تاريخ ابن خلدون
الخبر عن الخلفاء من
بني العباس المغلبين لدولة بني بويه من السلجوقية من بعدهم من لدن
المستكفي إلى المتقي وما لهم من الأحوال الخاصة بهم ببغداد ونواحيها
لما دخل معزّ الدولة بن بويه إلى بغداد غلب على المستكفي وبقي في
كفالته، وكان المستكفي في سنة ثلاث وثلاثين قبلها قبض على كاتبه أبي
عبد الله بن أبي سليمان، وعلى أخيه، واستكتب أبا أحمد الفضل بن عبد
الرحمن الشيرازي في خاص أمره،
(3/521)
وكان قبله كاتبا لابن حمدان، وكان يكتب
للمستكفي قبل الخلافة. فلما نصّب للخلافة قدم من الموصل فاستكتبه
المستكفي في هذه السنة على وزيره أبي الفرج لاثنتين وأربعين يوما من
وزارته، وصادره على ثلاثمائة ألف درهم. ولما استولى معزّ الدولة ببغداد
على الأمر وبعث أبو القاسم البريدي صاحب البصرة ضمن واسط وأعمالها وعقد
له عليها.
خلع المستكفي وبيعة المطيع
وأقام المستكفي بعد استيلاء معزّ الدولة على الأمر أشهرا قلائل، ثم بلغ
معزّ الدولة أنّ المستكفي يسعى في إقامة غيره، فتنكّر له، ثم أجلسه في
يوم مشهود لحضور رسول من صاحب خراسان، وحضر هو في قومه وعشيرته، وأمر
رجلين من نقباء الديلم جاءا ليقبّلا يد المستكفي، ثم جذباه عن سريره
وساقاه ماشيا. وركب معزّ الدولة وجاء به إلى داره فاعتقله بها، واضطرب
الناس وعظم النهب ونهب دار الخلافة، وقبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب
المستكفي، وكان ذلك في جمادى الآخرة لسنة وأربعة أشهر من خلافته. ثم
بويع أبو القاسم الفضل بن المقتدر، وقد كان المستكفي طلبه حين ولي
لاطلاعه على شأنه في طلب الخلافة، فلم يظفر به واختفى. فلما جاء معزّ
الدولة تحوّل إلى داره واختفى عنده، فلما قبض على المستكفي بويع له
ولقّب المطيع للَّه، ثم أحضر المستكفي عنده فأشهد على نفسه بالخلع،
وسلّم عليه بالخلافة، ولم يبق للخليفة من الأمر شيء البتة منذ أيام
معزّ الدولة. ونظر وزير الخليفة مقصور على أقطاعه ونفقات داره والوزارة
منسوبة إلى معزّ الدولة وقومه من الديلم شيعة للعلويّة منذ إسلامهم على
يد الأطروش، فلم يكونوا من شيعة العبّاسية في شيء ولقد يقال بأنّ معزّ
الدولة اعتزم على نقل الخلافة منهم إلى العلويّة، فقال له بعض أصحابه.
لا تولّ أحدا يشركك قومك كلّهم في محبته والاشتمال عليه، وربما يصير
لهم دونك، فأعرض عن ذلك وسلبهم الأمر والنهي، وتسلّم عمّاله وجنده من
الديلم وغيرهم أعمال العراق وسائر أراضيه، وصار الخليفة إنما يتناول
منه ما يقطعه معزّ الدولة ومن بعده فما يسدّ بعض حاجاته. نعم إنهم
كانوا يفردونهم بالسرير والمنبر والسكّة والختم على الرسائل والصكوك
والجلوس للوفد وإجلالهم في التحية والخطاب، وكل ذلك طوع القائم على
الدولة، وكان يفرد في كل دولة بني بويه والسلجوقية بلقب السلطان
(3/522)
مما لا يشاركه فيه أحد، ومعنى الملك من
تصريف القدرة وإظهار الأبهة والعزّ حاصل له دون الخليفة وغيره، وكانت
الخلافة حاصلة للعبّاسيّ المنصوب لفظا مسلوبة معنى، والله المدبّر
للأمور لا إله غيره.
انقلاب حال الدولة بما تجدّد في الجباية والأقطاع
لما استولى معزّ الدولة طلب الجند أرزاقهم على عادتهم وأكثر لسبب ما
تجدّد من الاستيلاء الّذي لم يكن له، فاضطرّ إلى ضرب المكوس وأخذ أموال
الناس من غير وجهها، وأقطع قوّاده وأصحابه من أهل عصبيته وغير
المساهمين له في الأمر جميع القرى التي بجانب السلطان، فارتفعت عنها
أيدي العمّال وبطلت الدواوين واختلف حال القرى في العمارة عما كان في
أيدي القوّاد والرؤساء، حصل بهم لأهلها الرّفق فزادت عمارتها وتوفّر
دخلها. ولم تكن مناظرتهم في ذلك ولا تقديره عليهم، وما كان بأيدي
العامّة والأتباع عظم خرابه لما كان يعدم من الغلاء والنهب واختلاف
الأيدي وما يزيد الآن من الظلم ومصادرات الرعايا والحيف في الجباية
وإهمال النظر في تعديل القناطر والمشارب، وقسّم المياه على الأرضين
فإذا خربت قراهم ردّوها وطلبوا العوض عنها فيصير الآخر منها لما صار
إليه الأوّل. ثم أمر معزّ الدولة قوّاده وأصحابه بحماية الأقطاع
والضياع وولاتها، وصارت الجبايات لنظرهم والتعويل في المرتفع على
أخبارهم. فلا يقدر أهل الدواوين والحسابات على تحقيق ذلك عليهم، ولم
يقف عند ذلك على غاية. فبطلت الأموال وصار جمعها من المكوس والظلامات،
وعجز معزّ الدولة عن ذخيرة يعدّها لنوائب سلطانه. ثم استكثر من الموالي
الأتراك ليجدع بهم من أنوف قومه، وفرض لهم الأرزاق وزاد لهم الأقطاع،
فعظمت غيرة قومه من ذلك وآل الأمر إلى المنافرة كما هو الشأن في طبيعة
الدول.
دولة بني حمدان مسير ابن حمدان الى بغداد
ولما استولى معزّ الدولة على بغداد وخلع المستكفي، بلغ الخبر إلى ناصر
الدولة بن حمدان، فشقّ ذلك عليه، وسار من الموصل إلى بغداد وانتهى الى
سامرّا في شعبان سنة أربع. وكان معزّ الدولة حين سمع قدوم عساكره مع
ينال كوشه وقائد آخر،
(3/523)
فقتل القائد ولحق بناصر الدولة [1] . وجاء
ناصر الدولة إلى بغداد فأقام بها وخالفه معزّ الدولة إلى تكريت فنهبها
لأنها من أعماله. ثم عاد معزّ الدولة والمطيع فنزلوا بالجانب الغربي من
بغداد، وقاتلوا ناصر الدولة بالجانب الشرقي وتقدّم ناصر الدولة إلى
الأعراب بالجانب الغربي بقطع الميرة عن معزّ الدولة فغلت الأسعار وعزّت
الأقوات، ومنع ناصر الدولة من الخطبة للمطيع والمعاملة بسكّته، ودعا
للمتّقي وبيّت معز الدولة مرارا. وضاق الأمر به، واعتزم على ترك بغداد
والعود إلى الأهواز. ثم أظهر الرحيل ذات ليلة وأمر وزيره أبا جعفر
الصهيري [2] بالعبور في أكثر العساكر، وأقام بالكينة مكانه، وجاء ينال
كوشه لقتاله فانهزم واضطرب عسكر ناصر الدولة وأجفلوا، وغنم الديلم
أموالهم وأظهرهم. ثم أمّن معزّ الدولة الناس وعاد المطيع إلى داره في
محرّم سنة خمس وثلاثين وقام التورونية عليه، فلمّا شعروا به نكروه
وهمّوا بقتله، فأسرى هاربا ومعه ابن شيرزاد، وفرّ إلى الجانب الغربي.
ثم لحق بالقرامطة فأجاروه وبعثوه إلى الموصل.
ثم استقرّ الصلح بينه وبين الدولة كما طلب، ولما فرّ عن الأتراك اتفقوا
على تكين الشيرازي فولّوه عليهم وقبضوا على من تخلّف من كتابه وأصحابه،
وساروا في اتّباعه إلى نصيبين، ثم إلى سنجار، ثم إلى الحديثة، ثم إلى
السن، ولحق هنالك عسكر معزّ الدولة مع وزيره أبي جعفر الصهيري، وقد كان
استمدّه ناصر الدولة. وسار ناصر الدولة وابن الصهيري إلى الموصل،
فنزلوا عليها وأخذ الصهيري من ناصر الدولة ابن شيرزاد وحمله إلى معزّ
الدولة وذلك سنة خمس وثلاثين.
استيلاء معزّ الدولة على البصرة
وفي هذه السنة انتقض أبو القاسم البريدي بالبصرة، فجهّز معز الدولة
الجيش جماعة أعيانهم إلى واسط، ولقيهم جيش ابن البريدي في الماء على
الظهر، فانهزموا إلى البصرة وأسروا من أعيانهم جماعة. ثم سار معزّ
الدولة سنة ست وثلاثين إلى البصرة
__________
[1] العبارة غير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 453: «وفيها- 334-
في رجب سيّر معزّ الدولة عسكرا فيهم موسى فيادة وينال كوشة الى الموصل
في مقدمته، فلما نزلوا عكبرا أوقع ينال كوشة بموسى فيادة ونهب سواده،
ومضى هو ومن معه الى ناصر الدولة، وكان قد خرج من الموصل نحو العراق،
ووصل ناصر الدولة الى سامرّا في شعبان، ووقعت الحرب بينه وبين أصحاب
معزّ الدولة بعكبرا.»
[2] الصميري: وقد مرّ ذكره قبل ذلك.
