تاريخ ابن خلدون
الفصل الرابع
والأربعون في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل
العلوم عن أهل اللسان العربيّ
والسّرّ في ذلك أنّ مباحث العلوم كلّها إنّما هي في المعاني الذهنيّة
والخياليّة، من بين العلوم الشرعيّة، الّتي هي أكثر مباحثها في الألفاظ
وموادّها من الأحكام المتلقّاة من الكتاب والسّنّة ولغاتها المؤدّية
لها، وهي كلّها في الخيال، وبين العلوم العقليّة، وهي في الذهن.
واللّغات إنّما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني، يؤدّيها بعض
إلى بعض بالمشافهة في المناظرة والتّعليم، وممارسة البحث بالعلوم
لتحصيل ملكتها بطول المران على ذلك. والألفاظ واللّغات وسائط وحجب بين
الضمائر، وروابط وختام عن المعاني. ولا بدّ في اقتناص تلك المعاني من
ألفاظها لمعرفة دلالاتها اللّغويّة عليها، وجودة الملكة لناظر فيها،
وإلّا فيعتاض عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنيّة من
الاعتياص. وإذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة، بحيث يتبادر المعاني
إلى ذهنه من تلك الألفاظ عند استعمالها، شأن البديهيّ والجبلّي، زال
ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني والفهم، أو خفّ، ولم يبق إلّا معاناة
ما في المعاني من المباحث فقط. هذا كلّه إذا كان التّعليم تلقينا
وبالخطاب والعبارة. وأمّا إن احتاج المتعلّم إلى الدراسة والتقييد
بالكتاب ومشافهة الرسوم الخطيّة من الدواوين بمسائل العلوم، كان هنالك
حجاب آخر بين الخطّ ورسومه في الكتاب، وبين الألفاظ المقوّلة في
الخيال. لأنّ رسوم الكتابة لها دلالة خاصّة على
(1/750)
الألفاظ المقوّلة. وما لم تعرف تلك الدلالة
تعذّرت معرفة العبارة، وإن عرفت بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضا قاصرة،
ويزداد على الناظر والمتعلّم بذلك حجاب آخر بينه وبين مطلوبة، من تحصيل
ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأوّل. وإذا كانت ملكته في الدّلالة
اللّفظيّة والخطيّة مستحكمة ارتفعت الحجب بينه وبين المعاني. وصار
إنّما يعاني فهم مباحثها فقط. هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخطّ
بالنسبة إلى كلّ لغة. والمتعلّمون لذلك في الصّغر أشدّ استحكاما
لملكاتهم. ثمّ إنّ الملّة الإسلاميّة لمّا اتّسع ملكها واندرجت الأمم
في طيّها ودرست علوم الأوّلين بنبوّتها وكتابها، وكانت أميّة النزعة
والشّعار، فأخذ الملك والعزّة وسخرية الأمم لهم بالحضارة والتهذيب،
وصيّروا علومهم الشرعيّة صناعة، بعد أن كانت نقلا، فحدثت فيهم الملكات،
وكثرت الدواوين والتآليف، وتشوّفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالتّرجمة
إلى علومهم وأفرغوها في قالب أنظارهم، وجرّدوها من تلك اللّغات
الأعجميّة إلى لسانهم وأربوا فيها على مداركهم، وبقيت تلك الدفاتر
الّتي بلغتهم الأعجميّة نسيا منسيا وطللا مهجورا وهباء منثورا. وأصبحت
العلوم كلّها بلغة العرب، ودواوينها المسطّرة بخطّهم، واحتاج القائمون
بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللّفظيّة والخطيّة في لسانهم دون ما سواه
من الألسن، لدروسها وذهاب العناية بها. وقد تقدّم لنا أنّ اللّغة ملكة
في اللّسان، وكذا الخطّ صناعة ملكتها في اليد، فإذا تقدّمت في اللّسان
ملكة العجمة، صار مقصّرا في اللّغة العربيّة، لما قدّمناه من أنّ
الملكة إذا تقدّمت في صناعة بمحلّ، فقلّ أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة
أخرى، وهو ظاهر. وإذا كان مقصّرا في اللّغة العربيّة ودلالاتها
اللّفظيّة والخطيّة اعتاص عليه فهم المعاني منها كما مرّ. إلّا أن تكون
ملكة العجمة السّابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربيّة، كأصاغر
أبناء العجم الّذين يربّون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم، فتكون
اللّغة العربيّة كأنّها السابقة لهم، ولا يكون عندهم تقصير في فهم
المعاني من العربيّة. وكذا
(1/751)
أيضا شأن من سبق له تعلّم الخطّ الأعجميّ
قبل العربيّ. ولهذا نجد الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم ومجالس
تعليمهم يعدلون عن نقل التفاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخفّفون
بذلك عن أنفسهم مئونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني. وصاحب
الملكة في العبارة والخطّ مستغن عن ذلك، بتمام ملكته، وإنّه صار له فهم
الأقوال من الخطّ، والمعاني من الأقوال، كالجبلّة الراسخة، وارتفعت
الحجب بينه وبين المعاني. وربّما يكون الدّؤوب على التعليم والمران على
اللّغة، وممارسة الخطّ يفيضان لصاحبهما إلى تمكّن الملكة، كما نجده في
الكثير من علماء الأعاجم، إلّا أنّه في النادر. وإذا قرن بنظيره من
علماء العرب وأهل طبقته منهم، كان باع العربيّ أطول وملكته أقوى، لما
عند المستعجم من الفتور بالعجمة السابقة الّتي يؤثر القصور بالضرورة
ولا يعترض ذلك بما تقدّم بأنّ علماء الإسلام أكثرهم العجم، لأنّ المراد
بالعجم هنالك عجم النّسب لتداول الحضارة فيهم الّتي قرّرنا أنّها سبب
لانتحال الصنائع والملكات ومن جملتها العلوم. وأمّا عجمة اللّغة فليست
من ذلك، وهي المرادة هنا. ولا يعترض ذلك أيضا ممّا كان لليونانيّين في
علومهم من رسوخ القدم فإنّهم إنّما تعلّموها من لغتهم السابقة لهم
وخطّهم المتعارف بينهم. والأعجميّ المتعلّم للعلم في الملّة الإسلاميّة
يأخذ العلم بغير لسانه الّذي سبق إليه، ومن غير خطّه الّذي يعرف ملكته.
