تاريخ ابن خلدون
الغزوات
الأبواء:
ولما كان شهر صفر بعد مقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة خرج في
مائتين من أصحابه يريد قريشا وبني ضمرة، واستعمل على المدينة سعد بن
عبادة، فبلغ ودّان والأبواء ولم يلقهم. واعترضه مخشى بن عمر وسيد بني
ضمرة بن عبد منات بن كنانة وسأله موادعة قومه فعقد له، ورجع إلى
المدينة ولم يلق حربا. وهي أوّل غزاة غزاها بنفسه، ويسمى بالأبواء
وبودّان المكانان اللذان انتهى إليهما، وهما متقاربان بنحو ستة أميال،
وكان صاحب اللواء فيها حمزة بن عبد المطّلب.
بواط:
ثم بلغه أن عير قريش نحو ألفين وخمسمائة فيها أمية بن خلف، ومائة رجل
من قريش ذاهبة إلى مكة، فخرج في ربيع الآخر لاعتراضها واستعمل على
المدينة
__________
[1] في هامش الأصل سقط أبو عمير أهـ قاله نصر.
[2] وفي النسخة الباريسية: زويغة الخثعميّ.
[3] وفي النسخة الباريسية: في صلاة الحضر.
[4] وفي النسخة ثانية: خنيس.
[5] وفي نسخة ثانية: زيد بن اللطيت.
[6] وفي نسخة ثانية: كنانة بن حيورتا.
(2/424)
السائب بن عثمان بن مظعون. وقال الطبري:
سعد بن معاذ فانتهى إلى بواط ولم يلقهم ورجع إلى المدينة.
غزوة العشيرة: ثم خرج في جمادى الأولى غازيا قريشا، واستخلف على
المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد فسلك عن جانب من الطريق إلى أن لقي
الطريق بصخيرات اليمام إلى العشيرة من بطن ينبع، فأقام هنالك بقية
جمادى الأولى وليلة من جمادى الثانية ووداع بني مدلج، ثم رجع إلى
المدينة ولم يلق حربا.
بدر الأولى [1] وأقام بعد العشيرة نحو عشر ليلا ثم أغار كرز بن جابر
الفهريّ على سرح المدينة، فخرج في طلبه حتى بلغ ناحية بدر، وفاته كرز
فرجع الى المدينة.
البعوث:
وفي هذه الغزوات كلها غزا بنفسه وبعث فيما بينها بعوثا نذكرها (فمنها)
: بعث حمزة بعد الأبواء، بعثه في ثلاثين راكبا من المهاجرين إلى سيف
البحر فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن
عمرو الجهنيّ [2] ولم يكن قتال. ومنها بعث عبيدة بن الحرث بن المطلب في
ستين راكبا وثمانين من المهاجرين فبلغ ثنية المرار [3] ولقي بها جمعا
عظيما من قريش كان عليهم عكرمة بن أبي جهل وقيل مكرز بن حفص بن الأحنف
ولم يكن بينهم قتال. وكان مع الكفّار يومئذ من المسلمين المقداد بن
عمرو وعتبة بن غزوان، خرجا مع الكفار ليجد السبيل إلى اللحاق بالنبيّ
صلى الله عليه وسلم فهربا إلى المسلمين وجاءا معهم.
وكان بعث حمزة وعبيدة متقاربين، واختلف أيهما كان قبل إلا أنهما أوّل
راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الطبريّ إنّ بعث حمزة
كان قبل ودّان في شوال لسبعة أشهر من الهجرة. ومنها بعث سعد [4] بن أبي
وقّاص في ثمانية رهط من المهاجرين يطلب كرز بن جابر حين أغار على سرح
المدينة فبلغ المرار ورجع.
ومنها بعث عبد الله بن جحش إثر مرجعه من بدر الأولى في شهر رجب بعثه
بثمانية من المهاجرين وهم أبو حذيفة بن عتبة وعكاشة بن محصن بن أسد بن
خزيمة وعتبة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: العشيرة بدر الأولى.
[2] وفي نسخة ثانية: عدي بن صجر الجهنيّ.
[3] وفي النسخة الباريسية: ثنية المرة.
[4] وفي النسخة الباريسية: سعيد.
(2/425)
بن غزوان بن مازن بن منصور وسعد بن أبي
وقاص وعامر بن ربيعة العنزي حليف بني عدي وواقد بن عبد الله بن زيد
مناة بن تميم وخالد بن البكير بن سعد بن ليث وسهيل بن بيضا [1] بن فهر
بن مالك، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ولا يكره
أحدا من أصحابه، فلما قرأ الكتاب بعد يومين وجد فيه أن تمضي حتى تنزل
نخلة بين مكّة والطائف وترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم، فأخبر
أصحابه وقال: حتى ننزل النخلة بين مكة والطائف ومن أحب الشهادة فلينهض
ولا أستكره أحدا. فمضوا كلهم وضل لسعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان في
بعض الطريق بعير لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه ونفر الباقون إلى
نخلة، فمرّت بهم عير لقريش تحمل تجارة فيها عمرو بن الحضرميّ وعثمان بن
عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل والحكم بن كيسان مولاهم وذلك آخر يوم
من رجب، فتشاور المسلمون وتحرج بعضهم الشهر الحرام ثم اتفقوا واغتنموا
الفرصة فيهم، فرمى واقد بن عبد الله [2] عمرو بن الحضرميّ فقتله وأسروا
عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وأفلت نوفل، وقدموا بالعير
والأسيرين وقد أخرجوا الخمس فعزلوه. فأنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم
فعلهم ذلك في الشهر الحرام، فسقط في أيديهم ثم أنزل الله تعالى
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ 2: 217» الآية
إلى قوله «حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا 2:
217» .
فسرّى عنهم وقبض النبيّ صلى الله عليه وسلم الخمس وقسم الغنيمة وقبل
الفداء في الأسيرين، وأسلم الحكم بن كيسان منهما، ورجع سعد وعتبة
سالمين إلى المدينة.
وهذه أوّل غنيمة غنمت في الإسلام وأوّل غنيمة خمست في الإسلام وقتل
عمرو بن الحضرميّ هو الّذي هيج [3] وقعة بدر الثانية.
صرف القبلة: ثم صرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة على رأس سبعة عشر
شهرا من مقدمه المدينة، خطب بذلك على المنبر وسمعه بعض الأنصار فقام
فصلّى ركعتين إلى الكعبة، قاله ابن حزم. وقيل على رأس ثمانية عشر شهرا،
وقيل ستة عشر، ولم يقل غير ذلك.
غزوة بدر الثانية:
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إلى رمضان من السنة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بن مضاض.
[2] وفي النسخة الباريسية: عبد الله بن واقد.
[3] وفي نسخة ثانية: هاج.
(2/426)
الثانية، ثم بلغه أنّ عيرا لقريش فيها
أموال عظيمة مقبلة من الشام إلى مكّة معها ثلاثون أو أربعون رجلا من
قريش عميدهم أبو سفيان ومعه عمرو بن العاصي ومخرمة بن نوفل، فندب عليه
السلام المسلمين إلى هذه العير وأمر من كان ظهره حاضرا بالخروج، ولم
يحتفل في الحشد لأنه لم يظن قتالا، واتصل خروجه بأبي سفيان، فاستأجر
ضمضم بن عمرو الغفاريّ وبعثه إلى أهل مكة يستنفرهم لعيرهم فنفروا
وأرعبوا إلّا يسيرا منهم أبو لهب. وخرج صلى الله عليه وسلم لثمان خلون
من رمضان واستخلف على الصلاة عمرو بن أمّ مكتوم وردّ أبا لبابة من
الروحاء واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى إلى مصعب بن عمير، ودفع
إلى عليّ راية، وإلى رجل من الأنصار أخرى يقال كانتا سوداوين. وكان مع
أصحابه صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعون بعيرا يعتقبونها فقط. وجعل على
الساقة قيس بن أبي صعصعة من بني النجّار، وراية الأنصار يومئذ مع سعد
بن معاذ فسلكوا نقب المدينة إلى ذي الحليفة ثم انتهوا إلى صخيرات يمام
[1] ثم إلي بئر الروحاء، ثم رجعوا ذات اليمين عن الطريق إلى الصفراء.
وبعث عليه السلام قبلها بسبس بن عمرو الجهنيّ حليف بني ساعدة وعديّ بن
أبي الزغباء [2] الجهنيّ حليف بني النجّار إلى بدر يتجسّسون أخبار أبي
سفيان وغيره. ثم تنكّب عن الصفراء يمينا وخرج على وادي دقران، فبلغه
خروج قريش ونفيرهم، فاستشار أصحابه، فتكلّم المهاجرون وأحسنوا، وهو
يريد ما يقوله الأنصار وفهموا ذلك. فتكلّم سعد بن معاذ وكان فيما قال:
«لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك فسر بنا يا رسول الله على بركة
الله» فسرّ بذلك، وقال: «سيروا وأبشروا فإنّ الله قد وعدني إحدى
الطائفتين» . ثم ارتحلوا من دقران إلى قريب من بدر وبعث عليّا والزبير
وسعدا في نفر يلتمسون الخبر فأصابوا غلامين لقريش، فأتوا بهما وهو عليه
السلام قائم يصليّ، وقالوا:
نحن سقاة قريش فكذّبوهما كراهية في الخبر ورجاء أن يكونا من العير
للغنيمة وقلّة المؤنة، فجعلوا يضربونهما فيقولان نحن من العير. فسلّم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكر عليهم، وقال للغلامين: أخبر اني
أين قريش. فأخبراه أنّهم وراء الكثيب [3]
__________
[1] وفي نسخة اخرى: تمام.
[2] وفي النسخة الباريسية: الدغماء.
[3] الكثيف: التل من الرمل وفي النسخة الباريسية الكثيف وهو الصفيح من
الحديد (قاموس) .
(2/427)
وأنّهم ينحرون يوما عشرا من الإبل ويوما
تسعا. فقال عليه السلام: القوم بين التسعمائة والألف. وقد كان بسبس
وعديّ الجهنيّان مضيا يتجسّسان ولا خبر حتى نزلا وأناخا قرب الماء
واستقيا في شنّ لهما ومجدي بن عمرو بن جهينة بقربهما، فسمع عديّ جارية
من جواري الحي تقول لصاحبتها العير تأتي غدا أو بعد غد وأعمل لهم
وأقضيك الّذي لك وجاءت إلى مجدي بن عمرو فصدقها، فرجع بسبب وعديّ
بالخبر. وجاء أبو سفيان بعدهما يتجسّس الخبر فقال لمجدي هل أحسست أحدا
فقال راكبين أناخا يميلان لهذا التل فاستقيا الماء، ونهضا فأتى أبو
سفيان مناخهما وفتت من أبعار رواحلهما، فقال هذه والله علائف يثرب فرجع
سريعا وقد حذر وتنكب بالعير إلى طريق الساحل فنجا وأوصى إلى قريش بأنّا
قد نجونا بالعير فارجعوا. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر
ونقيم به ثلاثا وتهابنا العرب أبدا، ورجع الأخنس بن شريق بجميع بني
زهرة وكان حليفهم ومطاعا فيهم، وقال: إنّما خرجتم تمنعون أموالكم وقد
نجت فارجعوا. وكان بنو عديّ لم ينفروا مع القوم، فلم يشهد بدرا من قريش
عدويّ ولا زهريّ.
وسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا إلى ماء بدر وثبطهم عنه مطر
نزل وبله مما يليهم وأصاب مما يلي المسلمين دهس [1] الوادي، وأعانهم
على السير، فنزل عليه السلام على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة،
فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح: «آللَّه أنزلك بهذا
المنزل فلا نتحوّل عنه أم قصدت الحرب والمكيدة؟ فقال عليه السلام: لا
بل هو الرأي والحرب. فقال يا رسول الله ليس هذا بمنزل، وإنّما نأتي
أدنى ماء من القوم فنزله ونبني عليه حوضا فنملؤه ونغوّر القلب كلها
فنكون قد منعناهم الماء. فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم
بنوا له عريشا يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتيه [2] من
ربه النصر، ومشى يريهم مصارع القوم واحدا واحدا، ولما نزل قريش مما
يليهم بعثوا عمير بن وهب الجمحيّ يحزر [3] له أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فيهم فارسان الزبير
والمقداد، فحزرهم وانصرف وخبّرهم الخبر، ورام حكيم بن حزام
__________
[1] الدهس: المكان السهل ليس برمل ولا تراب (قاموس) .
[2] وفي النسخة الباريسية: يكون فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
واثقا من ربه النصر.
[3] وفي نسخة اخرى: يحذر.
(2/428)
وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش ولا يكون
الحرب، فأبى أبو جهل وساعده المشركون، وتواقفت الفئتان.
وعدّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف بيده ورجع إلى العريش ومعه
أبو بكر وحده، وطفق يدعو ويلح وأبو بكر يقاوله ويقول في دعائه اللَّهمّ
أن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض اللَّهمّ أنجز لي ما وعدتني،
وسعد بن معاذ وقوم معه من الأنصار على باب العريش يحمونه وأخفق [1]
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انتبه فقال أبشر يا أبا بكر فقد أتى
نصر الله. ثم خرج يحرّض الناس، ورمى في وجوه القوم بحفنة من حصى وهو
يقول: شاهت الوجوه. ثم تزاحفوا فخرج عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد
يطلبون البراز فخرج إليهم عبيدة بن الحرث وحمزة بن عبد المطّلب وعلي بن
أبي طالب فقتل حمزة وعلي شيبة والوليد وضرب عتبة عبيدة فقطع رجله فمات
وجاء حمزة وعليّ إلى عتبة فقتلاه. وقد كان برز إليهم عوف ومعوذ ابنا
عفراء وعبد الله بن رواحة من الأنصار فأبوا إلّا قومهم، وجال القوم
جولة فهزم المشركون وقتل منهم يومئذ سبعون رجلا فمن مشاهيرهم: عتبة
وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وحنظلة بن أبي سفيان بن حرب وابنا
سعيد بن العاص عبيدة والعاص، والحرث بن عامر بن نوفل وابن عمه طعيمة بن
عديّ وزمعة بن الأسود وابنه الحرث وأخوه عقيل بن الأسود وابن عمه أبو
البختري بن هشام ونوفل بن خويلد بن أسد وأبو جهل بن هشام، اشترك فيه
معاذ ومعوذ ابنا عفراء ووجده عبد الله بن مسعود وبه رمق فحزّ رأسه،
وأخوه العاص بن هشام وابن عمهما مسعود بن أمية وأبو قيس بن الوليد بن
المغيرة وابن عمه أبو قيس بن الفاكه، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، والعاصي
بن منبه وأميه بن خلف وابنه عليّ وعمير بن عثمان عمّ طلحة.
وأسر العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث بن عبد
المطلب والسائب بن عبد يزيد من بني المطلب وعمرو بن أبي سفيان بن حرب
وأبو العاص بن الربيع وخالد بن أسيد بن أبي العيص وعديّ بن الخيار من
بني نوفل وعثمان بن عبد شمس ابن عمّ عتبة بن غزوان وأبو عزيز أخو مصعب
بن عمير وخالد بن هشام ابن المغيرة وابن عمه رفاعة [2] بن أبي رفاعة
وأمية بن أبي حذيفة بن المغيرة والوليد
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وطفق.
[2] وفي النسخة الباريسية: وابن عمه حمير.
(2/429)
بن الوليد أخو خالد وعبد الله وعمرو ابنا
أبيّ بن خلف وسهيل بن عمرو في آخرين مذكورين في كتب السير.
واستشهد من المسلمين، من المهاجرين: عبيدة بن الحارث بن المطلب وعمير
بن أبي وقاص وذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي حليف بني زهرة
وصفوان بن بيضاء من بني الحرث بن فهر ومهجع مولى عمر بن الخطّاب رضي
الله عنه أصابه سهم فقتله، وعاقل بن البكير الليثي حليف بني عديّ من
الأنصار. ثم من الأوس:
سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد المنذر. ومن الخزرج: يزيد بن الحارث [1] بن
الخزرج وعمير بن الحمام من بني سلمة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحض على الجهاد ويرغب في الجنة وفي يده تمرات يأكلهن فقال: بخ بخ أما
بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم رمى بهنّ وقاتل حتى قتل، ورافع
بن المعلّى من بني حبيب بن عبد حارثة وحارثة بن سراقة من بني النجّار
وعوف ومعوذ ابنا عفراء.
ثم انجلت الحرب وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى المشركين
فسحبوا إلى القليب وطم عليهم التراب، وجعل على النفل [2] عبد الله بن
كعب بن عمرو بن مبدول بن عمر بن غنم بن مازن بن النجّار، ثم انصرف إلى
المدينة فلما نزل الصفراء قسم الغنائم كما أمر الله، وضرب عنق النضر بن
الحرث بن كلدة من بني عبد الدار، ثم نزل عرق الظبية فضرب عنق عقبة بن
أبي معيط بن أبي عمرو بن أميّة وكان في الأسارى ومرّ إلى المدينة
فدخلها لثمان بقين من رمضان.
غزوة الكدر:
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه إلى المدينة اجتماع غطفان
فخرج يريد بني سليم بعد سبع ليال من منصرفه، واستخلف على المدينة سبّاع
بن عرفطة الغفاريّ أو ابن أمّ مكتوم، فبلغ ماء يقال له الكدر وأقام
عليه ثلاثة أيام ثم انصرف ولم يلق حربا، وقيل إنه أصاب من نعمهم ورجع
بالغنيمة، وإنه بعث غالب بن عبد الله الليثي في سرية فنالوا منهم
وانصرفوا بالغنيمة. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحجة،
وفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أسارى بدر.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: يزيد من الحرث من بني الحرث بن الخزرج.
[2] وفي النسخة الباريسية: البقل.
(2/430)
غزوة السويق:
ثم إنّ أبا سفيان لما انصرف من بدر نذر أن يغزو المدينة فخرج في مائتي
راكب حتى أتى بني النضير ليلا، فتوارى عنه جيّ بن أخطب ولقيه سلام بن
مشكم وقراه [1] وأعلمه بخبر الناس، ثم رجع ومرّ بأطراف المدينة فحرق
نخلا وقتل رجلين في حرث لهما، فنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم
والمسلمون، واستعمل على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وبلغ الكدر
[2] وفاته أبو سفيان والمشركون وقد طرحوا السويق من أزوادهم ليتخففوا،
فأخذها المسلمون فسميت لذلك غزوة السويق.
وكانت في ذي الحجة بعد بدر بشهرين.
ذي أمرّ:
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر المحرم غازيا غطفان
واستعمل على المدينة عثمان بن عفان فأقام بنجد صفر وانصرف ولم يلق
حربا.
نجران:
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر ربيع الأوّل يريد قريشا
واستخلف ابن أمّ مكتوم فبلغ نجران معدنا في الحجاز ولم يلق حربا. وأقام
هنالك إلى جمادى الثانية من السنة الثالثة وانصرف إلى المدينة.
قتل كعب بن الأشرف:
وكان كعب بن الأشرف رجلا من طيِّئ وأمّه من يهود بني النضير، ولما أصيب
أصحاب بدر، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعبد الله
بن رواحة مبشرين إلى المدينة، جعل يقول: ويلكم أحق هذا؟
وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، وإن كان محمد أصاب هؤلاء فبطن الأرض
خير من ظهرها. ثم قدم مكّة ونزل على المطّلب بن أبي وداعة السهمي،
وعنده عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية، فجعل يحرّض على رسول الله
صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار ويبكي على أصحاب القليب، ثم رجع إلى
المدينة فشبب بعاتكة ثم شبب بنساء المسلمين. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم ومن يقتل كعب بن الأشرف، فانتدب لذلك محمد بن مسلمة وملكان
بن سلامة بن وقش وهو أبو نائلة من بني عبد الأشهل أخو كعب من الرضاعة
وعبّاد بن بشر بن وقش والحرث بن بشر بن معاذ وأبو عبس بن جبر من بني
حارثة، وتقدّم إليه ملكان بن سلامة وأظهر له انحرافا عن النبيّ صلى
الله عليه وسلم عن إذن منه، وشكا إليه ضيق الحال ورام أن يبيعه وأصحابه
طعاما ويرهنون سلاحهم. فأجاب إلى ذلك ورجع إلى أصحابه،
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: سلام بن مسلم ونهاه.
[2] وفي النسخة ثانية: الكرز.
(2/431)
فخرجوا وشيعهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى بقيع الغرقد [1] في ليلة قمراء، وأتوا كعبا فخرج إليهم من
حصنه ومشوا غير بعيد ثم وضعوا عليه سيوفهم، ووضع محمد بن مسلمة معولا
كان معه في ثنته [2] فقتله. وصاح عدوّ الله صيحة شديدة انذعر لها أهل
الحصون التي حواليه، وأوقدوا النيران، ونجا القوم وقد جرح منهم الحرث
بن أوس ببعض سيوفهم فنزفه الدم وتأخر، ثم وافاهم بجرّة العريض آخر
الليل، وأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وأخبروه وتفل على
جرح الحرث فبرأ. وأذن للمسلمين في قتل اليهود لما بلغه أنهم خافوا من
هذه الفعلة، وأسلم حينئذ حويصة بن مسعود، وقد كان أسلم قبله أخوه محيصة
بسبب قتل بعضهم.
