تاريخ ابن خلدون
الفصل الأربعون في
أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
وذلك أنّ إرهاف الحدّ بالتّعليم مضرّ بالمتعلّم سيّما في أصاغر الولد
لأنّه من سوء الملكة. ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلّمين أو
المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيّق عن النّفس في انبساطها وذهب
بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التّظاهر بغير ما
في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلّمه المكر والخديعة
لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانيّة الّتي له من حيث
الاجتماع والتّمرّن [1] وهي الحميّة والمدافعة عن نفسه ومنزله. وصار
عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النّفس عن اكتساب الفضائل والخلق
الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيّتها فارتكس وعاد في أسفل
السّافلين. وهكذا وقع لكلّ أمّة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف
واعتبره في كلّ من يملك أمره عليه. ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة
به. وتجد ذلك فيهم استقراء وأنظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق
السّوء حتّى إنّهم يوصفون في كلّ أفق. وعصر بالحرج [2] ومعناه في
الاصطلاح
__________
[1] وفي نسخة أخرى: التمدن.
[2] وفي نسخة أخرى: بالخرج.
(1/743)
المشهور التّخابث والكيد وسببه ما قلناه.
فينبغي للمعلّم في متعلّمه والوالد في ولده أن لا يستبدّا [1] عليهما
في التّأديب. وقد قال محمّد بن أبي زيد في كتابه الّذي ألّفه في حكم
المعلّمين والمتعلّمين: «لا ينبغي لمؤدّب الصّبيان أن يزيد في ضربهم
إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا» . ومن كلام عمر رضي الله عنه:
«من لم يؤدّبه الشّرع لا أدّبه الله» . حرصا على صون النّفوس عن مذلّة
التّأديب وعلما بأنّ المقدار الّذي عيّنه الشّرع لذلك أملك له فإنّه
أعلم بمصلحته. ومن أحسن مذاهب التّعليم ما تقدّم به الرّشيد لمعلّم
ولده. قال خلف الأحمر: بعث إليّ الرشيد في تأديب ولده محمّد الأمين
فقال: «يا أحمر إنّ أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه
فصيّر يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة وكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين
أقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروّه الأشعار وعلّمه السّنن وبصّره بمواقع
الكلام وبدئه وامنعه من الضّحك إلّا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني
هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القوّاد إذا حضروا مجلسه. ولا تمرّنّ
بك ساعة إلّا وأنت مغتنم فائدة تفيده إيّاها من غير أن تحزنه فتميت
ذهنه.
ولا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ ويألفه. وقوّمه ما استطعت بالقرب
والملاينة فإن أباهما فعليك بالشّدّة والغلظة» . انتهى.
الفصل الحادي والأربعون في أن الرحلة في
طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم
والسّبب في ذلك أنّ البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من
المذاهب والفضائل: تارة علما وتعليما وإلقاء وتارة محاكاة وتلقينا
بالمباشرة.
إلّا أنّ حصول الملكات عن المباشرة والتّلقين أشدّ استحكاما وأقوى
رسوخا. فعلى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: يشدوا عليهم وفي نسخة أخرى: يستبدوا.
(1/744)
قدر كثرة الشّيوخ يكون حصول الملكات
ورسوخها. والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلّطة على المتعلّم حتّى
لقد يظنّ كثير منهم أنّها جزء من العلم. ولا يدفع عنه ذلك إلّا مباشرته
لاختلاف الطّرق فيها من المعلّمين. فلقاء أهل العلوم وتعدّد المشايخ
يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرّد العلم
عنها ويعلم أنّها أنحاء تعليم وطرق توصل وتنهض قواه إلى الرّسوخ
والاستحكام في المكان [1] وتصحّح معارفه وتميّزها [2] عن سواها مع
تقوية ملكته بالمباشرة والتّلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعدّدهم
وتنوّعهم. وهذا لمن يسّر الله عليه طرق العلم والهداية. فالرّحلة لا
بدّ منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة
الرّجال. وَالله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 2: 213.
الفصل الثاني والأربعون في أن العلماء من
بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها
والسّبب في ذلك أنّهم معتادون النّظر الفكريّ والغوص على المعاني
وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذّهن، أمورا كلّيّة عامّة ليحكم
عليها بأمر العموم لا بخصوص مادّة ولا شخص ولا جيل ولا أمّة ولا صنف من
النّاس. ويطبّقون من بعد ذلك الكلّيّ على الخارجيّات. وأيضا يقيسون
الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهيّ. فلا تزال
أحكامهم وأنظارهم كلها في الذّهن ولا تصير إلى المطابقة إلّا بعد
الفراغ من البحث والنّظر. ولا تصير بالجملة إلى المطابقة وإنّما يتفرّع
ما في الخارج عمّا في الذّهن من ذلك كالأحكام الشّرعيّة فإنّها فروع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: في الملكات.