فلهذا يكون له ذلك حجابا كما قلناه. وهذا عامّ في جميع أصناف أهل
اللّسان الأعجميّ من الفرس والروم والتّرك والبربر والفرنج، وسائر من
ليس من أهل اللّسان العربيّ. وفي ذلك آيات للمتوسمين.
(1/752)
الفصل الخامس
والأربعون في علوم اللسان العربيّ
أركانه أربعة وهي اللّغة والنّحو والبيان والأدب ومعرفتها ضروريّة على
أهل الشّريعة إذ مأخذ الأحكام الشّرعيّة كلّها من الكتاب والسّنّة وهي
بلغة العرب ونقلتها من الصّحابة والتّابعين عرب وشرح مشكلاتها من
لغاتهم فلا بدّ من معرفة العلوم المتعلّقة بهذا اللّسان لمن أراد علم
الشّريعة. وتتفاوت في التّأكيد بتفاوت مراتبها في التّوفية بمقصود
الكلام حسبما يتبيّن في الكلام عليها فنّا فنّا والّذي يتحصّل أنّ
الأهمّ المقدّم منها هو النّحو إذ به تتبيّن أصول المقاصد بالدّلالة
فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر ولولاه لجهل أصل الإفادة.
وكان من حقّ علم اللّغة التّقدّم لولا أنّ أكثر الأوضاع باقية في
موضوعاتها لم تتغيّر بخلاف الإعراب الدّالّ على الإسناد والمسند
والمسند إليه فإنّه تغير بالجملة ولم يبق له أثر. فلذلك كان علم النّحو
أهمّ من اللّغة إذ في جهله الإخلال بالتّفاهم جملة وليست كذلك اللّغة
والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
علم النحو
اعلم أنّ اللّغة في المتعارف هي عبارة المتكلّم عن مقصوده. وتلك
العبارة فعل لسانيّ ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلا بدّ أن تصير ملكة
متقرّرة في العضو الفاعل لها وهو اللّسان وهو في كلّ أمّة بحسب
اصطلاحاتهم. وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها
إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني. مثل
الحركات الّتي تعيّن الفاعل أي المفعول من المجرور أعني المضاف ومثلي
الحروف الّتي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذّوات من غير تكلّف ألفاظ
أخرى. وليس يوجد ذلك إلّا في لغة
(1/753)
العرب. وأمّا غيرها من اللّغات فكلّ معنى
أو حال لا بدّ له من ألفاظ تخصّه بالدّلالة ولذلك نجد كلام العجم من
مخاطباتهم أطول ممّا تقدّره بكلام العرب.
وهذا هو معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي
الكلام اختصارا» . فصار للحروف في لغتهم. والحركات والهيئات أي الأوضاع
اعتبار في الدّلالة على المقصود غير متكلّفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك
منها. إنّما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأوّل كما تأخذ
صبياننا لهذا العهد لغاتنا.
فلمّا جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الّذي كان في أيدي الأمم
والدّول وخالطوا العجم تغيّرت تلك الملكة بما ألقى إليها السّمع من
المخالفات الّتي للمستعربين [1] . والسّمع أبو الملكات اللّسانيّة
ففسدت بما ألقي إليها ممّا يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السّمع. وخشي
أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا ويطول العهد بها فينغلق
القرآن والحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك
الملكة مطّردة شبه الكلّيّات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام
ويلحقون الأشباه بالأشباه مثل أنّ الفاعل مرفوع والمفعول منصوب
والمبتدأ مرفوع. ثمّ رأوا تغيّر الدّلالة بتغيّر حركات هذه الكلمات
فاصطلحوا على تسميته إعرابا وتسمية الموجب لذلك التّغيّر عاملا وأمثال
ذلك. وصارت كلّها اصطلاحات خاصّة بهم فقيّدوها بالكتاب وجعلوها صناعة
لهم مخصوصة.
واصطلحوا على تسميتها بعلم النّحو. وأوّل من كتب فيها أبو الأسود
الدّؤليّ من بني كنانة، ويقال بإشارة عليّ رضي الله عنه لأنّه رأى
تغيّر الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة
المستقرأة. ثمّ كتب فيها النّاس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن
أحمد الفراهيديّ أيّام الرّشيد وكان النّاس أحوج ما كان الناس إليها
لذهاب تلك الملكة من العرب. فهذّب الصّناعة وكمّل أبوابها. وأخذها عنه
سيبويه فكمّل تفاريعها واستكثر من أدلّتها وشواهدها ووضع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: للمتعربين من العجم.
