تاريخ ابن خلدون

الخلافة الإسلامية
الخبر عن الخلافة الإسلامية في هذه الطبقة وما كان فيها من الرّدة والفتوحات وما حدث بعد ذلك من الفتن والحروب في الإسلام ثم الاتفاق والجماعة
ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أمر السقيفة كما قدمناه، أجمع المهاجرون والأنصار على بيعة أبي بكر ولم يخالف إلا سعد إن صحّ خلافه فلم يلتفت إليه لشذوذه. وكان من أوّل ما أعتمده إنفاذ بعث أسامة، وقد ارتدت [1] العرب إمّا القبيلة مستوعبة وإمّا بعض منها، ونجم النفاق والمسلمون كالغنم في الليلة الممطرة لقلّتهم وكثرة عدوّهم وإظلام الجوّ بفقد نبيّهم، ووقف أسامة بالناس ورغب من عمر التخلف عن هذا البعث والمقام مع أبي بكر شفقة من أن يدهمه أمر، وقالت له الأنصار فإن أبي إلّا المضي فليول علينا أسنّ من أسامة. فأبلغ عمر ذلك كله أبا بكر فقام وقعد وقال: لا أترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخرج وأنفذه. ثم خرج حتى أتاهم فأشخصهم وشيّعهم وأذن لعمر في الشخوص، وقال: أوصيكم بعشر فاحفظوها عليّ: لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الطفل ولا الشيخ ولا المرأة ولا تفرقوا نخلا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلّا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وإذا لقيتم أقواما فحصوا أواسط رءوسهم وتركوا حولها فتل العصاب فاضربوا بالسيف ما فحصوا عنه، فإذا قرب عليكم الطعام فاذكروا اسم الله عليه وكلوا ترفعوا باسم الله يا أسامة اصنع ما أمرك به نبي الله ببلاد قضاعة ثم أتت آفل ولا تقصر في شيء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» . ثم ودّعه من الجرف ورجع.
وقد كان بعث معه من القبائل من حول المدينة الذين لهم الهجرة في ديارهم وحبس من بقي منهم فصار مسالح حول قبائلهم ومضي أسامة مغذّا وانتهى لما أمر النبي صلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أرادت.

(2/489)


الله عليه وسلم وبعث الجنود في بلاد قضاعة وأغار على أبني [1] فسبى وغنم ورجع لأربعين يوما وقيل لسبعين، ولم يحدث أبو بكر في مغيبه شيئا، وقد جاء الخبر بارتداد العرب عامّة وخاصة إلا قريشا وثقيفا، واستغلظ أمر مسيلمة واجتمع على طليحة عوام طيِّئ وأسد وارتدت غطفان وتوقفت هوازن فأمسكوا الصدقة، وارتد خواص من بني سليم وكذا سائر الناس بكل مكان. وقدمت رسل النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن واليمامة وبنى أسد ومن الأمراء من كل مكان بانتقاض العرب عامّة أو خاصة، وحاربهم بالكتب والرسل وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة، فعاجلته عبس وذبيان ونزلوا في الأبرق ونزل آخرون بذي القصة ومعهم حبال [2] من بني أسد ومن انتسب إليهم من بني كنانة، وبعثوا وفدا إلى أبي بكر نزلوا على وجوه من الناس يطلبون الاقتصار على الصلاة دون الزكاة، فأبي أبو بكر من ذلك، وجعل على أنقاب المدينة عليا والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود، وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد. ورجع وفد المرتدين وأخبروا قومهم بقلّة أهل المدينة فأغاروا على من كان بأنقاب المدينة، فبعثوا إلى أبي بكر فخرج في أهل المسجد على النواضح، فهربوا والمسلمون في أتباعهم إلى ذي خشب، ثم نفروا إبل المسلمين بلعبات اتخذوها فنفرت ورجعت بهم وهم لا يملكونها إلى المدينة ولم يصبهم شيء، وظن القوم بالمسلمين الوهن فبعثوا إلى أهل ذي القصة يستقدمونهم.
ثم خرج أبو بكر في التعبية وعلى ميمنته النعمان بن مقرّن وعلى ميسرته عبد الله بن مقرّن [3] ، وعلى الساقة سويد بن مقرن، وطلع عليهم مع الفجر واقتتلوا فما ذرّ قرن الشمس إلا وقد هزموهم وغنموا ما معهم من الظهر وقتل حبال، واتبعهم أبو بكر إلى ذي القصة فجهز بها النعمان بن مقرن في عدد ورجع إلى المدينة، ووثب بنو ذبيان وعبس على من كان فيهم من المسلمين فقتلوهم وفعل ذلك غيرهم من المرتدين، وحلف أبو بكر ليقتلن من المشركين مثل من قتلوه من المسلمين وزيادة. واعتز المسلمون بوقعة أبي بكر وطرقت المدينة صدقات. وقدم أسامة فاستخلفه أبو بكر على المدينة، وخرج في نفر إلى ذي خشب [4] وإلى ذي القصة ثم سار حتى نزل على أهل
__________
[1] قوله أبنى بضم الهمزة: موضع بناحية البلقاء أهـ.
[2] وفي نسخة ثانية خبال.
[3] وفي النسخة الباريسية: معرور.
[4] وفي النسخة الباريسية: ذي حسا.

(2/490)


الرَّبَذَة بالأبرق وبها عبس وذبيان وبنو بكر من كنانة وثعلبة بن سعد ومن يليهم من مرة، فاقتتلوا وانهزم القوم، وأقام أبو بكر على الأبرق، وحرم تلك البلد على بني ذبيان ثم رجع إلى المدينة.
ردّة اليمن: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى مكة وبني كنانة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف وأرضها عثمان بن أبي العاص على المدر، ومالك بن عوف على الوبر، وعلى عجز هوازن عكرمة بن أبي جهل، وعلى نجران وأرضها عمرو بن حزم على الصلاة، وأبو سفيان بن حرب على الصدقات، وعلى ما بين زمع وزبيد إلى نجران خالد بن سعيد بن العاص، وعلى همدان كلها عامر بن شهر الهمدانيّ، وعلى صنعاء فيروز الديلميّ ومسانده دادويه وقيس بن مكشوح المرادي رجعوا إليها بعد قتل الأسود، وعلى الجنديعلي بن أمية، وعلى مأرب أبو موسى الأشعري، وعلى الأشعريين وعكّ الطاهر بن أبي هالة، وعلى حضرموت زياد بن لبيد البياضي وعكاشة بن ثور بن أصفر الغوثي، وعلى كندة المهاجر بن أبي أمية، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليه في غزوة تبوك فاسترضته له أم سلمة وولاه على كندة، ومرض فلم يصل إليها، وأقام زياد بن لبيد ينوب عنه. وكان معاذ بن جبل يعلم القرآن باليمن يتنقل على هؤلاء وعلى هؤلاء في أعمالهم.
وثار الأسود في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربه بالرسل وبالكتب فقتله الله وعاد الإسلام في اليمن كما كان، فلما بلغهم الموت انتقضت اليمن وارتدّ أهلها في جميع النواحي وكانت الفالة من جند العنسيّ بين نجران وصنعاء لا يأوون إلى أحد، ورجع عمرو بن حزم إلى المدينة واتبعه خالد بن سعيد، وكان عمرو بن معديكرب بالجبال حيال فروة بن مسيك وابن مكشوح وتحيل في قتل الأبناء فيروز ودادويه وخشنش والاستبداد بصنعاء، وبعث إلى الفالة من جيش الأسود يغريهم بالأبناء ويعدهم المظاهرة عليهم فجاءوا إليه، وخشي الأبناء غائلتهم وفزعوا إليه فأظهر لهم المناصحة، وهيأ طعاما فجمعهم له ليغدر بهم فظفر بدادويه وهرب فيروز وخشنش وخرج قيس في أثرهما، فامتنعا بخولان أخوال فيروز وثار قيس بصنعاء وجبى ما حولها، وجمع الفالة من جنود الأسود إليه. وكتب فيروز إلى أبي بكر بالخبر، فكتب له بولاية صنعاء، وكتب إلى الطاهر بن أبي هالة بإعانته، وإلى عكاشة بن ثور بأن يجمع أهل

(2/491)


تهامة ويقيم بمكانه، وكتب إلى ذي الكلاع سميفع [1] وذي ظليم حوشب وذي تبان شهر بإعانة الأبناء وطاعة فيروز وأن الجند يأتيهم. وأرسل إليهم قيس بن مكشوح يغريهم بالأبناء، فاعتزل الفريقان واتبعت عوامّهم قيس بن مكشوح في شأنه، وعمد قيس إلى عيلات الأبناء الذين مع فيروز فغرّبهم وأخرجهم من اليمن في البرّ والبحر وعرضهم للنهبى، فأرسل فيروز إلى بني عقيل بن ربيعة وإلى عكّ يستصرخهم، وفاعترضوا عيال فيروز والأبناء الذين معه فاستنقذوهم وقتلوا من كان معه، وجاءوا إلى فيروز فقاتلوا معه قيس بن مكشوح دون صنعاء فهزموه، ورجع إلى المكان الّذي كان به مع فالة الأسود العنسيّ.
وانضاف قيس إلى عمرو بن معديكرب وهو مرتد منذ تنبأ الأسود العنسيّ، وقام حيال فروة بن مسيك، وقد كان فروة وعمرو أسلما وكذلك قيس، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قيسا على صدقات مراد، وكان عمرو قد فارق قومه سعد العشيرة مع بني زبيد وأحلافها وانحاز إليهم فأسلم معهم وكان فيهم فلما انتقض الأسود، واتبعه عوام مذحج كان عمرو فيمن اتبعه، وأقام فروة فيمن معه على الإسلام فولى الأسود عمرا وجعله بحياله.
وكانت كندة قد ارتدوا وتابعوا الأسود العنسيّ بسبب ما وقع بينهم وبين زياد الكندي في أمر فريضة من فرائض الصدقة أطلقها بعض بني عمرو بن معاوية بعد أن وقع عليها ميسم الصدقة غلطا، فقاتلهم زياد وهزمهم، فاتفق بنو معاوية على منع الصدقة والردّة إلا شراحيل بن السمط وابنه، وأشير على زياد بمعاجلتهم قبل أن ينضم إليهم بعض السكاسك وحضرموت وأبضعه وجمد ومشرح ومخوس وأختهم العمرة، وهرب الباقون ورجع زياد بالسبي والغنائم، ومرّ بالأشعث بن قيس وبني الحرث بن معاوية واستغاث نساء السبي فغار الأشعث وتنقذهم، ثم جمع بني معاوية كلهم ومن أطاعه من السكاسك وحضرموت وأقام على ردّته.
وكان أبو بكر قاد حارب أهل الردة أولا بالكتب والرسل ولم يرسل إلى من ارتد وابتدأ بالمهاجرين والأنصار، ثم استنفر كلا على من يليه حتى فرغ من آخر أمور الناس لا يستعين بمرتد، وكتب إلى عتاب بن أسيد بمكة وعثمان بن أبي العاص بالطائف بركوب من ارتد بمن لم يرتدّ وثبت على الإسلام من أهل عملهما. وقد كان اجتمع
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سميقح.

(2/492)


بتهامة أو شاب [1] من مدلج وخزاعة، فبعث عتاب إليهم ففرّقهم وقتلهم. واجتمع بشنوءة جمع من الأزد وخثعم وبجيلة فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص من فرّقهم وقتلهم. واجتمع بطريق الساحل من تهامة جموع من عكّ والأشعريين فسار إليهم الطاهر بن أبي هالة ومعه مسروق العكّي فهزموهم وقتلوهم، وأقام بالأجناد ينتظر أمر أبي بكر ومعه مسروق العكي. وبعث أهل نجران من بني الأفعى الذين كانوا بها قبل بني الحرث وهم في أربعين ألف مقاتل، وجاء وفدهم يطلبون إمضاء العهد الّذي بأيديهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فأمضاه أبو بكر إلا ما نسخه الوحي بأن لا يترك دينان بأرض العرب.
ورجعت رسل النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان بعثهم عند انتقاض الأسود العنسيّ وهم: جرير بن عبد الله والأقرع ووبر بن يحنس [2] فرد أبو بكر جريرا، ليستنفر من ثبت على الإسلام على من ارتدّ ويقاتل خثعم الذين غضبوا لهدم ذي الحليفة فيقتلهم ويقيم بنجران، فنفذ ما أمره به ولم يمر به أحد إلّا رجال قليل تتبعهم بالقتل، وسار إلى نجران وكتب أبو بكر إلى عثمان بن أبي العاص أن يضرب البعوث على مخاليف أهل الطائف، فضرب على كل مخالف عشرين وأمر عليهم أخاه، كتب إلى عتاب بن أسيد أن يضرب على مكة وعملها خمسمائة بعث وأمر عليهم أخاه خالدا وأقاموا ينتظرون، ثم أمر المهاجر بن أبي أمية بأن يسير إلى اليمن ليصلح من أمره ثم ينفذ إلى عمله وأمره بقتال من بين نجران وأقصى اليمن ففعل ذلك، ومرَّ بمكة والطائف فسار معهم خالد بن أسيد وعبد الرحمن بن أبي العاص بمن معهما، ومرّ بجرير بن عبد الله وعكاشة بن ثور فضمهما إليه، ثم مر بنجران وانضم إليه فروة بن مسيك، وجاءه عمرو بن معديكرب وقيس بن مكشوح فأثقهما وبعث بهما إلى أبي بكر، وسار إلى لقائه فتتبعهم بالقتل ولم يؤمنهم فقتلوا بكل سبيل. وحضر قيس عند أبي بكر فحظر قتل دادويه ولم يجد أمرا جليلا في أمره، وتاب عمرو بن معديكرب واستقال فاقالهما وردّهما.
وسار المهاجر حتى نزل صنعاء وتتبع شذاذ القبائل فقتل من قدر عليه وقبل توبة من رجع إليه وكتب إلى أبي بكر بدخوله صنعاء، فجاءه الجواب بأن يسير إلى كندة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وشباب.
[2] وفي نسخة ثانية: بن مخنس.

(2/493)


مع عكرمة بن أبي جهل وقد جاءه من ناحية عمان ومعه خلق كثير من مهرة والأزد وناجية وعبد القيس وقوم من مالك بن كنانة وبني العنبر، وقدم أبين وأقام بها لاجتماع النخع وحمير ثم سار مع المهاجر إلى كندة، وكتب زياد إلى المهاجر يستحثه فلقيه الكتاب بالمفازة بين مأرب وحضرموت، فاستخلف عكرمة على الناس وتعجل إلى زياد ونهدوا إلى كندة وعليهم الأشعث بن قيس فهزموهم وقتلوهم وفرّوا إلى النجير حصن لهم فتحصنوا فيه مع من استغووه من السكاسك وشذاذ السكون [1] وحضرموت وسدّوا عليهم الطريق إلا واحدة جاء عكرمة بعدهم فسدّها وقطعوا عنهم المدد، وخرجوا مستميتين في بعض الأيام فغلبوهم وأخرجوهم. واستأمن الأشعث إلى عكرمة بما كانت أسماء بنت النعمان بن الجون تحته فخرج إليه، وجاء به إلى المهاجر وأمّنه في أهله وماله وتسعة من قومه على أن يفتح لهم الباب، فاقتحمه المسلمون وقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية فكان في السبي ألف امرأة، فلما فرغ من النجير دعا بكتاب الأمان من الأشعث وإذا هو قد كتب غرض نفسه في التسعة رجال من أصحابه، فأوثقه كتافا وبعث به إلى أبي بكر ينظر في أمره، فقدم مع السبايا والأسرى، فقال له أبو بكر: أقتلك. قال إني راودت القوم على عشرة وأتيناهم بالكتاب مختومة، فقال أبو بكر: إنما الصلح على من كان في الصحيفة وأما غير ذلك فهو مردود [2] . فقال يا أبا بكر: احتسب في وأقلني واقبل إسلامي وردّ عليّ زوجتي، وقد كان تزوج أم فروة أخت أبي بكر حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرها إلى أن يرجع، فأطلقه أبو بكر وقبل إسلامه وردّ عليه زوجته وقال ليبلغني عنك خير، ثم خلّي عن القوم فذهبوا وقسم الأنفال.
بعث الجيوش للمرتدين
لما قدم أسامة ببعث الشام على أبي بكر استخلفه على المدينة ومضى إلى الرَّبَذَة فهزم بني عبس وذبيان وكنانة بالأبرق ورجع إلى المدينة كما قدّمناه، حتى إذا استجم جند أسامة وتاب من حوالي المدينة خرج إلى ذي القصة على بريد من تلقاء نجد، فقعد فيها أحد عشر لواء على أحد عشر جندا لقتال أهل الردّة، وأمر كل واحد باستنفار
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وشذاذ الكون.
[2] وفي النسخة الباريسية: واما قبل ذلك فهو مراودة.

(2/494)


من يليه من المسلمين من كل قبيلة، وترك بعضها لحماية البلاد. فعقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة وبعده لمالك بن نويرة بالبطاح، ولعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة واليمامة ثم اردفه بشرحبيل بن حسنة وقال له: إذا فرغت من اليمامة فسر إلى قتال قضاعة ثم تمضي إلى كندة بحضرموت، ولخالد بن سعيد بن العاص وقد كان قدم بعد الوفاة الى المدينة من اليمن وترك أعماله فبعثه إلى مشارف الشام، ولعمرو بن العاص إلى قتال المرتدة من قضاعة، ولحذيفة بن محصن وعرفجة بن هرثمة فحذيفة لأهل دبا وعرفجة لمهرة وكل واحد منهما أمير في عمله على صاحبه، ولطريفة بن حاجز وبعثه إلى بني سليم ومن معهم من هوازن، ولسويد بن مقرن وبعثه إلى تهامة اليمن، وللعلاء بن الحضرميّ وبعثه إلى البحرين.
وكتب إلى الأمراء عهودهم بنص واحد: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام وعهد اليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره بالجدّ في أمر الله ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بدعاية الإسلام فإن أجابوه أمسك عنهم وإن لم يجيبوه شنّ غارته عليهم حتى يقرّوا له ثم ينبئهم بالذي عليهم والّذي لهم فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الّذي لهم لا ينظرهم ولا يردّ المسلمين عن قتال عدوّهم. فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقرّ له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروب. وطنماذ يقاتل من كفر باللَّه على الإقرار بما جاء من عند الله فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل وكان الله حسيبه بعد فيما استسرّ به، ومن لم يجب إلى داعية الله قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغمة لا يقبل الله من أحد شيئا مما أعطى إلّا الإسلام فمن أجابه وأقرّ قبل منه وأعانه، ومن أبى قاتله فإن أظهره الله عليه عز وجلّ قتلهم فيه كل قتلة بالسلاح والنيران ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخمس فإنه يبلغناه ويمنع أصحابه العجلة والفساد وأن يدخل فيهم حشوا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لئلا يكونوا عيونا ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم، وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم ولا يعجل عن بعض ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول» انتهى.
وكتب إلى كل من بعث إليه الجنود من المرتدة كتابا واحدا في نسخ كثيرة على يد رسل تقدّموا بين أيديهم نصه بعد البسملة: «هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى

(2/495)


الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة أو خاصة أقام على الإسلام أو رجع عنه، سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع إلى الضلالة والهوى، [1] فإنّي أحمد إليكم الله الّذي لا إله إلّا هو وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأو من بما جاء به وأكفر من أبى وأجاهده أما بعد» . ثم قرّر أمر النبوة ووفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطنب في الموعظة ثم قال: «وإني بعثت إليكم فلانا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وأمرته ألا يقاتل أحد ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحا قبل منه وأعانه، ومن أبى أمرته أن يقاتله على ذلك ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه فمن اتبعه فهو خير له ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم والداعية للأذان فإذا أذن المسلمون فأذنوا كفّوا عنهم وإن لم يؤذنوا فاسألوهم بما عليهم فإن أبو عاجلوهم وإن أقرّوا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم» انتهى. فنفذت الرسل بالكتب أمام الجنود وخرجت الأمراء ومعهم العهود وكان أوّل ما بدأ به خالد طليحة وبني أسد.
خبر طليحة
كان طليحة قد ارتدّ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كاهنا فادّعى النبوّة واتبعه أفاريق من بني إسرائيل [2] ونزل سميراء، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرار بن الأزور إلى قتاله مع جماعة، فاجتمع عليهم المسلمون وهم ضرار بمناجزته، فأتى الخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم فاستطار أمر طليحة واجتمعت إليه غطفان وهوازن وطيِّئ، وفرّ ضرار ومن معه من العمال إلى المدينة وقدمت وفودهم على أبي بكر في الموادعة على ترك الزكاة فأبى من ذلك، وخرج كما قدّمناه إلى غطفان وأوقع بهم بذي القصة فانضموا بعد الهزيمة إلى طليحة وبني أسد ببزاخة وكذلك فعلت طيِّئ وأقامت بنو عامر وهوازن ينتظرون.
وجمل [3] خالد إلى طليحة ومعه عيينة بن حصن على بزاخة من مياه بني أسد وأظهر أنه
__________
[1] وفي نسخة الباريسية: والعمى.
[2] وفي النسخة الباريسية: بني أسد.
[3] وفي نسخة ثانية: صمد.

(2/496)


يقصد خيبر ثم ينزل إلى سلمى وأجأ فيبدأ بطيء. وكان عديّ بن حاتم قد خرج معه في الجيش فقال له: أنا أجمع لك قبائل طيِّئ يصحبونك إلى عدوّك. وسار إليهم فجاء بهم وبعث خالد عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم من الأنصار طليحة ولقيهما طليحة وأخوه فقتلاهما ومرّ بهما المسلمون فعظم عليهم قتلهما. ثم عبّى خالد كتائبه وثابت بن قيس على الأنصار وعديّ بن حاتم على طيِّئ ولقي القوم فقاتلهم، وعيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من غطفان، واشتدّ المجال بينهم وطليحة في عباءة يتكذب لهم في انتظار الوحي، فجاء عيينة بعد ما ضجر من القتال [1] وقال: هل جاءك أحد بعد؟ قال: لا ثم راجعه ثانية ثم ثالثة فقال: جاء. وقال إنّ لك رحى كرحاه، وحديثا لا تنساه. فقال عيينة: يا بني فزارة الرجل كذاب، وانصرف فانهزموا وقتل من قتل وأسلم الناس طليحة فوثب على فرسه واحتقب امرأته فنجا بها إلى الشام، ونزل في كلب [2] من قضاعة على النقع حتى أسلمت أسد وغطفان، فأسلم ثم خرج معتمرا أيام عمر ولقيه بالمدينة فبايعه وبعثه في عساكر الشام، فأبلى في الفتح، ولم يصب عيالات بني أسد في واقعة بزاخة شيء لأنهم كانوا أخرجوهم في الحصون عند واسط وأسلموا خشية على ذراريهم.
خبر هوازن وسليم وبني عامر
كان بنو عامر ينتظرون أمر طليحة وما تصنع أسد وغطفان حتى أحيط بهم وكان قرة ابن هبيرة في كعب وعلقمة بن علاثة [3] في كلاب وكان علقمة قد ارتد بعد فتح الطائف، ولما قبض النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قومه، وبلغ أبا بكر خبره فبعث إليه سرية مع القعقاع ابن عمر ومن بني تميم فأغار عليهم، فأفلت وجاء بأهله وولده وقومه فأسلموا. وكان قرّة بن هبيرة قد لقي عمرو بن العاصي منصرفه من عمان بعد الوفاة وأضافه وقال له: اتركوا الزكاة فانّ العرب لا تدين لكم بالإتاوة، فغضب لها عمرو وأسمعه وأبلغها أبا بكر، فلما أوقع خالد ببني أسد وغطفان وكانت هوازن وسليم وعامر ينتظرون أمرهم فجاءوا إلى خالد وأسلموا وقبل منهم الإسلام، إلا من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عند ما ظهر القتال.
[2] اي نزل عند بني كلب.
[3] وفي نسخة ثانية: بن علاقة.

(2/497)


عدا على أحد من المسلمين أيام الردّة فإنه تتبعهم فأحرق وقمط [1] ورضخ بالحجارة ورمى من رءوس الجبال، ولما فرغ من أمر بني عامر أوثق عيينة بن حصن وقرّة بن هبيرة وبعث بهما إلى أبي بكر فتجاوز لهما وحقّ دماءهما.
ثم اجتمعت قبائل غطفان إلى سلمى بنت مالك بن حذيفة من بدر بن ظفر في الحوأب فنزلوا إليها وتذامروا، وكانت سلمى هذه قد سبيت قبل وأعتقتها عائشة وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوما وقد دخل عليها وهي في نسوة ببيت عائشة فقال:
إنّ أحدا كن تستنبح كلاب الحوأب، وفعلت ذلك واجتمع إليها الفلال من غطفان وهوازن وسليم وطيِّئ وأسد، وبلغ ذلك خالدا وهو يتبع الثأر ويأخذ الصدقات، فسار إليهم وقاتلهم وسلمى واقفة على جملها حتى عقر وقتلت وقتل حول هودجها مائة رجل، فانهزموا وبعث خالد بالفتح على أثره بعده بعشرين ليلة.
وأما بنو سليم فكان الفجاءة بن عبد ياليل قدم على أبي بكر يستعينه مدعيا إسلامه ويضمن له قتال أهل الردّة فأعطاه وأمره، وخرج إلى الجون وارتد وبعث نجية بن أبي المثنى ومن بني الشريد، وأمره بشن الغارة على المسلمين في سليم وهوازن. فبعث أبو بكر إلى طريفة بن حاجز قائده على جرهم وأعانه بعبد الله بن قيس الحاسبي فنهضا إليه ولقياه، فقتل نجية وهرب الفجاءة فلحقه طريفة فأسره وجاء به إلى أبي بكر فأوقد له في مصلى المدينة حطبا ثم رمى به في النار مقموطا، وفاءت بنو سليم كلهم وفاء معهم أبو شجرة بن عبد العزى بأو الخنساء وكان فيمن ارتد.
خبر بني تميم وسجاح
قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعماله في بني تميم الزبرقان بن بدر على الرباب وعوف والأبناء وقيس بن عاصم على المقاعس والبطون وصفوان بن صفوان وسبرة بن عمرو على بني عمرو ووكيع بن مالك على بني مالك ومالك بن نويرة على حنظلة [2] ، فجاء صفوان إلى أبي بكر حين بلغته الوفاة بصدقات بني عمرو، وجاء الزبرقان بصدقات أصحابه، وخالفه قيس بن عاصم في المقاعس والبطون لأنه كان ينتظره، وبقي من أسلم منهم متشاغلا بمن تربص أو ارتاب. وبينما هم على ذلك فجئتهم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وقحط.
[2] وفي نسخة ثانية: على بني حنظلة.

(2/498)


سجاح [1] بنت الحارث بن سويد من بني عقفان أحد بطون تغلب وكانت تنبأت بعد الوفاة، واتبعها الهذيل بن عمران في بني تغلب وعقبة بن هلال في النمر والسليل بن قيس في شيبان وزياد بن بلال وكان الهذيل نصرانيا فترك دينه إلى دينها، وأقبلت من الجزيرة في هذه المجموع قاصدة المدينة لتغزو أبا بكر والمسلمين، وانتهت إلى الجرف [2] فدهم بني تميم أمر عظيم لما كانوا عليه من اختلاف الكلمة، فوادعها مالك بن نويرة وثناها عن الغزو وحرّضها [3] على بني تميم ففرّوا أمامها، ورجع إليها وكيع بن مالك واجتمعت الرباب وضبة فهزموا أصحاب سجاح وأسروا منهم، ثم اصطلحوا.
وسارت سجاح فيمن معها تريد المدينة فبلغت النباج فاعترضهم بنو الهجيم [4] فيمن تأشب [5] إليهم من بني عمرو وأغاروا عليهم فأسر الهذيل وعقبة، ثم تحاجزوا على أن تطلق أسراهم ويرجعوا ولا يجتازوا عليهم، ورجع عن سجاح مالك بن نويرة ووكيع بن مالك إلى قومهم ويئست سجاح وأصحابها من الجواز عليهم، ونهدت إلى بني حنيفة وسار معها من تميم الزبرقان بن بدر [6] وعطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم وغيلان بن حريث [7] وشبث بن ربعي ونظراؤهم، وصانعها مسيلمة بما كان فيه من مزاحمة ثمامة بن أثال له في اليمامة. وزحف شرحبيل بن حسنة والمسلمون إليه فاهدى لها واستأمنها وكانت نصرانية أخذت الدين من نصارى تغلب، فقال لها مسيلمة:
نصف الأرض لنا ونصف الأرض لقريش لكنهم لم يعدلوا فقد جعلت نصفهم لك.
ويقال إنها جاءت إليه واستأمنته وخرج إليها من الحصن إلى قبة ضربت لها بعد أن جمرها [8] فدخل إليها وتحرّك الحرس حوالي القبة فسجع لها وسجعت له من أسجاع الفرية، فشهدت له بالنّبوّة وخطبها لنفسه فتزوجته وأقامت عنده ثلاثا ورجعت إلى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: شجاح.
[2] وفي نسخة ثانية: الحرث.
[3] وفي النسخة الباريسية: فحملها على بني تميم.
[4] وفي نسخة ثانية: النجيم.
[5] تأشب القوم: اختلطوا (قاموس) .
[6] وفي النسخة الباريسية: بن زيد.
[7] وفي النسخة الباريسية: بن حرسه.
[8] اي نجرّها وطيّبها وفي النسخة الباريسية خمرها.

(2/499)


قومها، فعذلوها في التزويج على غير صداق فرجعت إليه فقال لها: ناد في أصحابك إني وضعت عنهم صلاة الفجر والعتمة مما فرض عليهم محمد، وصالحته على أن يحمل لها النصف من غلات اليمامة فأخذته وسألت أن يسلفها النصف للعام القابل، ودفعت الهذيل وعقبة لقضبه فهم على ذلك، وإذا بخالد بن الوليد وعساكره قد أقبلوا فانفضت جموعهم وافترقوا، ولحقت سجاح بالجزيرة فلم تزل في بني تغلب حتى نقل معاوية عام الجماعة بني عقفان عشيرتها إلى الكوفة، وأسلمت حينئذ سجاح وحسن إسلامها. ولما افترق وفد الزبرقان والأقرع على أبي بكر وقالا: اجعل لنا خراج البحرين ونحن نضمن لك أمرها ففعل وكتب لهم بذلك، وكان طلحة بن عبيد الله يتردّد بينهم في ذلك، فجاء إلى عمر ليشهد في الكتاب فمزقه ومحاه وغضب طلحة، وقال لأبي بكر رضي الله عنه: أنت الأمير أم عمر رضي الله عنه؟ فقال:
عمر غير أن الطاعة لي. وشهد الأقرع والزبرقان مع خالد اليمامة والمشاهد كلها. ثم مضى الأقرع مع شرحبيل إلى دومة.
البطاح ومالك بن نويرة
لما انصرفت سجاح إلى الجزيرة وراجع بنو تميم الإسلام أقام مالك بن نويرة متحيرا في أمره واجتمع إليه من تميم بنو حنظلة واجتمعوا بالبطاح، فسار إليهم خالد بعد أن تقاعد عنه الأنصار يسألونه انتظار أبي بكر، فأبي إلا انتهاز الفرصة من هؤلاء، فرجعوا إلى اتباعه ولحقوا به. وكان مالك بن نويرة لما تردّد في أمره فرّق بني حنظلة في أموالهم ونهاهم عن القتال ورجع إلى منزله، ولما قدم خالد بعث السرايا يدعون إلى الإسلام ويأتون بمن لم يجب أن يقتلوه، فجاءوا بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع واختلفت السريّة فيهم، فشهد أبو قتادة أنهم أذنوا وصلّوا فحبسهم عند ضرار بن الأزور وكانت ليلة ممطرة فنادى مناديه أن أدفئوا أسراكم وكانت في لغة كنانة كناية [1] عن القتل فبادر ضرار بقتلهم وكان كنانيا. وسمع خالد الواعية فخرج متأسفا وقد فرغوا منهم، وأنكر عليه أبو قتادة فزجره خالد، فغضب ولحق بأبي بكر ويقال: إنهم لما جاءوا بهم إلى خالد خاطبه مالك بقوله: فعل صاحبكم شأن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وكانت في لغته كناية.

(2/500)


صاحبكم فقال له خالد: أو ليس لك بصاحب؟ ثم قتله [1] وأصحابه كلهم ثم قدم خالد على أبي بكر وأشار عمر أن يقيد منه بمالك بن نويرة أو يعزله فأبى، وقال:
ما كنت أشيم سيفا سلّه الله على الكافرين، وودى مالكا وأصحابه وردّ خالدا إلى عمله.
خبر مسيلمة واليمامة
لما بعث أبو بكر عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة وأتبعه شرحبيل استعجل عكرمة فانهزم وكتب إلى أبي بكر بالخبر، فكتب إليه لا ترجع فتوهن الناس وامض إلى حذيفة وعرفجة فقاتلوا مهرة وأهل عما فإذا فرغتم فامض أنت وجنودك واستنفروا من مررتم عليه حتى تلقوا المهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت، وكتب إلى شرحبيل يمضي إلى خالد فإذا فرغتم فامض أنت إلى قضاعة فكن مع عمرو بن العاص على من ارتدّ منهم. ولما فرغ خالد من البطاح ورضي عنه أبو بكر بعثه نحو مسيلمة وأوعب معه الناس، وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد وعلى الأنصار ثابت بن قيس والبرّاء بن عازب، وتعجّل خالد إلى البطاح وانتظر البعوث حتى قدمت عليه، فنهض إلى اليمامة وبنو حنيفة يومئذ كثير يقال أربعون ألف مقاتل متفرقين في قراها وحجرها، وتعجل شرحبيل كما فعل عكرمة بقتال مسيلمة فنكب وجاء خالد فلامه على ذلك.
ثم جاء خليط من عند أبي بكر مددا لخالد ليكون ردءا له من خلفه ففرّت جموع كانت تجمعت هنالك من فلال سجاح، وكان مسيلمة قد جعل لها جعلا.
وكان الرّجال [2] بن عنفوة من أشراف بني حنيفة شهد لمسيلمة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه معه في الأمر لأنّ الرجال، كان قد هاجر وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وتفقّه في الدين فلما ارتدّ مسيلمة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم معلما لأهل اليمامة ومشغبا على مسيلمة فكان أعظم فتنة على بني حنيفة
__________
[1] رثاه اخوه بقصيدة من أشجا الشعر وأحزنه. منها:
لقد لامني عند القبور على البكا ... رفيقي لتذراف الدموع السوافك
وقال أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى، فالدكادك؟
فقلت له: إن الشجا يبعث الشجا ... فدعني فهذا كله قبر مالك.
[2] الرجّال بوزن شدّاد بالجيم، قال في القاموس: ووهم من ضبطه بالحاء. واسمه على ما في البداية: نهار اقاله نصر) وفي النسخة الباريسية الرحال

(2/501)


منه. واتبع مسيلمة على شأنه وشهد له وكان يؤذن لمسيلمة ويشهد له بالرسالة بعد النبي صلى الله عليه وسلم:، فعظم شأنه فيهم وكان مسيلمة ينتهي إلى أمره، وكان مسيلمة يسجع لهم بأسجاع كثيرة يزعم أنها قرآن يأتيه، ويأتي بمخارق يزعم أنها معجزات فيقع منها ضدّ المقصود.
ولما بلغ مسيلمة وبني حنيفة دنو خالد، خرجوا وعسكروا في منتهى ريف اليمامة [1] واستنفروا الناس فنفروا إليهم، وأقبل خالد ولقيه شرحبيل بن حسنة فجعله على مقدمته، حتى إذا كان على ليلة من القوم هجموا على مجاعة في سرية أربعين أو ستين راجعين من بلاد بني عامر وبني تميم يثأرون فيهم فوجدوهم دون ثنية اليمامة فقتلوهم أجمعين، وقيل له استبق مجاعة بن مرارة إن كنت تريد اليمامة فاستبقى.
ثم سار خالد ونازل بني حنيفة ومسيلمة والرجال على مقدمة مسيلمة واشتدت الحرب وانكشف المسلمون حتى دخل بنو حنيفة خباء خالد، ومجاعة بها أسير مع أم متمم [2] زوجة خالد، فدافعهم عنها مجاعة وقال: نعمت الحرة. ثم تراجع المسلمون وكرّوا على بني حنيفة فقال المحكم بن الطفيل: ادخلوا الحديقة يا بني حنيفة فاني أمنع أدباركم، فقاتل ساعة ثم قتله عبد الرحمن بن أبي بكر، ثم تذامر المسلمون وقاتل ثابت بن قيس فقتل ثم زيد بن الخطاب ثم أبو حذيفة ثم سالم مولاه ثم البراء أخو أنس بن مالك وكان تأخذه عند الحرب رعدة حتى ينتفض ويقعد عليه الرجال حتى يبول، ثم يثور كالأسد فقاتل وفعل الأفاعيل. ثم هزم الله العدو وألجأهم المسلمون إلى الحديقة وفيها مسيلمة فقال البراء ألقوني عليهم من أعلى الجدار فاقتحم، وقاتلهم على باب الحديقة ودخل المسلمون عليهم، فقتل مسيلمة وهو مزبد متساند لا يعقل من الغيظ، وكان زيد بن الخطاب قتل الرجال بن عنفوة. وكان خالد لما نازل بني حنيفة ومسيلمة ودارت الرحى عليه طلب البراز فقتل جماعة، ثم دعا مسيلمة للبراز والكلام محادثة يجاول فيه غرة وشيطانه يوسوس إليه، ثم ركبه خالد فأرهقه وأدبروا وزالوا عن مراكزهم وركبهم المسلمون فانهزم [3] . وتطاير الناس عن مسيلمة بعد أن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ريف اليمن.
[2] وفي رواية: غير أم تميم، وفي النسخة الباريسية مع أم أميم.
[3] اي فانهزم أصحاب مسيلمة.

(2/502)


قالوا له أين ما كنت تعدنا؟ فقال: قاتلوا على أحسابكم. وأتاه وحشي فرماه بحربته فقتل.
واقتحم الناس عليه حديقة الموت من حيطانها وأبوابها فقتل فيها سبعة عشر ألف مقاتل من بني حنيفة، وجاء خالد بمجاعة ووقفه على القتلى ليريه مسيلمة فمرّ بمحكم فقال: هو ذا؟ فقال مجاعة: هذا والله خير منه، ثم أراه مسيلمة رويجل دميم أخينس، فقال خالد: هذا الّذي فعل فيكم ما فعل، فقال مجاعة: قد كان ذلك وإنه والله ما جاءك إلّا سرعان الناس وإنّ جماهيرهم في الحصون فهلم أصالحك على قومي. وقد كان خالد التقط من دون الحصون ما جاء من مال ونساء وصبيان ونادى بالنزول عليها فلما قال له مجاعة ذلك قال له: أصالحك على ما دون النفوس. وانطلق يشاورهم فأفرغ السلاح على النساء ووقفن بالسور ثم رجع إليه وقال أبوا أن يجيزوا يشاورهم فأفرغ السلاح على النساء ووقفن بالسور ثم رجع إليه وقال أبوا أن يجيزوا ذلك، ونظر خالد إلى رءوس الحصون قد اسودّت والمسلمون قد نهكتهم الحرب وقد قتل من الأنصار ما ينيف على الثلاثمائة وستين، ومن المهاجرين مثلها ومن التابعين لهم مثلها أو يزيدون، وقد فشت الجراحات فيمن بقي، فجنح إلى السلم فصالحه على الصفراء والبيضاء، ونصف السبي والحلقة وحائط ومزرعة من كل قرية، فأبوا فصالحهم على الربع فصالحوه. وفتحت الحصون فلم يجد فيها إلّا النساء والصبيان فقال خالد: خدعتني يا مجاعة فقال: قومي ولم أستطع إلّا ما صنعت فعقد له وخيرهم ثلاثا فقال: له سلمة بن عمير لا نقبل صلحا ونعتصم بالحصون ونبعث إلى أهل القرى فالطعام كثير والشتاء قد حضر، فتشاءم مجاعة برأيه وقال لهم لولا أني خدعت القوم ما أجابوا إلى هذا، فخرج معه سبعة من وجوه القوم وصالحوا خالدا وكتب لهم وخرجوا إلى خالد للبيعة والبراءة مما كانوا عليه. وقد أضمر سلمة بن عمير الفتك بخالد فطرده حين وقعت عينه عليه وأطلع أصحابه على غدره فأوثقوه وحبسوه ثم أفلت فاتبعوه وقتلوه. وكان أبو بكر بعث إلى خالد مع سلمة بن وقش إن أظفره الله أن يقتل من جرت عليه الموسى من بني حنيفة، فوجده قد صالحهم فأتم عقده معهم، ووفى لهم وبعث وفدا منهم إلى أبي بكر بإسلامهم فلقيهم وسألهم عن اسجاع مسيلمة فقصّوها عليه، فقال سبحان الله هذا الكلام ما خرج من إلّا ولا برّ فأين يذهب بكم عن أحلامكم وردّهم إلى قومهم.

(2/503)


ردّه الحطم وأهل البحرين
لما فرغ خالد من اليمامة ارتحل عنها إلى واد من أوديتها وكانت عبد القيس وبكر بن وائل وغيرهم من أحياء ربيعة قد ارتدّوا بعد الوفاة وكذا المنذر بن ساوى من بعدها بقليل، فأما عبد القيس فردّهم الجارود بن المعلى وكان قد وفد وأسلم ودعا قومه فأسلموا فلما بلغهم خبر الوفاة ارتدوا وقالوا لو كان نبيا ما مات فقال لهم الجارود تعلمون أن الله أنبياء من قبله ولم تروهم وتعلمون أنهم ماتوا ومحمد صلى الله عليه وسلم قد مات ثم تشهد فتشهدوا معه وثبتوا على إسلامهم، وخلوا بين سائر ربيعة وبين المنذر بن ساوى والمسلمين.
وقال ابن إسحاق كان أبو بكر بعث العلاء بن الحضرميّ إلى المنذر وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاه فلما كانت الوفاة وارتدت ربيعة ونصبوا المنذر بن النعمان بن المنذر وكان يسمّى المغرور، فأقاموه ملكا كما كان قومه بالحيرة، وثبت الجارود وعبد القيس على الإسلام، واستمرّ [1] بكر بن وائل على الردّة، وخرج الحطم بن ربيعة أخو بني قيس بن ثعلبة حتى نزل بين القطيف وهجر، وبعث إلى دارين فأقاموا.
ليجعل عبد القيس بينه وبينهم، وأرسل إلى المغرور بن سويد أخي النعمان بن المنذر وبعثه إلى جواثى [2] وقال اثبت فان ظفرت ملكتك بالبحرين حتى تكون كالنعمان بالحيرة، فحاصره المسلمون [3] بجواثى وجاء العلاء بن الحضرميّ لقتال أهل الردة بالبحرين ومر باليمامة فاستنفر ثمامة بن أثال في مسلمة بني حنيفة وكان مترددا، وألحق عكرمة بعمان ومهرة، وأمر شرحبيل بالمقام حيث هو يغاور مع عمرو بن العاص أهل الردّة من قضاعة، عمرو يغاور سعدا وبلق وشرحبيل يغاور كلبا ولفها. ثم مرّ ببلاد بني تميم فاستقبله بنو الرباب وبنو عمرو [4] ومالك بن نويرة بالبطاح يقاتلهم ووكيع بن مالك يواقف عمرو بن العاص وقيس بن عاصم من المقاعس، والبطون يواقف الزبرقان بن بدر والأبناء عوف وقد أطاعوه على الإسلام وحنظلة متوقفون. فلما رأى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: واستفحل أمر بكر.
[2] وفي النسخة الباريسية: الى جولة.
[3] وفي النسخة الباريسية: فحاصر المسلمين.
[4] وفي نسخة ثانية، بنو عمر.

(2/504)


قيس بن عاصم تلقى الرباب وبني عمر [1] وقدم وجاء بالصدقات إلى العلاء وخرج معه لقتال البحرين، فسار مع العلاء من بني تميم مثل عسكره ونزل هجر وبعث إلى الجارود أن ينازل بعبد القيس الحطم وقومه مما يليه، واجتمع المشركون إلى الحطم إلا أهل دارين، والمسلمون إلى العلاء، وخندقوا واقتتلوا وسمعوا في بعض الليالي ضوضأة شديدة أي جلبة وصياحا وبعثوا من يأتيهم بخبرها فجاءهم بأنّ القوم سكارى، فبيتوهم ووضعوا السيوف فيهم واقتحموا الخندق وفر القوم هرابا فمتمرد وناج ومقتول ومأسور.
وقتل قيس بن عاصم الحطم بن ربيعة، ولحق جابر بن بحير وضربه فقطع عصبه ومات، وأسر عفيف بن المنذر والمغرور بن سويد وقال للعلاء: أجرني فقال له العلاء: أنت غررت بالناس، فقال: لكني أنا مغرور، ثم أرسل وأقام بهجر.
ويقال إن المغرور اسمه وليس هو بلقب وقتل المغرور بن سويد بن المنذر وقسم الأنفال بين الناس، وأعطى عفيف بن المنذر وقيس بن عاصم وثمامة بن أثال من أسلاب القوم وثيابهم، وقصد الفلال إلى دارين وركبوا السفين إليها ورجع الآخرون إلى قومهم.
وكتب العلاء إلى من أقام على إسلامه من بكر بن وائل بالقعود لأهل الردة في السبل وإلى خصفة التميمي والمثنى بن حارثة بمثل ذلك، فرجعوا إلى دارين وجمعهم الله بها. ثم لما جاءته كتب بكر بن وائل وعلم حسن إسلامهم أمر أن يؤتى من خلفه على أهل البحرين ثم لما ندب الناس إلى دارين وأن يستعرضوا البحر، فارتحلوا واقتحموا البحر على الظهر، وكلهم يدعو: يا ارحم الراحمين يا كريم يا حليم يا أحد يا صمد يا حي يا محيي الموتى يا حيّ يا قيوم لا إليه إلّا أنت يا ربنا. ثم أجازوا الخليج يمشون على مثل رمل مشيا فوقها ما يغمر أخفاف الإبل في مسيرة يوم وليلة، فلقوا العدوّ واقتتلوا، وما تركوا بدارين مخبرا وسبوا الذراري واستاقوا الأموال، وبلغ نفل الفارس ستة آلاف والراجل ألفين.
ورجع العلاء إلى البحرين وضرب الإسلام بجرانه. ثم أرجف المرجفون بأن أبا شيبان وثعلبة والحرقد جمعهم مفروق الشيبانيّ على الردة، فوثق العلاء باللهازم وتقاربهم [2]
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يلقي الرباب وعمرو العلاء.
[2] وفي نسخة أخرى: بان اللهازم تفارقهم.

(2/505)


وكانوا مجمعين على نصره، وأقبل العلاء بالناس فرجعوا إلى من أحب المقام، وقفل ثمامة بن أثال فيهم. ومرّوا بقيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل فرأوا خميصة الخطم عليه فقالوا هو قتله! فقال: لم أقتله ولكن الأمير نفلنيها فلم يقبلوا وقتلوه. وكتب العلاء إلى أبي بكر بهزيمة أهل الخندق وقتل الخطم قتله زيد وسميفع [1] فكتب إليه أبو بكر إن بلغك عن بني ثعلبة ما خاض فيه المرجفون فابعث إليهم جندا وأوصهم وشرّد بهم من خلفهم.
ردة أهل عمان ومهرة واليمن [2]
نبغ بعمان بعد الوفاة رجل من الأزد يقال له لقيط بن مالك الأزدي يسامى في الجاهلية الجلندي فدفع عنها الملكين اللذين كانا بها، وهما جيفر وعبد [3] ابنا الجلندي، فارتدّ وادعى النبوة وتغلب على عمان ودفع عنها الملكين، وبعث جيفر إلى أبي بكر بالخبر، فبعث أبو بكر حذيفة بن محصن من حمير وعرفجة البارقي، حذيفة إلى عمان وعرفجة إلى مهرة، وإن اجتمعا فالأمير صاحب العمل، وأمرهما أن يكاتبا كما مرّ، فأمره بالمسير إلى حذيفة وعرفجة ليقاتل معهما عمان ومهرة ويتوجه إذا فرغ من ذلك إلى اليمن، فمضى عكرمة فلحق بهما قبل أن يصلا إلى عمان، وقد عهد إليهم أبو بكر أن ينتهوا إلى رأي عكرمة، فراسلوا جيفرا وعبدا وبلغ لقيطا مجيء الجيوش فعسكر بمدينة دبا وعسكر جيفر وعبد بصحار، واستقدموا عكرمة وحذيفة وعرفجة وكاتبوا رؤساء الدين فقدموا بجيوشهم [4] ، ثم صمدوا إلى لقيط وأصحابه فقاتلوهم، وقد أقام لقيط عياله وراء صفوفه، وهمّ المسلمون بالهزيمة حتى جاءهم مددهم من بني ناجية وعليهم الحريث [5] بن راشد ومن عبد القيس وعليهم سنجار بن صرصار [6] فانهزم العدوّ وظفر [7] المسلمون، وقتلوا منهم نحوا من عشرة آلاف وسبوا الذراري والنساء
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مسمع.
[2] وفي النسخة الباريسية: النمر. وفي الكامل ج 2 ص 374 ردّة اليمن.
[3] وفي نسخة ثانية: عبّاد.
[4] وفي النسخة الباريسية: فارفضوا إليهم.
[5] وفي نسخة ثانية: الخرّيت.
[6] وفي نسخة ثانية: سبحان بن صوحان.
[7] وفي النسخة الباريسية: واثخن.

(2/506)


وتمّ الفتح، وقسّموا الأنفال وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة وكان الخمس ثمانمائة رأس.
وأقام حذيفة بعمان وسار عكرمة إلى مهرة وقد استنفر أهل عمان ومن حولها من ناحيته الأزد وعبد القيس وبني سعيد من تميم، فاقتحم مهرة بلادهم وهم على فرقتين يتنازعان الرئاسة فأجابه أحد الفريقين، وسار إلى الآخرين فهزمهم وقتل رئيسهم، وأصابوا منهم ألفي نجيبة. وأفاد المسلمون قوة بغنيمتهم وأجاب أهل تلك النواحي إلى الإسلام وهم أهل نجد والروضة والشاطئ والجزائر والمر واللبان وأهل جيرة وظهور الشحر [1] والفرات وذات الخيم، فاجتمعوا كلهم على الإسلام، وبعث إلى أبي بكر بذلك مع البشير وسارعوا إلى اليمن للقاء المهاجر بن أبي أمية كما عهد إليه أبو بكر.
بعوث العراق وصلح الحيرة
ولما فرغ خالد من أمر اليمامة بعث إليه أبو بكر في المحرم من سنة اثنتي عشرة فأمره بالمسير إلى العراق ومرج الهند وهي الأبلة منتهى بحر فارس في جهة الشمال قرب البصرة، فيتألف أهل فارس ومن في مملكتهم من الأمم. فسار من اليمامة وقيل قدم على أبي بكر ثم سار من المدينة، وانتهى إلى قرية بالسواد وهي بانقيا وبرسوما وصاحبهما جابان، فجاء صلوبا فصالحهم على عشرة آلاف دينار [2] فقبضها خالد، ثم سار إلى الحيرة وخرج إليه أشرافها مع إياس بن قبيصة الطائي الأمير عليها بعد النعمان بن المنذر، فدعاهم إلى الإسلام أو الجزية أو المناجزة، فصالحوه على تسعين ألف درهم، وقيل إنما أمره أبو بكر أن يبدأ بالأبلة ويدخل من أسفل العراق. وكتب إلى عياض بن غنم أن يبدأ بالمضيخ ويدخل من أعلى العراق، وأمر خالدا بالقعقاع بن عمرو التميمي وعياض بن عوف الحمي [3] ، وقد كان المثنى بن حارثة الشيبانيّ استأذن أبا بكر في غزو العراق فأذن له فكان يغزوهم قبل قدوم خالد، فكتب أبو بكر إليه وإلى حرملة ومدعور وسلمان أن يلحقوا بخالد بالأبلة وكانوا في ثمانية آلاف
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الشمر وفي الطبري ج 3 ص 264: والصبرات.
[2] وفي نسخة ثانية: باروسما والليس وكانت لابن صلوبا، فصالحهم على عشرة آلاف دينار.
[3] وفي نسخة ثانية: الحميري.

(2/507)


فارس، ومع خالد عشرة آلاف، فسار خالد في أوّل مقدمته المثنى وبعده عدي بن حاتم وجاء هو بعدهما على مسيرة يوم بين كل عسكر، وواعدهما الحفير ليجتمعوا به ويصادموا عدوهم وكان صاحب ذلك الفرج [1] من أساورة الفرس اسمه هرمز وكان يحارب العرب في البرّ والهند في البحر، فكتب إلى أردشير كسرى بالخبر وتعجل هو إلى الكواظم في سرعان أصحابه حتى نزل الحفير، وجعل على مجنبتيه قباذ وأنوشجان يناسبانه في أردشير الأكبر واقترنوا بالسلاسل لئلا يفرّوا، وأروا خالدا أنهم سبقوا إلى الحفير فمال إلى كاظمة فسبقه هرمز إليها أيضا. وكان للعرب على هرمز حنق لسوء مجاورته وقدم خالد فنزل قبالتهم على غير ماء وقال: جالدوهم على الماء فإنّ الله جاعله لأصبر الفريقين، ثم أرسل الله سحابة فأغدرت من ورائهم.
ولما حطوا أثقالهم قدم خالد ودعا إلى النزال [2] فبرز إليه هرمز وترجلا ثم اختلفا ضربتين فاحتضنه خالد وحمل أصحاب هرمز للغدر به فلم يشغله ذلك عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو فقتلهم وانهزم أهل فارس وركبهم المسلمون، وسميت الواقعة ذات السلاسل. وأخذ خالد سلب هرمز وكانت قلنسوته بمائة ألف، وبعث بالفتح والأخماس إلى أبي بكر.
وسار فنزل بمكان البصرة وبعث المثنى بن حارثة في آثار العدو فحاصر حصن المرأة فتحه وأسلمت فتزوجها، وبعث معقل بن مقرن إلى الأبلة ففتحها عتبة بن [3] غزوان أيام عمر سنة أربع عشرة، ولم يتعرض خالد وأصحابه إلى الفلاحين وتركهم وعمارة البلاد كما أمرهم أبو بكر [4] . وكان كسرى أردشير لما جاءه كتاب هرمز بمسير خالد أمره بقارن بن فريانس فسار إلى المدار [5] ولما انتهى إلى المذار [6] لقيه المنهزمون من هرمز ومعهم قباذ وأنوشجان فتذامروا ورجعوا ونزلوا النهر، وسار إليهم خالد واقتتلوا وبرزقان فقتله معقل بن الأعشى بن النباش وقتل عاصم أنوشجان وقتل عدي قباذ، وانهزمت الفرس وقتل منهم نحو ثلاثين ألفا سوى من غرق ومنعت المياه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المرج.
[2] وفي النسخة الباريسية: الى البراز.
[3] وفي نسخة ثانية: عقبة.
[4] وفي نسخة ثانية: كما أمر ابو بكر به.
[5] وفي نسخة ثانية: فسار من المدائن.
[6] وفي نسخة ثانية: الدار.

(2/508)


المسلمين من طلبهم. وكانت الغنيمة عظيمة وأخذ الجزية من الفلاحين وصاروا في ذمّة، ولم يقاتل المسلمين من الفرس بعد قارن أعظم منه، وتسمى هذه الوقعة بالثني وهو النهر.
ولما جاء الخبر إلى أردشير بالهزيمة بعث الأندرزغر وكان فارسا من مولدي السواد فأرسل في أثره عسكرا مع بهمن حاذويه، وحشد الأندرزغر ما بين الحيرة وكسكر من عرب الضاحية والدهاقين وعسكروا بالولجة، وسار إليهم خالد فقاتلهم وصبروا، ثم جاءهم كمين من خلفهم فانهزموا ومات الأندرزغر عطشا. وبذل خالد الأمان للفلّاحين فصاروا ذمة، وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم وأصاب اثنين من نصارى بني وائل أحدهما جابر بن بجير والآخر ابن عبد الأسود من عجل فأسرهما، وغضب بكر بن وائل لذلك فاجتمعوا على الليس [1] وعليهم عبد الأسود العجليّ، فكتب أردشير إلى بهمن حاذويه، وقد أقام بعد الهزيمة كتابا يأمره بالمسير إلى نصارى العرب بالليس فيكون معهم إلى أن يقدم عليهم جابان من المرازبة، فقدم بهم على أردشير ليشاوره وخالفه جابان إلى نصارى العرب من عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من الحيرة وهم مجتمعون على الليس. وسار إليهم خالد حين بلغه خبرهم ولا مشعر لهم بجابان [2] ، فلما حط الأثقال سار إليهم وطلب المبارزة، فبرز إليه مالك بن قيس فقتله خالد، واشتد القتال بينهم وسائر المشركين ينتظرون قدوم بهمن، ثم انهزموا واستأسر الكثير منهم وقتلهم خالد حتى سال النهر بالدم وسمي نهر الدم، ووقف على طعام الأعاجم وكانوا قعودا للأكل فنفله المسلمين، وجعل العرب يتساءلون عن الرقاق يحسبونه رقاعا. وبلغ عدد القتلى سبعين ألفا. ولما فرغ من الليس سار إلى أمغيشيا فغزا أهلها وأعجلهم أن ينقلوا أموالهم فغنم جميع ما فيها وخرّبها.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الليث.
[2] وفي نسخة أخرى: ولا يشعر بجابان.