غزوة بني قينقاع:
وكان بنو قينقاع لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر وقف
بسوق بني قينقاع في بعض الأيام فوعظهم وذكرهم ما يعرفون من أمره في
كتابهم، وحذّرهم ما أصاب قريشا من البطشة، فأساءوا الردّ وقالوا: لا
يغرنك انك لقيت قوما لا يعرفون الحرب فأصبت منهم والله لئن جرّبتنا
لتعلمنّ أنّا نحن الناس.
فأنزل الله تعالى: «وَإِمَّا تَخافَنَّ من قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ
إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ 8: 58» . وقيل بل قتل مسلم يهوديا بسوقهم في
حق، فثاروا على المسلمين ونقضوا العهد ونزلت الآية. فسار إليهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم، واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر،
وقيل أبا لبابة، وكانوا في طرف المدينة في سبعمائة مقاتل منهم ثلاثمائة
دارع، ولم يكن لهم زرع ولا نخل إنما كانوا تجار أو صاغة يعملون
بأموالهم، وهم قوم عبد الله بن سلام فحصرهم عليه السلام خمس عشرة ليلة
لا يكلم أحدا منهم حتى نزلوا على حكمه فكتفهم ليقتلوا، فشفع فيهم عبد
الله بن أبي بن سلول وألح في الرغبة [3] حتى حقن له رسول الله صلى الله
عليه وسلم دماءهم، ثم أمر بإجلائهم وأخذ ما كان لهم من سلاح وضياع [4]
، وأمر عبادة بن الصامت فمضى بهم إلى ظاهر ديارهم ولحقوا بخيبر، وأخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس من الغنائم وهو أول خمس
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الفرقد وفي النسخة الباريسية: العرقد.
[2] الثنّة: شعرات مؤخر رجل الفرس (قاموس) والأصح ان يقول ثنيته: اي
اسنان مقدّم الفم. وفي النسخة الباريسية: في قبته.
[3] وفي نسخة اخرى: الرغنة: اي الطمع.
[4] وفي النسخة الباريسية: صياغة.
(2/432)
أخذه، ثم انصرف إلى المدينة وحضر الأضحى
فصلى بالناس في الصحراء وذبح بيده شاتين ويقال أنّهما أوّل أضحيته صلى
الله عليه وسلم.
سرية زيد بن حارثة إلى قردة:
وكانت قريش من بعد بدر قد تخوّفوا من اعتراض المسلمين عيرهم في طريق
الشام وصاروا يسلكون طريق العراق، وخرج منهم تجّار فيهم أبو سفيان بن
حرب وصفوان بن أمية واستجاروا بفرات بن حيان من بكر بن وائل فخرج بهم
في الشتاء وسلك بهم على طريق العراق، وانتهى خبر العير إلى النبيّ صلى
الله عليه وسلم وما فيها من المال وآنية الفضة، فبعث زيد بن حارثة في
سريّة فاعترضهم وظفر بالعير وأتى بفرات بن حيّان العجليّ أسيرا فتعوذ
بالإسلام وأسلم.
وكان خمس هذه الغنيمة عشرين ألفا.
قتل ابن أبي الحقيق:
كان سلام بن أبي الحقيق هذا من يهود خيبر وكنيته أبو رافع، وكان يؤذي
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويحزب عليهم الأحزاب، مثلا أو
قريبا من كعب بن الأشرف، وكان الأوس والخزرج يتصاولان تصاول الفحلين في
طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذبّ عنه والنيل من أعدائه، لا
يفعل أحد القبيلتين شيئا من ذلك إلّا فعل الآخرون مثله. وكان الأوس قد
قتلوا كعب بن الأشرف كما ذكرناه، فاستأذن الخزرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم في قتل ابن أبي الحقيق نظير ابن الأشرف في الكفر والعداوة،
فأذن لهم.
فخرج إليهم من الخزج ثم من بني سلمة [1] ثمانية نفر منهم: عبد الله بن
عقيل ومسعر بن سنان وأبو قتادة والحرث بن ربعي الخزاعي من حلفائهم في
آخرين، وأمر عليهم عبد الله بن عقيل ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة،
وخرجوا في منتصف جمادى الآخرة من سنة ثلاث، فقدموا خيبر، وأتوا دار ابن
أبي الحقيق في علية له بعد أن انصرف عنه سمره ونام، وقد أغلقوا الأبواب
من حيث أفضوا كلها عليهم، ونادوه ليعرفوا مكانه بصوته، ثم تعاوروه
بسيوفهم حتى قتلوه، وخرجوا من القصر وأقاموا ظاهره حتى قام الناعي على
سور القصر فاستيقنوا موته، وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالخبر. وكان أحدهم قد سقط من درج العلية فأصابه كسر في ساقه فمسح عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرأ
[2] .
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: من بني ساعدة سلمة.
[2] وفي نسخة ثانية: فبرئت.
(2/433)
غزوة أحد
وكانت قريش بعد واقعة بدر قد توامروا [1] وطلبوا من أصحاب العير أن
يعينوهم بالمال ليتجهزوا به لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأعانوهم، وخرجت قريش بأحابيشها وحلفائها وذلك في شوّال من سنة ثلاث،
واحتملوا الظعن التماسا للحفيظة وأن لا يفرّوا، وأقبلوا حتى نزلوا ذا
الحليفة قرب أحد ببطن السبخة مقابل المدينة على شفير واد هنالك، وذلك
في رابع شوّال. وكانوا في ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ومائتا فرس
وقائدهم أبو سفيان ومعهم خمس عشرة امرأة بالدفوف يبكين قتلى بدر.
وأشار صلى الله عليه وسلم على أصحابه بأن يتحصنوا بالمدينة ولا يخرجوا
وإن جاءوا قاتلوهم على أفواه الأزقة، وأقر [2] ذلك على رأي عبد الله بن
أبي بن سلول، وألحّ قوم من فضلاء المسلمين ممن أكرمه الله بالشهادة
فلبس لامته وخرج، وقدم أولئك الذين ألحّوا عليه وقالوا: يا رسول الله
إن شئت فاقعد. فقال: ما ينبغي لبني إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل.
وخرج في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بقية المسلمين
بالمدينة. فلما سار بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي في ثلث
الناس مغاضبا لمخالفة رأيه في المقام، وسلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم حرّة بني حارثة ومرّ بين الحوائط وأبو خيثمة من بني حارثة يدل به
حتى نزل الشعب من أحد مستندا إلى الجبل، وقد سرحت قريش الظهر والكراع
في زروع المسلمين وتهيأ للقتال في سبعمائة فيهم خمسون فارسا وخمسون
راميا، وأمّر على الرماة عبد الله بن جبير من بني عمرو بن عوف والأوس
أخو خوّات، ورتبهم خلف الجيش ينضحون بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من
خلفهم، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير من بني عبد الدار، وأجاز يومئذ
سمرة بن جندب الفزاري ورافع بن خديج من بني حارثة في الرماة وسنهما
خمسة عشر عاما، وردّ أسامة بن زيد وعبد الله بن عمر بن الخطّاب ومن بني
مالك بن النجار زيد بن ثابت وعمرو بن حرام ومن بني حارثة البراء بن
عازب وأسيد بن ظهير، ورد عرابة بن أوس وزيد بن أرقم وأبا سعيد الخدريّ
سن جميعهم يومئذ أربعة عشر عاما. وجعلت قريش على ميمنة الخيل خالد بن
الوليد،
__________
[1] ربما قصد المؤرخ تآمروا.
[2] وفي نسخة اخرى: وافقا.
(2/434)
وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل. وأعطى عليه
السلام سيفه بحقه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة من بني ساعدة وكان شجاعا
بطلا يختال عند الحرب. وكان مع قريش ذلك اليوم والد حنظلة غسيل
الملائكة أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن مالك ابن النعمان في طليعة [1]
وكان في الجاهلية قد ترهّب وتنسّك، فلما جاء الإسلام غلب عليه الشقاء
وفرّ إلى مكة في رجال من الأوس وشهد أحد مع الكفّار، وكان يعد قريش في
انحراف الأوس إليه لما أنه سيدهم، فلم يصدق ظنه، ولما ناداهم وعرفوه،
قالوا: لا أنعم الله لك علينا يا فاسق. فقاتل المسلمين قتالا شديدا.
وأبلى يومئذ حمزة وطلحة وشيبة وأبو دجانة والنضر بن أنس [2] بلاء
شديدا، وأصيب جماعة من الأنصار مقبلين غير مدبرين واشتدّ القتال وانهزم
قريش أوّلا، فخلت الرماة عن مراكزهم، وكرّ المشركون كرّة وقد فقدوا
متابعة الرماة فانكشف المسلمون واستشهد منهم من أكرمه الله، ووصل
العدوّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتل مصعب بن عمير صاحب
اللواء دونه حتى قتل، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت
رباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهشمت البيضة في رأسه، يقال إن الّذي تولى
ذلك عتبة بن أبي وقاص وعمرو بن قميئة الليثي. وشدّ حنظلة الغسيل على
أبي سفيان ليقتله فاعترضه شدّاد بن الأسود الليثي من شعوب فقتله وكان
جنبا، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة غسلته.
وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط من بعض حفر
هناك، فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة حتى قام، ومصّ الدم من جرحه مالك بن
سنان الخدريّ والد أبي سعيد، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه صلى
الله عليه وسلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح فندرت ثنيتاه فصار اهتم
[3] . ولحق المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرّ دونه نفر من
المسلمين فقتلوا كلهم، وكان آخرهم عمّار بن يزيد بن السكن. ثم قاتل
طلحة حتى أجهض [4] المشركون وأبو دجانة يلي النبيّ صلى الله عليه وسلم
بظهره وتقع فيه النبل فلا يتحرك [5] ، وأصيبت عين قتادة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: من ضبيعة.
[2] وفي النسخة الباريسية: النضر بن شميل.
[3] ويقال: اثرم بدل اهتم أهـ.
[4] اجهض: بمعنى أبعد المشركين.
[5] وفي نسخة ثانية: فلا يترك.
(2/435)
ابن النعمان من بني ظفر فرجع وهي على
وجنته، فردها عليه السلام بيده فصحت وكانت أحسن عينيه.
وانتهى النضر بن أنس إلى جماعة من الصحابة وقد دهشوا وقالوا: قتل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال فما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا
على ما مات عليه. ثم استقبل الناس وقاتل حتى قتل ووجد به سبعون ضربة.
وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج منها.
وقتل حمزة عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قتله وحشي مولى جبير بن مطعم
بن عديّ، وكان قد جاعله على ذلك بعتقه فرآه يبارز سبّاع بن عبد العزى
فرماه بحربته من حيث لا يشعر فقتله.
ونادي الشيطان ألا أنّ محمدا قد قتل، لأنّ عمرو بن قميئة كان قد قتل
مصعب بن عمير يظن أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وضربته أم عمّارة
نسيبة بنت كعب بن أبي [1] مازن ضربات فتوفي [2] منها بدرعيه وخشي
المسلمون لما أصابه ووهنوز لصريخ الشيطان. ثم إنّ كعب بن مالك الشاعر
من بنى سلمة عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى بأعلى صوته يبشّر
الناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له:
أنصت، فاجتمع عليه المسلمون ونهضوا معه نحو الشعب، فيهم أبو بكر وعمر
وعليّ والزبير والحرث بن الصمة [3] الأنصاري وغيرهم، وأدركه أبي بن خلف
في الشعب، فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحرث بن الصمة وطعنه
بها في عنقه فكرّ أبي منهزما، وقال له المشركون ما بك من بأس، فقال:
والله لو بصق عليّ لقتلني وكان صلى الله عليه وسلم قد توعّده بالقتل
فمات عدوّ الله بسرف [4] مرجعهم الى مكة. ثم جاء عليّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالماء فغسل وجه ونهض فاستوى على صخرة من الجبل وحانت
الصلاة فصلى بهم قعودا. وغفر الله للمنهزمين من المسلمين ونزل:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ 3:
155 (الآية) وكان منهم عثمان بن عفان وعثمان بن أبي عقبة الأنصاري.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: من بني مازن.
[2] وفي نسخة ثانية: توفي.
[3] وفي النسخة الثانية: الصامت.
[4] سرف القوم جاوزهم (القاموس) وسرف مكان بين مكة والمدينة. والمرجّح
انه سقطت كلمة أثناء في الجملة.
(2/436)
واستشهد في ذلك اليوم حمزة كما ذكرناه وعبد
الله بن جحش ومصعب بن عمير في خمسة وستين معظمهم من الأنصار، وأمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا بدمائهم وثيابهم في مضاجعهم ولم
يغسلوا ولم يصل عليهم. وقتل من المشركين اثنان وعشرون منهم الوليد بن
العاص بن هشام وأبو أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة وهشام بن أبي حذيفة
بن المغيرة وأبو عزّة عمرو بن عبد الله بن جمح، وكان أسر يوم بدر فمنّ
عليه وأطلقه بلا فداء على أن لا يعين عليه فنقض العهد وأسر يوم أحد
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه صبرا، وأبي بن خلف قتله
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وصعد أبو سفيان الجبل حتى أطلّ على
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونادى بأعلى صوته: الحرب: سجال
يوم أحد بيوم بدر، أعل هبل.
وانصرف وهو يقول موعدكم العام القابل. فقال عليه السلام قولوا له هو
بيننا وبينكم. ثم سار المشركون إلى مكة ووقف رسول الله صلى الله عليه
وسلم على حمزة، وكانت هند وصواحبها قد جدّ عنه وبقرن عن كبده فلاكتها
ولم تسغها، ويقال إنه لما رأى ذلك في حمزة قال لئن أظفرني الله بقريش
لأمثلنّ بثلاثين منهم. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى
المدينة. ويقال إنه قال لعليّ لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح
الله علينا.
غزوة حمراء الأسد:
ولما كان يوم أحد سادس عشر شوّال، وهو صبيحة يوم أحد، أذن مؤذن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالخروج لطلب العدوّ وأن لا يخرج إلّا من حضر
معه بالأمس، وفسح لجابر بن عبد الله ممن سواهم، فخرج وخرجوا على ما بهم
من الجهد والجراح وصار عليه السلام متجلدا مرهبا للعدوّ، وانتهى إلى
حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة وأقام بها ثلاثا، ومرّ به
هناك معبد بن أبي معبد الخزاعي سائرا الى مكة، ولقي [1] أبا سفيان
وكفّار قريش بالروحاء فأخبرهم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في
طلبهم وكانوا يرومون الرجوع إلى المدينة ففتّ ذلك في أعضادهم وعادوا
إلى مكة.
بعث الرجيع:
ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفر متمّ الثلاثة من
الهجرة نفر من عضل والقارة بني الهون من خزيمة إخوة بني أسد، فذكروا
أنّ فيهم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ولحق.
(2/437)
إسلاما ورغبوا أن يبعث فيهم من يفقههم في
الدين، فبعث معهم ستة رجال من أصحابه: مرثد بن أبي مرثد الغنوي [1] ،
وخالد بن البكير الليثي، وعاصم بن ثابت بن أبي الأفلح من بني عمرو بن
عوف، وخبيب بن عدي من بني جحجبا بن كلفة، وزيد بن الدّثنّة، بن بياضة
بن عامر، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر، وأمر عليهم مرثدا منهم.
ونهضوا مع القوم حتى إذا كانوا بالرجيع وهو ماء لهذيل قريبا من عسفان
غدروا بهم، واستصرخوا هذيلا عليهم فغشوهم في رحالهم ففزعوا إلى القتال
فأمّنوهم وقالوا: إنا نريد نصيب بكم فداء من أهل مكة، فامتنع مرثد
وخالد وعاصم من أمنهم وقاتلوا حتى قتلوا، ورموا رأس عاصم ليبيعوه من
سلافة بنت سعد ابن شهيد وكانت نذرت أن تشرب فيه الخمر لما قتل ابنيها
من بني عبد الدار يوم أحد، فأرسل الله الدبر [2] فحمت عاصما منهم
فتركوه إلى الليل فجاء السيل فاحتمله. وأمّا الآخرون فأسروهم وخرجوا
بهم إلى مكة ولما كانوا بمرّ الظهران انتزع ابن طارق يده من القران
وأخذ سيفه فرموه بالحجارة فمات، وجاءوا بخبيب وزيد إلى مكة فباعوهما
إلى قريش فقتلوهما صبرا.
غزوة بئر معونة:
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفر هذا ملاعب الأسنة أبو
براء عمر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فدعاه إلى
الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى
أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال إنّي أخاف [3]
عليهم. فقال أبو براء أنا لهم جار. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
المنذر بن عمرو بن بني ساعدة في أربعين من المسلمين، وقيل في سبعين،
منهم الحرث بن الصمّة، وحرام بن ملحان خال أنس، وعامر [4] بن فهيرة،
ونافع بن بديل بن ورقاء. فنزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر وحرّة بني
سليم، وبعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عامر
بن الطفيل فقتله، ولم ينظر في كتابه، واستعدى عليهم بني عامر فأبوا
لجوار أبي براء إياهم، فاستعدى بني سليم فنهضت منهم عصية ورعل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الغنمي.
[2] الدبر بفتح الدال وسكون الموحدة: الزنابير أهـ.
[3] وفي النسخة الباريسية: أخشى.
[4] وفي النسخة الباريسية: عمرو.
(2/438)
وذكوان وقتلوهم عن آخرهم، وكان سرحهم إلى
جانب منهم ومعهم المنذر بن أحيحة [1] من بني الجلّاح وعمرو بن أمية
الضمريّ فنظرا إلى الطير تحوم على العسكر، فأسرعا إلى أصحابهما فوجداهم
في مضاجعهم، فأمّا المنذر بن أحيحة فقاتل حتى قتل، وأما عمرو بن أمية
فجز عامر بن الطفيل ناصيته حين علم أنه من مضر لرقبة كانت عن أمه، وذلك
لعشر بقين من صفر وكانت مع الرجيع في شهر واحد. ولما رجع عمرو بن أمية
لقي في طريقه رجلين من بني كلاب أو بني سليم فنزلا معه في ظل كان فيه
معهما عهد من النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلم به عمرو فانتسبا له في
بني عامر أو سليم فعدا عليهما لما ناما وقتلهما، وقدم على النبيّ صلى
الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال لقد قتلت قتيلين لأدينهما.
غزوة بني النضير:
ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير مستعينا بهم في دية
هذين القتيلين فأجابوا، وقعد عليه السلام مع أبي بكر وعمر وعليّ ونفر
من أصحابه إلى جدار من جدرانهم، وأراد بنو النضير رجلا منهم على الصعود
إلى ظهر البيت ليلقي على النبيّ صلى الله عليه وسلم صخرة، فانتدب لذلك
عمرو بن جحاش بن كعب منهم. وأوحى الله بذلك إلى نبيّه فقام، ولم يشعر
أحدا ممن معه واستبطئوه، واتبعوه إلى المدينة. فأخبرهم عن وحي الله بما
أراد به يهود وأمر من أصحابه بالتهيؤ لحربهم. واستعمل على المدينة ابن
أمّ مكتوم، ونهض في شهر ربيع الأوّل أوّل السنة الرابعة من الهجرة،
فتحصنوا منه بالحصون فحاصرهم ست ليال وأمر بقطع النخل وإحراقها، ودس
إليهم عبد الله بن أبي والمنافقون إنا معكم قتلتم أو أخرجتم، فغرّوهم
[2] بذلك ثم خذلوهم كرها وأسلموهم. وسأل عبد الله من النبيّ صلى الله
عليه وسلم أن يكف عن دمائهم ويجليهم بما حملت الإبل من أموالهم إلّا
السلاح، واحتمل إلى خيبر من أكابرهم حييّ بن أخطب وابن أبي الحقيق
فدانت لهم خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وقسم رسول الله صلى الله عليه
وسلم أموالهم بين المهاجرين الأوّلين خاصة، وأعطى منها أبا دجانة وسهل
بن حنيف كانا فقيرين.
وأسلم من بني النضير يامين بن عمير بن جحاش، وسعيد بن وهب فأحرزا
أموالهما بإسلامهما. وفي هذه الغزاة نزلت سورة الحشر.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: المنذر بن محمد بن الجلاح.
[2] وفي نسخة ثانية: ففرّ وهمّ.
(2/439)
غزوة ذات الرقاع:
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بني النضير إلى جمادى من السنة
الرابعة، ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، واستعمل على
المدينة أبا ذرّ الغفاريّ، وقيل عثمان بن عفان، ونهض حتى نزل نجدا فلقي
بها جمعا من غطفان فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب، إلا أنهم خاف بعضهم
بعضا حتى صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين صلاة الخوف،
وسميت ذات الرقاع لأنّ أقدامهم نقبت وكانوا يلقون عليها الخرق. وقال
الواقدي: لأنّ الجبل الّذي نزلوا به كان به سواد وبياض وحمرة رقاع
فسميت بذلك وزعم أنها كانت في المحرم.
غزوة بدر الصغرى الموعد:
كان أبو سفيان نادى يوم أحد كما قدّمناه بموعد بدر من قابل وأجابوه
بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا كان في شعبان من هذه السنة
الرابعة خرج لميعاده واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي
بن سلول، ونزل في بدر وأقام هناك ثمان ليال وخرج أبو سفيان في أهل مكّة
حتى نزل الظهران أو عسفان، ثم بدا له في الرجوع واعتذر بأنّ العام عام
جدب.