(3/524)
ومعه المطيع لاستنقاذها من يد أبي القاسم
بن البريدي وسلكوا إليها البرية، فبعث القرامطة يعذلون في ذلك معزّ
الدولة فكتب يهدّدهم. ولما قارب البصرة استأمنت إليه عساكر أبي القاسم،
وهرب هو إلى القرامطة فأجاروه، وملك معزّ الدولة البصرة. ثم سار منها
إلى الأهواز لتلقي أخيه عماد الدولة، وترك المطيع وأبا جعفر الصهيري
بالبصرة. ولقي أخاه بأرّجان. ثم عاد إلى بغداد والمطيع معه وأراد السير
إلى الموصل فأرسل إليه ناصر الدولة في الصلح وحمل المال فتركه. ثم
انتقض سنة سبع وثلاثين فسار إليه معزّ الدولة، وملك الموصل، ولحق ناصر
الدولة بنصيبين، وأخذ معزّ الدولة في ظلم الرعايا وعسفهم. ثم بعث إليه
أخوه ركن الدولة بأصبهان بأنّ عسكر خراسان قصدت جرجان والريّ، واستمدّه
فاضطرّ معزّ الدولة إلى صلح ناصر الدولة عن الموصل والجزيرة وما ملكه
سيف الدولة من الشام ودمشق وحلب على ثمانية آلاف ألف ألف درهم، ويخطب
لعماد الدولة وركن الدولة ومعزّ الدولة بني بويه، فاستقرّ الصلح على
ذلك وعاد إلى بغداد.
ابتداء أمر بني شاهين بالبطيحة
كان عمران بن شاهين من أهل الجامدة، وحصلت عنده جبايات، فهرب إلى
البطيحة خوفا من الحكّام، وأقام بين القصب والآجام يقتات بصيد السمك
والطير وكشف سابلة البطيحة. واجتمع عليه جماعة من الصيّادين واللصوص.
ثم اشتدّ خوفه فاستأمن إلى أبي القاسم بن البريدي صاحب البصرة نقله
جماعة الجامدة ونواحي البطائح. وجمع السلاح واتخذ مقاتل على تلال
البطيحة وغلب على نواحيها، وسرّح معزّ الدولة وزيره أبا جعفر الصهيري
سنة ثمان وثلاثين فقاتله وهرب واستأمن أهله وعياله. ثم جاء الخبر إلى
معزّ الدولة بموت أخيه عماد الدولة بفارس، واضطراب أحواله بها. فكتب
إلى الصهيري بالفرار إلى شيرزاد لإصلاح الأمور، فسار إليها وعاد عمران
بن شاهين إلى البطيحة، واجتمع إليه أصحابه وقوي أمره. وبعث معزّ الدولة
إلى قتاله روزبهان من أعيان عسكره، فأطال حصاره في مضايق البطيحة. ثم
ناجزه الحرب فهزمه عمران وهرب عسكره، وصار أصحابه يطلبون البذرقة
والخفارة من جند السلطان في السابلة، وانقطع طريق البصرة إلّا على
الظهر. وكان الصهيري قد هلك وولّى مكانه المهلّبيّ، فكتب معزّ الدولة
إلى المهلّبيّ وهو بالبصرة، فصعد إلى
(3/525)
واسط وأمدّه بالقوّاد والسلاح، وأطلق يده
في الإنفاق. فزحف إلى البطيحة وضيّق على عمران فانتهى إلى مضايق خفيّة،
وأشار عليه روزبهان بمعاجلة القوم، وكتب إلى معزّ الدولة يشكو المطاولة
من المهلّبيّ، فكتب إليه معزّ الدولة بالاستبطاء فبادر إلى المناجزة
وتوغّل في تلك المضايق، فانهزم وقتل من أصحابه وأسر ونجا هو سباحة في
الماء، وأسر عمران أكابر القوّاد حتى صالحه معزّ الدولة وقلّده البطائح
وأطلق له أهله على أن يطلق القوّاد الذين في أسره فأطلقهم.
موت الصهيري ووزارة المهلبي
كان أبو جعفر محمد بن أحمد الصهيري وزيرا لمعزّ الدولة، وكان قد سار
لقتال عمران واستخلف مكانه أبا محمد الحسن بن محمد المهلّبيّ، فعرفت
كفايته وإصلاحه وأمانته، وتوفي أبو جعفر الصهيري محاصرا لعمران، فولّى
معزّ الدولة مكانه أبا محمد المهلبيّ، فأحسن السيرة وأزال المظالم
وخصوصا عن البصرة فكان فيها شعب كثيرة من المظالم من أيام أبي البريدي،
وتنقّل في البلاد لكشف المظالم وتخليص الحقوق، فحسن أثره ونقم عليه
معزّ الدولة بعض الأمور فنكبه سنة إحدى وأربعين وحبسه في داره ولم
يعزله.
حصار البصرة
قد تقدّم لنا أنّ القرامطة أنكروا على معز الدولة مسيره إلى البصرة على
بلادهم.
وذكرنا ما دار بينهم في ذلك. ولمّا علم يوسف بن وجيه استيحاشهم بعث
إليهم يطمعهم في النصرة، واستمدّهم فأمدّوه. وسار في البحر سنة إحدى
وأربعين، وبلغ الخبر إلى الوزير المهلبيّ، وقد قدم من شأن الأهواز.
فسار إلى البصرة وسبق إليها ابن وجيه وقاتله فهزمه وظفر بمراكبه.
استيلاء معز الدولة على الموصل وعوده
قد تقدّم لنا صلح معزّ الدولة مع ناصر الدولة على ألفي ألف درهم كل
سنة. فلما كانت سنة سبع وأربعين أخرج حمل المال، فسار معزّ الدولة إلى
الموصل في جمادى ومعه وزيره المهلبي، فاستولى على الموصل ولحق ناصر
الدولة بنصيبين ومعه كتابه وجميع أصحابه، وحاشيته، ومن يعرف وجوه
المنافع، وأنزلهم في قلعة كواشي وغيرها.
(3/526)
وأمر الأعراب بقطع الميرة عن الموصل فضاقت
الأبواب على عسكر معزّ الدولة، فسار عن الموصل إلى نصيبين واستخلف
عليها سبكتكين الحاجب الكبير، وبلغه في طريقه أنّ أولاد ناصر الدولة
بسنجار في عسكر، فبعث عسكرا فكبسوهم واشتغلوا بالنهب، فعاد إليهم أولاد
ناصر الدولة وهم غازون فاستلحموهم، وسار ناصر الدولة عن نصيبين إلى
ميافارقين. ورجع أصحابه إلى معزّ الدولة مستأمنين، فسار هو إلى أخيه
سيف الدولة بحلب فتلقّاه وأكرمه وتراسلوا في الصلح على ألفي ألف درهم
وتسعمائة ألف درهم، وإطلاق من أسر بسنجار وأن يكون ذلك في ضمان سيف
الدولة فتمّ بينهما، وعاد معزّ الدولة إلى العراق في محرّم سنة ثمان
وأربعين.
بناء معز الدولة ببغداد
أصاب معزّ الدولة سنة خمسين مرض أشفي منه حتى وصّى، واستوخم بغداد
فارتحل إلى كلواذا ليسر إلى الأهواز، وأسف أصحابه لمفارقة بغداد،
فأشاروا عليه أن يبني لسكناه في أعاليها. فبنى دارا أنفق عليها ألف ألف
دينار، وصادر فيها جماعة من الناس.
ظهور الكتابة على المساجد
كان الديلم كما تقدّم لنا شيعة لإسلامهم على يد الأطروش، وقد ذكرنا ما
منع بني بويه من تحويل الخلافة عن العبّاسية إليهم. فلما كان سنة إحدى
وخمسين وثلاثمائة أصبح مكتوبا على باب الجامع ببغداد: لعن صريح في
معاوية ومن غصب فاطمة فدك، ومن منع من دفن الحسن عند جدّه ومن نفى أبا
ذر، ومن أخرج العبّاس من الشورى، ونسب ذلك إلى معزّ الدولة. ثم محى من
الليلة القابلة، فأراد معزّ الدولة إعادته، فأشار المهلبيّ بأن يكتب
مكان المحو: لعن معاوية فقط والظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وفي ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة أمر الناس بإظهار الزينة
والفرح لعبد العزيز من أعيان الشيعة. وفي السنة بعدها أمر الناس في يوم
عاشوراء أن يغلقوا دكاكينهم ويقعدوا عن البيع والشراء ويلبسوا المسوح،
ويعلنوا بالنياحة، وتخرج النساء مسبّلات الشعور مسوّدات الوجوه قد شققن
ثيابهنّ ولطمن خدودهنّ حزنا على الحسين، ففعل الناس ذلك. ولم يقدر أهل
السنّة على منعه لأنّ السلطان للشيعة وأعيد ذلك سنة ثلاث وخمسين فوقعت
فتنة بين أهل السنة والشيعة ونهب الأموال.
(3/527)
استيلاء معز الدولة
على عمان وحصاره البطائح
انحدر معز الدولة سنة خمس وخمسين إلى واسط لقتال عمران بن شاهين
بالبطائح فأنفذ الجيش من هنالك مع أبي الفضل العبّاس بن الحسن، وسار
إلى الأبلّة فأنفذ الجيش إلى عمان، وكان القرامطة قد استولوا عليها
وهرب عنها صاحبها نافع، وبقي أمرها فوضى، فاتفق قاضيها وأهل البلد أن
ينصّبوا عليهم رجلا منهم فنصّبوه، ثم قتله بعضهم فولّوا آخر من قرابة
القاضي يعرف بعبد الرحمن بن أحمد بن مروان، واستكتب عليّ بن أحمد الّذي
كان وصل مع القرامطة كاتبا، وحضر وقت العطاء، فاختلف الزنج والبيض في
الرضا بالمساواة وبعدمها واقتتلوا، فغلب الزنج وأخرجوا عبد الوهاب
واستقرّ علي بن أحمد أميرا. فلمّا جاء معزّ الدولة إلى واسط هذه السنة،
قدم عليه نافع الأسود صاحب عمان مستنجدا به، فانحدر به من الأبلّة،
وجهّز له المراكب لحمل العساكر، وعليهم أبو الفرج محمد بن العبّاس بن
فسانجس وهي مائة قطعة، فساروا إلى عمان وملكوها تاسع ذي الحجة من سنة
خمس وخمسين، وقتلوا من أهلها وأحرقوا مراكبها، وكانت تسعة وثمانين،
وعاد معزّ الدولة إلى واسط، وحاصر عمران، وأقام هنالك فاعتلّ وصالح
عمران وانصرف عنه.