(2/509)


فتح الحيرة
ثم سافر خالد إلى الحيرة وحمل الرجال والأثقال في السفن، وخرج ابن زيان من [1] الحيرة ومعه الأزادية فعسكر عند الغريّين وأرسل ابنه ليقاطع الماء عن السفن، فوقفت على الأرض. وسار إليه خالد فلقيه على فرات باذقلا [2] فقتله وجميع من معه، وسار نحو أبيه على الحيرة فهرب بغير قتال لما كان بلغه من موت أردشير كسرى وقتل ابنه. ونزل خالد منزله بالغريّين وحاصر قصور الحيرة وافتتح الديور وصاح القسيسون والرهبان بأهل القصور فرجعوا على الاباية، وخرج إياس بن قبيصة من القصر الأبيض، وعمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن بقيلة، وكان معمرا وسأله خالد عن عجيبة قد رآها، فقال: رأيت القرى ما بين دمشق والحيرة تسافر بينهما المرأة فلا تتزود إلا رغيفا واحدا. ثم جاءه واستقرب منه ورأى مع خادمه كيسا فيه سم فأخذه خالد ونثره في يده، وقال ما هذا؟ قال خشيت أن تكونوا على غير ما وجدت فيكون الموت أحب إليّ من مكروه أدخله على قومي، فقال له خالد: لن تموت حتى تأتي على أجلها. ثم قال: باسم الله الّذي لا يضرّ مع اسمه شيء وابتلع السم فوعك ساعة ثم قام كأنما نشط من عقال. فقال عبد المسيح: لتبلغنّ ما أردتم ما دام أحد منكم هكذا. ثم صالحهم على مائة أو مائتين وتسعين ألفا وعلى كرامة [3] بنت عبد المسيح لشريك كان النبي صلى الله عليه وسلم عرّف بها إذا فتحت الحيرة فأخذها شريك، وافتدت منه بألف درهم وكتب لهم بالصلح وذلك في أول سنة اثنتي عشرة.
فتح ما وراء الحيرة
كان الدهاقين يتربصون بخالد ما يصنع بأهل الحيرة فلما صالحهم واستقاموا له جاءته الدهاقين من كل ناحية فصالحوه عمّا يلي الحيرة من الفلاليح وغيرها على ألف ألف وقيل على ألفي ألف سوى جباية كسرى، وبعث خالد ضرار بن الأزور وضرار بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وخرج وزبان الحيرة.
[2] وفي نسخة أخرى: باذقلة.
[3] رواية الدميري الشيما والصحابي هو أوس بن خزيمة، انظر ترجمة البقلة (قاله نصر) .

(2/510)


الخطّاب والقعقاع بن عمرو والمثنى بن حارثة وعيينة بن الشماس فكانوا في الثغور وأمرهم بالغارة، فمخروا السواد كله إلى شاطئ دجلة، وكتب إلى ملوك فارس:
«أما بعد فالحمد الله الّذي حل نظامكم ووهن كيدكم وفرّق كلمتكم ولو لم نفعل ذلك كان شرا لكم فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجوزكم إلى غيركم وإلّا كان ذلك وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة» . وكتب إلى المرازبة: «أما بعد فالحمد الله الّذي فض حدّتكم وفرق كلمتكم وجفل حرمكم وكسر شوكتم فأسلموا تسلموا وإلا فاعتقدوا مني الذمة وأدّوا الجزية وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر» انتهى.
وكان العجم مختلفين بموت أردشير وقد أزالوا بهمن حاذويه فيمن سيره في العساكر، فجبى خالد خراج السواد في خمسين ليلة، وغلب العجم عليه، وأقام بالحيرة سنة يصعد ويصوب، والفرس حائرون فيمن يملكونه ولم يجدوا من يجتمعون عليه لأن سيرين كان قتل جميع من تناسب إلى بهرام جور. فلما وصل كتاب خالد تكلم نساء آل كسرى وولوا الفرّخزاد بن البندوان إلى أن يجدوا من يجتمعون عليه، ووصل جرير ابن عبد الله البجلي إلى خالد بعد فتح الحيرة، وكان مع خالد بن سعيد بن العاص بالشام، ثم قدم على أبي بكر فكلمه أن يجمع له قومه كما وعده النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا أوزاعا [1] متفرقين في العرب، فسخط ذلك منه أبو بكر فقال:
تكلمني [2] بما لا يعني وأنت ترى ما نحن فيه من فارس والروم. وأمره بالمسير إلى خالد فقدم عليه بعد فتح الحيرة.
فتح الأنبار وعين التمر وتسمّى هذه الغزوة ذات العيون
ثم سار خالد على تعبيته إلى الأنبار وعلى مقدمته الأقرع بن حابس، وكان بالأنبار شيرزاد صاحب ساباط فحاصرهم ورشقوهم بالنبال حتى فقئوا منهم ألف عين. ثم نحر ضعاف الإبل وألقاها في الخندق حتى ردمه بها وجاز هو وأصحابه فوقها،
__________
[1] الجماعات ولا واحد لها (قاموس) .
[2] وفي النسخة الباريسية: تكلفني.

(2/511)


فاجتمع المسلمون والكفار في الخندق، وصالح شيرزاد على أن يلحقوه بمأمنه ويخلي لهم عن البلد وما فيها، فلحق ببهمن حاذويه. ثم استخلف خالد على الأنبار الزبرقان ابن بدر، وسار إلى عين التمر وبها بهرام [1] بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العجم، وعقبة بن أبي عقبة في جمع عظيم من العرب، وحولهم طوائف من النمر وتغلب وإياد وغيرهم من العرب. وقال عقبة لبهرام: دعنا وخالدا فالعرب أعرف بقتال العرب. فتركه لذلك واتقى به وسار عقبة إلى خالد وحمل خالد عليه وهو يقيم صفوفه، فاحتضنه وأخذه أسرا وانهزم العسكر عن غير قتال وأسر أكثرهم. وبلغ الخبر إلى بهرام [2] فهرب وترك الحصن وتحصن به المنهزمون، واستأمنوا لخالد فأبى، فنزلوا على حكمه فقتلهم أجمعين، وعقبة معهم.
وغنم ما في الحصن وسبى عيالهم [3] وأولادهم وأخذ من البيعة وهي الكنيسة غلمانا كانوا يتعلمون الإنجيل ففرّقهم في الناس منهم: سيرين أبو محمد ونصير أبو موسى وحمران مولى عثمان، وبعث إلى أبي بكر بالفتح والخمس. وقتل من المسلمين عمير ابن رباب السهمي من مهاجرة الحبشة وبشير بن سعد والد النعمان.
ولما فرغ خالد من عين التمر وافق وصول كتاب عياض بن غنم وهو على من بإزائه من نصارى العرب بناحية دومة الجندل وهم بهرام [4] وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم، وكانت رياسة دومة لأكيدر بن عبد الملك والجودي بن ربيعة يقتسمانها، وأشار أكيدر بصلح خالد فلم يقبلوا منه فخرج عنهم، وبلغ خالد مسيره فأرسل من اعترضه فقتله وأخذ ما معه، وسار خالد فنزل دومة وعياض عليها من الجهة الأخرى، وخرج الجودي لقتال خالد وأخرج طائفة أخرى لقتال عياض، فانهزموا من الجهتين إلى الحصن فأغلق دونهم وقتل الجودي وافتتح الحصن عنوة فقتل المقاتلة وسبى الذرية.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فهران بن بهرام.
[2] وفي نسخة ثانية: مهران.
[3] وفي نسخة ثانية: أهليهم.
[4] وفي نسخة ثانية: بهرا.

(2/512)


الوقائع بالعراق
وأقام خالد بدومة الجندل فطمع الأعاجم في الحيرة وملأهم عرب الجزيرة غضبا لعقبة، فخرج اسواران إلى الأنبار وانتهيا إلى الحصيد والخنافس، فبعث القعقاع من الحيرة عسكرين حالا بينهما وبين الريف، ثم جاء خالد إلى الحيرة فعجل القعقاع بن عمرو وأبا ليلى بن فدكي إلى لقائهما بالحصيد، فقتل من العجم مقتلة عظيمة، وقتل الأسواران، وغنم المسلمون ما في الحصيد، وانهزمت الأعاجم إلى الخنافس وبها بالبهبوذان من الأساورة. وسار أبو ليلى في اتباعهم فهزم البهبوذان إلى المضيخ [1] وكان بها الهذيل بن عمران وربيعة بن بحير من عرب الجزيرة غضبا لعقبة وجاءا مددا لأهل الحصيد، فكتب خالد إلى القعقاع وأبي ليلى وواعدهما [2] المضيخ، وسار إليهم فتواقفا هنالك وأغاروا على الهذيل ومن معه من ثلاثة أوجه، فأكثروا فيهم القتل ففر الهذيل في قليل، وكان مع الهذيل عبد العزيز بن أبي رهم من أوس مناة ولبيد بن جرير وكانا أسلما وكتب لهما أبو بكر بإسلامهما فقتلا في المعركة، فوادهما أبو بكر وأوصى بأولادهما، وكان عمر يعتمد بقتلهما وقتل مالك بن نويرة على خالد.
ولما فرغ خالد من الهذيل بالمضيخ واعد القعقاع وأبا ليلى إلي الثني شرقي الرصافة ليغير على ربيعة بن بحير التغلبي صاحب الهذيل الّذي جاء معه لمدد الفرس ويبيتهم فلم يلق [3] منهم أحدا، ثم اتبع الهذيل بعد مفره من المضيخ الى اليسير وقد لحق هنالك بعتاب بن السيد فبيتهم خالد قبل أن يصل إليهم خبر ربيعة فقتل منهم مقتلة عظيمة، وسار إلى الرصافة وبها هلال بن عقبة فتفرق عنه أصحابه وهرب فلم يلق بها خالد أحدا. ثم سار خالد إلى الرضاب وإلى الفراض [4] وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة فحميت الروم واستعانوا بمن يليهم من مسالح فارس، واجتمعت معهم تغلب وإياد والنمر وساروا إلى خالد وطلبوا منه العبور، فقال: اعبروا أسفل منا فعبروا وامتاز الروم من العرب، فانهزمت الروم ذلك اليوم وقتل منهم نحو من مائة ألف. وأقام خالد على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المصيخ.
[2] وفي نسخة ثانية: أودعهما.
[3] وفي نسخة أخرى: وتبيتهم فلم يفلت منهم أحدا.
[4] وفي نسخة أخرى: من الرضاب إلى الفراض.

(2/513)


الفراض إلى ذي القعدة، ثم أذن للناس بالرجوع إلى الحيرة، وجعل شجرة بن الأغر على الساقة. وخرج من الفراض حاجا مكتتما بحجة وذهب يتعسف في البلاد حتى أتى مكة فحج ورجع فوافى الحيرة مع جنده، وشجرة بن الأغر. معهم ولم يعلم بحجه إلا من أعلمه به، وعتب به أبو بكر في ذلك لما سمعه وكانت عقوبته إياه أن صرفه من غزو العراق إلى الشام. ثم شن خالد بن الوليد الغارات على نواحي السواد فأغار هو على سوق [1] بغداد، وعلى قطربُّل، وعقرقوما [2] ، ومسكن، وبادروبا.
وحج أبو بكر في هذه السنة واستخلف على المدينة عثمان بن عفان.
بعوث الشام
وكان من أوّل عمل أبي بكر بعد عوده من الحج أن بعث خالد بن سعيد بن العاص في الجنود إلى الشام أول سنة ثلاث عشرة، وقيل إنما بعثه الى الشام لما بعث خالد بن الوليد إلى العراق أول السنة التي قبلها، ثم عزله قبل أن يسير لأنه كان لما قدم من اليمن عند الوفاة تخلف عن بيعة أبي بكر أياما وغدا على عليّ وعثمان فعزلهما على الاستكانة لتيم وهما رءوس بني عبد مناف فنهاه عليّ وبلغت الشيخين، فلما ولاه أبو بكر عقد له عمر فعزله وأمره أن يقيم بتيماء ويدعو من حوله من العرب إلى الجهاد حتى يأتيه أمره، فاجتمعت إليه جموع كثيرة، وبلغ الروم خبره فضربوا البعث على العرب الضاحية بالشام من بهرا وسليح وكلب وغسان ولخم وجذام، وسار إليهم خالد فغلبهم على منازلهم وافترقوا. وكتب له أبو بكر بالإقدام فسار متقدما ولقيه البطريق ماهان من بطارقة الروم فهزمه خالد واستلحم الكثير من جنوده، وكتب إلى أبي بكر يستمده، ووافق كتابه المستنفرين وفيهم ذو الكلاع ومعه حمير وعكرمة بن أبي جهل ومن معه من تهامة والشحر [3] وعمان والبحرين فبعثهم إليه. وحينئذ اهتم ابو بكر بالشام وكان عمرو بن العاص لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما إلى عمان وعده أن يعيده إلى عمله عند فراغه من أمر عمان، فلما جاء بعد الوفاة أعاده إليها أبو بكر إنجازا لوعده صلى الله عليه وسلم تسليما وهي صدقات سعد هذيم وبني عذرة،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: شرق.
[2] وفي نسخة أخرى: عقرقوف.
[3] وفي نسخة أخرى: والسّرو.

(2/514)


فبعث إليه الآن يأمره باللحاق بخالد بن سعيد لجهاد الروم وأن يقصد فلسطين، وبعث أيضا إلى الوليد بن عقبة وكان على صدقات قضاعة وولاه الأردن، وأمر يزيد ابن أبي سفيان على جمهور من انتدب إليه فيهم سهيل بن عمرو وأشباهه، وأمر أبا عبيدة بن الجراح على جميعهم وعين له حمص، وأوصى كل واحد منهم.
ولما وصل المدد إلى خالد بن سعيد وبلغه توجه المراء تعجل للقاء الروم قبلهم فاستطرد له ماهان ودخل دمشق، واقتحم خالد الشام ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى نزل مرج الصفر [1] عند دمشق فانطوت مسالح ماهان عليه وسدوا الطريق دونه وزحف إليه ماهان، ولقي ابنه سعيدا في طريقه فقتلوه وبلغ الخبر أباه خالدا فهرب فيمن معه وانتهى إلى ذي المروة قرب المدينة. وأقام عكرمة ردءا من خلفهم فردّ عنهم الروم فأقام قريبا من الشام.
وجاء شرحبيل بن حسنة إلى أبي بكر وافدا من العراق من عند خالد فندب معه الناس وبعثه مكان الوليد إلى أردن، ومرّ بخالد ففصل ببعض أصحابه. ثم بعث أبو بكر معاوية وأمره باللحاق بأخيه يزيد، وأذن لخالد بن سعيد بدخول المدينة.
وزحف الأمراء في العساكر نحو الشام، فعبّى هرقل عساكر الروم ونزل حمص بعد أن أشار على الروم بعدم قتال العرب ومصالحتهم على ما يريدون، فأبوا ولجّوا، ثم فرّقهم على أمراء المسلمين، فبعث شقيقه تدارق [2] في تسعين ألفا نحو عمرو بن العاص بفلسطين، وبعث جرجة بن توذر نحو يزيد بن أبي سفيان، وبعث الدراقص نحو شرحبيل بن حسنة بالأردن، وبعث القيقلان [3] بن نسطورس في ستين ألفا نحو أبي عبيدة بالجابية. فهابهم المسلمون ثم رأوا أنّ الاجتماع أليق بهم، وبلغ كتاب أبي بكر بذلك فاجتمعوا باليرموك أحدا وعشرين ألفا [4] . وأمر هرقل أيضا باجتماع جنوده ووعدهم بوصول ملحان إليهم ردءا [5] ، فاجتمعوا بحيال المسلمين والوادي خندق بينهم، فأقاموا بإزائه ثلاثة أشهر، واستمدوا أبا بكر فكتب
__________
[1] بوزن سكر. مشدد.
[2] هوفره دريك.
[3] وفي نسخة أخرى: القيقار.
[4] وفي نسخة أخرى: بضعة وعشرين الفا.
[5] وفي النسخة الباريسية: مددا.

(2/515)


إلى خالد بن الوليد أن يستخلف على العراق المثنى بن حارثة ويلحق بهم وأمّره على جند الشام.
بعوث الشام
ولما استمدّ المسلمون أبا بكر بعث إليهم خالد بن الوليد من العراق واستحثّه في السير إليهم، فنفّذ خالد لذلك ووافى المسلمين مكانهم عند ما وافى ماهان والروم أيضا.
وولّى خالد قباله وولى الأمراء قبل الآخرين إزاءهم فهزم ماهان، وتتابع الروم على الهزيمة وكانوا مائتين وأربعين ألفا وتقسموا بين القتل والغرق [1] في الواقوصة والهويّ في الخندق، وقتل صناديد الروم وفرسانهم، وقتل تدارق أخو هرقل، وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون حمص فارتحل وأخلد [2] إلى ما وراءها لتكون بينه وبين المسلمين وأصرّ [3] عليها وعلى دمشق. ويقال إنّ المسلمين كانوا يومئذ ستة وأربعين ألفا: سبعة وعشرين منها مع الأمراء، وثلاثة آلاف من إمداد أهل العراق مع خالد بن الوليد، وستة آلاف ثبتوا مع عكرمة رداء بعد خالد بن سعيد. وأن خالد بن سعيد سماهم [4] كراديس ستة وثلاثين كردوسا لما رأى الروم تعبّوا كراديس، وكان كل كردوس ألفا وكان ذلك في شهر جمادى، وأن أبا سفيان بن حرب أبلى يومئذ بلاء حسنا بسعيه وتحريضه.
قالوا وبينما الناس في القتال قدم البريد من المدينة بموت أبي بكر وولاية عمر، فأسرّه إلى خالد وكتمه عن الناس. ثم خرج جرجه من أمراء الروم فطلب خالدا وسأله عن أمره وأمر الإسلام، فوعظه خالد فاستبصر وأسلم وكانت وهنا على الروم. ثم زحف خالد بجماعة من المسلمين فيهم جرجه فقتل من يومه، واستشهد عكرمة بن أبي جهل وابنه عمرو، وأصيبت عين أبي سفيان، واستشهد سلمة بن هشام وعمرو وأبان ابنا سعيد وهشام بن العاص وهبار [5] بن سفيان والطفيل بن عمرو، وأثبت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الطرق.
[2] وفي نسخة اخرى: وأجاز.
[3] وفي نسخة أخرى: وأمّر.
[4] وفي نسخة أخرى: عبأهم.
[5] وفي نسخة أخرى: سيّار.

(2/516)


خالد بن سعيد فلا يعلم أين مات بعد ويقال استشهد في مرج الصّفر في الوقعة الأولى.
ويقال إنّ خالدا لما جاء من العراق مددا للمسلمين بالشام طلب من الأدلّاء أن يغوروا به حتى يخرج من وراء الروم، فسلك به رافع بن عمرو الطائي من فزارة في بلاد كلب حتى خرج إلى الشام ونحر فيها الإبل وأغار على مضيخ [1] فوجد به رفقة [2] فقتلهم وأسلبهم، وكان الحرث بن الأيهم وغسّان قد اجتمعوا بمرج راهط فسلك إليهم واستباحهم، ثم نزل بصرى ففتحها، ثم سار منها إلى المسلمين بالواقوصة فشهد معهم اليرموك. ويقال: إنّ خالدا لمّا جاء من العراق إلى الشام لقي أمراء المسلمين ببصرى فحاصروها جميعا حتى فتحوها على الجزية، ثم ساروا جميعا إلى فلسطين مددا لعمرو بن العاص، وعمرو بالغور والروم يحلّق مع تدارق أخي هرقل، وكشفوا عن جلّق إلى أجنادين وراء الرملة شرقا، ثم تزاحف الناس فاقتتلوا، وانهزم الروم وذلك في منتصف جمادى الأولى من السنة، وقتل فيها تدارق، ثم رجع هرقل ولقي المسلمين بالواقوصة عند اليرموك، فكانت واقعة اليرموك كما قدّمنا في رجب بعد أجنادين، وبلغت المسلمين وفاة أبي بكر وأنها كانت لثمان بقين من جمادى الآخرة.
خلافة عمر رضي الله عنه
ولما احتضر أبو بكر عهد إلى عمر رضي الله عنهما بالأمر من بعده بعد أن شاور عليه [3] طلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم وأخبرهم بما يريد فيه، فأثنوا على رأيه، فأشرف على الناس وقال: إني قد استخلفت عمر ولم آل لكم نصحا فاسمعوا له وأطيعوا. ودعا عثمان فأمره فكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأوّل عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويوقن فيها الفاجر، إني استعملت عليكم عمر ابن الخطّاب ولم آل لكم خيرا، فإن صبر وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه، وإن
__________
[1] وفي نسخة أخرى، مصيخ.
[2] وفي النسخة الباريسية. فصبح به رفعه.
[3] وفي نسخة اخرى: عليّا وطلحة ...

(2/517)


جار وبدّل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرئ ما اكتسب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» .
فكان أوّل ما أنفذه من الأمور عزل خالد عن إمارة الجيوش بالشام وتولية أبي عبيدة، وجاء الخبر بذلك والمسلمون موافقون عدوّهم في اليرموك فكتم أبو عبيدة الأمر كله، فلما انقضى أمر اليرموك كما مرّ سار المسلمون إلى فحل من أرض الأردن وبها رافضة [1] الروم وخالد على مقدمة الناس فقاتلوا الروم.
فتح دمشق
واقتحموها عنوة وذلك في ذي القعدة ولحقت رافضة الروم بدمشق وعليها ماهان من البطارقة فحاصرهم المسلمون حتى فتحوا دمشق، وأظهر أبو عبيدة إمارته وعزل خالد. وقال سببه أنّ أبا بكر كان يسخط خالد بن سعيد والوليد بن عقبة من أجل فرارهما كما مرّ، فلمّا ولي عمر رضي الله عنه أباح لهما دخول المدينة ثم بعثهما مع الناس إلى الشام، ولما فرغ أمر اليرموك وساروا إلى فحل وبلغ عمر خبر اليرموك فكتب فعزل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص حتى يصير الحرب إلى فلسطين فيتولاها عمرو، وأن خالدا قدم على عمر بعد العزل وذلك بعد فتح دمشق وأنهم ساروا إلى فحل فاقتحموها، ثم ساروا إلى دمشق وعليها نسطاس بن نسطورس فحاصروها سبعين ليلة وقيل ستة أشهر من نواحيها الأربع، خالد وأبو عبيدة ويزيد وعمرو كل واحد على ناحية. وقد جعلوا بينهم وبين هرقل مدينة حمص ومن دونها ذو الكلاع في جيش من المسلمين، وبعث هرقل المدد إلى دمشق وكان فيهم ذو الكلاع فسقّط في أيديهم وقدموا على دخول دمشق وطمع المسلمون فيهم، واستغفلهم خالد في بعض الليالي فتسور سورهم من ناحيته وقتل الوليد وفتح الباب واقتحم البلد وكبّروا وقتلوا جميع من لقوة. وفزع أهل النواحي إلى الأمراء الذين يلونهم فنادوا لهم بالصلح والدخول، فدخلوا من نواحيهم صلحا فأجريت ناحية خالد على الصلح مثلهم.
قال سيف: وبعثوا إلى عمر بالفتح فوصل كتابه بأن يصرف جند العراق إلى العراق، فخرجوا وعليهم هاشم بن عتبة وعلى مقدمته القعقاع. وخرج الأمراء إلى فحل وأقام يزيد بن أبي سفيان بدمشق، وكان الفتح في رجب سنة أربع عشرة. وبعث
__________
[1] وفي نسخة ثانية: واقعة الروم.

(2/518)


يزيد دحية الكلبيّ إلى تدمر، وأبا الأزاهر القشيري إلى حوران والبثنة [1] ، فصالحوهما ووليا عليهما، ووصل الأمراء الى فحل فبيتهم الروم فظفر المسلمون بهم وهزموهم فقتل منهم ثمانون ألفا وكان على الناس في وقعة فحل شرحبيل بن حسنة، فسار بهم إلى بيسان وحاصرها فقتل مقاتلتها وصالحه الباقون فقبل منهم. وكان أبو الأعور السلميّ على طبريّة محاصرا لها، فلما بلغهم شأن بيسان صالحوه فكمل فتح الأردن صلحا ونزلت القوّاد في مدائنها وقراها وكتبوا إلى عمر بالفتح.
وزعم الواقدي أنّ اليرموك كانت سنة خمس عشرة وأنّ هرقل انتقل فيها من أنطاكية الى قسطنطينية وأنّ اليرموك كانت آخر الوقائع. والّذي تقدّم لنا من رواية سيف أنّ اليرموك كانت سنة ثلاث عشرة وأن البريد بوفاة أبي بكر قدم يوم هربت الروم فيه، وأن الأمراء بعد اليرموك ساروا إلى دمشق ففتحوها ثم كانت بعدها وقعة فحل، ثم وقائع أخرى قبل شخوص هرقل والله أعلم.
خبر المثنى بالعراق بعد مسير خالد الى الشام
لما وصل كتاب أبي بكر إلى خالد بعد رجوعه من حجّة بأن ينصرف إلى الشام أميرا على المسلمين بها ويخرج في شطر الناس ويرجع بهم إذا فتح الله عليه وإلى العراق ويترك الشطر الثاني بالعراق مع المثنّى بن حارسة، وفعل ذلك خالد ومضى لوجهه، وأقام المثنى بالحيرة ورتّب المصالح. واستقام أهل فارس بعد خروج خالد بقليل على شهريرار [2] بن شيرين بن شهريار ممن يناسبه إلى كسرى أبي سابور وذلك سنة ثلاث عشرة، فبعث إلى الحيرة هرمز فاقتتلوا هنالك قتالا شديدا بعدوة الضرّاء وغار الفيل بين الصفوف فقتله المثنّى وناس معه، وانهزم أهل فارس واتّبعهم المسلمون يقتلونهم حتى انتهوا إلى المدينة، ومات شهريار إثر ذلك وبقي ما دون دجلة من السواد في أيدي المسلمين.
ثم اجتمع أهل فارس من بعد شهريار على آزرميدخت ولم ينفذ لها أمر فخلعت، وملك سابور بن شهريار وقام بأمره الفرخزاد بن البندوان وزوّجه آزرميدخت،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: والبثينة.
[2] وفي نسخة أخرى: شهريار.

(2/519)


فغضب وبعث [1] إلى سياوخش وكان من كبار الأساورة وشكت إليه، فأشار عليها بالقبول. وجاءه ليلة العرس فقتل الفرّخزاد ومن معه، ونهض إلى سابور فحاصره ثم اقتحم عليه فقتله، وملكت آزرميدخت وتشاغل بذلك آل ملكها [2] حتى انتهى شأن أبي بكر وصار السواد في سلطانه، وتشاغل أهل فارس عن دفاع المسلمين عنه.
ولما أبطأ خبر أبي بكر على المثنى استخلف المثنى على الناس بشر بن الخصاصية وخرج نحو المدينة يستعلم ويستأذن، فقدم وأبو بكر يجود بنفسه وقد عهد إلى عمر وأخبر الخبر، فأحضر عمر وأوصاه أن يندب الناس مع المثنى وأن يصرف أصحاب خالد من الشام إلى العراق، فقال عمر: يرحم الله أبا بكر علم أنه تستر في إمارة خالد فأمرني بصرف أصحابه ولم يذكره.
ولاية أبي عبيد بن مسعود على العراق ومقتله
ولما ولي عمر ندب الناس مع المثنى بن حارثة أياما وكان أوّل منتدب أبو عبيد بن مسعود، وقال عمر للناس: إنّ الحجاز ليس لكم بدار إلّا النجعة ولا يقوى عليه أهله إلّا بذلك أين المهاجرون عن موعد الله؟ سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتب أن يورثكموها. فقال: ليظهره على الدين كله فاللَّه مظهر دينه ومعز ناصره ومولى أهله مواريث الأمم. أين عباد الله الصالحون؟ فانتدب أبو عبيد الثقفيّ، ثم سعد بن عبيد الأنصاري، ثم سليط بن قيس، فولّى أبا عبيد على البعث لسبقه، وقال: اسمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر ولا تجتهد مسرعا بل اتئد فإنها الحرب، والحرب لا يصلحها إلّا الرجل المكيث الّذي يعرف الفرصة والكف. ولم يمنعني أن أؤمر سليطا إلّا لسرعته إلى الحرب، وفي السرعة إلى الحرب إلّا عن بيان ضياع والله لولا سرعته لأمرته. فكان بعث أبي عبيد هذا أوّل بعث بعثه عمر، ثم بعث بعده يغلي [3] بن أمية إلى اليمن وأمره بإجلاء أهل نجران
__________
[1] وفي نسخة أخرى: زوجة آزرميدخت، فغضبت وبعثت.
[2] وفي نسخة أخرى: وتشاغلوا بذلك عن ملكها.
[3] وفي نسخة أخرى: بعليّ.

(2/520)


لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في مرضه، وقال أخبرهم أنّا نجليهم بأمر الله ورسوله أن لا يترك دينان بأرض العرب ثم نعطيهم أرضا كأرضهم وفاء بذمّتهم كما أمر الله.
قالوا: فخرج أبو عبيد مع المثنى بن حارثة وسعد وسليط إلى العراق، وقد كانت بوران بنت كسرى كلما اختلفت الناس بالمدائن عدلت بينهم حتى يصلحوا، فلما قتل الفرّخزاد بن البندوان وملكت آزرميدخت اختلف أهل فارس واشتغلوا عن المسلمين غيبة المثنى كلها، فبعثت بوران إلى رستم تستحثه للقدوم وكان على فرج [1] خراسان، فأقبل في الناس إلى المدائن وعزل الفرخزاد وفقأ عين آزرميدخت ونصبّ بوران، فملكته وأحضرت مرازبة فارس فأسلموا له ورضوا به وتوّجته. وسبق المثنى إلى الحيرة، ولحقه أبو عبيد ومن معه. وكتب رستم إلى دهاقين السواد أن يثوروا بالمسلمين وبعث في كل رستاق رجلا لذلك، فكان في فرات باذقلا جابان وفي كسكرنرسي، وبعث جندا لمصادمة المثنى فساروا واجتمعوا أسفل الفرات. وخرج المثنى من الحيرة خوفا أن يؤتى من خلفه، فقدم عليه أبو عبيد، ونزل جابان النمارق ومعه جمع عظيم، فلقيه أبو عبيد هناك وهزم الله أهل فارس وأسر جابان ثم أطلق، وساروا في المنهزمين حتى دخلوا كسكر وكان بها نرسي ابن خالة كسرى فجمع الفالة إلى عسكره، وسار إليهم أبو عبيد من النمارق في تعبيته، وكان على مجنبتي نرسي نفدويه وشيرويه [2] ابنا بسطام خال كسرى.
واتصلت هزيمة جابان ببوران ورستم فبعثوا الجالنوس مددا لنرسي وعاجلهم أبو عبيد فالتقوا أسفل من كسكر فاشتدّ القتال وانهزمت الفرس، وهرب نرسي وغنم المسلمون ما في عسكره، وبعث أبو عبيد المثنى وعاصما فهزموا من كان تجمّع من أهل الرساتيق وخرّبوا وسبوا وأخذوا الجزية من أهل السواد وهم يتربصون قدوم الجالنوس.
ولمّا سمع به أبو عبيد سار إليه على تعبيته فانهزم الجالنوس وهرب ورجع أبو عبيد فنزل الحيرة، وقد كان عمر قال له: «إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والخزي تقدم على قوم تجرّءوا على الشرّ فعلموه وتناسوا الخير فجهلوه فانظر كيف تكون
__________
[1] الفرج: الخلل بين الشيئين، الثغر، فرج الوادي: بطنه. فرج الطريق: متنه.
[2] وفي النسخة الباريسية: بندويه وتبروية.

(2/521)


وأحرز لسانك ولا تفش سرّك فإن صاحب السر ما ضبّط متحصن لا يؤتي من وجه يكرهه وإذا ضيّعه كان بمضيعة» .
ولما رجع الجالنوس إلى رستم بعث بهمن حادويه ذا الحاجب إلى الحيرة فأقبل ومعه درفش كابيان راية كسرى عرض ثمانية أذرع في طول اثني عشر من جلود النمر فنزل في الناطف على الفرات، وأقبل أبو عبيد فنزل عدوته وقعد إلى أن نصبوا للفريقين جسرا على الفرات، وخيّرهم بهمن حادويه في عبوره أو عبورهم، فاختار أبو عبيد العبور وأجاز إليهم. وماجت الأرض بالمقاتلة ونفرت خيول المسلمين وكراديسهم من الفيلة، وأمر بالتخفيف عن الخيل فترجل أبو عبيد والناس وصافحوا العدوّ بالسيوف، ودافعتهم الفيلة فقطعوا وضنها [1] فسقطت رحالها وقتل من كان عليها، وقابل أبو عبيد فيلا منهم فوطئه بيده وقام عليه فأهلكه. وقاتلهم الناس ثم انهزموا عن المثنى وسبقه بعض المسلمين إلى الجسر [2] فقطعه، وقال: موتوا أو تظفروا. وتواثب بعضهم الفرات فغرقوا وأقام المثنى وناس معه مثل عروة بن زيد الخيل وأبي محجن الثقفي وأنظارهم، وقاتل أبو زيد الطائي كان نصرانيا قدم الحيرة لبعض أمره فحضر مع المثنى وقاتل حينئذ حميّة، ونادى المثنى الذين عبروا من المسلمين فعقدوا الجسر وأجاز بالناس، وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس فانفضّ أصحابه إلى المدينة وبقي المثنّى في فلّه جريحا.
وبلغ الخبر إلى عمر فشق [3] عليه وعذر المنهزمين، وهلك من المسلمين يومئذ أربعة آلاف قتلى وغرقى وهرب ألفان وبقين ثلاثة آلاف. وبينما بهمن حادويه يروم العبور خلف المسلمين أتاه الخبر بأنّ الفرس ثاروا برستم مع الفيرزان فرجع إلى المدائن، وكانت الوقعة في مدائن سنة ثلاث عشرة. ولما رجع بهمن حادويه أتبعه جابان ومعه مردان شاه [4] ، وخرج المثنى في أثرهما فلما أشرف عليهما أتياه يظنان أنه هارب فأخذهما أسيرين، وخرج أهل الليس على أصحابهما فأتوا بهم أسرى وعقدوا معه مهادنة وقتل جميع الأسرى.
__________
[1] ج وضين، الوضين للهودج بمنزلة الحزام للسرج (قاموس)
[2] وفي النسخة الباريسية: الى الحصن.
[3] وفي النسخة الباريسية: اشتد عليه.
[4] وفي نسخة اخرى: مردان شاه

(2/522)


ولمّا بلغ عمر رضي الله عنه وقعة أبي عبيد بالجسر ندب الناس إلى المثنى، وكان فيمن ندب بجيلة وأمرهم إلى جرير بن عبد الله لأنه الّذي جمعهم من القبائل بعد أن كانوا مفترقين ووعده النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك وشغل عن ذلك أبو بكر بأمر الردّة ووفّى له عمر به وسيّره مددا للمثنى بالعراق، وبعث عصمة بن عبد الله الضبّي، وكتب إلى أهل الردّة بأن يوافوا المثنى وبعث المثنّى الرسل فيمن يليه من العرب، فوافوه [1] في جموع عظيمة حتى نصارى النمر جاءوه وعليهم أنس بن هلال، وقالوا: نقاتل مع قومنا. وبلغ الخبر إلى رستم والفيروزان فبعثا مهران الهمدانيّ إلى الحيرة والمثنى بين القادسية وخفان، فلما بلغه الخبر استبقى فرات باذقلا وكتب بالخبر إلى جرير وعصمة ان يقصدا العذيب مما يلي الكوفة، فاجتمعوا هنالك ومهران قبالتهم عدوة الفرات وتركوا له العبور فأجاز إليهم. وسار إليه المثنّى في التعبية وعلى مجنبتيه مهران مرزبان الحيرة من الأزدبة [2] ومردان شاه، ووقف المثنى على الرايات يحرّض الناس فأعجلتهم فارس وخالطوهم وركدت حربهم واشتدت، ثم حمل المثنى على مهران فأزاله عن مركزه، وأصيب مسعود أخو المثنّى، وخالط المثنّى القلب ووثب المجنبات على المجنبات قبالتهم فانهزمت الفرس، وسبقهم [3] المثنّى إلى الجسر فهربوا مصعدين ومنحدرين، واستلحمتهم خيول المسلمين وقتل فيها مائة ألف أو يزيدون، وأحصى مائة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة. وتبعهم المسلمون إلى الليل، وأرسل المثنّى في آثار الفرس، فبلغوا ساباط فغنموا وسبوا ساباط [4] واستباحوا القرى وسخّروا السواد بينهم وبين دجلة لا يلقون مانعا. ورجع المنهزمون إلى رستم فاستهانوا ورضوا أن يتركوا ما وراء دجلة.
ثم خرج المثنّى من الحيرة واستخلف بشير بن الخصاصية وسار نحو السواد ونزل الليس من قرى الأنبار فسميت الغزاة، غزاة الأنبار الآخرة وغزاة الليس الآخرة، وجاءت إلى المثنّى عيون فدلته على سوق الخنافس وسوق بغداد، وأنّ سوق الخنافس أقرب ويجتمع بها تجّار المدائن والسواد وخفراؤهم ربيعة وقضاعة، فركب إليها وأغار عليها
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فوافقه.
[2] وفي نسخة اخرى: ابن الازاذبة
[3] وفي النسخة الباريسية: وساقهم.
[4] وفي النسخة الباريسية: فبلغوا السيب فغنموا وسبوا وبلغوا ساباط.

(2/523)


يوم سوق، فاشتفّ السوق وما فيها وسلب الخفراء ورجع إلى الأنبار فأتوه بالعلوفة والزاد وأخذ منهم أدلّاء تظهر له المدائن وسار بهم إلى بغداد ليلا، وصبح السوق فوضع فيهم السيف وأخذ ما شاء من الذهب والفضة والجيّد من كل شيء. ثم رجع إلى الأنبار وبعث المضارب العجليّ إلى الركان [1] وبه جماعة من تغلب فهربوا عنه، ولحقهم المضارب فقتل في أخرياتهم وأكثر. ثم سرّح فرات بن حيّان التغلبي وعتيبة ابن النّهاس للإغارة على أحياء من تغلب بصفين، ثم اتبعهما المثنّى بنفسه فوجدوا أحياء صفين قد هربوا عنها فعبر المثنّى إلى الجزيرة، وفني زادهم وأكلوا رواحلهم وأدركوا عيرا من أهل خفان [2] ، فحضر نفر من تغلب فأخذوا العير ودلّهم أحد الخفراء على حيّ من تغلب ساروا إليه يومهم، وهجموا عليهم فقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية واستاقوا الأموال، وكان هذا الحيّ بوادي الرويحلة، فاشترى أسراهم من كان هنالك من ربيعة بنصيبهم من الفيء وأعتقوهم وكانت ربيعة لا تسبي في الجاهلية.
ولما سمع المثنّى أنّ جميع من يملك البلاد قد انتجع شاطئ دجلة خرج في اتباعهم فأدركهم بتكريت، فغنم ما شاء وعاد إلى الأنبار، ومضى عتيبة وفرات حتى أغارا على التمر وتغلب بصفّين، وتمكن رعب المسلمين من قلوب أهل فارس وملكوا ما بين الفرات ودجلة.
أخبار القادسية
ولما دهم أهل فارس من المسلمين بالسواد ما دهمهم وهم مختلفون بين رستم والفيرزان واجتمع عظماؤهم وقالوا لهما إمّا أن تجتمعا وإلّا فنحن لكما حرب فقد عرّضتمونا للهلكة وما بعد بغداد وتكريت إلى المدار [3] فأطاعا لذلك، وفزعوا إلى بوران يسألونها في ولد من آل كسرى يولّونه عليهم، فأحضرت لهم النساء والسراري وبسطوا عليهنّ العذاب فذكروا لهم غلاما من ولد شهريار بن كسرى اسمه يزدجرد أخذته أمه عند ما قتل شيرويه أبناء أبيه، فسألوا أمه عنه فدلتهم عليه عند أخواله كانت أودعته عندهم حينئذ فجاءوا به ابن إحدى وعشرين سنة فملكوه واجتمعوا عليه، وتباري
__________
[1] وفي نسخة أخرى الكباث.
[2] ويقال أهل دبا.
[3] وفي نسخة أخرى: المدائن.

(2/524)


المزاربة في طاعته وعيّن المسالح والجنود لكل ثغر ومنها الحيرة والأبلّة والأنبار وخرجوا إليها من المدائن.
وكتب المثنّى بذلك إلى عمر، وبينما هو ينتظر الجواب انتقض أهل السواد وكفروا وخرج المثنّى إلى ذي قار، ونزل الناس في عسكر واحد. ولمّا وصل كتابه إلى عمر قال: «والله لأضربنّ ملوك العجم بملوك العرب» ، فلم يدع رئيسا ولا ذا رأي وشرف وبسطة ولا خطيبا ولا شاعرا إلّا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس، وكتب إلى المثنّى يأمره بخروج المسلمين من بين العجم والتفرّق في المياه بحيالهم، وأن يدعو الفرسان وأهل النجدات من ربيعة ومضر ويحضرهم طوعا وكرها، فنزل المسلمون بالحلة [1] وسروا [2] إلى عصيّ وهو جبل البصرة متناظرين، وكتب إلى عمّاله على العرب أن يبعثوا إليه من كانت له نجدة أو فرس أو سلاح أو رأي وخرج إلى الحج، فحجّ سنة ثلاث عشرة، ورجع فجاءته أفواجهم إلى المدينة، ومن كان أقرب إلى العراق انضمّ إلى المثنّى، فلمّا اجتمعت عنده إمداد العرب خرج من المدينة واستخلف عليها عليّا وعسكر على صرار من ضواحيها، وبعث على المقدمة طلحة وجعل على المجنبتين عبد الرحمن والزبير وانبهم أمره على الناس، ولم يطق أحد سؤاله، فسأله عثمان. فأحضر الناس واستشارهم في المسير إلى العراق فقال العامة:
سر نحن معك فوافقهم، ثم رجع إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحضر عليّا وطلحة والزبير وعبد الرحمن واستشارهم فأشاروا بمقامه وأن يبعث رجلا بعده آخر من الصحابة بالجنود حتى يفتح الله على المسلمين ويهلك عدوّهم، فقبل ذلك ورأى فيه الصواب. وعين لذلك سعد بن أبي وقّاص وكان على صدقات هوازن فأحضره وولّاه حرب العراق وأوصاه وقال: «يا سعد بن أم سعد لا يغرّنك من الله أن يقال خال رسول الله وصاحب رسول الله فإنّ الله لا يمحو السيء بالسيئ ولكنه يمحو السيء بالحسن وليس بين الله وبين أحد نسب إلّا بطاعته فالناس في دين الله سواء الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة. فانظر الأمر الّذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه فألزمه وعليك بالصبر» .
ثم سرحه في أربعة آلاف ممن اجتمع إليه فيهم: حميضة بن النعمان بن حميضة على
__________
[1] وفي نسخة اخرى: بالجلّ.
[2] وفي النسخة الباريسية: وسراق.

(2/525)


بارق، وعمرو بن معديكرب وأبو سبرة بن أبي رهم على مذحج، ويزيد بن الحرث الصدائي على عذرة، وخبب ومسلية وبشر بن عبد الله الهلاليّ على قيس عيلان، والحصين بن نمير ومعاوية بن حديج على السكون وكندة. ثم أمر بعد خروجه بألفي يماني وألفي فخرى. وسار سعد وبلغه في طريقه بزرود [1] أنّ المثنّى مات من جراحة انتقضت، وأنه استخلف على الناس بشير بن الخصاصية، وكانت جموع المثنى ثلاثة آلاف، وكذلك أربعة آلاف من تميم والرباب وأقاموا، وعمر ضرب على بني أسد أن ينزلوا على حدّ أرضهم، فنزلوا في ثلاثة آلاف وأقاموا بين سعد والمثنّى، وسار سعد إلى سيراف فنزلها، واجتمعت إليه العساكر ولحقه الأشعث بن قيس ومعه ثلاثون ألفا، ولم يكن أحد أجرأ على الفرس من ربيعة، ثم عبّى سعد كتائب من سيراف وأمّر الأمراء وعرّف على كل عشرة عريفا، وجعل الرايات لأهل السابقة ورتّب المقدمة والساقة والمجنبات والطلائع وكل ذلك بأمر عمر ورأيه، وبعث في المقدمة زهرة بن عبد الله بن قتادة الحيوي من بني تميم فانتهى إلى العذيب، وعلى اليمامة عبد الله بن المعتمر، وعلى المسيرة شرحبيل بن السمط وخليفة بن خالد بن عرفطة حليف بني عبد شمس وعاصم بن عمر التميمي، وسواد بن مالك التميمي على الطلائع، وسلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة. ثم سار على التعبية ولقيه المهنّي [2] بن حارثة الشيبانيّ بسيراف، وقد كان بعد موت أخيه المثنّى سار بذي قار إلى قابوس واستلحمه ومن معه ورجع إلى ذي قار.
وجاء إلى سعد بالخبر ليعلمه بوصية المثنّى إليه أن لا تدخلوا بلاد فارس وقاتلوهم على حدّ أرضهم بادئ حجر من ارض العرب، فإن يظهر الله المسلمين فلهم ما وراءهم وإلّا رجعتم إلى فئة ثم تكونوا أعلم بسبيهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يردّ الله الكرب.
فترحم سعد ومن معه على المثنّى وولّى أخاه المهنّى على عمله وتزوّج سلمى زوجته، ووصله كتاب عمر بمثل رأي المثنّى يسأله عن سيراف. ونزل العرب ثم أتى القادسية فنزلها بحيال القنطرة بين العتيق والخندق، ووصله كتاب عمر يؤكد عليهم في الوفاء بالأنبار ولو كان إشارة أو ملاعبة، وكان زهرة في المقدمة فبعث سريّة للإغارة على الحيرة عليها بكر بن عبد الله الليثي، وإذا أخت مرزبان الحيرة تزفّ إلى زوجها فحمل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يزرورد.
[2] وفي نسخة ثانية: المعنى.

(2/526)


بكير على ابن الأزادية فقتله وحملوا الأثقال والعروس في ثلاثين امرأة ومائة من التوابع ومعهم ما لا يعرف قيمته، ورجع بالغنائم فصبح سعد بالعذيب فقسّمه في المسلمين.
ولما رجع سعد إلى القادسية أقام بها شهرا يشنّ الغارات بين كسكر والأنبار ولم يأته خبر عن الفرس، وقد بلغت أخبارهم إلى يزدجرد وأنّ ما بين الحيرة والفرات قد نهب وخرّب، فأحضر رستم ودفعه لهذا الوجه، فتقاعد عنه وقال: ليس هذا من الرأي.
وبعث الجيوش يعقب بعضها بعضا أولى من مصادمة مرّة، فأبى يزدجرد إلا مسيره لذلك. فعسكر رستم بساباط وكتب سعد بذلك إلى عمر، فكتب إليه لا يكترثنك ما يأتيك عنهم واستعن باللَّه وتوكل عليه، وابعث رجالا من أهل الراي والجلد يدعونه فإن الله جاعل ذلك وهنا لهم.
فأرسل سعد نفرا منهم: النعمان بن مقرّن، وقيس بن زرارة [1] ، والأشعث بن قيس، وفرات بن حيّان وعاصم بن عمر، وعمرو بن معديكرب، والمغيرة بن شعبة، والمهنّى بن حارثة. فقدموا على يزدجرد وتركوا رستم، واجتمعوا واجتمع الناس ينظرون إليهم وإلى خيولهم ويردّوهم، فأحضرهم يزدجرد وقال لترجمانه:
سلهم ما جاء بكم وما أولعكم بغزونا وبلادنا من أجل أنا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا؟ فتكلّم النعمان بن مقرّن بعد أن استأذن أصحابه، وقال ما معناه: إنّ الله رحمنا وأرسل إلينا رسولا صفته كذا يدعونا إلى كذا ووعدنا بكذا فأجابه منّا قوم وتباعد قوم ثم أمر أن نجاهد من خالفه من العرب فدخلوا معه على وجهين مكره اغتبط وطائع ازداد حتى اجتمعنا عليه وعرفنا فضل ما جاء به ثم أمرنا بجهاد من يلينا من الأمم ودعائهم إلى الإنصاف فإن أبيتم فأمر أهون من ذلك وهو الجزية فإن أبيتم فالمناجزة، فقال يزدجرد: لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم وقد كان أهل الضواحي يكفونا أمركم ولا تطمعوا أن تقوموا للفرس فإن كان بكم جهد أعطيناكم قوتا وكسوناكم وملّكنا عليكم ملكا يرفق بكم.
فقال قيس بن زرارة: هؤلاء أشراف العرب والأشراف يستحيون من الأشراف وأنا أكلمك وهم يشهدون، فأمّا ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفت وأشد ثم ذكر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: النعمان بن مقرن وبشر بن أبي أدهم وجملة من حيوة وحنظلة بن الربيع وعدي بن سهيل وعطارد بن حاجب والحرث بن حسّان والمغيرة بن زرارة.

(2/527)


من عيش العرب ورحمة الله بهم بإرسال النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما قال النعمان إلخ. ثم قال له: اختر إمّا الجزية عن يد وأنت صاغر أو السيف وإلّا فنجّ نفسك بالإسلام. فقال يزدجرد: لو قتل أحد الرسل قبلي لقتلتكم. ثم استدعى بوقر من تراب وحمل على أعظمهم، وقال: ارجعوا إلى صاحبكم وأعلموه اني مرسل رستم حتى يدفنكم أجمعين في خندق القادسية ثم يدوّخ بلادكم أعظم من تدويخ سابور.
فقام عاصم بن عمر فحمل التراب على عنقه، وقال: أنا أشرف هؤلاء. ولما رجع إلى سعد فقال: أبشر فقد أعطانا الله تراب أرضهم وعجب رستم من محاورتهم، وأخبر يزدجرد بما قاله عاصم بن عمر، فبعث في أثرهم إلى الحيرة فأعجزوهم.
ثم أغار سواد بن مالك التميمي بعد مسير الوفد إلى يزدجرد على الفراض فاستاق ثلاثمائة دابة بين بغل وحمار وثور وآخرها سمكا وصبح بها العسكر، فقسّمه سعد في الناس، وواصلوا السرايا والبعوث لطلب اللحم، وأمّا الطعام فكان عندهم كثيرا. وسار رستم إلى ساباط في ستين ألفا وعلى مقدمته الجالنوس في أربعين ألفا وساقته عشرون ألفا وفي الميمنة الهرمزان وفي المسيرة مهران بن بهرام الرازيّ، وحمل معه ثلاثة وثلاثين فيلا ثمانية عشر في القلب وخمسة عشر في الجنبين. ثم سار حتى نزل كوثى، فأتى برجل من العرب، فقال له رستم: ما جاء بكم وما تطلبون؟ فقال: نطلب وعد الله بأرضكم وأبنائكم إن لم تسلموا. قال رستم: فإن قتلتم دون ذلك، قال من قتل دخل الجنة ومن بقي أنجزه الله وعده، قال رستم: فنحن إذا وضعنا في أيديكم، فقال: أعمالكم وضعتكم وأسلمكم الله بها فلا يغرنّك من ترى حولك فلست تحاول الناس [1] إنما تحاول القضاء والقدر. فغضب وأمر به فضربت عنقه.
وسار فنزل الفرس وفشا من عسكره المنكر وغصبوا الرعايا أموالهم وأبناءهم حتى نادى رستم منهم بالويل، وقال: صدق والله العربيّ. وأتى ببعضهم فضرب عنقه. ثم سار حتى نزل الحيرة ودعا أهلها فعزرهم [2] وهمّ بهم، فقال له ابن بقيلة: لا تجمع علينا أن تعجز عن نصرتنا وتلومنا على الدفع عن أنفسنا، وأرسل سعد السرايا إلى السواد وسمع بهم رستم فبعث لاعتراضهم الفرس، وبلغ ذلك سعدا فأمدّهم بعاصم بن عمر فجاءهم وخيل فارس تحتوشهم، فلما رأوا عاصم هربوا، وجاء عاصم بالغنائم.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الأنس.
[2] وفي النسخة الباريسية: وهددهم.

(2/528)


ثم أرسل سعد عمرو بن معديكرب وطليحة الأسديّ طليعة فلما ساروا فرسخا وبعضه، لقوا المسالح فرجع عمرو، ومضى طليحة حتى وصل عسكر رستم وبات فيه وهتك أطناب خيمة أو خيمتين واقتاد بعض الخيل وخرج يعدو به فرسه، ونذر به الفرس فركبوا في طلبه إلى أن أصبح وهم في أثره فكرّ على فارس فقتله ثم آخر وأسر الرابع، وشارف عسكر المسلمين فرجعوا عنه، ودخل طليحة على سعد بالفارسي ولم يخلف بعده فيهم مثله فأسلم ولزم طليحة.
ثم سار رستم فنزل القادسية بعد ستة أشهر من المدائن، وكان يطاول خوفا وتقيّة، والملك يستحثّه وكان رأى في منامه كأن ملكا نزل من السماء ومعه النبيّ صلى الله عليه وسلم ودفعه النبي إلى عمر فحزن لذلك أهل فارس في سيره. ولمّا وصل القادسية وقف على العتيق حيال عسكر المسلمين والناس يتلاحقون حتى اغتموا من كثرتهم، وركب رستم غداة تلك الليلة وصعد مع النهر وصوّب [1] حتى وقف على القنطرة، وأرسل إلى زهرة فواقفه وعرض له بالصلح. وقال: كنتم جيراننا وكنّا نحسن إليكم ونحفظكم ويقرّر صنيعهم مع العرب ويقول زهرة: ليس أمرنا بذلك [2] وإنما طلبنا الآخرة وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولا دعانا الى دين الحق فأجبناه.
وقال: قد سلطتكم على من لم يدن به وأنا منتقم بكم منهم وأجعل لكم الغلبة.
فقال رستم: وما هو دين الحق. فقال: الشهادتان وإخراج الناس من عبادة الخلق إلى عبادة الله وأنتم إخوان في ذلك. فقال رستم: فإن أجبنا إلى هذا ترجعون؟
فقال: إي والله فانصرف عنه رستم. ودعا رجال فارس وذكر ذلك لهم فأنفوا، وأرسل الى سعد أن ابعث لنا رجلا نكلمه ويكلمنا، فبعث إليهم ربعي بن عامر وحبسوه على القنطرة حتى أعلموا رستم، فجلس على سرير من ذهب وبسط النمارق والوسائد منسوجة بالذهب، وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة ورمحه مشدودة بعصب، وقدم حتى انتهى الى البساط ووطئه بفرسه، ثم نزل وربطها بوسادتين شقهما وجعل الحبل فيهما، فلم يقبلوا ذلك وأظهروا التهاون. ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها، وأشاروا إليه بوضع سلاحه فقال: لو أتيتكم فعلت كذا فأمركم وإنما دعوتموني، ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه حتى أفسد ما مرّ عليه من البسط،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وصوّت.
[2] وفي نسخة ثانية: من أولئك.

