أثنائها ما يدلّ على أنّ له اطّلاعا على العلوم الحكميّة وقدما عالية في سائر الفنون العقليّة والله يؤيّد بنصره من يشاء. كذلك بلغنا لهذا العهد أنّ هذه العلوم الفلسفيّة ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشّماليّة نافقة الأسواق وأنّ رسومها هناك متجدّدة ومجالس تعليمها متعدّدة ودواوينها جامعة متوفّرة وطلبتها متكثّرة [2] والله أعلم بما هنالك وهو يخلق ما يشاء ويختار.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: على نهج. وفي نسخة أخرى: على ثبج.
[2] وفي نسخة أخرى: ودواوينها جامعة وحملتها متوفرون وطلبتها متكثرون.

(1/633)


الفصل العشرون في العلوم العددية
وأوّلها الأرتماطيقيّ وهو معرفة خواصّ الأعداد من حيث التّأليف إمّا على التّوالي أو بالتّضعيف مثل أنّ الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد فإنّ جمع الطّرفين منها مساو لجمع كلّ عددين بعدهما من الطّرفين بعد واحد ومثل ضعف الواسطة إن كانت عدّة تلك الأعداد فردا مثل الأفراد [1] على تواليها والأزواج على تواليها ومثل أنّ الأعداد إذا توالت على نسبة واحدة يكون أوّلها نصف ثانيها وثانيها نصف ثالثها إلخ، أو يكون أوّلها ثلث ثانيها وثانيها ثلث ثالثها إلخ، فإنّ ضرب الطّرفين أحدهما في الآخر كضرب كلّ عددين بعدهما من الطّرفين بعد واحد أحدهما في الآخر. ومثل مربّع الواسطة إن كانت العدّة فردا وذلك مثل أعداد زوج الزّوج المتوالية من اثنين فأربعة فثمانية فستّة عشر ومثل ما يحدث من الخواصّ العدديّة في وضع المثلّثات العدديّة والمربّعات والمخمّسات والمسدّسات إذا وضعت متتالية في سطورها بأن يجمع من الواحد إلى العدد الأخير فتكون مثلّثة. وتتوالى المثلّثات هكذا في سطر تحت الأضلاع ثمّ تزيد على كلّ مثلّث ثلث الضّلع الّذي قبله فتكون مربّعة. وتزيد على كلّ مربّع مثلّث [2] الضّلع الّذي قبله فتكون مخمّسة وهلمّ جرّا. وتتوالى الأشكال على توالي الأضلاع ويحدث جدول ذو طول وعرض. ففي عرضه الأعداد على تواليها ثمّ المثلّثات على تواليها ثمّ المربّعات ثمّ المخمّسات إلخ وفي طوله كلّ عدد وأشكاله بالغا ما بلغ وتحدث في جمعها وقسمة بعضها على بعض طولا وعرضا خواصّ غريبة استقريت منها وتقرّرت في دواوينهم مسائلها كذلك ما يحدث للزّوج والفرد وزوج الزّوج وزوج
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الاعداد.
[2] وفي النسخة الباريسية: مثل الضلع.

(1/634)


الفرد وزوج الزّوج والفرد فإنّ لكل منها خواصّ مختصّة به تضمّنها هذا الفنّ وليست في غيره. وهذا الفنّ أوّل أجزاء التّعاليم وأثبتها ويدخل في براهين الحساب. وللحكماء المتقدّمين والمتأخّرين فيه تآليف، وأكثرهم يدرجونه في التّعاليم ولا يفردونه بالتّآليف. فعل ذلك ابن سينا في كتاب الشّفاء والنّجاة وغيره من المتقدّمين. وأمّا المتأخّرون فهو عندهم مهجور إذ هو غير متداول ومنفعته في البراهين لا في الحساب فهجروه لذلك بعد أن استخلصوا زبدته في البراهين الحسابيّة كما فعله ابن البنّاء في كتاب رفع الحجاب وغيره والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن فروع علم العدد صناعة الحساب.
وهي صناعة علميّة في حساب الأعداد بالضمّ والتّفريق. فالضّمّ يكون في الأعداد بالأفراد وهو الجمع.
وبالتّضعيف تضاعف عددا بآحاد عدد آخر وهذا هو الضّرب والتّفريق أيضا يكون في الأعداد إمّا بالإفراد مثل إزالة عدد من عدد ومعرفة الباقي وهو الطّرح أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية تكون عدّتها محصّلة وهو القسمة. وسواء كان هذا الضّمّ والتّفريق في الصّحيح من العدد أو الكسر. ومعنى الكسر نسبة عدد إلى عدد وتلك النّسبة تسمّى كسرا. وكذلك يكون بالضّمّ والتّفريق في الجذور ومعناها العدد الّذي يضرب في مثله فيكون منه العدد المربّع. فإنّ تلك الجذور أيضا يدخلها الضّمّ والتّفريق وهذه الصّناعة حادثة احتيج إليها للحساب في المعاملات وألّف النّاس فيها كثيرا وتداولوها في الأمصار بالتّعليم للولدان. ومن أحسن التّعليم عندهم الابتداء بها لأنّها معارف متّضحة وبراهين منتظمة فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصّواب. وقد يقال من أخذ نفسه بتعليم الحساب أوّل أمره إنّه يغلب عليه الصّدق لما في الحساب من صحّة المباني ومناقشة النّفس فيصير ذلك خلقا ويتعوّد الصّدق ويلازمه مذهبا. ومن أحسن التّآليف المبسوطة فيها لهذا العهد بالمغرب كتاب الحصار الصّغير. ولابن البناء المرّاكشيّ فيه تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد ثمّ شرحه بكتاب سمّاه رفع الحجاب وهو مستغلق على