غزوة دومة الجندل:
خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأوّل من السنة
الخامسة وخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاريّ. وسببها أنه عليه
السلام بلغه انّ جمعا تجمعوا بها فغزاهم، ثم انصرفوا من طريقه قبل أن
يبلغ دومة الجندل ولم يلق حربا. وفيها وادع رسول الله صلى الله عليه
وسلم عيينة [1] بن حصن أن يرعى بأراضي المدينة لأنّ بلاده كانت أجدبت،
وكانت هذه قد أخصبت بسحابة وقعت فأذن له في رعيها.
غزوة الخندق
كانت في شوّال من السنة الخامسة، والصحيح أنها في الرابعة، ويقويه أنّ
ابن عمر يقول ردّني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن
أربع عشرة سنة ثم أجازني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فليس بينهما
إلّا سنة واحدة وهو الصحيح، فهي قبل دومة الجندل بلا شك. وكان سببها
أنّ نفرا من اليهود منهم: سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي
الحقيق وسلام بن مشكم وحيي بن أخطب من بني
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عتبة.
(2/440)
النضير وهود [1] ابن قيس وأبو عمارة [2] من
بني وائل، لما انجلى بنو النضير إلى خيبر خرجوا إلى مكة يحزّبون
الأحزاب ويحرّضون على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرغبون من
اشرأب إلى ذلك بالمال. فأجابهم أهل مكة إلى ذلك، ثم مضوا إلى غطفان
وخرج بهم عيينة بن حصن على أشجع، وخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب
في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من كنانة وغيرهم. ولما سمع بهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحفر الخندق على المدينة وعمل فيه
بيده والمسلمون معه، ويقال إنّ سلمان أشار به. ثم أقبلت الأحزاب حتى
نزلوا بظاهر المدينة بجانب أحد، وخرج عليه السلام في ثلاثة آلاف من
المسلمين، وقيل في تسعمائة فقط وهو راجل بلا شك [3] . وخلف على المدينة
ابن أم مكتوم فنزل بسطح سلع والخندق بينه وبين القوم وأمر بالنساء
والذراري فجعلوا في الآطام، وكان بنو قريظة مواد عين لرسول الله صلى
الله عليه وسلم فأتاهم حييّ وأغراهم فنقضوا العهد ومالوا مع الأحزاب،
وبلغ أمرهم إلي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبعث سعد بن معاذ وسعد ابن
عبادة وخوّات [4] بن جبير وعبد الله بن رواحة يستخبرون الأمر، فوجدوهم
مكاشفين بالغدر والنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشاتمهم سعد
بن معاذ وكانوا أحلافه وانصرفوا. وكان صلى الله عليه وسلم قد أمرهم إن
وجدوا الغدر حقا أن يخبروه تعريضا لئلا يفتوا في أعضاد الناس، فلما
جاءوا إليه قالوا يا رسول الله عضل والقارة يريدون غدرهم بأصحاب
الرجيع، فعظم الأمر وأحيط بالمسلمين من كل جهة، وهمّ بالفشل بنو حارثة
وبنو سلمة معتذرين بأنّ بيوتهم عورة خارج المدينة ثم ثبّتهم الله.
ودام الحصار على المسلمين قريبا من شهر ولم تكن حرب. ثم رجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن والحرث بن عوف أن يرجعا ولهما
ثلثا ثمار [5] المدينة، وشاور في ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فأبيا،
وقالا: يا رسول الله أشيء أمرك الله به فلا بدّ منه أم شيء تحبه فتصدقه
فتصنعه لك أم شيء تصنعه لنا؟ فقال: بل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وهو ابن قيس.
[2] وفي النسخة الباريسية: عمّار.
[3] وفي النسخة الباريسية: وهو الأصح.
[4] وفي نسخة ثانية: خوان.
[5] وفي النسخة الباريسية: ثلث ثمر المدينة.
(2/441)
أصنعه لكم إني رأيت أنّ العرب رمتكم عن قوس
واحدة، فقال سعد بن معاذ: قد كنا معهم على الشرك والأوثان ولا يطمعون
منا بثمرة إلّا شراء [1] وبيعا فحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك
نعطيهم أموالنا والله لا نعطيهم إلّا السيف. فصلب رسول الله صلى الله
عليه وسلم. وتمادى الأمر، وظهر فوارس من قريش إلى الخندق وفيهم:
عكرمة بن أبي جهل، وعمرو بن عبد ودّ من بني عامر بن لؤيّ، وضرار بن
الخطّاب من بني محارب فلما رأوا الخندق قالوا هذه مكيدة ما كانت العرب
تعرفها. ثم اقتحموا من مكان ضيق حتى جالت خيلهم بين الخندق وسلع، ودعوا
إلى البراز، وقتل علي بن أبي طالب عمرو بن عبد ودّ، ورجعوا إلى قومهم
من حيث دخلوا.
ورمي في بعض تلك الأيام سعد بن معاذ بسهم فقطع عنه الأكحل، يقال رماه
حبان بن قيس بن العرقة وقيل أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم، ويروى
أنه لما أصيب جعل يدعو: «اللَّهمّ إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقى
لها فلا قوم أحب إليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وأخرجوه، وان كنت
وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقرّ عيني من
بني قريظة» .
ثم اشتدّ الحال وأتى نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ
بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فقال: يا رسول الله اني
أسلمت ولم يعلم قومي فمرني بما تشاء، فقال إنما أنت رجل واحد فخذل عنا
إن استطعت فإنّ الحرب خدعة. فخرج فأتى بني قريظة وكان صديقهم في
الجاهلية، فنقم لهم في قريش وغطفان وأنهم إن لم يكن الظفر لحقوا
ببلادهم وتركوكم، ولا تقدرون على التحوّل عن بلدكم ولا طاقة لكم بمحمد
وأصحابه، فاستوثقوا منهم برهن أبنائهم حتى يصابروا معكم. ثم أتى أبا
سفيان وقريشا فقال لهم: إنّ اليهود قد ندموا وراسلوا محمدا في المواعدة
على أن يسترهنوا أبناءكم ويدفعوهم إليه. ثم أتى غطفان وقال لهم مثل ما
قال لقريش. فأرسل أبو سفيان وغطفان إلى بني قريظة في ليلة سبت إنا لسنا
بدار مقام فأعدوا للقتال، فاعتذر اليهود بالسبت، وقالوا: مع ذلك لا
نقاتل حتى تعطونا أبناءكم. فصدّق القوم خبر نعيم، وردوا إليهم بالاباية
من الرهن والحث على الخروج، فصدّق أيضا بنو قريظة خبر نعيم وأبوا
القتال. وأرسل الله على قريش وغطفان ريحا عظيمة أكفأت قدورهم وآنيتهم
وقلعت أبنيتهم وخيامهم، وبعث عليه
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الأخرى وبيعا.
(2/442)
السلام حذيفة بن اليمان عينا فأتاه بخبر
رحيلهم وأصبح وقد ذهب الأحزاب ورجع إلى المدينة.
غزوة بني قريظة
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه جبريل بالنهوض
إلى بني قريظة وذلك بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم، فأمر المسلمين أن لا
يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة، وخرج وأعطى الراية عليّ بن أبي طالب،
واستخلف ابن أمّ مكتوم، وحاصرهم صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة،
وعرض عليهم سيدهم كعب بن أسد إحدى ثلاث إمّا: الإسلام، وإمّا تبييت
النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة السبت ليكون الناس آمنين منهم، وإمّا
قتل الذراري والنساء ثم الاستماتة. فأبوا كل ذلك وأرسلوا إلى النبيّ
صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر بن عمرو بن
عوف لأنهم كانوا حلفاء الأوس، فأرسله واجتمع إليه الرجال والنساء
والصبيان فقالوا: يا أبا لبابة ترى لنا أن ننزل على حكم محمد، قال نعم،
وأشار بيده في حلقه أنه الذبح. ثم رجع فندم وعلى أنه أذنب فانطلق على
وجهه، ولم يرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وربط نفسه إلى عمود في
المسجد ينتظر توبة الله عليه وعاهد الله أن لا يدخل أرض بني قريظة
مكانا خان فيه ربه ونبيّه، وبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال
لو أتاني لاستغفرت له فأمّا بعد ما فعل فما أنا بالذي أطلقه حتى يتوب
الله عليه فنزلت توبته، فتولّى عليه السلام إطلاقه بيده بعد أن أقام
مرتبطا بالجذع ست ليال لا يحل إلا للصلاة. ثم نزل بنو قريظة على حكم
النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم بعضهم ليلة نزولهم وهم نفر أربعة من
هذيل إخوة قريظة والنضير، وفرّ عنهم عمرو بن سعد القرظي ولم يكن دخل
معهم في نقض العهد فلم يعلم أين وقع. ولما نزل بنو قريظة على حكمه صلى
الله عليه وسلم طلب الأوس أن يفعل فيهم ما فعل بالخزرج في بني النضير،
فقال لهم:
ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. قال: فذلك إلى سعد بن
معاذ وكان جريحا منذ يوم الخندق وقد أنزله رسول الله صلى الله عليه
وسلم في خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فأتى به على حمار فلما أقبل
على المجلس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: قوموا إلى سيدكم. ثم
قالوا: يا سعد إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولّاك حكم مواليك،
فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، قالوا:
نعم. قال: فإنّي أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء وتقسم
(2/443)
الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. ثم أنه أمر فأخرجوا
إلى سوق المدينة وخندق لهم بها خنادق وضربت أعناقهم فيها وهم بين
الستمائة والسبعمائة رجل، وقتلت فيهم امرأة واحدة بنانة امرأة الحكم
القرظي وكانت طرحت على خلاد [1] بن سويد بن الصامت رحى من فوق الحائط
فقتلته. وأمر عليه السلام بقتل من أنبت [2] منهم. ووهب لثابت بن قيس بن
الشماس ولد الزبير بن ياطا فاستحيا منهم عبد الرحمن بن الزبير كانت له
صحبة، وبعد أن كان ثابت استوهب من النبيّ صلى الله عليه وسلم الزبير
وأهله وماله فوهبه ذلك فمر الزبير عليه يده وأبي إلّا الشدّ مع قومه
اغتباطا بهم قبحه الله. ووهب عليه السلام لأم المنذر بنت قيس من بني
النجّار رفاعة بن سموأل القرظي فأسلم رفاعة وله صحبة.
وقسم صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم
وللراجل سهما، وكانت خيل المسلمين يومئذ ستة وثلاثين فارسا، ووقع في
سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم من سبيهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة من
بني عمرو بن قريظة فلم تزل في ملكه حتى مات رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وكان فتح بني قريظة آخر ذي القعدة من السنة الرابعة. ولما ثم
أمرهم أجيبت دعوة سعد بن معاذ فانفجر عرقه ومات فكان ممن استشهد يوم
الخندق في سبعة آخرين من الأنصار، وأصيب من المشركين يوم الخندق أربعة
من قريش فيهم: عمرو بن عبد ودّ وابنه حسل ونوفل بن عبد الله بن المغيرة
[3] ، ولم تغز كفّار قريش المسلمين مذ يوم الخندق. ثم خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى من السنة الخامسة لستة أشهر من فتح
بني قريظة فقصد بني لحيان يطالب بثأر عاصم بن ثابت وخبيب بن عديّ وأهل
الرجيع، وذلك إثر رجوعه من دومة الجندل، فسلك على طريق الشام أوّلا ثم
أخذ ذات اليسار إلى صخيرات اليمام، ثم رجع إلى طريق مكة وأجدّ السير
حتى نزل منازل لبني بين أمج وعسفان فوجدهم قد حذروا وامتنعوا بالجبال،
وفاتتهم الغرّة فيهم فخرج في مائتي راكب إلى المدينة.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: خلال.
[2] وفي نسخة ثانية: اثبت.
[3] وفي نسخة ثانية: المريرة.
(2/444)
غزوة الغابة وذي قرد
وبعد قفوله والمسلمين إلى المدينة بليال أغار عيينة بن حصن الفزاري في
بني عبد الله من غطفان فاستلحموا [1] القاح النبيّ صلى الله عليه وسلم
بالغابة، وكان فيها رجل من بني غفار وامرأته فقتلوا الرجل وحملوا
المرأة، ونذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي وكان ناهضا، فعلا
ثنية الوداع وصاح بأعلى صوته نذيرا بهم، ثم اتبعهم واستنقذ ما كان
بأيديهم، ولما وقعت الصيحة بالمدينة ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم
في أثرهم، ولحق به المقداد بن الأسود وعباد [2] بن بشر وسعد بن زيد من
بني عبد الأشهل. وعكاشة بن محصن ومحرز بن نضلة الأسديّ وأبو قتادة من
بني سلمة في جماعة من المهاجرين والأنصار، وأمرّ عليهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم سعد بن زيد وانطلقوا في اتباعهم حتى أدركوهم، فكانت
بينهم جولة قتل فيها محرز بن نضلة قتله عبد الرحمن بن عيينة وكان أوّل
من لحق بهم. ثم ولّى المشركون منهزمين وبلغ رسول الله صلى الله عليه
وسلم ماء يقال له ذو قرد، فأقام عليه ليلة ويومها [3] ونحر ناقة من
لقاحه المسترجعة ثم قفل إلى المدينة.
غزاة بني المصطلق:
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شعبان من هذه السنة السادسة،
ثم غزا بني المصطلق من خزاعة لما بلغه أنهم مجتمعون له وقائدهم الحرث
بن أبي ضرار أبو جويرية [4] أمّ المؤمنين، فخرج إليهم واستخلف أبا ذرّ
الغفاريّ، وقيل نميلة بن عبد الله الليثي ولقيهم بالمريسيع [5] من
مياههم ما بين قديد والساحل فتزاحفوا وهزمهم الله وقتل من قتل منهم
وسبي النساء والذرية وكانت منهم جويرية بنت الحرث سيدهم، ووقعت في سهم
ثابت بن قيس، فكاتبها، وأدّى عليه السلام عنها وأعتقها وتزوّجها. وأصيب
في هذه الغزاة هشام بن صبابة الليثي من بني ليث بن بكر قتله رجل من رهط
عبادة بن الصامت غلطا يظنه من العدوّ، وفي مرجع النبيّ صلى الله عليه
وسلم من هذه الغزاة، وفيها قال عبد الله بن أبي بن سلول لئن رجعنا إلى
المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل لمشاجرة وقعت بين جهجاه بن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فاكتسحوا.
[2] وفي النسخة الباريسية: عباس.
[3] وفي نسخة ثانية: ويومين.
[4] وفي النسخة الباريسية: جويرة.
[5] وفي نسخة ثانية: بالمريسع.
(2/445)
مسعود الغفّاريّ أجير عمر بن الخطاب وبين
سنان ابن واقد [1] الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج، فتثاوروا [2]
وتباهوا، فقال ما قال: وسمع زيد بن أرقم مقالته، وبلغها إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم. ونزلت سورة المنافقين وتبرأ منه ابنه عبد الله،
وقال: يا رسول الله أنت والله الأعز وهو الأذل وإن شئت والله أخرجته.
ثم اعترض أباه عند المدينة، وقال: والله لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأذن له، وحينئذ دخل، وقال يا رسول الله بلغني أنك
تريد قتل أبي وإني أخشى أن تأمر غيري فلا تدعني نفسي أن أقاتله، وإن
قتلته قتلت مؤمنا بكافر، ولكن مرني بذلك فأنا والله أحمل إليك رأسه.
فجزاه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا وأخبره أنه لا يصل إلى أبيه
سوء.
وفيها قال أهل الافك ما قالوا في شأن عائشة مما لا حاجة بنا إلى ذكره
وهو معروف في كتب السير، وقد أنزل الله القرآن الحكيم ببراءتها
وتشريفها. وقد وقع في الصحيح أنّ مراجعته وقعت في ذلك بين سعد بن عبادة
وسعد بن معاذ وهو وهم ينبغي التنبيه عليه، لأن سعد بن معاذ مات بعد فتح
بني قريظة بلا شك داخل السنة الرابعة وغزوة بني المصطلق في شعبان من
السنة السادسة بعد عشرين شهرا من موت سعد، والملاحاة بين الرجلين كانت
بعد غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة. والّذي ذكر ابن إسحاق عن
الزهري عن عبيد الله بن عبد الله وغيره أنّ المقاول لسعد بن عبادة إنما
هو أسيد بن الحضير [3] والله أعلم.
ولما علم المسلمون أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج جويرية، أعتقوا
كل ما كان في أيديهم من بني المصطلق أصهار [4] رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فأطلق بسببها مائة من أهل بيتها، ثم أنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بعامين الوليد بن عقبة بن أبي
معيط لقبض صدقاتهم، فخرجوا يتلقونه، فخافهم على نفسه ورجع، وأخبر أنهم
هموا بقتله. فتشاور المسلمون في غدرهم ثم جاء وفدهم منكرين ما كان من
رجوع الوليد قبل لقيهم، وأنهم إنما خرجوا تلقية
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بن وفد.
[2] وفي النسخة الباريسية: فتشاوروا.
[3] وفي نسخة ثانية: ابن الحضي.
[4] وفي النسخة الباريسية: لصهر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
(2/446)
وكرامة وروده. فقبل النبيّ صلى الله عليه
وسلم ذلك منهم ونزل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جاءَكُمْ فاسِقٌ 49: 6 الآية.
عمرة الحديبيّة
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السادسة وفي ذي القعدة منها
معتمرا بعد بني المصطلق بشهرين، واستنفر الأعراب حوالي المدينة فأبطأ
أكثرهم فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار، واتبعه من العرب فيما بين
الثلاثمائة بعد الألف إلى الخمسمائة، وساق الهدي وأحرم من المدينة
ليعلم الناس أنه لا يريد حربا. وبلغ ذلك قريشا فأجمعوا على صدّه عن
البيت وقتاله دونها، وقدّموا خالد بن الوليد في خيل إلى كراع الغميم،
وورد خبرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان، فسلك على ثنية المرار
حتى نزل الحديبيّة من أسفل مكة وجاء من ورائهم، فكر خالد في خيله إلى
مكّة.
فلما جاء صلى الله عليه وسلم إلى مكة بركت ناقته، فقال الناس خلأت،
فقال: ما خلأت وما ذاك لها بخلق [1] ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال:
والّذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم
إلا أعطيتهم إياها. ثم نزل واشتكى الناس فقد الماء فأعطاهم سهما من
كنانته غرزوه في بعض القلب [2] من الوادي، فجاش الماء حتى كفى جميع
الجيش، يقال نزل به البراء بن عازب.
ثم جرت السفراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفّار قريش،
وبعث عثمان بن عفّان بينهما رسولا، وشاع الخبر أنّ المشركين قتلوه،
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وجلس تحت شجرة فبايعوه على
الموت وأن لا يفرّوا، وهي بيعة الرضوان، وضرب عليه السلام بيسراه على
يمينه وقال هذه عن عثمان. ثم كان سهيل ابن عمرو آخر من جاء من قريش
فقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينصرف عامه ذلك ويأتي من
قابل معتمرا ويدخل مكّة وأصحابه بلا سلاح حاشا السيوف في القرب، فيقيم
بها ثلاثا ولا يزيد، وعلى أن يتّصل الصلح عشرة أعوام يتداخل فيه الناس
ويأمن بعضهم بعضا، وعلى أنّ من هاجر من الكفّار إلى المسلمين من رجل أو
امرأة أنّ يرد إلى قومه ومن ارتدّ من المسلمين إليهم لم يردوه.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وما هو لها بخلق.
[2] وفي نسخة ثانية: بعض القلوب.
(2/447)
فعظم ذلك على المسلمين حتى تكلم فيه بعضهم،
وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم علم أنّ هذا الصلح سبب لأمن الناس
وظهور الإسلام، وأنّ الله يجعل فيه فرجا للمسلمين وهو أعلم بما علمه
ربه. وكتب الصحيفة عليّ، وكتب في صدرها هذا ما قاضي عليه محمد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأبي سهيل عن ذلك وقال لو نعلم أنك رسول الله
ما قاتلناك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا أن يمحوها، فأبى
وتناول هو الصحيفة بيده ومحا ذلك وكتب محمد بن عبد الله. ولا يقع في
ذهنك من أمر هذه الكتابة ريب فإنّها قد ثبتت في الصحيح، وما يعترض في
الوهم من أنّ كتابته قادحة في المعجزة فهو باطل، لأنّ هذه الكتابة إذا
وقعت من غير معرفة بأوضاع الحروف ولا قوانين الخطّ وأشكالها بقيت
الأمية على ما كانت عليه، وكانت هذه الكتابة الخاصة من إحدى المعجزات
انتهى.
ثم أتى أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده وكان قد أسلم، فقال سهيل: هذا
أوّل ما نقاضي عليه. فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيه وعظيم
ذلك على المسلمين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أبا جندل أنّ الله
سيجعل له فرجا، وبينما هم يكتبون الكتاب إذ جاءت سرية من جهة قريش قيل
ما بين الثلاثين والأربعين يريدون الإيقاع بالمسلمين، فأخذتهم خيول
المسلمين وجاءوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقهم فإليهم
ينسب العتقيون [1] .