(2/529)


ثم دنا من رستم وجلس على الأرض وركز رمحه على البساط وقال: إنّا لا نقعد على زينتكم. فقال له الترجمان: ما جاء بكم، فقال: الله بعثنا لنخرج عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وأرسلنا بدينه الى خلقه فمن قبله قبلنا منه وتركناه وأرضه ومن أبى قاتلناه حتى نفىء إلى الجنّة أو الظفر. فقال رستم:
هل لكم أن تؤخر هذا الأمر حتى ننظر فيه؟ قال: نعم كم أحب إليك يوما أو يومين، قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. فقال: إنّ مما سنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نمكّن الأعداء أكثر من ثلاث فانظر في أمرك وأمرهم واختر إمّا الإسلام وندعك وأرضك أو الجزية فنقبل ونكف عنك وإن احتجت إلينا نصرناك أو المنابذة في الرابع أن تنبذ [1] وأنا كفيل بهذا عن أصحابي.
قال أسيّدهم أنت؟ قال: لا ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجيز بعضهم عن بعض يجيز أدناهم على أعلاهم. فخلا رستم برؤساء قومه وقال: رأيتم كلاما قط مثل كلام هذا الرجل؟ فأروه الاستخفاف بشأنه وثيابه. فقال: ويحكم إنما انظر إلى الرأي والكلام والسيرة والعرب تستخف اللّباس وتصون الأحساب.
ثم أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا ذلك الرجل، فبعث إليهم حذيفة بن محصن [2] ففعل كما فعل الأول ولم ينزل عن فرسه وتكلم وأجاب مثل الأول، فقال له: ما قعد بالأول عنا؟ فقال: أميرنا يعدل بيننا في الشدة والرخاء وهذه نوبتي. فقال رستم:
والمواعدة إلى متى؟ فقال: إلى ثلاث من أمس وانصرف. وحاص رستم بأصحابه يعجبهم من شأن القوم. وبعث في الغد عن آخر فجاءه المغيرة بن شعبة فلمّا وصل إليهم وهم على زيهم وبسطهم على غلوة من مجلس رستم فجاء المغيرة حتى جلس معه على سريره فأنزلوه، فقال: لا أرى قوما أسفه منا معشر العرب لا نستعبد بعضا بعضا فظننتكم كذلك وكان أحسن بكم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض مع أني لم آتكم وإنما دعوتموني فقد علمت أنكم مغلوبون ولم يقم ملك على هذه السيرة.
فقالت السفلة: صدق والله العربيّ، وقالت الأساطين [3] : لقد رمانا بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه قاتل الله من يصغر أمر هذه الأمة. ثم تكلم رستم فعظم من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إلا أن تبذلوا.
[2] وفي النسخة الباريسية: ابن حصن.
[3] وفي نسخة ثانية: الدهاقين.

(2/530)


أمر فارس بل من شأن فارس وسلطانهم وصغر أمر العرب وقال: كانت عيشتكم سيئة وكنتم تقصدونا في الجدب فنردّكم بشيء من التمر والشعير ولم يحملكم على ما صنعتم إلى ما بكم من الجهد ونحن نعطي أميركم كسوة وبغلا وألف درهم وكل رجل منكم حمل تمر وتنصرفون فلست أشتهي قتلكم. فتكلم المغيرة وخطب فقال: أما الّذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف فنعرفه ولا ننكره والدنيا دول والشدة بعدها الرخاء ولو شكرتم ما آتاكم الله لكان شكركم قليلا عما أوتيتم وقد أسلمكم ضعف [1] الشكر إلى تغير الحال وأن الله بعث فينا رسولا، ثم ذكر مثل ما تقدّم إلى التخيير بين الإسلام أو الجزية أو القتال، ثم قال، وإن عيالنا ذاقوا طعام بلادكم فقالوا لا صبر لنا عنه. فقال رستم: إذا تموتون دونها، فقال المغيرة: يدخل من قتل منا الجنة ويظفر من بقي منا بكم. فاستشاط غضبا وحلف أن لا يقع الصلح أبدا حتى أقتلكم أجمعين. وانصرف المغيرة وخلا رستم بأهل فارس وعرض عليهم مصالحة القوم، وحذّرهم عاقبة حربهم، فلجّوا. وبعث إليه سعد يعرض عليه الإسلام ويرغب، فأجابه بمثل ما كان يقول لأولئك من الامتنان على العرب والتعريض بالمطامع، فلم يتفق شيء من رأيهم. فقال رستم: تعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟ فقالوا: بل اعبروا وأرسل إليهم سعد بذلك وأرادوا القنطرة، فقال سعد:
لا ولا كرامة لا نردّ عليكم شيئا غلبناكم عليه فأبى. فأتوا [2] يسكرون العتيق بالتراب والقصب والبرادع حتى جعلوا جسرا.
ثم عبر رستم ونصب له سريره وجلس عليه وضرب طيارة وعبر عسكره، وجعل الفيلة في القلب والمجنبتين عليها الصناديق والرجال والرايات أمثال الحصون، وجعل الجالنوس بينه وبين الميمنة والفيرزان بينه وبين الميسرة، ورتب يزدجرد الرجال بين المدائن والقادسية وما بينه وبين رستم رجلا على كل دعوة تنتقل إليه ينبئهم أخبار رستم في أسرع وقت. ثم أخذ المسلمون مصافهم واختط سعد قصره، وكان به عرق النساء وأصابته معه دماميل لا يستطيع معها الجلوس فصعد على سطح القصر راكبا على وسادة في صدره وأشرف على الناس، وعاب ذلك عليه بعض الناس فنزل واعتذر إليهم وأراهم القروح في جسده فعذروه، واستخلف خالد بن عرفطة على الناس
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وقد اسلمكم الله بضعف الشكر.
[2] وفي نسخة ثانية: فباتوا.

(2/531)


وحبس من شغب عليه في القصر وقيدهم، وكان فيهم أبو محجن الثقفي، وقيل إنما حبسه بسبب الخمر. ثم خطب الناس وحثهم على الجهاد وذكرهم بوعد الله، وذلك في المحرم سنة أربع عشرة، وأخبرهم أنه استخلف خالد بن عرفطة. وأرسل جماعة من أهل الرأي لتحريض الناس على القتال مثل المغيرة وحذيفة وعاصم وطليحة وقيس وغالب وعمرو، ومن الشعراء الشماخ والحطيئة والعبديّ بل وعبدة بن الطيب وغيرهم ففعلوا، ثم أمر بقراءة الأنفال فهشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها، فلما فرغت القراءة قال سعد: الزموا مواقفكم فإذا صليتم الظهر فإنّي مكبر تكبيرة فكبّروا واستعدّوا، فإذا سمعتم الثانية فكبّروا وأتموا عدّتكم، فإذا سمعتم الثالثة فكبّروا ونشطوا الناس، فإذا سمعتم الرابعة فازحفوا حتى تخالطوا عدوّكم وقولوا لا حول ولا قوّة إلا باللَّه.
فلما كبر الثالثة برز أهل النجدات فأنشبوا القتال وخرج أمثالهم من الفرس فاعتوروا الطعن والضرب، وارتجزوا الشعر، وأول من أسر في ذلك اليوم هرمز من ملوك الكبار [1] وكان متوّجا أسره غالب بن عبد الله الأسدي [2] فدفعه إلى سعد ورجع إلى الحرب. وطلب البراز أسوار منهم فبرز إليه عمرو بن معديكرب فأخذه وجلده الأرض فذبحه وسلب سواريه ومنطقته. ثم حملوا الفيلة على المسلمين وأمالوها على بحيلة فثقلت عليهم، فأرسل سعد إلى بني أسد أن يدافعوا عنهم، فجاءه طليحة بن خويلد وحمل بن مالك فردّوا الفيلة، وخرج على طليحة عظيم منهم فقتله طليحة، وعير الأشعث بن قيس كندة بما يفعله بنو أسد فاستشاطوا ونهودا معه فأزالوا الذين بإزائهم. وحين رأس الفرس ما لقي الناس والفيلة من بني أسد حملوا عليهم جميعا وفيهم ذو الحاجب والجالنوس.
وكبر سعد الرابعة فزحف المسلمون وثبت بنو أسد، ودارت رحى الحرب عليهم وحملت الفيول على الميمنة والميسرة ونفرت خيول المسلمين منها فأرسل سعد إلى عاصم بن عمر هل من حيلة لهذه الفيلة؟ فبعث الرماة يرشقونها بالنبل واشتدّ لردّها آخرون يقطعون الوضن، وخرج عاصم بجميعهم ورحى الحرب على أسد، واشتدّ عواء الفيلة ووقعت الصناديق فهلك أصحابها، ونفس عن أسد أن أصيب منهم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اللباب.
[2] وفي نسخة ثانية: الازدي.

(2/532)


خمسمائة وردّوا فارس إلى مواقفهم. ثم اقتتلوا إلى هدء من الليل وكان هذا اليوم الأول وهو يوم الرماة. ولما أصبح دفن القتلى وأسلم الجرحى إلى نساء يقمن عليهم، وإذا بنواصي الخيل طالعة من الشام. كان عمر بعد فتح دمشق عزل خالد بن الوليد عن جند العراق وأمر أبا عبيدة أن يؤمر عليهم هاشم بن عتبة يردّهم إلى العراق، فخرج بهم هاشم وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، فقام القعقاع على الناس صبيحة ذلك اليوم يوم أغواث، وقد عهد إلى أصحابه أن يقطعوا أعشارا بين كل عشرين مدّ البصر وكانوا ألفا، فسلم على الناس وبشرهم بالجنود وعرضهم على القتال، وطلب البراز فخرج إليه ذو الحاجب فعرفه القعقاع ونادى بالثأر لأصحاب الجسر، وتضاربا فقتله القعقاع وسرّ الناس بقتله، ووهنت الأعاجم لذلك. ثم طلب البراز فخرج إليه الفيرزان والبندوان.
وأكثر المسلمون القتل في الفرس وأخذوا الفيلة عن القتال لأن نوابتها تكسرت بالأمس، فاستأنفوا حملها، وجعل القعقاع إبلا وجعل عليها البراقع وأركبها عشرة عشرة، وأطاف عليها الخيول تحملها، وحملها على خبل الفرس فنفرت منها وركبتهم خيول المسلمين، ولقي الفرس من الإبل أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة. وبرز القعقاع يومئذ في ثلاثين فارسا في ثلاثين حملة فقتلهم، كان آخرهم بزرجمهر الهمدانيّ، وبارز الأعور بن قطنة [1] شهريار سجستان فقتل كل واحد منهما صاحبه.
ولما انتصف النهار تزاحف الناس فاقتتلوا إلى انتصاف الليل وقتلوا عامة أعلام فارس، ثم أصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم بين الصفين ومن المسلمين ألفا جريح وقتيل ومن المشركين عشرة آلاف، فدفن المسلمون موتاهم وأسلموا الجرحى إلى النساء ووكلوا النساء والصبيان بحفر القبور، وبقي قتلى المشركين بين الصفين. وبات القعقاع يسرب أصحابه إلى حيث فارقهم بالأمس، وأوصاهم إذا طلعت الشمس أن يقبلوا مائة مائة يجدّد بذلك الناس، وجاء بينهما يلحق هاشم بن عتبة. فلما ذر قرن الشمس أقبل أصحابه القعقاع فتقدموا والمسلمون يكبرون، فتزاحفت الكتائب عنا وهربا، وما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى لحق هاشم فعبّى أصحابه سبعين سبعين وكان فيهم قيس بن المكشوح فلما خالط القلب كبر وكبر المسلمون ثم كبر فخرق الصفوف إلى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بن خطبة.

(2/533)


العتيق، ثم عاد وقد أصبح الفرس على مواقفهم وأعادوا الصناديق على الفيلة وأحدقوا الرجال بها يحمونها أن تقطع وضنها، وأقام الفرسان يحمون الرجالة فلم تنفر خيل المسلمين منها. وكان هذا اليوم يوم عماس وكان شديدا، إلا أن الطائفتين فيه سواء وأبلى فيه قيس بن المكشوح وعمرو بن معديكرب، زحفت الفيلة وفرّقت بين الكتائب. وأرسل سعد إلى القعقاع وعاصم أن أكفياني الأبيض وكان بإزائهما، وإلى محمل والذميل [1] أن أكفياني الأجرب وكان بإزائهما، فحملوا على الفيلين فقتل الأبيض ومن كان عليه وقطع مشفر الأجرب وفقئت عينه وضرب سائسه الذميل بالطبرزين فأفلت جريحا، وتحيّر الأجرب بين الطائفتين وألقى نفسه في العتيق واتبعته الفيلة وخرقت [2] صفوف الأعاجم في اثره، وقصدت المدائن بثوابتها [3] وهلك جميع من فيها. وخلص المسلمون والفرس فاختلفوا على سواء إلى المساء واقتتلوا بقية ليلتهم وتسمى ليلة الهرير.
فأرسل سعد طليحة وعمرا إلى محاضة أسفل السكر يقومون عليها خشية أن يؤتى المسلمون منها، فتشاوروا أن يأتوا الأعاجم من خلفهم، فجاء طليحة وراء العسكر وكبر فارتاع أهل فارس، فأغار عمرو أسفل المخاضة ورجع وزاحفهم الناس دون إذن سعد وأوّل من زاحفهم من الناس دون إذن سعد زاحفهم القعقاع وقومه فحمل عليهم، ثم حمل بنو أسد ثم النخع ثم بحيلة ثم كندة، وسعد يقول في كل واحدة اللَّهمّ اغفر لهم وانصرهم. وقد كان قال لهم إذا كبرت ثلاثا فاحملوا، فلما كبر الثالثة لحق الناس بعضهم بعضا صلاة العشاء واختلطوا وصليل الحديد كصوت القرن إلى الصباح.
وركدت الحرب وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد ورستم وأقبل سعد على الدعاء، وسمع نصف الليل صوت القعقاع في جماعة من الرؤساء إلى رستم حتى خالطوا صفه مع الصبح فحمل الناس من كل جهة على من يليهم واقتتلوا إلى قائم ظهيرة، فناجز الفيرزان والهرمزان بعض الشيء وانفرج القلب، وهبت ريح عاصف فقلبت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الدّميل.
[2] وفي نسخة ثانية: وفرقت.
[3] وفي نسخة ثانية: بوثوبها.

(2/534)


وقد قام رستم عنه فاستظل في ظل بغل وحمله، وضرب هلال بن علقمة الحمل فوقع أحد العدلين على رستم فكسر ظهره، وضربه هلال ضربة نفحت مسكا وضرب نحو العتيق فرمى بنفسه فيه فاقتحم هلال وجرّه برجله فقتله، وصعد السرير وقال:
قتلت رستم ورب الكعبة إليّ إليّ. فأطافوا به وكبروا. وقيل إن هلالا لما قصد رستم رماه بسهم، فأثبت قدمه بالركاب ثم حمل عليه، فقتله واحتز رأسه ونادى في الناس قتلت رستم.
فانهزم قلب المشركين وقام الجالنوس على الردم ونادى الفرس إلى العبو، وتهافت المقترنون بالسلاسل في العتيق وكانوا ثلاثين فهلكوا، وأخذ ضرار بن الخطاب راية الفرس العظيمة وهي درفش كابيان فعوض منها ثلاثين ألفا وكانت قيمتها ألف ألف ومائة ألف ألف، وقتل ذلك اليوم من الأعاجم عشرة آلاف في المعركة، وقتل من المشركين في ذلك اليوم ستة آلاف دفنوا بالخندق سوى ألفين وخمسمائة قتلوا ليلة الهرير، وجمع من الأسلاب والأموال ما لم يجمع قبله ولا بعده مثله. ونفل سعد هلال بن علقمة سلب رستم، وأمر القعقاع وشرحبيل باتباع العدوّ وقد كان خرج زهرة بن حيوة قبلهما في آثارهم، فلحق الجالنوس يجمع المنهزمين فقتله وأخذ سلبه، فتوقف سعد من عطائه، وكتب إلى عمر، فكتب إليه: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بمثل ما صلى به وقد بقي عليك من حربك ما بقي تفسد قلبه أمض له سلبه وفضله على أصحابه في العطاء بخمسمائة.
ولحق سلمان بن ربيعة الباهلي وأخذه عبد الرحمن بطائفة من الفرس قد استماتوا فقتلوهم أجمعين، واستمات بعد الهزيمة بضعة وثلاثون رئيسا من المسلمين فقتلوهم أجمعين. وكان ممن هرب من أمراء الفرس الهرمزان وأهودوزاد بيهس [1] وقارن، وممن استمات فقتل شهريار بن كبارا وأسر المدمرون والفردان الأهوازي وحشر شوم الهمدانيّ. وكتب سعد إلى عمر بالفتح وبمن أصيب من المسلمين، وكان عمر يسأل الركبان حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى أهله، فلما ألفى البشرى قال: من أين؟ فأخبره فقال: حدّثني فقال: هزم الله المشركين. ففرح بذلك. وأقام المسلمون بالقادسية ينتظرون كتاب عمر إلى أن وصلهم بالإقامة. وكانت وقعة القادسية سنة أربع عشرة وقيل خمس عشرة وقيل ست عشرة.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الفرزاد بن بيهس.

(2/535)


فتح المدائن وجلولاء بعدها
ولما انهزم أهل فارس بالقادسية انتهوا إلى بابل وفيهم بقايا الرؤساء النخيزجان ومهران الأهوازي والهرمزان وأشباههم واستعملوا عليهم الفيرزان. وأقام سعد بعد الفتح شهرين وسار بأمر عمر إلى المدائن وخلف العيال بالعتيق في جند كثيف حامية لهم، وقدّم بين يديه زهرة بن حيوة وشرحبيل بن السمط وعبد الله بن المعتمر [1] ، ولقيهم بعض عساكر الفرس برستن فهزموهم حتى لحقوا ببابل. ثم جاء سعد وسار في التعبية ونزلوا على الفيرزان ومن معه ببابل، فخرجوا وقاتلوا المسلمين، فانهزموا وافترقوا فرقتين ولحق الهرمزان بالأهواز والفيرزان بنهاوند وبها كنوز كسرى، وسار النخيزجان ومهران إلى المدائن فتحصنوا وقطعوا الجسر. ثم سار سعد من بابل على التعبية وزهرة في المقدمة، وقدم بين يديه بكير بن عبد الله الليثي وكثير بن شهاب السبيعي [2] حتى عبرا ولحقا بأخريات القوم، فقتلا في طريقهما اسوارين من أساورتهم، ثم تقدموا إلى كوثى [3] وعليها شهريار فخرج لقتالهم فقتل وانهزم أصحابه فافترقوا في البلاد. وجاء سعد فنفل قاتله سلبه.
وتقدّم زهرة إلى ساباط فصالحه أهلها على الجزية وهزم كتيبة كسرى، ثم نزلوا جميعا نهرشير [4] من المدائن، ولما عاينوا الإيوان كبروا وقالوا: هذا أبيض كسرى هذا ما وعد الله. وكان نزولهم عليها ذا الحجة سنة خمس عشرة فحاصروها ثلاثة أشهر ثم اقتحموها، وكانت خيولهم تغير على النواحي وعهد إليهم عمر أن من أجاب من الفلاحين ولم يعن عليهم فذلك أمانة، ومن هرب فأدرك فشأنكم به. ودخل الدهاقين من غربي دجلة وأهل السواد كلهم في أمان المسلمين واغتبطوا بملكهم، واشتد الحصار على نهرشير ونصبوا عليها المجانيق واستلحموهم في المواطن، وخرج بعض المرازبة يطلب البراز، فقاتله زهرة بن حيوة فقتلا معا، ويقال إن زهرة قتله شبيب الخارجي أيام الحجاج. ولما ضاق بهم الحصار ركب إليهم الناس بعض الأيام
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن المعتز.
[2] وفي النسخة الباريسية: السعدي.
[3] وفي النسخة الباريسية: كوتا.
[4] وفي نسخة ثانية: بهرشير.

(2/536)


فلم يروا على الأسوار أحدا إلا رجلا يشير إليهم فقال: ما بقي بالمدينة أحد وقد صاروا إلى المدينة القصوى التي فيها الإيوان، فدخل سعد والمسلمون وأرادوا العبور إليهم فوجدوهم جمعوا المعابر عندهم، فأقام أياما من صبر ودلّه بعض العلوم على مخاضة في دجلة فتردّد، فقال له أقدم فلا تأتي عليك ثلاثة إلا ويزدجرد قد ذهب بكل شيء فيها. فعزم سعد على العبور وخطب الناس وندبهم إلى العبور ورغبهم، وندب من يجزى أن لا يجيء الفراض حتى يجيز إليه الناس، فانتدب عاصم بن عمر في ستمائة واقتحموا دجلة فلقيهم أمثالهم من الفرس عند الفراض وشدوا عليهم فانهزموا وقتل أكثرهم وعوروا من الطعن في العيون، وعاينهم المسلمون على الفراض، فاقتحموا في أثرهم يصيحون نستعين باللَّه ونتوكل عليه حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة الا باللَّه العلي العظيم. وساروا في دجلة وقد طبقوا ما بين عدوتيها وخيلهم سابحة بهم وهم يهيمنون تارة ويتحادثون أخرى حتى أجازوا البحر ولم يفقدوا شيئا، إلا قدحا لبعضهم غلبت صاحبه عليه وجرية الماء وألقته الريح إلى الشاطئ.
ورأى الفرس عساكر المسلمين قد أجازوا البحر فخرجوا هاربين إلى حلوان، وكان يزدجرد قدم إليها قبل ذلك عياله، ورفعوا ما قدروا عليه من عرض المتاع وخفيفة ومن بيت المال والنساء والذراري، وتركوا بالمدائن من الثياب والأمتعة والآنية والألطاف ما لا تحصر [1] قيمته، وكان في بيت المال ثلاثة آلاف ألف ألف ألف مكرّرة ثلاث مرّات تكون جملتها ثلاث آلاف قنطار من الدنانير، وكان رستم عند مسيره إلى القادسية حمل نصفها لنفقات العساكر وأبقى النصف. واقتحمت العساكر المدينة تجول في سكسكها لا يلقون بها أحدا، وأرز سائر الناس إلى القصر الأبيض حتى توثقوا لأنفسهم على الجزية.
ونزل سعد القصر الأبيض واتخذ الإيوان به مصلّى ولم يغير ما فيه من التماثيل، ولما دخله قرأ «كَمْ تَرَكُوا من جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 44: 25» الآية، وصلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينهن وأتم الصلاة بنية الإقامة. وسرح زهرة بن حيوة في آثار الأعاجم إلى النهروان وقراها من كل جهة، وجعل على الأخماس عمرو بن عمرو بن مقرّن، وعلى القسم سلمان بن ربيعة الباهلي وجمع ما كان في القصر والإيوان والدور وما نهبه أهل المدائن عند الهزيمة، ووجدوا حلية كسرى ثيابه وخرزاته وتاجه ودرعه التي كان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لا تحصى.

(2/537)


يجلس فيها للمباهاة أخذ ذلك من أيدي الهاربين على بغلين، وأخذ منهم أيضا وقر بغل من السيوف وآخر من الدروع والمغافر منسوبة كلها: درع هرقل وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وبهرام جور وسياوخش والنعمان بن المنذر وسيف كسرى وهرمز وقباد وفيروز وهرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش والنعمان أحضرها القعقاع وخيّره في الأسياف، فاختار سيف هرقل وأعطاه درع بهرام، وبعث إلى عمر سيف كسرى والنعمان وتاج كسرى وحليته وثيابه ليراها الناس. وقسّم سعد الفيء بين المسلمين بعد ما خمسه، وكانوا ستين ألفا فصار للفارس اثنا عشر ألفا وكلهم كان فارسا ليس فيهم راجل، ونفل من الأخماس في أهل البلاد، وقسم في المنازل بين الناس، واستدعى العيالات من العتيق فأنزلهم الدور ولم يزالوا بالمدائن حتى تم فتح جلولاء وحلوان وتكريت والموصل، واختططت الكوفة فتحولوا إليها، وأرسل في الخمس كل شيء يعجب العرب منهم أن يضع إليهم، وحضر إليهم نهار كسرى وهو الغطف وهو بساط طوله ستون ذراعا في مثلها مقدار مزرعة جريت في أرضه وهي منسوجة بالذهب طرقا كالأنهار وتماثيل خلالها بصدف الدر والياقوت وفي حافاتها كالأرض المزدرعة والمقبلة بالنبات ورقها من الحرير على قضبان الذهب وزهره حبات الذهب والفضة وثمره الجوهر، كانت الأكاسرة يبسطونه في الإيوان في فصل الشتاء عند فقدان الرياحين يشربون عليه، فلما قدمت الأخماس على عمر قسمها في الناس، ثم قال أشيروا في هذا القصب، فاختلفوا وأشاروا على نفسه، فقطعه بينهم، فأصاب عليّ قطعة منه باعها بعشرين ألفا ولم تكن بأجودها.
وولى عمر سعد بن أبي وقاص على الصلاة والحرب فيما غلب عليه، وولى حذيفة بن اليمان على سقي الفرات، وعثمان بن حنيف على سقي دجلة، ولما انتهى الفرس بالهرب إلى جلولاء، وافترقت الطرق من هنالك بأهل آذربيجان والباب وأهل الجبال وفارس، وقفوا هنالك خشية الافتراق واجتمعوا على مهران الرازيّ وخندقوا على أنفسهم وأحاطوا الخندق بجسر الحديد، وتقدّم يزدجرد إلى حلوان. وبلغ ذلك سعدا فكاتب عمر بذلك يأمره أن يسرح بجلولاء هاشم ابن أخيه عتبة في اثني عشر ألفا وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، وأن يولي القعقاع بعد الفتح ما بين السواد والجبل. فسار هاشم من المدائن لذلك في وجوه المسلمين وأعلام العرب حتى قدم جلولاء فأحاط بهم وحاصرهم في خنادقهم، وزاحفوهم ثمانين يوما ينصرون عليهم في

(2/538)


كلها والمدد متصل من هاهنا وهاهنا ثم قاتلهم آخر الأيام فقتلوا منهم أكثر من ليلة الهرير، وأرسل الله عليهم ريحا وظلمة فسقط فرسانهم في الخندق وجعلوه طرقا مما يليهم ففسد حصنه، وشعر المسلمون بذلك فجاء القعقاع إلى الخندق فوقف على بابه، وشاع في الناس أنه أخذ في الخندق، فحمل الناس حملة واحدة انهزم المشركون لها وافترقوا، ومرّوا بالجسرة التي تحصنوا بها فعقرت دوابهم فترجلوا ولم يفلت منهم إلا القليل، يقال إنه قتل منهم يومئذ مائة ألف. واتبعهم القعقاع بالطلب إلى خانقين، وأجفل يزدجرد من حلوان إلى الري واستخلف عليها حشرشوم [1] ، وجاء القعقاع إلى حلوان فبرز إليه حشرشوم وعلى مقدمته الرومي، فقتله القعقاع وهرب حشرشوم من ورائه، وملك القعقاع حلوان وكتب إلى عمر بالفتح واستأذنوا في اتباعهم، فأبى وقال: وددت أنّ بين السواد والجبل سدا حصينا من ريف السواد فقد آثرت سلامة المسلمين على الأنفال.
وأحصيت الغنيمة فكانت ثلاثين ألف ألف، فقسمها سلمان بن ربيعة، يقال: إنه أصاب الفارس تسعة آلاف وتسعة من الدواب. وبعثوا بالأخماس إلى عمر مع زياد ابن أبيه. فلما قدم الخمس قال عمر: والله لا يجنه سقف حتى أقسمه، فجعله في المسجد وبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم يحرسانه، ولما أصبح جاء في الناس ونظر إلى ياقوتة وجوهرة فبكى، فقال عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا موطن شكر؟ قال: والله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا فيلقي الله بأسهم بينهم. ومنع عمر من قسمة السواد ما بين حلوان والقادسية فاقرّه حبسا، واشترى جرير بعضه بشاطئ الفرات فردّ عمر الشراء.
ولما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن بلغهم أن أدين بن الهرامون جمع جمعا وجاء بهم إلى السهل، فبعث إليه ضرار بن الخطاب في جيش فلقيهم بماسبدان فهزمهم وأسر أدين فقتله، وانتهى في طلبهم إلى النهروان وفتح ماسبدان عنوة وردّ إليها أهلها ونزل بها فكانت أحد فروج الكوفة، وقيل كان فتحها بعد نهاوند والله سبحانه أعلم.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: خسرشوم وفي نسخة أخرى خشرشوم وفي الطبري ج 4 ص 136: خسروشنوم.

(2/539)


ولاية عتبة بن غزوان على البصرة
كان عمر عند ما بعث المثنى إلى الحيرة بعث قطبة [1] بن قتادة السدوسي [2] إلى البصرة فكان يغير بتلك الناحية، ثم استمدّ عمر فبعث إليه شريح بن عامر بن سعد ابن بكر فأقبل إلى البصرة ومضى إلى الأهواز، ولقيه مسلحة الأعاجم فقتلوه. فبعث عمر عتبة بن غزوان واليا على تلك الناحية، وكتب إلى العلاء بن الحضرميّ أن يمدّه بعرفجة بن هرثمة وأمره أن يقيم بالتخوم بين أرض العرب وأرض العجم، فانتهى إلى حيال الجسر وبلغ صاحب الفرات خبرهم فأقبل في أربعة آلاف وعتبة في خمسمائة والتقوا فقتلوا الأعاجم أجمعين وأسروا صاحب الفرات، ثم نزل البصرة في ربيع سنة أربع عشرة، وقيل إنّ البصرة بصرت سنة ست عشرة بعد جلولاء وتكريت. وأرسل سعد إليها عتبة فأقام بها شهرا وخرج إليه أهل الأبلة، وكانت مرفأ للسفن من الصين، فهزمهم عتبة وأحجرهم في المدينة ورجع إلى عسكره، ورعب الفرس فخرجوا عن الأبلة وحملوا ما خف وأدخلوا المدينة وعبروا النهر، ودخلها المسلمون فغنموا ما فيها واقتسموه.
ثم اختط البصرة وبدأ بالمسجد فبناه بالقصب. وجمع لهم أهل دست ميان فلقيهم عتبة فهزمهم وأخذ مرزبانها أسيرا، وأخذ قتادة منطقته فبعث بها إلى عمر، وسأل عنهم فقيل له: انثالت عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهب والفضة. فرغب الناس في البصرة وأتوها. ثم سار عتبة إلى عمر بعد أن بعث مجاشع بن مسعود في جيش إلى الفرات، واستخلف المغيرة بن شعبة على الصلاة إلى قدوم مجاشع [3] ، وجاء ألف بيكان من عظماء الفرس إلى المسلمين ولقيهم المغيرة بن شعبة بالمرغاب وبينما هم في القتال إذ لحق بهم النساء وقد اتخذن خمرهن رايات، فانهزم الأعاجم وكتبوا بالفتح إلى عمر، فردّ عتبة إلى عمله فمات في طريقه، وقيل إن إمارة عتبة كانت سنة خمس عشرة وقيل ست عشرة فوليها ستة أشهر، واستعمل عمر بعد المغيرة بن شعبة سنتين فلما رمى بما رمى به عزله، واستعمل أبا موسى. وقيل استعمل بعد عتبة أبا سبرة وبعده المغيرة.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: قتبة.
[2] وفي نسخة ثانية: السلوسي.
[3] وفي النسخة الباريسية: مشاجع.

(2/540)


وقعة مرج الروم وفتوح مدائن الشام بعدها
لما انهزم الروم بفحل سار أبو عبيدة وخالد إلى حمص واجتمعوا بذي الكلاع في طريقهم وبعث هرقل توذر البطريق للقائهم فنزلوا جميعا مرج الروم، وكان توذر بإزاء بخالد وشمس [1] بطريق آخر بإزاء أبي عبيدة وأمسوا متباريين [2] . ثم أصبح فلم يجدوا توذر وسار إلى دمشق واتبعه خالد، واستقبله يزيد من دمشق فقاتله، وجاء خالد من خلفه فلم يفلت منهم إلا القليل وغنموا ما معهم.
وقاتل شمس [3] أبو عبيدة بعد مسير خالد فانهزم الروم وقتلوا واتبعهم أبو عبيدة إلى حمص ومعه خالد، فبلغ ذلك هرقل فبعث بطريق حمص إليها وسار هو في الرهاء، فحاصر أبو عبيدة حمص حتى طلبوا الأمان فصالحهم، وكان هرقل يعدهم في حصارهم المدد، وأمر أهل الجزيرة بامدادهم فساروا لذلك. وبعث سعد بن أبي وقاص العساكر من العراق فحاصروا هبت وقرقيسيا فرجع أهل الجزيرة إلى بلادهم. ويئس أهل حمص من المدد فصالحوا على صلح أهل دمشق، وأنزل أبو عبيدة فيها السمط بن الأسود في بني معاوية من كندة الأشعث بن ميناس في السكون والمقداد في بلي وغيرهم، وولى عليهم أبو عبيدة عبادة بن الصامت وصار إلى حماة فصالحوه على الجزية عن رءوسهم والخراج عن أرضهم، ثم سار نحو شيزر فصالحوا كذلك، ثم إلى المعرة كذلك ويقال معرة النعمان وهو النعمان بن بشير الأنصاري. ثم سار إلى اللاذقية ففتحها عنوة ثم سليمة أيضا، ثم أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قنسرين فاعترضه ميناس عظيم الروم بعد هرقل فهزمهم خالد وأثخن فيهم، ونازل قنسرين حتى افتتحها عنوة وخربها. وأدرب إلى هرقل من ناحيته، وأدرب عياض بن غنم لذلك، وأدرب عمر بن مالك من الكوفة إلى قرقيسيا، وأدرب عبد الله بن المعتمر من الموصل، فارتحل هرقل إلى القسطنطينية من أمدها، وأخذ أهل الحصون بين الإسكندرية [4] وطرسوس وشعبها أن ينتفع المسلمون بعمارتها. ولما بلغ عمر صنيع خالد قال: «أمّر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: شمر.
[2] وفي نسخة ثانية: مستترين.
[3] وفي نسخة ثانية: ششس.
[4] هي الاسكندرونة مع مقتضى السياق.

(2/541)


خالد نفسه يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم مني بالرجال» . وقد كان عزل خالدا والمثنى بن حارثة خشية أن يداخلهما كبر من تعظيم فوكلوا إليه، ثم رجع عن رأيه في المثنى عند قيامه بعد أبي عبيد، وفي خالد بعد قنسرين فرجع خالد إلى إمارته.
ولما فرغ أبو عبيدة من قنسرين سار إلى حلب وبلغه أن أهل قنسرين غدروا فبعث إليهم السمط الكندي فحاصرهم وفتح وغنم، ووصل أبو عبيدة إلى خناصر [1] حلب وهو موضع قريب منها يجمع أصنافا من العرب، فصالحوا على الجزية ثم أسلموا بعد ذلك. ثم أتى حلب وكان على مقدّمته عياض بن غنم الفهري فحاصرهم حتى صالحوه على الأمان، وأجاز ذلك أبو عبيدة، وقيل صولحوا على مقاسمة الدور والكنائس، وقيل انتقلوا إلى انطاكية حتى صالحوا ورجعوا إلى حلب.
ثم سار أبو عبيدة من حلب إلى أنطاكية وبها جمع كبير من فل قنسرين وغيرهم ولقوة قريبا منها فهزمهم وأحجرهم وحاصرهم حتى صالحوه على الجلاء أو الجزية ورحل عنهم، ثم نقضوا فبعث أبو عبيدة إليهم عياض بن غنم وحبيب بن مسلمة ففتحاها على الصلح الأول وكانت عظيمة الذكر، فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرتب فيها حامية مرابطة ولا يؤخر عنهم العطاء [2] . ثم بلغ أبا عبيدة أن جمعا بالروم بين معرة مصرين وحلب فسار إليهم فهزمهم وقتل بطارقتهم، وأمعن بل وأثخن فيهم، وفتح معرة مصرين على صلح حلب. وجالت خيوله فبلغت سرمين وتيري وغلبوا على جميع أرض قنسرين وأنطاكية، ثم فتح حلبة ثانية.
وسار يريد قورس، وعلى مقدمته عياض، فصالحوه على صلح أنطاكية. وبث خيله ففتح تل نزار وما يليه، ثم فتح منبج على يد سلمان بن ربيعة الباهلي، ثم بعث عياضا إلى دلوك وعينتاب فصالحهم على مثل منبج واشترط عليهم أن يكونوا عونا للمسلمين.
وولى أبو عبيدة على كل ما فتح من الكور عاملا وضم إليه جماعة وشحن الثغور المخوفة بالحامية. واستولى المسلمون على الشام من هذه الناحية إلى الفرات، وعاد أبو عبيدة إلى فلسطين.
وبعث أبو عبيدة جيشا مع ميسرة بن مسروق العبسيّ، فسلكوا درب تفليس إلى بلاد الروم فلقي جمعا للروم ومعهم عرب من غسان وتنوخ وإياد يريدون اللحاق بهرقل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: حاضر.
[2] وفي النسخة الابريسية: ولا يجبي منهم العطاء.

(2/542)


فأوقع بهم وأثخن فيهم، ولحق به على أنطاكية مالك بن الأشتر النخعي مددا، فرجعوا جميعا إلى أبي عبيدة. وبعث أبو عبيدة جيشا آخر إلى مرعش مع خالد بن الوليد ففتحها على إجلاء أهلها بالأمان وخرّبها، وبعث جيشا آخر مع حبيب بن مسلمة إلى حصن الحرث كذلك. وفي خلل ذلك فتحت قيسارية، بعث إليها يزيد بن أبي سفيان أخاه معاوية بأمر عمر فسار إليها وحاصرهم بعد أن هزمهم، وبلغت قتلاهم في الهزائم ثمانين ألفا وفتحها آخرا وكان علقمة بن مجزز [1] على غزة وفيها القبفار من بطارقة الروم.
وقعة أجنادين وفتح بيسان والأردن وبيت المقدس
لما انصرف أبو عبيدة وخالد إلى حمص بعد واقعة مرج الروم نزل عمرو وشرحبيل على أهل بيسان فافتتحها وصالح أهل الأردن، واجتمع عسكر الروم بأجنادين وغزة وبيسان وعليهم أرطبون من بطارقة الروم، فسار عمرو وشرحبيل إليهم واستخلف على الأردن أبا الأعور السلمي. وكان الأرطبون قد أنزل بالرملة جندا عظيما من الروم وبيت المقدس كذلك، وبعث عمر وعلقمة بن حكيم الفراسي ومسرور [2] بن العكي لقتال أهل بيت المقدس، وبعث أبا أيوب المالكي إلى قتال أهل الرملة، وكان معاوية محاصرا لأهل قيسارية فشغل جميعهم عنه، ثم زحف عمرو إلى الأرطبون واقتتلوا كيوم اليرموك وأشدّ، وانهزم أرطبون إلى بيت المقدس وأفرج له المسلمون الذين كانوا يحاصرونها حتى دخل.
ورجعوا إلى عمرو وقد نزل أجنادين. وقد تقدم لنا ذكر هذه الوقعة قبل اليرموك على قول من جعلها قبلها وهذا على قول من جعلها بعدها. ولما دخل أرطبون بيت المقدس فتح عمرو غزة، وقيل كان فتحها في خلافة أبي بكر، ثم فتح سبسطية وفيها قبر يحيى بن زكريا، وفتح نابلس على الجزية، ثم فتح مدينة لدّ، ثم عمواس وبيت حبرين ويافا ورفح وسائر مدائن الأردن. وبعث إلى الأرطبون فطلب أن يصالح كأهل الشام ويتولى العقد عمر وكتبوا إليه بذلك، فسار عن المدينة واستخلف عليّ بن أبي طالب بعد أن عذله في مسيره فأبى، وقد كان واعد أمراء الأجناد هنالك فلقيه
__________
[1] مجزز: بجيم مفتوحة وزايين الاولى مشردة مكسورة كما في الكامل أهـ.
[2] وفي نسخة ثانية: مسروق.

(2/543)


يزيد ثم أبو عبيدة ثم خالد على الخيول عليهم الديباج والحرير فنزل ورماهم بالحجارة، وقال: أتستقبلوني [1] في هذا الزي؟ وإنما شبعتم منذ سنتين والله لو كان على رأس الماءين لاستبدلت بكم فقالوا: إنها بلاد ثمن. وإن علينا السلاح، فسكت ودخل الجابية. وجاءه أهل بيت المقدس وقد هرب أرطبون عنهم إلى مصر، فصالحوه على الجزية وفتحوها له وكذلك أهل الرملة. وولى علقمة بن حكيم على نصف فلسطين وأسكنه الرملة، وعلقمة بن مجزز على النصف الآخر وأسكنه بيت المقدس، وضم عمرا وشرحبيل إليه فلقياه بالجابية. وركب عمر إلى بيت المقدس فدخلها وكشف عن الصخرة وأمر ببناء المسجد عليها وذلك سنة خمس عشرة وقيل سنة ست عشرة. ولحق أرطبون بمصر مع من أبى الصلح من الروم حتى هلك في فتح مصر، وقيل إنما لحق بالروم وهلك في بعض الصوائف. ثم فرّق عمر العطاء ودون الدواوين سنة خمس عشرة ورتب ذلك على السابقة.
ولما أعطى صفوان بن أمية والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو أقل من غيرهم قالوا:
لا والله لا يكون أحد أكرم منا. فقال: إنما أعطيت على سابقة الإسلام لا على الأحساب. قالوا فنعم إذا. وخرجوا إلى الشام فلم يزالوا مجاهدين وحتى أصيبوا.
ولما وضع عمر الدواوين قال له عليّ وعبد الرحمن ابدأ بنفسك، قال لا بل بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب، ورتب ذلك على مراتب ففرض خمسة آلاف ثم أربعة ثم ثلاثة ثم ألفين وخمسمائة ثم ألفين ثم ألفا واحدا ثم خمسمائة ثم ثلاثمائة ثم مائتين وخمسين ثم مائتين، وأعطى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف لكل واحدة وفضل عائشة بألفين، وجعل النساء على ما رتب فلأهل بدر خمسمائة ثم أربعمائة ثم ثلاثمائة ثم مائتين، والصبيان مائة مائة والمساكين جريبين [2] في الشهر، ولم يترك في بيت المال شيئا. وسئل في ذلك فأبى وقال: هي فتنة لمن بعدي. وسأل الصحابة في قوته من بيت المال، فأذنوا له وسألوه في الزيادة على لسان حفصة ابنته متكتمين عنه، فغضب وامتنع، وسألها عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيشه وملبسه وفراشه فأخبرته بالكفاف من ذلك، فقال والله لأضعن الفضول مواضعها ولأتبلغن بالترجية وإنما مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقا
__________
[1] الأصح ان يقول: تستقبلوني.
[2] وفي نسخة ثانية: جرايتين.

(2/544)


وتزود الأول فبلغ المنزل واتبعه الآخر مقتديا به كذلك ثم جاء الثالث بعدهما فإن اقتفى طريقهما وزادهما لحق بهما وإلا لم يبلغهما.
وفتحت في جمادى من هذه السنة تكريت لأن أهل الجزيرة كانوا قد اجتمعوا إلى المرزبان الّذي كان بها وهم من الروم وإياد وتغلب والنمر ومعهم المشهارجة ليحموا أرض الجزيرة من ورائهم، فسرح إليهم سعد بن أبي وقاص بأمر عمر، كاتبه عبد الله بن المعتمر وعلى مقدمته ربعي بن الأفكل وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة، فحاصروهم أربعين يوما وداخلوا العرب الذين معهم فكانوا يطلعونهم على أحوال الروم، ثم يئس الروم من أمرهم واعتزموا على ركوب السفن في دجلة للنجاة، فبعث العرب بذلك إلى المسلمين وسألوهم الأمان، فأجابوهم على أن يسلموا فأسلموا وواعدوهم الثبات والتكبير وأن يأخذوا على الروم أبواب البحر مما يلي دجلة ففعلوا. ولما سمع الروم التكبير من جهة البحر ظنوا أن المسلمين استداروا من هناك فخرجوا إلى الناحية التي فيها المسلمون فأخذتهم السيوف من الجهتين، ولم يفلت إلا من أسلم من قبائل ربيعة من تغلب والنمر وإياد. وقسمت الغنائم فكان للفارس ثلاثة آلاف درهم وللراجل ألف. ويقال إن عبد الله بن المعتمر بعث ربعي بن الأفكل بعهد عمر إلى الموصل ونينوى وهما حصنان على دجلة من شرقيها وغربيها، فسار في تغلب وإياد والنمر وسبقوه إلى الحصنين فأجابوا إلى الصلح وصاروا ذمة. وقيل بل الّذي فتح الموصل عتبة بن فرقد سنة عشرين وأنه ملك نينوى وهو الشرقي عنوة. وصالحوا أهل الموصل وهو الغربي على الجزية وفتح معها جبل الأكراد [1] وجميع أعمال الموصل وقيل إنما بعث عتبة بن فرقد عياض بن غنم عند ما فتح الجزيرة على ما نذكره والله أعلم.
مسير هرقل إلى حمص وفتح الجزيرة وارمينية
كان أهل الجزيرة قد راسلوا هرقل وأغروه بالشام وأن يبعث الجنود إلى حمص وواعدوه المدد، وبعثوا الجنود إلى أهل هيت مما يلي العراق، فأرسل سعد عمر بن مالك بن جبير بن مطعم في جند وعلى مقدمته الحرث بن يزيد العامري فسار إلى هيت وحاصرهم، فلما رأى اعتصامهم بخندقهم حجر عليهم الحرث بن يزيد وخرج
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: معاقيل الأكراد.

(2/545)


في نصف العسكر وجاء قرقيسيا على غرّة فأجابوه إلى الجزية، وكتب إلى الحرث أن يخندق على عسكر الجزيرة فبيت حتى سألوا المسالمة والعود إلى بلادهم فتركهم ولحق بعمر بن مالك.
ولما اعتزم هرقل على قصد حمص وبلغ الخبر أبا عبيدة ضمّ إليه مسالحه وعسكر بفنائها، وأقبل إليه خالد من قنسرين، وكتبوا إلى عمر بخبر هرقل فكتب إلى سعد أن يذهب بل أن يندب الناس مع القعقاع بن عمرو ويسرحهم من يومهم فإن أبا عبيدة قد أحيط به، وان يسرح سهيل بن عدي إلى الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استدعوا الروم إلى حمص، وأن يسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين ثم يقصد حران والرها، وأن يسرح الوليد بن عقبة إلى عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ وأن يكون عياض بن غنم على أمراء الجزيرة هؤلاء إن كانت حرب. فمضى القعقاع من يومه في أربعة آلاف إلى حمص، وسار عياض بن غنم وأمراء الجزيرة كل أمير إلى كورته، وخرج عمر من المدينة فأتى الجابية يريد حمص مغيثا لأبي عبيدة. ولما سمع أهل الجزيرة خبر الجنود فارقوا هرقل ورجعوا إلى بلادهم، وزحف أبو عبيدة إلى الروم فانهزموا، وقدم القعقاع من العراق بعد الوقعة بثلاث، وكتبوا إلى عمر بالفتح فكتب إليهم أن أشركوا أهل العرب في الغنيمة. وسار عياض بن غنم إلى الجزيرة وبعث سهيل بن عدي إلى الرقة عند ما انقبضوا عن هرقل فنهضوا معه، إلا إياد بن نزار، فإنّهم دخلوا أرض الروم. ثم بعث عياض بن سهيل وعبد الله يضمهما إليه، وسار بالناس إلى حران فأجابوه إلى الجزية. ثم سرح سهيلا وعبد الله إلى الرها فأجابوا إلى الجزية، وكمل فتح الجزيرة. وكتب أبو عبيدة إلى عمر لما رجع من الجابية، وانصرف معه خالد أن يضم إليه عياض بن غنم مكانه ففعل، وولى حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها والوليد بن عقبة على عربها.
ولما بلغ عمر دخول إياد إلى بلاد الروم، كتب إلى هرقل بلغني أن حيّا من أحياء العرب تركوا دارنا وأتوا دارك فو الله لتخرجنهم أو لنخرجنّ النصارى إليك، فأخرجهم هرقل وتفرّق منهم أربعة آلاف فيما يلي الشام والجزيرة، وأبى الوليد بن عقبة أن يقبل منهم إلا الإسلام، فكتب إليه عمر إنما ذلك في جزيرة العرب إلى تل التي فيها مكة والمدينة واليمن فدعهم على أن لا ينصرفوا وليدا ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام. ثم وفدوا إلى عمر في أن يضع عنهم اسم الجزيرة فجعلها الصدقة مضاعفة.

(2/546)


ثم عزل الوليد عنهم لسطوته وعزتهم، وأمر عليهم فرات بن حيان وهند بن عمر الجملي.
وقال ابن إسحاق: إن فتح الجزيرة كان سنة تسع عشرة وإن سعدا بعث إليها الجند مع عياض بن غنم وفيهم ابنه عمر مع عياض بن غنم، ففتح عمر مع عياض الرها، وصالحت حرّان، وافتتح أبو موسى نصيبين، وبعث عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية فصالحوه على الجزية، ثم كان فتح قيسارية من فلسطين، فتكون الجزيرة على هذا من فتوح أهل العراق والأكثر أنها من فتوح أهل الشام. وأن أبا عبيدة سيّر عياض بن غنم إليها، وقيل بل استخلفه لما توفي، فولاه عمر على حمص وقنسرين والجزيرة فسار إليها سنة ثمان عشرة في خمسة آلاف فانته طائفة إلى الرقة فحاصروها حتى صالحوه على الجزية والخراج على الفلاحين. ثم سار إلى بحران فجهز عليها صفوان بن المعطل وحبيب بن مسلمة، وسار هو إلى الرها فحاصرها حتى صالحوه.
ثم رجع إلى حران وصالحهم كذلك، ثم فتح سميساط وسروج ورأس كيفا فصالحوه على منبج كذلك، ثم آمد ثم ميافارقين ثم كفرتوثا [1] ثم نصيبين ثم ماردين ثم الموصل وفتح أحد حصنيها، ثم سار إلى أرزن الروم ففتحها ودخل الدرب إلى بدليس [2] . ثم خلاط فصالحوه وانتهى إلى اطراف أرمينية، ثم عاد إلى الرقّة ومضى إلى حمص فمات. واستعمل عمر عمير بن سعد الأنصاري ففتح رأس عين وقيل إن عياضا هو الّذي أرسله، وقيل إن أبا موسى الأشعري هو الّذي افتتح رأس عين بعد وفاة عياض بولاية عمر، وقيل إن خالدا حضر فتح الجزيرة مع عياض ودخل الحمام بآمد فأطلى بشيء فيه خمر وقيل لم يسر خالد تحت لواء أحد بعد أبي عبيدة.
ولما فتح عياض سميساط بعث حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوة أيضا ورتب فيها الجند وولى عليها، ولما أدرب عياض بن غنم من الجابية. فرجع عمر إلى المدينة سنة سبع عشرة وعلى حمص أبو عبيدة، وعلى قنسرين خالد بن الوليد من تحته، وعلى دمشق يزيد، وعلى الأردن معاوية، وعلى فلسطين علقمة بن مجزز، وعلى السواحل عبد الله بن قيس. وشاع في الناس ما أصاب خالد مع عياض بن غنم من الأموال فانتجعه رجال منهم الأشعث بن قيس وأجازه بعشرة آلاف، وبلغ ذلك
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: كفرنونا.
[2] وفي النسخة الباريسية: تفليس.

(2/547)


عمر مع ما بلغه في آمد من تدلكه بالخمر، فكتب إلى أبي عبيدة أن يقيمه في المجلس وينزع عنه قلنسوته ويعقله بعمامته ويسأله من أين أجاز الأشعث؟ فإن كان من ماله فقد أسرف فاعزله واضمم إليك عمله. فاستدعاه أبو عبيدة وجمع الناس وجلس على المنبر وسأل البريد [1] خالدا فلم يجبه، فقام بلال وأنقذ فيه أمر عمر وسأله، فقال: من مالي فأطلقه وأعاد قلنسوته وعمامته. ثم استدعاه عمر فقال من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان وما زاد على ستين ألفا فهو لك فجمع ماله فزاد عشرين فجعلها في بيت المال ثم استصلحه.
وفي سنة سبع عشرة هذه اعتمر عمر ووسع في المسجد، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على من أبى البيع دورهم لذلك، وكانت العمارة في رجب وتولاها: مخرمة بن نوفل، والأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى وسعيد بن يربوع، واستأذنه أهل المياه أن يبنو المنازل بين مكة والمدينة فأذن لهم على شرط أن ابن السبيل أحق بالظل والماء.
غزو فارس من البحرين وعزل العلاء عن البصرة ثم المغيرة وولاية أبي موسى
كان العلاء بن الحضرميّ على البحرين أيام أبي بكر ثم عزله عمر بقدامة بن مظعون ثم أعاده، وكان العلاء يناوئ سعيد بن أبي وقاص ووقع له في قتال أهل الردة ما وقع، فلما ظفر سعد بالقادسية كانت أعظم من فعل العلاء، فأراد أن يؤثر في الفرس شيئا فندب الناس إلى فارس وأجابوه، وفرّقهم أجنادا بين الجارود بن المعلى والسوار ابن همام وخليد بن المنذر وأمره على جميعهم وحمله في البحر إلى فارس بغير إذن من عمر لأنه كان ينهي عن ذلك وأبو بكر قبله خوف الغرق. فخرجت الجنود إلى اصطخروا بإزائهم الهربذ في أهل فارس، وحالوا بينهم وبين سفنهم فخاطبهم خليد وقال: إنما جئتم لمحاربتهم والسفن والأرض لمن غلب. ثم ناهدوهم واقتتلوا بطاوس، وقتل الجارود والسوار وأمر خليد أصحابه أن يقاتلوا رجّالة، وقتل من الفرس مقتلة عظيمة، ثم خرج المسلمون نحو البصرة وأخذ الفرس عليهم الطرق فعسكروا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اليزيد.

(2/548)


وامتنعوا، وبلغ ذلك عمر فأرسل إلى عتبة بالبصرة يأمره بإنفاذ جيش كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا، وأمر العلاء بالانصراف عن البحرين إلى سعد بمن معه، فأرسل عتبة الجنود اثني عشر ألف مقاتل فيهم عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة والأحنف بن قيس وأمثالهم وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم بن عامر بن لؤيّ، فساحل بالناس حتى لقوا خليدا والعسكر، وقد تداعى إليهم بعد وقعة طاوس أهل فارس من كل ناحية، فاقتتلوا وانهزم المشركون وقتلوا. ثم انكفؤا بما أصابوا من الغنائم واستحثهم عتبة بالرجوع فرجعوا إلى البصرة.
ثم استأذن عتبة في الحج فأذن له عمر فحج، ثم استعفاه فأبى وعزم عليه ليرجعن إلى عمله فانصرف ومات ببطن نخلة على رأس ثلاث سنين من مفارقة سعد. واستخلف على عمله أبا سبرة بن أبي رهم فأقره عمر بقية السنة.
ثم استعمل المغيرة بن شعبة عليها، وكان بينه وبين أبي بكرة منافرة وكانا متجاوزين في مشربتين ينفذ البصر من إحداهما إلى الأخرى من كوتين، فزعموا أن أبا بكرة وزياد بن أبيه وهو أخوه لأمه [1] وآخرين معهما عاينوا المغيرة على حالة قذفوه بها، وادعوا الشهادة ومنعه أبو بكرة من الصلاة، وبعثوا إلى عمر، فبعث أبا موسى أميرا في تسعة وعشرين من الصحابة فيهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر ومعهم كتاب عمر إلى المغيرة: «أما بعد فقد بلغني عنك نبأ عظيم وبعثت أبا موسى أميراً فسلم إليه ما في يدك والعجل» . ولما استحضرهم عمر اختلفوا في الشهادة ولم يستكملها زياد فجلد الثلاثة. ثم عزل أبا موسى عن البصرة بعمر بن سراقة ثم صرفه إلى الكوفة ورد أبا موسى فأقام عليه.
بناء البصرة والكوفة
وفي هذه السنة وهي اربع عشرة بلغ عمر أن العرب تغيرت ألوانهم ورأى ذلك في وجوه وفودهم فسألهم فقالوا وخومة البلاد غيرتنا، وقيل إن حذيفة وكان معه سعد كتب بذلك إلى عمر فسأل عمر سعدا فقال: غيرتهم وخومة البلاد والعرب لا يوافقها من البلاد إلا ما وافق إبلها، فكتب إليه أن يبعث سلمان وحذيفة شرقية فلم يرضيا إلا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: اخوه لأبيه.

(2/549)


بقعة الكوفة فصليا فيها ودعيا أن تكون منزل ثبات. ورجع إلى سعد فكتب إلى القعقاع وعبد الله بن المعتمر أن يستخلفا على جند هما ويحضرا، وارتحل من المدائن فنزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة لسنتين وشهرين من وقعة القاسية ولثلاث سنين وثمانية أشهر من ولاية عمر، وكتب إلى عمر إني قد نزلت الكوفة بين الحيرة والفرات برّيا بحريا بين الجلاء والنصر وخيرت الناس بينهما وبين المدائن ومن أعجبته تلك جعلته فيها مسلحة، فلما استقروا بالكوفة ثاب إليهم ما فقدوه من حالهم. ونزل أهل البصرة أيضا منازلهم في وقت واحد مع أهل الكوفة بعد ثلاث مرات نزلوها من قبل واستأذنوا جميعا في بنيان القصب، فكتب عمر: إن العسكرة أشد لحربكم وأذكر لكم وما أحب أن أخالفكم فابتنوا بالقصب. ثم وقع الحريق في القصرين فاستأذنوا في البناء باللبن فقال: افعلوا ولا يزيد أحد على ثلاثة بيوت ولا تطاولوا في البنيان والزموا السنّة تلزمكم الدولة. وكان على تنزيل الكوفة أبو هياج بن مالك، وعلى تنزيل البصرة أبو المحرب عاصم بن الدلف. وكانت ثغور الكوفة أربعة: حلوان وعليها القعقاع، وماسبدان وعليها ضرار بن الخطاب، وقرقيسيا وعليها عمر بن مالك، والموصل وعليها عبد الله بن المعتمر. ويكون بها خلفاؤهم إذا غابوا.
فتح الأهواز والسوس بعدهما
لما انهزم الهرمزان يوم القادسية قصد خوزستان وهي قاعدة الأهواز فملكها وملك سائر الأهواز، وكان أصله منهم من البيوتات السبعة في فارس، وأقام يغير على أهل ميسان ودست ميسان من ثغور البصرة يأتي إليها من منادر ونهير تيري من ثغور الأهواز.
واستمد عتبة بن غزوان سعدا فأمده بنعيم بن مقرن، ونعيم بن مسعود، فنزلا بين ثغور البصرة وثغور الأهواز. وبعث عتبة بن غزوان سلمي بن القين وحرملة بن مريطة [1] من بني العدوية بن حنظلة فنزلا على ثغور البصرة بميسان، ودعوا بني العم بن مالك وكانوا ينزلون خراسان، فأهل البلاد يأمنونهم، فاستجابوا وجاء منهم غالب الوائلي وكليب بن وائل الكلبي فلقيا سلمي وحرملة وواعداهما الثورة بمنادر ونهر تيري. ونهض سلمي وحرملة يوم الموعد في التعبية وأنهضا نعيما والتقوا هم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بن قريضة.