وفاة الوزير المهلبي
سار الوزير المهلبي في جمادى سنة اثنتين وخمسين إلى عمان ليفتحها
فاعتلّ في طريقه ورجع إلى بغداد فمات في شعبان قبل وصوله، وحمل فدفن
بها لثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر من وزارته. وقبض معزّ الدولة أمواله
وذخائره وصارت إليه وحواشيه، ونظر في الأمور بعده أبو الفضل العبّاس بن
الحسين الشيرازي وأبو الفرج محمد بن العبّاس بن فسانجس ولم يلقّب أحد
منهما بوزارة.
وفاة معز الدولة وولاية ابنه بختيار
ولما رجع معزّ الدولة إلى بغداد اشتدّ مرضه فعهد بالسلطنة إلى ابنه عزّ
الدولة، وتصدّق وأعتق. وتوفي في ربيع من سنة ست وخمسين لاثنتين وعشرين
سنة من سلطنته، وولّى ابنه عز الدولة بختيار وقد كان أوصاه بطاعة عمّه
ركن الدولة، وبطاعة ابنه عضد الدولة، لأنه كان أكبر سنا، وأخبر
بالسياسة ووصّاه بحاجبه
(3/528)
سبكتكين وبكاتبيه أبي الفضل العبّاس وأبي
الفرج، فخالف وصاياه وعكف على اللهو وأوحش هؤلاء، ونفى كبار الديلم
شرها في أقطاعاتهم. وشغب عليه الأصاعد فذادهم واقتدى بهم الأتراك، وجاء
أبو الفرج محمد بن العبّاس من عمان بعد أن سلّمها إلى نوّاب عضد الدولة
الذين كانوا في أمداده، وخشي أن يؤمر بالمقام بها وينفرد أبو الفضل
صاحبه بالوزارة ببغداد، فكان كما ظنّ. ثم انتقض بالبصرة حبشيّ بن معز
الدولة على أخيه بختيار سنة ست وخمسين، فبعث الوزير أبو الفضل العبّاس
فسار موريا بالأهواز ونزل واسط وكتب إلى حبشي بأنه جاء ليسلمه البصرة
وطلب منه المعونة على أمره فأنفذ اليه مائتي ألف درهم وأرسل الوزير
خلال ذلك إلى عسكر الأهواز أن يوافوه بالأبلّة لموعد ضربه لهم، فوافوه
وكبسوا حبشيا بالبصرة وحبسوه برامهرمز ونهبوا أمواله، وكان من جملة ما
أخذ له عشرة آلاف مجلّد من الكتب وبعث ركن الدولة بتخليص حبشي ابن أخيه
وجعله عند عضد الدولة فأقطعه إلى أن مات سنة سبع وستين.
عزل أبي الفضل ووزارة ابن بقية
لما ولى أبو الفضل وزارة بختيار كثر ظلمه وعسفه، وكان محمد بن بقية من
حاشية بختيار، وكان يتولّى له المطبخ. فلما كثر شغب الناس من أبي الفضل
عزله بختيار سنة اثنتين وستين وولّى مكانه محمد بن بقية، فانتشر الظلم
أكثر، وخربت النواحي وظهرت العيّارون ووقعت الفتن بين الأتراك وبختيار،
فأصلح ابن بقية بينهم وركب سبكتكين بالأتراك إلى بختيار، ثم أفسد بينهم
وتحرّك الديلم على سبكتكين وأصحابه فأرضاهم بختيار بالمال ورجعوا عن
ذلك. [1] كان ناصر الدولة بن حمدان قد قبض عليه ابنه أبو ثعلب وحبسه
سنة ست وخمسين وطمع في المسير إلى بغداد، وجاء أخوه حمدان وإبراهيم
فازعين إلى بختيار ومستنجدين به فشغل عنهما بما كان فيه من شأن البطيحة
وعمان، حتى إذا قضى وطره من ذلك وعزل أبا الفضل
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 631: «في هذه السنة-
363- في ربيع الأول سار بختيار الى الموصل ليستولي عليها وعلى اعمالها
وما بيد أبي تغلب بن حمدان. وكان سبب ذلك ما ذكرناه من مسير حمدان بن
ناصر الدولة بن حمدان وأخيه إبراهيم الى بختيار، واستجارتهما به
وشكواهما إليه من أخيهما أبي تغلب. فوعدهما ان ينصرهما ويخلّص أعمالهما
وأموالهما منه، وينتقم لهما، واشتغل عن ذلك بما كان منه في البطيحة
وغيرها» .
(3/529)
الوزير واستوزر ابن بقية حمله على ذلك
وأغراه به. فسار إلى الموصل ونزلها في ربيع الآخر سنة ثلاث وستين. ولحق
ابو ثعلب بسنجار بأصحابه وكتّابه ودواوينه. ثم سار إلى بغداد وبعث
بختيار في أثره الوزير ابن بقية وسبكتكين فدخل ابن بقية بغداد وأقام
سبكتكين يحاربه في ظاهرها. ووقعت الفتنة داخل بغداد في الجانب الغربي
بين أهل السنّة والشيعة. واتّفق سبكتكين وأبو ثعلب على أن يقبضا على
الخليفة والوزير وأهل بختيار، ويعود سبكتكين إلى بغداد مستوليا وأبو
ثعلب إلى الموصل. ثم أقصر سبكتكين عن ذلك وتوقّف، وجاءه الوزير ابن
بقية وأرسلوا إلى أبي ثعلب في الصلح.
وأن يضمن البلاد ويردّ على أخيه حمدان أقطاعه وأملاكه إلّا ماردين،
وعاد أبو ثعلب إلى الموصل ورحل بختيار، وسار سبكتكين للقائه واجتمع
بختيار وأبو ثعلب على الموصل، وطلب أبو ثعلب زوجته ابنة بختيار وأن
يحطّ عنه من الضمان ويلقّب لقبا سلطانيا فأجيب إلى ذلك خشية منه، ورحل
بختيار إلى بغداد. وسرّ أهل الموصل برحيله لما نالهم منه، وبلغه في
طريقه أنّ أبا ثعلب قتل قوما من أصحابه.
وكانوا استأمنوا البختيار وزحفوا لنقل أهلهم وأموالهم فاشتدّ ذلك عليه،
وكتب إلى الوزير أبي طاهر بن بقية والحاجب ابن سبكتكين يستقدمهما في
العساكر، فجاءوا وعادوا إلى الموصل، وعزم على طلبه حيث سار. فأرسل أبو
ثعلب في الصلح. وجاء الشريف أبو أحمد الموسوي والد الشريف الرضي وحلف
على العلم في قتل أولئك المستأمنة، وعاد الصلح والاتفاق كما كان، ورجع
بختيار إلى بغداد وبعث ابنته إلى زوجها أبي ثعلب.
الفتنة بين بختيار وسبكتكين والأتراك
كان بختيار قد قلّت عنده الأموال وكثرت مطالب الجند وشغبهم، فكان يحاول
على جمع الأموال فتوجه إلى الموصل لذلك، ثم رجع فتوجه إلى الأهواز
ليجدّد ريعه إلى مصادرة عاملها، وتخلّف عنه سبكتكين والأتراك الذين
معه، ووقعت فتنة بين الأتراك والديلم بالأهواز واقتتلوا ولجّ الأتراك
في طلب ثأرهم، وأشار عليه أصحاب الديلم بقبض رؤساء الأتراك وقوّادهم
ففعل، وكان من جملتهم عامل الأهواز وكاتبه، ونهبت أموالهم وبيوتهم،
ونودي في البلد باستباحتهم، وبلغ الخبر إلى سبكتكين وهو ببغداد فنقض
طاعة بختيار وركب في الأتراك وحاصر داره يومين
(3/530)
وأحرقها وأخذ أخويه وأمّهما فبعثهم إلى
واسط في ذي القعدة سنة ثلاث وستين، وانحدر المطيع معهم فردّه وترك
الأتراك في دور الديلم ونهبوها وثارت العامة مع سبكتكين لأنّ الديلم
كانوا شيعة وسفكت الدماء وأحرق الكرخ وظهر أهل السنّة.
خلع المطيع وولاية الطائع
كان المطيع قد أصابه الفالج وعجز عن الحركة وكان يتستّر به وانكشف حاله
بسبكتكين في هذه الواقعة، فدعاه إلى أن يخلع نفسه ويسلّم الخلافة عبد
الكريم ففعل ذلك منتصف ذي القعدة سنة ثلاث وستين لست وعشرين سنة ونصف
من خلافته، وبويع ابنه عبد الكريم ولقب الطائع.
الصوائف
وعادت الصوائف منذ استبدّ ناصر الدولة بن حمدان بالموصل وأعمالها، وملك
سيف الدولة أخوه مدينتي حلب وحمص سنة ثلاث وثلاثين، فصار أمر الصوائف
إليه فنذكرها في أخبار دولتهم. فقد كان لسيف الدولة فيها آثار وكان
للروم في أيامه جولات حسنت فيها مدافعته. وأمّا الولايات فانقطعت منذ
استيلاء معزّ الدولة على العراق، وانقسمت الدولة الإسلامية دولا نذكر
ولايات كلّ منها في أخبارها عند انفرادها على ما شرطناه.
فتنة سبكتكين وموته وامارة افتكين [1]
لما وقع بختيار في الأتراك بالأهواز ما وقع وانتقض سبكتكين ببغداد عمد
بختيار إلى من حبسه من الأتراك فأطلقهم، وولّى منهم على الأتراك زادويه
الّذي كان عامل الأهواز، وسار إلى واسط للقائه وأخويه، وكتب إلى عمه
ركن الدولة وابن عمه عضد الدولة يستنجدهما، وإلى أبي ثعلب بن حمدان في
المدد بنفسه، ويسقط عنه مال الأقطاع، وإلى عمران بن شاهين بالبطيحة
كذلك، فجهّز إليه عمّه ركن الدولة العسكر مع وزيره أبي الفتح بن
العميد، وكتب إلى ابن عمّه عضد الدولة بالمسير معه فتثاقل وتربّص
بختيار طمعا في ملك العراق. وأمّا عمران بن شاهين فدافع واعتذر
__________
[1] ألفتكين: ابن الأثير ج 8 ص 648.