(1/754)
فيها كتابه المشهور الّذي صار إماما لكلّ
ما كتب فيها من بعده. ثمّ وضع أبو عليّ الفارسيّ وأبو القاسم الزّجّاج
كتبا مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه. ثمّ طال الكلام
في هذه الصّناعة وحدث الخلاف بين أهلها في الكوفة والبصرة المصرين
القديمين للعرب. وكثرت الأدلّة والحجاج بينهم وتباينت الطّرق في
التّعليم وكثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك
القواعد وطال ذلك على المتعلّمين. وجاء المتأخّرون بمذاهبهم في
الاختصار فاختصروا كثيرا من ذلك الطّول مع استيعابهم لجميع ما نقل كما
فعله ابن مالك في كتاب التّسهيل وأمثاله أو اقتصارهم على المبادئ
للمتعلّمين، كما فعله الزّمخشريّ في المفصّل وابن الحاجب في المقدّمة
له. وربّما نظموا ذلك نظما مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى والصّغرى
وابن معطي في الأرجوزة الألفيّة. وبالجملة فالتّآليف في هذا الفنّ أكثر
من أن تحصى أو يحاط بها وطرق التّعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدّمين
مغايرة لطريقة المتأخّرين. والكوفيّون والبصريّون والبغداديّون
والأندلسيّون مختلفة طرقهم كذلك. وقد كادت هذه الصّناعة تؤذن بالذّهاب
لما رأينا من النّقص في سائر العلوم والصّنائع بتناقص العمران ووصل
إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدّين بن هشام
من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصّلة. وتكلّم على الحروف
والمفردات والجمل وحذف ما في الصّناعة من المتكرّر في أكثر أبوابها
وسمّاه بالمغني في الإعراب. وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلّها وضبطها
بأبواب وفصول وقواعد انتظم سائرها فوقفنا منه على علم جمّ يشهد بعلوّ
قدره في هذه الصّناعة ووفور بضاعته منها وكأنّه ينحو في طريقته منحاة
أهل الموصل الّذين اقتفوا أثر ابن جنّيّ واتّبعوا مصطلح تعليمه فأتى من
ذلك بشيء عجيب دالّ على قوّة ملكته واطّلاعه. والله يزيد في الخلق ما
يشاء
.
(1/755)
علم اللغة
هذا العلم هو بيان الموضوعات اللّغويّة وذلك أنّه لمّا فسدت ملكة
اللّسان العربيّ في الحركات المسمّاة عند أهل النّحو بالإعراب واستنبطت
القوانين لحفظها كما قلناه. ثمّ استمرّ ذلك الفساد بملابسة العجم
ومخالطتهم حتّى تأدّى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام
العرب في غير موضوعة عندهم ميلا مع هجنة [1] المستعربين [2] في
اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربيّة فاحتيج إلى حفظ الموضوعات
اللّغويّة بالكتاب والتّدوين خشية الدّروس وما ينشأ عنه من الجهل
بالقرآن والحديث فشمّر كثير من أئمّة اللّسان لذلك وأملوا فيه
الدّواوين. وكان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيديّ. ألّف
فيها كتاب العين فحصر فيه مركّبات حروف المعجم كلّها من الثّنائيّ
والثّلاثيّ والرّباعيّ والخماسيّ وهو غاية ما ينتهي إليه التّركيب في
اللّسان العربيّ. وتأتّى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاضرة وذلك أنّ جملة
الكلمات الثّنائيّة تخرج من جميع الأعداد على التّوالي من واحد إلى
سبعة وعشرين وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد. لأنّ الحرف الواحد منها
يؤخذ مع كلّ واحد من السّبعة والعشرين فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائيّة.
ثمّ يؤخذ الثّاني مع السّتّة والعشرين كذلك.
ثمّ الثّالث والرّابع. ثمّ يؤخذ السّابع والعشرون مع الثّامن والعشرين
فيكون واحدا فتكون كلّها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة
وعشرين فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب وهو أن تجمع الأوّل
مع الأخير وتضرب المجموع في نصف العدّة. ثمّ تضاعف لأجل قلب الثّنائيّ
لأنّ التّقديم والتّأخير بين الحروف معتبر في التّركيب فيكون الخارج
جملة الثّنائيّات. وتخرج الثّلاثيّات من ضرب عدد الثّنائيّات فيما يجمع
من واحد إلى ستّة وعشرين على
__________
[1] الهجنة في الكلام: العيب والقبح (قاموس) .
[2] وفي نسخة أخرى: المتعربين.
(1/756)
توالي العدد لأنّ كلّ ثنائيّة يزيد عليها
حرفا فتكون ثلاثيّة. فتكون الثّنائيّة بمنزلة الحرف الواحد مع كلّ واحد
من الحروف الباقية وهي ستّة وعشرون حرفا بعد الثّنائيّة فتجمع من واحد
إلى ستّة وعشرين على توالي العدد ويضرب فيه جملة الثّنائيّات. ثمّ تضرب
الخارج في ستّة، جملة مقلوبات الكلمة الثّلاثيّة فيخرج مجموع تراكيبها
من حروف المعجم. وكذلك في الرّباعيّ والخماسيّ. فانحصرت له التّراكيب
بهذا الوجه ورتّب أبوابه على حروف المعجم بالتّرتيب المتعارف.
واعتمد فيه ترتيب المخارج فبدأ بحروف الحلق ثمّ بعده من حروف الحنك ثمّ
الأضراس ثمّ الشّفة وجعل حروف العلّة آخرا وهي الحروف الهوائيّة. وبدأ
من حروف الحلق بالعين لأنّه الأقصر [1] منها فلذلك سمّي كتابه بالعين
لأنّ المتقدّمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا وهو
تسميته بأوّل ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ. ثمّ بيّن المهمل منها من
المستعمل وكان المهمل في الرّباعيّ والخماسيّ أكثر لقلّة استعمال العرب
له لثقله ولحق به الثنائيّ لقلّة دورانه وكان الاستعمال في الثّلاثيّ
أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه.
وضمّن الخليل ذلك كلّه في كتاب العين واستوعبه أحسن استيعاب وأوعاه [2]
.