(2/550)


والهرمزان [1] وسلمي على أهل البصرة ونعيم على أهل الكوفة، وأقبل إليهما المدد من قبل غالب وكليب وقد ملك منادر ونهر تيري، فانهزم وقتل المسلمون من أهل فارس مقتلة، وانتهوا في اتباعهم إلى شاطئ دجيل وملكوا ما دونها. وعبر الهرمزان جسر سوق الأهواز وصار دجيل بينه وبين المسلمين، ثم طلب الهرمزان الصلح فصالحوه على الأهواز كلها ما خلا [2] نهر تيري ومنادر وما غلبوا عليه من سوق الأهواز فإنه لا يرد، وبقيت المسالح على نهر تيري ومنادر وفيهما غالب وكليب. ثم وقع بينهما وبين الهرمزان اختلاف في التخم واوافقهما سلمي وحرملة فنقض الهرمزان ومنع ما قبل وكثف جنوده بالأكراد، وبعث عتبة بن غزوان حرقوص بن زهير السعدي لقتاله، فانهزم وسار إلى رامهرمز وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها واتسقت [3] له البلاد إلى تستر. ووضع الجزية وكتب بالفتح وبعث في أثر الهرمزان جزء بن معاوية فانتهى الى قرية الشغر، ثم الى دورق فملكها وأقام بالبلاد وعمّرها وطلب الهرمزان الصلح على ما بقي من البلاد، ونزل حرقوص جبل الأهواز وكان يزدجرد في خلال ذلك يمد ويحرض أهل فارس حتى اجتمعوا وتعاهدوا مع أهل الأهواز على النصرة، وبلغت الأخبار حرقوصا وجزءا وسلمي وحرملة فكتبوا إلى عمر فكتب إلى سعد أن يبعث جندا كثيفا مع النعمان بن مقرن ينزلون منازل الهرمزان، وكتب إلى أبي موسى أن يبعث كذلك جندا كثيفا مع سعد بن عدي أخي سهيل ويكون فيهم البراء من مالك ومجزأة بن ثور وعرفجة بن هرثمة وغيرهم، وعلى الجندين أبو سبرة بن أبي رهم.
فخرج النعمان بن مقرّن في أهل الكوفة فخلّف حرقوصا وسلمي وحرملة إلى الهرمزان وهو برام هرمز، فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدة ولقيه فانهزم ولحق بتستر، وجاء النعمان إلى رامهرمز فنزلها وجاء أهل البصرة من بعده فلحقهم خبر الواقعة بسوق الأهواز فساروا حتى أتوا تستر، ولحقهم النعمان فاجتمعوا على تستر وبها الهرمزان، وأمدّهم عمر بأبي موسى جعله على أهل البصرة فحاصروهم أشهرا وأكثروا فيهم القتل، وزاحفهم المشركون ثمانين زحفا سجالا ثم انهزموا في آخرها، واقتحم المسلمون خنادقهم وأحاطوا بها وضاق عليهم الحصار فاستأمن بعضهم من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ولقوا الهرمزان.
[2] وفي النسخة الباريسية: ما عدا.
[3] وفي نسخة ثانية: اتسعت.

(2/551)


داخل البلد بمكتوب في سهم على أن يدلهم على مدخل يدخلون منه، فانتدب لهم طائفة ودخلوا المدينة من مدخل الماء وملكوها وقتلوا المقاتلة، وتحصّن الهرمزان بالقلعة فأطافوا بها واستنزلوه على حكم عمرو وأوثقوه. واقتسموا الفيء فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف والراجل ألف. وقتل من المسلمين في تلك الليلة البرّاء بن مالك ومجزأة بن ثور قتلهما الهرمزان.
ثم خرج أبو سبرة في أثر المنهزمين ومعه النعمان وأبو موسى فنزلوا على السوس، وسار زرّ ابن عبد الله الفقيمي إلى جنديسابور فنزل عليها. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري بالرجوع إلى البصرة وأمر مكانه الأسود بن ربيعة بن مالك صحابي يسمّى المقترب، وأرسل أبو سبرة بالهرمزان إلى عمر في وفد منهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الديباج المذهب وتاجه مرصّعا بالياقوت وحليته ليراه المسلمون، فلما رآه عمر أمر بنزع ما عليه وقال يا هرمزان كيف رأيت أمر الله وعاقبة الغدر؟ فقال: يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم. فلما صار الآن معكم غلبتمونا. قال: فما حجتك وما عذرك في الانتقاض مرّة بعد أخرى؟ قال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، قالا لا تخف ذلك. ثم استقى فأتي بالماء فقال: أخاف أن أقتل وأنا أشرب فقال لا بأس عليك حتى تشربه، فألقاه من يده وقال لا حاجة لي في الماء وقد أمّنتني. قال: كذبت. قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين فقد قلت له لا بأس عليك حتى تخبرني وحتى تشربه وصدّق الناس. فأقبل عمر على الهرمزان وقال خدعتني لا والله إلا أن تسلم! فأسلم.
ففرض له في ألفين وأنزله المدينة واستأذنه الأحنف بن قيس في الانسياح في بلاد فارس وقال: لا يزالون في الانتقاض حتى يهلك ملكهم فأذن له.
ولما لحق أبو سبرة بالسوس [1] ونزل عليها وبها شهريار أخو الهرمزان فأحاط بها ومعه المقترب بن ربيعة في جند البصرة، فسأل أهل السوس الصلح فأجابوهم. وسار النعام بن مقرّن بأهل الكوفة إلى نهاوند وقد اجتمع بها الأعاجم، وسار المقترب إلى زرّ بن عبد الله على جنديسابور فحاصروها مدّة ثم رمى السهم بالأمان من خارج على الجزية فخرجوا لذلك، فناكرهم المسلمون فإذا عبد فعل ذلك أصله منهم، فأمضى عمر أمانه. وقيل في فتح السوس إنّ يزدجرد سار بعد وقعة جلولاء فنزل
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بالفرس.

(2/552)


إصطخر ومعه سباه [1] في سبعين ألفا من فارس فبعثه إلى السوس ونزل الكلبانية وبعث الهرمزان إلى تستر، ثم كانت واقعة أبي موسى فحاصرهم فصالحوه على الجزية وسار الى هرمز ثم إلى تستر. ونزل سباه بين رامهرمز وتستر، وحمل أصحابه على صلح أبي موسى ثم على الإسلام على أن يقاتلوا الأعاجم ولا يقتلوا العرب ويمنعهم هو من العرب، ويلحقوا بأشراف العطاء فأعطاهم ذلك عمر [2] وأسلموا وشهدوا فتح تستر، ومضى سباه إلى بعض الحصون في زي العجم فغدرهم وفتحه للمسلمين وكان فتح تستر وما بعدها سنة سبع عشرة وقيل ست عشرة.
مسير المسلمين الى الجهات للفتح
لما جاء الأحنف بن قيس بالهرمزان إلى عمر قال له: يا أمير المؤمنين لا يزال أهل فارس يقاتلون ما دام ملكهم فيهم فلو أذنت بالانسياح في بلادهم فأزلنا [3] ملكهم انقطع رجاؤهم. فأمر أبا موسى أن يسير من البصرة غير بعيد ويقيم حتى يأتي أمره، ثم بعث إليه مع سهيل بن عديّ بألوية الأمراء الذين يسيرون في بلاد العجم: لواء خراسان للأحنف بن قيس، ولواء أردشير خرة وسابور لمجاشع بن مسعود السلمي، ولواء إصطخر لعثمان بن أبي العاص الثقفي، ولواء فسا ودارابجرد لسارية بن زنيم الكناني، ولواء كرمان لسهيل بن عديّ، ولواء سجستان لعاصم بن عمرو، ولواء مكران للحكم بن عمير التغلبي [4] . ولم يتهيأ مسيرهم إلى سنة ثمان عشرة، ويقال سنة إحدى وعشرين أو اثنين وعشرين، ثم ساروا في بلاد العجم وفتحوا كما يذكر بعد.
مجاعة عام الرمادة وطاعون عمواس
وأصاب الناس سنة ثمان عشرة قحط شديد وجدب أعقب جوعا بعد العهد بمثله مع طاعون أتى على جميع الناس، وحلف عمر لا يذوق السمن واللبن حتى يحيا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سياه.
[2] وفي النسخة الباريسية: فعقد لهم ذلك عمر وأسلموا.
[3] وفي النسخة الباريسية: فازلت ملكهم.
[4] وفي نسخة ثانية: الثعلبي.

(2/553)


الناس، وكتب إلى الأمراء بالأمصار يستمدّهم لأهل المدينة، فجاء أبو عبيدة بأربعة آلاف راحلة من الطعام، وأصلح عمرو بن العاص بحر القلزم وأرسل فيه الطعام من مصر فرخص السعر، واستقى عمر بالناس فخطب الناس وصلّى. ثم قام وأخذ بيد العبّاس وتوسّل به ثم بكى وحثا على ركبتيه يدعوا إلى أن مطر الناس. وهلك بالطاعون أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وابنه عتبة في آخرين أمثالهم. وتفانى الناس بالشام، وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرتفع بالمسلمين من الأرض التي هو بها فدعا أبا موسى يرتاد له منزلا ومات قبل رحيله، وسار عمر بالناس إلى الشام وانتهى الى سرغ ولقيه أمراء الأجناد وأخبروه بشدّة الوباء، واختلف الناس عليه في قدومه فقبل إشارة العود ورجع، وأخبر عبد الرحمن بن عوف بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الوباء فقال: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه» . أخرجاه في الصحيحين.
ولما هلك يزيد ولّى عمر على دمشق مكانه أخاه معاوية بن أبي سفيان وعلى الأرض شرحبيل بن حسنة، ولمّا فحش أثر الطاعون بالشام أجمع عمر على المسير إليه ليقسّم مواريث المسلمين ويتطوّف على الثغور ففعل ذلك، ورجع واستقضى في سنة ثمان عشرة على الكوفة شريح بن الحرث الكنديّ، وعلى البصرة كعب بن سوار الأزديّ.
وحج في هذه السنة ويقال إن فتح جلولاء والمدائن والجزيرة كان في هذه السنة وقد تقدّم ذكر ذلك وكذلك فتح قيسارية على يد معاوية وقيل سنة عشرين.
فتح مصر
ولما فتح عمر بيت المقدس استأذنه عمرو بن العاص في فتح مصر فأغزاه ثم اتبعه الزبير بن العوّام فساروا سنة عشرين أو إحدى أو اثنين أو خمس فاقتحموا باب إليون ثم ساروا في قرى الريف إلى مصر ولقيهم الجاثليق أبو مريم والأسقف قد بعثه المقوقس، وجاء أبو مريم إلى عمرو فعرض الجزية والمنع وأخبره بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم، وأجلّهم ثلاثا ورجعوا إلى المقوقس وأرطبون أمير الروم فأبى من ذلك أرطبون وعزم على الحرب وبيّت المسلمين فهزموه وجنده. ونازلوا عين شمس

(2/554)


وهي المطريّة وبعثوا لحصار الفرما أبرهة [1] بن الصبّاح، ولحصار الإسكندرية عوف ابن مالك، وراسلهم أهل البلاد وانتظروا عين شمس فحاصرهم عمرو والزبير مدة حتى صالحوهما على الجزية، وأجروا ما أخذوا قبل ذلك عنوة، فجرى الصلح وشرطوا ردّ السبايا فأمضاه لهم عمر بن الخطّاب على أن يجيز السبايا في الإسلام وكتب العهد بينهم ونصّه:
«بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمر وبن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم ودمهم وأموالهم وكافّتهم وصاعهم [2] ومدّهم وعددهم لا يزيد شيء في ذلك ولا ينقص ولا يساكنهم النوب، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف وعليه ممن جنى نصرتهم فإن أبي أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزى بقدرهم [3] وذمتنا ممّن أبى بريّة وإن نقص نهرهم من غايته [4] إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله ما لهم وعليه ما عليهم ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ويخرج من سلطاننا، وعليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلاث جباية ثلث ما عليهم على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين. وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا وكذا وكذا فرسا على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر» هذا نص الكتاب منقولا من الطبري.
قال فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح ونزل المسلمون الفسطاط، وجاء أبو مريم الجاثليق يطلب السبايا التي بعد المعركة في أيام الأجل فأبى عمرو من ردّها وقال: أغاروا وقاتلوا وقسّمتهم في الناس، وبلغ الخبر إلى عمر فقال: من يقاتل في أيام الأجل فله الأمن وبعث بهم إلى الرباق [5] فردّهم عليهم. ثم سار عمرو إلى الإسكندرية فاجتمع له من بينهما وبين الفسطاط من الروم والقبط فهزمهم وأثخن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الفورفا أبرهة.
[2] وفي النسخة الباريسية: وصلبهم.
[3] وفي نسخة ثانية: من الجزية بعددهم.
[4] وفي النسخة الباريسية: من عادته
[5] وفي نسخة ثانية: الرقاق

(2/555)


فيهم، ونازل الإسكندرية وبها المقوقس وسأله الهدنة إلى مدّة فلم يجبه وحاصرهم ثلاثة أشهر ثم فتحها عنوة وغنم ما فيها وجعلهم ذمة. وقيل إنّ المقوقس صالح عمرا على اثني عشر ألف دينار على أن يخرج من يخرج ويقيم من يقيم باختيارهم وجعل عمرو فيها جندا.
ولما تم فتح مصر والإسكندرية أغزى عمرو العساكر إلى النوبة فلم يظفروا، فلما كان أيام عثمان وعبد الله بن أبي سرح على مصر صالحهم على عدّة رءوس في كل سنة ويهدي إليهم المسلمون طعاما وكسوة فاستمرّ ذلك فيها [1] .
وقعة نهاوند وما كان بعدها من الفتوحات
لما فتحت الأهواز ويزدجرد بمرو كاتبوه واستنجدوه، فبعث إلى الملوك ما بين الباب والسند وخراسان وحلوان يستمدّهم فأجابوه، واجتمعوا إلى نهاوند وعلى الفرس الفيرزان في مائة وخمسين ألف مقاتل. وكان سعد بن أبي وقّاص قد ألّب أقوام عليه من عسكره، وشكوا إلى عمر فبعث محمد بن مسلمة في الكشف عن أمره فلم يسمع إلّا خيرا سوى مقالة من بني عبس، فاستقدمه محمد إلى عمر وخبّره الخبر. وقال:
كيف تصلّي يا سعد؟ قال: أطيل [2] الأولتين وأحذف الأخيرتين. قال: هكذا [3] الظنّ بك، ثم قال: من خليفتك على الكوفة؟ قال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان فأقرّه وشافهه بخبر الأعاجم وأشار بالانسياح ليكون أهيب على العدوّ. فجمع عمر الناس واستشارهم بالمسير بنفسه، فمن موافق ومخالف إلى أن اتفق رأيهم على أن يبعث الجنود ويقيم ردءا لهم، وكان ذلك رأي عليّ وعثمان وطلحة وغيرهم، فولّى على حربهم النعمان بن مقرّن المزني وكان على جند الكوفة بعد انصرافهم من حصار السوس، وأمره أن يصير إلى ماء لتجتمع الجيوش عليه ويسير بهم إلى الفيرزان ومن معه. وكتب إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان أن يستنفر الناس مع النعمان، فبعثهم مع حذيفة بن اليمان ومعه نعيم بن مقرّن، وكتب إلى المقترب وحرملة وزرّ الذين كانوا بالأهواز وفتحوا السوس وجنديسابور أن يقيموا بتخوم أصبهان وفارس ويقطعوا المدد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فيما بعد.
[2] وفي النسخة الباريسية: أصلى الأولتين.
[3] وفي النسخة الباريسية: هو

(2/556)


عن أهل نهاوند.
واجتمع الناس على النعمان وفيهم حذيفة وجرير والمغيرة وابن عمر وأمثالهم، وأرسل النعمان طليحة وعمرو بن معديكرب طليعة، ورجع عمرو من طريقه. وانتهى طليحة إلى نهاوند ونفض الطرق فلم يلق بها أحدا وأخبر الناس، فرحل النعمان وعبّى المسلمين ثلاثين ألفا، وجعل على مقدمته نعيم بن مقرّن وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرّن وعلى المجردة القعقاع وعلى الساقة مجاشع بن مسعود. ومع الفيرزان كتائبه وعلى مجنبتيه الزردق وبهمن جادويه مكان ذي الحاجب، وقد توافي إليهم بنهاوند كل من غاب من القادسية من أبطالهم.
فلما تراءى الجمعان كبر المسلمون وحطت العرب الأثقال وتبادر أشراف الكوفة إلى فسطاط النعمان فبنوه، حذيفة بن اليمان والمغيرة بن شعبة وعقبة بن عمرو وجرير بن عبد الله وحنظلة الكاتب وبشير بن الخصاصية والأشعث بن قيس ووائل بن حجر وسعيد بن قيس الهمدانيّ. ثم تزاحفوا للقتال يوم الأربعاء والخميس والحرب سجال ثم أحجروهم في خنادقهم يوم الجمعة وحاصروهم أياما، وسئم المسلمون اعتصامهم بالخنادق وتشاوروا، وأشار طليحة باستخراجهم للمناجزة بالاستطراد فناشبهم القعقاع فبرزوا إليه كأنهم حبال حديد قد تواثقوا أن لا يفرّوا وألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا ينهزموا، فلمّا بارزوا استطرد لهم حتى فارقوا الخنادق وقد ثبت لهم المسلمون ونزل الصبر، ثم وقف النعمان على الكتائب وحرّض المسلمين ودعا لنفسه بالشهادة، وقال: إذا كبّرت الثالثة فاحملوا. ثم كبّر وحمل عند الزوال وتجاول الناس ساعة وركدت الحرب ثم انفض الأعاجم وانهزموا وقتلوا ما بين الظهر والعتمة حتى سالت أرض المعركة دما تزلق فيه المشاة حتى زلق فيه النعمان وصرع، وقيل بل أصابه سهم، فسجّاه أخوه نعيم بثوب. وتناول الراية حذيفة بعهده وتواصوا بكتمان موته. وذهب الأعاجم ليلا وعميت عليهم المذاهب، وعقرهم حسك الحديد ووقعوا في اللهب الّذي أعدوه في عسكرهم فمات منهم أكثر من مائة ألف منها نحو ثلاثين ألفا في المعركة، وهرب الفيرزان بعد أن صرع إلى همذان واتبعه نعيم بن مقرّن فأدركه بالثنية دونها وقد سدّتها الأحمال وترجل وصعد في الجبل، وكان نعيم قد قدّم القعقاع أمامه فاعترضه وقتله المسلمون على الثنية، ودخل الفلّ همذان وبها خسروشنوم فنزل المسلمون عليها مع نعيم والقعقاع، ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة وغنموا ما فيها

(2/557)


وجمعوه إلى صاحب الأقباض السائب بن الأقرع.
ووليّ على الجند حذيفة بعهد النعمان إليه. ثم جاء الهربذ صاحب بيت النار إلى حذيفة فأمّنه وأخرج له سفطين مملو أين [1] جوهرا نفيسا كانا من ذخائر كسرى أودعهما عنده البخرجان [2] فنقلهما المسلمون، وبعث الخمس مع السائب إلى عمر وأخبره بالواقعة وبالفتح بمن استشهد فبكى، وبالسفطين فقال ضعهما [3] في بيت المال والحق بجندك. قال السائب: ثم لحقني رسوله بالكوفة فردني إليه فلما رآني قال: ما لي وللسائب ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها فباتت الملائكة تسحبني إلى السفطين يشتعلان نارا يتوعدوني بالكي إن لم أقسّمهما فخذهما عني وبعهما في أرزاق المسلمين. فبعتهما بالكوفة من عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف درهم وباعهما عمرو بأرض الأعاجم بضعفهما، فكان له بالكوفة مال. وكان سهم الفارس بنهاوند ستة آلاف والراجل ألفين ولم يكن للفرس من بعدها اجتماع. وكان أبو لؤلؤة قاتل عمر من أهل نهاوند حصل في أسر الروم وأسره الفرس منهم، فكان إذا لقي سبّي نهاوند بالمدينة يبكي ويقول: أكل عمر كبدي. وكان أبو موسى الأشعري قد حضر نهاوند على أهل البصرة فلما انصرف مرّ بالدينور فحاصرها خمسة أيام، ثم صالحوه على الجزية. وسار إلى أهل شيروان [4] فصالحوه كذلك. وبعث السائب بن الأقرع إلى الصيمرة [5] ففتحها صلحها.
ولما اشتدّ الحصار بأهل همذان بعث خسروشنوم إلى نعيم والقعقاع في الصلح على قبول الجزية فأجابوه إلى ذلك ثم اقتدى أهل الماهين وهم الملوك الذين جاءوا لنصرة يزدجرد وأهل همذان، وبعثوا إلى حذيفة فصالحوه. وأمر عمر بالانسياح في بلاد الأعاجم، وعزل عبد الله بن عبد الله بن عتبان عن الكوفة وبعثه في وجه آخر. وولّى مكانه زياد بن حنظلة حليف بني عبد قصيّ واستعفى فأعفاه، وولّى عمار بن ياسر، واستدعى ابن مسعود من حمص فبعثه معه معلما لأهل الكوفة، وأمدّهم بأبي موسى، وأمدّ
__________
[1] وفي نسخة ثانية: صفتين مملوءتين.
[2] وفي نسخة ثانية: البجرجان.
[3] وفي النسخة ثانية: صنهما.
[4] وفي النسخة الباريسية: سيروان
[5] وفي النسخة الباريسية: العميرة وفي نسخة ثانية: العميرة.

(2/558)


أهل البصرة مكانه بعبد الله بن عبد الله، ثم بعثه إلى أصبهان مكان حذيفة، وولّى على البصرة عمرو بن سراقة.
ثم انتقض أهل همذان فبعث إلى نعيم بن مقرّن فحاصرهم، وصار بعد فتحها إلى خراسان، وبعث عتبة بن فرقد وبكر بن عبد الله إلى أذربيجان يدخل أحدهما من حلوان والآخر من الموصل، ولما وصل عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى أصبهان، وكان من الصحابة من وجوه الأنصار حليف بني الحبلي فأمدّه بأبي موسى، وجعل على مجنبتيه عبد الله بن ورقاء الرياحيّ وعصمة بن عبد الله، فسار إلى نهاوند ورجع حذيفة إلى عمله على ما سقت دجلة. فسار عبد الله بمن معه ومن تبعه من عند النعمان نحو أصبهان، وعلى جندها الأسبيدان وعلى مقدمته شهريار بن جادويه في جمع عظيم برستاق أصبهان، فاقتتلوا وبارز عبد الله بن ورقاء شهريار فقتله، وانهزم أهل أصبهان وصالحهم الأسبيدان على ذلك الرستاق، ثم ساروا إلى أصبهان وتسمى جي [1] وملكها الفادوسفان [2] ، فصالحهم على الجزية والخيار بين المقام والذهاب وقال: ولكم أرض من ذهب. وقدم أبو موسى على عبد الله من ناحية الأهواز فدخل معه أصبهان وكتبوا إلى عمر بالفتح. فكتب إلى عبد الله أن يسير إلى سهيل بن عديّ لقتال كرمان، فاستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع، ولحق بسهيل قبل أن يصل كرمان، وقد قيل: إنّ النعمان بن مقرّن حضر فتح أصبهان أرسله إليها عمر من المدينة واستجاش له أهل الكوفة فقتل في حرب أصبهان، والصحيح أنّ النعمان قتل بنهاوند. وافتتح أبو موسى قم وقاشان. ثم ولّى عمر على الكوفة سنة إحدى وعشرين المغيرة بن شعبة وعزل عمّارا.
فتح همذان
كان أهل همذان قد صالح عليهم خسروشنوم القعقاع ونعيما وضمنهما ثم انتقض فكتب عمر إلى نعيم أن يقصدها فودّع حذيفة ورجع إليها من الطريق على تعبيته، فاستولى على بلادها أجمع حتى صالحوا على الجزية، وقيل إن فتحها كان سنة أربع وعشرين فبينما نعيم يجول في نواحي همذان إذ جاء الخبر بخروج الديلم وأهل الريّ
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وتسمّى جرّ.
[2] وفي النسخة الباريسية: الفادوسوان.

(2/559)


وإسفنديار أخو رستم بأهل آذربيجان، فاستخلف نعيم على همذان يزيد بن قيس الهمدانيّ وسار إليهم فاقتتلوا وانهزم الفرس وكانت واقعتها ومثل نهاوند وأعظم. وكتبوا إلى عمر بالفتح فأمر نعيما بقصد الري والمقام بها بعد فتحها. وقيل إنّ المغيرة بن شعبة أرسل من الكوفة جرير بن عبد الله إلى همذان ففتحها صلحها وغلب على أرضها، وقيل تولّاها بنفسه وجرير على مقدمته. ولما فتح جرير همذان بعث البرّاء بن عازب إلى قزوين ففتح ما قبلها، وسار إليها فاستنجدوا بالديلم فوعدوهم ثم جاء البرّاء في المسلمين فخرجوا لقتالهم والديلم وقوف على الجبل ينظرون، فيئس أهل قزوين منهم وصالحوا البرّاء على صلح أبهر قبلها. ثم غزا البرّاء الديلم وجيلان [1] .
فتح الريّ
ولما انصرف نعيم من واقعته سار إلى الري وخرج إليه أبو الفرخان من أهلها في الصلح وأبى ذلك ملكها سياوخش بن مهران بن بهرام جوبين، واستمدّ أهل دنباوند [2] وطبرستان وقومس [3] وجرجان فأمدّوه [4] والتقوا مع نعيم فشغلوا به عن المدينة، وقد كان خلفهم أبو فرخان. ودخل المدينة من الليل ومعه المنذر بن عمر وأخو نعيم فلم يشعروا وهم موافقون لنعيم إلّا بالتكبير من ورائهم، فانهزموا وقتلوا وأفاء الله على المسلمين بالريّ مثل ما كان بالمدائن، وصالحه أبو الفرخان الزبيني [5] على البلاد فلم يزل شرفهم في عقبه. وأخرب نعيم مدينتهم العتيقة وأمر ببناء أخرى. وكتب إلى عمر بالفتح وصالحه أهل دنباوند على الجزية فقبل منهم.
ولما بعث بالأخماس إلى عمر كتب إليه بإرسال أخيه سويد إلى قومس ومعه هند بن عمرو الجملي، فسار فلم يقم له أحد وأخذها سلما وعسكر بها. وكاتبه الفلّ الذين بطبرستان وبالمفاوز فصالحوه على الجزية، ثم سار إلى جرجان وعسكر فيها ببسطام وصالحه ملكها على الجزية، وتلقاه مرزبان صول قبل جرجان فكان معه حتى جبى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ومرقان التيبر والطيلسان
[2] وفي النسخة الباريسية: ديناوند
[3] وفي النسخة الباريسية: وقوقس.
[4] وفي النسخة الباريسية: فأوفدوه وفي نسخة أخرى: فأمّروه.
[5] وفي النسخة الباريسية: المرسي.

(2/560)


الخراج وأراه مروجها وسدّها، وقيل كان فتحها سنة ثلاثين أيام عثمان، ثم أرسل سويد إلى الأصبهبذ صاحب طبرستان على الموادعة فقبل وعقد له بذلك.
فتح أذربيجان
ولما افتتح نعيم الريّ أمره عمر أن يبعث سماك بن خرشة الأنصاري إلى أذربيجان ممدّا لبكير بن عبد الله [1] ، وكان بكير بن عبد الله عند ما سار إلى أذربيجان لقي بالجبال أسفنديار بن فرّخزاد مهزوما من واقعة نعيم من ماح رود [2] دون همذان وهو أخو رستم فهزمه بكير وأسره. فقال له: أمسكني عندك فأصالح لك على البلاد وإلا فرّوا إلى الجبال وتركوها، وتحصّن من تحصّن إلى يوم ما فأمسكه وسارت البلاد صلحا إلّا الحصون. وقدم عليه سماك وهو في مثل ذلك وقد افتتح ما يليه وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه، وكتب بكير إلى عمر يستأذنه في التقدّم، فأذن له أن يتقدّم نحو الباب وأن يستخلف على ما افتتح، فاستخلف عتبة بن فرقد وجمع له عمر أذربيجان كلها، فولّى عتبة سماك بن خرشة [3] على ما افتتحه بكير. وكان بهرام بن الفرّخزاد قصد طريق عتبة وأقام به في عسكره مقتصدا [4] معترضا له فلقيه عتبة وهزمه، وبلغ خبر الإسفنديار وهو أسير عند بكير فصالحه واتبعه أهل أذربيجان كلهم. وكتب بكير وعتبة بذلك إلى عمر وبعثوا بالأخماس فكتب عمر لأهل أذربيجان كتاب الصلح، ثم غزا عتبة بن فرقد شهرزور والصامغان ففتحهما بعد قتال على الجزية والخراج، وقتل خلقا من الأكراد، وكتب إلى عمر أن فتوحي بلغت أذربيجان فولّاه إياه وولى هرثمة بن عرفجة الموصل.
فتح الباب
ولما أمر عمر بكير بن عبد الله بغزو الباب والتقدم إليها، بعث سراقة بن عمرو على حربها فسار من البصرة، وجعل على مقدّمته عبد الرحمن بن ربيعة وعلى إحدى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لبكر بن عبد الله.
[2] وفي نسخة ثانية: معهم ابو حرود.
[3] وفي النسخة الباريسية: ابن خرثمة.
[4] وفي النسخة الباريسية: معتصر.

(2/561)


مجنبتيه ابن أسيد الغفاريّ وعلى الأخرى بكير بن عبد الله المتقدم والى المقاسم سلمان بن ربيعة الباهليّ، وردّ أبا موسى الأشعري إلى البصرة مكان سراقة، ثم أمدّ سراقة بجبيب بن مسلمة من الجزيرة وجعل مكانه زياد بن حنظلة، وسار سراقة من أذربيجان، فلما وصل عبد الرحمن بن ربيعة في مقدّمته على الباب والملك بها يومئذ شهريار من ولد شهريرار الّذي أفسد بني إسرائيل وأغزى الشام منهم، فكاتبه شهريار واستأمنه على أن يأتي فحضر وطلب الصلح والموادعة على أن تكون جزيته النصر والطاعة للمسلمين، قال: ولا تسومونا الجزية فتوهنونا لعدوّكم. فسيّره عبد الرحمن إلى سراقة فقبل منه وقال: لا بدّ من الجزية على من يقيم ولا يحارب العدوّ.
فأجاب، وكتبوا إلى عمر فأجاز ذلك.
فتح موقان وجبال ارمينية
ولما فرغ سراقة من الباب بعث [1] أمراء إلى ما يليه من الجبال المحيطة بأرمينية، فأرسل بكير بن عبد الله إلى موقان، وحبيب بن مسلمة إلى تفليس، وحذيفة بن اليمان إلى جبال اللان [2] ، وسلمان بن ربيعة إلى الوجه الآخر. وكتب بالخبر الى عمر فلم يرج تمام ذلك لأنه فرج عظيم، ثم بلغه موت سراقة واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة، فأقرّه عمر على فرج الباب وأمره بغزو الترك. ولم يفتح أحد من أولئك الأمراء إلّا بكير بن عبد الله فإنه فتح موقان، ثم تراجعوا على الجزية دينارا عن كل حالم.
غزو الترك
ولما أمر عبد الرحمن بن ربيعة بغزو الترك سار حتى الباب وسار معه شهريار فغزا بلنجر وهم قوم من الترك ففرّوا منه وتحصّنوا، وبلغت خيله على مائتي فرسخ من بلنجر وعاد بالظفر والغنائم. ولم يزل يردّد الغزو فيهم إلى أيام عثمان فتذامر الترك وكانوا يعتقدون أن المسلمين لا يتقلون لأنّ الملائكة معهم، فأصابوا في هذه الغزاة رجلا من المسلمين على غرّة فقتلوه وتجاسروا، وقاتل عبد الرحمن فقتل وانكشف أصحابه، وأخذ الراية أخوه سلمان فخرج بالناس ومعه أبو هريرة الدوسيّ فسلكوا على جيلان إلى جرجان.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ولما فرغ من الباب بعث سراقة.
[2] وفي نسخة ثانية: اللات.

(2/562)


فتح خراسان
ولما عقدت الألوية للأمراء للانسياح في بلاد فارس كان الأحنف بن قيس منهم بخراسان وقد تقدم، أن يزدجرد سار بعد جلولاء إلى الريّ وبها أبان جادويه من مرازبته فأكرهه على خاتمه، وكتب الضحّاك بما اقترح من ذخائر يزدجرد وختم عليها وبعث بها إلى سعد، فردّها عليه على حكم الصلح الّذي عقد له. ثم سار يزدجرد والناس معه إلى أصبهان ثم إلى كرمان ثم رجع إلى مرو من خراسان فنزلها وأمن من العرب، وكاتب الهرمزان وأهل فارس بالأهواز والفيرزان وأهل الجبال فنكثوا [1] جميعا وهزمهم الله وخذلهم وأذن عمر للمسلمين بالانسياح في بلادهم.
وأمّر الأمراء كما قدّمناه وعقد لهم الألوية، فسار الأحنف إلى خراسان سنة ثمان عشرة وقيل اثنتين وعشرين فدخلها من الطبسين [2] ، وافتتح هراة عنوة واستخلف عليها صحار بن فلان [3] العبديّ، ثم سار إلى مرو الشاهجان، وأرسل إلى نيسابور مطرّف بن عبد الله بن الشخّير، وإلى سرخس الحرث بن حسّان، ودرج يزدجرد من مرو الشاهجان إلى مروالروذ فملكها الأحنف ولحقه مدد أهل الكوفة هنالك، فسار الى مروالروذ واستخلف على الشاهجان حارثة بن النعمان الباهلي وجعل مدد الكوفة في مقدّمته، والتقوا هم ويزدجرد على بلخ فهزموه وعبر النهر فلحقهم الأحنف وقد فتح الله عليهم، ودخل أهل خراسان في الصلح ما بين نيسابور وطخارستان. وولّى على طخارستان ربعي بن عامر، وعاد الى مروالروذ فنزلها وكتب إلى عمر بالفتح، فكتب إليه أن يقتصر على ما دون النهر.
وكان يزدجرد وهو بمروالروذ قد استنجد ملوك الأمم وكتب إلى ملك الصين وإلى خاقان ملك الترك وإلى ملك الصغد، فلما عبر يزدجرد النهر مهزوما أنجده خاقان في الترك وأهل فرغانة والصغد، فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان فنزلا بلخ، ورجع أهل الكوفة إلى الأحنف بمروالروذ ونزل المشركون عليه، ثم رحل ونزل سفح الجبل في عشرين ألفا من أهل البصرة وأهل الكوفة وتحصن العسكران بالخنادق وأقاموا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فنكبوا.
[2] وفي النسخة الباريسية: الطمسين.
[3] وفي نسخة أخرى: فلال وكذا في الكامل والطبري.

(2/563)


يقاتلون [1] أياما، وصحبهم الأحنف ليلة وقد خرج فارس من الترك يضرب بطبله ويتلوه اثنان كذلك، ثم يخرج العسكر بعدهم عادة لهم، فقتل الأحنف الأوّل ثم الثاني ثم الثالث فلما مرّ بهم خاقان تشاءم وتطير ورجع أدراجه فارتحل وعاد إلى بلخ، وبلغ الخبر إلى يزدجرد وكان على مرو الشاهجان محاصرا لحارثة بن النعمان ومن معه فجمع خزائنه وأجمع اللحاق بخاقان على بلخ، فمنعه أهل فارس وحملوه على صلح المسلمين والركون إليهم وأنهم أوفى ذمة من الترك، فأبى من ذلك وقاتلهم فهزموه واستولوا على الخزائن، ولحق بخاقان وعبروا النهر إلى فرغانة، وأقام يزدجرد ببلد الترك أيام عمر كلها إلى أن كفر أهل خراسان أيام عثمان. ثم جاء أهل فارس إلى الأحنف ودفعوا إلى الخزائن والأموال وصالحوه واغتبطوا بملكة المسلمين، وقسّم الأحنف الغنائم فأصاب الفارس ما أصابه يوم القادسية.
ثم نزل الأحنف بلخ وأنزل أهل الكوفة في كورها الأربع ورجع إلى مروالروذ فنزلها، وكتب بالفتح إلى عمر. وكان يزدجرد لما عبر النهر لقي رسوله الّذي بعثه إلى ملك الصين قد رده إليه يسأله أن يصف له المسلمين الذين فعلوا به هذه الأفاعيل مع قلّة عددهم، ويسأل عن وفائهم ودعوتهم وطاعة أمرائهم ووقوفهم عند الحدود ومآكلهم وشرابهم وملابسهم ومراكبهم، فكتب إليه بذلك كله. وكتب إليه ملك الصين أن يسالمهم فإنّهم لا يقوم لهم شيء بما قام نردبل [2] ، فأقام يزدجرد بفرغانة بعهد من خاقان. ولمّا وصل الخبر إلى عمر خطب الناس وقال: ألا وإنّ ملك المجوسية قد ذهب فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضر بمسلم، ألا وإنّ الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون فلا تبدّلوا فيستبدل الله بكم غيركم، فإنّي لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتي إلّا من قبلكم [3]
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: يقتتلون.
[2] كذا في الأصل: وفي الكامل ج 3 ص 37: «وكتب ملك الصين إلى يزدجرد «إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجند اوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحقّ عليّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك لو يحاولون الجبال لهدوّها ولو خلا لهم سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وأرض منهم بالمسالمة ولا تهيّجهم ما لم يهيّجوك» .
[3] وفي النسخة الباريسية: أن تؤتوا الأمر قبلكم.

(2/564)


فتوح فارس
ولما خرج الأمراء الذين توجهوا إلى فارس من البصرة افترقوا وسار كل أمير إلى جهته وبلغ ذلك أهل فارس فافترقوا إلى بلدانهم وكانت تلك هزيمتهم وشتاتهم. وقصد مجاشع بن مسعود من الأمراء سابور وأردشيرخرة فاعترضه الفرس دونهما بتوّج فقتلهم وأثخن فيهم، وافتتح توّج واستباحها وصالحهم على الجزية وأرسل بالفتح والأخماس إلى عمر، فكانت واقعة توّج هذه ثانية لواقعة العلاء بن الحضرميّ عليهم أيام طاوس ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا وأقرّوا بها.
إصطخر:
وقصد عثمان بن أبي العاص إصطخر فزحفوا إليه يحور [1] ، فهزمهم وأثخن فيهم وفتح جور وإصطخر ووضع عليهم الجزية وأجابه الهربذ إليها، وكان ناس منهم فرّوا فتراجعوا إليها. وبعث بالفتح والخمس إلى عمر. ثم فتح كازرون والنوبندجان وغلب على أرضها، ولحق به أبو موسى فافتتحها مدينة شيراز وأرّجان على الجزية والخراج، وقصد عثمان جنابة [2] ففتحها ولقي الفرس بناحية جهرم فهزمهم وفتحها. ثم نقض شهرك في أوّل خلافة عثمان فبعث عثمان بن أبي العاص ابنه وأخاه الحكم وأتته الأمداد من البصرة وعليه عبيد الله بن معمر وشبل بن معبد والتقوا بأرض فارس، فانهزم شهرك وقتله الحكم بن أبي العاصي وقيل سوار بن همّام العبديّ وقيل إن ابن شهرك حمل على سوار فقتله. ويقال إن إصطخر كانت سنة ثمان وعشرين وقيل تسع وعشرين. وقيل إنّ عثمان بن أبي العاص أرسل أخاه الحكم من البحرين إلى فارس في ألفين، فسار إلى توّج وعلى مجنبته الجارود وأبو صفرة والد المهلب، وكان كسرى أرسل شهرك في الجنود إلى لقائهم، فالتقوا بتوّج وهزمهم إلى سابور وقتل شهرك وحاصروا مدينة سابور حتى صالح عليها ملكها واستعانوا به على قتال إصطخر، ثم مات عمر رضي الله عنه، وبعض عثمان بن عفّان عبيد الله بن معمر مكان عثمان بن أبي العاص وأقام محاصرا إصطخر وأراد ملك سابور الغدر به، ثم أحصر وأصابت عبيد الله حجارة منجنيق فمات بها. ثم فتحوا المدينة فقتلوا بها بشرا كثيرا منهم.
__________
[1] وفي الكامل ج 3 ص 40: مقصد. عثمان بن أبي العاص الثقفي لاصطخره فالتقى هو وأهل إصطخر بجور فاقتتلوا.
[2] وفي نسخة ثانية: جينا.

(2/565)


بسا ودرابجرد:
وقصد سارية بن زنيم الكناني من أمراء الانسياح مدينة بسا [1] ودارابجرد فحاصرهم، ثم استجاشوا بأكراد فارس واقتتلوا بصحراء، وقام عمر على المنبر ونادى يا سارية الجبل، يشير إلى جبل كان إزاءه أن يسند إليه، فسمع ذلك سارية ولجأ إليه ثم انهزم المشركون، وأصاب المسلمون مغانمهم وكان فيها سفط جوهر فاستوهبه سارية من الناس، وبعث به مع الفتح إلى عمر، ولما قدم به الرسول سأله عمر فأخبره عن كل شيء ودفع إليه السفط فأبى إلا أن يقسّم على الجند فرجع به وقسمه سارية.
كرمان:
وقصد سهيل بن عديّ من أمراء الانسياح كرمان ولحق به عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وحشد أهل كرمان واستعانوا بالقفص وقاتلوا المسلمين في أدنى أرضهم فهزموهم بإذن الله، وأخذ المسلمون عليهم الطريق بل الطرق ودخل النسير [2] بن عمرو العجليّ [3] إلى جيرفت وقتل في طريقه مرزبان كرمان، وعبد الله بن عبد الله مفازة شيرزاد وأصابوا ما أرادوا من إبل وشاء. وقيل إنّ الّذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعيّ. ثم أتى الطبسين من كرمان، ثم قدم على عمر وقال: أقطعني الطبسين، فأراد أن يفعل فقال إنها رستاقان فامتنع.
سجستان:
وقصد عاصم بن عمرو من الأمراء سجستان ولحق به عبد الله بن عمير وقاتلوا أهل سجستان في أدنى أرضهم فهزموهم وحصروهم وبزرنج ومخروا أرض سجستان، ثم طلبوا الصلح [4] على مدينتهم وأرضها، على أن الفدافد حمى، وبقي أهل سجستان على الخراج [5] وكانت أعظم من خراسان وأبعد فروجا يقاتلون القندهار والترك وأمما أخرى، فلما كان زمن معاوية هرب الشاة من أخيه نبيل [6] ملك الترك إلى بلد من سجستان يدعى آمل، وكان على سجستان سلم بن زياد بن أبي سفيان فعقد له وأنزله آمل، وكتب إلى معاوية بذلك فأقرّه بغير نكير وقال: إن هؤلاء قوم غدر وأهون ما يجيء منهم إذا وقع اضطراب أن يغلبوا على بلاد آمل
__________
[1] وفي الكامل ج 3 ص 642: فسا.
[2] وفي نسخة ثانية: البشير بن عمرو.
[3] وفي النسخة الباريسية: البجلي.
[4] وفي النسخة الباريسية: ثم صالحوهم.
[5] وفي نسخة ثانية: على ان الفرات حمى ويسقي أهل سجستان على الخراج.
[6] وفي بعض الكتب رتبيل بدل زنبيل أهـ.

(2/566)


بأسرها، فكان كذلك. وكفر الشاه بعد معاوية وغلب على بلاد آمل واعتصم منه زنبيل بمكانه، وطمع هو في زرنج فحاصرها حتى جاءت الأمداد من البصرة فأجفلوا عنها.
مكران:
وقصد الحكم بن عمرو التغلبي من أمراء الانسياح بلد مكران ولحق به شهاب بن المخارق وجاء سهيل بن عديّ وعبد الله بن عبد الله بن عتبان وانتهوا جميعا الى دوين [1] وأهل مكران على شاطية [2] وقد أمدّهم أهل السند بجيش كثيف، ولقيهم المسلمون فهزموهم وأثخنوا فيهم بالقتل، واتبعوهم أياما حتى انتهوا الى النهر ورجعوا إلى مكران فأقاموا بها وبعثوا إلى عمر بالفتح والأخماس مع صحّار العبديّ، وسأله عمر عن البلاد فأثنى عليها شرّا، فقال: والله لا يغزوها جيش لي أبدا وكتب إلى سهيل والحكم أن لا يجوز مكران أحد من جنودكما.
خبر الأكراد
كان أمر أمراء الانسياح لما فصلوا إلى النواحي، اجتمع ببيروذ [3] بين نهر تيري ومنادر من أهل الأهواز جموع من الأعاجم أعظمهم الأكراد، وكان عمر قد عهد إلى أبي موسى أن يسير إلى أقصى تخوم البصرة ردءا للأمراء المنساحين، فجاء إلى بيروذ وقاتل تلك الجموع قتالا شديدا وقاتل المهاجر بن زياد حتى قتل [4] . ثم وهن الله المشركين فتحصّنوا منه في قلّة وذلّة، فاستخلف أبو موسى عليهم أخاه الربيع بن زياد وسار الى أصبهان مع المسلمين الذين يحاصرونها حتى إذا فتحت رجع إلى البصرة. وفتح الربيع بن زياد بيروذ وغنم ما فيها ولحق به بالبصرة وبعثوا إلى عمر بالفتح والأخماس، وأراد ضبّة بن محصن العنزي أن يكون في الوفد فلم يجبه أبو موسى، فغضب وانطلق شاكيا إلى عمر بانتقائه ستين غلاما من أبناء الدهاقين لنفسه وأنه أجاز الحطيئة بألف وولّى زياد بن أبي سفيان أمور البصرة، واعتذر أبو موسى وقبله عمر.
وكان عمر قد اجتمع إليه جيش من المسلمين فبعث عليهم سلمة بن قيس الأشجعي
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: دومن.
[2] وفي نسخة ثانية: شاطئية.
[3] بيروذ على وزن فيروز، قال في الكامل وآخره ذال معجمة أهـ.
[4] وفي نسخة ثانية: وقتل المهاجر بن زياد.

(2/567)


ودفعهم الى الجهاد على عادته وأوصاهم، فلقوا عدوا من الأكراد المشركين فدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، فأبوا وقاتلوهم وهزموهم وقتلوا وسبوا وقسّموا الغنائم، ورأى سلمة جوهرا في سفط فاسترضى المسلمين وبعث به إلى عمر فسأل الرسول عن أمور الناس حتى أخبره بالسفط فغضب وأمر به فوجئ في عنقه، وقال: أسرع قبل أن تفترق الناس ليقسّمه سلمة فيه فباعه سلمة وقسمه في الناس وكان الفص يباع بخمسة دراهم وقيمته عشرون ألفا.
مقتل عمر وأمر الشورى وبيعة عثمان رضي الله عنه
كان للمغيرة بن شعبة مولى من نصارى العجم اسمه أبو لؤلؤة وكان يشدد عليه في الخراج، فلقي يوما عمر في السوق فشكى إليه وقال: أعدني على المغيرة فإنه يثقل عليّ في الخراج درهمين في كل يوم، قال: وما صناعتك؟ قال نجّار حدّاد نقاش، فقال: ليس ذلك كثير على هذه الصنائع وقد بلغني انك تقول أصنع رحى تطحن بالريح فاصنع لي رحى. قال: أصنع لك رحى يتحدّث الناس بها أهل المشرق والمغرب، وانصرف، فقال عمر: توعدني العلج. فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة واستوت الصفوف ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر برأسين نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات إحداها تحت سرّته، وقتل كليبا بن أبي البكير الليثي، وسقط عمر فاستخلف عبد الرحمن بن عوف في الصلاة واحتمل الى بيته.
ثم دعا عبد الرحمن وقال: أريد أن أعهد إليك، قال: أتشير عليّ بها قال: لا.
قال: والله لا أفعل. قال: فهبني صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. ثم دعا عليا وعثمان والزبير وسعدا وعبد الرحمن معهم، وقال انتظروا طلحة ثلاثا فإن جاء وإلّا فاقضوا أمركم، وناشد الله من يفضي إليه الأمر منهم أن يحمل أقاربه على رقاب الناس، وأوصاهم بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان أن يحسن إلى محسنهم وبعفو [1] عن مسيئهم، وأوصى بالعرب فإنّهم مادّة الإسلام أن تؤخذ صدقاتهم في فقرائهم، وأوصى بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم، ثم قال: اللَّهمّ قد بلغت لقد تركت الخليفة من بعدي
__________
[1] مقتضى سياق الجملة ان يقول «يعفى» .

(2/568)


على أنقى من الراحلة. ثم دعي أبا طلحة الأنصاري فقال: قم على باب هؤلاء ولا تدع أحدا يدخل إليهم حتى يقضوا أمرهم. ثم قال: يا عبد الله بن عمر اخرج فانظر من قتلني؟ قال يا أمير المؤمنين: قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة. قال: الحمد للَّه الّذي لم يجعل منيتي بيد رجل سجد للَّه سجدة واحدة. ثم بعث إلى عائشة يستأذنها في دفنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فأذنت له. ثم قال: يا عبد الله إن اختلف القوم فكن مع الأكثر، فان تساووا فكن مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.
ثم أذن للناس فدخل المهاجرون والأنصار فقال لهم: أهذا عن ملأ منكم؟ فقالوا:
معاذ الله. وجاء علي وابن عباس فقعدوا عند رأسه، وجاء الطبيب فسقاه نبيذا فخرج متغيّرا ثم لبنا فخرج كذلك، فقال له: أعهد. قال: قد فعلت. ولم يزل يذكر الله إلى أن توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وصلّى عليه صهيب وذلك لعشر سنين وستة أشهر من خلافته.
وجاء أبو طلحة الأنصاري ومعه المقداد بن الأسود، وقد كان أمرهما عمر أن يجمعا هؤلاء الرهط الستة في مكان ويلزماهم أن يقدّموا للناس من يختاروه [1] منهم وإن اختلفوا كان الاتباع للاكثر وإن تساووا حكّموا عبد الله بن عمر أو اتبعوا عبد الرحمن بن عوف، ويؤجلوهم في ذلك ثلاثا يصلي فيهم بالناس صهيب ويحضر عبد الله بن عمر معهم مشيرا ليس له شيء من الأمر وطلحة شريكهم ان قدم في الثلاث ليال.
فجمعهم أبو طلحة والمقداد في بيت المسوّر بن مخرمة وقيل في بيت عائشة، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما سعد وأقامهما وقال:
تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشورى. ثم دار بينهما الكلام وتنافسوا في الأمر، فقال: عبد الرحمن أيّكم يخرج منها نفسه ويجتهد فيوليها أفضلكم وأنا أفعل ذلك؟
فرضي القوم وسكت علي. فقال: ما تقول على شريطة أن تؤثر الحق ولا تتبع الهوى ولا تخصّ ذا رحم ولا تألوا الأمّة نصحا وتعطينا العهد بذلك. قال: وتعطوني أنتم مواثيقكم على أن تكونوا معي على من خالف وترضوا من اخترت وتواثقوا. ثم قال لعليّ: أنت أحق من حضر بقرابتك وسوابقك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد في نفسك فمن ترى أحق فيه بعدك من هؤلاء؟ قال: عثمان. وخلا بعثمان فقال له مثل ذلك فقال: عليّ.
__________
[1] الصواب يختارونه لانه لم يتقدم الفعل ما يحذف النون.

(2/569)


ودار عبد الرحمن لياليه كلها يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يوافي المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس ويشيرهم إلى صبيحة الرابع، فأتى منزل المسوّر بن مخرمة وخلا فيه بالزبير وسعد أن يتركا الأمر لعلي أو عثمان [1] فاتفقا على عليّ، ثم قال له سعد بايع لنفسك وأرحنا فقال: قد خلعت لهم نفسي على أن أختار ولو لم أفعل ما أريدها [2] . ثم استدعى عبد الرحمن عليا وعثمان فناجى كلّا منهما إلى أن رضوا بل إلى أن صلّوا الصبح ولا يعلم أحد ما قالوا. ثم جمع المهاجرين وأهل السابقة من الأنصار وأمراء الأجناد حتى غص المسجد بهم، فقال: أشيروا عليّ، فأشار عمّار بعلي ووافقه المقداد. فقال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان ووافقه عبد الله بن أبي ربيعة، فتفاوضا وتشاتما ونادى سعد: يا عبد الرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس. فقال: نظرت وشاورت فلا تجعلنّ أيها الرهط على أنفسكم سبيلا. ثم قال لعليّ: عليك عهد الله وميثاقه لتعلمنّ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده، قال: أرجو أن أجتهد بل أن أفعل بمبلغ علمي وطاقتي. وقال لعثمان مثل ذلك فقال: نعم. فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، وقال: اللَّهمّ اشهد أني قد جعلت ما في عنقي من ذلك في عنق عثمان فبايعه الناس. ثم قدم طلحة في ذلك اليوم فأتى عثمان، فقال له عثمان: أنت على الخيار في الأمر وإن أبيت رددتها. فقال: أكلّ الناس بايعوك؟ قال: نعم.
قال: رضيت، ولا أرغب عما أجمعوا عليه.
وكانت العجم بالمدينة يستروح بعضها الى بعض، ومرّ أبو لؤلؤة بالهرمزان وبيده الخنجر الّذي طعن به عمر فتناوله من يده وأطال النظر فيه ثم ردّه إليه، ومعهم جفينة نصرانيّ من أهل الحيرة. فلما طعن عمر من الغداة قال عبد الرحمن بن أبي بكر لعبيد الله بن عمر: اني رأيت هؤلاء الثلاثة يتناجون فلما رأوني افترقوا وسقط منهم هذا الخنجر، فعدا عبيد الله عليهم فقتلهم ثلاثتهم، وأمسكه سعد بن أبي وقاص وجاء به الى عثمان بعد البيعة وهو في المسجد فاشار عليّ بقتله، وقال عمرو بن العاص: لا يقتل عمر بالأمس ويقتل ابنه اليوم، فجعلها عثمان دية واحتملها وقال انا وليّه. ثم قال عثمان وصعد المنبر وبايعه الناس كافّة، وولّى لوقته سعد بن أبي
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: لعلي وعثمان.
[2] وفي نسخة ثانية: على ان اختار ولم افعل ما أردتها.

(2/570)


وقاص على الكوفة وعزل المغيرة وذلك بوصيّة عمر لأنه أوصى بتولية سعد، وقال لم أعزله عن سوء ولا خيانة منه. وقيل إنما ولّاه وعزل المغيرة بعد سنة وأنه أقرّ لأول أمره عمّال عمر كلهم.
نقض أهل الاسكندرية وفتحها
لما سار هرقل إلى القسطنطينية وفارق الشام واستولى المسلمون على الإسكندرية وبقي الروم بها تحت أيديهم، فكاتبوا هرقل فاستنجدوه فبعث إليهم عسكرا مع منويل الخصيّ ونزلوا بساحل الاسكندرية لمنعهم المقوقس من الدخول إليه، فساروا إلى مصر ولقيهم عمرو بن العاص والمسلمون فهزموهم واتبعوهم إلى الاسكندرية، وأثخنوا فيهم بالقتل وقتل قائدهم منويل الخصيّ، وكانوا قد أخذوا في مسيرهم إلى مصر أموال أهل القرى فردّها عمرو عليهم بالبينة ثم هدم سور الاسكندرية ورجع الى مصر.
ولاية الوليد بن عقبة الكوفة وصلح أرمينية وأذربيجان
وفي سنة خمس وعشرين عزل عثمان سعدا عن الكوفة لأنه اقترض من عبد الله بن مسعود من بيت المال قرضا، وتقاضاه ابن مسعود فلم يوسر سعد [1] فتلاحيا وتناجيا بالقبيح وافترقا يتلاومان، وتداخلت [2] بينهما العصبية، وبلغ الخبر عثمان فعزل سعدا واستدعى الوليد بن عقبة من الجزيرة، وكان على غربها منذ ولّاه عمر، فولّاه عثمان على الكوفة فكان مكان سعد.
ثم عزل عتبة بن فرقد عن أذربيجان فنقضوا، فغزاهم الوليد وعلى مقدّمته عبد الله بن شبيل الأحمسيّ فأغار على أهل موقان والبرزند والطيلسان ففتح وغنم وسبى، وطلب أهل كور أذربيجان الصلح فصالحهم على صلح حذيفة ثمانمائة درهم وقبض المال.
ثم بث سراياه وبعث سلمان بن ربيعة الباهلي الى أهل أرمينية في اثني عشر ألفا فسار فيها وأثخن، ثم انصرف إلى الوليد وعاد الوليد إلى الكوفة وجعل طريقة على
__________
[1] وعند ابن الأثير في تاريخه الكامل ج 3 ص 82: «فلما تقاضاه ابن مسعود لم يتيسر له قضاؤه» .
[2] وفي النسخة الباريسية: وقد دخلت.