ولما تم الصلح وكتابه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحروا
ويحلقوا فتوقفوا، فغضب حتى شكى إلى زوجته أم سلمة فقالت: يا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أخرج وانحر واحلق فإنّهم تابعوك [2] . فخرج ونحر
وحلق رأسه حينئذ خراش بن أمية الخزاعي، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى المدينة، وما فتح من قبله فتح كان أعظم من هذا الفتح. قال
الزهري: لما كان القتال حيث لا يلتقي الناس [3] . فلمّا كانت الهدنة
ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضا فالتقوا وتفاوضوا في الحديث
والمنازعة فلم يكلم أحد بالإسلام أحدا يفعل شيئا إلّا دخل عليه [4] ،
فلقد دخل في ذينك السنتين في الإسلام مثلما قبل ذلك أو أكثر.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: العتيقيون.
[2] وفي نسخة ثانية: متابعوك.
[3] وفي النسخة الباريسية: إنما كان القتال حيث يبتغي الناس.
[4] وفي نسخة ثانية: دخل فيه.
(2/448)
ولما رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
لحقه أبو بصير [1] عتبة بن أسيد بن جارية [2] هاربا وكان قد أسلم وحبسه
قومه بمكة وهو ثقفي من حلفاء بني زهرة، فبعث إليه الأزهر بن عبد عوف
عمّ عبد الرحمن بن عوف والأخنس بن شريق سيد بني زهرة رجلا من بني عامر
بن لؤيّ مع مولى لهم، فأسلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم فاحتملاه. فلما
نزلوا بذي الحليفة أخذ أبو بصير السيف من أحد الرجلين، ثم ضرب به
العامري فقتله وفرّ الآخر، وأتى أبو بصير إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال يا رسول الله قد وفت ذمتك وأطلقني الله فقال عليه السلام: ويلمه
[3] مسعر حرب لو كان له رجال. ففطن أبو بصير من لحن هذا القول أنه
سيرده، وخرج إلى سيف البحر على طريق قريش إلى الشام، وانضاف إليه جمهور
من يفرّ عن قريش ممن أراد الإسلام فآذوا قريشا وقطعوا على رفاقهم
وسابلتهم، فكتبوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يضمهم بالمدينة.
ثم هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وجاء فيها أخواها عمارة
والوليد، فمنع الله من ردّ النساء وفسخ ذلك الشرط المكتتب، ثم نسخت
براءة ذلك كلّه وحرم الله حينئذ على المسلمين إمساك الكوافر في عصمتهم
فانفسخ نكاحهن.
إرسال الرسل الى الملوك
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين الحديبيّة ووفاته رجالا
من أصحابه إلى ملوك العرب والعجم دعاة إلى الله عزّ وجل، فبعث سليط بن
عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ أخا بني عامر بن لؤيّ إلى هوذة [4] بن عليّ
صاحب اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرميّ إلى المنذر ابن ساوى أخي بني
عبد القيس صاحب البحرين، وعمرو بن العاص إلى جيفر بن جلندي [5] بن عامر
بن جلندي صاحب عمان، وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب
الاسكندرية فأدّى إليه كتاب رسول الله
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أبو نصر.
[2] وفي نسخة ثانية: ابن حارثة.
[3] أصله: ويل أمه أهـ.
[4] وفي النسخة الباريسية: هدوة.
[5] وفي النسخة الباريسية: الى جبير بن خليد.
(2/449)
صلى الله عليه وسلم وأهدى المقوقس إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم أربع جوار منهن مارية أم إبراهيم ابنه.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبيّ إلى قيصر وهو
هرقل ملك الروم، فوصل إلى بصرى وبعثه صاحب بصرى إلى هرقل، وكان يرى في
ملاحمهم أنّ ملك الختان قد ظهر، فقرأ الكتاب وإذا فيه: بسم الله الرحمن
الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم [1] الروم السلام على من اتبع
الهدى. أمّا بعد أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك
إثم الأريسيّين. وفي رواية «إثم الأكّارين عليك تعيا بجمله» . فطلب من
في مملكته من قوم النبي صلى الله عليه وسلم فأحضروا له من غزّة، وكان
فيهم أبو سفيان فسأله كما وقع في الصحيح، فأجابه وسلم [2] أحواله
وتفرّس صحة أمره، وعرض على الروم أتباعه فأبوا ونفروا فلاطفهم بالقول
وأقصر. ويروى عن ابن إسحاق أنه عرض عليهم الجزية، فأبوا فعرض عليهم أن
يصالحوا بأرض سورية. قالوا وهي أرض فلسطين والأردن ودمشق وحمص وما دون
الدرب وما كان وراء الدرب فهو الشام فأبوا.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب الأسدي
أخا بني أسد بن خزيمة إلى الحرث بن شمر الغساني صاحب دمشق، وكتب معه:
«السلام على من اتبع الهدى وآمن به أدعوك إلى أن تؤمن باللَّه وحده لا
شريك له يبقى لك ملكك» . فلما قرأ الكتاب قال: من ينزع ملكي أنا سائر
إليه. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: باد ملكه. قال: وبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمريّ إلى النجاشي في شأن جعفر بن
أبي طالب وأصحابه، وكتب معه كتابا: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد
رسول الله إلى النجاشيّ الأصحم عظيم الحبشة، سلام عليك فاني أحمد إليك
الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح
الله وكلمته ألقاها إلى مريم الطيبة البتول الحصينة فحملت بعيسى فخلقه
من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه وإني أدعوك إلى الله وحده لا
شريك له والموالاة على طاعته تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فاني رسول الله
وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا ومعه نفر
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ملك الروم.
[2] وفي نسخة أخرى: وعلم.
(2/450)
من المسلمين فإذا جاءوك قاقرهم ودع التجري
وإني أدعوك وجنودك إلى الله فلقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصحي والسلام على
من اتبع الهدي» . فكتب إليه النجاشيّ «إلى محمد رسول الله من النجاشيّ
الأصحم ابن الحرّ [1] سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله
وبركاته أحمد الله الّذي لا إله إلّا هو الّذي هدانا للإسلام أمّا بعد
فقد بلغني كتابك يا رسول الله فما ذكرت من أمر عيسى فو ربّ السماء
والأرض ما نزيد بالرأي على ما ذكرت أنه كما قلت وقد عرفنا ما بعثت به
إلينا، وقد قرّبنا ابن عمك وأصحابه فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا
فقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت للَّه رب العالمين وقد بعثت إليك
بابني أرخا [2] الأصحم فإنّي لا أملك إلّا نفسي إن شئت أن آتيك فعلت يا
رسول الله، فإنّي أشهد أنّ الّذي تقول حق والسلام عليك يا رسول الله» .
فذكر أنه بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة فغرقت بهم.
(وقد جاء) أنه أرسل إلى النجاشي [3] ليزوّجه أم حبيبة، وبعث إليها
بالخطبة جاريته فأعطتها أوضاحا وفتخا ووكلت خالد بن سعيد بن العاص
فزوّجها، ودفع النجاشي إلى خالد بن سعيد أربعمائة دينار لصداقها، وجاءت
إليها بها الجارية فأعطتها منها خمسين مثقالا، فردت الجارية ذلك بأمر
النجاشي. وكانت الجارية صاحبة دهنه وثيابه وبعث إليها نساء النجاشي بما
عندهن من عود وعنبر وأركبها في سفينتين مع بقية المهاجرين، فلقوا
النّبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، وبلغ أبا سفيان تزويج أم حبيبة منه
فقال: ذلك الفحل الّذي لا يقدع أنفه.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه السنة إلى كسرى، وبعث
بالكتاب عبد الله بن حذافة السهميّ وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من
محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن
باللَّه ورسله أمّا بعد فإنّي رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان
حيّا أسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس.» فمزّق كسرى كتاب النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مزّق
الله ملكه. وفي رواية ابن إسحاق بعد قوله «وآمن باللَّه ورسله وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمدا عبده ورسوله وأدعوك بدعاية
الله فإنّي أنا رسول الله إلى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن الجر.
[2] وفي النسخة الباريسية: أرعاز.
[3] وفي النسخة الباريسية: وعن الواقدي انه أرسل الى النجاشي.
(2/451)
الناس كافة لأنذر من كان حيّا ويحق القول
على الكافرين فإن أبيت فإثم الأريسيين عليك:» قال فلما قرأه مزّقه،
وقال يكتب إليّ هذا وهو عبدي! قال: ثم كتب كسرى إلى باذان وهو عامله
على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الّذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين
فليأتياني، به فبعث باذان قهرمانه بانويه وكان حاسبا كاتبا بكتاب فارس
ومعه خرخسرة من الفرس، وكتب إليه معهما أن ينصرف إلى كسرى، وقال
لقهرمانه: اختبر الرجل وعرّفني بأمره. وأوّل ما قدما الطائف سألا عنه
فقيل هو بالمدينة. وفرح من سمع بذلك من قريش وكانوا بالطائف، وقالوا
قطب له كسرى وقد كفيتموه. وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالمدينة فكلمه بانويه [1] وقال: إنّ شاهنشاه قد كتب إلى الملك باذان
أنّ يبعث إليك من يأتيه بك وبعثني لتنطلق معي ويكتب معه فينفعك وإن
أبيت فهو من علمت ويهلك قومك ويخرب بلادك. وكانا قد حلقا لحاهما وأعفيا
شواربهما فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالا: أمرنا
به ربّنا يعنون به كسرى. فقال لهما: لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص
شاربي لم أؤخرهما إلى غد. وجاءه الوحي بأنّ الله سلّط على كسرى ابنه
شيرويه فقتله [2] ليلة كذا من شهر كذا لعشر مضين من جمادى الأولى سنة
سبع، فدعاهما وأخبرهما فقالا: هل تدري ما تقول؟ يحزنانه عاقبة هذا
القول، فقال اذهبا وأخبراه بذلك عني وقولا له إنّ ديني وسلطاني يبلغ ما
بلغ ملك كسرى وإن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك وملكتك على قومك من الأنباء،
وأعطى خرخسرة منطقة فيها ذهب وفضة كان بعض الملوك أهداها له. فقدما على
باذان وأخبراه فقال ما هذا كلام ملك ما أرى الرجل إلّا نبيا كما يقول
ونحن ننتظر مقالته. فلم ينشب [3] بأذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: «أما
بعد فإنّي قد قتلت كسرى ولم أقتله إلّا غضبا لفارس لما كان استحل من
قتل أشرافهم وتسخيرهم في ثغورهم فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن
قبلك وانظر الرجل الّذي كان كسرى كتب فيه إليك فلا تهجه حتى يأتيك أمري
فيه» . فلمّا بلغ باذان الكتاب وأسلمت الأبناء معه من فارس ممن كان
منهم باليمن، وكانت حمير تسمي خرخسرة ذا المفخرة للمنطقة التي
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أبو بويه.
[2] وفي نسخة ثانية: يسلّط على كسرى ابنه شيرويه فيقتله.
[3] اي لم يلبث.
(2/452)
أعطاه إياها النّبي صلى الله عليه وسلم
والمنطقة بلسانهم المفخرة، وقد كان بانويه قال لباذان ما كلمت رجلا قط
أهيب عندي منه، فقال: هل معه شرط؟ قال: لا (قال الواقدي) وكتب إلى
المقوقس عظيم القبط يدعوه إلى الإسلام فلم يسلم.
غزوة خيبر
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا إلى خيبر في بقية المحرم
آخر السنة السادسة [1] وهو في ألف وأربعمائة راجل ومائتي فارس، واستخلف
نميلة بن عبد الله الليثي، وأعطى راية لعليّ بن أبي طالب، وسلك على
الصهباء حتى نزل بواديها إلى الرجيع، فحيل بينهم وبين غطفان وقد كانوا
أرادوا إمداد يهود خيبر، فلما خرجوا ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب لحس
سمعوه من ورائهم فانصرفوا وأقاموا في أماكنهم. وجعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم يفتح حصون خيبر حصنا حصنا فافتتح أوّلا منها حصن ناعم،
وألقيت على محمود بن سلمة من أعلاه رحى فقتلته. ثم افتتح القموص حصن
ابن أبي الحقيق، وأصيبت منهم سبايا كانت منهنّ صفية بنت حييّ ابن أخطب،
وكانت عروسا عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق فوهبها عليه السلام
لدحية، ثم ابتاعها منه بسبعة أرؤس ووضعها عند أمّ سلمة حتى اعتدّت
وأسلمت ثم أعتقها وتزوّجها. ثم فتح حصن الصعب بن معاذ، ولم يكن بخيبر
أكثر طعاما وودكا منه. وآخر ما افتتح من حصونهم الوطيح والسلالم حصرهما
بضع عشرة ليلة. ودفع إلى عليّ الراية في حصار بعض حصونهم ففتحه، وكان
أرمد فتفل في عينه صلى الله عليه وسلم فبرأ.
وكان فتح بعض خيبر عنوة وبعضها وهو الأكثر صلحا على الجلاء، فقسّمها
صلى الله عليه وسلم وأقر اليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم ولهم
النصف من كل ما تخرج من زرع أو تمر يقرّهم على ذلك ما بدا له، فبقوا
على ذلك الى آخر خلافة عمر فبلغه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في
مرضه الّذي مات فيه: «لا يبقى دينان بأرض العرب، فأمر باجلائهم عن خيبر
وغيرها من بلاد العرب» . وأخذ المسلمون ضياعهم من مغانم خيبر فتصرّفوا
فيها، وكان متولي قسمتها بين أصحابها جابر بن صخر من بني
__________
[1] هذا منقول عن مالك بناء على ان ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي
وهو ربيع وعلى المشهور محرم هو أول سنة سبع كما في المواهب- قاله نصر.
(2/453)
سلمة، وزيد بن ثابت [1] من بني النجار،
واستشهد من المسلمين جماعة تنيف على العشرين من المهاجرين والأنصار
منهم عامر بن الأكوع وغيره.
وفي هذه الغزاة حرّمت لحوم الحمر الأهلية فاكفئت القدور وهي تفور
بلحمها. وفيها أهدت اليهودية زينب بنت الحرث امرأة سلام بن مشكم [2]
إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم شاة مصلية، وجعلت السمّ في الذراع منها
وكان أحب اللحم إليه، فتناوله ولاك منه مضغة ثم لفظها، وقال: إنّ هذا
العظم يخبرني أنه مسموم، وأكل معه بشر بن البراء بن معرور وازدرد لقمته
فمات منها. ثم دعا باليهودية فاعترفت ولم يقتلها لإسلامها حينئذ على ما
قيل، ويقال إنه دفعها إلى أولياء بشر فقتلوها.
قدوم مهاجرة الحبشة: وكان مهاجرة الحبشة قد جاء جماعة منهم [3] إلى مكة
قبل الهجرة حين سمعوا بإسلام قريش ثم هاجروا إلى المدينة، وجاء آخرون
منهم قبل خيبر بسنتين، ثم جاء بقيتهم إثر فتح خيبر. بعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمريّ إلى النجاشي في شأنهم ليقدمهم
عليه، فقدم جعفر بن أبي طالب وامرأته أسماء بنت عميس وبنوهما عبد الله
ومحمد وعون، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية وامرأته أمينة بنت خلف
وابناهما سعيد، وأمّ خالد وعمرو بن سعيد بن العاص، ومعيف [4] بن أبي
فاطمة حليف أبي سعيد بن العاص ولي بيت المال لعمر، وأبو موسى الأشعري
حليف آل عتبة بن ربيعة والأسود بن نوفل بن خويلد ابن أخى خديجة-، وجهم
بن قيس بن شرحبيل بن عبد الدار وابناه عمر وخزيمة، والحرث بن خالد بن
صخر بن تميم، وعثمان بن ربيعة بن أهبان من بني جمح، ومحنية بن حذاء [5]
الزبيدي حليف بني سهم ولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم الأخماس،
ومعمر بن عبد الله بن نضلة من بني عدي، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس
بن عامر بن لؤيّ، وأبي عمرو مالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس، فكان
هؤلاء آخر من بقي بأرض الحبشة. ولما قدم جعفر على النبيّ صلى الله عليه
وسلم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: زيد بن سلمة.
[2] وفي النسخة الباريسية: سلام بن مكثم.
[3] وفي النسخة الباريسية: قد جاء من جاء منهم.
[4] وفي نسخة اخرى: معيقب.
[5] وفي نسخة اخرى: جون.
(2/454)
يوم فتح خيبر قبل ما بين عينيه والتزمه،
وقال: ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟!
فتح فدك ووادي القرى
ولما اتصل بأهل فدك شأن أهل خيبر بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم يسألونه الأمان على أن يتركوا الأموال، فأجابهم إلى ذلك فكانت
خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب
فلم يقسمها ووضعها حيث أمره الله. ثم انصرف عن خيبر إلى وادي القرى
فافتتحها عنوة وقسمها، وقتل بها غلامه مدغما، قال فيه لما شهد له الناس
بالجنة: كلا إنّ [1] الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم قبل القسم
لتشتعل عليه نارا ثم رحل إلى المدينة في شهر صفر.
عمرة القضاء
وأقام صلى الله عليه وسلم بعد خيبر إلى انقضاء شوال من السنة السابعة
ثم خرج في ذي القعدة لقضاء العمرة التي عاهده عليها قريش يوم الحديبيّة
وعقد لها الصلح، وخرج ملأ من قريش عن مكة عداوة للَّه ولرسوله وكرها في
لقائه، فقضى عمرته وتزوّج بعد إحلاله بميمونة بنت الحرث من بني هلال بن
عامر [2] خالة ابن عباس وخالد بن الوليد، وأراد أن يبني بها، وقد تمت
الثلاث التي عاهده قريش على المقام بها وأوصوا إليه بالخروج وأعجلوه عن
ذلك، فبنى بها بسرف.
غزوة جيش الأمراء
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه من عمرة القضاء إلى
جمادى الأولى من السنة الثامنة ثم بعث الأمراء إلى الشام، وقد كان أسلم
قبل ذلك عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة وهم
من كبراء قريش. وقد كان عمرو بن العاص مضى عن قريش إلى النجاشي يطلبه
في المهاجرين الذين عنده، ولقي هنالك عمرو بن أمية الضمريّ وافد النبي
صلى الله عليه وسلّم، فغضب
__________
[1] وفي نسخة اخرى: كلاله.
[2] وفي نسخة اخرى: بن علي.
(2/455)
النجاشي لما كلمه في ذلك، فوفقه الله ورئي
[1] الحق فأسلم وكتم إسلامه، ورجع إلى قريش ولقي خالد بن الوليد فأخبره
فتفاوضا، ثم هاجرا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلما.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا مع بعث الشام وأمّر على الجيش
مولاه زيد بن حارثة وكانوا نحوا من ثلاثة آلاف، وقال إن أصابه قدر
فالأمير جعفر بن أبي طالب، فإن أصابه قدر فالأمير عبد الله بن رواحة،
فإن أصيب فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه أميرا عليهم. وشيعهم
صلى الله عليه وسلم وودّعهم، ونهضوا حتى انتهوا إلى معان من أرض الشام،
فأتاهم الخبر بأن هرقل ملك الروم قد نزل مؤاب من أرض البلقاء في مائة
ألف من الروم ومائة ألف من نصارى العرب البادين هنالك من لخم وجذام
وقبائل قضاعة من بهرا وبلي والقيس وعليهم مالك بن زاحلة من بني أراشة.
فأقام المسلمون في معان ليلتين يتشاورون في الكتب إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وانتظار أمره ومدده، ثم قال لهم عبد الله بن رواحة أنتم
إنما خرجتم تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوّة إلّا بهذا
الدين الّذي أكرمنا الله به، فانطلقوا إلى [2] جموع هرقل عند قرية مؤتة
ورتبوا الميمنة والميسرة، واقتتلوا فقتل زيد بن حارثة ملاقيا بصدره
الرماح والراية في يده، فأخذها جعفر بن أبي طالب وعقر فرسه ثم قاتل حتى
قطعت يمينه فأخذها بيساره فقطعت فقتل كذلك وكان ابن ثلاث وثلاثين سنة،
فأخذها عبد الله بن رواحة وتردّد عن النزول بعض الشيء ثم صمم إلى
العدوّ فقاتل حتى قتل.
فأخذ الراية ثابت بن أفرم [3] من بني العجلان وناولها لخالد بن الوليد
فانحاز بالمسلمين، وأنذر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل هؤلاء الأمراء
قبل ورود الخبر وفي يوم قتلهم، واستشهد مع الأمراء جماعة من المسلمين
يزيدون على الشعرة أكرمهم الله بالشهادة، ورجعوا إلى النبيّ صلى الله
عليه وسلم، فأحزنه موت جعفر ولقيهم خارج المدينة وحمل عبد الله بن جعفر
بين يديه على دابته وهو صبي وبكى عليه واستغفر له وقال: أبدله الله
بيديه جناحين يطير بهما في الجنة، فسمي ذا الجناحين.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: رأى.
[2] وفي احدى النسخ: فانطلقوا فهي احدى الحسنيين إمّا ظهوره وإما
شهادتنا موافقوه ونهضوا الى تخوم البلقاء فلقوا جموع هرقل.
[3] وفي النسخة الباريسية: ثابت بن أرقم وفي نسخة اخرى: ثابت بن أقرن.