(3/531)
بأنّ عسكره لا يفتكون في الديلم لما كان
بينهم، وأمّا أبو ثعلب فبعث أخاه أبا عبد الله الحسين في عسكر إلى
تكريت. فلما سار الأتراك عن بغداد إلى واسط لقتال بختيار وجاء هو إليها
ليقيم الحجة في سقوط الأقطاع عنه، ووجد الفتنة حامية بين العيّارين
فكفّ القسامة وانتظر ما يقع ببختيار فيدخل بغداد ويملكها. ولمّا سار
الأتراك إلى واسط حملوا معهم خليفتهم الطائع للَّه وأباه المطيع
المخلوع، وانتهوا إلى دير العاقول فهلك المطيع وسبكتكين معا، وولى
الأتراك عليهم أفتكين من أكابر قوّادهم ومولى معزّ الدولة، فانتظم
أمرهم وساروا إلى واسط وحاصروا بها بختيار خمسين يوما حتى اشتدّ عليه
الحصار وهو يستحثّ عضد الدولة.
نكبة بختيار على يد عضد الدولة ثم عوده الى ملكه
لما تتابعت كتب بختيار إلى عضد الدولة باستحثاثه سار في عساكر فارس،
وجاءه أبو القاسم بن العميد وزير أبيه إلى الأهواز في عساكر الريّ
وساروا إلى واسط، وأجفل عنها أفتكين والأتراك إلى بغداد ورجع أبو ثعلب
إلى الموصل. ولما جاء عضد الدولة إلى واسط سار إلى بغداد في الجانب
الشرقي، وسار بختيار في الجانب الغربي وحاصروا الأتراك ببغداد من جميع
الجهات. وأرسل بختيار إلى ضبّة بن محمد الأسدي من أهل عين النمر وإلى
أبي سنان وأبي ثعلب بن حمدان بقطع الميرة والإغارة على النواحي فغلا
السعر ببغداد وثار العيّارون ووقع النهب، وكبس أفتكين المنازل في طلب
الطعام فعظم الهرج، وخرج أفتكين والأتراك للحرب فلقيهم عضد الدولة
فهزمهم وقتل أكثرهم واستباحهم، ولحقوا بتكريت وحملوا الخليفة معهم،
ودخل عضد الدولة إلى بغداد في جمادى سنة أربع وستين. وحاول في ردّ
الخليفة الطائع فردّه وأنزله بداره وركب للقائه الماء في يوم مشهود. ثم
وضع الجند على بختيار فشغبوا عليه في طلب أرزاقهم وأشار عليه بالغلظة
عليهم، والاستعفاء من الإمارة، وأنّه عند ذلك يتوسّط في الإصلاح فأظهر
بختيار التخلّي، وصرف الكتّاب والحجّاب ثقة بعضد الدولة، وتردّد
السفراء بينهم ثلاثا ثم قبض عضد الدولة على بختيار وإخوته ووكّل بهم،
وجمع الناس وأعلمهم بعجز بختيار ووعدهم بحسن النظر وقام بواجبات
الخلافة. وكان المرزبان بن بختيار أميرا بالبصرة فامتنع فيها على عضد
الدولة، وكتب إلى ركن الدولة يشكو ما جرى على أبيه بختيار من ابنه عضد
الدولة ووزيره ابن
(3/532)
العميد، فأصابه من ذلك المقيم المقعد حتى
لقد طرقه المرض الّذي لم يستقل منه.
وكان ابن بقية وزير بختيار قد سار إلى عضد الدولة وضمّنه واسط وأعمالها
فانتقض عليه بها، وداخل عمران بن شاهين في الخلافة فأجابه، وكتب إلى
مهل بن بشر وزير أفتكين بالأهواز وقد كان عضد الدولة ضمّنه إياها وبعثه
إليها مع جيش بختيار فاستماله ابن بقية، وخرجت إليه جيوش عضد الدولة
فهزمهم، وكاتب أباه ركن الدولة بالأحوال، وأوعز ركن الدولة إليه وإلى
المرزبان بالبصرة على المسير بالعراق لإعادة بختيار. واضطربت النواحي
على عضد الدولة لإنكار أبيه، وانقطع عن مدد فارس وطمع فيه الأعداء،
فبعث أبا الفتح بن العميد إلى أبيه يعتذر عمّا وقع، وأنّ بختيار عجز
ولا يقدر على المملكة وأنه يضمن أعمال العراق بثلاثين ألف ألف درهم،
ويبعث بختيار وإخوته إليه لينزله بأيّ الأعمال أحب، ويخبر أباه في
نزوله العراق لتدبير الخلافة ويعود هو إلى فارس، وتهدد أباه بقتل
بختيار وإخوته وجميع شيعهم إن لم يوافق على واحدة من هذه. فخاف ابن
العميد غائلة هذه الرسالة وأشار بإرسال غيره وأن يمضي هو بعدها كالمصلح
فبعث عضد الدولة غيره. فلمّا ألقى الرسالة غضب ركن الدولة ووثب إلى
الرسول ليقتله، ثم ردّه بعد أن سكن غضبه، وحمله إلى عضد الدولة من
الشتم والتقريع على ما فعله وعلى ما يطلب منه من كل صعب من القول. وجاء
ابن العميد على أثر ذلك فحجبه وتهدّده، ثم لم يزل يسترضيه بجهده واعتذر
بأن قبوله لهذه الرسالة حيلة على الوصول إليه والخلاص من عضد الدولة،
وضمن له إعادة عضد الدولة إلى فارس وتقرير بختيار بالعراق، فأجاب عضد
الدولة إلى ذلك وأفرج عن بختيار وردّه إلى السلطنة على أن يكون نائبا
عنه ويخطب عنه، ويجعل أخاه أبا إسحاق أمير الجيش لعجز بختيار، وردّ
عليهم ما أخذ لهم وسار إلى فارس وأمر ابن العميد أن يلحق به بعد ثلاث
فتشاغل مع بختيار باللذات ووعده أن يصير إلى وزارته بعد ركن الدولة.
وأرسل بختيار عن ابن بقية فقام بأمر الدولة واحتجن الأموال فإذا طولب
بها دسّ للجند فشغبوا حتى تنكّر له بختيار واستوحش هو.
خبر افتكين
ولما انهزم أفتكين من عضد الدولة بالمدائن لحق بالشام ونزل قريبا من
حمص، وقصد ظالم بن موهوب أمير بني عقيل العلويّة بالشام فلم يتمكن منه،
وسار أفتكين إلى
(3/533)
دمشق وأميرها ريّان خادم المعز لدين الله
العلويّ وقد غلب عليه الأحداث فخرج إليه مشيخة البلد وسألوه أن يملكهم
ويكفّ عنهم سرّ الأحداث وظلم العمّال، واعتقاد الرافضة فاستحلفهم على
ذلك ودخل دمشق وخطب فيها للطائع في شعبان سنة أربع وستين. ورجع أيدي
العرب من ضواحيها وفتك فيهم وكثرت جموعه وأمواله وكاتب المعزّ بمصر
يداريه بالانقياد، فكتب يشكره ويستدعيه ليولّيه من جهته، فلم يثق إليه
فتجهّز لقصده، ومات في طريقه سنة خمس وستين كما نذكر بقية خبره في
دولتهم.
ملك عضد الدولة بغداد وقتل بختيار
ولما انصرف عضد الدولة إلى فارس كما ذكرناه أقام بها قليلا ثم مات أبوه
ركن الدولة سنة ست وستين بعد أن رضي عنه وعهد له بالملك كما نذكره في
خبره. فلمّا مات شرع بختيار ووزيره ابن بقية في استمالة أهل أعماله مثل
أخيه فخر الدولة وحسنويه الكردي وطلب ابن حمدان وعمران بن شاهين في
عدوانه فسار عضد الدولة لطلب العراق واستمدّ حسنويه وابن حمدان فواعداه
ولم يبعداه فسار إلى الأهواز، ثم سار إلى بغداد، ولقيه بختيار فهزمه
عضد الدولة واستولى على أمواله وأثقاله ولحق بواسط، وحمل إليه ابن
شاهين أموالا وهدايا ودخل إليه مؤكدا للاستجارة به. ثم صعد إلى واسط،
وبعث عضد الدولة عسكرا إلى البصرة فملكوها، وكانت مصر شيعة له دون
ربيعة. وجمع بختيار ما كان له ببغداد والبصرة في واسط وقبض على ابن
بقية وأرسل عضد الدولة في الصلح واختلفت الرسائل، وجاءه عبد الرزاق
وبدر ابنا حسنويه في ألف فارس مددا فانتقض وسار إلى بغداد وسار عضد
الدولة إلى واسط ثم إلى البصرة فأصلح بين ربيعة ومضر بعد اختلافهم مائة
وعشرين سنة. ثم دخلت سنة سبع وستين فقبض عضد الدولة على أبي الفتح بن
العميدي وزير أبيه وجدع أنفه وسمل إحدى عينيه لما بلغه عنه في مقامه
بالفرات عند بختيار. ولما اطلع عليه من مكاتبته إيّاه فبعث إلى أخيه
فخر الدولة بالريّ بالقبض عليه وعلى أهله فقبض عليه وأخذ داره بما
فيها. ثم سار عضد الدولة إلى بغداد سنة وسبع وستين.
وبعث إلى بختيار يخيّره في الأعمال فأجاب إلى طاعته، وأمره بإنفاذ ابن
بقية إليه ففقأ عينيه وأنفذه، وخرج عن بغداد بقصد الشام، ودخل عضد
الدولة بغداد وخطب له بها وضرب على بابه ثلاث توتات ولم يكن شيء من ذلك
لمن قبله، وأمر
(3/534)
بابن بقية فرمي بين الفيلة فقتلته. ولما
سار بختيار إلى الشام ومعه حمدان أخو أبي ثعلب وانتهوا إلى عكبرا أحسن
له حمدان وقصد الموصل. وكان عضد الدولة قد استحلفه أن لا يدخل ولاية
أبي ثعلب فنكث وقصدها، وجاءته رسل أبي ثعلب بتكريت في إسلام أخيه حمدان
إليه فيمدّه بنفسه، ويعيده إلى ملكه فقبض على حمدان وبعثه مع نوّابه
فحبسه وسار أبو ثعلب إليه في عشرين ألف مقاتل [1] .