وجاء أبو بكر الزّبيديّ وكتب لهشام المؤيّد بالأندلس في المائة
الرّابعة فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب وحذف منه المهمل كلّه
وكثيرا من شواهد المستعمل ولخّصه للحفظ أحسن تلخيص. وألّف الجوهريّ من
المشارقة كتاب الصّحاح على التّرتيب المتعارف لحروف المعجم فجعل
البداءة منها بالهمزة وجعل التّرجمة بالحروف على الحرف الأخير من
الكلمة لاضطرار النّاس في الأكثر إلى أواخر الكلم فجعل ذلك بابا. ثمّ
يأتي بالحروف أوّل الكلمة على ترتيب حروف المعجم أيضا ويترجم عليها
بالفصول إلى آخرها. وحصر اللّغة اقتداء بحصر الخليل. ثمّ ألّف
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الأقصى.
[2] وفي نسخة أخرى: وأوفاه.
(1/757)
فيها من الأندلسيّين ابن سيده من أهل دانية
في دولة عليّ بن مجاهد كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب وعلى
نحو ترتيب كتاب العين. وزاد فيه التّعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها
فجاء من أحسن الدّواوين. ولخّصه محمّد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من
ملوك الدّولة الحفصيّة بتونس.
وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصّحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء
التّراجم عليها فكانا توأمي رحم وسليلي أبوّة ولكراع من أئمّة اللّغة
كتاب المنجد، ولابن دريد كتاب الجمهرة ولابن الأنباريّ كتاب الزاهر هذه
أصول كتب اللّغة فيما علمناه.
وهناك مختصرات أخرى مختصّة بصنف من الكلم ومستوعبة لبعض الأبواب أو
لكلّها. إلّا أنّ وجه الحصر فيها خفيّ ووجه الحصر في تلك جليّ من قبل
التّراكيب كما رأيت. ومن الكتب الموضوعة أيضا في اللّغة كتاب
الزّمخشريّ في المجاز سمّاه أساس البلاغة بيّن فيه كلّ ما تجوّزت به
العرب من الألفاظ وفيما تجوّزت به من المدلولات وهو كتاب شريف الإفادة.
ثمّ لمّا كانت العرب تضع الشّيء على العموم ثمّ تستعمل في الأمور
الخاصّة ألفاظا أخرى خاصّة بها فوق ذلك عندنا، وبيّن الوضع والاستعمال
واحتاج إلى فقه في اللّغة عزيز المأخذ كما وضع الأبيض بالوضع العامّ
لكلّ ما فيه بياض ثمّ اختصّ ما فيه بياض من الخيل بالأشهب ومن الإنسان
بالأزهر ومن الغنم بالأملح حتّى صار استعمال الأبيض في هذه كلّها لحنا
وخروجا عن لسان العرب. واختصّ بالتّأليف في هذا المنحى الثّعالبيّ
وأفرده في كتاب له سمّاه فقه اللّغة وهو من أكد ما يأخذ به اللّغويّ
نفسه أن يحرّف استعمال العرب عن مواضعه. فليس معرفة الوضع الأوّل بكاف
في التّرتيب حتّى يشهد له استعمال العرب لذلك. وأكثر ما يحتاج إلى ذلك
الأديب في فنّي نظمه ونثره حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات
اللّغويّة في مفرداتها وتراكيبها وهو أشدّ [1] من اللّحن في الإعراب
وأفحش. وكذلك ألّف بعض المتأخّرين في الألفاظ
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أشرّ.
(1/758)
المشتركة وتكفّل بحصرها وإن لم تبلغ إلى
النّهاية في ذلك فهو مستوعب للأكثر.
وأمّا المختصرات الموجودة في هذا الفنّ المخصوصة بالمتداول من اللّغة
الكثير الاستعمال تسهيلا لحفظها على الطّالب فكثيرة مثل الألفاظ لابن
السّكّيت والفصيح لثعلب وغيرهما. وبعضها أقلّ لغة من بعض لاختلاف نظرهم
في الأهمّ على الطّالب للحفظ. والله الخلّاق العليم لا ربّ سواه.
فصل: واعلم أنّ النقل الّذي تثبت به اللّغة، إنّما هو النقل عن العرب
أنّهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنّهم وضعوها لأنّه
متعذّر وبعيد، ولم يعرف لأحد منهم. وكذلك لا تثبت اللّغات بقياس ما لم
نعلم استعماله، على ما عرف استعماله في ماء العنب، باعتبار الإسكار
الجامع. لأنّ شهادة الاعتبار في باب القياس إنّما يدركها الشّرع الدالّ
على صحّة القياس من أصله. وليس لنا مثله في اللّغة إلّا بالعقل، وهو
محكم، وعلى هذا جمهور الأئمّة. وإن مال إلى القياس فيها القاضي وابن
سريح وغيرهم. لكنّ القول بنفيه أرجح. ولا تتوهمنّ أنّ إثبات اللغة في
باب الحدود اللّفظيّة، لأنّ الحدّ راجع إلى المعاني، ببيان أنّ مدلول
اللفظ المجهول الخفيّ هو مدلول الواضح المشهور، واللّغة إثبات أنّ
اللفظ كذا، لمعنى كذا، والفرق في غاية الظهور.
علم البيان
هذا العلم حادث في الملّة بعد علم العربيّة واللّغة، وهو من العلوم
اللّسانيّة لأنّه متعلّق بالألفاظ وما تفيده. ويقصد بها الدّلالة عليه
من المعاني وذلك أنّ الأمور الّتي يقصد المتكلّم بها إفادة السّامع من
كلامه هي: إمّا تصوّر مفردات تسند ويسند إليها ويفضي بعضها إلى بعض،
والدّالّة على هذه هي المفردات من الأسماء والأفعال والحروف وإمّا
تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة، ويدلّ عليها بتغيّر الحركات
من الإعراب وأبنية الكلمات. وهذه كلّها هي صناعة
(1/759)
النّحو. ويبقى من الأمور المكتنفة
بالواقعات المحتاجة للدّلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه
حال الفعل وهو محتاج إلى الدّلالة عليه لأنّه من تمام الإفادة وإذا
حصلت للمتكلّم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه. وإذا لم يشتمل على شيء
منها فليس من جنس كلام العرب فإنّ كلامهم واسع ولكلّ مقام عندهم مقال
يختصّ به بعد كمال الإعراب والإبانة. ألا ترى أنّ قولهم (زيد جاءني)
مغاير لقولهم (جاءني زيد) من قبل أنّ المتقدّم منهما هو الأهمّ عند
المتكلّم فمن قال: جاءني زيد أفاد أنّ اهتمامه بالمجيء قبل الشّخص
المسند إليه، ومن قال: زيد جاءني أفاد أنّ اهتمامه بالشّخص قبل المجيء
المسند.