(2/456)
فتح مكة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عقد الصلح بينه وبين قريش في
الحديبيّة أدخل خزاعة في عقده المؤمن منهم والكافر، وأدخلت قريش بني
بكر بن عبد مناة ابن كنانة في عقدها وكانت بينهم تراث في الجاهلية
ودخول كان فيها الأوّل للأسود بن رزن [1] من بني الدئل بن بكر بن عبد
مناة وثارهم [2] عند خزاعة لما قتلت حليفهم مالك بن عباد الحضرميّ،
وكانوا قد عدوا [3] على رجل من خزاعة فقتلوه في مالك بن عباد حليفهم،
وعدت خزاعة على سلمى وكلثوم وذؤيب بني الأسود بن رزن فقتلوهم وهم أشراف
بني كنانة، وجاء الإسلام فاشتغل الناس به ونسوا أمر هذه الدماء، فلمّا
انعقد هذا الصلح من الحديبيّة وأمن الناس بعضهم بعضا، فاغتنم بنو الدئل
هذه الفرصة في إدراك الثأر من خزاعة بقتلهم بني الأسود بن رزن، وخرج
نوفل بن معاوية الدّؤلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة وليس كلهم
تابعه، وخرج معه بعضهم وخرجوا منهم وانحجزوا في دور مكة ودخلوا دار
بديل بن ورقاء الخزاعي، ورجع بنو بكر وقد انتقض العهد فركب بديل بن
ورقاء وعمرو بن سالم في وفد من قومهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
مستغيثين مما أصابهم به بنو الدئل بن عبد مناة وقريش، فأجاب صلى الله
عليه وسلم صريخهم وأخبرهم: بأنّ أبا سفيان يأتي يشدّ العقد ويزيد في
المدّة وأنه يرجع بغير حاجة وكان ذلك سببا للفتح وندم قريش على ما
فعلوا، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليؤكد العقد ويزيد في المدّة، ولقي
بديل بن ورقاء بعسفان فكتمه الخبر وورّى له عن وجهه، وأتى أبو سفيان
المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فطوت دونه فراش النبيّ صلى الله عليه
وسلم وقالت لا يجلس عليه مشرك، فقال لها قد أصابك بعدي شرّيا بنية. ثم
أتى المسجد وكلّمن النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فذهب إلى أبي
بكر وكلمه أن يتكلم في ذلك فأبى، فلقي عمر فقال: والله لو لم أجد إلا
الذرّ لجاهدتكم به، فدخل على عليّ بن أبي طالب وعنده فاطمة وابنه الحسن
صبيّا
__________
[1] وفي نسخة اخرى: بن رزق.
[2] وفي النسخة الباريسية: دم عند خزاعة.
[3] وفي نسخة أخرى: عقدوا.
(2/457)
فكلمه فيما أتى له فقال عليّ: ما نستطيع أن
نكلمه في أمر عزم عليه، فقال لفاطمة يا بنت محمد أما تأمري [1] ابنك
هذا ليجير بين الناس فقالت لا يجير أحد على رسول الله، فقال له عليّ يا
أبا سفيان أنت سيد بني كنانة فقم وأجر وارجع إلى أرضك، فقال ترى ذلك
مغنيا عني شيئا؟ قال: ما أظنه ولكن لا أجد لك سواه. فقام أبو سفيان في
المسجد فنادى: ألا إني قد أجرت بين الناس ثم ذهب إلى مكة وأخبر قريشا،
فقالوا ما جئت بشيء وما زاد ابن أبي طالب على أن لعب بك.
ثم أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سائر إلى مكة، وأمر الناس
بأن يتجهزوا، ودعا الله أن يطمس الأخبار عن قريش، وكتب إليهم حاطب بن
أبي بلتعة بالخبر مع ظعينة قاصدة إلى مكة، فأوحى الله، إليه بذلك فبعث
عليّا والزبير والمقداد إلى.
الظعينة فأدركوها بروضة خاخ وفتشوا رحلها فلم يجدوا شيئا، وقالوا: رسول
الله أصدق، فقال عليّ: لتخرجنّ الكتاب أو لتلقينّ الحوائج، فأخرجته من
بين قرون رأسها. فلما قرئ على النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ما هذا يا
حاطب؟ فقال يا رسول الله والله ما شككت في الإسلام ولكني ملصق في قريش
فأردت عندهم يدا يحفظوني [2] بها في مخلف أهلي وولدي، فقال عمر: يا
رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: وما يدريك يا عمر لعل الله
أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإنّي قد غفرت لكم. وخرج صلى
الله عليه وسلم لعشر خلون من رمضان من السنة الثامنة في عشرة آلاف
فيهم: من سليم ألف رجل وقيل سبعمائة، ومن مزينة ألف، ومن غفار
أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة، وطوائف من قريش وأسد وتميم وغيرهم، ومن
سائر القبائل جموع وكتائب الله من المهاجرين والأنصار. واستخلف أبا رهم
الغفاريّ على المدينة، ولقيه العبّاس بذي الحليفة وقيل بالجحفة مهاجرا،
فبعث رحله إلى المدينة وانصرف معه غازيا، ولقيه بنيق [3] العقاب أبو
سفيان بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية مهاجرين واستأذنا فلم يؤذن لهما،
وكلمته أم سلمة فأذن لهما، وأسلما فسار حتى نزل مرّ الظهران، وقد طوى
الله أخباره عن قريش إلّا أنهم يتوجسون الخيفة.
__________
[1] الأصح ان يقول: اما تأمرين.
[2] الأصح ان يقول: يحفظونني.
[3] وفي نسخة أخرى: بشق.
(2/458)
وخشي العبّاس تلافي قريش إن فاجأهم الجيش
قبل ان يستأمنوا، فركب بغلة النبيّ صلى الله عليه وسلم وذهب يتجسس، وقد
خرج أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم ابن حزام يتحسسون الخبر، وبينما
العبّاس قد أتى الأراك ليلقى من السابلة من ينذر أهل مكة إذ سمع صوت
أبي سفيان وبديل وقد أبصرا نيران العساكر، فيقول بديل: نيران بني
خزاعة، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
فقال العبّاس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس والله إن ظفر
بك ليقتلنك واصباح قريش فارتدف خلفي. ونهض به إلى المعسكر ومر بعمر
فخرج يشتدّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحمد للَّه الّذي
أمكن منك بغير عقد ولا عهد، فسبقه العبّاس على البغلة ودخل على أثره
فقال: يا رسول الله هذا عدوّ الله أبو سفيان أمكن الله منه بلا عهد
فدعني أضرب عنقه، فقال العبّاس: قد أجرته فزأره عمر، فقال العباس: لو
كان من بني عديّ ما قلت هذا ولكنه من عبد مناف، فقال عمر: والله
لإسلامك كان أحب إليّ من إسلام الخطّاب لأني أعرف أنه عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم كذلك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العبّاس
أن يحمله إلى رحله ويأتيه به صباحا، فلما أتى به قال له صلى الله عليه
وسلم: ألم يأن لك أن تعلم أنّ لا إله إلّا الله؟ فقال بأي أنت وأمي ما
أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد علمت لو كان معه إله غيره أغنى عنا،
فقال: ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله، قال أبي أنت وأمي ما
أحملك وأكرمك وأوصلك امّا هذه ففي النفس منها شيء [1] . فقال له
العبّاس: ويحك أسلم قبل أن يضرب عنقك فأسلم. فقال العبّاس: يا رسول
الله إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا.
قال: نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن،
ومن دخل المسجد فهو آمن. ثم أمر العبّاس أن يوقف أبا سفيان بخطم الوادي
ليرى جنود الله ففعل ذلك، ومرّت به القبائل قبيلة قبيلة، إلى أن جاء
مركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، عليهم
الدروع البيض، فقال من هؤلاء؟ فقال العبّاس: هذا رسول الله في
المهاجرين والأنصار. فقال: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما: فقال: يا أبا
سفيان إنها النبوّة، فقال: هي إذا! فقال له العبّاس: النجاء إلى قومك.
فأتى مكة
__________
[1] وفي نسخة اخرى: في النفس منها حتى الآن شيئا.
(2/459)
وأخبرهم بما أحاط بهم وبقول النبيّ صلى
الله عليه وسلم من أتى المسجد أو دار أبي سفيان أو أغلق بابه.
ورتب الجيش وأعطى سعد بن عبادة الراية فذهب يقول: اليوم يوم الملحمة
اليوم تستحل الحرمة وبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمر عليّا ان
يأخذ الراية منه، ويقال أمر الزبير. وكان على الميمنة خالد بن الوليد
وفيها أسلم وغفار ومزينة وجهينة، وعلى الميسرة الزبير، وعلى المقدّمة
أبو عبيدة بن الجرّاح. وسرّب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش من
ذي طوى، وأمرهم بالدخول إلى مكة: الزبير من أعلاها، وخالد من أسفلها،
وأن يقاتلوا من تعرض لهم. وكان عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل
بن عمرو قد جمعوا للقتال، فناوشهم أصحاب خالد القتال، واستشهد من
المسلمين كرز بن جابر من بني محارب، وخنيس بن خالد من خزاعة، وسلمة بن
جهينة، وانهزم المشركون وقتل منهم ثلاثة عشر وأمّن النبيّ صلى الله
عليه وسلم سائر الناس.
وكان الفتح لعشر بقين من رمضان، وأهدر دم جماعة من المشركين سمّاهم
يومئذ منهم: عبد العزّى بن خطل من بني تميم، والأدرم بن غالب كان قد
أسلم وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا ومعه رجل من المشركين
فقتله وارتدّ ولحق بمكّة وتعلق يوم الفتح بأستار الكعبة فقتله سعد بن
حريث المخزومي وابو برزة الأسلميّ. ومنهم:
عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ثم
ارتدّ ولحق بمكة ونميت عنه أقوال، فاختفى يوم الفتح وأتى به عثمان بن
عفّان وهو أخوه من الرضاعة فاستأمن له فسكت عليه السلام ساعة ثم أمّنه،
فلما خرج قال لأصحابه هلّا ضربتم عنقه، فقال له بعض الأنصار هلا أومأت
إليّ، فقال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ولم يظهر بعد إسلامه
إلّا خير وصلاح واستعمله عمر وعثمان.
ومنهم الحويرث بن نفيل [1] من بني عبد قصيّ كان يؤذي رسول الله صلى
الله عليه وسلم بمكّة فقتله علي بن أبي طالب يوم الفتح. ومنهم مقيس بن
صبابة كان هاجر في غزوة الخندق ثم عدا على رجل من الأنصار كان قتل أخاه
قبل ذلك غلطا ووداه فقتله وفرّ إلى مكّة مرتدّا، فقتله يوم الفتح نميلة
بن عبد الله الليثي وهو ابن عمه.
ومنهم قينتا ابن خطل كانتا تغنيان بهجو النبيّ صلى الله عليه وسلم
فقتلت إحداهما
__________
[1] قوله نفيل وفي المواهب نقيد أهـ.
(2/460)
واستؤمن للأخرى فأمنها. ومنهم مولاة لبني
عبد المطلب اسمها سارة واستؤمن لها فأمّنها رسول الله صلى الله عليه
وسلم. واستجار رجلان من بني مخزوم بأمّ هانئ بنت أبي طالب يقال إنّهما
الحرث بن هشام وزهير بن أبي أميّة أخو أمّ سلمة فأمنتهما، وأمضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمانها فأسلما.
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالكعبة وأخذ المفتاح
من عثمان بن طلحة بعد أن مانعت دونه أم عثمان ثم أسلمته، فدخل الكعبة
ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة وأبقى له حجابة البيت فهي في
ولد شيبة إلى اليوم. وأمر بكسر الصور داخل الكعبة وخارجها، وبكسر
الأصنام حواليها، ومرّ عليها وهي مشدودة بالرصاص يشير إليها بقضيب في
يده وهو يقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ
زَهُوقاً 17: 81، فما بقي منهم [1] صنم إلا خرّ على وجهه. وأمر بلالا
فأذن على ظهر الكعبة ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بباب الكعبة
ثاني يوم الفتح وخطب خطبته المعروفة، ووضع مآثر الجاهلية إلّا سدانة
البيت وسقاية الحاج، وأخبر أنّ مكة لم تحلّ لأحد قبله ولا بعده، وإنما
أحلّت له ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس [2] ، ثم قال: «لا إله
إلّا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا
إنّ كل مأثورة أو دم أو مال يدعى في الجاهلية فهو تحت قدميّ هاتين إلا
سدانة الكعبة وسقاية الحاج، ألا وإن قتل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا
فيهما الدية مغلظة منها أربعون في بطونها أولادها، يا معشر قريش إنّ
الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم
خلق من تراب» . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ من ذَكَرٍ وَأُنْثى 49: 13» إلى آخر
الآية. يا «معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون إني فاعل فيكم؟» قالوا: خيرا
أخ كريم، ثم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» . وأعتقهم على الإسلام وجلس
لهم فيما قيل على الصفا فبايعوه على السمع والطاعة للَّه ولرسوله فيما
استطاعوا، ولمّا فرغ من بيعة الرجال بايع النساء، أمر عمر بن الخطاب أن
يبايعهن واستغفر لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان لا يمس
امرأة حلالا ولا حراما.
__________
[1] الأصح ان يقول منها.
[2] وفي النسخة الباريسية: ثم أعيدت لحرمتها بالأمس.
(2/461)
وهرب صفوان بن أمية إلى اليمن واتبعه عمير
بن وهب من قومه بأمان النبيّ صلى الله عليه وسلم له فرجع وأنظره أربعة
أشهر، وهرب ابن الزبير الشاعر إلى نجران ورجع فأسلم، وهرب هبيرة بن أبي
وهب المخزوميّ زوج امّ هانئ إلى اليمن فمات هنالك كافرا. ثم بعث النبيّ
صلى الله عليه وسلم السرايا حول مكة ولم يأمرهم بقتال، وفي جملتهم خالد
بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة فقتل منهم وأخذ
ذلك عليه، وبعث إليهم عليّا بمال فودى لهم قتلاهم وردّ عليهم ما أخذ
لهم. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا إلى العزّى بيت بنخلة
كانت مضر من قريش تعظمه وكنانة وغيرهم، وسدنته بنو شيبان من بني سليم
حلفاء بني هاشم فهدمه. ثم ان الأنصار توقفوا إلى أن يقيم صلى الله عليه
وسلم داره بعد أن فتحها فأغمهم ذلك وخرجوا له، فخطبهم صلى الله عليه
وسلم وأخبرهم أنّ المحيا محياهم والممات مماتهم فسكتوا لذلك واطمأنوا.
غزوة حنين
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة خمس عشرة ليلة وهو يقصر
الصلاة فبلغه أنّ هوازن وثقيف جمعوا له وهم عامدون إلى مكة وقد نزلوا
حنينا، وكانوا حين سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة
يظنون أنه إنما يريدهم، فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوف من بني النضير
[1] ، وقد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جشم بن
معاوية، وبني سعد بن بكر وناسا من بني هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية
والأحلاف، وبني مالك بن ثقيف بن بكر، ولم يحضرها من هوازن كعب ولا
كلاب. وفي جشم دريد بن الصمة بن بكر بن علقمة ابن خزاعة بن أزية بن جشم
رئيسهم وسيدهم شيخ كبير ليس فيه إلا ليؤتم برأيه ومعرفته. وفي ثقيف
سيدان ليس لهم في الأحلاف إلّا قارب بن الأسود بن مسعود ابن معتب [2] ،
وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحرث بن مالك وأخوه أحمر.
وجميع أمر النّاس إلى مالك بن عوف.
فلمّا أتاهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح مكة أقبلوا عامدين
اليه، وأسار
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: من بني نصر.
[2] وفي النسخة الباريسية: بن مغيث.
(2/462)
مالك مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم
يرى أنه أثبت لموقفهم، فنزلوا بأوطاس، فقال دريد بن الصمة لمالك: ما لي
أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير ويعار الشاء وبكاء الصغير، فقال: أموال
الناس وأبناءهم سقنا معهم ليقاتلوا عنها، فقال راعي ضأن: والله وهل
يردّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إلّا رجل بسلاحه وإن كانت عليك
فضحت في أهلك ومالك. ثم سأل عن كعب وكلاب وأسف لغيابهم وأنكر على مالك
رأيه ذلك، وقال: لم تصنع بتقديم بيضة [1] هوازن إلى نجور الخيل شيئا
أرفعهم إلى ممتنع بلادهم، ثم ألق الصبيان على متون الخيل فان كانت لك
لحق بك من وراءك وإن كانت لغيرك كنت قد أحرزت [2] أهلك ومالك. وأبى
عليه مالك واتبعه هوازن.
ثم بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد [3] الأسلمي
يستعلم خبر القوم فجاءه وأطلعه على جليّة الخبر وأنّهم قاصدون إليه،
فاستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية مائة درع وقيل
أربعمائة وخرج في اثني عشر ألفا من المسلمين عشرة آلاف الذين صحبوه من
المدينة وألفان من مسلمة الفتح، واستعمل على مكّة عتاب بن أسيد بن أبي
العيص بن أمية ومضى لوجهه. وفي جملة من اتبعه عباس بن مرداس، والضحاك
بن سفيان الكلابيّ، وجموع من عبس وذبيان، ومزينة وبني أسد. ومرّ في
طريقه بشجرة سدر خضراء، وكان لهم في الجاهلية مثلها يطوف بها الأعراب
ويعظمونها ويسمّونها ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات
أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال لهم: قلتم كما قال قوم موسى اجعل لنا
آلها كما لهم آلهة، والّذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من كان قبلكم واجرم
من ذلك [4] .
ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة أوّل يوم [5] من شوّال من
السنة الثامنة وهو وادي حزن [6] ، فتوسطوه في غبش الصبح وقد كمنت هوازن
في جانبيه فحملوا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: نقيضه.
[2] وفي النسخة الباريسية: أجرت.
[3] وفي نسخة ثانية: أبي حدود.
[4] وفي نسخة ثانية: وزجرهم عن ذلك.
[5] قوله أول يوم ولعل الصواب كما في غير هذا الكتاب سادس يوم أهـ.
وانتهى الى خيبر عاشره (قاله نصر) .
[6] وفي النسخة الباريسية: وادي حروت.
(2/463)
على المسلمين حملة رجل واحد، فولّى
المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وناداهم صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا.
وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعبّاس وأبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر
والفضل وقثم ابنا العبّاس وجماعة سواهم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم
على بغلته البيضاء دلدل والعباس آخذ بشكائمها وكان جهير الصوت فأمره
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي بالأنصار وأصحاب الشجرة قيل
وبالمهاجرين، فلمّا سمعوا الصوت وذهبوا ليرجعوا فصدّهم ازدحام الناس
[1] عن أن يثنوا رواحلهم، فاستقاموا وتناولوا سيوفهم وتراسهم واقتحموا
عن الرواحل راجعين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمع منهم
حواليه نحو المائة فاستقبلوا هوازن والناس متلاحقون [2] ، واشتدّت
الحرب وحمي الوطيس وقذف الله في قلوب هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فلم يملكوا أنفسهم، فولّوا منهزمين ولحق آخر
الناس وأسرى هوازن مغلولة بين يديه، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم
واستحرّ [3] القتل في بني مالك من ثقيف فقتل منهم يومئذ سبعون رجلا في
جملتهم: ذو الخمار وأخوه عثمان ابنا عبد الله بن ربيعة بن الحرث بن
حبيب سيداهم، وامّا قارب بن الأسود سيد الأحلاف من ثقيف ففرّ بقومه منذ
أوّل الأمر وترك رايته فلم يقتل منهم أحد، ولحق بعضهم بنخلة. وهرب مالك
بن عوف النصري مع جماعة من قومه فدخلوا الطائف مع ثقيف، وانحازت طوائف
هوازن إلى أوطاس [4] واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من
نخلة فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه، يقال قتله ربيعة بن رفيع بن
أهبان بن ثعلبة بن يربوع بن سماك بن عوف بن امرئ القيس. وبعث صلى الله
عليه وسلم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن أبا عامر الأشعري عم أبي موسى
فقاتلهم، وقتل بسهم رماه به سلمة بن دريد بن الصمة فأخذ أبو موسى
الراية وشدّ على قاتل عمه فقتله. وانهزم المشركون واستحرّ [5] القتل في
بني رباب من بني نصر بن معاوية، وانفضت جموع أهل هوازن كلها. واستشهد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المنهزمين.
[2] وفي النسخة الباريسية: لاحقون.
[3] وفي النسخة الباريسية: واستمر.
[4] وفي النسخة الباريسية: الى واسط.
[5] وفي النسخة الباريسية: وانهزم القوم واستمر القتل.
(2/464)
من المسلمين يوم الخميس أربعة منهم أيمن بن
أم أيمن أخو أسامة لأمه [1] ، ويزيد بن زمعة بن الأسود، وسراقة بن
الحرث من بني العجلان، وأبو عامر الأشعري.
حصار الطائف وغزوة تبوك
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبايا والأموال فحبست
بالجعرانة بنظر مسعود ابن عمرو الغفاريّ، وسار من فوره إلى الطائف
فحاصر بها ثقيف خمس عشرة ليلة، وقاتلوا من وراء الحصون، وأسلم من كان
حولهم من الناس وجاءت وفودهم إليه.