(1/635)


المبتدئ بما فيه من البراهين الوثيقة المباني وهو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظّمه وهو كتاب جدير بذلك. وساوق فيه المؤلّف رحمه الله كتاب فقه الحساب، لابن منعم والكامل للأحدب، ولخّص براهينها وغيّرها عن اصطلاح الحروف فيها إلى علل معنويّة ظاهرة، هي سرّ الإشارة بالحروف وزبدتها. وهي كلّها مستغلقة، وإنّما جاءه الاستغلاق من طريق البرهان ببيان [1] علوم التّعاليم لأنّ مسائلها وأعمالها واضحة كلّها. وإذا قصد شرحها فإنّما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال. وفي ذلك من العسر على الفهم ما لا يوجد في أعمال المسائل فتأمّله. والله يهدي بنوره من يشاء وهو القويّ المتين
. ومن فروعه الجبر والمقابلة.
وهي صناعة يستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك. فاصطلحوا فيها على أن جعلوا للمجهولات مراتب من طريق التّضعيف بالضّرب. أوّلها العدد لأنّه به يتعيّن المطلوب المجهول باستخراجه من نسبة المجهول إليه وثانيها الشّيء لأنّ كلّ مجهول فهو من جهة إبهامه شيء وهو أيضا جذر لما يلزم من تضعيفه في المرتبة الثّانية وثالثها المال وهو أمر مبهم وما بعد ذلك فعلى نسبة الأسّ في المضروبين. ثمّ يقع العمل المفروض في المسألة فتخرج إلى معادلة بين مختلفين أو أكثر من هذه الأجناس فيقابلون بعضها ببعض ويجبرون ما فيها من الكسر حتّى يصير صحيحا. ويحطّون المراتب إلى أقلّ الأسوس إن أمكن حتّى يصير إلى الثّلاثة الّتي عليها مدار الجبر عندهم وهي العدد والشّيء والمال. فإن كانت المعادلة بين واحد وواحد تعيّن فالمال والجذر يزول إبهامه بمعادلة العدد ويتعيّن.
والمال وإن عادل الجذور فيتعيّن بعدّتها. وإن كانت المعادلة بين واحد واثنين أخرجه العمل الهندسيّ من طريق تفصيل الضّرب في الاثنين وهي مبهمة فيعيّنها ذلك الضّرب المفصّل. ولا يمكن المعادلة بين اثنين واثنين. وأكثر ما انتهت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: شأن.

(1/636)


المعادلة بينهم إلى ستّ مسائل لأنّ المعادلة بين عدد وجذر ومال مفردة أو مركّبة تجيء ستّة. وأوّل من كتب في هذا الفنّ أبو عبد الله الخوارزميّ وبعده أبو كامل شجاع بن أسلم، وجاء النّاس على أثره فيه. وكتابه في مسائله السّتّ من أحسن الكتب الموضوعة فيه. وشرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا ومن أحسن شروحاته كتاب القرشيّ. وقد بلغنا أنّ بعض أئمّة التّعاليم من أهل المشرق أنهى المعاملات [1] إلى أكثر من هذه السّتّة الأجناس، وبلغها إلى فوق العشرين واستخرج لها كلّها أعمالا وأتبعه ببراهين هندسيّة. والله يزيد في الخلق ما يشاء سبحانه وتعالى
. ومن فروعه أيضا المعاملات.
وهو تصريف الحساب في معاملات المدن في البياعات والمساحات والزّكوات وسائر ما يعرض فيه العدد من المعاملات يصرّف في صناعتنا ذلك الحساب [2] في المجهول والمعلوم والكسر والصّحيح والجذور وغيرها. والغرض من تكثير المسائل المفروضة فيها حصول المران والدّربة بتكرار العمل حتّى ترسخ الملكة في صناعة الحساب. ولأهل الصّناعة الحسابيّة من أهل الأندلس تآليف فيها متعدّدة من أشهرها معاملات الزّهراويّ وابن السّمح وأبي مسلم بن خلدون من تلميذ مسلمة المجريطيّ وأمثالهم
. ومن فروعه أيضا الفرائض.
وهي صناعة حسابيّة في تصحيح السّهام لذوي الفروض في الوراثات إذا تعدّدت وهلك بعض الوارثين وانكسرت سهامه على ورثته أو زادت الفروض عند اجتماعها وتزاحمها على المال كلّه أو كان في الفريضة إقرار وإنكار من بعض الورثة فتحتاج في ذلك كلّه إلى عمل يعيّن به سهام الفريضة من كم تصحّ وسهام الورثة من كلّ بطن مصحّحا حتّى تكون حظوظ الوارثين من المال على نسبة سهامهم من جملة سهام الفريضة. فيدخلها من صناعة الحساب جزء كبير من صحيحه وكسره وجذره [3] ومعلومه ومجهوله وترتّب على ترتيب
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المعادلات.
[2] وفي نسخة أخرى: تصرف في ذلك صناعتا الحساب.
[3] وفي نسخة أخرى: كسوره وجذوره.