وكذا التّعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو
معرفة.
وكذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم: زيد قائم وإنّ زيدا قائم وإنّ
زيدا لقائم متغايرة كلّها في الدّلالة وإن استوت من طريق الإعراب فإنّ
الأوّل العاري عن التّأكيد إنّما يفيد الخالي الذّهن والثّاني المؤكّد
بأنّ يفيد المتردّد والثّالث يفيد المنكر فهي مختلفة. وكذلك تقول:
جاءني الرّجل ثمّ تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التّنكير
تعظيمه وأنّه رجل لا يعادله أحد من الرّجال. ثمّ الجملة الإسناديّة
تكون خبريّة وهي الّتي لها خارج تطابقه أولا، وإنشائيّة وهي الّتي لا
خارج لها. كالطّلب وأنواعه. ثمّ قد يتعيّن ترك العاطف بين الجملتين إذا
كان للثّانية محلّ من الإعراب: فيشرك [1] بذلك منزلة التّابع المفرد
نعتا وتوكيدا وبدلا بلا عطف أو يتعيّن العطف إذا لم يكن للثّانية محلّ
من الإعراب:
ثمّ يقتضي المحلّ الإطناب والإيجاز فيورد الكلام عليهما. ثمّ قد يدلّ
باللّفظ ولا يراد منطوقه ويراد لازمه إن كان مفردا كما تقول: زيد أسد
فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة وإنّما تريد شجاعته اللّازمة وتسندها
إلى زيد وتسمّى هذه استعارة. وقد تريد باللّفظ المركّب الدّلالة على
ملزومه كما تقول: زيد كثير
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ينزل.
(1/760)
الرّماد [1] وتريد ما لزم ذلك عنه من الجود
وقرى الضّيف لأنّ كثرة الرّماد ناشئة عنهما فهي دالّة عليهما. وهذه
كلّها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد والمركّب وإنّما هي
هيئات وأحوال الواقعات جعلت للدّلالة عليها أحوال وهيئات في الألفاظ
كلّ بحسب ما يقتضيه مقامه، فاشتمل هذا العلم المسمّى بالبيان على البحث
عن هذه الدّلالة الّتي للهيئات والأحوال والمقامات وجعل على ثلاثة
أصناف: الصّنف الأوّل يبحث فيه عن هذه الهيئات والأحوال الّتي تطابق
باللّفظ جميع مقتضيات الحال ويسمّى علم البلاغة، والصّنف الثّاني يبحث
فيه عن الدّلالة على اللّازم اللّفظيّ وملزومه وهي الاستعارة والكناية
كما قلناه ويسمّى علم البيان. وألحقوا بهما صنفا آخر وهو النّظر في
تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التّنميق إمّا بسجع يفصله أو تجنيس يشابه
بين ألفاظه أو ترصيع يقطع أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام [2] معنى
أخفى منه لاشتراك اللّفظ بينهما وأمثال ذلك ويسمّى عندهم علم البديع.
وأطلق على الأصناف الثّلاثة عند المحدثين اسم البيان وهو اسم الصّنف
الثّاني لأنّ الأقدمين أوّل من تكلّموا فيه، ثمّ تلاحقت مسائل الفنّ
واحدة بعد أخرى وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم
إملاءات غير وافية فيها. ثمّ لم تزل مسائل الفنّ تكمل شيئا فشيئا إلى
أن محّص [3] السّكاكيّ زبدته وهذّب مسائله ورتّب أبوابه على نحو ما
ذكرناه آنفا من التّرتيب وألّف كتابه المسمّى بالمفتاح في النّحو
والتّصريف والبيان فجعل هذا الفنّ من بعض أجزائه. وأخذه المتأخّرون من
كتابه ولخّصوا منه أمّهات هي المتداولة لهذا العهد كما فعله السّكاكيّ
في كتاب التّبيان [4] وابن مالك في كتاب المصباح وجلال الدّين
القزوينيّ في كتاب الإيضاح والتّلخيص وهو أصغر حجما
__________
[1] وفي نسخة أخرى: رماد القدور.
[2] وفي نسخة أخرى: بإبهام.
[3] وفي نسخة أخرى: مخض.
[4] وفي النسخة الباريسية: البيان.
(1/761)
من الإيضاح والعناية به لهذا العهد عند أهل
المشرق في الشّرح والتّعليم منه أكثر من غيره. وبالجملة فالمشارقة على
هذا الفنّ أقوم من المغاربة وسببه والله أعلم أنّه كماليّ في العلوم
اللّسانيّة والصّنائع الكماليّة توجد في وفور العمران. والمشرق أوفر
عمرانا من المغرب كما ذكرناه. أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل
المشرق كتفسير الزّمخشريّ، وهو كلّه مبنيّ على هذا الفنّ، وهو أصله.