وقد كان مرّ في طريقه بحصن مالك بن عوف النصري [2] فأمر بهدمه، ونزل
على أطم لبعض ثقيف فتمنع فيه صاحبه فأمر بهدمه فأخرب وتحصنت ثقيف. وقد
كان عروة بن مسعود وغيلان بن سلمة من ساداتهم ذهبا إلى جرش يتعلمان
صنعة المجانيق والدبابات للحصار لمّا أحسوا من قصد رسول الله صلى الله
عليه وسلم إياهم فلم يشهدا الحصار ولا حنينا قبله، وحاصرهم المسلمون
بضع عشرة أو بضعا وعشرين ليلة واستشهد بعضهم بالنبل ورماهم صلى الله
عليه وسلم بالمنجنيق، ودخل نفر من المسلمين تحت دبابة ودنوا إلى سور
الطائف فصبوا عليهم سكك الحديد المحماة ورموهم بالنبل فأصابوا منهم
قوما، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم [3] ، ورغب إليه
ابن الأسود بن مسعود في ماله وكان بعيدا من الطائف وكفّ عنه، ثم دخل
إلى الطائف وتركهم ونزل أبو بكرة فأسلم.
واستشهد من المسلمين في حصاره: سعيد بن سعيد بن العاص، وعبد الله بن
أبي أميّة بن المغيرة أخو أمّ سلمة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة العنزي
حليف بني عدي في آخرين قريبا من اثني عشر فيهم أربعة من الأنصار.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة وأتاه هناك وفد
هوازن مسلمين راغبين، فخيّرهم بين العيال والأبناء والأموال فاختاروا
العيال والأبناء، وكلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال صلى الله عليه وسلم ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم،
وقال المهاجرون والأنصار ما كان لنا فهو لرسول الله
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أيمن بن عبيد أخو سلمة لأمه.
[2] النصري بالصاد المهملة، كذا في فضائل رمضان للأجهوري، قال وأسلم
بعد ذلك أهـ. (قاله نصر) .
[3] وفي نسخة اخرى: أعناقهم.
(2/465)
صلى الله عليه وسلم. وامتنع الأقرع بن حابس
وعيينة بن حصن أن يراد عليهم ما وقع لهما من الفي وساعدهم قومهم [1] ،
وامتنع العبّاس بن مرداس كذلك. وخالف بنو سليم وقالوا: ما كان لنا فهو
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعوّض رسول الله صلى الله عليه وسلم من
لم تطب نفسه عن نصيبه. وردّ عليهم نساءهم وأبناءهم بأجمعهم.
وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بنى ذكر وأنثى فيهنّ الشيما أخت النبيّ صل
يا لله عليه وسلم من الرضاعة وهي بنت الحرث بن عبد العزّى من بني سعد
بن بكر من هوازن، وأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسن إليها
وخيّرها فاختارت قومها فردّها اليهم. وقسم الأموال بين المسلمين، ثم
أعطى من نصيبه من خمس الخمس قوما يستألفهم على الإسلام من قريش وغيرهم،
فمنهم من أعطاه مائة مائة، ومنهم خمسين خمسين، ومنهم ما بين ذلك،
ويسمّون المؤلفة وهم مذكورون في كتب السير يقاربون الأربعين، منهم أبو
سفيان وابنه معاوية وحكيم بن حزام وصفوان بن أمية ومالك بن عوف وغيرهم،
ومنهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر والأقرع بن حابس وهما من أصحاب
المائة، وأعطى عبّاس بن مرداس دونهما، فأنشده أبياته المعروفة يتسخط
فيها، فقال اقطعوا عني لسانه فأتموا إليه المائة.
ولمّا أعطى المؤلفة قلوبهم وجد الأنصار في أنفسهم إذ لم يعطهم مثل ذلك
وتكلّم شبانهم مع ما كانوا يظنون أنه إذا فتح الله عليه بلده يرجع إلى
قومه ويتركهم، فجمعهم ووعظهم وذكّرهم وقال: «إنما أعطي قوما حديثي عهد
بالإسلام أتألفهم عليه، أما ترضون أن ينصرف الناس بالشاء والبعير
وتنصرفوا برسول الله إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار،
ولو سلك الأنصار شعبا وسلك الناس شعبا لسلكت شعب الأنصار» فرضوا
وافترقوا.
ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة الى مكة، ثم رجع
الى المدينة فدخلها لست بقين من ذي القعدة من السنة الثامنة لشهرين
ونصف من خروجه، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد شابا ينيف عمره على
عشرين، وكان غلبه الورع والزهد فأقام الحج بالمسلمين في سنته وهو أوّل
أمير أقام حجّ الإسلام المشركون على مشاعرهم. وخلف بمكة معاذ بن جبل
يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن،
__________
[1] وفي نسخة اخرى:، وساعدهما قومهما.
(2/466)
وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعبد ابني
الجلندي [1] من الأزد بعمان مصدقا فأطاعوا له بذلك. واستعمل صلى الله
عليه وسلم مالك بن عوف على من أسلم من قومه ومن سلم منهم وماله حوالي
الطائف من ثقيف، وأمره بمغادرة الطائف من التضييق عليهم ففعل حتى جاءوا
مسلمين كما يذكر بعد. وحسن إسلام المؤلفة قلوبهم ممن أسلم يوم الفتح أو
بعده وإن كانوا متفاوتين في ذلك. ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم
كعب بن زهير فأهدر دمه وضاقت به الأرض، وجاء فأسلم وأنشد النبي صلى
الله عليه وسلم قصيدته المعروفة بمدحه التي أوّلها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
إلخ. وأعطاه بردة في ثواب مدحه فاشتراها معاوية من ورثته بعد موته وصار
الخلفاء يتوارثونها شعارا.
ووفد في سنة تسع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بنو أسد
فأسلموا وكان منهم ضرار بن الأزور، وقالوا: قدمنا يا رسول الله قبل أن
يرسل إلينا فنزلت «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا 49: 17»
(الآية) . ووفد فيها وفدتين في شهر ربيع الأول ونزلوا على رويفع بن
ثابت البلوي. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد منصرفه
من الطائف في ذي الحجة إلى شهر رجب من السنة التاسعة.
ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم: «وكان في غزواته كثيرا ما يوري بغير
الجهة التي يقصدها على طريقة الحرب إلا ما كان من هذه الغزاة لعسرها
بشدّة الحرب، وبعد البلاد وفصل الفواكه وقلّة الظلال وكثرة العدو الذين
يصدّون. وتجهز الناس على ما في أنفسهم من استثقال ذلك، وطفق المنافقون
يثبطونهم عن الغزو، وكان نفر منهم يجتمعون في بيت بعض اليهود، فأمر
طلحة بن عبيد الله أن يخرّب عليهم البيت فخرّبها [2] . واستأذن ابن قيس
من بني سلمة في القعود فأذن له وأعرض عنه، وتدرّب كثير من المسلمين
بالإنفاق والحملان وكان من أعظمهم في ذلك عثمان بن عفّان يقال إنه أنفق
فيها ألف دينار وحمل على تسعمائة بعير ومائة فرس وجهز ركابا.
وجاء بعض المسلمين يستحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد ما
يحملهم عليه فنزلوا باكين لذلك، وحمل بعضهم يامين بن عمير النضري وهما
أبو ليلى بن كعب من بني مازن بن النجّار وعبد الله بن المغفل المزني.
واعتذر المخلفون من الأعراب
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الى أهل حنين وعمرو بن الجلندي.
[2] وفي النسخة الباريسية: ان يحرق عليهم البيت فحرقها.
(2/467)
فعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم نهض وخلّف على المدينة محمد بن مسلمة وقيل بل سبّاع بن عرفطة وقيل
بل عليّ ابن أبي طالب، وخرج معه عبد الله بن أبي بن سلول في عدد وعدّة،
فلما سار صلى الله عليه وسلم تخلّف هو فيمن تخلّف من المنافقين. ومرّ
صلى الله عليه وسلم على ديار ثمود فأمر أن لا يستعمل ماؤها ويعلف ما
عجن منه للإبل، وأذن لهم في بئر الناقة، وأمر أن لا يدخلوا عليهم
بيوتهم إلّا باكين، ونهى أنّ يخرج أحد منفردا عن صاحبه، فخرج رجلان من
بني ساعدة خنق [1] أحدهما فمسح عليه فشفي، والآخر رمته الريح في جبل طي
فردّوه بعد ذلك إلي النبيّ صلى الله عليه وسلم. وضلّ صلى الله عليه
وسلم ناقته في بعض الطريق، فقال أحد المنافقين محمد يدّعي علم خبر
السماء وهو لا يدري أين ناقته، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم،
فقال: والله لا أعلم إلّا ما علّمني الله وأن الناقة بموضع كذا. وكان
قد أوحى إليه بها فوجدوها ثم، وكان قائل هذا القول زيد بن اللصيت من
بني قينقاع وقيل إنه تاب بعد ذلك. وفضح الوحي قوما من المنافقين كانوا
يخذلون الناس ويهوّلون عليهم أمر الروم، فتاب منهم مخشى بن جهير [2]
ودعا أن يكفر عنه بشهادة يخفي مكانه فقتل يوم اليمامة.
ولمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحينة بن رؤبة
صاحب أيلة وأهل جرباء وأذرح فصالحوا على الجزية وكتب لكل كتابا. وبعث
صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك [3] صاحب
دومة الجندل من كندة كان ملكا عليها وكان نصرانيا وأخبر أنه يجده يصيد
البقر، واتفق أن بقر الوحوش باتت تهدّ القصر بقرونها فنشط أكيدر لصيدها
وخرج ليلا، فوافق وصوله خالدا، فأخذه وبعث به إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فعفا عنه وصالحه على الجزية وردّه.
وأقام بتبوك عشرين ليلة، ثم انصرف، وكان في طريقه ماء قليل نهى أن يسبق
إليه أحد، فسبق رجلان واستنفدا ما فيه فنكر عليهما ذلك، ثم وضع يده تحت
وشله فصب ما شاء الله أن يصب ونضح به الوشل [4] ودعا فجاش الماء حتى
كفى العسكر.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: جن
[2] وفي النسخة الباريسية: مخشى بن حمير.
[3] وفي النسخة الباريسية: عبد الله.
[4] وفي نسخة اخرى: ونضح بالوشل.
(2/468)
ولما قرب المدينة بساعة من نهار أنفذ مالك
بن الدخشم من بني سالم ومعن بن عدي من بني العجلان إلى مسجد الضرار،
فأحرقاه وهدماه، وقد كان جماعة من المنافقين بنوه وأتوا إلى النبيّ صلى
الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فسألوه الصلاة فيه، فقال: أنا على
سفر ولو قدمنا أتيناكم فصلينا لكم فيه. فلمّا رجع أمر بهدمه. وفي هذه
الغزاة تخلف كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن
عوف وهلال بن أمية بن واقف وكانوا صالحين، فنهى صلى الله عليه وسلم عن
كلامهم خمسين يوما، ثم نزلت توبتهم، وكان المتخلفون من غير عذر نيفا
وثلاثين رجلا. وكان وصوله صلى الله عليه وسلم من تبوك في رمضان سنة
تسع، وفيه كانت وفادة ثقيف وإسلامهم، ونزل الكثير من سورة براءة في شأن
المنافقين وما قالوه في غزوة تبوك آخر غزوة غزاها صلى الله عليه وسلم.
إسلام عروة بن مسعود ثم وفد ثقيف وهدم
اللات
كان صلى الله عليه وسلم لما أفرج عن الطائف وارتحل المدينة اتبعه عروة
بن مسعود سيدهم، فأدركه في طريقه وأسلم ورجع يدعو قومه، فرمي بسهم في
سطح بيته وهو يؤذن للصلاة فمات، ومنع قومه من الطلب بدمه وقال: هي
شهادة ساقها الله إليّ وأوصى أن يدفن مع شهداء المسلمين. ثم قدم ابنه
أبو المليح وقارب بن الأسود بن مسعود فأسلما، وضيق مالك بن عوف على
ثقيف واستباح سرحهم وقطع سابلتهم.
وبلغهم رجوع النبيّ صلى الله عليه وسلم من تبوك وعلموا أنّ لا طاقة لهم
بحرب العرب المسلمين، وفزعوا إلى عبد ياليل بن عمرو بن عمير، فشرط
عليهم أن يبعثوا معه رجالا منهم ليحضروا مشهدة خشية على نفسه مما نزل
بعروة، فبعثوا معه رجلين من أحلاف قومه وثلاثا من بني مالك، فخرج بهم
عبد يا ليل وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من السنة
التاسعة يريدون البيعة والإسلام فضرب لهم قبة في المسجد، وكان خالد بن
سعيد بن العاص يمشي في أمرهم وهو الّذي كتب كتابهم بخطه، وكانوا لا
يأكلون طعاما يأتيهم حتى يأكل منه خالد، وسألوه أن يدع لهم اللات ثلاث
سنين رغبا لنسائهم وأبنائهم حتى يأنسوا فأبى، وسألوه أن يعفيهم من
الصلاة فقال: لا خير في دين لا صلاة فيه، فسألوه أن لا يكسروا أوثانهم
(2/469)
بأيديهم فقال: أمّا هذه فسنكفيكم منها.
فأسلموا وكتب لهم وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص أصغرهم سنا لأنه كان
حريصا على الفقه وتعلم القرآن. ثم رجعوا إلى بلادهم، وخرج معه أبو
سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم اللات، وتأخر أبو سفيان حتى دخل
المغيرة فتناولها بيده ليهدمها، وقام بنو معتب [1] دونه خشية عليه.
ثم جاء أبو سفيان وجمع ما كان لها من الحليّ وقضى منه دين عروة والأسود
ابني مسعود كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وقسّم الباقي.
الوفود
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وأسلمت ثقيف ضربت إليه
وفود العرب من كل وجه حتى لقد سميت سنة الوفود. قال ابن إسحاق: وإنما
كانت العرب تتربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر النبيّ صلى الله
عليه وسلم، وذلك أنّ قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم وأهل البيت والحرم
وصريح ولد إسماعيل وقادتهم لا ينكرون لهم، وكانت قريش هي التي نصبت
لحربه وخلافه. فلمّا استفتحت مكة ودانت قريش ودخلها الإسلام عرفت العرب
أنهم لا طاقة لهم بحربة وعداوته، فدخلوا في دينه أفواجا يضربون إليه من
كل وجه انتهى.
فأوّل من قدم إليه بعد تبوك وفد بني تميم وفيه من رءوسهم: عطارد بن
حاجب بن زرارة بن عدس من بني دارم بن مالك، والحتات بن زيد [2] ،
والأقرع بن حابس، والزّبرقان بن بدر من بني سعد، وقيس بن عاصم، وعمرو
بن الأهتم وهما من بني منقر، ونعيم بن زيد ومعهم عيينة بن حصن
الفزاريّ. وقد كان الأقرع وعيينة شهدا فتح مكة وخيبر وحصار الطائف، ثم
جاءا مع وفد بني تميم، فلمّا دخلوا المسجد نادوا من وراء الحجرات فنزلت
الآيات في إنكار ذلك عليهم. ولمّا خرج قالوا جئنا نفاخرك بخطيبنا
وشاعرنا فأذن لهم، فخطب عطار وفاخر ويقال والأقرع بن حابس، ثم أنشد
الزبرقان بن بدر شعرا بالمفاخرة، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثابت بن قيس بن الشماس من بني الحرث بن الخزرج فخطب وحسّان بن ثابت
فأنشد مساجلين لهم، فأذعنوا للخطبة والشعر والسؤدد والحلم، وقالوا: هذا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بنو مغيث.
[2] وفي نسخة اخرى: الحباب بن يزيد.
(2/470)
الرجل هو مؤيد من الله أخطب من خطيبنا
وشاعره أشعر من شاعرنا وأصواتهم أعلى من أصواتنا. ثم أسلموا وأحسن رسول
الله صلى الله عليه وسلم وسلم جوائزهم. وهذا كان شأنه مع الوفود ينزلهم
إذا قدموا ويجهزّهم إذا رحلوا.
ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان مقدمه من تبوك
كتاب ملوك حمير مع رسولهم ومع الحرث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال،
والنعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر. وبعث زرعة بن ذي يزن رسوله مالك
بن مرّة الرهاويّ بإسلامهم ومفارقة الشرك، وأهله وكتب إليهم النبي صلى
الله عليه وسلم كتابه.
وبعث إلى ذي يزن معاذ بن جبل مع رسوله مالك بن مرّة يجمع الصدقات،
وأوصاهم برسله معاذ وأصحابه. ثم مات عبد الله بن أبي بن سلول في ذي
القعدة، ونعى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشيّ وأنه مات في رجب
قبل تبوك.
وقدم وفد بهرا في ثلاثة عشر رجلا ونزلوا على المقداد بن عمرو وجاء بهم
فأسلموا وأجازهم وانصرفوا، وقدم وفد بني البكاء ثلاثة نفر منهم. وقدم
وفد بني فزارة بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن وابن أخيه الحرّ بن قيس
فأسلموا.
ووفد عديّ بن حاتم من طي فأسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
بعث قبل تبوك إلى بلاد طي عليّ بن أبي طالب في سريّة فأغار عليهم،
وأصيب حاتم وسبيت ابنته وغنم سيفين في بيت أصنامهم كانتا من قربان
الحرب بن أبي شمّر، وكان عديّ قد هرب قبل ذلك ولحق ببلاد قضاعة بالشام
فرارا من جيوش المسلمين وجوارا لأهل دينه من النصارى وأقام بينهم، ولما
سيقت ابنة حاتم جعلت في الحظيرة بباب المسجد التي كانت السبايا تحبس
بها، ومرّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته أن يمنّ عليها،
فقال: قد فعلت ولا تعجلي حتى تجدي ذائقة من قومك يبلغك إلى بلادك ثم
آذنيني، قالت: فأقمت حتى قدم ركب من بني قضاعة وأنا أريد أن آتي أخي
بالشام فعرّفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكساني وحلني وزوّرني
وخرجت معهم فقدمت الشام فلما لقيها عديّ تلاوما ساعة ثم قال لها ماذا
ترين في أمري مع هذا الرجال؟
فأشارت عليه باللحاق به فوفد، وأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأدخله إلى بيته وأجلسه على وسادته، بعد أن استوقفته في طريقه امرأة
فوقف لها، فعلم عديّ أنه ليس بملك وأنه نبي، ثم أخبره عن أخذه المرباع
من قومه ولا يحلّ له فازداد
(2/471)
استبصارا [1] فيه، ثم قال: لعلّه إنما
يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم فيوشك ان يفيض المال
فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، أو لعله يمنعك ما ترى من كثرة عدوّهم وقلة
عددهم فو الله ليوشكنّ تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى
تزور هذا البيت لا تخاف، أو لعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى
الملك والسلطان لغيرهم فيوشك أن تسمع بالقصور البيض من بابل قد فتحت.
فأسلم عديّ وانصرف إلى قومه.
ثم أنزل الله على نبيّه الأربعين آية من أوّل براءة في نبذ هذا العهد
الّذي بينه وبين المشركين أن لا يصدوا عن البيت، ونهوا أن يقرب المسجد
الحرام مشرك بعد ذلك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان [2] بينه وبين
رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فيتم له إلى مدّته، وأجلّهم أربعة
أشهر من يوم النحر. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات أبا
بكر وأمّره على إقامة الحج بالموسم من هذه السنة، فبلغ ذا الحليفة
فأتبعه بعليّ فأخذها منه، فرجع أبو بكر مشفقا أن يكون نزل فيه قرآن،
فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: لم ينزل شيء ولكن لا يبلغ عني غيري
أو رجل مني. فسار ابو بكر على الحج وعليّ على الأذان ببراءة، فحج أبو
بكر بالناس وهم على حجّ الجاهلية، وقام عليّ عند العقبة يوم الأضحى
فأذّن بالآية التي جاء بها.
قال الطبريّ وفي هذه السنة فرضت الصدقات لقوله تعالى خُذْ من
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها 9: 103
الآية. وفيها قدم وفد ثعلبة بن سعد [3] ووفد سعد هذيم من قضاعة. قال
الطبريّ: وفيها بعث بنو سعد بن بكر ضمّام [4] بن ثعلبة وافدا فاستحلف
رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من الإسلام، وذكر التوحيد
والصلاة والزكاة والصيام والحج واحدة واحدة حتى إذا فرغ تشهّد وأسلم،
وقال:
لاؤديّ هذه الفرائض وأجتنب ما نهيت عنه ثم لا أزيد عليها ولا انقص،
فلما انصرف قال صلى الله عليه وسلم: إن صدق دخل الجنة، ثم قدم على قومه
فأسلموا كلهم يوم قدومه. والّذي عليه الجمهور: أنّ قدوم ضمّام وقصّته
كانت سنة خمس.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: استبعادا.
[2] وفي نسخة الثانية: وإن كان.
[3] وفي نسخة ثانية: ثعلبة بن منقذ.
[4] وفي نسخة ثانية: ضمضام بن ثعلبة.