(2/571)


الموصل، فلقيه كتاب عثمان بأن الروم أجلبوا على معاوية بالشام فابعث إليهم رجلا من أهل النجدة والبأس في عشرة آلاف عند قراءة المكتوب [1] ، فبعث الوليد الناس مع سلمان بن ربيعة ثمانية آلاف ومضوا إلى الشام ودخلوا أرض الروم مع حبيب بن مسلمة، فشنوا عليهم الغارات واستفتحوا الحصون، وقيل إنّ الّذي أمدّ حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة هو سعيد بن العاص، وذلك أنّ عثمان كتب إلى معاوية أن يغزي حبيب بن مسلمة في أهل الشام أرمينية فبعثه وحاصر قاليقلا حتى نزلوا على الجلاء أو الجزية، فجلى كثير الى بلاد الروم وأقام فيها فيمن معه أشهرا. ثم بلغه أن بطريق أرميناقس وهي بلاد مطلية وسيواس وقونية إلى خليج قسطنطينية قد زحف إليه في ثمانين ألفا، فاستنجد معاوية فكتب إلى عثمان فأمر سعيد بن العاص بإمداد حبيب فأمدّه بسلمان في ستة آلاف، وبيّت الروم فهزمهم وعاد الى قاليقلا، ثم سار في البلاد فجاء بطريق خلاط وبيده أمان عيّاض بن غنم وحمل ما عليهم من المال فنزل حبيب خلاط، ثم سار منها فصالحه صاحب السيرجان [2] ثم صاحب أردستان [3] ثم صالح أهل ديبل بعد الحصار، ثم أهل بلاد السيرجان كلهم. ثم أتى أهل شمشاط فحاربوه فهزمهم وغلب على حصونهم، ثم صالحه بطريق خرزان [4] على بلاده وسار إلى تفليس فصالحوه وفتح عدّة حصون ومدن تجاورها. وسار ابن ربيعة الباهلي إلى أرّان فصالح أهل البيلقان على الجزية والخراج، ثم أهل بردعة كذلك وقراها.
وقاتل أكراد البوشنجان وظفر بهم وصالح بعضهم على الجزية، وفتح مدينة شمكور وهي التي سميت بعد ذلك المتوكليّة، وسار سلمان حتى فتح فلية وصالحه صاحب كسكر على الجزية وملك شروان وسائر ملوك الجبال الى مدينة الباب وانصرفوا. ثم غزا معاوية الروم وبلغ عمّورية ووجد ما بين انطاكية وطرسوس من الحصون خاليا فجمع فيها العساكر حتى رجع وخرّبها.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الكتاب.
[2] وفي النسخة الباريسية: السفرخان.
[3] وفي النسخة الباريسية: أزد شاط.
[4] وفي النسخة الباريسية: خزران.

(2/572)


ولاية عبد الله بن أبي سرح على مصر وفتح افريقية
وفي سنة ست وعشرين عزل عثمان عمرو بن العاص عن خراج مصر واستعمل مكانه عبد الله بن أبي سرح أخاه من الرضاعة، فكتب إلى عثمان يشكو عمرا فاستقدمه واستقل عبد الله بالخراج والحرب وأمره بغزو افريقية. وقد كان عمرو بن العاص سنة إحدى وعشرين سار من مصر إلى برقة فصالح أهلها على الجزية ثم سار إلى طرابلس فحاصرها شهرا، وكانت مكشوفة السور [1] من جانب البحر وسفن الروم في مرساها فحسر القوم في بعض الأيام وانكشف أمرها لبعض المسلمين المحاصرين فاقتحموا البلد بين البحر والبيوت فلم يكن للروم ملجأ إلّا سفنهم، وارتفع الصياح فأقبل عمرو بعساكره فدخل البلد ولم تفلت الروم إلا بما خفّ في المراكب، ورجع إلى مدينة صبرة وكانوا قد آمنوا بمنعة طرابلس فصبحهم المسلمون ودخلوها عنوة، وكمل الفتح ورجع عمرو إلى برقة فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار جزية وكان أكثر أهل برقة لواتة. وكان يقال إنّ البربر ساروا بعد قتل ملكهم جالوت الى المغرب وانتهوا إلى لوبية ومراقية كورتان من كور مصر، فصارت زنانة ومغيلة من البربر الى المغرب فسكنوا الجبال وسكنت لواتة برقة وتعرف قديما انطابلس، وانتشروا إلى السوس ونزلت هوّارة مدينة لبدة ونزلت نفوسة مدينة صبرة وجلوا من كان هنالك من الروم، وأقام الأفارق وهم خدم الروم وبقيتهم على صلح يؤدونه إلى من غلب عليهم إلى أن كان صلح عمرو بن العاص.
ثم إنّ عبد الله بن أبي سرح كان أمره عثمان بغزو افريقية سنة خمس وعشرين، وقال له: إن فتح الله عليك فلك خمس الخمس من الغنائم. وأمر عقبة بن نافع بن عبد القيس على جند وعبد الله بن نافع بن الحرث على آخر وسرحهما، فخرجوا إلى افريقية في عشرة آلاف وصالحهم أهلها على مال يؤدّونه ولم يقدروا على التوغل فيها لكثرة أهلها. ثم إن عبد الله بن أبي سرح [2] استأذن عثمان في ذلك واستمدّه، فاستشار عثمان الصحابة فأشاروا به، فجهز العساكر من المدينة وفيهم جماعة من الصحابة منهم ابن عباس وابن عمرو بن العاص وابن جعفر والحسن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية منكشفة السور.
[2] وفي نسخة اخرى: ثم لما ولي عبد الله بن أبي سرح

(2/573)


والحسين وابن الزبير وساروا مع عبد الله بن أبي سرح سنة ست وعشرين، ولقيهم عقبة بن نافع فيمن معه من المسلمين ببرقة، ثم ساروا إلى طرابلس فنهبوا الروم عندها، ثم ساروا إلى افريقية وبثّوا السرايا في كل ناحية، وكان ملكهم جرجير يملك ما بين طرابلس وطنجة تحت ولاية هرقل ويحمل إليه الخراج، فلما بلغه الخبر جمع مائة وعشرين ألفا من العساكر ولقيهم على يوم وليلة من سبيطلة دار ملكهم وأقاموا يقتتلون ودعوه إلى الإسلام أو الجزية فاستكبر. ولحقهم عبد الرحمن [1] بن الزبير مددا بعثه عثمان لما أبطأت أخبارهم، وسمع جرجير بوصول المدد ففتّ في عضده، وشهد ابن الزبير معهم القتال، وقد غاب ابن أبي سرح وسأل عنه فقيل إنه سمع منادي جرجير يقول من قتل ابن أبي سرح فله مائة ألف دينار وأزوّجه ابنتي فخاف وتأخر عن شهود القتال، فقال له ابن الزبير: تنادي أنت بأن من قتل جرجير نفلته مائة ألف وزوّجته ابنته واستعملته على بلاده، فخاف جرجير أشدّ منه.
ثم قال عبد الله بن الزبير لابن أبي سرح أن يترك جماعة من أبطال المسلمين المشاهير متأهبين للحرب، ويقاتلون الروم بباقي العسكر إلى أن يضجروا فيركب عليهم بالآخرين على غرّة لعلّ الله ينصرنا عليهم، ووافق على ذلك أعيان الصحابة [2] ففعلوا ذلك وركبوا من الغد إلى الزوال وألحّوا عليهم حتى أتعبوهم ثم افترقوا، وأركب عبد الله الفريق الذين كانوا مستريحين فكبّروا وحملوا حملة رجل واحد حتى غشوا الروم في خيامهم فانهزموا وقتل كثير منهم، وقتل ابن الزبير جرجير وأخذت ابنته سبيّة فنفلها ابن الزبير، وحاصر ابن أبي سرح سبيطلة ففتحها وكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف دينار وسهم الرجل ألف. وبث جيوشه في البلاد إلى قفصة فسبوا وغنموا، وبعث عسكرا إلى حصن الأجم وقد اجتمع به أهل البلاد فحاصره وفتحه على الأمان، ثم صالحه أهل افريقية على ألفي ألف وخمسمائة ألف دينار. وأرسل ابن الزبير بالفتح والخمس فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار، وبعض الناس يقول أعطاه إياه ولا يصح، وإنما أعطى ابن أبي سرح خمس الخمس من الغزوة الأولى. ثم رجع عبد الله بن أبي سرح إلى مصر بعد مقامه سنة وثلاثة أشهر.
ولمّا بلغ هرقل أن أهل افريقية صالحوه بذلك المال الّذي أعطوه غضب عليهم وبعث
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عبد الله.
[2] وفي نسخة اخرى: أعيان أصحابه.

(2/574)


بطريقا يأخذ منهم مثل ذلك، فنزل قرطاجنّة وأخبرهم بما جاء له فأبوا وقالوا: قد كان ينبغي أن يساعدنا [1] مما نزل بنا. فقاتلهم البطريق وهزمهم وطرد الملك الّذي ولّوه بعد جرجير، فلحق بالشام وقد اجتمع الناس على معاوية بعد علي (رضي الله عنه) ، فاستجاشه على افريقية فبعث معه معاوية بن حديج السكونيّ في عسكر، فلما وصل الاسكندرية وهلك الرومي ومضي ابن حديج في العساكر فنزل قونية، وسرّح إليه البطريق ثلاثين ألف مقاتل وقاتلهم معاوية فهزمهم معاوية، وحاصر حصن جلولاء فامتنع معه حتى سقط ذات سوره فملكه المسلمون وغنموا ما فيه. ثم بثّ السرايا ودوّخ البلاد فأطاعوا، وعاد الى مصر. ولمّا أصاب ابن أبي سرح من افريقية ما أصاب ورجع إلى مصر خرج قسطنطين بن هرقل غازيا الى الإسكندرية في ستمائة مركب وركب المسلمون البحر مع ابن أبي سرح ومعه معاوية في أهل الشام. فلما تراءى الجمعان أرسوا جميعا، وباتوا على أمان والمسلمون يقرءون ويصلّون. ثم قرنوا سفنهم عند الصباح واقتتلوا ونزل الصبر واستحرّ القتل، ثم انهزم قسطنطين جريحا في فلّ قليل من الروم، وأقام ابن أبي سرح بالموضع أياما ثم قفل وسمى المكان ذات الصواري والغزوة كذلك لكثرة ما كان بها من الصواري، وكانت هذه الغزاة سنة احدى وثلاثين وقيل أربع وثلاثين. وسار قسطنطين الى صقلّيّة وعرّفهم خبر الهزيمة فنكروه وقتلوه في الحمام.
فتح قبرص
كان أبو عبيدة لما احتضر [2] استخلف على عمله عيّاض بن غنم وكان ابن عمه وخاله وقيل استخلف معاذ بن جبل، واستخلف عيّاض بعده سعيد بن حذيم الجمحيّ، ومات سعيد فولى عمر مكانه عمير بن سعيد الأنصاري، ومات يزيد بن أبي سفيان فجعل عمر مكانه على دمشق أخاه معاوية، فاجتمعت له دمشق والأردن، ومات عمر وهو كذلك وعمير على حمص وقنسرين، ثم استعفى عمير عثمان في مرضه فأعفاه وضمّ حمص وقنسرين الى معاوية، ومات عبد الرحمن بن أبي علقمة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: يسامحنا
[2] وفي النسخة الباريسية: استحضر.

(2/575)


وكان على فلسطين فضم عثمان عمله الى معاوية فاجتمع الشام كله لمعاوية لسنتين من إمارة عثمان. وكان يلحّ على عمر في غزو البحر وكان وهو بحمص كتب إليه في شأن قبرص أنّ قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلاب قبرص وصياح دجاجهم، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه! فكتب إليه: «هو خلق كبير يركبه خلق صغير ليس إلا السماء والماء إن ركد فلق [1] القلوب وإن تحرك أزاغ العقول يزداد فيه اليقين قلّة والشك كثرة وراكبه دود على عود إن مال غرق وإن نجا برق» . فكتب عمر إلى معاوية والّذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا، وقد بلغني أنّ بحر الشام يشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذن الله كل يوم وليلة في أن يغرق الأرض فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر، وباللَّه لمسلم واحد أحب إليّ مما حوت الروم، فإياك أن تعرض لي في ذلك فقد علمت ما لقي العلاء مني.
ثم كاتب ملك الروم عمرو قاربه وأقصر عن الغزو، ثم ألحّ معاوية على عثمان بعده في غزو البحر فأجابه على خيار الناس وطوعهم، فاختار الغزو جماعة من الصحابة فيهم، أبو ذرّ وأبو الدرداء وشدّاد بن أوس وعبادة بن الصامت وزوجه أمّ حرام بنت ملحان، واستعمل عليهم عبد الله بن قيس حليف بني فزارة، وساروا إلى قبرص وجاء عبد الله بن أبي سرح من مصر فاجتمعوا عليها وصالحهم أهلها على سبعة آلاف دينار لكل سنة، ويؤدّون مثلها للروم، ولا منعة لهم على المسلمين ممن أرادهم من سواهم وعلى أن يكونوا عينا للمسلمين على عدوّهم، ويكون طريق الغزو للمسلمين عليهم.
وكانت هذه الغزاة سنة ثمان وعشرين وقيل تسع وعشرين وقيل ثلاث وثلاثين، وماتت فيها أم حرام سقطت عن دابتها حين خرجت من البحر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها بذلك. وأقام عبد الله بن قيس الجاسي على البحر فغزا خمسين غزاة لم ينكب فيها أحد، إلى أن نزل في بعض أيام في ساحل المرقي من أرض الروم فثاروا إليه فقتلوه، ونجا الملّاح وكان استخلف سفيان بن عوف الأزدي على السفن فجاء إلى أهل المرقي وقاتلهم حتى قتل وقتل معه جماعة.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: خرق

(2/576)


ولاية ابن عامر على البصرة وفتوح فارس وخراسان
وفي السنة الثالثة من خلافة عثمان خرج أبو موسى من البصرة غازيا إلى أهل آمد والأكراد لما كفروا حمل ثقله على أربعين بغلا من القصر [1] بعد ان كان حض على الجهاد مشيا، فألّب الناس عليه ومضوا إلى عثمان فاستعفوه منه وتولّى كبر ذلك غيلان بن خرشة [2] فعزله عثمان وولّى عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس وهو ابن خال عثمان، وكان ابن خمس وعشرين سنة، وجمع له جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص من عمان والبحرين، فصرف عبيد الله بن معمر عن خراسان وبعثه الى فارس، وولّى على خراسان مكانه عمير بن عثمان بن سعد فاثخن فيها حتى بلغ فرغانة ولم يدع كورة إلا أصلحها. ثم ولّى عليها سنة أربع أمير [3] بن أحمر اليشكري، وعلى كرمان عبد الرحمن بن عبيس، واستعمل على سجستان في سنة أربع عمران بن الفضيل البرجمي، وعلى كرمان عاصم بن عمرو فجاشت فارس وانتقضت بعبيد الله بن عمرو وجمعوا له [4] فلقيهم بباب إصطخر فقتل عبيد الله وانهزم جنده.
وبلغ الخبر عبد الله بن عامر فاستنفر أهل البصرة وسار بالناس، وعلى مقدمته عثمان بن أبي العاص وفي المجنبتين أبو برزة [5] الأسلمي ومعقل بن يسار وعلى الخيل عمران بن حصين، ولقيهم بإصطخر فقتل منهم مقتلة عظيمة وانهزموا وفتح إصطخر عنوة، وبعدها دارابجرد. وسار الى مدينة جور وهي أردشير، وكان هرم بن حيّان محاصرا لها فلما جاء ابن عامر فتحها. ثم عاد إلى إصطخر وقد نقضت فحاصرها طويلا ورماها بالمجانيق واقتحمها عنوة ففني فيها أكثر أهل البيوتات والأساورة لأنهم كانوا لجئوا إليها، ووطئ أهل فارس وطأة لم يزالوا منها في ذل. وكتب الى عثمان بالفتح فكتب إليه أن يستعمل على كور فارس هرم بن حيّان اليشكري وهرم بن حيان العبسيّ والخرّيت بن راشد وأخاه المنجاب من بني سلمة والبرجمان الهجيمي [6] ، وان يفرق كور خراسان
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الضهر.
[2] وفي نسخة ثانية: جرشة.
[3] أمير بوزن زبير وكذا كريز وعبيس كما في الكامل أهـ.
[4] وفي النسخة الباريسية: وحملوا له
[5] وفي النسخة الباريسية: ابو بردة
[6] وفي النسخة الباريسية: المحجمي

(2/577)


بين ستة نفر: الأحنف بن قيس على المرو، وحبيب بن قرة [1] اليربوعي على بلخ، وخالد بن عبد الله بن زهير على هراة، وأمير بن أحمر اليشكري على طوس، وقيس بن هبيرة السلميّ على نيسابور، ثم جمع عثمان خراسان كلها لقيس، واستعمل أمير بن أحمد اليشكري على سجستان، ثم بعده عبد الرحمن [2] بن سمرة من قرابة ابن عامر بن كريز، فلم يزل عليها حتى مات عثمان وعمران على كرمان وعمير بن عثمان ابن مسعود على فارس وابن كريز القشيري على مكران، وخرج على قيس بن هبيرة بعد موت عثمان ابن عمه عبد الله بن حازم كما نذكره.
ولما افتتح ابن عامر فارس أشار عليه الناس بقصد خراسان وكانوا قد انتقضوا فسار إليها وقيل عاد إلى البصرة، واستخلف على فارس شريك بن الأعور الحارثي فبنى مسجدها. فلما دخل البصرة أشار عليه الأحنف بن قيس وحبيب بن أوس بالمسير إلى خراسان فتجهز واستخلف على البصرة زياد بن أبيه، وسار إلى كرمان وقد نكثوا فبعث لحربهم مجاشع بن مسعود السلميّ ولحرب سجستان الربعي بن زياد الحارثي، وسار هو الى نيسابور وتقدّمه الأحنف بن قيس الى الطبسين حصنان هما بابا خراسان فصالحه أهلها، وسار الى قوهستان [3] فقاتل أهلها حتى أحجرهم في حصنهم ولحقه ابن عامر فصالحوه على ستمائة ألف درهم، وقيل كان المتولّي حرب قوهستان أمير بن أحمر اليشكري.
ثم بعث ابن عامر السرايا إلى أعمال نيسابور ففتح رستاق رام عنوة وباخرز وجيرفت عنوة، وبعث الأسود بن كلثوم من عدي الرباب وكان ناسكا الى بيهق [4] من أعمالها فدخل البلد من ثلمة كانت في سورها وقاتل حتى قتل وظفر أخوه أدهم بالبلد. وفتح ابن عامر بشت بالشّين المعجمة من أعمال نيسابور ثم أسفراين [5] ثم قصد نيسابور، وبعد ما استولى على أعمالها فحاصرها أشهرا [6] وكان بها أربع مرازبة من فارس فسأل واحد منهم الأمان على أن يدخلهم ليلا، وفتح لهم الباب وتحصّن الأكبر منهم في
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: قروة وفي نسخة أخرى قرط.
[2] وفي النسخة الباريسية: عبد الله.
[3] وفي النسخة الباريسية: مهزستان.
[4] وفي النسخة الباريسية: بهق.
[5] وفي النسخة الباريسية: استيغيراس
[6] وفي نسخة اخرى: شهرا

(2/578)


حصنها حتى صالح على ألف ألف درهم. وولّى ابن عامر على نيسابور قيس بن الهيثم السلمي. وبعث جيشا إلى نسا وأبيورد فصالحهم أهلها، وآخر إلى سرخس فصالحوا مرزبانها على أمان مائة رجل لم يدخل فيها نفسه فقتله وافتتحها [1] عنوة وجاء، مرزبان طوس فصالحه على ستمائة ألف درهم، وبعث جيشا إلى هراة مع عبد الله بن حازم فصالح مرزبانها على ألف ألف درهم. ثم بعث مرزبان مرو فصالح على ألف ألف ومائتي ألف وأرسل إليه ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي، ثم بعث الأحنف بن قيس إلى طخارستان فصالح في طريقة رستاقا على ثلاثمائة ألف وعلى أن يدخل رجل يؤذن فيه ويقيم حتى ينصرف ومرّ الى مروالروذ، وزحف إليه أهلها فهزمهم وحاصرهم وكان مرزبانها من أقارب باذام [2] صاحب اليمن فكتب إلى الأحنف متوسلا بذلك في الصلح فصالحه على ستمائة ألف. ثم اجتمع أهل الجوزجان والطالقان والفارياب في جمع عظيم ولقيهم الأحنف فقاتلهم قتالا شديدا ثم انهزموا فقتلوا قتلا ذريعا.
ورجع الأحنف إلى مروالروذ، وبعث الأقرع بن حابس الى فلهم بالجوزجان فهزمهم وفتحها عنوة، ثم فتح الأحنف الطالقان صلحا والفاريات وقيل فتحها أمير بن أحمد، ثم سار الأحنف إلى بلخ وهي مدينة طخارستان فصالحوه على أربعمائة ألف وقيل سبعمائة واستعمل عليها أسيد بن المنشمر، ثم سار إلى خوارزم على نهر جيحون فامتنعت عليه فرجع إلى بلخ. وقد استوفى أسيد قبض المال وكتبوا إلى ابن عامر. ولما سار مجاشع بن مسعود إلى كرمان كما ذكرناه وكانوا قد انتقضوا ففتح هميد [3] عنوة وبنى بها قصرا ينسب إليه، ثم سار إلى السيرجان وهي مدينة كرمان فحاصرها وفتحها عنوة وجلى كثيرا من أهلها. ثم فتح جيرفت عنوة ودوخ نواحي كرمان وأتى القفص وقد تجمع له من العجم من أهل الجلاء، وقاتلهم فظفر وركب كثير منهم البحر إلى كرمان وسجستان، ثم أنزل العرب في منازلهم وأراضيهم.
وسار الربيع بن زياد الحارثي بولاية ابن عامر كما قدّمناه [4] إلى سجستان فقطع المفازة
__________
[1] وفي نسخة اخرى: اقتحمها
[2] وفي نسخة اخرى: باذان
[3] وفي النسخة الباريسية: حمير.
[4] وفي النسخة الباريسية: كما قلناه.

(2/579)


من كرمان حتى أتى حصن زالق فأغار عليهم يوم المهرجان وأسر دهقانهم، فافتدى بما غمر عنزة قاعة [1] من الذهب والفضة، وصالحوه على صلح فارس. وسار إلى زرنج [2] ولقيه المشركون دونها فهزمهم وقتلهم وفتح حصونا عدة بينها وبينه، ثم انتهى إليها وقاتله أهلها فأحجرهم وحاصرهم، وبعث مرزبانها في الأمان ليحضر فأمنه وجلس له على شلو من أشلاء القتلى وارتفق بآخر وفعل أصحابه مثله، فرعب المرزبان من ذلك وصالح على ألف جام من الذهب يحملها ألف وصيف، ودخل المسلمون المدينة، ثم سار منها إلى وادي سنارود فعبره إلى القرية التي كان رستم الشديد يربط بها فرسه، فقاتلهم وظفر بهم، وعاد إلى زرنج وأقام بها سنة ثم سار بها إلى ابن عامر واستخلف عليها عاملا فأخرجوه وامتنعوا. فكانت ولاية الربيع سنة ونصف سنة سبى فيها أربعين ألف رأس وكان الحسن البصري يكتب له.
ثم استعمل ابن عامر على سجستان عبد الرحمن بن سمرة فسار إليها وحاصر زرنج حتى صالحوه على ألفي ألف درهم وألفي وصيف، وغلب على ما بينها وبين الكش من ناحية الهند وعلى ما بينها وبين الدادين [3] من ناحية الرخج، ولما انتهى إلى بلد الدادين حاصرهم في جبل الزور حتى صالحوه ودخل على الزور [4] وهو صنم من ذهب عيناه ياقوتتان، فأخذهما وقطع يده، وقال للمرزبان: دونك الذهب والجوهر وإنما قصدت أنه لا يضرّ ولا ينفع. ثم فتح كابل وزابلستان وهي بلاد غزنة فتحها صلحا.
ثم عاد إلى زرنج إلى أن اضطرب أمر عثمان، فاستخلف عليها أمير بن أحمر وانصرف فأخرجه أهلها وانتقضوا. ولما كان الفتح لابن عامر في فارس وخراسان وكرمان وسجستان قال له الناس: لم يفتح لأحد ما فتح عليك فقال: لا جرم لأجعلن شكري للَّه على ذلك أن أخرج محرما من موقفي هذا. فأحرم بعمرة من نيسابور وقدم على عثمان استخلف على خراسان قيس بن الهيثم، فسار قيس في أرض طخارستان ودوخها وامتنع عليه سنجار فافتتحها عنوة.
__________
[1] وفي الكامل ج 3 ص 128: فافتدى نفسه بأن غرز عنزة وغمرها ذهبا وفضة.
[2] وفي نسخة أخرى: زريخ وفي الكامل زرنج.
[3] وفي النسخة الباريسية: الدوان وفي الكامل ج 3، ص 129 الدوان.
[4] وفي النسخة الباريسية: جبل الرور وفي الكامل ج 3 ص 129: جبل الزور.

(2/580)


ولاية سعيد بن العاص الكوفة
كان عثمان لأول ولايته قد ولّى على الكوفة الوليد بن عقبة استقدمه إليها من عمله بالجزيرة وعلى بني تغلب وغيرهم من العرب، فبقي على ولاية الكوفة خمس سنين وكان أبو زبيد الشاعر قد انقطع إليه من أخواله بني تغلب ليد أسداها إليه وكان نصرانيا فأسلم على يده وكان يغشاه بالمدينة والكوفة، وكان أبو زبيد يشرب الخمر فكان بعض السفهاء يتحدث بذلك في الوليد للملازمته إياه. ثم عدا الشباب من الأزد بالكوفة على رجل من خزاعة فقتلوه ليلا في بيته وشهد عليهم أبو شريح الخزاعي فقتلهم الوليد فيه بالقسامة، وأقام آباؤهم للوليد على حقه وكانوا ممن يتحدثون فيه، وجاءوا إلى ابن مسعود بمثل ذلك فقال: لا نتبع عورة من استتر عنا. وتغيظ الوليد من هذه المقالة وعاتب ابن مسعود عليها، ثم عمد أحد أولئك الرهط إلى ساحر قد أتى به الوليد فاستفتي ابن مسعود فيه وأفتى بقتله، وحبسه الوليد ثم أطلقه، فغضبوا وخرجوا إلى عثمان شاكين من الوليد وانه يشرب الخمر. فاستقدمه عثمان وأحضره وقال: رأيتموه يشرب؟ قالوا لا وإنما رأيناه يقيء الخمر فأمر سعيد بن العاص فجلده وكان عليّ حاضرا فقال: انزعوا خميصته للجلد. وقيل إن عليا أمر ابنه الحسن أن يجلده فأبى فجلده عبد الله بن جعفر، ولما بلغ أربعين قال: أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة [1] .
ولما وقعت هذه الواقعة عزل عثمان الوليد عن الكوفة وولى مكانه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، مات سعيد الأول كافرا وكان يكنى أحيحة، وخالد ابنه عم سعيد الثاني ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صنعاء وكان يكتب واستشهد يوم مرج الصفر، وربي سعيد الثاني في حجر عثمان فلما فتح الشام أقام مع معاوية ثم استقدمه عثمان وزوجه وأقام عنده حتى كان من رجال قريش. فلما استعمله عثمان وذلك سنة ثلاثين سار إلى الكوفة ومعه الأشتر وأبو خشة [2] الغفاريّ وجندب بن عبد الله والصعب بن جثامة، وكانوا شخصوا مع الوليد ليعينوه فصاروا عليه، فلما وصل
__________
[1] المعنى مشوش هنا وربما يعود هذا الى سقوط بعض الكلمات أثناء النسخ ولم تذكر هذه القصة بالتفصيل كما هي في الكامل وفي الطبري والمسعودي.
[2] وفي نسخة ثانية: ابو حنيفة.

(2/581)


خطب الناس وحذرهم وتعرف الأحوال، وكتب إلى عثمان أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم وغلب الروادف والتابعة على أهل الشرف والسابقة، فكتب إليه عثمان أن يفضل أهل السابقة ويجعل من جاء بعدهم تبعا يعرف لكل منزلته ويعطيه حقه. فجمع الناس وقرأ عليهم كتاب عثمان وقال: أبلغوني حاجة ذي الحاجة.
وجعل القراء في سمره فلم ترض أهل الكوفة ذلك وفشت المقالة، وكتب سعيد إلى عثمان فجمع الناس واستشارهم فقالوا: أصبت لا تطمع في الأمور من ليس لها بأهل فتفسد. فقال: يا أهل المدينة إني أرى الفتن دبت إليكم وإني أرى أن أتخلص الّذي لكم وأنقله إليكم من العراق. فقالوا: وكيف ذلك؟ قال: تبيعونه ممن شئتم بما لكم في الحجاز واليمن. ففعلوا ذلك واستخلصوا ما كان لهم بالعراق، منهم طلحة ومروان والأشعث بن قيس، ورجال من القبائل اشتروا ذلك بأموال كانت لهم بخيبر ومكة والطائف.
غزو طبرستان
وفي هذه السنة غزا سعيد بن العاص طبرستان ولم يغزها أحد قبله، وقد تقدّم أن الأصبهبذ صالح سويد بن مقرن عنها أيام عمر على مال، فغزاها سعيد في هذه السنة ومعه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الحسن والحسين وابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن الزبير وحذيفة بن اليمان في غيرهم، ووافق خروج ابن عامر من البصرة إلى خراسان فنزل نيسابور، ونزل سعيد قومس وهي صلح كان حذيفة صالحهم عليه بعد نهاوند. فأتى سعيد جرجان فصالحوه علي مائتي ألف، ثم أتى متاخمة جرجان على البحر فقاتله أهلها، ثم سألوا الأمان فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا، وفتحوا فقتلهم أجمعين إلا رجلا وقتل معه محمد بن الحكم بن أبي عقيل جدّ يوسف بن عمرو، وكان أهل جرجان يعطون الخراج تارة مائة ألف وأخرى مائتين وثلاثمائة وربما منعوه. ثم امتنعوا وكفروا فانقطع طريق خراسان من ناحية قومس إلا على خوف شديد، وصار الطريق إلى خراسان من فارس كما كان من قبل حتى ولي قتيبة بن مسلم خراسان. وقدمها يزيد بن المهلب فصالح المرزبان وفتح البحيرة ودهستان وصالح أهل جرجان على صلح سعيد.

(2/582)


غزو حذيفة الباب وأمر المصاحف
وفي سنة ثلاثين هذه صرف حذيفة من غزو الري إلى غزو الباب مددا لعبد الرحمن بن ربيعة وأقام له سعيد العاص بأذربيجان ردءا حتى عاد بعد مقتل عبد الرحمن كما مرّ، فأخبره بما رأى من اختلاف أهل البلدان في القرآن وأن أهل حمص يقولون قراءتنا خير من قراءة غيرنا وأخذناها عن المقداد، وأهل دمشق يقولون كذلك، وأهل البصرة عن أبي موسى، وأهل الكوفة عن ابن مسعود، وأنكر ذلك واستعظمه وحذر من الاختلاف في القرآن، ووافقه من حضر من الصحابة والتابعين، وأنكر عليه أصحاب ابن مسعود فأغلظ عليهم وخطأهم، فأغلظ له ابن مسعود فغضب سعيد وافترق المجلس، وسار حذيفة إلى عثمان فأخبره وقال: أنا النذير العريان فأدرك الأمة. فجمع عثمان الصحابة فرأوا ما رآه حذيفة، فأرسل عثمان إلى حفصة أن ابعثي إلينا بالصحف ننسخها وكانت هذه الصحف هي التي كتبت أيام أبي بكر، فإن القتل لما استحر في القراء يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر: أرى أن تأمر بجمع القرآن لئلا يذهب الكثير منه لفناء القراء، فأبى وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله. ثم استبصر ورجع إلى رأي عمرو أمر زيد بن ثابت بجمعه من الرقاع والعسب [1] وصدور الرجال، وكتب في الصحف فكانت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة. وأرسل عثمان فأخذها، وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، وقال إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش ففعلوا. ونسخوا المصاحف فبعث الى كل أفق بمصحف يعتمد عليه، وحرق ما سوى ذلك الصحابة في سائر الأمصار، ونكره عبد الله بن مسعود في الكوفة حتى نحاهم عن ذلك وحملهم عليه.
مقتل يزدجرد
لما خرج ابن عامر من البصرة إلى فارس فافتتحها هرب يزدجرد من جور وهي أردشيرخره [2] في سنة ثلاثين، وبعث ابن عامر في إثره مجاشع بن مسعود وقيل هرم بن
__________
[1] العسب هو النسل كما في القاموس ولعل ابن خلدون كان يعني العسيب وهي جريدة النخل المستقيمة الدقيقة المكشوط خوصها.
[2] وفي النسخة الباريسية: وهو ازدشير خرج سنة ثلاثين.

(2/583)


حيان اليشكري وقيل العبسيّ [1] ، فاتبعه إلى كرمان فهرب إلى خراسان وهلك الجند في طريقهم بالثلج، فلم يسلم إلا مجاشع ورجع معه وكان مهلكهم على خمسة فراسخ من السيرجان، ولحق يزدجرد بمرو ومعه خرّزاذ أخو رستم، فرجع عنه إلى العراق ووصى به ما هو به مرزبان مرو فسأله في المال فمنعه وخافه على نفسه وعلى مرو، واستجاش بالترك فبيتوه وقتل أصحابه وهرب يزدجرد ماشيا إلى شط المرغاب وآوى إلى بيت رجل ينقر الرحاء، فلما نام قتله ورماه في النهر. وقيل إنما بيته أهل مرو ولما جاءوا إلى بيت الرجل أخذوه وضربوه فأقر بقتله فقتلوه وأهله، واستخرجوا يزدجرد من النهر وحملوه في تابوت إلى إصطخر فدفن في ناوس هنالك.
وقيل إن يزدجرد هرب من وقعة نهاوند إلى أرض أصبهان واستأذن عليه بعض رؤسائها وحجب فضرب البواب وشجّه، فرحل عن أصبهان إلى الري، وجاء صاحب طبرستان وعرض عليه بلاده فلم يجبه ومضى من فوره ذلك إلى سجستان، ثم إلى مرو في ألف فارس، وقيل بل أقام بفارس أربع سنين ثم بكرمان سنتين وطلبه دهقانها [2] في شيء فمنعه فطرده عن بلاده، وأقام بسجستان خمس سنين، ثم نزل خراسان ونزل مرو ومعه الرهن من أولاد الدهاقين وفرّخزاد وكاتب ملوك الصين وفرغانة والخزر وكابل، وكان دهقان مرو قد منعه الدخول خوفا من مكروه ووكل ابنه بحفظ الأبواب، فعمد يزدجرد يوما إلى مرو ليدخلها فمنعه ابن الدهقان وأظهر عصيان أبيه في ذلك، وقيل بل أراد يزدجرد أن يجعل ابن أخيه دهقانا عليها فعمل في هلاكه، وكتب إلى نيزك طرخان يستقدمه لقتل يزدجرد ومصالحه العرب عليه وأن يعطيه كل يوم ألف درهم، فكتب نيزك إلى يزدجرد يعده المساعدة على العرب وأنه يقدم عليه فيلقاه منفردا عن العسكر وعن فرخزاد، فأجابه إلى ذلك بعد أن امتنع فرخزاد واتهمه يزدجرد في امتناعه فتركه لشأنه بعد أن أخذ خطه برضاه بذلك. وسار إلى نيزك فاستقبله بأشياء وجاء به إلى عسكره ثم سأله أن يزوجه ابنته فأنف يزدجرد من ذلك وسبعة فعلا رأسه بالمقرعة فركض منهزما وقتل أصحابه، وانتهى إلى بيت طحان فمكث فيه ثلاثا لم يطعم، ثم عرض عليه الطعام فقال لا أطعم إلا بالزمزمة، فسأل من زمزم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: العنسيّ.
[2] وفي النسخة الباريسية: قهرمانها.

(2/584)


له حتى أكل ووشى المزمزم بأمره إلى بعض الأساورة [1] فبعث إلى الطحان بخنقه وإلقائه في النهر، فأبى من ذلك وجحده، فدل عليه ملبسه وعرف المسك فيه فأخذوا ما عليه وخنقوه وألقوه في الماء فجعله أسقف مرو في تابوت ودفنه.
وقيل بل سار يزدجرد من كرمان قبل وصول العرب إليها إلى مرو وفي أربعة آلاف على الطبسين وقهستان، ولقيه قبل مرو قائدان من الفرس متعاديين فسعى أحدهما في الآخر، ووافقه يزدجرد في قتله، ونمى الخبر إليه فبيت يزدجرد وعدوه، فهرب إلى رحى على فرسخين من مرو، وطلب منه الطحّان شيئا فأعطاه منطقته فقال: إنما أحتاج أربعة دراهم، فقال: ليست معي. ثم قام فقتله الطحان وألقى شلوه في الماء. وبلغ خبر قتله الى المطران بمرو فجمع النصارى ووعظهم عليه من حقوق سلفه فدفنوه وبنوا له ناووسا وأقاموا له مأتما، بعد عشرين سنة من ملكه ستة عشر منها في محاربة العرب.
وانقرض ملك الساسانية بموته. ويقال إن قتيبة حين فتح الصغد وجد جاريتين من ولد المخدج ابنه كان قد وطئ أمّه بمرو فولدت هذا الغلام بعد موته ذاهب الشق فسمى المخدج [2] ، وولد له أولاد بخراسان ووجد قتيبة هاتين الجاريتين من ولده فبعث بهما إلى الحجاج، وبعث بهما إلى الوليد أو بإحداهما فولدت له يزيد الناقص.
ظهور الترك بالثغور
كان الترك والخزر يعتقدون أن المسلمين لا يقتلون لما رأوا من شدّتهم وظهورهم في غزواتهم حتى أكمنوا لهم في بعض الغياض فقتلوا بعضهم فتجاسروا على حربهم.
وكان عبد الرحمن بن ربيعة على ثغور أرمينية إلى الباب، واستخلف عليها سراقة بن عمرو وأقرّه عمر وكان كثير الغزو في بلاد الخزر، وكثيرا ما كان يغزو بلنجر وكان عثمان قد نهاه عن ذلك فلم يرجع، فغزاهم سنة اثنتين وثلاثين وجاء الترك لمظاهرتهم وتذامروا فاشتدت الحرب بينهم وقتل عبد الرحمن كما مرّ، وافترقوا فرقتين فرقة سارت نحو الباب لقوا سلمان بن ربيعة قد بعثه سعيد بن العاص من الكوفة مددا للمسلمين بأمر عثمان فساروا معه، وفرقة سلكوا على جيلان وجرجان فيهم سلمان الفارسيّ وأبو
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الى بعض المرازبة.
[2] وفي النسخة الباريسية: ولد المجدّع والمخدج: ناقص الخلق.

(2/585)


هريرة. ثم استعمل سعيد بن العاص على الباب سلمان بن ربيعة مكان أخيه، وبعث معه جندا من أهل الكوفة عليهم حذيفة بن اليمان وأمدّهم عثمان بحبيب بن مسلمة في جند الشام وسلمان أمير على الجميع، ونازعه حبيب الامارة فوقع الخلاف، ثم غزا حذيفة بعد ذلك ثلاث غزوات آخرها عند مقتل عثمان.
وخرجت جموع الترك سنة اثنتين وثلاثين من ناحية خراسان في أربعين ألفا عليهم قارن من ملوكهم فانتهى إلى الطبسين، واجتمع له أهل باذغيس وهراة وقهستان، وكان على خراسان يومئذ قيس بن الهيثم السلميّ استخلفه عليها ابن عامر عند خروجه إلى مكة محرما فدوّخ جهتها، وكان معه ابن عمه عبد الله بن حازم فقال لابن عامر:
اكتب لي على خراسان عهدا إذا خرج منها قيس ففعل، فلما أقبلت جموع الترك قال قيس لابن حازم: ما ترى، قال: أرى أن تخرج عن البلاد فإن عهد ابن عامر عندي بولايتها. فترك منازعته وذهب إلى ابن عامر، وقيل أشار عليه أن يخرج إلى ابن عامر يستمدّه، فلما خرج أظهر عهد ابن عامر له بالولاية عند مغيب قيس، وسار ابن حازم للقاء الترك في أربعة آلاف. ولما التقى الناس أمر جيشه بايقاد النار في أطراف رحالهم فهاج العدوّ على دهش، وغشيهم ابن حازم بالناس متتابعين، فانهزموا وأثخن المسلمون فيهم بالقتل والسبي. وكتب ابن حازم بالفتح إلى ابن عامر فأقرّه على خراسان فلم يزل واليا عليها إلى حرب الجمل، فأقبل إلى البصرة وبقي أهل البصرة بعد غزوة ابن حازم هذه حتى غزوا المنتقضين من أهلها وعادوا جهزوا كتيبة من أربعة آلاف فارس هناك.
بدء الانتقاض على عثمان رضي الله عنه
لما استكمل الفتح واستكمل للملّة الملك ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم من البصرة والكوفة والشام ومصر، وكان المختصون بصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهداه وآدابه المهاجرين والأنصار من قريش وأهل الحجاز ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم. وأما سائر العرب من بني بكر بن وائل وعبد القيس وسائر ربيعة والأزد وكندة وتميم وقضاعة وغيرهم، فلم يكونوا من تلك الصحبة بمكان إلّا قليلا منهم وكان لهم في الفتوحات قدم، فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السابقة من الصحابة ومعرفة حقهم، وما كانوا فيه من

(2/586)


الذهول والدهش لأمر النبوة وتردّد الوحي وتنزل الملائكة، فلما انحسر ذلك العباب وتنوسي الحال بعض الشيء وذلّ العدو واستفحل الملك، كانت عروق الجاهلية تنفض ووجدوا الرئاسة عليهم للمهاجرين والأنصار من قريش وسواهم، فأنفت نفوسهم منه، ووافق أيام عثمان فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللحظات والخطرات، والاستبطاء [1] عليهم في الطاعات والتجني بسؤال الاستبدال منهم والعزل، ويفيضون في النكير على عثمان. وفشت المقالة في ذلك من أتباعهم وتنادوا بالظلم من الأمراء في جهاتهم وانتهت الأخبار بذلك إلى الصحابة بالمدينة، فارتابوا لها وأفاضوا في عزل عثمان وحمله على عزل أمرائه. وبعث الى الأمصار من يأتيه بصحيح الخبر: محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام، وعمّار بن ياسر إلى مصر وغيرهم إلى سوى هذه، فرجعوا إليه فقالوا: ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامهم إلا عمّارا فإنه استماله قوم من الأشرار انقطعوا إليه منهم عبد الله بن سبإ ويعرف بابن السوداء، كان يهوديا وهاجر أيام عثمان فلم يحسن إسلامه وأخرج من البصرة فلحق بالكوفة ثم بالشام وأخرجوه فلحق بمصر، وكان يكثر الطعن على عثمان ويدعو في السرّ لأهل البيت ويقول: إن محمدا يرجع كما يرجع عيسى. وعنه أخذ ذلك أهل الرجعة، وإنّ عليّا وصيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لم يجز وصيته وإنّ عثمان أخذ الأمر بغير حق، ويحرّض الناس على القيام في ذلك والطعن على الأمراء.
فاستمال الناس بذلك في الأمصار وكاتب به بعضهم بعضا، وكان معه خالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر فثبطوا عمارا عن المسير الى المدينة.
وكان مما أنكروه على عثمان إخراج أبي ذر من الشام ومن المدينة إلى الرَّبَذَة، وكان الّذي دعا إلى ذلك شدّة الورع من أبي ذر وحمله الناس على شدائد الأمور والزهد في الدنيا وانه لا ينبغي لأحد أن يكون عنده أكثر من قوت يومه، ويأخذ بالظاهر في ذم الادّخار بكنز الذهب والفضة. وكان ابن سبإ يأتيه فيغريه بمعاوية ويعيب [2] قوله المال مال الله، ويوهم أنّ في ذلك احتجانه للمال وصرفه على المسلمين، حتى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: والاشتضاط
[2] وفي النسخة الباريسية: ونقيم.

(2/587)


عتب أبو ذر معاوية فاستعتب له وقال سأقول مال المسلمين [1] ، وأتى ابن سبإ إلى أبي الدرداء وعبادة بن الصامت بمثل ذلك فدفعوه، وجاء به عبادة الى معاوية وقال هذا الّذي بعث [2] عليك أبا ذرّ. ولما كثر ذلك على معاوية شكاه إلى عثمان فاستقدمه وقال له ما لأهل الشام يشكون منك فأخبره، فقال: يا أبا ذرّ لا يمكن حمل الناس على الزهد وإنما عليّ أن أقضي [3] بينهم بحكم الله وأرغبهم في الاقتصاد، فقال أبو ذرّ: لا نرضى من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ويحسنوا للجيران والاخوان ويصلوا القرابة، فقال له كعب الأحبار: من أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه. فضربه أبو ذرّ فشجّه وقال: يا ابن اليهودية ما أنت وهذا. فاستوهب عثمان من كعب شجّته فوهبه. ثم استأذن أبو ذرّ عثمان في الخروج من المدينة وقال:
إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعا، فأذن له، ونزل الرَّبَذَة وبنى بها مسجدا وأقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه رزقا، وكان يتعاهد المدينة فعدّ أولئك الرهط خروج أبي ذرّ فيما ينقمونه على عثمان مع ما كان من إعطاء مروان خمس مغانم إفريقية والصحيح أنه اشتراه بخمسمائة ألف فوضعها عنه.
ومما عدوّا عليه أيضا زيادة النداء الثالث على الزوراء يوم الجمعة، وإتمامه الصلاة في منى وعرفة مع أن الأمر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخين بعده كان على القصر. ولما سأله عبد الرحمن واحتج عليه بذلك قال له: بلغني أن بعض حاج اليمن والجفاة جعل صلاة المقيم ركعتين من أجل صلاتي وقد اتخذت بمكة أهلا ولي بالطائف مال. فلم يقبل ذلك عبد الرحمن فقال: زوجتك بمكّة إنما تسكن بسكناك ولو خرجت ومالك بالطائف على أكثر من مسافة القصر. وأما حاج اليمن فقد شهدوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخين بعده وقد كان الإسلام ضرب بجرانه. فقال عثمان: هذا رأي رأيته. فمن الصحابة من تبعه على ذلك ومنهم من خالفه. ومما عدّوا عليه سقوط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من يده في بئر أريس على ميلين من المدينة فلم يوجد.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: ما للمسلمين.
[2] وفي النسخة الباريسية: الّذي خيّر.
[3] وفي النسخة الباريسية: ان اقصد

(2/588)


وأما الحوادث التي وقعت في الأمصار فمنها قصة الوليد بن عقبة وقد تقدّم ذكرها وأنه عزله على شرب الخمر واستبدله بسعيد بن العاص منه، وكان وجوه الناس وأهل القادسية يسمرون عنده مثل مالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس من النخع وثابت بن قيس الهمدانيّ وجندب بن زهير الغامدي وجندب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد وعمرو بن الحمق الخزاعيّ وصعصعة بن صوحان وأخوه زيد وابن الكوّاء وكميل بن زياد وعمير بن ضابيء وطليحة بن خويلد، وكانوا يفيضون في أيام الوقائع وفي أنساب الناس وأخبارهم وربما ينتهون إلى الملاحاة ويخرجون منها إلى المشاتمة والمقاتلة، ويعذلهم في ذلك حجّاب سعيد بن العاص فينهرونهم [1] ويضربونهم. وقد قيل إن سعيدا قال يوما: إنما هذا السواد بستان قريش، فقال له الأشتر: السواد الّذي أفاء الله علينا بأسيافنا تزعم أنه بستان لك ولقومك؟ وخاص القوم في ذلك، فأغلظ لهم عبد الرحمن الأسدي [2] ، صاحب شرطته فوثبوا عليه وضربوه حتى غشي عليه، فمنع سعيد بعدها السمر عنده.
فاجتمعوا في مجالسهم يثلبون سعيدا وعثمان، والسفهاء يغشونهم.
فكتب سعيد وأهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم، فكتب أن يلحقوهم بمعاوية وكتب إلى معاوية إن نفرا خلقوا للفتنة فقم عليهم وانههم وإن آنست منهم رشدا فاقبل وان أعيوك فارددهم علي، فأنزلهم معاوية وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق، وأقاموا عنده يحضرون مائدته ثم قال لهم يوما: «أنتم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة وقد أدركتم بالإسلام شرفا وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا ولو لم تكن قريش كنتم أذلة إذا أئمتكم لكم جنة فلا تفترقوا على جنتكم وان أئمتكم يصبرون لكم على الجور ويحملون عنكم المؤنة والله لتنتهنّ أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم ولا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاءهم [3] فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم» . فقال له صعصعة منهم: أمّا ما ذكرت من قريش فإنّها لم تكن أكثر الناس ولا أمنعها في الجاهلية فتخوّفنا، وأمّا ما ذكرت من الجنّة فانّ الجنّة إذا
__________
[1] وفي نسخة اخرى: فيهزمونهم.
[2] وفي نسخة اخرى: الازدي
[3] وفي النسخة الباريسية: ثم يكونون شركاءكم

(2/589)


اخترمت [1] خلص إلينا. فقال معاوية: الآن عرفتكم وعلمت أنّ الّذي أغراكم على هذا قلّة العقول وأنت خطيبهم ولا أرى لك عقلا أعظم عليك أمر الإسلام، وتذكرني الجاهلية أخزى الله قوما عظّموا أمركم فقهوا عني ولا أظنكم تفقهون، ثم ذكر شأن قريش وأن عزّها إنما كان باللَّه في الجاهلية والإسلام ولم يكن بكثرة ولا شدّة، وكانوا على أكرم أحساب وأكمل مروءة وبوّأهم الله حرمه فآمنوا فيه مما أصاب العرب والعجم والأسود والأحمر في بلادهم، ثم ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأنّ الله ارتضى له أصحابا كان خيارهم قريشا فبنى الملك عليهم وجعل الخلافة فيهم فلا يصلح ذلك إلّا بهم، ثم قرّعهم ووبّخهم وهددهم، ثم أحضرهم بعد أيام، وقال: اذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدا ولا يضرّه، وإن أردتم النجاة فالزموا الجماعة ولا تبطرنّكم النعمة وسأكتب الى أمير المؤمنين فيكم. وكتب إلى عثمان: «أنه قدم عليّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أبطرهم العدل إنّما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ثم فاضحهم وليسوا بالذين ينكون أحد [2] إلّا مع غيرهم فإنه سعيدا ومن عنده عنهم [3] .
فخرجوا من عنده قاصدين الجزيرة ومروا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص فأحضرهم، وقال: «يا ألة الشيطان [4] لا مرحبا بكم ولا أهلا قد رجع الشيطان محسورا وأنتم بعد في نشاط خسّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدّبكم يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم» . ثم مضى في توبيخهم على ما فعلوا وما قالوا لسعيد ومعاوية، فهابوا [5] سطوته وطفقوا يقولون: نتوب إلى الله أقلنا أقالك الله، حتى قال: تاب الله عليكم. وسرّح الأشتر إلى عثمان تائبا فقال له عثمان: أحلّك حيث تشاء، فقال:
مع عبد الرحمن بن خالد قال: ذاك إليك فرجع إليهم. وقيل إنهم عادوا إلى معاوية من القابلة ودار بينهم وبينه القول وأغلظوا له وأغلظ عليهم، وكتب إلى عثمان فأمر أن يردّهم الى سعيد، فردّهم، فأطلقوا ألسنتهم وضجّ سعيد منهم، وكتب إلى
__________
[1] وفي نسخة اخرى: إذا اخترقت
[2] وفي نسخة اخرى: يأتون الأمر
[3] وفي الطبري ج 5 ص 87: «ليسوا بالذين ينكون أحدا إلا مع غيرهم فإنه سعيدا ومن قبله عنهم، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب أو نكير.
[4] الألّة: بتشديد اللام الحربة أهـ.
[5] وفي النسخة الباريسية: فرهبوا

(2/590)


عثمان، فكتب إليه أن يسيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد فدار بينهم وبينه ما قدّمناه.
وحدث بالبصرة مثل ذلك من الطعن وكان بدؤه فيما يقال شأن عبد الله بن سبإ المعروف بابن السوداء، هاجر إلى الإسلام من اليهودية ونزل على حكيم بن جبلة العبديّ وكان يتشيع لأهل البيت، ففشت مقالته بالطعن وبلغ ذلك حكيم بن جبلة فأخرجه وأتى الكوفة فأخرج أيضا واستقّر بمصر، وأقام يكاتب أصحابه بالبصرة ويكاتبونه والمقالات تفشو بالطعن والنكير على الأمراء. وكان حمران [1] بن أبان أيضا يحقد لعثمان أنه ضربه على زواجه امرأة في العدّة وسيّره إلى البصرة، فلزم ابن عامر وكان بالبصرة عامر بن عبد القيس وكان زاهدا متقشّفا فأغرى به حمران صاحب ابن عامر فلم يقبل سعايته، ثم أذن له عثمان فقدم المدينة ومعه قوم فسعوا بعامر بن عبد القيس أنه لا يرى التزويج ولا يأكل اللحم ولا يشهد الجمعة، فألحقه عثمان بمعاوية وأقام عنده حتى تبيّنت براءته وعرف فضله وحقه وقال: ارجع إلى صاحبك فقال: لا أرجع إلى بلد استحلّ أهله مني ما استحلوا وأقام بالشام كثير العبادة والانفراد بالسواحل إلى أن هلك.
ولما فشت المقالات بالطعن والإرجاف على الأمراء اعتزم سعيد بن العاص على الوفادة على عثمان سنة أربع وثلاثين، وكان قبلها قد ولّى على الأعمال أمراء من قبله، فولّى الأشعث بن قيس على أذربيجان وسعيد بن قيس على الري والنسير العجليّ على همذان والسائب بن الأقرع على أصبهان ومالك بن حبيب على ماه وحكيم بن سلامة على الموصل وجرير بن عبد الله على قرقيسيا وسلمان بن ربيعة على الباب وجعل على حلوان عتيبة [2] بن النهّاس وعلى الحرب القعقاع بن عمرو، فخرجوا لأعمالهم وخرج هو وافدا على عثمان، واستخلف عمرو بن حريث وخلت الكوفة من الرؤساء وأظهر الطاعنون أمرهم وخرج بهم يزيد بن قيس يريد خلع عثمان، فبادره القعقاع بن عمرو فقال له: إنما نستعفي من سعيد. وكتب يزيد إلى الرهط الذين عند عبد الرحمن بن خالد بحمص في القدوم، فساروا إليه وسبقهم الأشتر ووقف على باب المسجد يوم الجمعة يقول جئتكم من عند عثمان وتركت سعيدا يريده على نقصان
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عمران
[2] وفي النسخة الباريسية: عيينة.