(1/637)


أبواب الفرائض الفقهيّة ومسائلها. فتشتمل حينئذ هذه الصّناعة على جزء من الفقه وهو أحكام الوراثة [1] من الفروض والعول والإقرار والإنكار والوصايا والتّدبير وغير ذلك من مسائلها وعلى جزء من الحساب وهو تصحيح السّهمان باعتبار الحكم الفقهيّ وهي من أجلّ العلوم. وقد يورد أهلها أحاديث نبويّة تشهد بفضلها مثل الفرائض ثلث العلم وأنّها أوّل ما يرفع من العلوم وغير ذلك. وعندي أنّ ظواهر تلك الأحاديث كلّها إنّما هي في الفرائض العينيّة كما تقدّم لا فرائض الوراثات فإنّها أقلّ من أن تكون في كمّيّتها ثلث العلم. وأمّا الفرائض العينيّة فكثيرة وقد ألّف النّاس في هذا الفنّ قديما وحديثا وأوعبوا ومن أحسن التّآليف فيه على مذهب مالك رحمه الله كتاب ابن ثابت ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفيّ وكتاب ابن المنمّر والجعديّ والصّرديّ [2] وغيرهم. لكنّ الفضل للحوفيّ فكتابه مقدّم على جميعها. وقد شرحه من شيوخنا أبو عبد الله محمّد بن سليمان الشّطّيّ كبير مشيخة فاس فأوضح وأوعب. ولإمام الحرمين فيها تآليف على مذهب الشّافعيّ تشهد باتّساع باعه في العلوم، ورسوخ قدمه، وكذا للحنفيّة والحنابلة. ومقامات النّاس في العلوم مختلفة. والله يهدي من يشاء بمنّه وكرمه لا ربّ سواه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الوراثات.
[2] وفي النسخة الباريسية: والضودبي.

(1/638)


الفصل الحادي والعشرون في العلوم الهندسية
هذا العلم هو النّظر في المقادير إمّا المتّصلة كالخطّ والسّطح والجسم وإمّا المنفصلة كالأعداد وفيما يعرض لها من العوارض الذّاتيّة. مثل أنّ كلّ مثلّث فزواياه مثل قائمتين. ومثل أنّ كلّ خطّين متوازيين لا يلتقيان في وجه ولو خرجا إلى غير نهاية. ومثل أنّ كلّ خطّين متقاطعين فالزّاويتان المتقابلتان منهما متساويتان. ومثل أنّ الأربعة مقادير المتناسبة ضرب الأوّل منها في الثّالث كضرب الثّاني في الرّابع وأمثال ذلك. والكتاب المترجم لليونانيّين في هذه الصّناعة كتاب أوقليدس ويسمّى كتاب الأصول وكتاب الأركان وهو أبسط ما وضع فيها للمتعلّمين وأوّل ما ترجم من كتاب اليونانيّين في الملّة أيّام أبي جعفر المنصور ونسخه مختلفة باختلاف المترجمين. فمنها لحنين بن إسحاق ولثابت بن قرّة وليوسف بن الحجّاج ويشتمل على خمس عشرة مقالة، أربع في السّطوح وواحدة في الأقدار المتناسبة وأخرى في نسب السّطوح بعضها إلى بعض وثلاث في العدد والعاشرة في المنطقات والقوى على المنطقات ومعناه الجذور وخمس في المجسّمات. وقد اختصره النّاس اختصارات [1] كثيرة كما فعله ابن سينا في تعاليم الشّفاء. أفرد له جزءا منها اختصّه به. وكذلك ابن الصّلت في كتاب الاقتصار وغيرهم. وشرحه آخرون شروحا كثيرة وهو مبدأ العلوم الهندسيّة بإطلاق. واعلم أنّ الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره لأنّ براهينها كلّها بيّنة الانتظام جليّة التّرتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطإ وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع وقد زعموا أنّه كان مكتوبا على باب أفلاطون: «من لم يكن مهندسا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مختصرات.