(2/472)
ثم دخلت سنة عشر فبعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم خالد بن الوليد في ربيع أو جمادى في سريّة اربعمائة إلى
نجران وما حولها يدعو بني الحرث بن كعب إلى الإسلام ويقاتلهم إن لم
يفعلوا، فأسلموا وأجابوا داعية، وبعث الرسل [1] في كل وجه فأسلم الناس
فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه بأن يقدم مع
وفدهم، فأقبل خالد ومعه وفد بني الحرث بن كعب منهم قيس بن الحصين ذو
القصة ويزيد بن عبد المدان ويزيد بن المحجل [2] وعبد الله بن قراد [3]
الزيادي وشدّاد بن عبد الله الضبابي وعمرو بن عبد الله الضبابي،
فأكرمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال لهم: بم كنتم تغلبون من
يقاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: كنا نجتمع ولا نفترق ولا نبدأ [4] أحدا
بظلم. قال: صدقتم، فأسلموا وأمّر عليهم قيس بن الحصين، ورجعوا صدر ذي
القعدة من سنة عشر، ثم أتبعهم عمرو بن حزم [5] من بني النّجار ليفقّههم
في الدين ويعلمهم السنة، وكتب إليه كتابا عهد إليه فيه عهده وأمره
بأمره، وأقام عاملاه على نجران. وهذا الكتاب وقع في السير مرويا
وأعتمده الفقهاء في الاستدلالات وفيه مآخذ كثيرة للأحكام الفقهية
ونصّه: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب [6] من الله ورسوله: يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ 5: 1، عهدا من محمد
النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن آمره بتقوى
الله في أمره كله فإنّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وآمره أن
يأخذ بالحق كما أمره الله وأن يبشّر الناس بالخير ويأمرهم به ويعلّم
الناس القرآن ويفهمهم [7] فيه، وأن ينهي الناس فلا يمس القرآن إنسان
إلا وهو طاهر، وان يخبر الناس بالذي لهم والّذي عليهم، ويلين للناس في
الحق ويشتدّ عليهم في الظلم فإنّ الله حرّم [8] الظلم ونهى عنه فقال:
أَلا لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ 11: 18، وأن يبشر الناس بالجنة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الركبان.
[2] وفي النسخة الباريسية: يزيد بن المحجب.
[3] وفي نسخة اخرى: عبد الله بن قريض.
[4] وفي النسخة الباريسية: ولا ننيل.
[5] وفي نسخة اخرى: عمرو بن حزام.
[6] وفي النسخة الباريسية: هذا بيان.
[7] وفي نسخة اخرى: يفقههم فيه.
[8] وفي النسخة الباريسية: كره الظلم.
(2/473)
وبعملها وينذر الناس بالنار وعملها،
ويستألف الناس حتى يتفقهوا في الدين، ويعلّم الناس معالم الحجّ وسننه
وفرائضه وما أمر الله به والحجّ الأكبر والحج الأصغر وهو العمرة، وينهي
الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير إلا أن يكون واسعا يثنى طرفيه على
عاتقيه، وينهي أن يجتبي أحد في ثوب واحد ويفضي بفرجه إلى السماء، وينهي
أن يقصّ أحد شعر رأسه إذا عفا في قفاه، وينهي إذا كان بين الناس هيج عن
الدعاء إلى القبائل والعشائر وليكن دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له
فمن لم يدع إلى الله ودعا القبائل والعشائر فليعطفوه بالسيف حتى يكون
دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء في وجوههم
وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين وأن يمسحوا برءوسهم كما أمرهم
الله، وآمره بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع والسجود وأن يغلس بالصبح
ويهجر بالهاجرة حتى تميل الشمس وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة
والمغرب حين يقبل الليل لا يؤخر حتى تبدوا نجوم السماء والعشاء أوّل
الليل، وآمره بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها والغسل عند الرواح إليها،
وآمره أن يأخذ من الغنائم خمس الله، وما كتب على المؤمنين [1] في
الصدقة من العقار عشر ما سقت العين أو سقت السماء وعلى ما سقى الغرب
نصف العشر وفي كل عشر من الإبل شاتان وفي كل عشرين أربع شياة وفي كل
أربعين من البقر بقرة وفي كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة جذع أو
جذعة وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة فإنّها فريضة الله التي
افترض على المؤمنين في الصدقة فمن زاد خيرا فهو خير له، وانه من أسلم
من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من
المؤمنين له مثل ما لهم وعليه ما عليهم ومن كان على نصرانيته أو
يهوديته فإنه لا يردّ عنها وعليه الجزية، على كل حالم [2] ذكرا وأنثى
حر أو عبد دينار واف أو عوضه ثيابا. فمن أدّى ذلك فإنّ له ذمّة الله
وذمّة رسوله. ومن منع ذلك فإنه عدوّ للَّه ولرسوله وللمؤمنين جميعا
صلوات الله عليه محمد والسلام عليه ورحمته وبركاته» . وقدم وفد غسان في
رمضان من هذه السنة العاشرة في ثلاثة نفر فأسلموا وانصرفوا إلى قومهم
فلم يجيبوا إلى الإسلام فكتموا أمرهم وهلك اثنان منهم ولقي الثالث أبو
عبيدة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: على المسلمين.
[2] وفي نسخة ثانية: كل محتلم.
(2/474)
عامر باليرموك [1] فأخبره بإسلامه. وقدم
عليه وفد عامر عشرة نفر فأسلموا وتعلّموا شرائع الإسلام وأقرأهم أبيّ
[2] القرآن وانصرفوا. وقدم في شوّال وفد سلامان سبعة نفر رئيسهم حبيب
فأسلموا وتعلّموا الفرائض [3] وانصرفوا.
وفيما قدم وفد أزدجرش وفد فيهم صرد بن عبد الله الأزدي في عشرة من
قومه، ونزلوا على فروة بن عمرو، وأمّر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد
أن أسلموا صردا على من أسلم منهم، وأن يجاهد المشركين حوله. فحاصر جرش
ومن بها من خثعم وقبائل اليمن، وكانت مدينة حصينة اجتمع إليها أهل
اليمن حين سمعوا بزحف المسلمين، فحاصرهم شهرا، ثم قفل عنهم فظنوا أنه
انهزم فاتبعوه إلى جبل شكر، فصف وحمل عليهم ونال منهم، وكانوا بعثوا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رائدين وأخبرهما ذلك اليوم بواقعة
شكر وقال: إنّ بدن الله لتنحر عنده الآن فرجعا إلى قومهما وأخبراهم
بذلك وأسلموا وحمى لهم حمى حول قريتهم.
وفيها كان إسلام همدان ووفادتهم على يد عليّ رضي الله عنه، وذلك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم
إلى الإسلام، فمكث ستة أشهر لا يجيبونه، فبعث عليه السلام علي بن أبي
طالب وأمره أن يقفل خالدا، فلما بلغ عليّ أوائل اليمن جمعوا له فلما
لقوة صفّوا فقدّم عليّ الإنذار وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأسلمت همدان كلها في ذلك اليوم، وكتب بذلك إلى النبيّ صلى
الله عليه وسلم فسجد للَّه شكرا، ثم قال: السلام على همدان ثلاث مرّات.
ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام وقدمت وفودهم، وكان عمرو بن معديكرب
الزبيدي قال لقيس بن مكشوح [4] المرادي: اذهب بنا إلى هذا الرجل فلن
يخفى علينا أمره فأبى قيس من ذلك، فقدم عمرو على النبيّ صلى الله عليه
وسلم فأسلم، وكان فروة بن مسيك المراديّ على زبيد لأنه وفد قبل عمرو
مفارقا لملوك كندة فأسلم ونزل سعد بن عبادة وتعلم القرآن وفرائض
الإسلام واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد وزبيد ومذحج
كلّها وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة فكان معه في بلاده
حتى كانت الوفاة.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عام اليرموك.
[2] وفي نسخة ثانية: النبيّ.
[3] وفي نسخة ثانية: القرآن.
[4] وفي نسخة ثانية: مكثوم.
(2/475)
وفي هذه السنة قدم وفد عبد القيس يقدمهم
الجارود بن عمرو وكانوا على دين النصرانية، فأسلموا ورجعوا إلى قومهم.
ولما كانت الوفاة وارتدّ عبد القيس ونصبوا المنذر بن النعمان بن المنذر
الّذي يسمّى الغرور ثبت الجارود على الإسلام، وكان له المقام المحمود
وهلك قبل أن يراجعوا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء
بن الحضرميّ قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوي العبديّ [1] فأسلم وحسن
إسلامه، وهلك بعد الوفاة وقبل ردّة أهل البحرين والعلاء أمير عنده
لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين.
وفي هذه السنة قدم وفد بني حنيفة في سنة عشر فيهم: مسيلمة بن حبيب
الكذاب، ورجّال بن عنفوة، وطلق بن عليّ بن قيس، وعليهم سلمان بن حنظلة،
فأسلموا وأقاموا أياما يتعلمون القرآن من أبيّ بن كعب، ورجّال يتعلم،
وطلق يؤذن لهم، ومسيلمة في الرحال، وذكروا للنبيّ صلى الله عليه وسلم
مكانه في رحالهم فأجازه، وقال: ليس بشرّكم مكانا لحفظه رحالكم، فقال
مسيلمة عرف أن الأمر لي من بعده. ثم ادّعى مسيلمة بعد ذلك النبوّة،
وشهد له طلق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه في الأمر فافتتن
الناس به كما سنذكره.
وفيها قدم وفد كندة يقدمهم الأشعث بن قيس في بضعة عشر وقيل في ستين
وقيل في ثمانين، وعليهم الديباج والحرير، وأسلموا ونهاهم النبيّ صلى
الله عليه وسلم عنه فتركوه. وقال له أشعث نحن بنو آكل المرار وأنت ابن
آكل المرار فضحك وقال:
ناسبوا بهذا النسب العبّاس بن عبد المطلب وربيعة بن الحرث وكانا تاجرين
فإذا ساحا في أرض العرب قال نحن بنو آكل المرار فيعتز بذلك لأنّ لهم
عليه ولادة من الأمهات، ثم قال لهم لا نحن بنو النضر بن كنانة فانتفوا
منا ولا ننتفي من أبينا [2] .
وقدم مع وفد كنانة [3] وفد حضرموت وهم بنو وليعة، وملوكهم جمد ومخوس
ومشرح وأبضعة [4] ، فأسلموا ودعا لمخوس بإزالة الرتّة من لسانه. (وقدم
وائل بن حجر) راغبا في الإسلام فدعا له ومسح رأسه، ونودي الصلاة جامعة
سرورا بقدومه، وأمر
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: العمري.
[2] وفي نسخة ثانية: ولا ينتغي من إلينا.
[3] وفي نسخة ثانية: كندة.
[4] وفي نسخة ثانية: ضمرة ومخوش ومسرح والضعة.
(2/476)
معاوية أن ينزله بالحرّة، فمشى معه وكان
راكبا فقال له معاوية أعطني نعلك أتوقى بها الرمضاء، فقال ما كنت
لألبسها وقد لبستها. وفي رواية لا يبلغ أهل اليمن أنّ سوقة لبس نعل ملك
فقال: أردفني قال لست من أرداف الملوك، ثم قال: إنّ الرمضاء قد أحرقت
قدمي قال امش في ظل ناقتي كفاك به شرفا. ويقال إنه وفد على معاوية في
خلافته فأكرمه وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا «بسم الله
الرحمن الرحيم هذا كتاب محمد النبيّ لوائل بن حجر قيل حضرموت إنك إن
أسلمت لك ما في يديك من الأرض والحصون ويؤخذ منك من كل عشر واحدة ينظر
في ذلك ذو عدل وجعلت لك الّا تظلم فيها معلّم [1] الدين. والنبيّ صلى
الله عليه وسلم والمؤمنون أشهاد عليه [2] » . قال عياض (وفيه) إلى
الأقيال العباهلة والأوراع المشابيب [3] .
(وفيه) في التيعة [4] شاة لا مقوّرة لالياط ولا ضناك وأنطوا الثبجة وفي
السيوب الخمس ومن زنى من بكر فاصقعوه مائة واستوفضوه عاما، ومن زنى من
ثيّب فضرجوه بالاضاميم [5] ، ولا توصيم في الدين ولا غمة في فرائض الله
وكل مسكر حرام ووائل بن حجر يترفّل على الأقيال.
وفيها قدم وفد محارب في عشرة نفر فأسلموا. وفيها قدم وفد الرها من مذحج
في خمسة عشر نفرا وأهدوا فرسا، فأسلموا وتعلموا القرآن وانصرفوا، ثم
قدم نفر منهم وحجّوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي فأوصى لهم
بمائة وسق من خيبر جارية عليهم من الكتيبة وباعوها من معاوية.
وفيها قدم وفد نجران النصارى في سبعين [6] راكبا يقدمهم أميرهم العاقب
عبد المسيح من كندة، وأسقفهم أبو حارثة من بكر بن وائل، والسيّد الأيهم
وجادلوا عن دينهم، فنزل صدر سورة آل عمران وآية المباهلة فأبوا منها
وفرقوا وسألوا الصلح، وكتب لهم به على ألف حلّة في صفر وألف في رجب
وعلى دروع ورماح وخيل وحمل
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: مقام الدين.
[2] وفي نسخة ثانية: والمؤمنون عليه أنصار.
[3] وفي النسخة الباريسية: والأوزاع السابقين.
[4] وفي نسخة ثانية: وفيه في العبيّة.
[5] وفي نسخة اخرى: ففرجوه بالاصاحيم.
[6] وفي النسخة الباريسية: في ستين راكبا.
(2/477)
ثلاثين من كل صنف، وطلبوا أن يبعث معهم
واليا يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجرّاح، ثم جاء العاقب
والسيّد وأسلما.
وفيها قدم وفد الصدف من حضرموت في بضعة عشر نفرا فأسلموا، وعلمهم أوقات
الصلاة وذلك في حجة الوداع. وفي هذه السنة قدم وفد عبس، قال ابن
الكلبي:
وفد منهم رجل واحد فأسلم ورجع ومات في طريقه. وقال الطبريّ: وفيها وفد
عديّ ابن حاتم في شعبان انتهى.
وفيها قدم وفد خولان عشرة نفر فأسلموا وهدموا صنمهم، وكان وفد على رسول
الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبيّة قبل خيبر رفاعة بن زيد
الضبيبيّ من جذام وأهدى غلاما فأسلم، وكتب له رسول الله صلى الله عليه
وسلم كتابا يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا، ولم يلبث أن قفل دحية بن خليفة
الكلبيّ منصرفا من عند هرقل حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه
تجارة، فأغار عليه الهنيد بن عوض [1] وقومه بنو الضليع من بطون جذام
فأصابوا كل شيء معه، وبلغ ذلك مسلمين من بني الضبيب فاستنقذوا ما أخذه
الهنيد وابنه وردّوه على دحية، وقدم دحية على النبيّ صلى الله عليه
وسلم ومعه فأخبره الخبر، فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة
في جيش من المسلمين فأغار عليهم بالقضقاض من حرة الرمل [2] ، وقتلوا
الهنيد وابنه في جماعة وكان معهم ناس من بني الضبيب فاستباحوهم معهم
وقتلوهم، فركب رفاعة بن زيد ومعه أبو زيد بن عمرو من قومه في جماعة
منهم فقدموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه الخبر، فقال: كيف
أصنع بالقتلى؟ فقالوا: يا رسول الله أطلق لنا من كان حيّا، فبعث معهم
علي بن أبي طالب وحمله على جمل وأعطاه سيفه فلحقه بفيفاء الفحلتين
وأمره برد أموالهم فردّها.
وفي هذه السنة قدم وفد عامر بن صعصعة فيهم: عامر بن الطفيل بن مالك،
وأربد ابن ربيعة بن مالك، فقال له عامر: يا محمد اجعل لي الأمر بعدك،
قال: ليس ذلك لك ولا لقومك، قال: اجعل لي الوبر ولك المدر، قال: لا
ولكن أجعل لك أعنة الخيل فإنك امرؤ فارس، فقال: لأملأنها عليك خيلا
ورجلا ثم ولوا.
فقال: اللَّهمّ اكفنيهم اللَّهمّ أهد عامر أو أغن الإسلام عن عامر.
وذكر ابن إسحاق
__________
[1] وفي نسخة اخرى: بن عوص.
[2] وفي النسخة الباريسية: بالفضافض من حرة الرجل.
(2/478)
والطبريّ: أنهما أرادا الغدر برسول الله
صلى الله عليه وسلم فلم يقدروا عليه في قصة ذكرها أهل الصحيح، ثم رجعوا
إلى بلادهم فأخذه الطاعون في عنقه فمات في طريقه في أحياء بني سلول
وأصابت أخاه أربد صاعقة بعد ذلك. ثم قدم علقمة بن علاثة بن عوف وعوف
[1] بن خالد بن ربيعة وابنه فأسلموا.
وفيها قدم وفد طيِّئ في خمسة عشرة نفرا يقدمهم سيدهم زيد الخيل وقبيصة
بن الأسود من بني نبهان فأسلموا، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
زيد الخير وأقطع له بئرا وأرضين معها وكتب له بذلك ومات في مرجعه.
وفي هذه السنة ادعى مسيلمة النبوّة وأنه أشرك مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الأمر، وكتب إليه: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول
الله سلام عليك فإنّي قد أشركت في الأمر معك وأن لنا نصف الأرض ولقريش
نصف الأرض ولكن قريش قوم لا يعدلون، وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتّبع الهدى أما بعد فإن الأرض للَّه
يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» . قال الطبريّ: وقد قيل إنّ
ذلك كان بعد منصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع كما نذكر.
حجة الوداع
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع في خمس ليال بقين من
ذي العقدة ومعه من أشراف الناس ومائة من الإبل عريا [2] ، ودخل مكة يوم
الأحد لأربع خلون من ذي الحجة، ولقيه عليّ بن أبي طالب بصدقات نجران
فحجّ معه، وعلم صلى الله عليه وسلم الناس بمناسكهم واسترحمهم وخطب
الناس بعرفة خطبته التي بين فيها ما بين، حمد الله واثنى عليه ثم قال:
«أيها الناس اسمعوا قولي فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا
بهذا الموقف أبدا! أيها الناس إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن
تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا وحرمة شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن
أعمالكم وقد بلّغت فمن كان عنده أمانة فليؤدّها إلى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وهودة.
[2] وفي نسخة ثانية: هدايا.
(2/479)
من ائتمنه عليها وإن كان ربا فهو موضوع
ولكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا إن ربا
العباس بن عبد المطلب موضوع كله وأن كل دم في الجاهلية موضوع كلّه وأن
أول دم يوضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب وكان مسترضعا في بني ليث،
فقتله بنو هذيل فهو أول ما أبدأ من دم الجاهلية. أيها الناس إنّ
الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى
ذلك ممّا تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم. إنما النسيء زيادة في
الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرّمونه إلى فيحلوا ما حرّم
الله إلا وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض
وإنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات
والأرض منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب
الفرد الّذي بين جمادى وشعبان أمّا بعد أيها الناس فإنّ لكم على نسائكم
حقا ولهنّ عليكم حقا لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه
وعليهنّ أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن
تهجروهن في المضاجع وتضربوهنّ ضربا غير مبرح فإن انتهين فلهنّ رزقهنّ
وكسوتهنّ بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيرا فإنّهنّ عندكم عوان [1] لا
يملكن لأنفسهن شيئا وإنكم إنما أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهن
بكلمة الله فاعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي فإنّي قد بلغت قولي وتركت
فيكم ما إن استعصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه أيها الناس
اسمعوا قولي واعلموا إن كل مسلم أخو المسلم وإن المسلمين إخوة فلا يحل
لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه إياه عن طيب نفس فلا تظلموا أنفسكم ألا
هل بلغت [2] .
فذكر أنهم قالوا: اللَّهمّ نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اللَّهمّ اشهد. وكانت هذه الحجّة تسمى حجّة البلاغ وحجة الوداع لأنه لم
يحج بعدها وكان قد حج قبل ذلك حجتين واعتمر مع حجة الوداع عمرة فتلك
ثلاث ثم انصرف إلى المدينة في بقية ذي الحجة من العاشرة [3] .
__________
[1] وفي نسخة أخرى: عوار.
[2] وفي نسخة أخرى: اللَّهمّ.