وزحفوا إلى بغداد ولقيهما عضد الدولة فهزمهما وأمر ببختيار فقتل صبرا
في عدّة من أصحابه لإحدى عشرة سنة من ملكه.
استيلاء عضد الدولة على ملك بني حمدان
ثم سار عضد الدولة بعد الهزيمة ومقتل بختيار إلى الموصل فملكها منتصف
ذي القعدة من سنة سبع وستين، وكان حمل معه الميرة والعلوفات فأقام في
رغد، وبثّ السراة في طلب أبي ثعلب، وراسله في ضمان البلاد على عادته
فلم يجبه، فسار إلى نصيبين ومعه المرزبان بن بختيار وأبو إسحاق وطاهر
أخو بختيار وأمّهم، فبعث عضد الدولة عسكرا إلى جزيرة ابن عمر مع حاجبه
أبي عمر لحرب طغان [2] ، وعسكرا إلى نصيبين مع أبي الوفاء طاهر بن محمد
ففارقها أبو ثعلب إلى ميافارقين واتّبعه أبو الوفاء إليها فامتنعت
عليه. ولحق أبو ثعلب بأردن الروم ثم بالحسنيّة من أعمال الجزيرة، وتتبع
أبو ثعلب قلاعه وأخذ أمواله في كواشي وغيرها، وعاد إلى ميافارقين. ثم
سار عضد الدولة إليه بنفسه واستأمن إليه كثير من أصحابه، ورجع إلى
الموصل وبعث العسكر في اتباعه فدخل بلاده فصاهره وردّ الرومي المملك
عليهم في غير بيت الملك ليستعين به على أمره، واتبعه عسكر عضد الدولة
فهزمهم ونجا إلى بلاد الروم لمساعدة
__________
[1] العبارة مشوشة وغير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 691: «فسار
بختيار نحو الموصل، وكان عضد الدولة قد حلّفه أنه لا يقصد ولاية أبي
تغلب بن حمدان لمودّة ومكاتبة كانت بينهما، فنكث وقصدها، فلما صار الى
تكريت أتته رسل أبي تغلب تسأله ان يقبض على أخيه حمدان ويسلّمه إليه،
وإذا فعل سار بنفسه وعساكره اليه، وقاتل معه عضد الدولة وإعادة الى
ملكه بغداد، فقبض بختيار على حمدان وسلّمه الى نواب أبي تغلب، وسارا
جميعا نحو العراق، وكان مع أبي تغلب نحو من عشرين ألف مقاتل» والملاحظ
ان ابن خلدون يذكر ابن تغلب ابن ثعلب والثعلبي بدل التغلبي وقد أشرنا
الى هذا في مكان سابق من هذا الكتاب.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 692: «فسيّر عضد الدولة سرية عليها
حاجبه ابو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر» .
(3/535)
ورد على شأنه لما يؤمّل من نصرته إياه.
واتفق أن وردا انهزم فيئس منه أبو ثعلب وعاد إلى بلاد الإسلام ونزل
بآمد شهرين، حتى فتح عضد الدولة جميع بلاده كما يذكر في أخبار دولتهم،
واستخلف أبا الوفاء على الموصل وعاد إلى بغداد وانقطع ملك بني حمدان عن
الموصل حينا من الدهر.
وفاة عضد الدولة وولاية ابنه صمصام الدولة
ثم توفي عضد الدولة في شوّال سنة اثنتين وسبعين لخمس سنين ونصف من
ملكه، واجتمع القوّاد والأمراء على ولاية ابنه كاليجار المرزبان
وبايعوه ولقّبوه صمصام الدولة. وجاءه الطائع معزيا في أبيه، وبعث أخويه
أبا الحسين أحمد وأبا طاهر فيروز شاه فانتقض أخوهم شرف الدولة بكرمان
في فارس، وسبق إليها أخويه وملكها وأقاما بالأهواز، وقطع خطبة صمصام
الدولة أخيه وخطب لنفسه، وتلقّب تاج الدولة. وبعث إليه صمصام الدولة
عسكرا صحبة علي بن دنقش حاجب أبيه، وبعث شرف الدولة عسكره مع الأمير
أبي الأغر دفليس بن عفيف الأسدي، والتقيا عند قرقوب، فانهزم ابن دنقش
في ربيع سنة ثلاث وسبعين وأسر واستولى أبو الحسن على الأهواز ورامهرمز،
وطمع في الملك. ثم إنّ أسفار بن كردويه من أكابر الديلم قام بدعوة شرف
الدولة ببغداد سنة خمس وسبعين، واستمال كثيرا من العسكر، واتّفقوا على
ولاية أبي نصر بن عضد الدولة نائبا عن أخيه شرف الدولة، وراسلهم صمصام
الدولة في الرجوع عن ذلك فلم يزدهم إلا تماديا. وأجابه فولاد بن
مابدرار أنفة من متابعة أسفار وقاتله فهزمه. وأخذ أبا مضلّ أسيرا
وأحضره عند أخيه صمصام الدولة، واتّهم وزيره ابن سعدان بمداخلتهم
فقتله، ومضى أسفار إلى أبي الحسين بن عضد الدولة وباقي الديلم إلى شرف
الدولة. وسار شرف الدولة إلى الأهواز فملكها من يد أخيه الحسين. ثم ملك
البصرة من يده أخيه أبي طاهر وراسله صمصام الدولة في الصلح فاتفقوا على
الخطبة لشرف الدولة بالعراق، وبعث إليه بالخلع والألقاب من الطائع.
نكبة صمصام الدولة وولاية أخيه شرف الدولة
لما ملك شرف الدولة من يد أخيه أبي طاهر سار إلى واسط فملكها، وعمد
صمصام الدولة إلى أخيه أبي نصر وكان محبوسا عنده فأطلقه وبعثه إلى أخيه
شرف الدولة
(3/536)
بواسط يستعطفه به، فلم يلتفت إليه. وجزع
صمصام الدولة واستشار أصحابه في طاعة أخيه شرف الدولة فخوّفوه عاقبته،
وأشار بعضهم بالصعود إلى عكبرا ثم منها إلى الموصل وبلاد الجبل حتى
يحدث من أمر الله في فتنة بين الأتراك والديلم أو غير ذلك ما يسهل
العود، وأشار بعضهم بمكاتبة عمّه فخر الدولة والمسير على طريق أصبهان
فيخالف شرف الدولة إلى فارس فربّما يقع الصلح على ذلك. فأعرض صمصام
الدولة عن ذلك كله وركب البحر إلى أخيه شرف الدولة فتلقاه وأكرمه. ثم
قبض عليه لأربع سنين من إمارته، وسار إلى بغداد في شهر رمضان من سنة ست
وسبعين فوصلها وأخوه صمصام الدولة في اعتقاله. واستفحل ملكه واستطال
الديلم على الأتراك بكثرتهم فإنّهم بلغوا خمسة عشر ألفا، والأتراك
ثلاثة آلاف. ثم كثرت المنازعات بينهم وعضّ الديلم وقتلوا منهم وغنموا
أموالهم وسار بعضهم فذهب في الأرض، ودخل الآخرون مع شرف الدولة إلى
بغداد، وخرج الطائع لتلقّيه وهنّأه وأصلح شرف الدولة بين الفريقين،
وبعث صمصام الدولة إلى فارس فاعتقل بها واستوزر شرف الدولة أبا منصور
بن صالحان.
ابتداء دولة باد وبني مروان بالموصل
قد تقدّم لنا أنّ عضد الدولة استولى على ملك بني حمدان بالموصل سنة سبع
وستين، ثم استولى على ميافارقين وآمد وسائر ديار بكر من أعمالهم، وعلى
ديار مضر أيضا من أعمالهم سنة ثمان وستين وولّى عليها أبا الوفاء من
قوّاده، وذهب ملك بني حمدان من هذه النواحي وكان في ثغور ديار بكر
جماعة من الأكراد الحميدية مقدّمهم أبو عبد الله الحسين بن دوشتك،
ولقبه باد وكان كثير الغزو بتلك البلاد وإخافة سبلها. وقال ابن الأثير
حدّثني بعض أصدقائنا من الأكراد الحميدية أنّ اسمه باد وكنيته أبو شجاع
وأنّ الحسين هو أخوه وأنّ أوّل أمره أنه ملك أرجيش من بلاد أرمينية
فقوي أهـ-. ولما ملك عضد الدولة الموصل حضر عنده وهمّ بقبضه، ثم سأل
عنه فافتقده وكفّ عن طلبه.
فلما مات عضد الدولة استفحل أمره واستولى على ميافارقين، وكثير من ديار
بكر، ثم على نصيبين. وقال ابن الأثير: سار من أرمينية إلى ديار بكر
فملك ثم ميافارقين، وبعث صمصام الدولة إليه العساكر مع أبي سعيد بهرام
بن أردشير فهزمهم وأسر جماعة منهم، فبعث عساكر أخرى مع أبي القاسم سعيد
بن الحاجب فلقيهم في بلد كواشى وهزمهم، وقتل منهم وأسر، ثم قتل الأسرى
صبرا. ونجا سعيد إلى الموصل وباد
(3/537)
في اتباعه فثار به [1] أهل الموصل نفورا من
سوء سيرة الديلم فهرب منها ودخل باد وملك الموصل. وحدّث نفسه بالمسير
إلى صمصام الدولة ببغداد وانتزاع بغداد من يد الديلم واحتفل فيه ولقيهم
باد في صفر من سنة أربع وسبعين فهزموه وملكوا الموصل.