وإنّما اختصّ بأهل المغرب من أصنافه علم البديع خاصّة، وجعلوه من جملة
علوم الأدب الشّعريّة، وفرّعوا له ألقابا وعدّدوا أبوابا ونوّعوا
أنواعا. وزعموا أنّهم أحصوها من لسان العرب وإنّما حملهم على ذلك
الولوع بتزيين الألفاظ، وأنّ علم البديع سهل المأخذ. وصعبت عليهم مآخذ
البلاغة والبيان لدقّة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما. وممّن
ألّف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق وكتاب العمدة له مشهور. وجرى
كثير من أهل إفريقية والأندلس على منحاه. واعلم أنّ ثمرة هذا الفنّ
إنّما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأنّ إعجازه في وفاء الدّلالة منه
بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة وهي أعلى مراتب الكمال مع الكلام
فيما يختصّ بالألفاظ في انتفائها وجودة رصفها [1] وتركيبها وهذا هو
الإعجاز الّذي تقصّر الأفهام عن إدراكه. وإنّما يدرك بعض الشّيء منه من
كان له ذوق بمخالطة اللّسان العربيّ وحصول ملكته فيدرك من إعجازه على
قدر ذوقه. فلهذا كانت مدارك العرب الّذين سمعوه من مبلّغه أعلى مقاما
في ذلك لأنّهم فرسان الكلام وجها بذته والذّوق عندهم موجود بأوفر ما
يكون وأصحّه. وأحوج ما يكون إلى هذا الفنّ المفسّرون وأكثر تفاسير
المتقدّمين غفل عنه حتّى ظهر جار الله الزّمخشريّ ووضع كتابه في
التّفسير وتتبّع آي القرآن بأحكام هذا الفنّ بما يبدي البعض من إعجازه
فانفرد بهذا الفضل على جميع التّفاسير لولا أنّه يؤيد عقائد أهل البدع
عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة. ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وضعها.
(1/762)
السّنّة مع وفور بضاعته من البلاغة. فمن
أحكم عقائد السّنّة وشارك في هذا الفنّ بعض المشاركة حتّى يقتدر على
الرّدّ عليه من جنس كلامه أو يعلم أنّه بدعة فيعرض عنها ولا تضرّ في
معتقده فإنّه يتعيّن عليه النّظر في هذا الكتاب للظّفر بشيء من الإعجاز
مع السّلامة من البدع والأهواء. والله الهادي من يشاء إلى سواء
السّبيل.
علم الأدب
هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها. وإنّما المقصود
منه عند أهل اللّسان ثمرته، وهي الإجادة في فنّي المنظوم والمنثور، على
أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به
الكلمة، من شعر عالي الطّبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللّغة
والنّحو مبثوثة أثناء ذلك، متفرّقة، يستقري منها النّاظر في الغالب
معظم قوانين العربيّة، مع ذكر بعض من أيّام العرب يفهم به ما يقع في
أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهمّ من الأنساب الشّهيرة والأخبار العامّة.
والمقصود بذلك كلّه أن لا يخفى على النّاظر فيه شيء من كلام العرب
وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفّحه لأنّه لا تحصل الملكة من حفظه
إلّا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقّف عليه فهمه. ثمّ إنّهم
إذا أرادوا حدّ هذا الفنّ قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها
والأخذ من كلّ علم بطرف يريدون من علوم اللّسان أو العلوم الشّرعيّة من
حيث متونها فقط وهي القرآن والحديث. إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في
كلام العرب إلّا ما ذهب إليه المتأخّرون عند كلفهم بصناعة البديع من
التّورية في أشعارهم وترسّلهم بالاصطلاحات العلميّة فاحتاج صاحب هذا
الفنّ حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها. وسمعنا
من شيوخنا في مجالس التّعليم أنّ أصول هذا الفنّ وأركانه أربعة دواوين
وهي: أدب الكتّاب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرّد وكتاب البيان
والتّبيين للجاحظ وكتاب النّوادر لأبي عليّ
(1/763)
القالي البغداديّ. وما سوى هذه الأربعة
فتبع لها وفروع عنها. وكتب المحدثين في ذلك كثيرة. وكان الغناء في
الصّدر الأوّل من أجزاء هذا الفنّ لما هو تابع للشّعر إذ الغناء إنّما
هو تلحينه. وكان الكتّاب والفضلاء من الخواصّ في الدّولة العباسيّة
يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشّعر وفنونه فلم يكن انتحاله
قادحا في العدالة والمروءة. وقد ألّف القاضي أبو الفرج الأصبهانيّ
كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيّامهم
ودولهم. وجعل مبناه على الغناء في المائة صوتا الّتي اختارها المغنّون
للرّشيد فاستوعب فيه ذلك أتمّ استيعاب وأوفاه. ولعمري إنّه ديوان العرب
وجامع أشتات المحاسن الّتي سلفت لهم في كلّ فن من فنون الشّعر
والتّأريخ والغناء وسائر الأحوال ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه
وهو الغاية الّتي يسمو إليها الأديب ويقف عندها وأنّى له بها. ونحن
الآن نرجع بالتّحقيق على الإجمال فيما تكلّمنا عليه من علوم اللّسان.
والله الهادي للصّواب.
الفصل السادس والأربعون في أن اللغة ملكة
صناعية
اعلم أنّ اللّغات كلّها ملكات شبيهة بالصّناعة إذ هي ملكات في اللّسان
للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس
ذلك بالنّظر إلى المفردات وإنّما هو بالنّظر إلى التّراكيب. فإذا حصلت
الملكة التّامّة في تركيب الألفاظ المفردة للتّعبير بها عن المعاني
المقصودة ومراعاة التّأليف الّذي يطبّق الكلام على مقتضى الحال بلغ
المتكلّم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسّامع وهذا هو معنى البلاغة.