(1/639)


فلا يدخلنّ منزلنا» وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: «ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصّابون للثّوب الّذي يغسل منه الأقذار وينقّيه من الأوضار والأدران» . وإنّما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه.
ومن فروع هذا الفن الهندسة المخصوصة بالأشكال الكروية والمخروطات.
أمّا الأشكال الكرويّة ففيها كتابان من كتب اليونانيّين لثاوذوسيوس وميلاوش في سطوحها وقطوعها وكتاب ثاوذوسيوس مقدّم في التّعليم على كتاب ميلاوش لتوقّف كثير من براهينه عليه. ولا بدّ منهما لمن يريد الخوض في علم الهيئة لأنّ براهينها متوقّفة عليه.
فالكلام في الهيئة كلّه كلام في الكرات السّماويّة وما يعرض فيها من القطوع والدّوائر بأسباب الحركات كما نذكره فقد يتوقّف على معرفة أحكام الأشكال الكرويّة سطوحها وقطوعها. وأمّا المخروطات فهو من فروع الهندسة أيضا. وهو علم ينظر فيما يقع في الأجسام المخروطة من الأشكال والقطوع ويبرهن على ما يعرض لذلك من العوارض ببراهين هندسيّة متوقّفة على التّعليم الأوّل.
وفائدتها تظهر في الصّنائع العمليّة الّتي موادّها الأجسام مثل النّجارة والبناء وكيف تصنع التّماثيل الغريبة والهياكل النّادرة وكيف يتخيّل على جرّ الأثقال ونقل الهياكل بالهندام والميخال وأمثال ذلك. وقد أفرد بعض المؤلّفين في هذا الفنّ كتابا في الحيل العلميّة يتضمّن من الصّناعات الغريبة والحيل المستظرفة كلّ عجيبة. وربّما استغلق على الفهوم لصعوبة براهينه الهندسيّة وهو موجود بأيدي النّاس ينسبونه إلى بني شاكر. والله تعالى أعلم
. ومن فروع الهندسة المساحة
وهو فنّ يحتاج إليه في مسح الأرض ومعناه استخراج مقدار الأرض المعلومة بنسبة شبر أو ذراع أو غيرهما ونسبة أرض من أرض إذ قويست بمثل ذلك. ويحتاج إلى ذلك في توظيف الخراج على المزارع والفدن وبساتين الغراسة وفي قسمة الحوائط والأراضي بين الشّركاء أو الورثة وأمثال ذلك. وللنّاس فيها موضوعات حسنة وكثيرة والله الموفّق للصّواب بمنّه وكرمه
. المناظرة من فروع الهندسة
وهو

(1/640)


علم يتبيّن به أسباب الغلط في الإدراك البصريّ بمعرفة كيفيّة وقوعها بناء على أنّ إدراك البصر يكون بمخروط شعاعي رأسه نقطة الباصر وقاعدته المرئيّ. ثمّ يقع الغلط كثيرا في رؤية القريب كبيرا والبعيد صغيرا. وكذا رؤية الأشباح الصّغيرة تحت الماء ووراء الأجسام الشّفّافة كبيرة ورؤية النّقطة النّازلة من المطر خطّا مستقيما والسّلقة [1] دائرة وأمثال ذلك. فيتبيّن في هذا العلم أسباب ذلك وكيفيّاته بالبراهين الهندسيّة ويتبيّن به أيضا اختلاف المنظر في القمر باختلاف العروض [2] الّذي يبنى عليه معرفة رؤية الأهلّة وحصول الكسوفات وكثير من أمثال هذا. وقد ألّف في هذا الفنّ كثير من اليونانيّين. وأشهر من ألّف فيه من الإسلاميّين ابن الهيثم. ولغيره أيضا تآليف وهو من هذه الرّياضة وتفاريعها.
الفصل الثاني والعشرون في علم الهيئة
وهو علم ينظر في حركات الكواكب الثّابتة والمحرّكة والمتحيرة. ويستدلّ بكيفيّات تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك لزمت عنها لهذه الحركات المحسوسة بطرق هندسيّة. كما يبرهن على أنّ مركز الأرض مباين لمركز فلك الشّمس بوجود حركة الإقبال والإدبار وكما يستدلّ بالرّجوع والاستقامة للكواكب على وجود أفلال صغيرة حاملة لها متحرّكة داخل فلكها الأعظم وكما يبرهن على وجود الفلك الثّامن بحركة الكواكب الثّابتة وكما يبرهن على تعدّد الأفلاك للكوكب الواحد بتعداد الميول له وأمثال ذلك. وإدراك الموجود من الحركات وكيفيّاتها وأجناسها إنّما هو بالرّصد فإنّا إنّما علمنا حركة الإقبال
__________
[1] ورد في لسان العرب: «ابن شميل: السلق القاع المطمئن المستوي لا شجر فيه. ولم ترد في لسان العرب كلمة سلقة ولعلها محرفة عن السلق. وفي النسخة الباريسية: والشعلة.
[2] هي خطوط العرض بخلاف خطوط الطول.