ولحق باد بديار بكر وجمع عليه عساكر. وكان بنو سيف الدولة بن حمدان
بحلب قد ملكها معهم سعد الدولة ابنه بعد مهلكه، فبعث إليه صمصام الدولة
أن يكفيه أمر باد على أن يسلّم إليه ديار بكر، فبعث سعد الدولة إليه
جيشا فلم يكن لهم طاقة، وزحفوا إلى حلب فبعث سعد الدولة من اغتاله في
مرقده بخيمته من البادية وضربه فاعتل وأشفى على الموت، وبعث إلى سعد
وزياد الأميرين بالموصل فصالحهما على أن تكون ديار بكر والنصف من طور
عبدين لباد، ورجع زياد إلى بغداد وهو الّذي جاء بعساكر الديلم وانهزم
باد أمامه. ثم توفي سعد الحاجب بالموصل سنة سبع وسبعين فتجدّد لباد
الطمع في ملكها، وبعث شرف الدولة على الموصل أبا نصر خواشاذه فدخل
الموصل واستمدّ العساكر والأموال فأبطأت عنه فدعا العرب من بني عقيل
وبني نمير وأقطعهم البلاد ليدافعوا عنها. واستولى باد على طور عبدين
وأقام بالجبل، وبعث أخاه في عسكر لقتال العرب فانهزم وقتل. وبينما
خواشاذه يتجهّز لقتال باد جاءه الجند بموت شرف الدولة. ثم جاء أبو
إبراهيم وأبو الحسين [2] ابنا ناصر الدولة بن حمدان أميرين على الموصل
من قبل بهاء الدولة، وبقيت في ملكهما إلى سنة إحدى وثمانين، فبعث بهاء
الدولة عسكرا مع أبي جعفر الحجّاج بن هرمز فملكها، وزحف إليه أبو
الرواد محمد بن المسيّب أمير بني عقيل فقاتله وبالغ في مدافعته واستمدّ
بهاء الدولة فبعث إليه الوزير أبا القاسم عليّ بن أحمد وسار أوّل سنة
اثنتين وثمانين وكتب إلى أبي جعفر بالقبض عليه بسعاية ابن المعلم، وشعر
الوزير بذلك فصالح أبا الرواد ورجع ووجد بهاء الدولة قد قبض على ابن
المعلّم وقتله.
وفاة شرف الدولة وملك بهاء الدولة
ثم توفي شرف الدولة أبو الفوارس شرزيك [3] بن عضد الدولة في جمادى سنة
تسع.
وسبعين لسنتين وثمانية أشهر من إمارته ودفن بمشهد على بعد أن طالت
علّته
__________
[1] الضمير يعود الى سعيد.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 66: «ابو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله
الحسين» .
[3] أبو الفوارس شيرزيل بن عضد الدولة: ابن الأثير ج 9 ص 61.
(3/538)
بالاستسقاء، وبعث وهو عليل إلى أخيه صمصام
الدولة بفارس فشمله، وبعث ابنه أبا علي إلى بلاد فارس ومعه الخزائن
والعدد وجملة من الأتراك. وسئل شرف الدولة في العهد فملكه وأبي أن يعهد
[1] واستخلف أخاه بهاء الدولة لحفظ الأمور في حياته.
فلما مات قعد في المملكة وجاء الطائع للعزاء وخلع عليه للسلطنة فأقرّ
أبا منصور بن صالحان على وزارته، وبعث أبا طاهر إبراهيم وأبا عبد الله
الحسين ابني ناصر الدولة بن حمدان إلى الموصل، وكان في خدمته شرف
الدولة فاستأذنا بهاء الدولة بعد موته في الإصعاد إلى الموصل فأذن
لهما. ثم ندم على ما فرّط في أمرهما وكتب إلى خواشاذه بمدافعتهما
فامتنعا وجاءا ونزلا بظاهر الموصل. وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك
وخرجوا إلى بني حمدان، وقاتلوا الديلم فهزموهم، وقتل الديلم كثيرا منهم
واعتصم الباقون بدار الإمارة فأخرجوهم على الأمان ولحقوا ببغداد، وملك
بنو حمدان الموصل. وكان أبو علي بن شرف الدولة لما انصرف إلى فارس بلغه
موت ابنه بالبصرة، فبعث العيال والأموال في البحر إلى أرّجان وسار هو
إليها. ثم سار إلى شيراز فوافاه بها عمّه صمصام الدولة وأخوه أبو طاهر
قد أطلقهما الموكّلون بهما ومعهما قولاد، وجاءوا إلى شيراز، واجتمع
عليهم الديلم وخرج أبو علي إلى الأتراك فاجتمعوا عليه، وقاتل صمصام
الدولة والديلم أياما. ثم سار إلى نسا [2] فملكها وقتل الديلم بها. ثم
سار إلى أرّجان وبعث الأتراك إلى شيراز لقتال صمصام الدولة فنهبوا
البلد وعادوا إليه بأرّجان. ثم بعث بهاء الدولة إلى علي ابن أخيه
يستقدمه، واستمال الأتراك سرّا فحملوا أبا علي على المسير إليه فسار في
جمادى سنة ثمانين فأكرمه ثم قبض عليه وقتله.
ثم وقعت الفتنة ببغداد بين الأتراك والديلم واقتتلوا خمسة أيام. ثم
راسلهم بهاء الدولة في الصلح فلم يجيبوا وقتلوا رسله فظاهر الأتراك
عليهم فغلبوهم، واشتدّت شوكة الأتراك من يومئذ وضعف أمر الديلم وصالح
بينهم على ذلك وقبض على بعض الديلم وافترقوا.
__________
[1] المعنى غير واضح والجملة مرتبكة وفي الكامل ج 9 ص 62: «فلما أيس
أصحابه منه اجتمع إليه أعيانهم وسألوه ان يملّك أحدا، فقال: انا في شغل
عمّا تدعونني اليه» .
[2] فسا: المرجع السابق. ج 63.
(3/539)
خروج القادر الى البطيحة
كان إسحاق بن المقتدر لما توفي ترك ابنه أبا العبّاس أحمد الّذي لقّب
بالقادر، فجرت بينه وبين أخت له منازعة في ضيعة، ومرض الطائع مرضا
مخوفا ثم أبلّ فسعت تلك الأخت بأخيها، وأنه طلب الخلافة في مرض الطائع
فأنفذ أبا الحسين بن حاجب النعمان في جماعة للقبض عليه، وكان بالحريم
الظاهري فغلبهم النساء عليه، وخرج من داره متسترا ثم لحق بالبطيحة ونزل
على مهذب الدولة فبالغ في خدمته إلى أن أتاه بشير الخلافة.
فتنة صمصام الدولة
لما تغلّب صمصام الدولة على بلاد فارس وجاء أبو علي شرف الدولة إلى
عمّه بهاء الدولة فقتله كما ذكرنا، سار بهاء الدولة من بغداد إلى
خوزستان سنة ثمانين وثلاثمائة قاصدا بلاد فارس. واستخلف أبا نصر
خواشاذه على بغداد، ولما بلغ خوزستان أتاه نعي أخيه أبي طاهر فجلس
للعزاء به. ثم سار إلى أرّجان فملكها وأخذ ما فيها من الأموال وكان ألف
ألف دينار وثمانية آلاف درهم، وكثيرا من الثياب والجواهر، وشغب الجند
لذلك فأطلق تلك الأموال كلّها لهم، ثم سارت مقدّمته وعليها أبو العلاء
بن الفضل إلى النوبندجان، وبها عسكر صمصام الدولة فانهزموا وثبت أبو
العلاء ابن الفضل في نواحي فارس. ثم بعث صمصام الدولة عسكره وعليهم
قولاد بن مابدان فهزموا أبا العلاء وعاد إلى أرّجان، وجاءه صمصام
الدولة من شيراز إلى قولاد، ثم وقع الصلح على أن يكون لصمصام الدولة
بلاد فارس وأرّجان ولبهاء الدولة خوزستان وما وراءها من ملك العراق،
وأن يكون لكل واحد منهما أقطاع في بلد صاحبه، وتعاقدا على ذلك، ورجع
بهاء الدولة إلى بغداد فوجد الفتنة بين أهل السنّة والشيعة بجانب
بغداد، وقد كثر القتل والنهب والتخريب فأصلح ذلك. وكان قبل سيره إلى
خوزستان قبض على وزيره أبي منصور بن صالحان، واستوزر أبا نصر سابور بن
أردشير، وكان الحكم والتدبير في دولته لأبي الحسين بن المعلّم.
خلع الطائع وبيعة القادر
ثم إنّ بهاء الدولة قلّت عنده الأموال وكثر شغب الجند ومطالباتهم، وقبض
على
(3/540)
وزيره سابور فلم يغن عنه، وامتدّت عيناه
إلى أموال الطائع وهمّ بالقبض عليه، وحسّن له ذلك أبو الحسين بن
المعلّم الغالب على هواه فتقدّم إلى الطائع بالجيوش لحضوره في خدمته
فجلس وجلس بهاء الدولة على كرسيّ، ثم جاء بعض الديلم يقبّل يد الطائع
فجذبه عن سريره وأخرجه، ونهب قصور الخلافة وفشا النهب في الناس، وحمل
الطائع إلى دار بهاء الدولة فأشهد عليه بالخلع سنة إحدى وثمانين لسبع
عشرة سنة وثمانية أشهر من خلافته. وأرسل بهاء الدولة خواص أصحابه إلى
البطيحة ليحضروا القادر باللَّه أبا العبّاس أحمد ابن إسحاق بن المقتدر
ليبايعوه، فجاءوا به بعد أن بايع مهذّب الدولة صاحب البطيحة في خدمته
وسار بهاء الدولة وأعيان الناس لتلقّيه فتلقّوه برحيل، ودخل دار
الخلافة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان، وخطب له صبيحتها وكانت مدّة
إقامته بالبطيحة ثلاث سنين غير شهر، ولم يخطب له بخراسان وأقاموا على
بيعة الطائع فأنزله بحجرة من قصره، ووكّل عليه من يقوم بخدمته على أتمّ
الوجوه، وأجرى أحواله على ما كان عليه في الخلافة إلى أن توفي سنة ثلاث
وتسعين فصلّى عليه ودفنه.