(2/591)


نسائكم على مائة درهم وردّ أولى [1] البلاء منكم إلى ألفين، ويزعم أن فيئكم بستان قريش. ثم استخف الناس ونادى يزيد في الناس من شاء أن يلحق بيزيد لردّ سعيد فليفعل، فخرجوا وذوو الرأي يعذلونهم فلا يسمعون.
وأقام أشراف الناس وعقلاؤهم مع عمرو بن حريث ونزل يزيد وأصحابه الجزعة [2] قريبا من القادسية لاعتراض سعيد وردّه، فلما وصل قالوا: ارجع فلا حاجة لنا بك قال: إنما كان يكفيكم أن تبعثوا واحدا إليّ وإلى عثمان رجلا. وقال مولى له: ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع، فقتله الأشتر ورجع سعيدا الى عثمان فأخبره بخبر القوم وأنهم يختارون أبا موسى الأشعري، فولّاه الكوفة وكتب إليهم: «أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد والله لأقرضنكم عرضي ولأبذلنّكم صبري ولاستصلحنكم بجهدي» . وخطب أبو موسى الناس، وأمرهم بلزوم الجماعة، وطاعة عثمان، فرضوا ورجع الأمراء من قرب الكوفة واستمرّ أبو موسى على عمله.
وقيل إنّ أهل الكوفة أجمع رأيهم أن يبعثوا إلى عثمان ويعذلوه فيما نقم عليه، فأجمع رأيهم على عامر بن عبد القيس الزاهد وهو عامر بن عبد الله من بني تميم ثم من بني العنبر [3] فأتاه وقال له: إن ناسا اجتمعوا ونظروا في أعمالك فوجدوك ركبت أمورا عظاما، فاتق الله وتب إليه. فقال عثمان: ألا تسمعون إلى هذا الّذي يزعم الناس أنه قارئ ثم يجيء يكلمني في المحقرات؟ وو الله لا يدري أين الله. فقال له عامر:
بل والله إني لأدري إنّ الله لبالمرصاد. فأرسل عثمان إلى معاوية وعبد الله بن أبي سرح وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر وعمرو بن العاص، وكانوا بطانته دون الناس فجمعهم وشاورهم، وقال: إنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي وقد صنع الناس ما رأيتم فطلبوا أن أعزل عمالي وأرجع إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم. فقال ابن عامر:
أرى أن تشغلهم بالجهاد، وقال سعيد: متى تهلك قادتهم يتفرّقوا، وقال معاوية:
اجعل كفالتهم إلى أمرائهم وأنا أكفيك الشام، وقال عبد الله: استصلحهم بالمال.
فردّهم عثمان إلى أعمالهم وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث ليكون لهم فيها شغل، ورد سعيد إلى الكوفة فلقيه الناس بالجزعة وردوه كما ذكرناه وولّى أبا موسى وأمر عثمان
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: على نقض أعطيتكم للنساء وذر النساء
[2] وفي النسخة الباريسية: المخزعة وفي نسخة اخرى: الجرعة
[3] وفي نسخة أخرى: بني العنيس.

(2/592)


حذيفة بغزو الباب فسار نحوه.
ولما كثر هذا الطعن في الأمصار وتواتر بالمدينة وكثر الكلام في عثمان والطعن عليه، وكان له منهم شيعة يذبّون عنه مثل زيد بن ثابت وأبي أسيد الساعدي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت فلم يغنوا عنه، واجتمع الناس إلى علي بن أبي طالب وكلموه وعددوا عليه ما نقموه، فدخل على عثمان وذكر له شأن الناس وما نقموا عليه وذكره بأفعال عمر وشدّته ولينه هو لعمّاله وعرض عليه ما يخاف من عواقب ذلك في الدنيا والآخرة، فقال له: إنّ المغيرة بن شعبة ولّيناه وعمر ولّاه، ومعاوية كذلك، وابن عامر تعرفون رحمه وقرابته. فقال له عليّ إنّ عمر كان يطأ على صماخ من ولّاه وأنت ترفق بهم وكانوا أخوف لعمر من غلامه يرفأ [1] ومعاوية يستبدّ عليك، ويقول هذا أمر عثمان فلا تغير عليه. ثم تكالما طويلا وافترقا وخرج عثمان على أثر ذلك، وخطب وعرض بما هو فيه من الناس وطعنهم وما يريدون منه، وأنهم تجرءوا عليه لرفقه بما لم يتجرؤا بمثله على ابن الخطّاب، ووافقهم برجوعه في شأنه إلى ما يقدمهم.
حصار عثمان ومقتله رضي الله عنه وأتابه ورفع درجته
ولما كثرت الإشاعة في الأمصار بالطعن على عثمان وعمّاله، وكتب بعضهم إلى بعض في ذلك وتوالت الأخبار بذلك على أهل المدينة، جاءوا إلى عثمان وأخبروه فلم يجدوا عنده علما منه. وقال: أشيروا عليّ وأنتم شهود المؤمنين. قالوا: تبعث من تثق به إلى الأمصار يأتوك [2] بالخبر. فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام وغيرهم إلى سواها فرجعوا، وقالوا: ما أنكرنا شيئا ولا أنكره علماء المسلمين ولا عوامهم، وتأخر عمّار بن ياسر بمصر واستماله ابن السوداء وأصحابه خالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر، وكتب عثمان إلى أهل الأمصار: إن قد رفع إليّ أهل المدينة أن عمّالي وقع منهم أضرار بالناس، وقد أخذتهم بأن يوافوني في كل موسم فمن كان له حق فليحضر يأخذ بحقه مني أو من عمّالي، أو تصدّقوا فإنّ الله يجزي المتصدّقين. فبكى الناس عند قراءة كتابه عليهم
__________
[1] كذا في الأصل وفي الكامل ج 3 ص 152: فقال عليّ: أنشدك الله! هل تعلم ان معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ، غلام عمر، له؟ قال: نعم.
[2] الأصح ان يقول يأتونك.

(2/593)


ودعوا له، وبعث إلى عمّال الأمصار فقدموا عليه في الموسم: عبد الله بن عامر وابن أبي سرح ومعاوية وأدخل معهم سعيد بن العاص وعمرا وقال: ويحكم ما هذه الشكاية والاذاعة واني لأخشى والله أن يكونوا صادقين! فقالوا له: ألم يخبرك رسلك بأنّ أحدا لم يشافههم بشيء؟ وإنما هذه إشاعة لا يحل الأخذ بها واختلفوا في وجه الرأي في ذلك. فقال عثمان: إن الأمر كائن وبابه سيفتح ولا أحب أن تكون لأحد عليّ حجة في فتحه وقد علم الله أني لم آل الناس خيرا فسكّتوا الناس وبيّنوا لهم حقوقهم. ثم قدم المدينة فدعا عليّا وطلحة والزبير ومعاوية حاضر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أنتم ولاة هذا الأمر واخترتم صاحبكم [1] يعني عثمان وقد كبر وأشرف وفشت مقالة خفتها عليكم فما عنيتم فيه من شيء فأنا لكم به ولا تطمعوا الناس في أمركم. فانتهره عليّ، ثم ذهب عثمان يتكلّم، وقال: اللذان كانا قبلي منعا قرابتهما احتسابا وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي قرابته وأنّ قرابتي أهل عيلة وقلّة معاش فأعطيتهم فإن رأيتم ذلك خطأ فردّوه، فقالوا: أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا ومروان خمسة عشر ألفا، قال: آخذ ذلك منهما، فانصرفوا راضين.
وقال له معاوية: أخرج معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك ما لا تطيقه، قال: لا أبتغي بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلا. قال: فأبعث إليك جندا يقيمون معك، قال: لا أضيق على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال معاوية: لتغتالن ولتعرين [2] ، قال: حسبي الله ونعم الوكيل. ثم سار معاوية ومرّ على عليّ وطلحة والزبير فوصّاهم بعثمان وودّعهم ومضى. وكان المنحرفون عن عثمان بالأمصار قد تواعدوا عند مسير الأمراء إلى عثمان أن يثبوا عليه في مغيبهم، فرجع الأمراء ولم يتهيأ لهم ذلك، وجاءتهم كتب من المدينة ممن صار إلى مذهبهم في الانحراف عن عثمان أن أقدموا علينا فإن الجهاد عندنا، فتكاتبوا من أمصارهم في القدوم إلى المدينة، فخرج المصريون وفيهم عبد الرحمن بن عديس البلويّ في خمسمائة وقيل في ألف وفيهم كنانة بن بشر الليثي وسودان بن حمران السكونيّ وميسرة أو قتيرة بن فلان السكونيّ، وعليهم جميعا الغافقي بن حرب العكّي، وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وولوا صاحبهم
[2] وفي نسخة ثانية: لتعيّرن

(2/594)


العبديّ والأشتر النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصمّ العامري، وخرج أهل البصرة وفيهم حكيم بن جبلة العبديّ وذريح بن عبّاد وبشر بن شريح القيسي وابن المحرش وعليهم حرقوص بن زهير السعدي وكلهم في مثل عدد أهل مصر، وخرجوا جميعا في شوّال مظهرين للحجّ.
ولما كانوا من المدينة على ثلاث مراحل تقدّم ناس من أهل البصرة وكان هواهم في طلحة فنزلوا ذا خشب، وتقدّم ناس من أهل الكوفة وكان هواهم في الزبير فنزلوا الأعوص، ونزل معهم ناس من أهل مصر وكان هواهم في عليّ وتركوا عامتهم بذي المروة. وقال زياد بن النضر وعبد الله بن الأصم من أهل الكوفة: لا تعجلوا حتى ندخل المدينة فقد بلغنا أنهم عسكروا لنا فو الله إن كان حقا لا يقوم لنا أمر.
ثم دخلوا المدينة ولقوا عليّا وطلحة والزبير وأمّهات المؤمنين وأخبروهم أنهم إنما أتوا للحجّ وأن يستعفوا من بعض العمّال، واستأذنوا في الدخول فمنعوهم ورجعوا إلى أصحابهم وتشاوروا في أن يذهب من أهل الكوفة وكل مصر فريق إلى أصحابهم كيادا وظلما في الفرقة، فأتى المصريون عليّا وهو في عسكر عند أحجار الزيت وقد بعث ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع عليه فعرضوا عليه أمرهم، فصاح بهم وطردهم وقال: إن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علم ذلك الصالحون. وأتى البصريون طلحة والكوفيون الزبير فقالا مثل ذلك فانصرفوا وافترقوا عن هذه الأماكن إلى عسكرهم على بعد. فتفرّق أهل المدينة فلم يشعروا إلا والتكبير في نواحيها، وقد هجموا وأحاطوا بعثمان ونادوا بأمان من كف يده، وصلّى عثمان بالناس أياما ولزم الناس بيوتهم ولم يمنعوا الناس من كلامه، وغدا عليهم عليّ فقال: ما ردكم بعد ذهابكم، قالوا أخذنا كتابا مع بريد بقتلنا. وقال البصريون لطلحة والكوفيون للزبير مثل مقالة أهل مصر وانهم جاءوا لينصروهم، فقال لهم عليّ: كيف علمتم بما لقي أهل مصر وكلكم على مراحل من صاحبه حتى رجعتم علينا جميعا؟ هذا أمر أبرم بليل. فقالوا:
اجعلوه كيف شئتم لا حاجة لنا بهذا الرجل ليعتزلنا، وهم يصلّون خلفه ومنعوا الناس من الاجتماع معه.
وكتب عثمان إلى الأمصار يستحثم فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهريّ، وبعث

(2/595)


عبد الله بن أبي سرح معاوية بن حديج [1] وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو، وتسابقوا إلى المدينة على الصعب والذلول، وقام بالكوفة نفر يحضّون على إعانة أهل المدينة فمن الصحابة عقبة بن عامر [2] وعبد الله بن أبي أوفى وحنظلة الكاتب، ومن التابعين مسروق الأسود وشريح وعبد الله بن حكيم. وقام بالبصرة في ذلك عمران بن حصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر، ومن التابعين كعب بن سوار وهرم بن حيّان. وقام بالشام وبمصر جماعة أخرى من الصحابة والتابعين.
ثم خطب عثمان في الجمعة القابلة وقال يا هؤلاء الله الله فو الله إنّ أهل المدينة ليعلموا أنكم ملعونون على لسان محمد فامحوا الخطايا بالصواب. فقال محمد بن مسلمة: أنا أشهد بذلك. فأقعده حكيم بن جبلة، وقام زيد بن ثابت فأقعده آخر، وحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وأصيب عثمان بالحصباء فصرع وقاتل دونه سعد بن أبي وقّاص والحسين وزيد بن ثابت وأبو هريرة. ودخل عثمان بيته وعزم عليهم في الانصراف فانصرفوا، ودخل عليّ وطلحة والزبير على عثمان يعودونه وعنده نفر من بني أمية فيهم مروان فقالوا لعليّ: أهلكتنا وصنعت هذا الصنع والله لئن بلغت الّذي تريد لتمرّن عليك الدنيا، فقام مغضبا وعادوا إلى منازلهم. وصلّى عثمان بالناس وهو محصور ثلاثين يوما، ثم منعوه الصلاة، وصلّى بالناس أمير المصريين الغافقي بن حرب العكّي، وتفرّق أهل المدينة في بيوتهم وحيطانهم ملازمين للسلاح وبقي الحصار أربعين يوما. وقيل بل أمر عثمان أبا أيوب الأنصاري فصلّى أياما، ثم صلى عليّ بعده بالناس وقيل أمر عليّ سهل بن حنيف فصلّى عشر ذي الحجة ثم صلّى العيد والصلوات حتى قتل عثمان.
وقد قيل في حصار عثمان أن محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة كانا بمصر يحرّضان على عثمان، فلما خرج المصريون في رجب مظهرين للحجّ ومضمرين قتل عثمان أو خلعه وعليهم عبد الرحمن بن عديس البلويّ كان فيمن خرج مع المصريين محمد بن أبي بكر، وبعث عبد الله بن سعد في آثارهم وأقام محمد بن حذيفة بمصر، فلما كان ابن أبي سرح بأيلة بلغه أن المصريين رجعوا إلى عثمان فحصروه، وأنّ محمد بن أبي حذيفة غلب على مصر فرجع سريعا إليهما فمنع منهما، فأتى فلسطين وأقام بها
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بن جريح
[2] وفي النسخة الباريسية: ابن عمر.

(2/596)


حتى قتل عثمان. وأمّا المصريون فلمّا نزلوا ذا خشب جاء عثمان إلى بيت عليّ ومت إليه بالقرابة في أن يركب إليهم ويردّهم لئلا تظهر الجراءة منهم، فقال له عليّ: قد كلمتك في ذلك فأطعت أصحابك وعصيتني! يعني مروان ومعاوية وابن عامر وابن أبي سرح وسعيدا. فعلى أي شيء أردّهم؟ فقال: على أن أصير إلى ما تراه وتشيره وأن أعصي أصحابي وأطيعك. فركب في ثلاثين من المهاجرين والأنصار فيهم سعيد بن زيد وأبو جهم العدويّ وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن عتّاب، ومن الأنصار أبو أسيد الساعدي وأبو حميد وزيد بن ثابت وحسّان وكعب بن مالك، ومن العرب نيار [1] بن مكرز، فأتوا المصريين وتولى الكلام معهم: عليّ ومحمد بن مسلمة، فرجعوا إلى مصر، وقال ابن عديس لمحمد أتوصينا بحاجة، قال: تتقي الله وتردّ من قبلك عن إمامهم فقد وعدنا أن يرجع وينزع. ورجع القوم إلى المدينة ودخل عليّ على عثمان وأخبره برجوع المصريين، ثم جاءه مروان من الغد فقال له: أخبر الناس بأنّ أهل مصر قد رجعوا وأن ما بلغهم عنك كان باطلا قبل أن تجيء الناس من الأمصار ويأتيك ما لا تطيقه ففعل. فلما خطب ناداه الناس من كل ناحية [2] اتّق الله يا عثمان وتب إلى الله وكان أوّلهم عمرو بن العاص، فرفع يده وقال لهم: إني تائب. وخرج عمرو بن العاص إلى منزله بفلسطين، ثم جاء الخبر بحصاره وقتله.
وقيل إنّ عليّا لما رجع عن المصريين أشار على عثمان أن يسمع الناس ما اعتزم عليه من النزع قبل أن يجيء غيرهم، ففعل وخطب بذلك وأعطى الناس من نفسه التوبة، وقال: «أنا أوّل من اتعظ أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه فليأت أشرافكم يروني رأيهم فو الله إن ردّني الحق عبدا لاستن [3] بسنّة العبد ولأذلنّ ذل العبد وما عن الله مذهب إلّا إليه فو الله لأعطينكم الرضى ولا أحتجب عنكم» . ثم بكى وبكى الناس ودخل منزله، فجاءه نفر من بني أمية يعذلونه في ذلك فوبختهم نائلة بنت الفرافصة فلم يرجعوا إليها، وعابوه فيما فعل واستذلوه في إقراره بالخطبة والتوبة عند الخوف، واجتمع الناس بالباب وقد ركب بعضهم بعضا، فقال لمروان: كلّمهم فأغلظ لهم
__________
[1] في النسخة الباريسية: ينار وفي نسخة اخرى: دينار
[2] وفي النسخة الباريسية: من كل جهة
[3] وفي النسخة الباريسية: لأسيرن

(2/597)


في القول. وقال: «جئتم لنزع [1] ملكنا من أيدينا. والله لئن رمتمونا ليمرنّ عليكم منا أمر لا يسرّكم ولا تحمدوا غب [2] رأيكم ارجعوا إلى منازلكم فإنّا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا» . وبلغ الخبر عليّا فنكر ذلك، وقال لعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث: أسمعت خطبته بالأمس ومقالة مروان للناس اليوم؟ يا للَّه ويا للناس إن قعدت في بيتي، قال: تركتني وقرابتي وحقي وإن تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان ويسوقه حيث يشاء بعد كبر السنّ وصحبة الرسول. وقام مغضبا إلى عثمان واستقبح مقالة مروان وأنبّه عليها وقال ما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتكم فقد أذهبت شرفك وغلبت على رأيك. ثم دخلت عليه امرأته نائلة وقد سمعت قول عليّ، فعذلته في طاعة مروان، وأشارت عليه باستصلاح عليّ فبعث إليه فلم يأته. فأتاه عثمان إلى منزله ليلا يستلينه ويعده الثبات على رأيه معه فقال: بعد أن قام مروان على بابك يشتم الناس ويؤذيهم، فخرج عثمان وهو يقول: خذلتني وجرّأت الناس، فقال علي: والله إني أكثر الناس ذبّا عنك ولكني كلما جئت بشيء أظنه لك رضى جاء مروان بأخرى فسمعت قوله وتركت قولي. ثم منع عثمان الماء فغضب عليّ غضبا شديدا حتى دخلت الروايا على عثمان.
وقيل إن عليّا كان عند حصار عثمان بخيبر فقدم [3] والناس مجتمعون عند طلحة فجاء عثمان وقال: يا عليّ إن لي حق الإخاء والقرابة والصهر، ولو كان أمر الجاهلية فقط كان عارا على بني عبد مناف أن تنزع تيم أمرهم! فجاء عليّ إلى طلحة وقال: ما هذا، فقال طلحة: أبعد ما مسّ الحزام الطبيين [4] يا أبا حسن. فانصرف عليّ إلى بيت المال، وأعطى الناس فبقي طلحة وحده وسرّ بذلك عثمان وجاء إليه طلحة فقال له والله ما جئت تائبا ولكن مغلوبا فاللَّه حسيبك يا طلحة.
وقيل إن المصريين لما رجعوا خرج إليهم محمد بن مسلمة فأعطوه صحيفة قالوا وجدناها عند غلام عثمان بالبويب وهو على بعير من إبل الصدقة يأمر فيها بجلد عبد الرحمن بن عديس وعمرو بن الحمق وعروة بن البيّاع وحبسهم وحلق رءوسهم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ولا تنزعون
[2] وفي النسخة الباريسية: راغب
[3] وفي النسخة الباريسية: فقام
[4] هذا مثل يضرب به عند بلوغ الأمر غايته في الشدّة.

(2/598)


ولحاهم وصلب بعضهم، وقيل وجدت الصحيفة بيد أبي الأعور السلميّ. فعاد المصريون وعاد معهم الكوفيون والبصريّون وقالوا لمحمد بن مسلمة حين سألهم: قد كلّمنا عليّا وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فوعدونا أن يكلموه فليحضر عليّ معنا عند عثمان. ثمّ دخل عليّ ومحمد على عثمان وأخبروه بقول أهل مصر فحلف ما كنت ولا علم. وقال محمد صدق هذا من عمل مروان. ودخل المصريون فشكى ابن عديس بابن أبي سرح وما أحدثه بمصر وأنه ينسب ذلك إلى كتاب عثمان وأنّا جئنا من مصر لقتلك فردّنا عليّ ومحمد وضمنا لنا النزوع عن هذا كله فرجعنا ولقينا هذا الكتاب وفيه أمرك لابن أبي سرح بجلدنا والمثلة بنا وطول الحبس وهو بيد علامك وعليه خاتمك، فحلف عثمان ما كتب ولا أمر ولا علم. قالوا: فكيف يجترأ عليك بمثل هذا فقد استحققت الخلع على التقديرين ولا يحل أن يولّى الأمور من ينتهي إلى هذا الضعف، فاخلع نفسك فقال: لا أنزع ما ألبسني الله ولكن أتوب وأرجع.
قال: رأيناك تتوب وتعود فلا بدّ من خلعك أو قتلك وقتال أصحابك دون ذلك أن يخلص إليك أو تموت، فقال: لا ينالكم أحد بأخرى [1] ولو أردت ذلك لاستجشت بأهل الأمصار. ثم كثر اللغط وأخرجوا ومضى عليّ إلى منزله، وحصر المصريون عثمان وكتب إلى معاوية وابن عامر يستحثّهم وقام يزيد بن أسد القسري فاستنفر أهل الشام وسار إلى عثمان وبلغهم قتله بوادي القرى، فرجعوا وقيل سار من الشام حبيب بن مسلمة ومن البصرة مجاشع بن مسعود فبلغهم قتله بالربذة فرجعوا.
وكانت بطانة عثمان أشاروا عليه أن يبعث إلى عليّ في كفّهم عنه على الوفاء لهم، فبعث إليه في ذلك فأجاب بعد توقف ثم بعث إليهم فقالوا لا بدّ لنا أن نتوثق منه وجاء فأعلمه وتوثق منه على أجل ثلاثة أيام، وكتب بينهم كتابا على ردّ المظالم وعزل من كرهوه من العمّال. ثم مضى الأجل وهو مستعدّ ولم يغير شيئا، فجاء المصريون من ذي خشب يستنجدون عهدهم فأبى فحصروه وأرسل إلى علي وطلحة والزبير وأشرف عليهم فحيّاهم ودعا لهم، ثم قال: «أنشدكم الله تعالى هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم؟ أتقولون أنه لم يستجب لكم أو تقولون أن الله لم يبال بمن ولي هذا الدين أم تقولون أن الأمة ولوا مكابرة وعن غير مشورة فوكلهم إلى أمرهم أو لم يعلم عاقبة أمري، ثم أنشدكم الله
__________
[1] وفي الكامل ج 3 ص 170: فمن قاتلكم فبغير أمري قاتل.

(2/599)


هل تعلمون لي من السوابق ما يجب حقه فمهلا فلا يحل إلّا قتل ثلاثة: زان بعد إحصان وكافر بعد إيمان وقاتل بغير حق ثم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم، ثم لا يرفع الله عنكم الاختلاف» . فقالوا له: ما ذكرت من الاستخارة بعد عمر فكل ما صنع الله تعالى فيه الخيرة، ولكن الله ابتلى بك عباده وأمّا حقك وسابقتك فصحيح، لكن أحدثت ما علمت ولا نترك إقامة الحق مخافة الفتنة عاما قابلا، وأمّا حصر القتل في الثلاثة ففي كتب الله قتل من سعى في الأرض فسادا ومن قاتل على البغي وعلى منع الحق والمكابرة عليه، وأنت إنّما تمسكت بالإمارة علينا وإنّما قاتل دونك هؤلاء لهذه التسمية فلو نزعتها انصرفوا. فسكت عثمان ولزم الدار وأقسم على الناس بالانصراف فانصرفوا إلّا الحسن بن عليّ ومحمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير.
وكانت مدّة انحصاره أربعين يوما، ولثمان عشرة منها وصل الخبر بمسير الجنود من الأمصار فاشتد الانحصار ومنعوه من لقاء الناس ومن الماء، وأرسل إلى عليّ وطلحة والزبير وأمّهات المؤمنين يطلب الماء فركب علي إليهم مغلسا، وقال: يا أيها الناس إن هذا لا يشبه أمر المؤمنين ولا الكافرين وإنما الأسير عند فارس والروم يطعم ويسقى.
فقالوا: لا والله ونعمة عين. فرجع وجاءت أمّ حبيبة على بغلتها مشتملة على إداوة وقالت: أردت أن أسأل هذا الرجل عن وصايا عنده لبني أمية أو تهلك أموال أيتامهم وأراملهم، فقالوا: لا والله، وضربوا وجه البغلة فنفرت وكادت تسقط عنها وذهب بها الناس إلى بيتها.
وأشرف عليهم عثمان وقرّر حقوقه وسوابقه فقال بعضهم مهلا عن أمير المؤمنين، فجاء الأشتر وفرّق الناس وقال: لا يمكر بكم. ثم خرجت عائشة إلى الحج ودعت أخاها فأبى، فقال له حنظلة الكاتب: تدعوك أم المؤمنين فلا تتبعها وتتبع سفهاء العرب فيما لا يحل ولو قد صار الأمر إلى الغلبة غلبك عليه بنو عبد مناف. ثم ذهب حنظلة إلى الكوفة وبلغ طلحة والزبير ما لقي عليّ وأمّ حبيبة فلزموا بيوتهم. وكان آل حزم يدسون الماء إلى بيت عثمان في الغفلات، وكان ابن عبّاس ممن لزم باب عثمان للمدافعة فأشرف عليه عثمان وأمره أن يحجّ بالناس، فقال: جهاد هؤلاء أحب إليّ، فأقسم عليه وانطلق.
ولما رأى أهل مصر أن أهل الموسم يريدون قصدهم، وأنّ أهل الأمصار يسيرون إليهم اعتزموا على قتل عثمان رضي الله عنه يرجون في ذلك خلاصهم واشتغال الناس

(2/600)


عنهم، فقاموا إلى الباب ليقتحموه فمنعهم الحسن بن عليّ وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان وسعيد بن العاص ومن معهم من أبناء الصاحبة وقاتلوهم وغلبوهم دون الباب، ثم صدهم عثمان عن القتال وحلف ليدخلنّ فدخلوا وأغلق الباب فجاءوا بالنار وأحرقوه، ودخلوا وعثمان يصلّي وقد افتتح سورة طه، وقد سار أهل الدار فما شغله شيء من أمرهم حتى فرغ وجلس إلى المصحف يقرأ فقرأ: «الَّذِينَ قال لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ 3: 173» . ثم قال لمن عنده إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إليّ عهدا فأنا صابر عليه، ومنعهم من القتال وأذن للحسن في اللحاق بأبيه وأقسم عليه فأبى وقاتل دونه، وكان المغيرة بن الأخنس بن شريق قد تعجّل من الحج في عصابة لنصره فقاتل حتى قتل. وجاء أبو هريرة ينادي يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار وقاتل، ثم اقتحمت الدار من ظهرها من جهة دار عمرو بن حزم فامتلأت قوما ولا يشعر الذين بالباب، وانتدب رجل فدخل على عثمان في البيت فحاوره في الخلع فأبى فخرج، ودخل آخر ثم آخر كلهم يعظه فيخرج ويفارق القوم، وجاء ابن سلّام فوعظهم فهموا بقتله، ودخل عليه محمد بن أبي بكر فحاوره طويلا بما لا حاجة إلى ذكره ثم استحيا وخرج. ثم دخل عليه السفهاء فضربه أحدهم وأكبت عليه نائلة امرأته تتقي الضرب بيدها فنفحها أحدهم بالسيف في أصابعها. ثم قتلوه وسال دمه على المصحف، وجاء غلمانه فقتلوا بعض أولئك القاتلين وقتلاء أخر، وانتبهوا ما في البيت وما على النساء حتى نائلة، وقتل الغلمان منهم وقتلوا من الغلمان، ثم خرجوا إلى بيت المال فانتهبوه، وأرادوا قطع رأسه فمنعهم النساء فقال ابن عديس: اتركوه. ويقال إن الّذي تولى قتله كنانة بن بشر التجيبي وطعنه عمرو بن الحمق طعنات، وجاء عمير بن ضابيء وكان أبوه مات في سجنه فوثب عليه حتى كسر ضلعا من أضلاعه. وكان قتله لثمان عشرة خلت من ذي الحجة وبقي في بيته ثلاثة أيام.
ثم جاء حكيم بن حزام وجبير بن مطعم إلى علي فأذن لهم في دفنه، فخرجوا به بين المغرب والعشاء ومعهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان فدفنوه في حشّ كوكب [1] ، وصلى عليه جبير وقيل مروان وقيل حكيم، ويقال: إنّ ناسا تعرّضوا لهم
__________
[1] هو حائط من حيطان المدينة وهو خارج البقيع

(2/601)


ليمنعوا من الصلاة عليه، فأرسل إليهم عليّ وزجرهم. وقيل إنّ عليّا وطلحة حضرا جنازته وزيد بن ثابت وكعب بن مالك.
وكان عمّاله عند موته على ما نذكره: فعلى مكّة عبد الله بن الحضرميّ، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثقفيّ، وعلى صنعاء يعلى بن منيّة، وعلى الجند عبد الله بن ربيعة، وعلى البصرة والبحرين عبد الله بن عامر، وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، وعلى حمص عبد الرحمن بن خالد من قبله، وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة كذلك، وعلى الأردن ابو الأعور السلميّ كذلك، وعلى فلسطين علقمة بن حكيم الكندي [1] كذلك، وعلى البحرين عبد الله بن قيس الفزاري، وعلى القضاء أبو الدرداء، وعلى الكوفة أبو موسى الأشعري على الصلاة والقعقاع بن عمرو على الحرب، وعلى خراج السواد جابر المزنيّ وسمّاك الأنصاري على الخراج، وعلى قرقيسيا جرير بن عبد الله، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى حلوان عتيبة [2] بن النهّاس، وعلى أصبهان السائب بن الأقرع، وعلى ماسبدان خنيس [3] ، وعلى بيت المال عقبة بن عمرو، وعلى القضاء زيد بن ثابت.
بيعة علي رضي الله عنه
لما قتل عثمان اجتمع طلحة والزبير والمهاجرون والأنصار وأتوا عليّا يبايعونه، فأبى وقال: أكون وزيرا لكم خير من أن أكون أميرا ومن اخترتم رضيته، فألحّوا عليه وقالوا: لا نعلم أحق منك ولا نختار غيرك حتى غلبوه في ذلك، فخرج إلى المسجد وبايعوه وأوّل من بايعه طلحة ثم الزبير بعد أن خيّرهما ويقال إنهما ادّعيا الإكراه بعد ذلك بأربعة أشهر وخرجا إلى مكة، ثم بايعه الناس. وجاءوا بسعد فقال لعليّ: حتى تبايعك الناس [4] فقال: اخلوه وجاءوا بابن عمر فقال: كذلك. فقال: ائتني بكفيل. قال: لا أجده فقال الأشتر: دعني أقتله فقال عليّ: دعوه أنا كفيله. وبايعت الأنصار وتأخّر منهم حسّان بن ثابت وكعب بن مالك ومسلمة بن مخلد وأبو
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الكناني.
[2] وفي النسخة الباريسية: عيينة.
[3] وفي النسخة الباريسية: عنيس.
[4] الأصح ان يقول: حتى يبايعك الناس.

(2/602)


سعيد الخدريّ ومحمد بن مسلمة والنعمان بن بشير وزيد بن ثابت ورافع بن خديج وفضالة بن عبيد وكعب بن عجرة وسلمة بن سلامة بن وقش [1] ، وتأخر من المهاجرين عبد الله بن سلّام وصهيب بن سنان وأسامة بن زيد وقدامة بن مظعون والمغيرة بن شعبة. وأمّا النعمان بن بشير فأخذ أصابع نائلة امرأة عثمان وقميصه الّذي قتل فيه ولحق بالشام صريخا.
وقيل إنّ عثمان لما قتل بقي الغافقي بن حرب أميرا على المدينة خمسة أيام، والتمس من يقوم بالأمر فلم يجبه أحد، وأتوا إلى عليّ فامتنع، وأتى الكوفيّون الزبير والبصريّون طلحة فامتنعا، ثم بعثوا إلى سعد وابن عمر فامتنعا [2] . فبقوا حيارى ورأوا أنّ رجوعهم إلى الأمصار بغير إمام يوقع في الخلاف والفساد، فجمعوا أهل المدينة وقالوا: أنتم أهل الشورى وحكمكم جائز على الأمة فاعقدوا الإمامة ونحن لكم تبع وقد أجّلناكم يومين وإن لم تفعلوا قتلنا فلانا وفلانا وغيرهما يشيرون إلى الأكابر. فجاء الناس إلى عليّ فاعتذر وامتنع، فخوّفوه الله في مراقبة الإسلام، فوعدهم إلى الغد.
ثم جاءوه من الغد وجاء حكيم بن جبلة [3] في البصريّين، فأحضر الزبير كرها، وجاء الأشتر في الكوفيين فأحضر طلحة كذلك وبايعوا لعلي، وخرج إلى المسجد وقال: هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلّا من أردتم وقد افترقنا أمس وأنا كاره فأبيتم إلا أن أكون عليكم، فقالوا: نحن على ما افترقنا عليه بالأمس، فقال لهم: اللَّهمّ اشهد! ثم جاءوا بقوم ممن تخلف قالوا نبايع على إقامة كتاب الله. ثم بايع العامة، وخطب عليّ وذكر الناس وذلك يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة ورجع إلى بيته، فجاءه طلحة والزبير وقالا: قد اشترطنا إقامة الحدود فأقمها على قتلة هذا الرجل، فقال: لا قدرة لي على شيء مما تريدون حتى يهدأ الناس وننظر الأمور فتؤخذ الحقوق، فافترقوا عنه. وأكثر بعضهم المقالة في قتلة عثمان وباستناده إلى أربعة في رأيه، وبلغه ذلك فخطبهم وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم، ثم هرب مروان وبنو أمية ولحقوا بالشام، فاشتدّ على عليّ منع قريش من الخروج، ثم نادى في اليوم الثالث برجوع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وخشب.
[2] وفي النسخة الباريسية: ثم بعثوا الى سعد بن عمر فامتنع.
[3] وفي النسخة الباريسية: وجاء حكم بن عبلة.

(2/603)


الأعراب إلى بردهم، فأبوا وتدامرت معهم السبئية، وجاءه طلحة والزبير فقالا:
دعنا نأتي البصرة والكوفة فنستنفر الناس فأمهلهما. وجاء المغيرة فأشار عليه باستبقاء العمّال حتى يستقرّ الأمر ويستبدلوا بمن شاء فأمهله، ورجع من الغد فأشار بمعاجلة الاستبدال، وجاءه ابن عبّاس فأخبره بخبر المغيرة، فقال: نصحك أمس وغشّك اليوم.
قال: فما الرأي؟ قال: كان الرأي أن تخرج عند قتل الرجل إلى مكة وأمّا اليوم فإنّ بني أميّة يشبّهون على الناس بأن يلجموك طرفا من هذا الأمر ويطلبون ما طلب أهل المدينة في قتلة عثمان فلا يقدرون عليهم والأمر أن تقرّ معاوية. فقال علي رضي الله عنه: والله لا أعطيه إلّا السيف. فقال له ابن عبّاس: أنت رجل شجاع لست صاحب رأيي في الحرب أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحرب خدعة. قال: بلى! فقال ابن عبّاس: أمّا والله إن أطعتني لأتركنهم ينظرون في دبر الأمور ولا يعرفون ما كان وجهها من غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال: يا ابن عبّاس لست من هنيّاتك ولا هنيّات معاوية في شيء [1] . فقال ابن عبّاس: أطعني والحق بمالك بينبع وأغلق بابك عليك فإنّ العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، وإن نهضت مع هؤلاء القوم يحمّلك الناس دم عثمان غدا. فأبى عليّ وقال: أشر عليّ وإذا خالفتك أطعني. قال: أيسر مالك عندي الطاعة. قال:
فسر إلى الشام فقد وليكتها. قال: إذا يقتلني معاوية بعثمان أو يحبسني فيتحكم عليّ لقرابتي منك ولكن أكتب إليه وعده فأبى. وكان المغيرة يقول نصحته فلم يقبل.
فغضب ولحق بمكة.
ثم فرّق على العمّال على الأمصار فبعث على البصرة عثمان بن حنيف، وعلى الكوفة عمارة بن شهاب بن المهاجرين، وعلى اليمن عبيد الله بن عبّاس، وعلى مصر قيس بن سعد، وعلى الشام سهل بن حنيف. فمضى عثمان إلى البصرة واختلفوا عليه فأطاعته فرقة وقال آخرون: ما يصنع أهل المدينة فنقتدي بهم، ومضى عمارة إلى الكوفة فلما بلغ زبالة لقي طليحة بن خويلد فقال له: ارجع فإنّ اليوم لا يستبدلون بأبي موسى وإلّا ضربت عنقك، ومضى ابن عبّاس إلى اليمن فجمع يعلى بن منيّة [2] مال الجباية
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: لست من سنامك ولا سنامك معاوية في شيء.
- وفي الكامل لابن الأثير ج 3 ص 198: لست من هناتك ولا هنات معاوية في شيء.
- وفي الطبري ج 5 ص 161: لست من هنيئتك وهنيئات معاوية في شيء.
[2] وفي النسخة الباريسية: بن حقبة.

(2/604)


وخرج به إلى مكة ودخل عبيد الله إلى اليمن، ومضى قيس بن سعد إلى مصر ولقيه بأيلة خيّالة من أهل مصر فقالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد من فلّ عثمان أطلب من آوي إليه وأنتصر به. ومضى حتى دخل مصر وأظهر أمره فافترقوا عليه فرقة كانت معه وأخرى تربصوا حتى يروا فعله في قتلة عثمان. ومضى سهل بن حنيف إلى الشام حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل فقال لهم: أنا أمير على الشام، قالوا إن كان بعثك غير عثمان فارجع فرجع.
فلمّا رجع وجاءت أخبار الآخرين دعا عليّ طلحة والزبير وقال قد وقع ما كنت أحذركم. فسألوه الإذن في الخروج من المدينة وكتب عليّ إلى أبي موسى مع معبد [1] الأسلمي فكتب إليه بطاعة أهل الكوفة وببيعتهم ومن الكاره منهم والراضي حتى كأنه يشاهد. وكتب إلى معاوية مع سبرة الجهنيّ فلم يجبه إلى ثلاثة أشهر من مقتل عثمان، ثم دعا قبيصة من عبس وأعطاه كتابا مختوما عنوانه من معاوية إلى عليّ وأوصاه بما يقول وأعاده مع رسول عليّ، فقدما في ربيع الأوّل ودخل العبسيّ وقد رفع الطومار كما أمره حتى دفعه إلى علي، ففضه فلم يجد فيه كتابا فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال نعم قال تركت قوما لا يرضون إلّا بالقود قال: وممن؟
قال منك وتكرت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان منصوبا على منبر دمشق.
فقال: اللَّهمّ اني أبرأ إليك من دم عثمان! قد نجا والله قتلة عثمان إلّا أن يشاء الله. ثم ردّه إلى صاحبه وصاحت السبئيّة اقتلوا هذا الكلب وافد الكلاب، فنادى يا آل مضريا لقيس أحلف باللَّه ليردّنها عليكم أربعة آلاف خصيّ فانظروا كم الفحول والركاب وتقاووا عليه، فمنعته مضر ودسّ أهل المدينة على عليّ من يأتيهم برأيه في القتال وهو زياد بن حنظلة التميمي وكان منقطعا إليه فجالسه ساعة فقال له عليّ: سيروا لغو الشام. فقال لعليّ: الأناة والرّفق أمثل فتمثل يقول:
متى تجمع القلب الذكيّ وصارما ... وأنفا حميا تجتنبك المظالم
فعلم أنّ رأيه القتال [2] ثم جاء إلى القوم الذين دسوه فأخبرهم ثم استأذنه طلحة والزبير في العمرة ولحقا بمكّة. ثم اعتزم على الخروج إلى الشام ودعا أهل المدينة إلى قتالهم.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فهد.
[2] وفي الطبري ج 5 ص 163: «فخرج زياد على الناس والناس ينتظرونه فقالوا: ما وراءك؟ فقال: السيف يا قوم. فعرفوا ما هو فاعل» .

(2/605)


وقال: انطلقوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون تفريق جماعتكم لعلّ الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الّذي عليكم. وأمر الناس بالتجهّز إلى الشام ودفع اللواء لمحمد بن الحنفيّة، وولّى عبد الله بن عبّاس ميمنته، وعمرو بن سلمة ميسرته، ويقال بل عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وولّى أبا ليلى بن عمرو بن الجرّاح ابن أخي عبيدة مقدمته، ولم يول أحدا ممن خرج على عثمان. واستخلف على المدينة تمّام بن العبّاس، وعلى مكة قثم بن العبّاس.
وكتب الى قيس بن سعد بمصر وعثمان بن حنيف بالبصرة وأبي موسى بالكوفة أن يندبوا الناس إلى الشام، وبينما هو على التجهّز للشام إذا أتاه الخبر عن أهل مكّة بنحو آخر وأنّهم على الخلاف فانتقض عن الشام.
أمر الجمل
ولما جاء خبر مكة إلى عليّ قام في الناس وقال: ألا إنّ طلحة والزبير وعائشة قد تمالئوا على نقض إمارتي ودعوا الناس إلى الإصلاح وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم وأكفّ إن كفّوا وأقتصد نحوه، وندب أهل المدينة فتثاقلوا، وبعث كميلا النخعيّ فجاءه بعبد الله بن عمر فقال: انهض معي، فقال: أنا من أهل المدينة افعل ما يفعلون، قال: فأعطني كفيلا بأنك لا تخرج [1] ، قال: ولا هذه، فتركه ورجع الى المدينة، وخرج إلى مكة وقد أخبر ابنة علي أمّ كلثوم [2] بأنه سمع من أهل المدينة تثاقلهم وأنه على طاعة عليّ ويخرج معتمرا. وجاء الخبر من الغداة إلى عليّ بأنه خرج إلى الشام فبعث في أثره عل كل طريق، وماج أهل المدينة، وركبت أمّ كلثوم إلى أبيها وهو في السوق يبعث الرجال ويظاهر في طلبه فحدّثته فانصرف عن ذلك ووثق به فيما قاله، ورجع إلى أهل المدينة فخاطبهم [3] وحرّضهم فرجعوا الى اجابته، وأول من أجابه أبو الهيثم بن التيهان البدري وخزيمة بن ثابت وليس بذي الشهادتين. ولما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس عن عليّ انتدب إليه وقال: من تثاقل عنك فإنّا نخفي معك ونقاتل دونك.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بأنه لا يخرج.
[2] وفي نسخة اخرى: أخبر أخته أم كلثوم.
[3] وفي النسخة الباريسية: فخطبهم.

(2/606)


وكان سبب اجتماعهم بمكّة أنّ عائشة كانت خرجت إلى مكّة وعثمان محصور كما قدّمناه، فقضت نسكها وانقلبت تريد المدينة فلقيت في طريقها رجلا من بني ليث اخوالها فأخبرها بقتل عثمان وبيعة عليّ، فقالت: قتل عثمان والله ظلما ولأطلبنّ بدمه فقال لها الرجل: ولم أنت كنت تقولين ما قلت؟ فقالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وانصرفت الى مكة. وجاءها الناس فقالت: «إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما ونقّموا عليه استعمال من حدثت سنّه وقد استعمل أمثالهم من كان قبله ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها فلمّا لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلّوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام. والله لاصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم ولو أنّ الّذي اعتدّوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه» . فقال عبد الله بن عامر الحضرميّ وكان عامل مكّة لعثمان: أنا أوّل طالب، فكانت أوّل مجيب وتبعه بنو أمية وكانوا هربوا إلى مكّة بعد قتل عثمان، منهم: سعيد بن العاص والوليد بن عقبة. وقدم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير ويعلى بن منيّة [1] من اليمن بستمائة بعير وستمائة ألف فأناخ بالأبطح، ثم قدم طلحة والزبير من المدينة فقالت لهما عائشة: ما وراءكما؟ قالا:
تحملنا هرابا من المدينة من غوغاء وأعراب غلبوا على خيارهم فلم يمنعوا أنفسهم ولا يعرفون حقا ولا ينكرون باطلا، فقالت: انهضوا بنا إليهم، وقال آخرون: نأتي الشام، فقال ابن عامر: إنّ معاوية كفا كم الشام فأتوا البصرة فلي بها صنائع ولهم في طلحة هوي. فنكروا عليه مجيئه من البصرة واستقام رأيهم على رأيه وقالوا: إنّ الذين معنا لا يطيقون من بالمدينة ويحتجّون ببيعة عليّ وإذا أتينا البصرة أنهضناهم كما أنهضنا أهل مكّة وجاهدنا، فاتفقوا ودعوا عبد الله [2] بن عمر الى النهوض فأبى وقال: أنا من أهل المدينة أفعل ما يفعلون. وكانت أمهات المؤمنين معها على قصد المدينة، فلما نهضت إلى البصرة قعدوا عنها وأجابتها حفصة فمنعها أخوها عبد الله. وجهّزهم ابن عامر بما معه من المال ويعلى بن منيّة بما معه من المال والظهر، ونادوا في الناس
__________
[1] يعلى بن منيّه هو يعلى بن أميه، وهو أبوه، ومنيّه امه كما في شرح مسلم والكامل ينتسب تارة الى أبيه وتارة الى امه وقول الناس منبّه تحريف، قاله نصر.
[2] وفي نسخة اخرى: عبد الرحمن.

(2/607)


بالحملان فحملوا على ستمائة بعير وساروا في ألف من أهل مكة ومن أهل المدينة وتلاحق بهم الناس فكانوا ثلاثة آلاف، وبعثت أمّ الفضل وأمّ عبد الله بن عبّاس بالخبر استأجرت على كتابها من أبلغه عليّا، ونهضت عائشة ومن معها، وجاء مروان بن الحكم إلى طلحة والزبير فقال: على أيّكما أسلّم بالإمرة وأؤذن بالصلاة، فقال ابن الزبير على أبي، وقال ابن طلحة على أبي، فأرسلت عائشة إلى مروان تقول له أتريد أن تفرّق أمرنا ليصلّ بالناس ابن أختي [1] تعني عبد الله بن الزبير.
وودّع أمهات المؤمنين عائشة من ذات عرق باكيات، وأشار سعيد بن العاص على مروان بن الحكم وأصحابه بإدراك ثأرهم من عائشة وطلحة والزبير. فقالوا نسير لعلنا نقتل قتلة عثمان جميعا. ثم جاء إلى طلحة والزبير فقال: لمن تجعلان الأمر إن ظفرتما؟ قالا: لأحدنا الّذي تختاره الناس، فقال: بل اجعلوه لولد عثمان لأنكم خرجتم تطلبون بدمه فقالا: وكيف ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم؟ قال:
فلا أراني أسعى إلّا لإخراجها من بني عبد مناف فرجع، ورجع عبد الله بن خالد بن أسيد ووافقه المغيرة بن شعبة ومن معه من ثقيف فرجعها، ومضى القوم ومعهم أبان والوليد ابنا عثمان. وأركب يعلى بن منيّة عائشة جملا اسمه عسكر اشتراه بمائة دينار وقيل بثمانين، وقيل بل كان لرجل من عرينة عرض لهم بالطريق على جمل فاستبدلوا به جمل عائشة على ان حمله بألف فزادوه أربعمائة درهم، وسألوه عن دلالة الطريق فدلهم ومرّ بهم على الماء الحوأب فنبحتهم كلابه. وسألوه عن الماء فعرّفهم باسمه.
فقالت عائشة: ردّوني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب، ثم ضربت عضد بعيرها [2] فأناخته وأقامت بهم يوما وليلة إلى أن قيل النجاء النجاء قد أدرككم عليّ، فارتحلوا نحو البصرة فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمي، وأشار بأن يتقدّم عبد الله بن عامر إليهم فأرسلته عائشة وكتبت معه إلى رجال من البصرة، إلى الأحنف بن قيس وسمرة وأمثالهم، وأقامت بالحفّين [3] تنتظر الجواب، ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وكان رجلا عامّة، وأبا الأسود الدؤليّ وكان
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن أخي.
[2] وفي النسخة الباريسية: غضب بعيرها.
[3] لعلها: حفير وهو موضع بين مكة والمدينة وعن ابن دريد: بين مكة والبصرة (معجم البلدان) .

(2/608)


رجلا خاصّة، وقال: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها. فجاءاها بالحفين وقالا: إنّ أميرنا بعثنا نسألك عن مسيرك؟ فقالت: إنّ الغوغاء ونزاع القبائل فعلوا ما فعلوا فخرجت في المسلمين أعلمهم بذلك وبالذي فيه الناس ورائنا وما ينبغي من إصلاح هذا الأمر. ثم قرأت لا خَيْرَ في كَثِيرٍ من نَجْواهُمْ 4: 114 الآية. ثم عدلا عنها إلى طلحة فقالا: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان. فقالا: ألم تبايع عليّا؟ قال: بلى والسيف على رأسي وما أستقبل على البيعة إن هو لم يخل بيننا وبين قتلة عثمان. وقال لهما الزبير مثل ذلك، ورجعا إلى عثمان بن حنيف فاسترجع وقال:
دارت رحى الإسلام وربّ الكعبة، ثم قال أشيروا عليّ، فقال عمران: اعتزل.
قال بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين. فجاءه هشام بن عامر فأشار عليه بالمسالمة والمسامحة حتى يأتي أمر عليّ، فأبى ونادى في الناس فلبس السلاح ثم دسّ من يتكلم في الجمع ليرى ما عندهم، فقال رجل: إنّ هؤلاء القوم إن كانوا جاءوا خائفين فبلدهم يأمن فيه الطير وان جاءوا لدم عثمان فما نحن بقتلته فأطيعوني وردّوهم من حيث جاءوا. فقال الأسود بن سريع السعدي: إنما جاءوا يستعينون بنا على قتلته منا ومن غيرنا. فحصبه الناس فعرف عثمان أنّ لهم بالبصرة ناصرا وكسره ذلك كلّه.
وانتهت عائشة ومن معها إلى المربد، وخرج إليها عثمان فيمن معه وحضر أهل البصرة، فتكلّم طلحة من الميمنة: فحمد الله وذكر عثمان وفضله ودعا إلى الطلب بدمه وحثّ عليه، وكذلك الزبير فصدقهما أهل الميمنة. وقال أصحاب عثمان من الميسرة: بايعتم عليّا ثم جئتم تقولون. ثم تكلمت عائشة وقالت: «كان الناس يتجنّون على عثمان ويأتوننا بالمدينة فنجدهم فجرة ونجده برّا تقيا وهم يحاولون غير ما يظهرون، ثم كثروا واقتحموا عليه داره وقتلوه واستحلّوا المحرّمات بلا ترة ولا عذر، ألا وأنّ مما ينبغي لكم ولا ينبغي غيره أخذ قتلة عثمان واقامة كتاب الله» ثم قرأت «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً من الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ 3: 23» الآية.
فاختلف أصحاب عثمان عليه ومال بعضهم إلى عائشة، ثم افترق الناس وتحاصبوا وانحدرت عائشة إلى المربد، وجاءها جارية [1] بن قدامة السعدي فقال: «يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة السلاح، إنّه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك وأنّه من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: حارثة

(2/609)


رأى قتالك يرى قتلك، فإن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك وان كنت مكرهة فاستعيني باللَّه وبالناس على الرجوع» .
وأقبل حكيم بن جبلة وهو على الخيل [1] فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة رماحهم فاقتتلوا على فم السكة [2] ، وحجز الليل بينهم وباتوا يتأهبون وعاداهم حكيم بن جبلة فاعترضه رجل من عبد القيس [3] فقتله حكيم، ثم قتل امرأة أخرى، واقتتلوا إلى أن زال النهار. وكثر القتل في أصحاب عثمان بن حنيف ولما عضتهم الحرب تنادوا إلى الصلح وتوادعوا على أن يبعثوا إلى المدينة فإن كان طلحة والزبير أكرها سلم لهم عثمان الأمر وإلّا رجعا عنه. وسار كعب بن سوار القاضي الى أهل المدينة يسألهم عن ذلك، فجاءهم يوم جمعة وسألهم فلم يجبه إلا أسامة بن زيد فإنّه قال: بايعا مكرهين. فضربه الناس حتى كاد يقتل. ثم خلّصه صهيب وأبو أيوب ومحمد بن مسلمة إلى منزله، ورجع كعب وبلغ الخبر بذلك إلى عليّ، فكتب إلى عثمان بن حنيف يعجزه ويقول والله ما أكرها على فرقة ولقد أكرها على جماعة وفضل، فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظروا. ولما جاء كعب بقول أهل المدينة بعث طلحة والزبير إلى عثمان ليجتمع بها، فامتنع واحتج بالكتاب وقال هذا غير ما كنا فيه. فجمع طلحة والزبير الناس وجاءا إلى المسجد بعد صلاة العشاء في ليلة ظلماء شاتية، وتقدم عبد الرحمن بن عتّاب في الوحل فوضع السلاح في الجائية من الزطّ والسابحة وهم أربعون رجلا فقاتلوهم وقتلوا عن آخرهم، واقتحموا على عثمان فأخرجوه إلى طلحة والزبير وقد نتفوا شعر وجهه كله، وبعثا إلى عائشة بالخبر فقالت خلوا سبيله، وقيل أمرت بإخراجه وضربه، وكان الّذي تولى إخراجه وضربه مجاشع بن مسعود. وقيل إنّ الاتفاق إنّما وقع بينهم على أن يكتبوا إلى عليّ فكتبوا إليه وأقام عثمان يصلّي فاستقبلوه ووثبوا عليه فظفروا به وأرادوا قتله، ثم استبقوه من أجل الأنصار وضربوه وحبسوه.
ثم خطب طلحة والزبير وقالا يا أهل البصرة توبة بجوبة [4] إنما أردنا أن نستعتب عثمان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: على ظهر الخيل.
[2] وفي النسخة الباريسية: فم السمكة.
[3] وفي النسخة الباريسية: من عبد الله بن القيس.
[4] توبة بحوبة: اي توبة بإثم وفي النسخة الباريسية: توبة تحويه.

(2/610)


فغلب السفهاء فقتلوه. فقالوا لطلحة قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا! قال الزبير:
أمّا أنا فلم أكاتبكم، وأخذ يرمي عليّا بقتل عثمان فقال رجل من عبد القيس: يا معشر المهاجرين أنتم أوّل من أجاب داعي الإسلام وكان لكم بذلك الفضل، ثم استخلفتم مرارا ولم تشاورونا، وقتلتم كذلك، ثم بايعتم عليّا وجئتم تستعدوننا عليه فماذا الّذي نقمتم عليه؟ فهموا بقتله ومنعته عشيرته، ثم وثبوا من الغد على قتل عثمان ومن معه فقتلوا منهم سبعين.
وبلغ حكيم بن جبلة ما فعل بعثمان بن حنيف فجاء لنصره في جماعة من عبد القيس، فوجد عبد الله بن الزبير فقال له: ما شأنك؟
قال: تخلوا عن عثمان وتقيمون على ما كنتم حتى يقدم عليّ ولقد استحللتم الدم الحرام تزعمون الطلب بثأر عثمان وهم لم يقتلوه. ثم ناجزهم الحرب في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، وأقام حكيم أربعة قوّاد فكان هو بحيال طلحة، وذريح بحيال الزبير، وابن المحرش بحيال عبد الرحمن بن عتاب، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحرث بن هشام. وتزاحفوا واستحرّ القتل فيهم حتى قتل كثير منهم وقتل حكيم وذريح، وأفلت حرقوص في فلّ من أصحابه إلى قومهم بني سعد، وتتبعوهم بالقتل وطالبوا بني سعد بحرقوص وكانوا عثمانية [1] ، فاعتزلوا وغضبت عبد القيس كلهم والكثير من بكر بن وائل، وأمر طلحة والزبير بالعطاء في أهل الطاعة لهما، وقصدت عبد القيس وبكر بيت المال فقاتلوهم ومنعوهم، وكتب عائشة إلى أهل الكوفة بالخبر [2] وأمرتهم أن يثبطوا الناس عن عليّ وأن يقدموا بدم عثمان، وكتبت بمثل ذلك الى اليمامة والمدينة.
ولنرجع إلى خبر عليّ وقد كان لمّا بلغه خبر طلحة والزبير وعائشة ومسيرهم إلى البصرة دعا أهل المدينة للنصرة وخطبهم، فتثاقلوا أوّلا وأجابه زياد بن حنظلة وأبو الهيثم وخزيمة بن ثابت وليس بذي الشهادتين وأبو قتادة في آخرين، وبعثت أم سلمة معه ابن عمّها وخرج يسابق طلحة والزبير إلى البصرة ليردّهما، واستخلف على المدينة تمام ابن عبّاس وقيل سهل بن حنيف، وعلى مكّة قثم بن عباس، وسار في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، وسار معه من نشط من الكوفيين والمصريين متخففين في تسعمائة، ولقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال يا أمير المؤمنين: لا تخرج منها فو الله إن
__________
[1] أي من اتباع الخليفة عثمان.
[2] وفي النسخة الباريسية: بالفتح.