(1/641)


والإدبار به. وكذا تركيب الأفلاك في طبقاتها وكذا الرّجوع والاستقامة وأمثال ذلك. وكان اليونانيّون يعتنون بالرّصد كثيرا ويتّخذون له الآلات الّتي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المعيّن. وكانت تسمّى عندهم ذات الحلق وصناعة عملها والبراهين عليه في مطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي النّاس.
وأمّا في الإسلام فلم تقع به عناية إلّا في القليل. وكان في أيّام المأمون شيء منه وصنع هذه الآلة المعروفة للرّصد المسمّاة ذات الحلق. وشرع في ذلك فلم يتمّ.
ولمّا مات ذهب رسمه وأغفل واعتمد من بعده على الأرصاد القديمة وليست بمغنيّة لاختلاف الحركات باتّصال الأحقاب. وأنّ مطابقة حركة الآلة للرّصد بحركة الأفلاك والكواكب إنّما هو بالتّقريب. وهذه الهيئة صناعة شريفة وليست على ما يفهم في المشهور أنّها تعطي صورة السّماوات وترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة بل إنّما تعطي أنّ هذه الصّور والهيئات للأفلاك لزمت عن هذه الحركات. وأنت تعلم أنّه لا يبعد أن يكون الشّيء الواحد لازما لمختلفين وإن قلنا إنّ الحركات لازمة فهو استدلال باللّازم على وجود الملزوم ولا يعطي الحقيقة بوجه على أنّه علم جليل وهو أحد أركان التّعاليم. ومن أحسن التّآليف فيه كتاب المجسطي منسوب لبطليموس. وليس من ملوك اليونان الّذين أسماؤهم بطليموس على ما حقّقه شرّاح الكتاب. وقد اختصره الأئمّة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا وأدرجه في تعاليم الشّفاء. ولخّصه ابن رشد أيضا من حكماء الأندلس وابن السّمح وابن أبي الصّلت في كتاب الاقتصار. ولابن الفرغانيّ هيئة ملخّصة قرّبها وحذف براهينها الهندسيّة. والله علّمّ الإنسان ما لم يعلم. سبحانه لا إله إلّا هو ربّ العالمين.
ومن فروعه علم الأزياج [1] .
وهي صناعة حسابيّة على قوانين عدديّة فيما يخصّ كلّ كوكب من طريق حركته وما أدّى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة وبطء واستقامة ورجوع وغير ذلك يعرف به مواضع
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: حساب الأزياج. وفي نسخة أخرى حساب الزيج.

(1/642)


الكواكب في أفلاكها لأيّ وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة. ولهذه الصّناعة قوانين كالمقدّمات والأصول لها في معرفة الشّهور والأيّام والتّواريخ الماضية وأصول متقرّرة من معرفة الأوج والحضيض والميول وأصناف الحركات واستخراج بعضها من بعض يضعونها في جدول مرتّبة تسهيلا على المتعلّمين وتسمّى الأزياج، ويسمّى استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الصّناعة تعديلا وتقويما. وللنّاس فيه تآليف كثيرة للمتقدّمين والمتأخّرين مثل البتّانيّ [1] وابن الكمّاد. وقد عوّل المتأخّرون لهذا العهد بالمغرب على زيج منسوب لابن إسحاق من منجّمي تونس في أوّل المائة السّابعة. ويزعمون أنّ ابن إسحاق عوّل فيه على الرّصد. وأنّ يهوديّا كان بصقلّيّة ماهرا في الهيئة والتّعاليم وكان قد عني بالرّصد وكان يبعث إليه بما يقع في ذلك [2] من أحوال الكواكب وحركاتها فكان أهل المغرب لذلك عنوا به لوثاقة مبناه على ما يزعمون. ولخّصه ابن البنّاء في آخر سمّاه المنهاج فولع به النّاس لما سهل من الأعمال فيه وإنّما يحتاج إلى مواضع الكواكب من الفلك لتبتني عليها الأحكام النّجوميّة وهو معرفة الآثار الّتي تحدث عنها بأوضاعها في عالم الإنسان من الملك والدّول والمواليد البشريّة والكوائن الحادثة كما نبيّنه بعد ونوضح فيه أدلّتهم إن شاء الله تعالى. والله الموفّق لما يحبّه ويرضاه لا معبود سواه.
__________
[1] قوله البتاني بفتح الموحدة وتشديد المثناة كما ضبطه ابن خلكان في ترجمته قبيل آخر المحمدين.
[2] وفي النسخة الباريسية: بما يصح له من ذلك..