والملكات لا تحصل إلّا بتكرار الأفعال لأنّ الفعل يقع أوّلا وتعود منه
للذّات صفة ثمّ تتكرّر فتكون حالا. ومعنى الحال
(1/764)
أنّها صفة غير راسخة ثمّ يزيد التّكرار
فتكون ملكة أي صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته [1] اللّغة
العربيّة موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم
وكيفيّة تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصّبيّ استعمال المفردات في
معانيها فيلقّنها أوّلا ثمّ يسمع التّراكيب بعدها فيلقّنها كذلك. ثمّ
لا يزال سماعهم لذلك يتجدّد في كلّ لحظة ومن كلّ متكلّم واستعماله
يتكرّر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم. هكذا تصيّرت
الألسن واللّغات من جيل إلى جيل وتعلّمها العجم والأطفال. وهذا هو معنى
ما تقوله العامّة من أنّ اللّغة للعرب بالطّبع أي بالملكة الأولى الّتي
أخذت عنهم ولم يأخذوها عن غيرهم. ثمّ إنّه لما فسدت هذه الملكة لمضر
بمخالطتهم الأعاجم وسبب فسادها أنّ النّاشئ من الجيل صار يسمع في
العبارة عن المقاصد كيفيّات أخرى غير الكيفيّات الّتي كانت للعرب
فيعبّر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم ويسمع كيفيّات
العرب أيضا فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة وكانت
ناقصة عن الأولى. وهذا معنى فساد اللّسان العربيّ. ولهذا كانت لغة قريش
أفصح اللّغات العربيّة وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم.
ثمّ من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني
تميم. وأمّا من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسّان وإياد وقضاعة وعرب
اليمن المجاورين لأمم الفرس والرّوم والحبشة فلم تكن لغتهم تامّة
الملكة بمخالطة الأعاجم. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم
في الصّحّة والفساد عند أهل الصّناعة العربيّة. والله سبحانه وتعالى
أعلم وبه التّوفيق.
__________
[1] الضمير يعود إلى اللغة. وفي النسخة الباريسية ملكة اللغة.
(1/765)
الفصل السابع
والأربعون في أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير
وذلك أنّا نجدها في بيان المقاصد والوفاء بالدّلالة على سنن اللّسان
المضريّ ولم يفقد منها إلّا دلالة الحركات على تعيّن الفاعل من المفعول
فاعتاضوا منها بالتّقديم والتّأخير وبقرائن تدلّ على خصوصيّات المقاصد.
إلّا أنّ البيان والبلاغة في اللّسان المضريّ أكثر وأعرق، لأنّ الألفاظ
بأعيانها دالّة على المعاني بأعيانها. ويبقى ما تقتضيه الأحوال ويسمّى
بساط الحال محتاجا إلى ما يدلّ عليه. وكلّ معنى لا بدّ وأن تكتنفه
أحوال تخصّه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنّها صفاته
وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدلّ عليها بألفاظ تخصّها بالوضع.
وأمّا في اللّسان العربيّ فإنّما يدلّ عليها بأحوال وكيفيّات في تراكيب
الألفاظ وتأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة أعراب. وقد يدلّ
عليها بالحروف غير المستقلّة. ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللّسان
العربيّ بحسب تفاوت الدّلالة على تلك الكيفيّات كما قدّمناه فكان
الكلام العربيّ لذلك أوجز وأقلّ ألفاظا وعبارة من جميع الألسن. وهذا
معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام
اختصارا» . واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر وقد قال له بعض
النّحاة: «إنّي أجد في كلام العرب تكرارا في قولهم: زيد قائم وإنّ زيدا
قائم وإنّ زيدا لقائم والمعنى واحد» .
فقال له: إنّ معانيها مختلفة، فالأوّل: لإفادة الخالي الذّهن من قيام
زيد، والثّاني: لمن سمعه فتردّد فيه، والثّالث: لمن عرف بالإصرار على
إنكاره فاختلفت الدّلالة باختلاف الأحوال. وما زالت هذه البلاغة
والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد. ولا تلتفتنّ في ذلك إلى خرفشة
النّحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التّحقيق حيث يزعمون أنّ
البلاغة لهذا العهد ذهبت وأنّ
(1/766)
اللّسان العربيّ فسد اعتبارا بما وقع في
أواخر الكلم من فساد الإعراب الّذي يتدارسون قوانينه. وهي مقالة دسّها
التّشيع في طباعهم وألقاها القصور في أفئدتهم وإلّا فنحن نجد اليوم
الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى والتّعبير عن
المقاصد والتّعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد
وأساليب اللّسان وفنونه من النّظم والنّثر موجودة في مخاطباتهم وفهم
الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم والشّاعر المفلق على أساليب لغتهم.
والذّوق الصّحيح والطّبع السّليم شاهدان بذلك. ولم يفقد من أحوال
اللّسان المدوّن إلّا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الّذي لزم في
لسان مضر طريقة واحدة ومهيعا معروفا وهو الإعراب. وهو بعض من أحكام
اللّسان. وإنّما وقعت العناية بلسان مضر لمّا فسد بمخالطتهم الأعاجم
حين استولوا على ممالك العراق والشّام ومصر والمغرب وصارت ملكته على
غير الصّورة الّتي كانت أوّلا فانقلب لغة أخرى. وكان القرآن منزّلا به
والحديث النّبويّ منقولا بلغته وهما أصلا الدّين والملّة فخشي تناسيهما
وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللّسان الّذي نزّلا به فاحتيج إلى تدوين
أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانينه. وصار علما ذا فصول وأبواب
ومقدّمات ومسائل سمّاه أهله بعلم النّحو وصناعة العربيّة فأصبح فنّا
محفوظا وعلما مكتوبا وسلّما إلى فهم كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله
عليه وسلّم وافيا [1] . ولعلّنا لو اعتنينا بهذا اللّسان العربيّ لهذا
العهد واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابيّة في دلالتها بأمور
أخرى موجودة فيه تكون بها قوانين تخصّها. ولعلّها تكون في أواخره على
غير المنهاج الأوّل في لغة مضر فليست اللّغات وملكاتها مجّانا. ولقد
كان اللّسان المضريّ مع اللّسان الحميريّ بهذه المثابة وتغيّر عند مضر
كثير من موضوعات اللّسان الحميريّ وتصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال
الموجودة لدينا خلافا لمن يحمله القصور على أنّها لغة واحدة ويلتمس
إجراء اللّغة الحميريّة على
__________
[1] وفي نسخة أخرى: راقيا.