[3] لم يذكر هنا حديث الغدير وقد أجمع المؤرخون وأرباب التفسير أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من حجة الوداع الى المدينة نزل عليه
الأميل جبرائيل بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ 5: 67. وان الآية الكريمة أمرت النبي صلى
الله عليه وسلم ان ينصب عليّا أميرا وخليفة للمسلمين من بعده فأمر
الرسول من كان معه من المسلمين ان يحطوا رحلهم بغدير خم قرب الجحفة على
طريق المدينة وان يرد من تقدم منهم الى
(2/480)
العمال على النواحي
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلم باذان عامل كسرى على اليمن
وأسلمت اليمن أمره على جميع مخاليفها ولم يشرك معه فيها أحدا حتى مات،
وبلغه موته وهو منصرف من حجّة الوداع فقسم عمله على جماعة من أصحابه،
فولّى على صنعاء ابنه شهر [1] بن باذان، وعلى مأرب أبا موسى الأشعري،
وعلى الجنديعلي بن أمية، وعلى همدان عامر بن شهر الهمدانيّ، وعلى عك
والأشعر بين الطاهر بن أبي هالة [2] وعلى ما بين نجران وزمع وزبيد خالد
بن سعيد بن العاص، وعلى نجران عمرو بن حزم [3] ، وعلى بلاد حضرموت زياد
بن لبيد [4] البياضي، وعلى السكاسك والسكون عكاشة بن ثور [5] بن أصفر
الغوثي، وعلى معاوية بن كندة عبد الله المهاجر
__________
[ () ] المحل الّذي نزل به الرسول وكان ذلك في اليوم الثامن عشر من ذي
الحجة سنة عشرة من الهجرة وكان ذلك اليوم شديد الحرّ فكان الرجل يضع
بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الحر. وقد وقف النبي في
هذا اليوم بعد صلاة الظهر خطيبا بالمسلمين فقال: الحمد للَّه ونستعين
ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
الدنيّة لا هادي لمن ضل ولا مضل لمن هدى واشهد ان لا إله إلا الله وان
محمدا عبده ورسوله. اما بعد ايها الناس قد نبأني اللطيف الخبير انه لم
يعمر نبيّ الا مثل نصف عمر الّذي قبله واني أوشك ان ادعى فأجيب واني
مسئول وأنتم مسئولون. فماذا أنتم قائلون؟
قالوا نشهد انك قد بلغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيرا قال ألستم تشهدون
ان لا إله إلا الله وان محمد عبده ورسوله؟ قالوا بلى نشهد بذلك. ثم قال
ايها الناس الا تسمعون؟ قالوا نعم. قال فإنّي فرط على الحوض وأنتم
واردون عليه فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين فنادى مناد وما الثقلان يا
رسول الله؟
قال الثقل الأكبر كتاب الله، طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم فتمسكوا
به لا تضلوا والآخر الأصغر عترتي وان اللطيف الخبير نبأني انهما لن
يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فسألت لهما ذلك ربي فلا تتقدموهما فتهلكوا
ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ثم أخذ بيد عليّ فرفعها وعرفه القوم فقال:
ايها الناس من اولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا الله ورسوله
أعلم. قال ان الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وانا اولى بهم من أنفسهم
فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، اللَّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وأدر
الحق معه حيث دار الا فليبلغ الشاهد الغائب. انظر كتاب البداية
والنهاية لابن كثير ج 5 ص 208 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 93 والفرق
الإسلامية ص 42 وغيرها من كتب التاريخ.
[1] وفي نسخة اخرى: شمر.
[2] وفي النسخة الباريسية: الطاهر بن أبي منالة
[3] وفي نسخة اخرى: بن حزام.
[4] وفي النسخة الباريسية: زياد بن يزيد.
[5] وفي النسخة الباريسية: عكاشة بن بدر
(2/481)
بن أبي أمية واشتكى المهاجر فلم يذهب فكان
زياد بن لبيد يقوم على عمله، وبعث معاذ بن جبل معلما لأهل اليمن
وحضرموت، وكان قبل ذلك قد بعث على الصدقات عدي بن حاتم على صدقة طيِّئ
وأسد، ومالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وقسم صدقة بني سعد بين
رجلين منهم، وبعث العلاء بن الحضرميّ على البحرين وبعث علي بن أبي طالب
إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ويقدم عليه بها فوافاه من حجة الوداع
كما مرّ.
خبر العنسيّ
كان الأسود العنسيّ واسمه عبهلة بن كعب ولقبه ذو الخمار، وكان كاهنا
مشعوذا يفعل الأعاجيب ويخلب بحلاوة منطقه، وكانت داره كهف حنار [1] بها
ولد، ونشأ وادّعى النّبوّة وكاتب مذحجا عامّة فأجابوه ووعدوه [2] ،
نجران فوثبوا بها وأخرجوا عمرو بن حزم [3] وخالد بن سعيد بن العاص
وأقاموه في عملها، ووثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك وهو على مراد
فأجلوه، وسار الأسود في سبعمائة فارس إلى شهر بن باذان بصنعاء فلقيه
شهر بن باذان فهزمه الأسود فقتله، وغلب على ما بين صنعاء وحضرموت إلى
أعمال الطائف إلى البحرين من قبل عدن، وجعل يطير استطارة الحريق وعامله
المسلمون بالتقية، وارتدّ كثير من أهل اليمن. وكان عمرو بن معديكرب مع
خالد بن سعيد بن العاص، فخالفه واستجاب للأسود، فسار إليه خالد ولقيه
فاختلفا ضربتين فقطع خالد سيفه الصمصامة وأخذها، ونزل عمرو عن فرسه
وفتك في الخيل ولحق عمرو بن الأسود فولاه على مذحج وكان أمر جنده إلى
قيس بن عبد يغوث المرادي، وأمر الأبناء إلى فيروز ودادويه وتزوج امرأة
شهر بن باذان واستفحل أمره.
وخرج معاذ بن جبل هاربا ومرّ بأبي موسى في مأرب فخرج معه ولحقا
بحضرموت، ونزل معاذ في السكون وأبو موسى في السكاسك، ولحق عمرو بن حزم
وخالد بن سعيد بالمدينة. وأقام الطاهر بن أبي هالة ببلاد عكّ حيال [4]
صنعاء، فلما ملك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: خيار وفي النسخة الباريسية: جناز
[2] وفي نسخة أخرى: وأوعدوا
[3] وفي نسخة أخرى: بن حزام.
[4] وفي نسخة أخرى: جبال صنعاء.
(2/482)
الأسود اليمن واستفحل استخف بقيس بن عبد
يغوث وبفيروز ودادويه، وكانت ابنة عم فيروز هي زوجة شهر بن باذان التي
تزوجها الأسود بعد مقتله واسمها أزاد. وبلغ الخبر إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فكتب مع وبر بن يحنس [1] إلى الأبناء وأبي موسى ومعاذ الطاهر
يأمرهم فيه أن يعملوا في أمر الأسود بالغيلة أو المصادمة [2] ويبلغ منه
من يروم عنده دنيا أو نجدة، وأقام معاذ والأبناء في ذلك فداخلوا قيس بن
عبد يغوث في أمره فأجاب، ثم داخل فيروز بنت عمه زوجة الأسود فواعدته
قتله، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن شهر الهمدانيّ وبعث
جرير بن عبد الله إلى ذي الكلاع وذي أمران وذي ظليم من أهل ناحيته وإلى
أهل نجران من عربهم ونصاراهم واعترضوا الأسود ومشوا وتنحوا إلى مكان
واحد.
وأخبر الأسود شيطانه بغدر قيس وفيروز ودادويه فعاتبهم وهمّ بهم، ففروا
إلى امرأته وواعدتهم أن ينقبوا البيت من ظهره ويدخلوا فيبيتوه، ففعلوا
ذلك ودخل فيروز ومعه قيس ففتل [3] عنقه ثم ذبحه، فنادى بالأذان عند
طلوع الفجر ونادى دادويه بشعار الإسلام، وأقام وبر بن يحنس [4] الصلاة
واهتاج الناس مسلمهم وكافرهم وماج بعضهم في بعض وأختطف الكثير من
أصحابه صبيانا من أبناء المسلمين، وبرزوا وتركوا كثيرا من أبنائهم ثم
تراسلوا في ردّ كل ما بيده وأقاموا يتردّدون فيما بين صنعاء ونجران،
وخلصت صنعاء والجنود، وتراجع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى
أعمالهم وتنافسوا الإمارة في صنعاء، ثم اتفقوا على معاذ فصلّى بهم
وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر، وكان قد أتى خبر
الواقعة من السماء فقال في غداتها:
قتل العنسيّ البارحة قتله رجل مبارك وهو فيروز. ثم قدمت الرسل، وقد
توفي [5] النبي صلى الله عليه وسلم.
بعث أسامة:
ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع آخر ذي الحجة ضرب على
الناس في شهر المحرم بعثا إلى الشام وأمّر عليهم مولاه أسامة بن زيد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بن عنيس.
[2] وفي نسخة أخرى: المصادقة.
[3] وفي النسخة الباريسية: ففك عنقه.
[4] وفي نسخة ثانية: بن جنيس.
[5] وفي نسخة أخرى: اسامة.
(2/483)
بن حارثة، أمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء
والداروم إلى الأردن من أرض فلسطين ومشارف الشام، فتجهّز الناس وأوعب
معه المهاجرون الأوّلون. فبينا الناس على ذلك ابتدأ صلى الله عليه وسلم
بشكواه التي قبضة الله فيها إلى كرامته ورحمته، وتكلم المنافقون في شأن
الكرامة، وبلغ الخبر بارتداد الأسود ومسيلمة، وخرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم عاصبا رأسه من الصداع وقال: «إني رأيت البارحة في نومي أنّ
في عضديّ سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما هذين
الكذّابين صاحب اليمامة وصاحب اليمن وقد بلغني أنّ أقواما تكلموا في
إمارة اسامة أن يطعنوا في إمارته لقد طعنوا في إمارة أبيه من قبله وإن
كان أبوه لحقيقا بالإمارة وانه لحقيق بها [1] انفروا» . فبعث أسامة
فضرب أسامة بالجرف [2] وتمهل، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتوفاه الله قبل توجه أسامة.
أخبار الأسود ومسيلمة وطليحة:
كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما قضى حجة الوداع تحلّل به السير
فاشتكى وطارت الأخبار، بذلك فوثب الأسود باليمن كما مرّ، ووثب مسيلمة
باليمامة، ثم وثب طليحة بن خويلد في بني أسد، يدعي كلهم النبوة.
وحاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسل والكتب إلى عماله ومن ثبت
على إسلامه من قومهم أن يجدّوا في جهادهم، فأصيب الأسود قبل وفاته بيوم
ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله والذبّ عن دينه، فبعث إلى
المسلمين من العرب في كل ناحية من نواحي هؤلاء الكذابين يأمرهم
بجهادهم. وجاء كتاب مسيلمة إليه فأجابه كما مرّ وجاء، ابن أخي طليحة
يطلب الموادعة فدعا صلى الله عليه وسلم حتى كان من حكم الله فيهم بعده
ما كان.
مرضه صلى الله وسلم عليه:
أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أنّ الله نعى إليه
نفسه بقوله إذا جاء نصر الله والفتح إلى آخر السورة، ثم بدأه الوجع
لليلتين بقيتا من صفر وتمادى به وجعه وهو يدور على نسائه حتى استقر به
في بيت ميمونة، فاستأذن نساءه أن يمرّض في بيت عائشة فأذن له. وخرج على
الناس فخطبهم وتحلل منهم وصلى على شهداء أحد واستغفر لهم، ثم قال لهم:
إنّ عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما
عنده. وفهمها أبو بكر
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: لخليق بها.
[2] وفي نسخة ثانية: الحرق.
(2/484)
فبكى، فقال: بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا،
فقال: على رسلك يا أبا بكر، ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
أصحابه فحرب بهم وعيناه تدمعان ودعا لهم كثيرا وقال: أوصيكم بتقوى الله
وأوصي الله بكم وأستخلفه عليكم وأودعكم إليه إني لكم نذير وبشير إلا
تعلوا على الله في بلاده وعباده فإنه قال لي ولكم: تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ
وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 28: 83 وقال أَلَيْسَ في
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ 39: 60 [1] .
ثم سألوه عن مغسله، فقال: الأدنون من أهلي، وسألوه عن الكفن، فقال: في
ثيابي هذه؟ أو ثياب مصر [2] أو حلّة يمانية. وسألوه عن الصلاة عليه،
فقال:
ضعوني على سريري في بيتي على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة حتى تصلي
عليّ الملائكة ثم ادخلوا فوجا بعد فوج فصلوا وليبدأ رجال أهلي [3] ثم
نساؤهم. وسألوه عمن يدخله القبر، فقال: أهلي. ثم قال: ائتوني بدواة
وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده فتنازعوا وقال بعضهم أهجر؟
يستفهم. ثم ذهبوا يعيدون عليه، ثم قال: دعوني فما أنا فيه خير مما
تدعونني إليه، وأوصى بثلاث: أن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وان
يجيزوا الوفد كما كان يجيزهم، وسكت عن الثالثة أو نسيها الراويّ. وأوصى
بالأنصار فقال إنهم كرشي وعيلتي التي أويت إليها [4] فأكرموا كريمهم
وتجاوزوا عن مسيئهم فقد أصبحتم يا معشر المهاجرين تزيدون والأنصار لا
يزيدون، ثم قال: سدّوا هذه الأبواب في المسجد إلا باب أبي بكر فاني لا
أعلم أمر أفضل يدا عندي في الصحبة من أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا
لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة إخاء وإيمان حتى يجمعنا الله عنده. ثم
ثقل به الوجع وأغمي عليه فاجتمع إليه نساؤه وبنوه وأهل بيته والعباس
وعليّ، ثم حضر وقت الصلاة فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت
عائشة:
إنه رجل أسيف لا يستطيع أن يقوم مقامك، فمر عمر فامتنع عمر، وصلّى ابو
بكر، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة فخرج فلما أحس أبو بكر
تأخر فجذبه رسول
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: للكافرين.
[2] وفي نسخة أخرى: بياض مصر.
[3] وفي نسخة أخرى: رجال أهل بيتي.
[4] وفي النسخة الباريسية: هم كرسيّ وعيني اليمنى فأكرموا كريمهم.
(2/485)
الله صلى الله عليه وسلم وأقامه مكانه وقرأ
من حيث انتهى أبو بكر، ثم كان أبو بكر يصلي بصلاته والناس بصلاة أبي
بكر، قيل صلوا كذلك سبع عشرة صلاة. وكان يدخل يده في القدم وهو في في
النزع فيمسح وجهه بالماء ويقول اللَّهمّ أعني على سكرات الموت، فلما
كان يوم الإثنين وهو يوم وفاته خرج إلى صلاة الصبح عاصبا رأسه وأبو بكر
يصلي، فنكص عن صلاته [1] ، وردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده
وصلى قاعدا عن يمينه، ثم أقبل على الناس بعد الصلاة فوعظهم وذكّرهم،
ولما فرغ من كلامه قال له أبو بكر: إني أرى أصبحت بنعمة الله وفضله كما
نحب. وخرج إلى أهله في السنح.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فاضطجع في حجرة [2] عائشة،
ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر عليه وفي يده سواك أخضر، فنظر إليه وعرفت
عائشة أنه يريده قالت: فمضغته حتى لان وأعطيته إياه فاستنّ به ثم وضعه.
ثم ثقل في حجري فذهبت انظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: «الرفيق
الأعلى من الجنة» فعلمت أنه خير فاختار. وكانت تقول: قبض رسول الله صلى
الله عليه وسلم بين سحري ونحري. وذلك نصف نهار يوم الإثنين لليلتين من
شهر ربيع الأول ودفن من الغد نصف النهار من يوم الثلاثاء. ونادى النعي
في الناس بموته وأبو بكر غائب في أهله بالسنح، وعمر حاضر فقام في الناس
وقال: إن رجالا من المنافقين زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
مات وأنه لم يمت وإنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وليرجعن فيقطعن أيدي
رجال وأرجلهم. وأقبل أبو بكر حين بلغه الخبر فدخل على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فكشف عن وجهه وقبله وقال: بأبي أنت وأمي قد ذقت الموتة
التي كتب الله عليك ولن يصيبك بعدها موته أبدا. وخرج إلى عمر وهو
يتكلم، فقال: أنصت. فأبي، وأقبل على الناس يتكلم فجاءوا إليه وتركوا
عمر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيها الناس من كان يعبد محمدا فإنّ
محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت» ثم تلا: «وَما
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ من قَبْلِهِ الرُّسُلُ 3: 144»
الآية. فكأنّ الناس لم يعلموا أنّ هذه الآية في المنزل قال عمر: فما هو
إلّا أن سمعت أبا بكر يتلوها فوقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت
أنه قد مات وقيل
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: نهض عن مصلاه.
[2] وفي النسخة الباريسية: في حجر عائشة.
(2/486)
تلا: معها: إنك ميت وإنهم ميتون الآية.
وبينما هم كذلك إذا جاء رجل يسعى بخبر الأنصار أنهم اجتمعوا في سقيفة
بني ساعدة يبايعون سعد بن عبادة ويقولون منا أمير ومن قريش أمير،
فانطلق أبو بكر وعمر وجماعة المهاجرين إليهم، وأقام عليّ والعبّاس
وابناه الفضل وقثم وأسامة بن زيد يتولون تجهيز رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فغسله عليّ مسندة إلى ظهره والعباس وابناه يقلبونه معه وأسامة
وشقران يصبان الماء وعلي يدلك من وراء القميص [1] لا يفضي إلى بشرته
بعد أن كانوا اختلفوا في تجهيزه ثم أصابتهم سنة فخفقوا وسمعوا من وراء
البيت أن اغسلوه وعليه ثيابه ففعلوا، ثم كفنوه في ثوبين صحاريين وبرد
حبرة أدرج فيهن إدراجا، استدعوا حفارين أحدهما يلحد والآخر يشق، ثم بعث
إليهما العبّاس رجلين وقال اللَّهمّ خر [2] لرسولك فجاء الّذي يلحد وهو
أبو طلحة زيد بن سهل كان يحفر لأهل المدينة فلحد لرسول الله صلى الله
عليه وسلم.
ولما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سرير بيته واختلفوا أيدفن في
مسجده أو بيته فقال أبو بكر سمعته صلى الله عليه وسلم يقول ما قبض نبي
إلّا يدفن حيث قبض، فرفع فراشه الّذي قبض عليه وحفر له تحته، ودخل
الناس يصلون عليه أفواجا الرجال ثم، النساء ثم الصبيان ثم العبيد لا
يؤم أحدهم أحدا، ثم دفن من وسط الليل ليلة الأربعاء وعن عائشة لاثنتي
عشرة ليلة من ربيع الأول فكملت سنو الهجرة عشر سنين كوامل، وتوفي وهو
ابن ثلاث وستين سنة وقيل خمس وستين سنة وقيل ستين.
خبر السقيفة
لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتاع الحاضرون لفقده حتى ظن أنه
لم يمت، واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة يبايعون سعد بن عبادة وهم
يرون أن الأمر لهم بما آووا ونصروا، وبلغ الخبر إلى أبي بكر وعمر
فجاءوا إليهم ومعهم أبو عبيدة ولقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة
فأرادوهم على الرجوع وخفضوا عليهم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: يصبان الماء على يديه من وراء القميص.
[2] وفي نسخة ثانية: اغفر.
(2/487)
الشأن، فأبوا الّا أن يأتوهم فأتوهم في
مكانهم ذلك فأعجلوهم عن شأنهم وغلبوهم عليه جماعا وموعظة. وقال أبو
بكر: نحن أولياء النبي وعشيرته وأحق الناس بأمره ولا ننازع في ذلك،
وأنتم لكم حق السابقة والنصرة، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء. وقال
الحباب بن المنذر [1] بن الجموع: منا أمير ومنكم أمير وإن أبو فاجلوهم
يا معشر الأنصار عن البلاد فبأسيافكم دان الناس لهذا الدين وإن شئتم
أعددناها جذعة [2] أنا جذيلهما المحكك [3] وعذيقها المرجب [4] . وقال
عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا لكم كما تعلمون ولو كنتم
الأمراء لأوصاكم بنا، ثم وقعت ملاحاة بين عمر وابن المنذر [5] ، وأبو
عبيدة يحفضهما ويقول: اتقوا الله يا معشر الأنصار أنتم أوّل من نصر
وآزر فلا تكونوا أول من بدّل وغير.
فقام بشير بن سعد بن النعمان [6] بن كعب بن الخزرج فقال: ألا إن محمدا
من قريش وقومه أحق وأولى، ونحن وإن كنا أولى فضل في الجهاد وسابقة في
الدين، فما أردنا بذلك إلا رضي الله وطاعة نبيه فلا نبتغي به من الدنيا
عوضا، ولا نستطيل به على الناس. فقال الحباب بن المنذر: نفست والله عن
ابن عمك يا بشير. فقال:
لا والله ولكن كرهت أن أنازع قوما حقهم. فأشار أبو بكر إلى عمر وأبي
عبيدة فامتنعا وبايعا أبا بكر وسبقهما إليه بشير بن سعد، ثم تناجي
الأوس فيما بينهم وكان فيهم أسيد بن حضير أحد النقباء وكرهوا إمارة
الخزرج عليهم وذهبوا إلى بيعة أبي بكر فبايعوه، وأقبل الناس من كل جانب
يبايعون أبا بكر وكادوا يطئون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحابه اتقوا
سعدا لا تقتلوه. فقال عمر: اقتلوه قتله الله. وتماسكا فقال أبو بكر:
مهلا يا عمر الرّفق هنا أبلغ. فأعرض عمر ثم طلب سعد في البيعة فأبى
وأشار بشير بن سعد بتركه، وفقال: إنما هو رجل واحد، فأقام سعد لا يجتمع
معهم في الصلاة ولا يفيض معهم في الحديث [7] حتى هلك أبو بكر. ونقل
الطبري
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فقال المنذر بن الحباب.
[2] اي جديدا كما بدأ والأصح ان يقول جذعا بدل جذعة.
[3] الّذي يستجار به ويستغني برأيه.
[4] أي الذكي اللبق والمرجّب المهان (قاموس)
[5] وفي نسخة أخرى: المنذر بن الحباب.
[6] وفي النسخة الباريسية: بشير بن سعد والد النعمان من بني كعب بن
الخزرج.
[7] وفي النسخة الباريسية: في الحج.
(2/488)
أن سعدا بايع يومئذ، وفي أخبارهم أنه لحق بالشام فلم يزل هنالك حتى مات
وأن الجن قتلته وينشدون البيتين الشهرين وهما
نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده ... فرميناه بسهمين فلم نخط فؤاده |