[2] وفي النسخة الباريسية: وتصحيح معارفها وتمييزها عن سواها.
(1/745)
عمّا في المحفوظ من أدلّة الكتاب والسّنّة
فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار [1] في العلوم العقليّة
الّتي تطلب في صحّتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعوّدون في سائر
أنظارهم الأمور الذّهنيّة والأنظار الفكريّة لا يعرفون سواها.
والسّياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال
ويتبعها فإنّها خفيّة. ولعلّ أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو
مثال وينافي الكلّيّ الّذي يحاول تطبيقه عليها. ولا يقاس شيء من أحوال
العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد فلعلّهما اختلفا في أمور
فتكون العلماء لأجل ما تعوّدوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها
على بعض إذا نظروا في السّياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع
استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا ولا يؤمن عليهم.
ويلحق بهم أهل الذّكاء والكيس من أهل العمران لأنّهم ينزعون بثقوب
أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة
فيقعون في الغلط. والعاميّ السّليم الطّبع المتوسّط الكيس لقصور فكره
عن ذلك وعدم اعتياده إيّاه يقتصر لكلّ مادّة على حكمها وفي كلّ صنف من
الأحوال والأشخاص على ما اختصّ به ولا يعدّي الحكم بقياس ولا تعميم ولا
يفارق في أكثر نظره الموادّ المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه كالسّابح لا
يفارق البرّ عند الموج. قال الشّاعر:
فلا توغلنّ إذا ما سبحت ... فإنّ السّلامة في السّاحل
فيكون مأمونا من النّظر في سياسته مستقيم النّظر في معاملة أبناء جنسه
فيحسن معاشه وتندفع آفاته ومضارّه باستقامة نظره. وفوق كلّ ذي علم
عليم.
ومن هنا يتبيّن [2] أنّ صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها
من الانتزاع وبعدها عن المحسوس فإنّها تنظر في المعقولات الثّواني.
ولعلّ الموادّ فيها
__________
[1] الأصح أن يقول كلمة النظر لأنه لا وجود لكلمة انظار في (لسان
العرب) .
[2] وفي النسخة الباريسية: تعلم.
(1/746)
ما يمانع تلك الأحكام وينافيها عند مراعاة
التّطبيق اليقينيّ. وأمّا النّظر في المعقولات الأول وهي الّتي تجريدها
قريب فليس كذلك لأنّها خياليّة وصور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق
انطباقه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الفصل الثالث والأربعون في أن حملة العلم
في الإسلام أكثرهم العجم
من الغريب الواقع أنّ حملة العلم في الملّة الإسلاميّة أكثرهم العجم لا
من العلوم الشّرعيّة ولا من العلوم العقليّة إلّا في القليل النّادر.
وإن كان منهم العربيّ في نسبته فهو أعجميّ في لغته ومرباه ومشيخته مع
أنّ الملّة عربيّة وصاحب شريعتها عربيّ. والسّبب في ذلك أنّ الملّة في
أوّلها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السّذاجة والبداوة
وإنّما أحكام الشّريعة الّتي هي أوامر الله ونواهيه كان الرّجال
ينقلونها في صدورهم وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسّنّة بما تلقّوه من
صاحب الشّرع وأصحابه. والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التّعليم
والتّأليف والتّدوين ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة. وجرى الأمر
على ذلك زمن الصّحابة والتّابعين وكانوا يسمّون المختصّين بحمل ذلك.