(2/611)


خرجت منهما لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا. فبدر الناس إليه، فقال: دعوه فنعم الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وسار فانتهى الى الرَّبَذَة، وجاء خبر سبقهم إلى البصرة فأقام يأتمر بما يفعل ولحقه ابنه الحسن وعذله في خروجه وما كان من عصيانه إيّاه، فقال: ما الّذي عصيتك فيه حين أمرتني؟ قال: أمرتك أن تخرج عند حصار عثمان من المدينة ولا تحضر لقتله، وثم عند قتله ألا تبايع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة الأمصار، ثم عند خروج هؤلاء أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا. فقال: أمّا الخروج من المدينة فلم يكن إليه سبيل وقد كان أحيط بنا كما أحيط بعثمان، وأمّا البيعة فخفنا ضياع الأمر والحل والعقد لأهل المدينة لا للعرب ولا للأمصار ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحق بالأمر بعده فبايع الناس غيري واتبعتهم في أبي بكر وعمر وعثمان فقتلوه وبايعوني طائعين غير مكرهين، فأنا أقاتل من خالف بمن أطاع إلى أن يحكم الله وهو خير الحاكمين، وأمّا القعود عن طلحة والزبير فإذا لم انظر فيما يلزمني من هذا الأمر فمن ينظر فيه؟. ثم أرسل إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر يستنفران الناس، وأقام بالربذة يحرّض الناس وأرسل إلى المدينة في أداته وسلاحه، وقال له بعض أصحابه عرّفنا بقصدك من القوم؟ قال: الإصلاح إن قبلوه وإلّا ننظرهم وان بادرونا امتنعنا.
ثم جاءه جماعة من طيِّئ نافرين معه فقبلهم وأثنى عليهم. ثم سار من الرَّبَذَة وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمرو بن الجرّاح، ولما انتهى الى فيد أتته أسد وطيِّئ وعرضوا عليه النفير معه، فقال: الزموا قراركم ففي المهاجرين كفاية. ولقيه هنالك رجل من أهل الكوفة من بني شيبان فسأله عن أبي موسى، فقال إن أردت الصلح فهو صاحبه، وان أردت القتال فليس بصاحبه. فقال: والله ما أريد إلّا الصلح حتى يردّ علينا. ثم انتهى إلى الثعلبية والأساد، فبلغه ما لقي عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة، ثم جاء بذي قار عثمان بن حنيف وأراه ما بوجهه، فقال: «أصبت أجرا وخيرا إنّ الناس وليهم قبلي رجلان فعملا بالكتاب ثم ثالث فقالوا وفعلوا ثم بايعوني ومنهم طلحة والزبير ثم نكثا وألّبا عليّ. ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان وخلافهما عليّ! والله إنهما ليعلمان اني لست دونهم» . ثم أخذ في الدعاء عليهما وابن وائل هنالك يعرضون عليه النفير فأجابهم مثل طيِّئ وأسد، وبلغه خروج عبد القيس على طلحة والزبير فأثنى عليهم. وأمّا محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فبلغا إلى الكوفة

(2/612)


ودفعا إلى أبي موسى كتاب عليّ وقاما في الناس بأمره فلم يجبهما أحد وشاوروا أبا موسى في الخروج إلى علي، فقال: الخروج سبيل الدنيا والقعود سبيل الآخرة فقعدوا كلهم. وغضب محمد ومحمد وأغلظا لأبي موسى، فقال لهما: والله إنّ بيعة عثمان لفي عنقي وعنق عليّ وان كان لا بدّ من القتال فحتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا، فرجعا إلى عليّ بالخبر وهو بذي قار، فرجع عليّ باللائمة على الأشتر، وقال: أنت صاحبنا في أبي موسى فاذهب أنت وابن العباس وأصلح ما أفسدت.
فقدما على أبي موسى وكلما استعانا عليه بالناس لم يجب إلى شيء ولم ير إلّا القعود حتى تنجلي الفتنة ويلتئم الناس، فرجع ابن عبّاس والأشتر إلى عليّ فأرسل عليّ ابنه الحسن وعمّار بن ياسر وقال: لعمار: انطلق فأصلح ما أفسدت. فانطلقا حتى دخلا المسجد، وخرج أبو موسى فلقي الحسن بن علي فضمه إليه وقال لعمّار: يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين فيمن عدا وأحللت نفسك مع الفجّار؟ فقال: لم أفعل. فأقبل الحسن على أبي موسى فقال: لم تثبط الناس عنّا وما أردنا إلا الإصلاح ومثل أمير المؤمنين لا يخاف على شيء. قال: «صدقت بأبي أنت وأمي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب والمسلمون اخوان ودماؤهم وأموالهم حرام» فغضب عمّار وسبّه فسبّه آخر وتثاور الناس، ثم كفّهم أبو موسى. وجاء زيد بن صوحان بكتاب عائشة إليه وكتابها إلى أهل الكوفة فقرأهما على الناس في سبيل الإنكار عليها فسبه شبث بن ربعي [1] ، وتهاوى الناس وأبو موسى يكفّهم ويأمرهم بلزوم البيوت حتى تنجلي الفتنة، ويقول: أطيعوني وخلوا قريشا إذا أبوا إلّا الخروج من الدار الهجرة وفراق أهل العلم. حتى ينجلي الأمر. وناداه زيد بن صوحان بإجابة عليّ والقيام بنصرته وتابعه القعقاع بن عمرو فقام بعده فقال: لا سبيل إلى الفوضى وهذا أمير المؤمنين مليء بما ولي وقد دعاكم فانفروا، وقال عبد خير مثل ذلك وزاد:
يا أبا موسى هل تعلم أنّ طلحة والزبير بايعا؟ قال: نعم. قال: فهل أحدث عليّ ما ينقض البيعة؟ لا أدري قال: لا دريت ونحن نتركك حتى تدري. ثم قال سيحان [2] بن صوحان مثل ما قال القعقاع، وحرّض على طاعة عليّ وقال: فإنه
__________
[1] شبت: بفتح الشين المعجمة والموحّدة كما في القاموس.
[2] سيمان بوران جيحان أهـ.

(2/613)


دعاكم تنظرون ما بينه وبين صاحبيه [1] وهو المأمون على الأمّة الفقيه في الدين، فقال عمّار وهو دعاكم إلى ذلك لتنظروا في الحق وتقاتلوا معه عليه، وقال الحسن:.
أجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم وإن أمير المؤمنين يقول: إن كنت مظلوما أطيعوني [2] أو ظالما فخذوا مني بالحق. والله إن طلحة والزبير أول من بايعني وأول من غدر. فأجاب الناس، وحرّض عديّ بن حاتم قومه وحجر بن عديّ كذلك فنفر مع الحسن من الكوفة تسعة آلاف سارت منها ستة في البر وباقيهم في الماء.
وأرسل عليّ بعد مسير الحسن وعمّار الأشتر إلى الكوفة فدخلها والناس في المسجد وأبو موسى والحسن وعمّار في منازعة معه ومع الناس، فجعل الأشتر يمرّ بالقبائل ويدعوهم إلى القصر حتى انتهى إليه في جماعة الناس فدخله وأبو موسى بالمسجد يخطبهم ويثبطهم والحسن يقول له اعتزل علمنا واترك منبرنا، فدخل الأشتر إلى القصر وأمر بإخراج غلمان أبي موسى بن القصر، وجاءه أبو موسى فصاح به الأشتر: أخرج لا أمّ لك وأجله تلك العشيّة. ودخل الناس لينهبوا متاعه فمنعهم الأشتر، ونفر الناس مع الحسن كما قلنا وكان الأمراء على أهل النفير على كنانة وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل بن يسار الرياحي، وعلى قبائل قيس سعد بن مسعود الثقفي عم المختار، وعلى بكر وتغلب وعلة بن مجدوح الذهلي، وعلى مذحج والأشعريّين حجر بن عدي، وعلى بحيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم الأزدي، ورؤساء الجماعة من الكوفيين القعقاع بن عمرو وسعد بن مالك وهند بن عمرو والهيثم بن شهاب، ورؤساء النفار زيد بن صوحان والأشتر وعدي بن حاتم والمسيب بن نجبة ويزيد بن قيس وأمثالهم. فقدموا على عليّ بذي قار، فركب إليهم ورحب بهم وقال: يا أهل الكوفة دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فهو الّذي نريد وإن يحلوا داويناهم بالرفق حتى يبدؤنا بالظلم ولا ندع أمرا فيه الصلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد ان شاء الله. فاجتمع الناس عنده بذي قار وعبد القيس بأسرها وهم ألوف ينتظرونه ما بينه وبين البصرة، ثم دعا القعقاع وكان من الصحابة فأرسله إلى أهل البصرة وقال: الق هذين الرجلين فادعهما للالفة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: صاحبه.
[2] وفي النسخة الباريسية: أعينوني.

(2/614)


والجماعة وعظم عليهما الفرقة وقال له: كيف تصنع إذا قالوا ما لا وصاة مني فيه عندك؟ قال: نلقاهم بالذي أمرت به فإذا جاء منهم ما لي عندنا منك رأيي فيه اجتهدنا رأينا وكلمناهم كما نسمع ونرى انه ينبغي، قال: أنت لها.
فخرج القعقاع فقدم البصرة وبدأ بعائشة وقال: أي أمّة ما أشخصك؟ قالت:
أريد الإصلاح بين الناس، قال فابعثي الى طلحة والزبير تسمعي مني ومنهما، فبعثت إليهما فجاءا فقال لهما: اني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت الإصلاح وكذلك قالا.
قال فأخبراني ما هو؟ قالا: قتلة عثمان! فإنّ تركهم ترك للقرآن، قال: فقد قتلتم منهم ستمائة من أهل البصرة وغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف فان قاتلتم هؤلاء كلهم اجتمعت مضر وربيعة على حربكم فأين الإصلاح؟ قالت عائشة: فماذا تقول أنت؟ قال هذا الأمر دواؤه التسكين وإذا سكن اختلجوا فآثروا العافية ترزقوها وكونوا مفاتيح خير ولا تعرضونا للبلاء فنتعرّض له ويصرعنا وإياكم، فقالوا قد أصبت وأحسنت فارجع فان قدم عليّ وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر، فرجع وأخبر عليا فأعجبه وأشرف القوم على الصلح. وقد كانت وفود أهل البصرة أقبلوا إلى علي قبل رجوع القعقاع وتفاوضوا مع أهل الكوفة واتفقوا جميعا على الصلاح، ثم خطب عليّ الناس وأمرهم بالرحيل من الغد وأن لا يرحل معه أحد ممن أعان على عثمان. فاجتمع من أهل مصر ابن السوداء وخالد بن ملجم والأشتر والذين رضوا بمن سار إليه مثل علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسي وشريح بن أوفى، وتشاوروا فيما قال عليّ وقالوا: هو أبصر بكتاب الله وأقرب إلى العمل به من أولئك وهو يقول ما يقول، وإنما معه الذين أعانوا على عثمان فكيف إذا اصطلحوا واجتمعوا ورأوا قلّتنا في كثرتهم. فقال الأشتر رأيهم والله فينا واحد وأن يصطلحوا فعلى دمائنا فهلموا نثب على طلحة نلحقه بعثمان ثم يرضى منا بالسكون، فقال ابن السوداء: طلحة وأصحابه نحو من خمسة آلاف وأنتم ألفان وخمسمائة فلا تجدون إلى ذلك سبيلا، وقال علباء بن الهيثم: اعتزلوا الفريقين حتى يأتيكم من تقومون به. فقال ابن السوداء: ودّ والله الناس لو انفردتم فيتخطفونكم، فقال عدي: والله ما رضيت ولا كرهت فاما إذ وقع ما وقع ونزل الناس بهذه المنزلة فان لنا خيلا وسلاحا. فإن أقدمتم أقدمنا وإن أحجمتم أحجمنا، ثم قال سالم بن ثعلبة وسويد بن أوفى: أبرموا أمركم. ثم تكلم ابن السوداء فقال: يا قوم إن عزّكم

(2/615)


في خلطة الناس فصانعوهم وإذا التقى الناس غدا فانشبوا القتال فلا يجدون بدّا منه ويشغلهم الله عما تكرهون، وافترقوا على ذلك.
وأصبح عليّ راحلا حتى نزل على عبد القيس فانضموا اليه وساروا معه فنزل الزاوية، وسار من الزاوية إلى البصرة. وسار طلحة والزبير وعائشة من الفرضة والتقوا بموضع قصر عبيد الله بن زياد منتصف جمادى الآخرة، وتراسلت بكر بن وائل وعبد القيس وجاءوا إلى عليّ رضي الله عنه فكانوا معه، وأشار على الزبير بعض أصحابه أن يناجز القتال، فاعتذر بما وقع بينه وبين القعقاع. وطلب من عليّ رضي الله تعالى عنه أصحابه مثل ذلك فأبى وسئل ما حالنا وحالهم في القتلى؟ فقال: أرجو أن لا يقتل منّا ومنهم أحد نقي قلبه للَّه إلّا أدخله الله الجنة، ونهى عن قتالهم وبعث إليهم حكيم بن سلام ومالك بن حبيب إن كنتم على ما جاء به القعقاع فكفّوا حتى ننزل وننظر في الأمر، وجاءه الأحنف بن قيس وكان معتزلا عن القوم وقد كان بايع عليا بالمدينة بعد قتل عثمان مرجعه من الحج، قال الأحنف: ولم أبايعه حتى لقيت طلحة والزبير وعائشة بالمدينة وعثمان محصور وعلمت أنه مقتول فقلت لهم من أبايع بعده؟ قالوا عليّا فلما رجعت وقد قتل عثمان بايعت عليّا فلما جاءوا إلى البصرة دعوني إلى قتال عليّ فحرت في أمري بين خذلانهم أو خلع طاعتي، فقلت: ألم تأمروني بمبايعته؟ قالوا نعم لكنه بدّل وغير فقلت لا أنقض بيعتي ولا أقاتل أمّ المؤمنين، ولكن أعتزل، ونزل بالجلحاء على فرسخين من البصرة في زهاء ستة آلاف، فلما قدم عليّ جاءه وخيره بين القتال معه أو كف عشرة آلاف سيف عنه، فاختار الكفّ ونادى في تميم وبني سعد فأجابوه فاعتزل بهم حتى ظفر عليّ فرجع إليه واتبعه. ولما تراءى الجمعان خرج طلحة والزبير وجاءهم عليّ حتى اختلفت أعناق دوابهم. فقال عليّ: لقد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا إن كنتما أعددتما عند الله عذرا ألم أكن أخاكما في دينكما تحرّمان دمي وأحرّم دمكما فهل من حديث أحلّ لكما دمي قال طلحة: ألّبت على عثمان! قال عليّ: يومئذ يوفيهم الله دينهم الحقّ فلعن الله قتلة عثمان يا طلحة. أما بايعتني؟
قال: والسيف على عنقي. ثم قال للزبير: أتذكر يوم قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقاتلّنه وأنت له ظالم؟ قال اللَّهمّ نعم ولو ذكرت قبل مسيري ما سرت.
وو الله لا أقاتلك أبدا وافترقوا. فقال عليّ لأصحابه: إنّ الزبير قد عهد أن لا يقاتلكم. ورجع الزبير إلى عائشة وقال: ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا

(2/616)


أعرف أمري غير موطني هذا! قالت: فما تريد أن تصنع؟ قال أدعهم وأذهب.
فقال له ابنه عبد الله: خشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أن حامليها فتية أنجاد وأنّ تحتها الموت الأحمر فجنبت فأحفظه ذلك. وقال: حلفت. قال: كفّر عن يمينك فأعتق غلامه مكحولا. وقيل إنما أراد الرجوع عن القتال حين سمع ان عمّار بن ياسر مع عليّ لمّا ورد: ويح عمّار تقتله الفئة الباغية.
وكان أهل البصرة على ثلاث فرق مفترقين مع هؤلاء وهؤلاء وثالثة اعتزلت كالأحنف ابن قيس وعمران بن حصين، ونزلت عائشة في الأزد ورأسهم صبرة بن شيمان، وأشار عليه كعب بن سور بالاعتزال فأبى وكان معها قبائل كثيرة من مضر والرباب وعليهم المنجاب بن راشد، وبنو عمرو بن تميم وعليهم أبو الجرباء، وبنو حنظلة وعليهم هلال بن وكيع وسليم وعليهم مجاشع بن مسعود، وبنو عامر وغطفان وعليهم زفر بن الحرث، والأزد وعليهم صبرة بن شيمان، وبكر وعليهم مالك بن مسمع، وبنو ناجية وعليهم الخرّيت بن راشد، وهم في نحو ثلاثين ألفا. وعليّ في عشرين ألفا.
والناس جميعا متنازلون مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة، ولا يشكّون في الصلح وقد ردّوا حكيما ومالكا إلى علي: إنّا على ما فارقنا عليه القعقاع، وجاء ابن عبّاس إلى طلحة والزبير، ومحمد بن طلحة إلى عليّ وتقارب أمر الصلح وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشّر ليلة يتشاورون، واتفقوا على إنشاب الحرب بين الناس فغسلوا وما [1] يشعر بهم أحد، وقصد مضر الى مضر وربيعة إلى ربيعة ويمن الى يمن فوضعوا فيهم السلاح، وثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم. وبعث طلحة والزبير عبد الرحمن بن الحرث بن هشام الى الميمنة وهم ربيعة، وعبد الرحمن بن عتّاب إلى الميسرة، وركبا في القلب، وسألا [2] الناس ما هذا؟ فقالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلا فقال طلحة والزبير إنّ عليّا لا ينتهي حتى يسفك الدماء. ثم دفعوا أولئك المقاتلين فسمع عليّ وأهل عسكره الصيحة، فقال ما هذا؟ فقيل له أظنّه سقط من هنا طرقنا أو نحوه السبئية بيتونا ليلا فرددتهم [3] فوجدنا القوم على أهبة فركبونا، وثار الناس وركب عليّ. وبعث الى الميمنة والميسرة صاحبها، وقال: إنّ طلحة والزبير لا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ولم.
[2] وفي نسخة اخرى: وتساءل
[3] وفي نسخة اخرى: فرددناهم.

(2/617)


ينتهيان حتى تسفك الدماء ونادى في الناس كفّوا، وكان رأيهم جميعا في تلك الفتنة أن لا يقتتلوا حتى يقيموا الحجة ولا يقتلوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح ولا يستحلّوا سلبا.
وأقبل كعب بن سور إلى عائشة وقال: قد أبى القوم إلّا القتال فلعل الله يصلح بك.
فأركبها وألبسوا هودجها الأدراع وأوقفوها بحيث تسمع الغوغاء، واقتتل الناس حتى انهزم أصحاب الجمل وذهب، وأصيب طلحة بسهم في رجله فدخل البصرة ودمه يسيل إلى أن مات. وذهب الزبير إلى وادي السباع لما ذكره عليّ، فمرّ بعسكر الأحنف واتّبعه عمرو بن الجرموز وكان يسائله حتى إذا قام إلى الصلاة قتله ورجع بفرسه وسلاحه وخاتمه إلى الأحنف فقال والله ما أدري أحسنت أم أسأت. فجاء ابن جرموز إلى عليّ وقال للحاجب: استأذن لقاتل الزبير فقال لحاجبه: ائذن له وبشّروه بالنار. ولما بلغت الهزيمة البصرة ورأوا الخيل أطافت بالجمل فرجعوا وشبت الحرب كما كانت. وقالت عائشة لكعب بن سور وناولته مصحفا: تقدّم فادعهم إليه واستقبل القوم فقتله السبئيّة رشقا بالسهم، ورموا عائشة في هودجها حتى جأرت بالاستغاثة ثم بالدعاء على قتلة عثمان، وضج الناس بالدعاء فقال عليّ ما هذا قالوا عائشة تدعوا على قتلة عثمان! فقال: اللَّهمّ العن قتلة عثمان. ثم أرسلت عائشة إلى الميمنة والميسرة وحرّضتهم، وتقدّم مضر الكوفة ومضر البصرة فاجتلدوا أمام الجمل حتى ضرسوا، وقتل زيد بن صوحان من أهل الكوفة وأخوه سيحان وارتث أخوهما صعصعة، وتزاحف الناس وتأخرت يمن الكوفة وربيعتها ثم عادوا فقتل على راياتهم عشرة. ثم أخذها يزيد بن قيس فثبت، وقتل تحت راية ربيعة زيد وعبد الله بن رقية وأبو عبيدة بن راشد بن سلمة، واشتدّ الأمر ولزقت ميمنة الكوفة بقلبهم وميسرة أهل البصرة بقلبهم، ومنعت ميمنة هؤلاء ميسرة هؤلاء وميسرة هؤلاء ميمنة هؤلاء، وتنادى شجعان مضر من الجانبين بالصبر وقصدوا الأطراف يقطعونها، وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتّاب قبل قتله، وقاتل عند الجمل الأزد ثم بنو ضبّه وبنو عبد مناة، وكثر القتل والقطع وصارت المجنبات إلى القلب واستحرّ القتل إلى الجمل حتى قتل على الخطام أربعون رجلا أو سبعون كلهم من قريش، فجرح عبد الله بن الزبير وقتل عبد الرحمن بن عتّاب وجندب بن زهير العامري وعبد الله بن حكيم بن حزام ومعه راية قريش قتله الأشتر وأعانه فيه عدي بن حاتم، وقتل الأسود

(2/618)


بن أبي البختري وهو آخذ بالخطام وبعده عمرو بن الأشرف الأزدي في ثلاثة عشر من أهل بيته وجرح مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير سبعا وثلاثين جراحة ما بين طعنة ورمية، ونادى عليّ اعقروا الجمل يتفرقوا، وضربه رجل فسقط فما كان صوت أشد عجيجا منه. وكانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مخنف بن سليم فقتل فأخذها الصقعب أخوه فقتل ثم أخوهما عبد الله كذلك، فأخذها العلاء بن عروة فكان الفتح وهي بيده. وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن سليم فقتل ومعه زيد وسيحان ابنا صوحان وأخذها عدة فقتلوا منهم عبد الله بن رقية ثم منقذ بن النعمان، ودفعها الى ابنه مرّة فكان الفتح وهي بيده. وكانت راية بكر بن وائل في بني ذهل [1] مع الحرث بن حسّان فقتل في خمسة من بني أهل ورجال من بني محدوج [2] وخمسة وثلاثين من بني ذهل.
وقيل في عقر الجمل: ان القعقاع دعا الأشتر وقد جاء من القتال عند الجمل إلى العود فلم يجبه، وحمل القعقاع والخطام بيد زفر بن الحرث فأصيب شيوخ من بني عامر، وقال القعقاع لبجير بن دجلة [3] من بني ضبّة وهو من أصحاب عليّ يا بجير صح بقومك يعقروا الجميل قبل أن يصابوا وتصاب أم المؤمنين، فضرب ساق البعير فوقع على شقّه، وأمّن [4] القعقاع من يليه واجتمع هو وزفر على قطع بطان البعير وحملا الهودج فوضعاه وهو كالقنفذ بالسهام، وفرّ من وراءه، وأمر عليّ فنودي لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تدخلوا الدور، وأمر بحمل الهودج من بين القتلى، وأمر محمد بن أبي بكر أن يضرب عليها قبّة وأن ينظر هل بها جارحة فجاء يسألها. وقيل لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه عمّار فاحتملا الهودج إلى ناحية ليس قربة أحد وأتاها عليّ فقال: كيف أنت يا أمّه؟ قالت: بخير قال:
يغفر الله لك. قالت: ولك. وجاء وجوه الناس إليها فيهم القعقاع بن عمرو فسلم عليها، وقالت له: وددت اني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وجاء إلى عليّ فقال له مثل قولها ولما كان الليل أدخلها أخوها محمد بن أبي بكر الصديق البصرة،
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بني هذيل.
[2] وفي نسخة اخرى: بني مخزوم.
[3] وفي النسخة الباريسية: ابن دجلة.
[4] وفي نسخة ثانية: أمر.

(2/619)


فأقرّها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفيّة زوجه بنت الحرث بن أبي طلحة من بني عبد الدار أمّ طلحة الطلحات بن عبد الله، وتسلّل الجرحى من بين القتلى فدخلوا ليلا إلى البصرة وأذن عليّ في دفن القتلى فدفنوا بعد أن أطاف عليهم، ورأى كعب بن سور وعبد الرحمن بن عتّاب وطلحة بن عبيد الله وهو يقول: زعموا أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء مع أن هؤلاء فيهم. ثم صلّى على القتلى من الجانبين وأمر بالأطراف فدفنت في قبر عظيم، وجمع ما كان في العسكر من كل شيء وبعث به إلى مسجد البصرة وقال من عرف شيئا فليأخذه إلّا سلاحا عليه سمة السلطان. وأحصى القتلى من الجانبين فكانوا عشرة الاف منهم من ضبّة ألف رجل.
ولما فرغ عليّ من الوقعة جاءه الأحنف بن قيس في بني سعد فقال له: تربصت فقال ما أراني إلّا قد أحسنت وبأمرك كان ما كان، فارفق فانّ طريقك بعيد وأنت إليّ غدا أحوج منك أمس فلا تقل لي مثل هذا فاني لم أزل لك ناصحا. ثم دخل البصرة يوم الإثنين فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة، وأتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة فبايعه وعرض له في عمه زياد بأنه متربّص، فقال والله إنه لمريض وعلى مسرّتك لحريص. فقال: انهض أمامي فمضى فلما دخل عليه عليّ اعتذر فقبل عذره واعترض بالمرض قبل عذره، وأراده على البصرة فامتنع وقال: ولها رجلا من أهلك تسكن إليه الناس وسأشير عليه، وأشار بابن عبّاس فولاه، وجعل زيادا على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس بموافقته فيما يراه. ثم راح علي إلى عائشة في دار ابن خلف وكان عبد الله بن خلف قتل في الوقعة فأساءت أمه وبعض النسوة عليه، فأعرض عنهنّ وحرّضه بعض أصحابه عليهنّ فقال: إن النساء ضعيفات وكنا نؤمر بالكفّ عنهنّ وهنّ مشركات فكيف بهن مسلمات. ثم بلغه أنّ بعض الغوغاء عرض لعائشة بالقول والإساءة، فأمر من أحضر له بعضهم وأوجعهم ضربا، ثم جهّزها عليّ إلى المدينة بما احتاجت إليه وبعثها مع أخيها محمد مع أربعين من نسوة البصرة اختارهن لمرافقتها، وأذن للفل ممن خرج عنها أن يرجعوا معها، ثم جاء يوم ارتحالها فودّعها واستعتبت له واستعتب لها، ومشى معها أميالا وشيّعها بنوه مسافة يوم، وذلك غرّة رجب، فذهبت إلى مكة فقضت الحج ورجعت إلى المدينة. ورجع [1]
__________
[1] وفي نسخة اخرى: وخرج.

(2/620)


بنو أمية من الفل ناجين الى الشام، فعتبة بن أبي سفيان وعبد الرحمن [1] ويحيى أخوا مروان خلصوا إلى عصمة بن أبير التميمي إلى أن اندملت جراحهم، ثم بعثهم إلى الشام. وأمّا عبد الله بن عامر فخلص إلى بني حرقوص ومضى من هنالك، وأما مروان بن الحكم فأجاره أيضا مالك بن مسمع وبعثه وقيل كان مع عائشة فلما ذهبت إلى مكرة فارقها الى المدينة، وأما ابن الزبير فاختفى بدار بعض الأزد وبعث إلى عائشة يعلمها بمكانه فأرسلت أخاها محمدا وجاء إليها به.
ثم قسم عليّ جميع ما في بيت المال على من شهد معه، وكان يزيد على ستمائة ألف فأصاب كل رجل خمسمائة، وقال: ان أظفركم الله بالشام فلكم مثلها إلى أعطياتكم. فخاض السبئيّة في الطعن عليه بذلك وبتحريم أموالهم مع اراقة دمائهم، ورحلوا عنه فأعجلوه عن المقام بالبصرة، وارتحل في آثارهم ليقطع عليهم أمرا إن أرادوه.
وقد قيل في سياق أمر الجمل غير هذا، هو أنّ عليّا لما أرسل محمد بن أبي بكر إلى أبي موسى ليستنفر له أهل الكوفة وامتنع. سار هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص إلى عليّ بالربذة فأخبره فأعاده إليه يقول له: إني لم أولّك إلّا لتكون من أعواني على الحق، فامتنع أبو موسى وكتب إليه هاشم مع المحل بن خليفة الطائي، فبعث علي ابنه الحسن وعمّار بن ياسر يستنفران كما مرّ. وبعث قرظة [2] بن كعب الأنصاري أميرا وبعث إليه: إني قد بعثت الحسن وعمّارا يستنفران الناس وبعثت قرظة بن كعب واليا على الكوفة فاعتزل عملنا مذموما مدحورا وان لم تفعل فقد أمرته أن ينابذك وإن ظفر بك أن يقطعك إربا إربا وانّ الناس تواقفوا للقتال، وأمر عليّ من يتقدّم بالمصحف يدعوهم إلى ما فيه وان قطع وقتل وحمله بعض الناس وفعل ذلك فقتل.
وحملت ميمنتهم [3] على ميسرتهم فاقتتلوا ولاذ الناس بجمل عائشة أكثرهم من ضبّة والأزد ثم انهزموا آخر النهار، واستحرّ في الأزد القتل وحمل عمّار على الزبير يحوزه بالرمح ثم استلان له وتركه، وألقى عبد الله بن الزبير نفسه مع الجرحى. وعقر الجمل واحتمل عائشة أخوها محمد فأنزلها وضرب عليها قبة ووقف عليها عليّ يعاتبها، فقالت
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عبد الله.
[2] وفي النسخة الباريسية: قرطه.
[3] يعني ميمنة عليّ (رضي الله عنه)

(2/621)


له ملكت فأسجح [1] نعم ما أبكيت قومك اليوم، فسرّحها في جماعة رجال ونساء الى المدينة وجهزها بما تحتاج إليه. هذا أمر الجمل ملخص من كتاب أبي جعفر الطبريّ اعتمدناه للوثوق به ولسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من المؤرخين. وقتل يوم الجمل عبد الرحمن أخوه طلحة من الصحابة والمحرز بن حارثة العبشمي وكان عمر ولّاه على أهل مكّة، ومجاشع ومجالد ابنا مسعود مع عائشة.
وعبد الله بن حكيم بن حزام وهند بن أبي هالة وهو ابن خديجة قتل مع عليّ وقيل بالبصرة وغيرهم. انتهى أمر الجمل.
ولما فرغ الناس من هذه الوقعة اجتمع صعاليك من العرب وعليهم جبلة بن عتاب الحنظليّ وعمران بن الفضيل ابرجميّ، وقصدوا سجستان وقد نكث أهلها، وبعث عليّ إليهم عبد الرحمن بن جرو الطائي فقتلوه، فكتب إلى عبد الله بن عبّاس أن يبعث إلى سجستان واليا، فبعث ربعي بن كاس العنبري في أربعة آلاف ومعه الحصين بن أبي الحرّ فقتل جبلة وانهزموا وضبط ربعي البلاد واستقامت.
انتقاض محمد بن أبي حذيفة بمصر ومقتله
لما قتل أبو حذيفة بن عتبة يوم اليمامة ترك ابنه محمدا في كفالة عثمان وأحسن تربيته وسكر في بعض الأيام فجلده عثمان، ثم تنسك وأقبل على العبادة وطلب الولاية من عثمان، فقال: لست بأهل فاستأذنه على اللحاق بمصر لغزو البحر فأذن له وجهزه ولزمه الناس وعظّموه لما رأوا من عبادته، ثم غزا مع ابن أبي سرح غزوة الصواري كما مرّ، فكان يتعرّض له بالقدح فيه وفي عثمان بتوليته ويجتمع في ذلك مع محمد بن أبي بكر، وشكاهما ابن أبي سرح إلي عثمان فكتب إليه بالتجافي عنهما لوسيلة ذلك بعائشة وهذا لتربيته. وبعث إلى ابن أبي حذيفة ثلاثين ألف درهم وحمل من الكسوة فوضعهما ابن أبي حذيفة في المسجد، وقال: يا معشر المسلمين كيف أخادع عن ديني وآخذ الرشوة عليه. فازداد أهل مصر تعظيما له وطعنا على عثمان وبايعوه على رياستهم، وكتب إليه عثمان يذكّره بحقوقه عليه فلم يردّه ذلك. وما زال يحرّض الناس عليه حتى خرجوا لحصاره وأقام هو بمصر، وخرج ابن أبي سرح إلى عثمان
__________
[1] اي أحسن العفو أهـ. وفي النسخة الباريسية: ملكت فاسمح.

(2/622)


فاستولى هو على مصر وضبطها إلى أن قتل عثمان وبويع عليّ وبايع عمرو بن العاص لمعاوية، وسار إلى مصر قبل قدوم قيس بن سعد فمنعهما فخدعا محمد حتى خرج إلى العريش فتحصن بها في ألف رجل، فحاصراه حتى نزل على حكمهم فقتلوه.
وفي هذا الخبر بعض الهون لأنّ الصحيح أنّ عمرا ملك مصر بعد صفّين، وقيس ولاه عليّ لأول بيعته، وقد قيل ان ابن أبي حذيفة لما حوصر عثمان بالمدينة أخرج هو ابن أبي سرح عن مصر وضبطها، وأقام ابن أبي سرح بفلسطين حتى جاء الخبر بقتل عثمان وبيعة علي وتوليته قيس بن سعد على مصر، فأقام بمعاوية. وقيل إنّ عمرا سار إلى مصر بعد صفّين فبرز إليه ابن أبي حذيفة في العساكر وخادعه في الرجوع إلى بيعة عليّ، وأن يجتمعا لذلك بالعريش في غير جيش من الجنود، ورجع إلى معاوية عمرو فأخبره، ثم جاء إلى ميعاده بالعريش وقد استعدّ بالجنود وأكمنهم خلفه حتى إذا التقيا طلعوا على أثره فتبين ابن أبي حذيفة الغدر فتحصن بقصر العريش إلى أن نزل على حكم عمرو. وبعث به إلى معاوية فحبسه إلى أن فرّ من محبسه فقتل، وقيل إنما بعثه عمرو إلى معاوية عند مقتل محمد بن أبي بكر وأنّه أمّنه ثم حمله إلى معاوية فحبسه بفلسطين.
ولاية قيس بن سعد على مصر
كان عليّ قد بعث إلى مصر لأوّل بيعته قيس بن سعد أميرا في صفر من سنة ست وثلاثين وأذن له في الإكثار من الجنود وأوصاه فقال له: لو كنت لا أدخلها إلّا بجند آتي بهم من المدينة لا أدخلها أبدا فانا أدع لك الجند تبعثهم في وجوهك، وخرج في سبعة من أصحابه حتى أتى مصر وقرأ عليهم كتابا يعلمهم بمبايعته وطاعته وأنّه أميرهم، ثم خطب فقال بعد أن حمدا للَّه: أيها الناس قد بايعنا خير من نعلم بعد نبيّنا فبايعوه على كتاب الله وسنّة رسوله. فبايعه الناس واستقامت مصر، وبعث عليها عمّاله إلّا بعض القرى كان فيها قوم يدعون إلى الطلب بدم عثمان، مثل يزيد بن الحرث ومسلمة بن مخلد، فهادنهم وجبى الخراج وانقضى أمر الجمل وهو بمصر.
وخشي معاوية أن يسير إليه عليّ في أهل العراق وقيس من ورائه في أهل مصر.
فكتب إليه يعظم قتل عثمان ويطوّقه عليّا ويحضّه على البراءة من ذلك ومتابعته على أمره على أن يوليه العراقين إذا ظفر ولا يعزله، يولّي من أراد من أهله الحجاز

(2/623)


كذلك، ويعطيه ما شاء من الأموال. فنظر في أهله بين موافقته أو معاجلته بالحرب فآثر الموافقة، فكتب إليه: «أما بعد فإنّي لم أقارف [1] شيئا مما ذكرته وما اطلعت لصاحبي علي شيء منه. وأمّا متابعتك فانظر فيها وليس هذا مما يسرع إليه، وأنا كاف عنك فلا يأتيك شيء من قبلي تكرهه حتى نرى وترى» . فكتب إليه معاوية:
«إنّي لم أرك تدنو فأعدّك سلما ولا تتباعد فأعدّك حربا، وليس مثلي يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعه عدد الرجال وأعنّة الخيل والسلام» . فعلم قيس أنّ المدافعة لا تنفع معه فأظهر له ما في نفسه، وكتب إليه بالرّد القبيح والشتم والتصريح بفضل عليّ والوعيد، فحينئذ أيس معاوية منه وكاده من قبل علي، فأشاع في الناس أن قيسا شيعة له تأتينا كتبه ورسله ونصائحه وقد ترون ما فعل بإخوانكم القائمين بثأر عثمان وهو يجري عليهم من الأعطية والأرزاق، فأبلغ ذلك إلى عليّ محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر وعيونه بالشام فأعظم ذلك، وفاوض فيه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، فقال له عبد الله: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك واعزله عن مصر. ثم جاء كتابه بالكفّ عن قتال المعتزلين فقال ابن جعفر: مره بقتالهم خشية أن تكون هذه ممالأة. فكتب إليه يأمره بذلك فلم ير قيس ذلك رأيا وقال: متى قاتلناهم ساعدوا عليك عدوّك وهم الآن معتزلون والرأى تركهم. فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين ابعث محمد بن أبي بكر على مصر، وكان أخاه لأمه، واعزل قيسا فبعثه.
وقيل بعث قبل الأشتر النخعيّ، ومات بالطريق، فبعث محمد ولما قدم محمد على قيس خرج عنها مغضبا إلى المدينة وكان عليها مروان بن الحكم فأخافه، فخرج هو وسهل بن حنيف إلى عليّ. وكتب معاوية إلى مروان يعاتبه لو أمددت عليّا بمائة ألف مقاتل كان أيسر عليّ من قيس بن سعد.
ولما قدم قيس على عليّ وكشف له عن وجه الخبر قبل عذره وأطاعه في أمره كله، وقدم محمد مصر فقرأ كتاب عليّ على الناس وخطبهم [2] ، ثم بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس وادعهم. ادخلوا في طاعتنا أو اخرجوا عن بلادنا. فقالوا:
دعنا حتى ننظر. وأخذوا حذرهم، ولما انقضت صفّين وصار الأمر إلى التحكيم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: لم أفارق.
[2] وفي النسخة الباريسية: خاطبهم.

(2/624)


بارزوه وبعث العساكر إلى يزيد بن الحرث الكناني بخربتا وعليهم الحرث بن جمهان فقتلوه ثم بعث آخر فقتلوه.
مبايعة عمرو بن العاص لمعاوية
لما أحيط بعثمان خرج عمرو بن العاص إلى فلسطين ومعه ابناه عبد الله ومحمد، فسكن بها هاربا مما توقعه من قتل عثمان إلى أن بلغه الخبر بقتله، فارتحل يبكي ويقول كما تقول النساء، حتى أتى دمشق فبلغه بيعة عليّ، فاشتدّ عليه الأمر وأقام ينتظر ما يصنعه الناس، ثم بلغه مسير عائشة وطلحة والزبير فأمّل فرجا من أمره، ثم جاءه الخبر بوقعة الجمل فارتاب في أمره. وسمع أنّ معاوية بالشام لا يبايع عليّا وأنّه يعظّم قتل عثمان، فاستشار ابنيه في المسير إليه، فقال له ابنه عبد الله توفي النبي صلى الله عليه وسلم والشيخان بعده وهم راضون عنك فأرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس. وقال له محمد: أنت ناب من أنياب العرب وكيف يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صيت. فقال: يا عبد الله أمرتني بما هو خير لي في ديني، ويا محمد أمرتني بما هو خير لي في دنياي وشرّ لي في آخرتي. ثم خرج ومعه ابناه حتى قدم على معاوية فوجدوهم يطلبون دم عثمان، فقال: أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم. فأعرض معاوية قليلا، ثم رجع إليه وشركه في سلطانه.
أمر صفين
لما رجع عليّ بعد وقعة الجمل إلى الكوفة مجمعا على قصد الشام، بعث إلى جرير بن عبد الله البجلي بهمدان وإلى الأشعث بن قيس بآذربيجان وهما من عمّال عثمان بأن يأخذا له البيعة ويحضرا عنده، فلما حضرا بعث جرير إلى معاوية يعلمه ببيعته ونكث طلحة والزبير وحزبهما ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمّا قدم عليه طاوله في الجواب وحمل أهل الشام ليرى جرير قيامهم في دم عثمان واتهامهم عليّا به، وكان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان ملوّثا بالدم كما قدّمناه وبأصابع زوجته نائلة، وضع معاوية القميص على المنبر والأصابع من فوقه، فمكث الناس يبكون مدّة وأقسموا ألّا يمسهم ماء إلّا لجنابة ولا يناموا على فراش حتى يثأروا لعثمان ومن حال دون ذلك قتلوه. فرجع جرير بذلك إلى عليّ وعذله الأشتر في بعث

(2/625)


جرير وأنّه طال مقامه حتى تمكن أهل الشام من رأيهم [1] ، فغضب لذلك جرير ولحق بقرقيسياء واستقدمه معاوية فقدم عليه. وقيل أن شرحبيل بن السمط الكندي أشار على معاوية بردّ جرير لأجل منافسة كانت بينهما منذ أيام عمر، وذلك أن شرحبيل كان عمر بن الخطاب بعثه إلى سعد بالعراق ليكون معه فقرّبه سعد وقدّمه ونافسه له أشعث بن قيس، فأوصى جريرا عند وفادته على عمر أن ينال من شرحبيل عنده، ففعل فبعث عمر شرحبيل إلى الشام فكان يحقد ذلك على جرير، فلما جاء الى معاوية أغراه شرحبيل به وحمله على الطلب بدم عثمان.
ثم خرج عليّ وعسكر بالنخيلة واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري وقدم عليه عبد الله بن عبّاس في أهل البصرة، وتجهّز معاوية وأغراه عمرو بقلّة عسكر عليّ واضطغان أهل البصرة له بمن قتل منهم، وعبّى معاوية أهل الشام وعقد لعمرو ولا بنيه وغلامه وردان الألوية. وبعث عليّ في مقدمته زياد بن النضر الحارثي في ثمانية آلاف وشريح بن هانئ في أربعة آلاف، وسار من النخيلة إلى المدائن واستنفر من كان بها من المقاتلة وبعث منها معقل بن قيس في ثلاثة آلاف يسير من الموصل ويوافيه بالرّقة. وولّي عليّ على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عمّ المختار بن أبي عبيد، وسار فلما وصل إلى الرّقة نصب له جسر فعبر وجاء زياد وشريح من ورائه، وكانا سمعا بمسير معاوية وخشيا أن يلقاهما معاوية وبينهما وبين عليّ البحر ورجعا إلى هيت وعبر الفرات، ولحقا بعلي فقدّمهما امامه، فلما أتيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام فطاولاه وبعثا إلى عليّ فسرح الأشتر وأمره أن يجعلهم على مجنبتيه، وقال: لا تقاتلهم حتى آتيك. وكتب إلى شريح وزياد بطاعته فقدم عليهما وكف عن القتال سائر يومه حتى حمل عليهم أبو الأعور بالعشيّ فاقتتلوا ساعة وافترقوا، ثم خرج من الغداة وخرج إليه من أصحاب الأشتر هاشم بن عتبة المرقال واقتتلوا عامة يومهم. وبعث الأشتر سنان بن مالك النخعيّ إلي أبي الأعور السلميّ يدعوه إلى البراز فأبي وحجز بينهم الليل، ووافاهم من الغد عليّ وعساكره، فتقدم الأشتر وانتهى إلى معاوية ولحق به عليّ. وكان معاوية قد ملك شريعة الفرات فشكى الناس إلى عليّ العطش فبعث صعصعة بن صوحان إلى معاوية: «بأنّا سرنا ونحن عازمون على الكفّ عنكم حتى نعذر إليكم فسابقنا جندكم بالقتال ونحن رأينا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: من ورائهم.

(2/626)


الكفّ حتى ندعوك ونحتج عليك وقد منعتم الماء والناس غير منتهين فابعث إلى أصحابك يخلّون عن الماء للورد حتى ننظر بيننا وبينكم وان أردت القتال حتى يشرب الغالب فعلنا» . فأشار عمرو بن العاص بتخلية الماء لهم، وأشار ابن أبي سرح والوليد بن عقبة بمنعهم الماء، وعرضا بشتم فتشاتم معهم صعصعة ورجع، وأوعز إلى أبي الأعور بمنعهم الماء وجاء الأشعث بن قيس إلى الماء فقاتلهم عليه ثم أمر معاوية أبا الأعور يزيد بن أبي أسد القسري جدّ خالد بن عبد الله ثم بعمرو بن العاص بعده، وأمر عليّ الأشعث بشبث بن ربعي ثم بالأشتر وعليهم أصحاب عليّ وملكوا الماء عليهم، وأرادوا منعهم منه فنهاهم عليّ عن ذلك.
وأقام يومين ثم بعث إلى معاوية أبا عمرو بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمدانيّ وشبث بن ربعي التميمي، يدعونه إلى الطاعة وذلك أوّل ذي الحجة سنة ست وثلاثين، فدخلوا عليه وتكلّم بشير بن عمرو بعد حمدا للَّه والثناء عليه والموعظة الحسنة وناشده الله أن لا يفرّق الجماعة ولا يسفيك الدماء، فقال: هلّا أوصيت بذلك صاحبك. فقال بشير: ليس مثلك أحق بالأمر بالسابقة والقرابة.
قال: فما رأيك؟ قال: تجيبه إلى ما دعا إليه من الحق، قال معاوية: ونترك دم عثمان لا والله لا أفعله أبدا! ثم قال شبث بن ربعي: يا معاوية إنما طلبت دم عثمان تستميل به هؤلاء السفهاء العظام الى طاعتك، ولقد علمنا أنك أبطات على عثمان بالنصر لطلب هذه المنزلة فاتق الله ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله. فأجابه معاوية وأبدع في سبّه وقال: انصرفوا فليس بيني وبينكم إلّا السيف. فقال له شبث: أقسم باللَّه لنعجلها [1] لك. ورجعوا إلى عليّ بالخبر.
وأقاموا يقتتلون أيام ذي الحجة كلها عسكر من هؤلاء وعسكر من هؤلاء، وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام حذرا من الاستئصال والهلاك. ثم جاء المحرم فذهبوا إلى الموادعة حتى ينقضي طمعا في الصلح، وبعث إلى معاوية عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن خصفة [2] ، فتكلم عدي بعد الحمد والثناء ودعا إلى الدخول في طاعة عليّ ليجمع الله به الكلمة فلم يبق غيرك ومن معك واحذر يا معاوية أن يصيبك وأصحابك مثل يوم الجمل. فقال معاوية:
__________
[1] وفي نسخة اخرى: لنجعلنها لك.
[2] وفي نسخة اخرى: زياد بن حفصة.

(2/627)


كأنك جئت مهدّدا لا مصلحا هيهات يا عدي أنا ابن حرب والله ما يقعقع لي بالشنان وأنّك من قتلة عثمان وأرجو أن يقتلك الله به. فقال له يزيد بن قيس: إنما أتيناك رسلا ولا ندع مع ذلك النصح والسعي في الالفة والجماعة وذكر من فضل عليّ واستحقاقه للأمر بتقواه وزهده. فقال معاوية بعد الحمد والثناء: أمّا الجماعة التي تدعون إليها فهي معنا وأمّا طاعة صاحبكم فلا نراها لأنه قتل خليفتنا وآوى أهل ثأرنا ونحن مع ذلك نجيبكم إلى الطاعة والجماعة إذا دفع إلينا قتلة عثمان. فقال شبث بن ربعي: أيسرّك يا معاوية أن تقتل عمّارا؟ قال: نعم بمولاه. قال شبث: حتى تضيق الأرض والفضاء عليك. فقال معاوية: لو كان ذلك لكانت عليك أضيق.
وافترقوا عن معاوية ثم خلا بزياد بن خصفة وشكى إليه من عليّ وسأله النصر منه بعشيرته وأن يولّيه أحد المصرين، فأبى وقال: إني على بيّنة من ربي فلن أكون ظهيرا للمجرمين. وقام عنه فقال معاوية لعمرو: كأنّ قلوبهم قلب رجل واحد.
ثم بعث معاوية إلى عليّ حبيب بن مسلمة وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس فدخلوا عليه، فتكلّم حبيب بعد الحمد للَّه والثناء فقال: إنّ عثمان كان خليفة مهديّا يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره فاستثقلتم حياته واستبطأتم موته فقتلتموه فادفع إلينا قتلته إن كنت لم تقتله ثم اعتزل أمر الناس فيولّوا من أجمعوا عليه. فقال عليّ: ما أنت وهذا الأمر؟ فاسكت فلست بأهل له، فقال والله لتراني بحيث تكره، فقال: وما أنت لا أبقى الله عليك ان أبقيت اذهب فصوّب وصعد، ثم تكلّم بعد الحمد للَّه والثناء وهداية الناس بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وخلافة الشيخين وحسن سيرتهما، وقد وجدنا عليهما أن تولّيا ونحن أقرب منهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن سمحنا لهما [1] بذلك، وولي عثمان فعاب الناس عليه وقتلوه، ثم بايعوني مخافة الفرقة فأجبتهم، ونكث عليّ رجلان وخالف صاحبكم الّذي ليس له مثل سابقتي، والعجب من انقيادكم له دون بيت نبيّكم ولا ينبغي لكم ذلك، وأنا أدعوكم إلى الكتاب والسنّة ومعالم الدين وإماتة الباطل وإحياء الحق» فقالوا:
نشهد أن عثمان قتل مظلوما، فقال: لا أقول مظلوما ولا ظالما. قالوا: فمن لم يقل ذلك فنحن منه برآء وانصرفوا. فقرأ عليّ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى 27: 80 الآية ثم، قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء في ضلالهم أجدّ منكم في حقّكم.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: سامحناهما.

(2/628)


ثم تنازع عدي بن حاتم في راية طيِّئ وعامر بن قيس الحزمري [1] وكان رهطه أكثر من رهط عدي، فقال عبد الله بن خليفة البولاني: ما فينا أفضل من عدي ولا من أبيه حاتم ولم يكن في الإسلام أفضل من عدي وهو الوافد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأس طيِّئ في النخيلة والقادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند وتستر، وسأل عليّ قومهم فوافقوه على ذلك فقضى بها لعديّ. ولما انسلخ المحرّم نادى عليّ في الناس بالقتال وعبّى الكتائب وقال: لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثّلوا ولا تأخذوا مالا ولا تهيّجوا امرأة وإن شتمتكم فإنّهنّ ضعاف الأنفس والقوى، ثم حرّضهم ودعا لهم وجعل الأشتر على خيل الكوفة وسهل بن حنيف على خيل البصرة وقيس بن سعد على رجالة البصرة وعمّار بن ياسر على رجّالة الكوفة وهاشم بن عتبة معه الراية ومسعر بن فدكي على القرّاء، وعبّى معاوية كتائبه فجعل على الميمنة ذا الكلاع الحميري وعلى الميسرة حبيب بن مسلمة، وعلى المقدّمة أبا الأعور وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص وعلى رجّالتها مسلم بن عقبة المرّي. وعلى الناس كلهم الضحّاك بن قيس. وتبايع رجال من أهل الشام على الموت فعقلوا أنفسهم بالعمائم في خمسة صفوف فاقتتلوا عامة يومهم، وفي اليوم الثاني هاشم بن عتبة وأبو الأعور السلميّ، وفي اليوم الثالث عمّار بن ياسر وعمرو بن العاص فاقتتلوا أشدّ قتال وحمل عمّار فأزال عمرا عن موضعه، وفي اليوم الرابع محمد بن الحنفيّة وعبيد الله بن عمر بن الخطاب وتداعيا إلى البراز فرد عليّ ابنه وتراجعوا، وفي اليوم الخامس عبد الله بن عبّاس والوليد بن عقبة فاقتتلا كذلك، ثم عاد في اليوم السادس الأشتر وحبيب فاقتتلا قتالا شديدا وانصرفا.
وخطب عليّ الناس عشيّة يومه [2] وأمرهم بمناهضة القوم بأجمعهم وأن يطيلوا ليلتهم القيام، ويكثروا التلاوة ويدعو الله بالنصر والصبر، ويرموا [3] غدا في لقائهم بالجدّ والحزم. فبات الناس يصلحون ليلتهم سلاحهم، وعبّى عليّ الناس ليلته إلى الصباح، وزحف وسأل عن القبائل من أهل الشام وعرف مواقفهم وأمر كل قبيلة أن تكفيه أختها من الشام، ومن ليس منهم أحد بالشام يصرفهم إلى من ليس منهم أحد
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الجرموزي.
[2] وفي نسخة اخرى: عشية يومهم.
[3] وفي النسخة الباريسية: ويدنو في الكامل: القوهم.

(2/629)


بالعراق مثل بجيلة صرفهم الى لخم. وخرج معاوية في أهل الشام فاقتتلوا يوم الأربعاء قتالا شديدا عامة يومهم ثم انصرفوا، وغلس عليّ يوم الخميس بالزحف وعلى ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء وعلى ميسرته عبد الله بن عبّاس والقرّاء مع عمّار وقيس بن سعد وعبد الله بن يزيد والناس على راياتهم ومراكزهم، وعليّ في القلب بين أهل الكوفة والبصرة ومعه أهل البصرة والكوفة ومعه أهل المدينة من الأنصار وخزاعة وكنانة.
ورفع معاوية قبة عظيمة وألقى عليها الثياب وبايعه أكثر أهل الشام على الموت، وأحاط بقبته خيل دمشق [1] وزحف ابن بديل في الميمنة فقاتلهم إلى الظهر وهو يحرّض أصحابه. ثم كشف خيلهم واضطرهم إلى قبة معاوية، وجاء الذين تبايعوا على الموت إلى معاوية فبعثهم إلى حبيب فحمل بهم على ميمنة أهل العراق فانجفل الناس عن ابن بديل إلا ثلاثمائة أو مائتين من القرّاء وانتهت الهزيمة إلى عليّ، وأمدّه عليّ بسهل بن حنيف في أهل المدينة فاستقبلهم جموع عظيمة لأهل الشام فمنعتهم، ثم انكشفت مضر من الميسرة وثبتت ربيعة وجاء عليّ يمشي نحوهم فاعترضه أحمر مولى أبي سفيان فحال دونه كيسان مولاه فقتله أحمر، فتناول عليّ أحمر من درعه فجذبه وضرب به الأرض وكسر منكبيه وعضديه، ثم دنا من ربيعة فصبّرهم وثبّت أقدامهم وتنادوا بينهم إن أصيب بينكم أمير المؤمنين افتضحتم في العرب، وكان الأشتر مرّ به راكضا نحو الميمنة واستقبل الناس منهزمين فأبلغهم مقالة عليّ: أين فراركم من الموت الّذي لا تعجزوه [2] إلى الحياة التي لا تبقى لكم، ثم نادى أنا الأشتر فرجع إليه بعضهم فنادى مذحجا وحرّضهم فأجابوه، وقصد القوم واستقبله شباب من همذان ثمانمائة أو نحوها وكان قد هلك منهم في ذلك اليوم أحد عشر رئيسا وأصيب منهم ثمانون ومائة وزحف الأشتر نحو الميمنة، وتراجع الناس واشتدّ القتال حتى كشف أهل الشام وألحقهم بمعاوية عند الاصفرار وانتهى إلى ابن بديل في مائتين أو ثلاثمائة من القرّاء قد لصقوا بالأرض، فانكشفوا عنهم أهل الشام وأبصروا إخوانهم وسألوا عن عليّ فقيل لهم هو في الميسرة يقاتل، فقال ابن بديل استقدموا بنا ونهاه الأشتر فأبى ومضى نحو معاوية وحوله أمثال الجبال تقتل كل من دنا منه حتى وصل
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وأحاط نفسه بخيل دمشق.
[2] الصحيح ان تقول: لا تعجزونه.