(1/643)


الفصل الثالث والعشرون في علم المنطق
وهو قوانين يعرف بها الصّحيح من الفاسد في الحدود المعرّفة [1] للماهيّات والحجج المفيدة للتّصديقات وذلك لأنّ الأصل في الإدراك إنّما هو المحسوسات بالحواسّ الخمس. وجميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من النّاطق وغيره وإنّما يتميّز الإنسان عنها بإدراك الكلّيّات وهي مجرّدة من المحسوسات. وذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتّفقة صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحسوسة وهي الكلّيّ. ثمّ ينظر الذّهن بين تلك الأشخاص المتّفقة وأشخاص أخرى توافقها في بعض فيحصل له صورة تنطبق أيضا عليهما باعتبار ما اتّفقا فيه. ولا يزال يرتقي في التّجريد إلى الكلّ الّذي لا يجد كلّيّا آخر معه يوافقه فيكون لأجل ذلك بسيطا. وهذا مثل ما يجرّد من أشخاص الإنسان صورة النّوع المنطبقة عليها. ثمّ ينظر بينه وبين الحيوان ويجرّد صورة الجنس المنطبقة عليهما. ثمّ ينظر بينهما وبين النّبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي وهو الجوهر فلا يجد كلّيّا يوافقه في شيء فيقف العقل هنالك عن التّجريد. ثمّ إنّ الإنسان لمّا خلق الله له الفكر الّذي به يدرك العلوم والصّنائع وكان العلم: إمّا تصوّرا للماهيّات ويعنى به إدراك ساذج من غير حكم معه وإمّا تصديقا أي حكما بثبوت أمر لأمر فصار سعي الفكر في تحصيل المطلوبات إمّا بأن تجمع تلك الكلّيّات بعضها إلى بعض على جهة التّأليف فتحصل صورة في الذّهن كلّيّة منطبقة على أفراد في الخارج فتكون تلك الصّورة الذّهنيّة مفيدة لمعرفة ماهيّة تلك الأشخاص وإمّا بأن يحكم بأمر على أمر فيثبت له ويكون ذلك تصديقا. وغايته في الحقيقة راجعة إلى التّصوّر لأنّ فائدة ذلك إذا حصل إنّما هي معرفة حقائق
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المعروفة.

(1/644)


الأشياء الّتي هي مقتضى العلم الحكميّ. وهذا السّعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح وقد يكون بطريق فاسد فاقتضى ذلك تمييز الطّريق الّذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلميّة ليتميّز الصّحيح من الفاسد فكان ذلك قانون المنطق. وتكلّم فيه المتقدّمون أوّل ما تكلّموا به جملا جملا ومفترقا مفترقا. ولم تهذّب طرقه ولم تجمع مسائله حتّى ظهر في يونان أرسطو فهذّب مباحثه [1] ورتّب مسائله وفصوله وجعله أوّل العلوم الحكميّة وفاتحتها. ولذلك يسمّى بالمعلّم الأوّل وكتابه المخصوص بالمنطق يسمّى النّصّ وهو يشتمل على ثمانية كتب أربعة منها في صورة القياس وأربعة [2] في مادّته. وذلك أنّ المطالب التّصديقيّة على أنحاء. فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه ومنها ما يكون المطلوب فيه الظّنّ وهو على مراتب فينظر في القياس من حيث المطلوب الّذي يفيده وما ينبغي أن تكون مقدّماته بذلك الاعتبار ومن أيّ جنس يكون من العلم أو من الظّنّ. وقد ينظر في القياس لا باعتبار مطلوب مخصوص بل من جهة إنتاجه خاصّة. ويقال للنّظر الأوّل إنّه من حيث المادّة ونعني به المادّة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظنّ ويقال للنّظر الثّاني إنّه من حيث الصّورة وإنتاج القياس على الإطلاق فكانت لذلك كتب المنطق ثمانيّة:
الأوّل في الأجناس العالية الّتي ينتهي إليها تجريد المحسوسات وهي الّتي ليس فوقها جنس ويسمّى كتاب المقولات. والثّاني في القضايا التّصديقيّة وأصنافها ويسمّى كتاب العبارة. والثّالث في القياس وصورة إنتاجه على الإطلاق ويسمّى كتاب القياس وهذا آخر النّظر من حيث الصّورة. ثمّ الرّابع كتاب البرهان وهو النّظر في القياس المنتج لليقين وكيف يجب أن تكون مقدّماته يقينيّة. ويختصّ بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه مثل كونها ذاتيّة وأوّليّة وغير ذلك. وفي هذا الكتاب الكلام في المعرّفات والحدود إذ المطلوب فيها إنّما هو اليقين لوجوب
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: مناحيه.
[2] وفي النسخة الباريسية: وخمسة.