ملك صمصام الدولة الأهواز وعودها لبهاء
الدولة ثم استيلاؤه ثانيا عليها
قد تقدّم لنا ما وقع بين بهاء الدولة وصمصام الدولة من الصلح على أن
يكون له فارس ولبهاء الدولة خوزستان وما وراءها، وذلك سنة ثمان. ولما
كانت سنة ثلاث وثمانين تحيّل بهاء الدولة فبعث أبا العلاء عبد الله بن
الفضل إلى الأهواز على أن يبعث إليه الجيوش مفترقة، فإذا اجتمعت كبس
بلاد فارس على حين غفلة. وشعر صمصام الدولة بذلك قبل اجتماع العساكر،
فبعث عساكره إلى خوزستان، ثم جاءت عساكر العراق والتقوا فانهزم ابو
العلاء، وحمل إلى صمصام الدولة أسيرا فاعتقله، وبعث بهاء الدولة وزيره
أبا نصر بن سابور إلى واسط يحاول له جمع المال فهرب إلى مهذّب الدولة
صاحب البطيحة. ثم كثر شغب الديلم على بهاء الدولة ونهبوا دار الوزير
نصر بن سابور واستعفى واستوزر أبا القاسم عليّ بن أحمد. ثم هرب وعاد
سابور إلى الوزارة وأصلح الديلم، ثم أنفذ بهاء الدولة عسكره إلى
الأهواز سنة أربع وثمانين وعليهم طغان التركي، وانتهوا إلى السوس
فارتحل عنها أصحاب
(3/541)
صمصام الدولة وملكها طغان، وكان أكثر
أصحابه الترك وأكثر أصحاب صمصام الدولة الديلم ومعه تميم وأسد، فزحف
إلى طغان بالأهواز، وأسرى من تستر ليكبس الأتراك الذين مع طغان فقتل في
طريقه [1] وأصبح دونهم بمرأى منهم فركبوا لقتاله وأكمنوا له ثم قاتلوه
فهزموه وفتكوا في الديلم بالقتل حربا وصبرا. وجاء الخبر إلى بهاء
الدولة بواسط فسار إلى الأهواز فترك بها طغان، ورجع ولحق صمصام الدولة
بفارس فاستلحم من وجد بها من الأتراك وهرب فلّهم إلى كرمان، واستأذنوا
ملك السّند في اللحاق بأرضه فأذن لهم، ثم ركب لتلقيهم فقتلهم عن آخرهم.
ثم جهّز صمصام الدولة عساكره إلى الأهواز مع العلاء بن الحسن وكان
أفتكين برامهرمز من قبل بهاء الدولة مكان أبي كاليجار المرزبان بن
سفهيعون [2] وجاء بهاء الدولة إلى خوزستان للعلاء قائد صمصام الدولة،
وكاتبه وكاتب أفتكين وابن مكرم إلى أن قرب منهم، وملك البلد من أيديهم
وأقاموا بظاهرها، واستمدّوا بهاء الدولة فأمدّهم بثمانين من الأتراك
فقتلوهم عن آخرهم، وسار بهاء الدولة نحو الأهواز، ثم عاد إلى البصرة
وعاد ابن مكرم إلى عسكر مكرم والعلاء والديلم في اتّباعه إلى أن جاوزوا
تستر إليه فاقتتلوا طويلا وأصحاب بهاء الدولة من تستر إلى رامهرمز وهم
الأتراك وأصحاب صمصام لدولة من تستر إلى أرّجان فاقتتلوا ستة أشهر
ورجعوا إلى الأهواز ثم رحل الأتراك إلى واسط واتبعهم العلاء قليلا ثم
رجع وأقام بعسكر مكرم.
ملك صمصام الدولة البصرة
لما رحل بهاء الدولة إلى البصرة استأمن كثير من الديلم الذين معه إلى
العلاء نحو من أربعمائة، فبعثهم مع قائده السكرستان [3] الى البصرة
وقاتلوا أصحاب بهاء الدولة.
__________
[1] الظاهر من المعنى ان صمصام الدولة هو الّذي قتل ولكن المقصود غير
ذلك وفي الكامل ج 9 ص 104: «وتوجه صمصام الدولة الى الأهواز ومعه عساكر
الديلم وتميم وأسد. فلما بلغ تستر وصل ليلا ليكبس الأتراك من عسكر بهاء
الدولة. فضلّ الأولاء في الطريق. فأصبح على بعد منهم.
ورأتهم طلائع الأتراك فعادوا بالخبر، فحذروا واجتمعوا. واصطفوا وجعل
مقدّمهم واسمه طغان كمينا.
فلما التقوا واقتتلوا خرج الكمين على الديلم فكانت الهزيمة. وانهزم
صمصام الدولة ومن معه من الديلم.
وكانوا الوفاء كثيرة. واستأمن منهم أكثر من ألفي رجل، وغنم الأتراك من
اثقالهم شيئا كثيرا» .
[2] أبي كاليجار المرزبان بن شهفيروز: ابن الأثير ج 9 ص 112.
[3] لشكرستان: ابن الأثير ج 9 ص 123.
(3/542)
ومال إليهم أهل البلد ومقدّمهم أبو الحسن
بن أبي جعفر العلويّ وارتاب بهم بهاء الدولة فهرب الكثير منهم إلى
السكرستان وحملوه في السفن فأدخلوه البصرة. وخرج بهاء الدولة وأصحابه
فكتب إلى مهذّب الدولة صاحب البطيحة يغريه بالبصرة، فبعث إليها جيشا مع
قائده عبد الله بن مرزوق فغلب عليها السكرستان، وملكها المهذّب الدولة،
ثم عاد السكرستان وقاتلها وكاتب مهذب الدولة بالصلح والطاعة والخطبة له
بالبصرة، وأعطى ابنه رهينة على ذلك، فأجابه وملك البصرة وعسف بهم، وكان
يظهر طاعة صمصام الدولة وبهاء الدولة ومهذّب الدولة. ثم إنّ العلاء ابن
الحسن نائب صمصام الدولة بخوزستان توفي بعسكر مكرم فبعث مكانه أبا علي
إسماعيل بن أستاذهرمز وسار الى جنديسابور فدفع عنها أصحاب بهاء الدولة
وأزاح الأتراك عن ثغر خراسان جملة وعادوا إلى واسط وكاتب جماعة منهم
ففزعوا إليه، ثم زحف إليهم أبو محمد مكرم، والأتراك وجرت بينهم وقائع،
ثم انتقض أبو عليّ إسماعيل بن أستاذ هرمز ورجع إلى طاعة بهاء الدولة
وهو بواسط سنة ثمان وثمانين فاستوزره ودبّر أمره واستدعاه إلى مظاهرة
قائده ابن مكرم بعسكر مكرم، فسار إليه وكانت من إسماعيل خديعة تورّط
فيها بهاء الدولة واستمدّ بدر بن حسنويه، فأمدّه بعض الشيء وكاد يهلك،
ثم جاءه الفرج بقتل صمصام الدولة.
مقتل صمصام الدولة
كان صمصام الدولة بن عضد الدولة مستوليا على فارس كما ذكرناه، وكان أبو
القاسم وأبو نصر ابنا بختيار محبوسين ببعض قلاع فارس، فجرّد الموكّلين
بهما في القلعة وأخرجوا عنها واجتمع إليهما من الأكراد وكان جماعة من
الديلم استوحشوا من صمصام الدولة لما أسقطهم من الديوان، فلحقوا بابني
بختيار وقصدوا أرّجان وتجهّز صمصام الدولة إليهم وكان أبو علي بن استاذ
هرمز مقيما بنسا فثار به الجند، وحبسه ابنا بختيار ثم نجا. وقصد صمصام
الدولة القلعة التي على شيراز ليتمنع فيها إلى أن يأتيه المدد، فلم
يمكنه أن يأتيها من ذلك، وأشار عليه باللحاق بأبي علي بن أستاذ هرمز أو
بالأكراد، وجاءته منهم طائفة فخرج معهم بأمواله فنهبوه وسار إلى
الرودمان على مرحلتين من شيراز. وجاء أبو النصر بن بختيار إلى شيراز
فقبض صاحب الرودمان على صمصام الدولة، وأخذه منه أبو نصر وقتله في ذي
الحجّة سنة ثمان وثمانين لتسع سنين من إمارته على فارس.
(3/543)
استيلاء بهاء الدولة
على فارس
ولما قتل صمصام الدولة وملك ابنا بختيار بلاد فارس، كتبا إلى أبي علي
بن أستاذ هرمز في الأهواز بأخذ الطاعة لهما من الديلم، ومحاربة بهاء
الدولة فخافهما أبو علي بما كان من قتله أخويهما، وأغرى الديلم بطاعة
بهاء الدولة. وراسله واستحلفه لهم فحلف وضمن لهم غائلة الأتراك الذين
معه، وأغراهم بثأر أخيه من ابني بختيار فدخلوا في طاعته، وجاءه وفد من
أعيانهم فاستوثقوا منه وكتبوا إلى من كان بالسوس منهم بذلك. وركب بهاء
الدولة إلى نائب السوس فقاتلوه أوّلا ثم اجتمعوا عليه وساروا إلى
الأهواز ثم إلى رامهرمز وأرّجان، وملكوا سائر بلاد خوزستان. وسار أبو
علي ابن إسماعيل إلى شيراز وقاتلهم وتسرّب إليه أصحاب ابني بختيار
فاستولى على شيراز سنة تسع وثمانين، ولحق أبو نصر بن بختيار ببلاد
الديلم وأبو القاسم ببدر بن حسنويه، ثم بالبطيحة، وكتب أبو علي إلى
بهاء الدولة بالفتح فجاءه وترك شيراز وأحرق قرية الرودمان حيث قتل أخوه
صمصام الدولة، واستأصل أهلها وبعث عسكرا مع أبي الفتح إلى جعفر بن
أستاذ هرمز إلى كرمان فملكها. ولما لحق أبو القاسم بن بختيار ببلاد
الديلم، كاتب من هنالك الديلم الذين بكرمان وفارس تسلمهم فأجابوه وسار
إلى بلاد فارس، واجتمع عليه كثير من الزطّ والديلم والأتراك. ثم سار
إلى كرمان وبها أبو جعفر بن أستاذ هرمز فهزمه إلى السرجان، ومضى ابن
بختيار إلى جيرفت فملكها وأكثر كرمان، وبعث بهاء الدولة الموفّق بن علي
بن إسماعيل في العساكر إلى جيرفت فاستأمن إليه من كان بها من أصحاب
بختيار، وملكها، وتجرّد في جماعة من شجعان أصحابه لاتباع ابن بختيار
فلحقه بدارين، وقاتله فغدر به بعض أصحابه فقتله وحمل رأسه إلى الموفّق،
واستولى على بلاد كرمان وإسماعيل عليها، وعاد إلى بهاء الدولة فتلقّاه
وعظّمه واستعفى الموفّق من الخدمة فلم يعفه، ولجّ الموفق في ذلك فقبض
عليه بهاء الدولة، وكتب إلى وزيره سابور بالقبض على ذويه، ثم قتله سنة
اربع وتسعين واستعمل بهاء الدولة أبا محمد مكرما على عمان.