(2/630)


الى معاوية، فنهض إليه الناس من كل جانب وأحيط به فقتل وقتل من أصحابه ناس ورجع آخرون مجرّمين [1] وأهل الشام في اتباعهم، فبعث الأشتر من نفس عنهم حتى وصلوا إليه وزحف الأشتر في همذان وطوائف من الناس فأزال أهل الشام عن مواقفهم حتى ألحقهم بالصفوف المعقلة بالعمائم حول معاوية، ثم حمل أخرى فصرع منهم أربعة صفوف حتى دعا معاوية بفرسه فركبه، وخرج عبد الله بن أبي الحصين الأزدي في القراء الذين مع عمّار فقاتلوا، وتقدّم عقبة بن حديد النميري مستميتا ومعه إخوته وقاتلوا حتى قتلوا، وتقدّم شمر بن ذي الجوشن مبارزا فضرب أدهم بن محرز الباهليّ وجهه بالسيف وحمل هو على أدهم فقتله، وحمل قيس بن المكشوح [2] ومعه راية بجيلة فقاتل حتى أخذها آخر كذلك.
ولما رأى عليّ أهل ميمنة أصحابه قد عادوا إلى مواقفهم وكشفوا العدوّ قبالتهم أقبل إليهم وعذلهم بعض الشيء عن مفرّهم وأثنى على وجوههم، وقاتل الناس قتالا شديدا وتبارز الشجعان من كل جانب وأقبلت قبائل طيِّئ والنخع وخرجت حمير من ميمنة أهل الشام، وتقدّم ذو الكلاع ومعهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب فقصد ربيعة في ميسرة أهل العراق وعليهم ابن عبّاس وحملوا عليهم حملة شديدة فثبت ربيعة وأهل الحفاظ منهم وانهزم الضعفاء والفشلة، ثم رجعوا ولحقت بهم عبد القيس وحملوا على حمير فقتل ذو الكلاع وعبيد الله بن عمر وأخذ سيف ذي الكلاع وكان لعمر، فلما ملك معاوية العراق أخذه من قاتله. ثم خرج عمّار بن ياسر وقال اللَّهمّ اني لا أعمل اليوم عملا أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين ثم نادى من سعى في رضوان ربّه فلا يرجع إلى مال ولا ولد فأتاه عصابة فقال: «اقصدوا بنا هؤلاء الذين يطلبون بدم عثمان يخادعون بذلك عمّا في نفوسهم من الباطل» ، ثم مضى فلا يمرّ بواد من صفّين الا اتبعه من هناك من الصحابة. ثم جاء الى هاشم بن عتبة وكان صاحب الراية فأنهضه حتى دنا من عمرو بن العاص وقال: يا عمرو بعت دينك بمصر؟ تبّا لك فقال: إنما أطلب دم عثمان، فقال: أشهد أنك لا تطلب وجه الله في كلام كثير من أمثال ذلك وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عمّار تقتله الفئة الباغية.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: مجروحون.
[2] المكشوح لقب واسمه هبيرة أهـ.

(2/631)


ولما قتل عمّار حمل عليّ وحمل معه ربيعة ومضر وهمذان حملة منكرة فلم يبق لأهل الشام صف إلّا انتقض حتى بلغوا معاوية فناداه عليّ: علام يقتل الناس بيننا هلمّ أحاكمك إلى الله فأينا قتل صاحبه استقام له الأمر، فقال له عمرو: أنصفك.
فقال له معاوية: لكنك ما أنصفت. وأسر يومئذ جماعة من أصحاب عليّ فترك سبيلهم، وكذلك فعل عليّ، ومرّ عليّ بكتيبة من الشام قد ثبتوا فبعث إليهم محمد ابن الحنفية فازالهم عن مواقفهم، وصرح عبد الله بن كعب المرادي فمرّ به الأسود بن قيس فأوصاه بتقوى الله والقتال مع عليّ، وقال أبلغه عني السلام، وقال له قاتل على [1] المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك فإنه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره فإنه العالي.
ثم اقتتل الناس إلى الصباح وهي ليلة الجمعة وتسمّي ليلة الهرير، وعليّ يسير بين الصفوف ويحرّض كل كتيبة على التقدّم حتى أصبح والمعركة كلها خلف ظهره، والأشتر في الميمنة وابن عبّاس في الميسرة والناس يقتتلون من كل جانب وذلك يوم الجمعة. ثم ركب الأشتر ودعا الناس إلى الحملة على أهل الشام فحمل حتى انتهى إلى عسكرهم وقتل صاحب رايتهم، وأمدّه عليّ بالرجال، فلما رأى عمرو شدّة أهل العراق وخاف على أصحابه الهلاك، قال لمعاوية: مر الناس يرفعون المصاحف على الرماح ويقولون كتاب الله بيننا وبينكم فإن قبلوا ذلك ارتفع عنّا القتال وإن أبى بعضهم وجدنا في افتراقهم راحة. ففعلوا ذلك، فقال الناس: نجيب إلى كتاب الله فقال لهم عليّ: «يا عباد الله امضوا على حقكم وقتال عدوّكم فإنّ معاوية وابن أبي معيط وحبيبا وابن أبي سرح والضحّاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن أنا أعرف بهم صحبتهم أطفالا ورجالا فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال، ويحكم والله ما رفعوها إلّا مكيدة وخديعة» . فقالوا: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فلا نقبل، فقال: إنما قتلناهم ليدينوا بكتاب الله فإنّهم نبذوه. فقال له مسعر بن فدك التميميّ وزيد بن حصين الطائي في عصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا عليّ أجب الى كتاب الله وإلّا دفعنا برمتك إلى القوم. أو فعلنا بك ما فعلنا بابن عفّان. فقال:
إن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم، قالوا: فابعث إلى الأشتر وكفّه عن القتال، فبعث إليه يزيد بن هانئ بذلك فأبى، وقال:، قد رجوت أن يفتح
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: عن المعركة.

(2/632)


الله لي فلما جاء يزيد بذلك ارتج الموقف باللغط، وقالوا لعليّ: ما نراك إلا أمرته بقتال فابعث إليه فليأتك وإلّا اعتزلناك، فقال عليّ: ويحك يا يزيد قل له أقبل إليّ فان الفتنة قد رفعت، فقال: ألرفع المصاحف؟ فقال: نعم قال: لقد ظننت أن ذلك يوقع فرقة كيف ندع هؤلاء وننصرف والفتح قد وقع، فقال يزيد: تحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلّم إلى عدوّه أو يقتل، ثم أقبل إليهم الأشتر وأطال عتبهم، وقال امهلوني فواقا فقد أحسست بالفتح، فأبوا فعذلهم وأطال في عذلهم، فقالوا دعنا يا أشتر قاتلناهم الله، فقال: بل خدعتم فانخدعتم. ثم كثرت الملاحاة بينهم وتشاتموا فصاح بهم عليّ فكفّوا، فقال له الأشعث بن قيس: إنّ الناس قد رضوا بما دعوا إليه من حكم القرآن فإن شئت أتيت معاوية وسألته ما يريد. قال: افعل.
فأتاه وسأله: لأيّ شيء رفعتم المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به من كتابه تبعثون رجلا ترضونه، ونحن آخر ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه. ثم نتبع ما اتفقا عليه، فقال الأشعث هذا الحق ورجع إلى عليّ والناس وأخبرهم، فقال الناس رضينا وقبلنا، ورضي أهل الشام عمرا، وقال الأشعث وأولئك القرّاء الذين صاروا خوارج: رضينا بأبي موسى، فقال عليّ لا أرضاه فقال الأشعث ويزيد بن الحصين [1] ومسعر بن فدك: لا نرضي إلّا به. قال فإنه ليس ثقة قد فارقني وخذل الناس عني وهرب مني حتى أمّنته بعد شهر، قالوا لا نريد إلّا رجلا هو منك ومن معاوية سواء، قال فالأشتر، قالوا: وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ قال: فاصنعوا ما بدا لكم. فبعثوا إلى أبي موسى وقد اعتزل القتال، فقيل إنّ الناس قد اصطلحوا، فحمد الله، قيل وقد جعلوك حكما فاسترجع، وجاء أبو موسى إلى العسكر وطلب الأحنف بن قيس من عليّ أن يجعله مع أبي موسى، فأبى الناس من ذلك وحضر عمرو بن العاص عند عليّ لتكتب القضية بحضوره، فكتبوا بعد البسملة هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين، فقال: عمرو ليس هو بأميرنا، فقال له الأحنف: لا تمحها فاني أتطير بمحوها فمكث مليّا، ثم قال الأشعث: امحها.
فقال عليّ: الله أكبر وذكر قصة الحديبيّة وفيها أنّك ستدعى إلى مثلها فتجيبها، فقال عمرو: وسبحان الله نشبه بالكفار ونحن مؤمنون. فقال عليّ: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين وليّا وللمؤمنين عدّوا، فقال عمرو: والله لا يجمع بيني وبينك
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: زيد بن الحصن.

(2/633)


مجلس بعد اليوم، فقال عليّ: أرجو أن يظهر الله مجلسي منك ومن أشباهك.
وكتب الكتاب: «هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضى عليّ على أهل الكوفة ومن معهم ومعاوية على أهل الشام ومن معهم أنّا ننزل عند حكم الله وكتابه وأن لا يجمع بيننا غيره وأنّ كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات مما وجد الحكمان في كتاب الله. وهما أبو موسى عبد الله ابن قيس وعمرو بن العاص وما لم يجدا في كتب الله فالسنّة العادلة الجامعة غير المفرّقة وأخذ الحكمان من عليّ ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما والأمة لهما أنصار على الّذي يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة ولا يورداها في حرب ولا فرقة حتى يقضيا، وأجلّاء القضاء إلى رمضان وإن أحبّا أن يؤخّرا ذلك أخّراه وأنّ مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام» . وشهد رجال من أهل العراق ورجال من أهل الشام وضعوا خطوطهم في الصحيفة، وأبى الأشتر أن يكتب اسمه فيها وحاوره الأشعث في ذلك فأساء الردّ عليه وتهدّده. وكتب الكتاب لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين. واتفقوا على أن يوافي عليّ موضع الحكمين بدومة الجندل وبأذرح في شهر رمضان، ثم جاء بعض الناس إلى عليّ يحضّه على قتال القوم فقال:
لا يصلح الرجوع بعد الرضى ولا التبديل بعد الإقرار.
ثم رجع الناس عن صفّين ورجع علي، وخالفت الحروريّة وأنكروا تحكيم الرجال ورجعوا على غير الطريق الّذي جاءوا فيه حتى جازوا النخيلة ورأوا بيوت الكوفة، ومرّ عليّ بقبر خباب بن الأرت توفي بعد خروجه فوقف واسترحم له، ثم دخل الكوفة فسمع رجة البكاء في الدور فقال يبكين على القتلى فترحم لهم، ولم يزل يذكر الله حتى دخل القصر فلم تدخل الخوارج معه وأتوا حرورا فنزلوا بها في اثني عشر ألفا، وقدّموا شبث بن عمر التميمي أمير القتال وعبيد الله بن الكوّاء اليشكري أمير الصلاة، قالوا البيعة للَّه عزّ وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر شورى بعد الفتح. فقالوا للناس بايعتم عليّا إنّكم أولياء من والى وأعداء من عادى، وبايع أهل الشام معاوية على ما أحب وكرهوا فلستم جميعا من الحق في شيء، فقال لهم زياد بن النضر: والله ما بايعناه إلا على الكتاب والسنّة لكن لما خالفتموه تعيّنتم للضلال وتعيّنا للحق. ثم بعث عليّ عبد الله بن عبّاس إليهم قوال لا تراجعهم حتى آتيك فلم يصبر عن

(2/634)


مكالمتهم، وقال: ما نقمتم من أمر الحكمين وقد أمر الله بهما بين الزوجين فكيف بالأمة فقالوا لا يكون هذا بالرأي والقياس فإنّ ذلك جعله الله حكما للعباد وهذا أمضاه كما أمضى حكم الزاني والسارق. قال ابن عباس: قال الله تعالى يَحْكُمُ به ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ 5: 95، قالوا والأخرى كذلك وليس أمر الصيد والزوجين كدماء المسلمين. ثم قالوا له: قد كنّا بالأمس نقاتل عمرو بن العاص فان كان عدلا فعلى ما قتلناه وان لم يكن عدلا فكيف يسوغ تحكيمه؟ وأنتم قد حكمتم الرجال في أمر معاوية وأصحابه والله تعالى قد امضى حكمه فيهم أن يقتلوا أو يرجعوا وجعلتم بينكم الموادعة في الكتب وقد قطعها الله بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة.
ثم جاء عليّ إلى فسطاط يزيد بن قيس منهم بعد أن علم أنهم يرجعون إليه في رأيهم، فصلّى عنده ركعتين وولّاه على أصبهان والريّ، ثم خرج إليهم وهم في مجلس ابن عبّاس فقال من زعيمكم قالوا: ابن الكوّاء قال: فما هذا الخروج؟ قالوا لحكومتكم يوم صفين، قال أنشدكم الله أتعلمون أنّه لم يكن رأيي وإنما كان رأيكم مع أني اشترطت على الحكمين أن يحكما بحكم القرآن فان فعلا فلا ضير وإنّ خالفا فلا خير ونحن برآء من حكمهم، قالوا فتحكيم الرجال في الدماء عدل؟ قال إنّما حكمنا القرآن إلا أنه لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال، قالوا: فلم جعلتم الأجل بينكم؟ قال لعلّ الله يأتي فيه بالهدنة بعد افتراق الأمة فرجعوا إلى رأيه، وقال ادخلوا مصركم فلنمكث ستة أشهر حتى يجبى المال ويسمن الكراع ثم نخرج الى عدوّنا فدخلوا من عند آخرهم.
أمر الحكمين
ولما انقضى الأجل وحان وقت الحكمين بعث عليّ أبا موسى الأشعري في أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانئ الحارثي ومعهم عبد الله بن عبّاس يصلى بهم، وأوصى شريحا بموعظة عمر، فلما سمعها قال متى كنت أقبل مشورة عليّ وأعتدّ برأيه؟ قال وما يمنعك أن تقبل من سيد المسلمين، وأساء الرّد عليه فسكت عنه. وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام والتقوا بأذرح من دومة الجندل، فكان أصحاب عمرو أطوع من أصحاب ابن عباس لابن عبّاس، حتى لم يكونوا يسألوه عن كتاب معاوية إذا جاءه، ويسأل أهل العراق ابن عبّاس ويتهمونه، وحضر مع الحكمين:

(2/635)


عبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن ابن الحرث بن هشام، وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري، وأبو جهم بن حذيفة العدويّ، والمغيرة بن شعبة، وسعد بن أبي وقّاص على خلاف فيه، وقيل قدم على حضوره فأحرم بعمرة من بيت المقدس.
ولما اجتمع الحكمان قال عمرو لأبي موسى: أتعلم أنّ عثمان قتل مظلوما وأنّ معاوية وقومه أولياؤه، قال: بلى، قال: فما يمنعك منه وهو في قريش كما علمت وإن قصّرت به السابقة قدّمه حسن السياسة وأنه صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتبه وصاحبه والطالب بدم عثمان وعرّض بالولاية، فقال أبو موسى: يا عمرو اتّق الله واعلم أنّ هذا الأمر ليس بالشرف وإلّا لكان لآل أبرهة بن الصبّاح وإنّما هو بالدين والفضل مع أنّه لو كان بشرف قريش لكان لعلي بن أبي طالب وما كنت لأرى لمعاوية طلبه دم عثمان وأوليه وأدع المهاجرين الأوّلين. وأما تعرضيك بالولاية فلو خرج لي معاوية عن سلطانه ما وليته وما أرتشي في حكم الله، ثم دعاه إلى تولية عبد الله بن عمر، فقال له عمرو: فما يمنعك من ابني وهو من علمت؟ فقال: هو رجل صدق ولكنك غمسته في الفتنة، فقال عمرو: إنّ هذا الأمر لا يصلح إلّا لرجل له ضرس يأكل ويطعم. وكانت في ابن عمر غفلة وكان ابن الزبير بإزائه فنبهه لما قال: فقال ابن عمر: لا أرشو عليها أبدا. ثم قال أبو موسى: يا ابن العاص إنّ العرب أسندت أمرها إليك بعد المقارعة بالسيوف فلا تردّنهم في فتنة، قال له:
فخبّرني ما رأيك، قال: أرى أن نخلع الرجلين ونجعل الأمر شورى يختار المسلمون لأنفسهم. فقال عمرو: والرأي ما رأيت.
ثم أقبلوا على الناس وهم ينتظرونهم، وكان عمرو قد عوّد أبا موسى أن يقدّمه في الكلام لما له من الصحبة والسنّ، فقال: يا أبا موسى أعلمهم أنّ رأينا قد اتفق، فقال: إنّا رأينا أمرا نرجو الله أن يصلح به الأمة، فقال له ابن عبّاس: ويحك أظنه خدعك فاجعل له الكلام قبلك، فأبى وقال: أيها الناس إنا نظرنا في أمر الأمة فلم نر أصلح لهم مما اتفقنا عليه وهو أن نخلع علينا ومعاوية ويولّي الناس أمرهم من أحبّوا وإني قد خلعتهما فولوا من رأيتموه أهلا، فقال عمرو: إنّ هذا قد خلع صاحبه وقد خلعته كما خلعه وأثبتّ معاوية فهو ولّي ابن عفّان وأحق الناس بمقامه. ثم غدا ابن عبّاس وسعد على أبي موسى بالأئمة فقال: ما أصنع غدرني ورجع بالأئمة على

(2/636)


عمرو وقال لا وفقك الله غدرت وفجرت. وحمل شريح على عمرو فضربه بالسيف [1] وضربه ابن عمر كذلك، وحجز الناس بينهم، فلحق أبو موسى بمكّة وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عبّاس وشريح إلى عليّ بالخبر فكان يقنت إذا صلّى الغداة ويقول اللَّهمّ العن معاوية وعمرا وحبيبا وعبد الرحمن بن مخلد والضحّاك بن قيس والوليد وأبا الأعور، وبلغ ذلك معاوية فكان إذا اقنت يلعن عليّا وابن عبّاس والحسن والحسين والأشتر [2] .
أمر الخوارج وقتالهم
ولما اعتزم عليّ أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه زرعة بن البرح الطائي وحرقوص بن زهير السعديّ من الخوارج وقالا له: تب من خطيئتك وارجع عن قضيّتك واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم، وقال عليّ: قد كتبنا بيننا وبينهم كتابا وعاهدناهم، فقال حرقوص: ذلك ذنب تنبغي التوبة منه، فقال عليّ: ليس بذنب ولكنه عجز من الرأي، فقال زرعة: لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك أطلب وجه الله، فقال عليّ: بؤسا لك كأني بك قتيلا تسفى عليك الرياح، قال: وددت لو كان ذلك.
وخرجا من عنده يناديان لا حكم إلّا للَّه، وخطب عليّ يوما فتنادوا من جوانب المسجد بهذه الكلمة، فقال عليّ: الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، وخطب ثانيا فقالوا كذلك، فقال: أما آن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ولا الفيء ما دمتم معنا ولا نقاتلكم حتى تبدءونا وننتظر فيكم أمر الله. ثم اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي [3] فوعظهم وحرّضهم على الخروج إلى بعض النواحي لإنكار هذه البدع، وتبعه حرقوص بن زهير في المقالة، فقال حمزة بن سنان الأسدي [4] : الرأي ما رأيتم لكن لا بدّ لكم من أمير وراية، فعرضوها على زيد بن حصين الطائي، ثم حرقوص بن زهير، ثم حمزة بن سنان، ثم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بالسوط.
[2] قال ابن كثير في تاريخه: ان هذا لم يصحّ أهـ ولعلّ الدعاء كان لغير اللعن. قاله نصر.
[3] وفي النسخة الباريسية: عبد الله بن وهيب الراسي.
[4] وفي نسخة اخرى: حمزة بن سنان الأزديّ.

(2/637)


شريح بن أوفى العنسيّ فأبوا كلّهم. ثم عرضوها على عبد الله بن وهب فأجاب فبايعوه لعشر خلون من شوّال، وكان يقال له ذو الثفنات. ثم اجتمعوا في منزل شريح وتشاوروا. وكتب ابن وهب إلى أهل البصرة منهم يستحشدهم [1] على اللحاق بهم، ولما اعتزموا على السير تعبدوا ليلة الجمعة ويومها ساروا، فخرج معهم طرفة بن عديّ بن حاتم الطائيّ، واتبعه أبوه إلى المدائن فلم يقدر عليه فرجع ولقيه عبد الله بن وهب في عشرين فارسا وأراد قتله فمنعه من كان معه من طيِّئ.
وأرسل عليّ إلى عامل المدائن سعد بن مسعود بخبرهم فاستخلف ابن أخيه المختار بن عبيد وسار في طلبهم في خمسمائة فارس، فتركوا طريقهم وساروا على بغداد ولحقهم سعد بالكرخ مساء، وجاءه عبد الله في ثلاثين فارسا وقاتلهم وامتنعوا، وأشار أصحابه بتركهم [2] إلى أن يأتي فيهم أمر عليّ فأبى، ولما جنّ عليهم الليل عبر عبد الله إليهم دجلة وسار إلى أصحابه بالنهروان، واجتمعت خوارج البصرة في خمسمائة رجل عليهم مسعر بن فدكي التميميّ واتبعهم أبو الأسود الدؤليّ بأمر ابن عبّاس ولحقهم فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، فأدلج مسعر بأصحابه فلحق بعبد الله بن وهب بالنهروان، ولما خرجت الخوارج بايع عليّ أصحابه على قتالهم، ثم أنكر [3] شأن الحكمين وخطب الناس وقال بعد الحمد للَّه والموعظة: ألا إنّ هذين الحكمين نبذا حكم القرآن واتبع كل واحد هواه واختلفا في الحكم وكلاهما لم يرشد، فاستعدّوا للسير إلى الشام. وكتب إلى الخوارج بالنهروان بذلك واستحثهم للمسير إلى العدوّ وقال: نحن على الأمر الأوّل الّذي كنّا عليه. فكتبوا إليه: إنّك غضبت لنفسك ولم تغضب لربّك فان شهدت على نفسك بالكفر وتبت نظرنا بيننا وبينك وإلّا فقد نابذناك على السواء. فيئس عليّ منهم ورأى أن يمضي إلى الشام ويدعهم، وقام في الناس يحرّضهم لذلك، وكتب إلى ابن عبّاس من معسكره بالنخيلة يأمره بالشخوص بالعساكر والمقام إلى أن يأتي أمره، فأشخص ابن عبّاس الأحنف بن قيس في ألف وخمسمائة، ثم خطب ثانية وندب الناس وقال: كيف ينفر هذا العدد القليل وأنتم
__________
[1] وفي نسخة اخرى: يستحث بهم.
[2] وفي النسخة الباريسية: وأمر أصحابه فتركهم.
[3] وفي النسخة الباريسية: ثم بلغه شأن الحكمين.

(2/638)


ستون ألف مقاتل! ثم تهدّدهم وأمرهم بالنفير مع جارية بن قدامة السعدي، فخرج معه ألف وستمائة [1] ووافوا عليّا في ثلاثة آلاف ويزيدون. ثم خطب أهل الكوفة ولاطفهم بالقول وحرّضهم وأخبرهم بما فعل أهل البصرة مع كثرتهم وقال ليكتب إليّ كل رئيس منكم ما في عشيرته من المقاتلة من أبنائهم ومواليهم، فأجابه سعيد بن قيس الهمدانيّ ومعقل بن قيس وعديّ بن حاتم وزياد بن خصفة وحجر بن عديّ وأشراف الناس بالسمع والطاعة، وأمروا ذويهم ألّا يتخلّف منهم أحد، فكانوا أربعين ألف مقاتل وسبعة عشر ممن بلغ الحلم، وانتهت عساكره إلى ثمانية وستين ألفا.
وبلغه أنّ الناس يرون تقديم الخوارج فقال لهم: إنّ قتال أهل الشام أهم [2] علينا لأنّهم يقاتلونكم ليكونوا ملوكا جبارين ويتخذوا عباد الله خولا فرجعوا إلى رأيه وقالوا: سر بنا إلى حيث شئت. وبينما هو على اعتزام السير إلى أهل الشام بلغه أنّ خوارج أهل البصرة لقوا عبد الله بن خباب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من النهروان فعرّفهم بنفسه، فسألوه عن أبي بكر وعمر فأثنى خيرا، ثم عن عثمان في أول خلافته وآخرها فقال: كان محقا في الأوّل والآخر، فسألوه عن عليّ قيل التحكيم وبعده، فقال: هو أعلم باللَّه وأشدّ توقيا على دينه، فقالوا: إنك توالي الرجال على أسمائها، ثم ذبحوه وبقروا بطن امرأته ثم قتلوا ثلاث نسوة من طيِّئ.
فآسف عليّا قتلهم عبد الله بن خباب واعتراضهم الناس، فبعث الحرث بن مرّة العبديّ لينظر فيما بلغه عنهم فقتلوه، فقال له أصحابه: كيف ندع هؤلاء ونأمن غائلتهم في أموالنا وعيالنا إنّما نقدّم أمرهم على الشام، وقام الأشعث بن قيس بمثل ذلك فوافقهم عليّ وسار إليهم، وبعث من يقول لهم ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم فنكف عنكم حتى نرجع من قتال العرب [3] لعل الله يردّكم إلى خير، فقالوا: كلّنا قتلهم وكلنا مستحل دماءكم ودماءهم، ثم جاءهم قيس بن سعد ووعظهم وأبو أيوب الأنصاري كذلك.
ثم جاءهم عليّ فتهدّدهم وسفّه رأيهم ويريهم [4] شأن الحكمين وأنهما لما خالفا حكم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ألف وسبعمائة.
[2] وفي النسخة الباريسية: أحب علينا.
[3] يعني المؤرخ قتال أهل الشام.
[4] وفي نسخة اخرى: بيّن لهم.

(2/639)


الكتاب والسنّة نبذنا أمرهما ونحن على الأمر الأول فقالوا: إنا كفرنا بالتحكيم وقد تبنا فان تبت أنت فنحن معك وان أبيت فقد نابذناك، فقال: كيف أحكم على نفسي بالكفر بعد إيماني وهجرتي وجهادي ثم انصرف عنهم. وقيل إنّ عليّا خطبهم وأغلظ عليهم فيما فعلوه من الاستعراض والقتل فتنادوا لا تكلموهم وتأهّبوا للقاء الله. ثم قصدوا جسر الخوارج ولحقهم عليّ دونه، وقد عبّى أصحابه: وعلى ميمنته حجر بن عديّ وعلى ميسرته شبث بن ربعي أو معقل بن قيس وعلى الخيل أبو أيوب وعلى الرجالة أبو قتادة وعلى أهل المدينة سبعمائة أو ثمانمائة قيس بن سعد. وعبأت نحوه الخوارج: على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي وعلى الميسرة شريح بن أوفى العنسيّ [1] وعلى الخيل حمزة بن سنان الأسدي وعلى الرجالة حرقوص بن زهير.
ودفع عليّ إلى أبي أيوب راية أمانا لهم لمن جاءها ممن لم يقتل ولم يستعرض فناداهم إليها وقال: من انصرف الى الكوفة والمدائن فهو آمن. فاعتزل عنهم فروة بن نوفل الأشجعيّ في خمسمائة وقال أعتزل حتى يتضح لي أمر في قتال عليّ فنزل الدسكرة، وخرج آخرون إلى الكوفة، ورجع آخرون إلى عليّ وكانوا أربعة آلاف، وبقي منهم ألف وثمانمائة فحمل عليهم عليّ والناس حتى فرّقهم [2] على الميمنة والميسرة. ثم استقبلتهم الرماة وعطفت عليهم الخيل من المجنبتين ونهض إليهم الرجال بالسلاح فهلكوا كلهم في ساعة واحدة كأنما قيل لهم موتوا، وقتل عبد الله بن وهب وزيد بن حصن وحرقوص بن زهير وعبد الله بن شجرة وشريح بن أوفى. وأمر عليّ أن يلتمس المخدج في قتلاهم وهو الّذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في علاماتهم فوجد في القتلى فاعتبر [3] عليّ وكبر واستنصر الناس، وأخذ ما في عسكرهم من السلاح والدواب فقسمه بين المسلمين وردّ عليهم المتاع والإماء والعبيد. ودفن عدي بن حاتم ابنه طرفة ورجالا من المسلمين فنهى علي عن ذلك، وارتحل ولم يفقد من أصحابه إلّا سبعة أو نحوهم.
وشكا إليه الناس الكلال ونفوذ السهام والرماح وطلبوا الرجوع إلى الكوفة ليستعدوا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: العبسيّ.
[2] وفي النسخة الباريسية: فحملوا على الناس حتى فرّقوهم.
[3] الأصح ان يقول استعبر (من العبرة) .

(2/640)


فإنه أقوى على القتال [1] ، وكان الّذي تولي كلامه الأشعث بن قيس فلم يجبه، وأقبل فنزل ومنعهم من دخول منازلهم حتى يسيروا إلى عدوّهم، فتسللوا أيام المقامة إلى البيوت وتركوا المعسكر خاليا فلما رأى عليّ ذلك دخل ثم ندبهم ثانيا فلم ينفروا، فأقام أياما ثم كلّم رؤساءهم على رأيهم والّذي يبطئ بهم فلم ينشط من ذلك إلّا القليل، فخطبهم وأغلظ في عتابهم وأعلمهم بما له عليهم من الطاعة في الحق والنصح فتثاقلوا وسكتوا.
ولاية عمرو بن العاص مصر
قد تقدّم لنا ما كان من اجتماع العثمانية بنواحي مصر مع معاوية بن حديج السكونيّ، وان محمد بن أبي بكر بعث إليهم العساكر من الفسطاط مع ابن مضاهم [2] فهزموه وقتلوه، واضطربت الفتنة بمصر على محمد بن أبي بكر، وبلغ ذلك عليّا فبعث إلى الأشتر من مكان عمله بالجزيرة وهو نصيبين فبعثه على مصر وقال: ليس لها غيرك.
وبلغ الخبر إلى معاوية وكان قد طمع في مصر فعلم أنها ستتمنع بالأشتر، وجاء الأشتر فنزل على صاحب الخراج بالقلزم فمات هنالك، وقيل إنّ معاوية بعث إلى صاحب القلزم فسمّه على أن يسقط عنه الخراج وهذا بعيد. وبلغ خبر موته عليّا فاسترجع واسترحم وكان محمد بن أبي بكر لما بلغته ولاية الأشتر شق عليه فكتب عليّ يعتذر إليه وأنّه لم يولّه لسوء رأي في محمد وإنّما هو لما كان يظن فيه من الشدّة، وقد صار إلى الله ونحن عنه راضون فرضي الله عنه وضاعف له الثواب، فاصبر لعدوّك وشمّر للحرب وادع الى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وأكثر من ذكر الله والاستعانة به والخوف منه يكفيك ما أهمّك ويعينك على ما ولّاك. فأجابه محمد بالرضى برأيه والطاعة لأمره، وأنه مزمع على حرابة من خالفه.
ثم لمّا كان من أمر الحكمين ما كان واختلف أهل العراق على عليّ، وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة، فأراد معاوية صرف عمله [3] إلى مصر لما كان يرجو من الاستعانة على حروبه بخراجها، ودعا بطانته أبا الأعور السلميّ وحبيب بن مسلمة وبسر بن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أقوى على العدو.
[2] هو ابن مضاهم الكلبي.
[3] وفي النسخة الباريسية: فازداد معاوية وصرف همه.

(2/641)


أرطاة والضحّاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وشرحبيل بن السمط وشاورهم في شأنها، فأشار عليه عمرو بافتتاحها وأشار ببعث الجيش مع حازم صارم يوثق ويجتمع إليه من كان على رأيه من العثمانية، وقال معاوية: بل الرأي أن نكاتب العثمانيّة بالوعد ونكاتب العدو بالصلح والتخويف ونأتي الحرب من بعد ذلك، ثم قال معاوية: إنك يا ابن العاص بورك لك في العجلة وأنا في التؤدة، فقال: أفعل ما تراه وأظن الأمر لا يصير إلا للحرب. فكتب معاوية إلى معاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد يشكرهما على الخلاف، ويحثهما على الحرب والقيام في دم عثمان، وفرحا بجوابهما [1] فطلب المدد فجمع أصحابه وأشاروا بذلك، فأمر عمرو بن العاص أن يتجهز إلى مصر في ستة آلاف رجل ووصّاه بالتؤدة وترك العجلة، فنزل أدنى أرض مصر واجتمعت إليه العثمانيّة، وبعث كتابه وكتاب معاوية إلى محمد بن أبي بكر بالتهديد وأنّ الناس اجتمعوا عليك وهم مسلموك فاخرج، فبعث بالكتابين إلى عليّ فوعده بإنفاذ [2] الجيوش وأمره بقتال العدوّ والصبر.
فقدّم محمد بن أبي بكر كنانة بن بشر في ألفين، فبعث معاوية عمرو بن حديج [3] وسرّحه في أهل الشام فأحاطوا بكنانة، فترجل عن فرسه وقاتل حتى استشهد. وجاء الخبر الى محمد بن أبي بكر فافترق عنه أصحابه وفرّوا، وآوى في مفرّه إلى خربة واستتر في تلك الخربة، فقبض عليه فأخذه ابن حديج وجاء به إلى الفسطاط، وطلب أخوه عبد الرحمن من عمرو أن يبعث إلى ابن حديج في البقاء عليه فأبى، وطلب محمد الماء فمنعه ابن حديج جزاء بما فعل بعثمان، ثم أحرقه في جوف حمار بعد أن لعنه ودعا عليه وعلى معاوية وعمرو. وكانت عائشة تقنت في الصلاة بالدعاء على قتلته. ويقال إنه لما انهزم اختفى عند جبلة بن مسروق حتى أحاط به معاوية بن حديج [4] وأصحابه، فخرج إليهم فقاتل حتى قتل.
ولما بلغ الخبر عليّا خطب الناس وندبهم الى أعدائهم وقال: اخرجوا بنا إلى الجزاعة بين الحيرة والكوفة. وخرج من الغد إلى المنتصف النهار يمشي إليها حتى نزلها فلم يلحق
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وجاء جوابهما.
[2] وفي النسخة الباريسية: بانقياد.
[3] وفي النسخة الباريسية: فبعث عمرو معاوية بن حديج.
[4] اي من الشاميين والمصريين الذين قتلوا محمد بن أبي بكر أهـ (ابن كثير)

(2/642)


به أحد، فرجع من العشي وجمع أشراف الناس ووبّخهم فأجاب مالك بن كعب الأرحبيّ في ألفين، فقال سر وما أراك تدركهم فسار خمسا، ولقي [1] حجّاج بن عرفة الأنصاري قادما من مصر فأخبره بقتل محمد، وجاء إلى عليّ عبد الرحمن بن شبث الفزاريّ وكان عينا له بالشام، فأخبره بقتل محمد واستيلاء عمرو على مصر، فحزن لذلك، وبعث الى مالك بن كعب [2] أن يرجع بالجيش وخطب الناس فأخبرهم بالخبر وعذلهم على ما كان منهم من التثاقل حتى فات هذا الأمر ووبّخهم طويلا ثم نزل.
دعاء ابن الحضرميّ بالبصرة لمعاوية ومقتله
ولما فتح معاوية مصر بعث عبد الله بن الحضرميّ إلى البصرة داعيا لهم وقد آنس منهم الطاعة بما كان من قتل عليّ أباهم يوم الجمل وأنهم على راية في دم عثمان، وأوصاه بالنزول في مصر يتودّد إلى الأزد وحذّره من ربيعة وقال إنّهم ترائبه يعني شيعة لعليّ.
فسار ابن الحضرميّ حتى قدم البصرة. وكان ابن عبّاس قد خرج إلى عليّ واستخلف عليها زيادا، ونزل في بني تميم واجتمع إليه العثمانيّة فحضهم على الطلب بدم عثمان من عليّ، فقال الضحّاك بن قيس الهلاليّ: قبّح الله ما جئت به وما تدعو إليه تحملنا على الفرقة بعد الاجتماع وعلى الموت ليكون معاوية أميرا؟ فقال له عبد الله بن حازم السلمي: اسكت فلست لها بأهل. ثم قال لابن الحضرميّ: نحن أنصارك ويدك والقول قولك، فقرأ كتاب معاوية يدعوهم إلى رأيه من الطلب بدم عثمان على أن يعمل فيهم بالسنّة ويضاعف لهم الأعطية. فلما فرغ من قراءته قام الأحنف بن قيس معتزلا وحض عمر بن مرحوم على لزوم البيعة والجماعة، وقام العبّاس بن حجر في مناصرة ابن الحضرميّ، فقال له المثنى بن مخرمة لا يغرّنك ابن صحّار وارجع من حيث جئت، فقال ابن الحضرميّ لصبرة بن شيمان الأزدي ألا تنصرني؟ قال: لو نزلت عندي فعلت. ودعا زياد أمير البصرة حصين بن المنذور ومالك بن مسمع ورءوس بكر بن وائل إلى المنعة من ابن الحضرميّ إلى أن يأتي أمر عليّ، فأجاب حصين وتثاقل مالك وكان هواه في بني أميّة، فأرسل زياد الى صبرة بن شيمان يدعوه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ولحق.
[2] وفي النسخة الباريسية: كعب بن مالك.

(2/643)


إلى الجوار [1] بما معه من بيت المال [2] فقال: إن حملته إلى داري أجرتك فتحول إليه ببيت المال والمنبر، وكان يصلي الجمعة في مسجد قومه، وأراد زياد اختبارهم فبعث إليهم من ينذرهم بمسيره بهم اليهم، وأخذ زياد جندا منهم بعد صبره لذلك وقال: إن جاءوا جئناهم، وكتب زياد إلي عليّ بالخبر فأرسل أعين بن ضبيعة [3] ليفرّق تميما عن ابن الحضرميّ ويقاتل من عصاه بمن أطاعه، فجاء لذلك وقاتلهم يوما أو بعض يوم، ثم اغتاله قوم فقتلوه يقال من الخوارج.
ولاية زياد على فارس
ولما قتل ابن الحضرميّ بالبصرة والناس مختلفون على عليّ طمع أهل النواحي من بلاد العجم في كسر الخراج، وأخرج أهل فارس عاملهم سهل بن حنيف، فاستشار عليّ الناس فأشار عليه جارية بن قدامة [4] بزيادة فأمر ابن عبّاس أن يولّيه عليها، فبعثه إليها في جيش كثيف فطوى بهم أهل فارس وضرب ببعضهم بعضا وهرب قوم وأقام آخرون، وصفت له فارس بغير حرب. ثم تقدّم إلى كرمان فدوّخها مثل ذلك فاستقامت وسكن الناس، ونزل إصطخر وسكن قلعة بها تسمّي قلعة زياد [5] .
فراق ابن عبّاس لعلي رضي الله عنهم
وفي سنة أربعين فارق عبد الله بن عبّاس عليّا [6] ولحق بمكة، وذلك أنه مرّ يوما بأبي الأسود [7] ووبّخه على أمر، فكتب أبو الأسود إلي عليّ بأنّ ابن عبّاس استثر بأموال الله فأجابه عليّ يشكره على ذلك وكتب لابن عبّاس ولم يخبره بالكاتب، فكتب اليه
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الجدار.
[2] وفي الكامل لابن الأثير ج 3 ص 361: فأرسل الى صبره بن شيمان الحدّاني الأزدي يطلب أن يجيره وبيت مال المسلمين.
[3] كذا بالأصل وفي الكامل ج 3 ص 362. وفي النسخة الباريسية: ابن صعصعة.
[4] وفي النسخة الباريسية: حارثة بن قادمة وفي الكامل جارية بن قادمة السعدي.
[5] وفي نسخة اخرى: زيّار.
[6] وفي النسخة الباريسية: البصرة.
[7] وفي النسخة الباريسية: بابي الحسن.

(2/644)


بكذب ما بلغه من ذلك وانه ضابط للمال [1] حافظ له، فكتب إليه عليّ أعلمني ما أخذت ومن أين أخذت وفيما صنعت [2] ؟ فكتب إليه ابن عبّاس فهمت استعظامك لما رفع إليك اني رزأته من هذا المال فابعث إلى عملك من أحببت فاني ظاعن عنه واستدعى أخواله من بني هلال، فجاءته قيس كلها ولم يبعث الأموال [3] وقال:
هذه أرزاقنا، وأتبعه أهل البصرة ووقفت دونه قيس. فرجع صبرة بن شيمان الهمدانيّ بالأزد وقال قيس: إخواننا وهم خير من المال فأطيعوني، وانصرف معهم بكر وعبد القيس ثم انصرف الأحنف بقومه من بني تميم وحجز بقية تميم عنه، ولحق ابن عبّاس بمكة.
مقتل علي
قتل علي رضي الله عنه سنة أربعين لسبع عشرة من رمضان وقيل لإحدى عشرة وقيل في ربيع الآخر والأوّل أصح، وكان سبب قتله أنّ عبد الرحمن بن ملجم المراديّ والبرك [4] بن عبد الله التميميّ الصريميّ واسمه الحجّاج وعمرو بن بكر التميمي السعديّ، ثلاثتهم من الخوارج لحقوا من فلّهم بالحجاز، واجتمعوا فتذاكروا ما فيه الناس وعابوا الولاة وترحّموا على قتلى النهروان، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمة الضلال وأرحنا منهم الناس، فقال ابن ملجم وكان من مصر: أنا أكفيكم عليّا، وقال البرك: أنا أكفيكم معاوية، وقال عمرو بن بكر التميمي: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. وتعاهدوا أن لا يرجع أحد عن صاحبه حتى يقتله أو يموت. واتّعدوا لسبع عشرة من رمضان وانطلقوا، ولقي ابن ملجم أصحابه بالكوفة فطوى خبره عنهم، ثم جاء إلى شبيب بن شجرة من أشجع ودعاه إلى الموافقة [5] في شأنه، فقال شبيب ثكلتك أمك فكيف تقدر على قتله. قال:
أكمن له في المسجد في صلاة الغداة فان قتلناه وإلّا فهي الشهادة، قال: ويحك لا
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وانه بريء ضابط للمال.
[2] وفي نسخة ثانية: وضعت.
[3] وفي نسخة ثانية: فحمل المال.
[4] البرك على وزن صرد كذا خطه الحافظ أهـ. (تاج العروس)
[5] وفي النسخة الباريسية، المرافقة.

(2/645)


أجدني أنشرح لقتله مع سابقته وفضله، قال: ألم يقتل العباد الصالحين أهل النهروان؟ قال: بلى. قال: فنقتله بمن قتله منهم، فأجابه: ثم لقي امرأة من تيم الرباب فائقة الجمال قتل أبوها وأخوها يوم النهروان، فأخذت قلبه فخطبها فشرطت عليه عبدا وقينة وقتل عليّ، فقالت كيف يمكن ما أنت تريدين؟ قالت التمس غرته فان قتلته شفيت النفوس وإلّا فهي الشهادة. قال: والله ما جئت إلا لذلك ولك ما سألت، قالت: سأبعث معك من يشدّ ظهرك ويساعدك، وبعثت معه رجلا من قومها اسمه وردان.
فلما كانت الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه على قتل عليّ وكانت ليلة الجمعة جاء إلى المسجد ومعه شبيب ووردان وجلسوا مقابل السّدة التي يخرج منها علي للصلاة، فلما خرج ونادى للصلاة علاه شبيب بالسيف فوقع بعضادة الباب، وضربه ابن ملجم على مقدّم رأسه، وقال: الحكم للَّه لا لك يا عليّ ولا لأصحابك. وهرب وردان إلى منزله وأخبر بعض أصحابه بالأمر فقتله. وهرب شبيب مغلسا. وصاح الناس به فلحقه رجل من حضرموت فأخذه وجلس عليه والسيف في يد شبيب والناس قد أقبلوا في طلبه، وخشي الحضرميّ على نفسه لاختلاط الغلس فتتركه وذهب في غمار الناس، وشدّ الناس على ابن ملجم واستخلف علي على الصلاة جعدة بن هبيرة وهو ابن أخته أم هانئ فصلى الغداة بالناس، وأدخل ابن ملجم مكتوفا على عليّ فقال: أي عدوّ الله ما حملك على هذا؟ قال: شحذته أربعين صباحا وسألت الله أن يقتل به شرّ خلقه، فقال: أراك مقتولا به. ثم قال إن هلكت فاقتلوه كما قتلني وان بقيت رأيت فيه رأيي، يا بني عبد المطلب لا تحرّضوا على دماء المسلمين وتقولوا قتل أمير المؤمنين لا تقتلوا إلا قاتلي، يا حسن إن أنا متّ من ضربتي هذه فاضربه بسيفه ولا تمثلنّ بالرجل فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إياكم والمثلة. وقالت أمّ كلثوم لابن ملجم وهو مكتوف وهي تبكي: أي عدوّ الله إنه لا بأس على أبي والله مخزيك قال: فعلام تبكين؟ والله لقد شريته بألف وصقلته أربعين ولو كانت هذه الضربة بأهل بلد ما بقي منهم أحد. وقال جندب بن عبد الله لعليّ أنبايع الحسن إن فقدناك؟ قال: ما آمركم به ولا أنهاكم أنتم أبصر، ثم دعا الحسن والحسين ووصّاهما قال: أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا وان

(2/646)


بغتكما ولا تأسفا علي شيء زوى منها عنكما [1] وقولا الحق وارحما اليتيم وأعينا الضائع [2] وكونا للظالم خصما وللمظلوم ناصرا واعملا بما في كتاب الله ولا تأخذكما في الله لومة لائم. ثم قال لمحمد بن الحنفية: اني أوصيك بمثل ذلك وبتوقير أخويك لعظيم حقهما عليك ولا تقطع أمرا دونهما، ثم وصّاهم بابن الحنفية، ثم أعاد على الحسن وصيته. ولما حضرته الوفاة كتب وصيّته العامة ولم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض.
فأحضر الحسن ابن ملجم فقال له: هل لك في البقاء عليّ واني قد عاهدت الله أن أقتل عليّا ومعاوية واني عاهدت الله على الوفاء بالعهد فخلّ بيني وبين ذلك فإن قتلته وبقيت فلك عهد الله أن آتيك، فقال: لا والله حتى تعاين النار ثم قدّمه فقتله. وأما البرك فإنه قعد لمعاوية تلك الليلة فلما خرج للصلاة ضربه بالسيف في أليته وأخذ فقال: عندي بشري [3] أتنفعني ان أخبرتك بها قال: نعم. قال: إنّ أخا لي قتل عليّا هذه الليلة، قال: فلعله لم يقدر عليه، قال: بلى إنّ عليّا ليس معه حرس، فأمر به معاوية فقتل، وأحضر الطبيب فقال: ليس إلا الكي أو شربة تقطع منك الولد. فقال: في يزيد وعبد الله ما تقرّبه عيني والنار لا صبر لي عليها، وقد قيل إنّه أمر بقطع البرك فقطع وأقام إلى أيام زيادة فقتله بالبصرة، وعند ذلك اتخذ معاوية المقصورة وحرس الليل وقيام الشرط على رأسه إذا سجد. ويقال إنّ أوّل من اتخذ المقصورة مروان بن الحكم سنة أربع وأربعين حين طعنه اليمانيّ.
وأمّا عمرو بن بكر فإنّه جلس لعمرو بن العاص تلك الليلة فلم يخرج وكان اشتكى فأمر صاحب شرطته خارجة بن أبي حبيبة بن عامر بن لؤيّ يصلي بالناس فشدّ عليه فضربه فقتله وهو يرى أنه عمرو بن العاص، فلما أخذوه وأدخلوه على عمرو قال فمن قتلت إذا؟ قالوا خارجة فقال: لعمرو بن العاص والله ما ظننته غيرك! فقال عمرو: وأردت عمرا وأراد الله خارجة. وأمر بقتله.
وتوفي عليّ رضي الله عنه وعلى البصرة عبد الله بن عبّاس وعلى قضائها ابو الأسود الدؤلي وعلى فارس زياد بن سميّة وعلى اليمن عبيد الله بن العبّاس حتى وقع أمر بسر بن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ولا تبكيا منها على شيء رزى عنكما.
[2] وفي النسخة الباريسية: واضنعا الله.
[3] وفي النسخة الباريسية: مسرّة.

(2/647)


أبي أرطاة، وعلى مكّة والطائف قثم بن عبّاس وعلى المدينة أبو أيوب الأنصاري وقيل سهل بن حنيف.
بيعة الحسن وتسليمه الأمر لمعاوية
ولما قتل عليّ رضي الله عنه اجتمع أصحابه فبايعوا ابنه الحسن، وأوّل من بايعه قيس ابن سعد وقال: ابسط يدك على كتاب الله وسنّة رسوله وقتال الملحدين. فقال الحسن على كتاب الله وسنة رسوله. ويأتيان على كل شرط. ثم بايعه الناس فكان يشترط عليهم انكم سامعون مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت، فارتابوا وقالوا: ما هذا لكم بصاحب وما يريد القتال.
وبلغ الخبر بمقتل علي إلى معاوية فبويع بالخلافة ودعي بأمير المؤمنين، وقد كان بويع بها بعد اجتماع الحكمين. ولأربعين ليلة بعد مقتل علي مات الأشعث بن قيس الكندي من أصحابه، ثم مات من أصحاب معاوية شرحبيل بن السمط الكندي.
وكان عليّ قبل قتله قد تجهز بالمسلمين إلى الشام، وبايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت، فلما بويع الحسن زحف معاوية في أهل الشام إلى الكوفة فسار الحسن في ذلك الجيش للقائه وعلى مقدّمته قيس بن سعد في اثني عشر ألفا، وقيل بل كان عبد الله بن عبّاس على المقدّمة وقيس في طلائعه. فلمّا نزل الحسن في المدائن شاع في العسكر أنّ قيس بن سعد قتل، واهتاج الناس وماج بعضهم في بعض وجاءوا إلى سرادق الحسن ونهبوا ما حوله حتى نزعوه بساطه الّذي كان عليه واستلبوه رداءه وطعنه بعضهم في فخذه. وقامت ربيعة وهمدان دونه واحتملوه على سرير إلى المدائن ودخل الى القصر وكاد أمره أن ينحلّ، فكتب إلى معاوية يذكر له النزول عن الأمر على أن يعطيه ما في بيت المال بالكوفة ومبلغه خمسة آلاف ألف، ويعطيه خراج دارابجرد من فارس والّا يشتم عليّا وهو يسمع، وأخبر بذلك أخوه الحسين وعبد الله بن جعفر وعذلاه فلم يرجع اليهما. وبلغت صحيفته إلى معاوية فأمسكها وكان قد بعث عبد الله بن عامر وعبد الله بن سمرة الى الحسن ومعهما صحيفة بيضاء ختم في أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت فهو لك فاشترط فيها أضعاف ما كان في الصحيفة، فلما سلم له وطالبه في الشروط أعطاه ما في الصحيفة الاولى وقال هو الّذي

(2/648)


طلبت [1] . ثم نزعه أهل البصرة خراج دارابجرد وقالوا: هو فيئنا لا نعطيه. وخطب الحسن أهل العراق وقال: سخى نفسي عنكم ثلاث: قتل أبي وطعني وانتهاب بيتي، ثم قال ألا وقد أصبحتم بين قبيلين قبيل بصفين يبكون له وقبيل بالنهروان يطلبون بثأره وأمّا الباقي فخاذل، وأمّا الباكي فثائر وأنّ معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله بظبا السيوف، وإن أدرتم الحياة قبلنا وأخذنا لكم الرضى. فناداه الناس من كل جانب البقية البقية فأمضى الصلح. ثم بايع لمعاوية لستة أشهر من بيعته.
ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس، وكتب الحسن إلى قيس بن سعد يأمره بطاعة معاوية فقام قيس في أصحابه فقال نحن بين القتال مع غير إمام أو طاعة إمام ضلالة، فقال له الناس: طاعة الإمام أولى، وانصرفوا إلى معاوية فبايعوه وامتنع قيس وانصرف. فلما دخل معاوية الكوفة أشار عليه عمرو بن العاص أن يقيم الحسن للناس خطيبا ليبدو للناس عيّه، فلما قدم حمد الله وقال: أيها الناس إنّ الله هداكم بأوّلنا وحقن دماءكم بآخرنا وإنّ لهذا الأمر مدّة والدنيا دول الله عزل وجل يقول لنبيه: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ 21: 111، فقال له معاوية اجلس وعرف أنه خدع في رأيه. ثم ارتحل الحسن في أهل بيته وحشمهم إلى المدينة وخرج أهل الكوفة لوداعه باكين، فلم يزل مقيما بالمدينة إلى أن هلك سنة تسع وأربعين. وقال أبو الفرج الأصبهاني سنة احدى وخمسين وعلى فراشه بالمدينة، وما ينقل من أنّ معاوية دس إليهم السمّ مع زوجه جعدة بنت الأشعث فهو من أحاديث الشيعة وحاشا لمعاوية من ذلك.
وأقام قيس بن سعد على امتناعه من البيعة وكان معاوية قد بعث عبد الله بن عامر في جيش إلى عبيد الله بن عبّاس لما كتب إليه في الأمان بنفسه، فلقيه ليلا وأمّنه وسار معه إلى معاوية، فقام بأمر العسكر بعده قيس بن سعد وتعاقدوا على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة عليّ علي دمائهم وأموالهم وما كانوا أصابوا في الفتنة، وبلغ الخبر الى معاوية وأشار عليه عمرو في قتاله، وقال معاوية: يقتل في ذلك أمثالهم من أهل الشام ولا خير فيه. ثم بعث إليه بصحيفة ختم في أسفلها وقال: اكتب في هذا ما شئت فهو لك، فكتب قيس له ولشيعته الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال،
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: اشترطت.

(2/649)


ولم يسأل مالا فأعطاه معاوية ذلك وبايعه قيس والشيعة الذين معه، ثم جاء سعد بن أبي وقّاص فبايعه واستقرّ الأمر لمعاوية واتفق الجماعة على بيعته وذلك في منتصف سنة احدى وأربعين وسمّي ذلك العام عام الجماعة من أجل ذلك. ثم خرج عليه الخوارج من كل جهة من بقية أهل النهروان وغيرهم فقاتلهم واستلحمهم كما يأتي في أخبارهم على ما اشترطناه في تأليفنا من إفراد الأخبار عن الدول وأهل النحل دولة دولة وطائفة طائفة.
وهذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية وما كان فيها من الردّة والفتوحات والحروب ثم الاتفاق والجماعة أوردتها ملخصة عيونها ومجامعها من كتاب محمد بن جرير الطبريّ وهو تاريخه الكبير فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك، وأبعد من المطاعن عن الشبه في كبار الأمّة من خيارهم وعدولهم عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، فكثيرا ما يوجد في كلام المؤرخين أخبار فيها مطاعن وشبه في حقهم أكثرها من أهل الأهواء فلا ينبغي أن تسوّد بها الصحف [1] ، وأتبعتها بمفردات من غير كتاب الطبريّ بعد أن تخيرت الصحيح جهد الطاقة وإذا ذكرت شيئا في الأغلب نسبته إلى قائلة، وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة، ولا ينظر في ذلك إلى حديث الخلافة بعدي ثلاثون سنة فإنه لم يصحّ، والحق أنّ معاوية في عداد الخلفاء وإنّما أخّره المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين:
الأوّل أنّ الخلافة لعهده كانت مغالبة لأجل ما قدّمناه من العصبية التي حدثت لعصره، وأمّا قبل ذلك كانت اختيارا واجتماع فميّزوا بين الحالتين، فكان معاوية أوّل خلفاء المغالبة والعصبيّة الذين يعبّر عنهم أهل الأهواء بالملوك، ويشبّهون بعضهم ببعض وحاشى الله أن يشبّه معاوية بأحد ممّن بعده، فهو من الخلفاء الراشدين ومن كان تلوه في الدين والفضل من الخلفاء المروانية ممن تلاه في المرتبة كذلك وكذلك من بعدهم من خلفاء بني العباس، ولا يقال إنّ الملك أدون رتبة من الخلافة فكيف يكون خليفة ملكا.
واعلم أنّ الملك الّذي يخالف بل ينافي الخلافة هو الجبروتيّة المعبر عنها بالكسرويّة التي أنكرها عمر على معاوية حين رأى ظواهرها، وأما الملك الّذي هو الغلبة والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة ولا النبوّة فقد كان سليمان بن داود وأبوه صلوات
__________
[1] وفي نسخة اخرى: العيون.

(2/650)


الله عليهما نبيّين وملكين وكانا على غاية الاستقامة في دنياهما وعلى طاعة ربّهما عزّ وجل. ومعاوية لم بطلب الملك ولا أبّهته للاستكثار من الدنيا، وانما ساقه أمر العصبيّة بطبعها لمّا استولى المسلمون على الدول كلها وكان هو خليفتهم فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عند ما تستفحل العصبيّة وتدعو لطبيعة الملك. وكذلك شأن الخلفاء أهل الدين من بعده إذا دعتهم ضرورة الملك إلى استفحال أحكامه ودواعيه، والقانون في ذلك عرض أفعالهم على الصحيح من الأخبار لا بالواهي، فمن جرت أفعاله عليها فهو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين، ومن خرجت أفعاله عن ذلك فهو من ملوك الدنيا وإنما سمّي خليفة بالمجاز.
الأمر الثاني في ذكر معاوية مع خلفاء بني أمية دون الخفاء الأربعة أنهم كانوا أهل نسب واحد وعظيمهم معاوية، فجعل مع أخل نسبه، والخفاء الأوّلون مختلفو الأنساب فجعلوا في نمط واحد وألحق بهم عثمان وإن كان من أهل هذا النسب للحوقه بهم قريبا في الفضل والله يحشرنا في زمرتهم ويرحمنا بالاقتداء بهم.
تمت تكملة الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوّله الخبر عن الدول الإسلامية ونبدأ منها بدولة بني أمية معقبة لخلفاء صدر الإسلام وذكر أوليتهم وأخبار دولهم واحدة واحدة الى انقضائها

(2/651)