(1/645)


المطابقة بين الحدّ والمحدود لا تحتمل غيرها فلذلك اختصّت عند المتقدّمين بهذا الكتاب. والخامس: كتاب الجدل وهو القياس المفيد قطع المشاغب وإفحام الخصم وما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات ويختصّ أيضا من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى من حيث إفادته لهذا الغرض وهي مذكورة هناك. وفي هذا الكتاب يذكر المواضع الّتي يستنبط منها صاحب القياس قياسه وفيه عكوس القضايا. والسّادس: كتاب السّفسطة وهو القياس الّذي يفيد خلاف الحقّ ويغالط به المناظر صاحبه وهو فاسد وهذا إنّما كتب ليعرف به القياس المغالطيّ فيحذر منه. والسّابع: كتاب الخطابة وهو القياس المفيد ترغيب الجمهور وحملهم على المراد منهم وما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات. والثّامن:
كتاب الشّعر وهو القياس الّذي يفيد التّمثيل والتّشبيه خاصّة للإقبال على الشّيء أو النّفرة عنه وما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التّخيّليّة. هذه هي كتب المنطق الثّمانية عند المتقدّمين. ثمّ إنّ حكماء اليونانيّين بعد أن تهذّبت الصّناعة ورتّبت رأوا أنّه لا بدّ من الكلام في الكلّيّات الخمس المفيدة للتّصوّر المطابق للماهيّات في الخارج، أو لأجزائها أو عوارضها وهي الجنس والفصل والنوع والخاصّ والعرض العام، فاستدركوا فيها مقالة تختصّ بها مقدّمة بين يدي الفنّ فصارت تسعا وترجمت كلّها في الملّة الإسلاميّة. وكتبها وتداولها [1] فلاسفة الإسلام بالشّرح والتّلخيص كما فعله الفارابيّ وابن سينا ثمّ ابن رشد من فلاسفة الأندلس. ولابن سينا كتاب الشّفاء استوعب فيه علوم الفلسفة السّبعة كلّها. ثمّ جاء المتأخّرون فغيّروا اصطلاح المنطق وألحقوا بالنّظر في الكلّيّات الخمس ثمرته وهي الكلام في الحدود والرّسوم نقلوها من كتاب البرهان. وحذفوا كتاب المقولات لأنّ نظر المنطقيّ فيه بالعرض لا بالذّات. وألحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس [2] . وإن كان من كتاب الجدل في كتب المتقدّمين لكنّه من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تناولها.
[2] فن الموضوعات المنطقية.

(1/646)


توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه ثمّ تكلّموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب مادّة وحدّقوا النّظر فيه بحسب المادّة وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدل والخطابة والشّعر والسّفسطة. وربّما يلمّ بعضهم باليسير منها إلماما وأغفلوها كأن لم تكن هي المهمّ المعتمد في الفنّ. ثمّ تكلّموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مستبحرا ونظروا فيه من حيث إنّه فنّ برأسه لا من حيث إنّه آلة للعلوم فطال الكلام فيه واتّسع. وأوّل من فعل ذلك الإمام فخر الدّين بن الخطيب ومن بعده أفضل الدّين الخونجيّ وعلى كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد. وله في هذه الصّناعة كتاب كشف الأسرار وهو طويل واختصر فيها مختصر الموجز وهو حسن في التّعليم ثمّ مختصر الجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجامع الفنّ وأصوله فتداوله المتعلّمون لهذا العهد فينتفعون به. وهجرت كتب المتقدّمين وطرقهم كأن لم تكن وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته كما قلناه.
والله الهادي للصّواب.
اعلم أنّ هذا الفنّ قد اشتدّ النكير على انتحاله من متقدّمي السلف والمتكلّمين، وبالغوا في الطعن عليه والتّحذير منه، وحظّروا تعلّمه وتعليمه.
وجاء المتأخّرون من بعدهم من لدن الغزاليّ والإمام ابن الخطيب، فسامحوا في ذلك بعض الشّيء. وأكبّ النّاس على انتحاله من يومئذ إلّا قليلا، يجنحون فيه إلى رأي المتقدّمين، فينفرون عنه ويبالغون في إنكاره. فلنبيّن لك نكتة القبول والردّ في ذلك، لتعلم مقاصد العلماء في مذاهبهم، وذلك أنّ المتكلّمين لمّا وضعوا علم الكلام لنصر العقائد الإيمانيّة بالحجج العقليّة، كانت طريقتهم في ذلك بأدلّة خاصّة وذكروها في كتبهم كالدليل على حدث العالم بإثبات الأعراض وحدوثها، وامتناع خلوّ الأجسام عنها، وما لا يخلو عن الحوادث حادث.
وكإثبات التوحيد بدليل التمانع، وإثبات الصفات القديمة بالجوامع الأربعة إلحاقا للغائب بالشاهد، وغير ذلك من أدلّتهم المذكورة في كتبهم. ثمّ مرّروا تلك

(1/647)