(1/767)
مقاييس اللّغة المضريّة وقوانينها كما يزعم
بعضهم في اشتقاق القيل في اللّسان الحميريّ أنّه من القول وكثير من
أشباه هذا وليس ذلك بصحيح. ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في
الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهدنا
مع لغة مضر إلّا أنّ العناية بلسان مضر من أجل الشّريعة كما قلناه حمل
ذلك على الاستنباط والاستقراء وليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل
ذلك ويدعونا إليه. وممّا وقع في لغة هذا الجيل العربيّ لهذا العهد حيث
كانوا من الأقطار شأنهم في النّطق بالقاف فإنّهم لا ينطقون بها من مخرج
القاف عند أهل الأمصار كما هو مذكور في كتب العربيّة أنّه من أقصى
اللّسان وما فوقه من الحنك الأعلى. وما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف
وإن كان أسفل من موضع القاف وما يليه من الحنك الأعلى كما هي بل يجيئون
بها متوسّطة بين الكاف والقاف وهو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب
أو شرق حتّى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم والأجيال مختصّا بهم لا
يشاركهم فيها غيرهم.
حتّى إنّ من يريد التّقرّب [1] والانتساب إلى الجيل والدّخول فيه
يحاكيهم في النّطق بها. وعندهم أنّه إنّما يتميّز العربيّ الصّريح من
الدّخيل في العروبيّة والحضريّ بالنّطق بهذه القاف. ويظهر بذلك أنّها
لغة مضر بعينها فإنّ هذا الجيل الباقين معظمهم ورؤساؤهم شرقا وغربا في
ولد منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور ومن بني
عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور. وهم لهذا العهد
أكثر الأمم في المعمور وأغلبهم وهم من أعقاب مضر وسائر الجيل معهم من
بني كهلان في النّطق بهذه القاف أسوة. وهذه اللّغة لم يبتدعها هذا
الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة ويظهر من ذلك أنّها لغة مضر الأوّلين
ولعلّها لغة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعينها قد ادّعى ذلك فقهاء
أهل البيت وزعموا أنّ من قرأ في أمّ القرآن «اهدنا إلى الصراط
__________
[1] وفي نسخة أخرى: التعرب.
(1/768)
المستقيم» بغير القاف الّتي لهذا الجيل فقد
لحن وأفسد صلاته ولم أدر من أين جاء هذا؟ فإنّ لغة أهل الأمصار أيضا لم
يستحدثوها وإنّما تناقلوها من لدن سلفهم وكان أكثرهم من مضر لمّا نزلوا
الأمصار من لدن الفتح. وأهل الجيل أيضا لم يستحدثوها إلّا أنّهم أبعد
من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار. فهذا يرجّح فيما يوجد من اللّغة
لديهم أنّه من لغة سلفهم. هذا مع اتّفاق أهل الجيل كلّهم شرقا وغربا في
النّطق بها وأنّها الخاصيّة الّتي يتميّز بها العربيّ من الهجين
والحضريّ. والظّاهر أنّ هذه القاف الّتي ينطق بها أهل الجيل العربيّ
البدويّ هو من مخرج القاف عند أوّلهم من أهل اللّغة، وأنّ مخرج القاف
متّسع، فأوّله من أعلى الحنك وآخره ممّا يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى
الحنك هو لغة الأمصار، والنطق بها ممّا يلي الكاف هي لغة هذا الجيل
البدويّ. وبهذا يندفع ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أمّ
القرآن، فإنّ فقهاء الأمصار كلّهم على خلاف ذلك. وبعيد أن يكونوا
أهملوا ذلك، فوجهه ما قلناه. نعم نقول إنّ الأرجح والأولى ما ينطق به
أهل الجيل البدويّ لأنّ تواترها فيهم كما قدّمناه، شاهد بأنّها لغة
الجيل الأوّل من سلفهم، وأنّها لغة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
ويرجّح ذلك أيضا إدغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين. ولو كانت كما
ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك، لما كانت قريبة المخرج من الكاف،
ولم تدغم. ثمّ إنّ أهل العربيّة قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف،
وهي الّتي ينطق بها أهل الجيل البدويّ من العرب لهذا العهد، وجعلوها
متوسّطة بين مخرجي القاف والكاف. على أنّها حرف مستقلّ، وهو بعيد.
والظاهر أنّها من آخر مخرج القاف لاتّساعه كما قلناه. ثمّ إنّهم
يصرّحون باستهجانه واستقباحه كأنّهم لم يصحّ عندهم أنّها لغة الجيل
الأوّل. وفيما ذكرناه من اتّصال نطقهم بها، لأنّهم إنّما ورثوها من
سلفهم جيلا بعد جيل، وأنّها شعارهم الخاصّ بهم، دليل على أنّها لغة ذلك
الجيل الأوّل، ولغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما تقدّم ذلك كلّه.
وقد يزعم زاعم أنّ
(1/769)
هذه القاف الّتي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف، وأنّها إنّما
جاءت من مخالطتهم للعجم، وإنّهم ينطقون بها كذلك، فليست من لغة العرب.
ولكنّ الأقيس كما قدّمناه من أنّهما حرف واحد متّسع المخرج. فتفهّم
ذلك. والله الهادي المبين. |