ونقله إلى القرّاء أي الّذين يقرءون الكتاب وليسوا أمّيّين لأنّ
الأمّيّة يومئذ صفة عامّة في الصّحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة
القرآن يومئذ قرّاء إشارة إلى هذا. فهم قرّاء لكتاب الله والسّنّة
المأثورة عن الله لأنّهم لم يعرفوا الأحكام الشّرعيّة إلّا منه ومن
الحديث الّذي هو في غالب موارده تفسير له وشرح. قال صلّى الله عليه
وسلّم: «تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما: كتاب الله وسنّتي»
. فلمّا بعد النّقل من لدن دولة الرّشيد فما بعد احتيج إلى وضع
التّفاسير القرآنيّة وتقييد الحديث مخافة ضياعه ثمّ
(1/747)
احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل النّاقلين
[1] للتّمييز بين الصّحيح من الأسانيد وما دونه ثمّ كثر استخراج أحكام
الواقعات من الكتاب والسّنّة وفسد مع ذلك اللّسان فاحتيج إلى وضع
القوانين النّحويّة وصارت العلوم الشّرعيّة كلّها ملكات في الاستنباطات
والاستخراج والتّنظير والقياس واحتاجت [2] إلى علوم أخرى وهي الوسائل
لها من معرفة قوانين العربيّة وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذّبّ
عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة لكثرة البدع والإلحاد فصارت هذه العلوم
كلّها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التّعليم فاندرجت في جملة الصّنائع.
وقد كنّا قدّمنا أنّ الصّنائع من منتحل الحضر وأنّ العرب أبعد النّاس
عنها فصارت العلوم لذلك حضريّة وبعد عنها العرب وعن سوقها. والحضر لذلك
العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الّذين هم
يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصّنائع والحرف لأنّهم أقوم
على ذلك للحضارة الرّاسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النّحو
سيبويه والفارسيّ من بعده والزّجّاج من بعدهما وكلّهم عجم في أنسابهم.
وإنّما ربّوا في اللّسان العربيّ فاكتسبوه بالمربى ومخالطة العرب
وصيّروه قوانين وفنّا لمن بعدهم. وكذا حملة الحديث الّذين حفظوه عن أهل
الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللّغة والمربى لاتّساع الفنّ
بالعراق. وكان علماء أصول الفقه كلّهم عجما كما يعرف وكذا حملة علم
الكلام وكذا أكثر المفسّرين. ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلّا الأعاجم.
وظهر مصداق قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لو تعلّق العلم بأكناف السّماء
لناله قوم من أهل فارس» . وأمّا العرب الّذين أدركوا هذه الحضارة
وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرّئاسة في الدّولة
العبّاسيّة وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم، والنظر
فيه، فإنّهم كانوا أهل الدّولة وحاميتها وأولي سياستها مع ما يلحقهم من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الرواة.
[2] وفي النسخة الباريسية: واحتيج.
(1/748)
الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من
جملة الصّنائع. والرّؤساء أبدا يستنكفون عن الصّنائع والمهن وما يجرّ
إليها ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولّدين. وما زالوا يرون
لهم حقّ القيام به فإنّه دينهم وعلومهم ولا يحتقرون حملتها كلّ
الاحتقار. حتّى إذا خرج الأمر من العرب جملة وصار للعجم صارت العلوم
الشّرعيّة غريبة النّسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها
وأمتهن حملتها بما يرون أنّهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني ولا يجدي
عنهم [1] في الملك والسّياسة كما ذكرناه في نقل [2] المراتب الدّينيّة.
فهذا الّذي قرّرناه هو السّبب في أنّ حملة الشّريعة أو عامّتهم من
العجم. وأمّا العلوم العقليّة أيضا فلم تظهر في الملّة إلّا بعد أن
تميّز حملة العلم ومؤلّفوه. واستقرّ العلم كلّه صناعة فاختصّت بالعجم
وتركتها العرب وانصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلّا المعرّبون من
العجم شأن الصّنائع كما قلناه أوّلا. فلم يزل ذلك في الأمصار
الإسلاميّة ما دامت الحضارة في العجم وبلادهم من العراق وخراسان وما
وراء النّهر. فلمّا خربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة الّتي هي سرّ
الله في حصول العلم والصّنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من
البداوة واختصّ العلم بالأمصار الموفورة الحضارة. ولا أوفر اليوم في
الحضارة من مصر فهي أمّ العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصّنائع.
وبقي بعض الحضارة في ما وراء النّهر لما هناك من الحضارة بالدّولة
الّتي فيها فلهم بذلك حصّة من العلوم والصّنائع لا تنكر. وقد دلّنا على
ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد وهو سعد
الدّين التّفتازانيّ. وأمّا غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام
ابن الخطيب ونصير الدّين الطّوسيّ كلاما يعوّل على نهايته في الإصابة.
فاعتبر ذلك وتأمّله تر عجبا في أحوال الخليقة. والله يخلق ما يشاء لا
شريك له
__________
[1] وفي نسخة أخرى: عليهم.
[2] وفي نسخة أخرى: فصل.
(1/749)
له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير وحسبنا الله ونعم الوكيل
والحمد للَّه. |