الادلة بتمهيد قواعد وأصول هي كالمقدّمات لها مثل إثبات الجوهر الفرد والزمن الفرد والخلاء بين الأجسام ونفي الطبيعة والتركيب العقليّ للماهيّات. وأنّ العرض لا يبقى زمنين وإثبات الحال وهي صفة لموجود، لا موجودة ولا معدمة وغير ذلك من قواعدهم الّتي بنوا عليها أدلّتهم الخاصّة. ثمّ ذهب الشيخ أبو الحسن، والقاضي أبو بكر والأستاذ أبو إسحاق إلّا أنّ أدلّة العقائد منعكسة بمعنى أنّها إذا بطلت بطل مدلولها. ولهذا رأى القاضي أبو بكر أنّها بمثابة العقائد والقدح فيها قدح في العقائد لابتنائها عليها. وإذا تأمّلت المنطق وجدته كلّه يدور على التركيب العقليّ، وإثبات الكلّي الطّبيعيّ في الخارج لينطبق عليه الكلّيّ الذهنيّ المنقسم إلى الكلّيّات الخمس، الّتي هي الجنس والنّوع والفصل والخاصّة والعرض العامّ، وهذا باطل عند المتكلّمين. والكلّي والذاتي عندهم إنّما اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه، أو حال عند من يقول بها فتبطل الكلّيّات الخمس والتّعريف المبنيّ عليها. والمقولات العشر، ويبطل العرض الذاتيّ، فتبطل ببطلانه القضايا الضروريّة الذاتيّة المشروطة في البرهان وتبطل المواضع الّتي هي لباب كتاب الجدل. وهي الّتي يؤخذ منها الوسط الجامع بين الطّرفين في القياس، ولا يبقى إلّا القياس الصّوريّ، ومن التعريفات المساوئ في الصادقيّة على أفراد المحمود، لا يكون أعمّ منها، فيدخل غيرها، ولا أخصّ فيخرج بعضها، وهو الّذي يعبّر عنه النحاة بالجمع والمنع والمتكلّمون بالطرد والعكس، وتنهدم أركان المنطق جملة. وإن أثبتنا هذه كما في علم المنطق أبطلنا كثيرا من مقدّمات المتكلّمين فيؤدّي إلى إبطال أدلّتهم على العقائد كما مرّ. فلهذا بالغ المتقدّمون من المتكلّمين في النكير على انتحال المنطق وعدّه بدعة أو كفرا على نسبة الدليل الّذي يبطل. والمتأخّرون من لدن الغزاليّ لما أنكروا انعكاس الأدلّة، ولم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله، وصحّ عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقليّ ووجود الماهيات الطبيعيّة وكلّياتها

(1/648)


في الخارج، قضوا بأنّ المنطق غير مناف للعقائد الإيمانيّة، وإن كان منافيا لبعض أدلّتها، بل قد يستدلّون على إبطال كثير من تلك المقدّمات الكلاميّة، كنفي الجوهر الفرد والخلاء وبقاء الأعراض وغيرها، ويستبدلون من أدلّة المتكلّمين على العقائد بأدلّة أخرى يصحّحونها بالنظر والقياس العقليّ. ولم يقدح ذلك عندهم في العقائد السنيّة بوجه. وهذا رأي الإمام والغزاليّ وتابعهما لهذا العهد، فتأمّل ذلك واعرف مدارك العلماء ومآخذهم فيما يذهبون إليه. والله الهادي والموفّق للصواب.
الفصل الرابع والعشرون في الطبيعيات
وهو علم يبحث عن الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة والسّكون فينظر في الأجسام السّماويّة والعنصريّة وما يتولّد عنها من حيوان وإنسان ونبات ومعدن وما يتكوّن في الأرض من العيون والزّلازل وفي الجوّ من السّحاب والبخار والرّعد والبرق والصّواعق وغير ذلك. وفي مبدإ الحركة للأجسام وهو النفس على تنوّعها في الإنسان والحيوان والنّبات. وكتب أرسطو فيه موجودة بين أيدي النّاس ترجمت مع ما ترجم من علوم الفلسفة أيّام المأمون وألّف النّاس على حذوها مستتبعين لها بالبيان والشرح وأوعب من ألّف في ذلك ابن سينا في كتاب الشّفاء جمع فيه العلوم السّبعة للفلاسفة كما قدّمنا ثمّ لخّصه في كتاب النّجا وفي كتاب الإشارات وكأنّه يخالف أرسطو في الكثير من مسائلها ويقول برأيه فيها. وأمّا ابن رشد فلخّص كتب أرسطو وشرحها متّبعا له غير مخالف. وألّف النّاس في ذلك كثيرا لكنّ هذه هي المشهورة لهذا العهد والمعتبرة في الصّناعة. ولأهل المشرق عناية بكتاب الإشارات لابن سينا وللإمام ابن الخطيب عليه شرح حسن وكذا الآمديّ وشرحه

(1/649)


أيضا نصير الدّين الطّوسيّ المعروف بخواجه من أهل المشرق [1] وبحث مع الإمام في كثير من مسائله فأوفى على أنظاره وبحوثه وفوق كلّ ذي علم عليم وَالله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 2: 213.