الخبر عن وزراء بهاء الدولة
قد ذكرنا أنّ بهاء الدولة كان استوزر أبا نصر بن سابور بن أردشير
ببغداد وقبض على وزيره أبي منصور بن صالحان قبل مسيره إلى خوزستان،
وأنّ أبا الحسن بن المعلّم
(3/544)
كان يدبّر دولته وذلك منذ سنة ثمانين،
فاستولى ابن المعلّم على الأمور وانصرفت إليه الوجوه، فأساء السيرة
وسعى في أبي نصر خواشاده وأبي عبد الله بن طاهر فقبضهما بهاء الدولة
مرجعه من خوزستان، وشغب الجند وطلبوا تسليمه إليهم، ولاطفهم فلم يرجعوا
فقبض عليه وسلّمه إليهم فقتلوه وذلك سنة اثنتين وثمانين. ثم قبض على
وزيره أبي نصر بالأهواز سنة إحدى وثمانين، واستوزر أبا القاسم عبد
العزيز بن يوسف، ثم استوزر بعده أبا القاسم علي بن أحمد وقبض عليه سنة
اثنتين وثمانين لاتّهامه بمداخلة الجند في أمر ابن المعلّم، واستوزر
أبا نصر بن سابور وأبا منصور بن صالحان جميعا. وشغب الجند على أبي نصر
ونهبوا داره سنة ثلاث وثمانين فاستعفى رفيقه ابن صالحان فاستوزر أبا
القاسم علي بن أحمد، ثم هرب وعاد أبو نصر إلى الوزارة بعد أن أصلح أمور
الديلم فاستوزر مكانه الفاضل، وقبض عليه سنة ست وثمانين واستوزر أبا
نصر سابور بن أردشير فبقي شهرين، وفرّق أموال بهاء الدولة في القوّاد
ثم هرب إلى البطيحة فاستوزر بهاء الدولة مكانه عيسى بن ماسرخس.
ولاية العراق
كان بهاء الدولة منذ استولى على فارس سنة تسع وثمانين أقام بها وولّى
على خوزستان والعراق أبا جعفر الحجّاج بن هرمز فنزل بغداد ولقيه عميد
الدولة فساءت سيرته وفسدت أموال البلاد وعظمت الفتنة ببغداد بين الشيعة
وأهل السنّة وتطاول الدعّار والعيّارون فعزله بهاء الدولة سنة تسعين،
وولّى مكانه أبا علي الحسن بن أستاذ هرمز، ولقيه عميد الجيوش فأحسن
السيرة وحسم الفتنة، وحمل إلى بهاء الدولة أموالا جليلة. ثم ولّى مكانه
سنة إحدى وتسعين أبا نصر سابور، وثار به الأتراك ببغداد فهرب منهم
ووقعت الفتنة بين أهل الكرخ والأتراك، وكان أهل السنّة مع الأتراك ثم
مشى الأعلام بينهم في الصلح فتهادنوا.
انقراض دول وابتداء أخرى في النواحي
وفي سنة ثمانين ابتدأت دولة بني مروان بديار بكر بعد مقتل خالهم باد،
وقد مرّ ذكره. وفي سنة اثنتين وثمانين انقرضت دولة بني حمدان بالموصل
وابتدئت دولة بني المسيّب من عقيب كما نذكرها. وفي سنة أربع وثمانين
انقرضت دولة بني سامان من
(3/545)
خراسان وابتدئت دولة بني سبكتكين فيها. وفي
سنة تسع وثمانين انقرضت دولة بني سامان مما وراء النهر وانقسمت بنو
سبكتكين وملك الخاقان ملك الترك. وفي سنة ثمان وثمانين ابتدئت دولة بني
حسنويه الأكراد بخراسان. وفي سنة تسع وتسعين كان ابتداء دولة بني صالح
بن مرداس من بني كلاب بحلب كما نستوفي سياقة أخبارهم في دولهم منفردة
كما شرطناه.
ظهور بني مزيد
وفي سنة سبع وثمانين خرج أبو الحسن عليّ بن مزيد في قومه بني أسد ونقض
طاعة بهاء الدولة، فبعث إليه العساكر فهرب أمامهم وأبعد حتى امتنع
عليهم. ثم بعث في الصلح والاستقامة، وراجع الطاعة، ثم رجع إلى انتقاضه
سنة اثنتين وتسعين.
واجتمع مع قراوش بن المقلّد صاحب الموصل وقومه بني عقيل فحاصروا
المدائن. ثم بعث إليهم أبو جعفر الحجّاج وهو نائب بغداد العساكر
فدفعوهم عنها، وخرج الحجّاج واستنجد خفاجة فجاء من الشام وقاتل بني
عقيل وبني أسد فهزموه. ثم خرج إليهم ولقيهم بنواحي الكوفة فهزمهم وأثخن
فيهم بالقتل والأسر، واستباح ملك بني مزيد وظهر في بغداد في مغيب أبي
جعفر من الفتنة والفساد والقتل والنهب ما لا يحصى فكان ذلك السبب في أن
بعث بهاء الدولة أبا علي بن جعفر أستاذ هرمز كما مرّ.
ولقيه عميد الجيوش فسكن الفتنة وأمّن الناس. ولما عزل أبو جعفر أقام
بنواحي الكوفة وارتاب به أبو عليّ فجمع الديلم والأتراك وخفاجة. وسار
إليه واقتتلوا بالنعمانيّة وذلك سنة ثلاث وتسعين، فانهزم أبو جعفر وسار
أبو عليّ إلى خوزستان، ثم إلى السوس، فعاد أبو جعفر إلى الكوفة ورجع
أبو علي في اتباعه فلم تزل الفتنة بينهما، وكلّ واحد منهما يستنجد ببني
عقيل وبني أسد وخفاجة، حتى أرسل بهاء الدولة عن أبي علي وبعثه إلى
البطيحة لفتنة بني واصل كما نذكره في دولتهم. ولما كانت سنة سبع وتسعين
جمع أبو جعفر وسار لحصار بغداد وأمدّه ابن حسنويه أمير الأكراد، وذلك
أنّ عميد الجيوش ولّى على طريق خراسان أبا الفضل بن عنّان، وكان عدوّا
لبدر بن حسنويه فارتاب لذلك، واستدعى أبا جعفر وجمع له جموعا من أمراء
الأكراد منهم هندي بن سعد وأبو عيسى شادي بن محمد، ورزام بن محمد وكان
أبو الحسن عليّ بن مزيد الأسدي انصرف عن بهاء الدولة مغاضبا له، فسار
معهم وكانوا
(3/546)
عشرة آلاف وحاصروا بغداد وبها أبو الفتح بن
عنّان شهرا. ثم جاءهم الخبر بانهزام ابن واصل بالبطيحة الّذي سار عميد
الجيوش إليه فافترقوا، وعاد ابن مزيد إلى بلده وسار أبو جعفر إلى حلوان
وأرسل بهاء الدولة في الطاعة وحضر عنده بتستر فأعرض عنه رغبا لعميد
الجيوش.
فتنة بني مزيد وبني دبيس
كان أبو الغنائم محمد بن مزيد مقيما عند أصهاره بني دبيس في جزيرتهم
بخوزستان، فقتل أبو الغنائم بعض رجالاتهم ولحق بأخيه أبي الحسن، فانحدر
أبو الحسن إليهم في ألفي فارس، واستمدّ عميد الجيوش فأمدّه بعسكر من
الديلم ولقيهم فانهزم أبو الحسن، وقتل أخوه أبو الغنائم.
ظهور دعوة العلوية بالكوفة والموصل
وفي أوّل المائة الخامسة خطب قرواش بن المقلّد أمير بني عقيل لصاحب مصر
الحاكم العلويّ في جميع أعماله: وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة،
فبعث القادر القاضي أبا بكر الباقلاني إلى بهاء الدولة يعرّفه فأكرمه،
وكتب إلى عميد الجيوش بمحاورة قرواش، وأطلق له مائة ألف دينار يستعين
بها. وسار عميد الجيوش لذلك فراجع قرواش الطاعة وقطع خطبة العلويين،
وكان ذلك داعيا في كتابه المحضر بالطعن في نسب العلويّة بمصر، شهد فيه
الرضي والمرتضى وابن البطحاوي وابن الأزرق والزكي وأبو يعلى عمر بن
محمد، ومن العلماء والقضاة ابن الأكفاني وابن الجزري وأبو العبّاس
الأبي وردي وأبو حامد الأسفرايني والكستلي والقدوري والصهيري وأبو عبد
الله البيضاوي وأبو الفضل النسويّ وأبو عبد الله النعمان فقيه الشيعة.
ثم كتب ببغداد محضر آخر بمثل ذلك سنة أربع وأربعين وزيد فيه انتسابهم
إلى الديصانية من المجوس وبني القدّاح من اليهود، وكتب فيه العلويّة
والعبّاسيّة والفقهاء والقضاة وعملت به نسخ وبعث بها إلى البلاد.
وفاة عميد الجيوش وولاية فخر الملك
كان عميد الجيوش أبو علي بن أبي جعفر أستاذ هرمز وكان أبو جعفر هذا من
حجّاب عضد الدولة، وجعل ابنه أبا عليّ في خدمة ابن صمصام الدولة، فلما
قتل رجع إلى
(3/547)
خدمة بهاء الدولة، ولما استولى الخراب على
بغداد وظهر العيّارون بعثه بهاء الدولة عليها فأصلحها وقمع المفسدين.
ومات لثمان سنين ونصف من ولايته إلى أوّل المائة الخامسة. وولّى بهاء
الدولة مكانه بالعراق فخر الملك أبا غالب. فوصل بغداد وأحسن السياسة
واستقامت الأمور به. واتفق لأوّل قدومه وفاة أبي الفتح محمد بن عنّان
صاحب طريق خراسان بحلوان لعشرين سنة من إمارته. وكان كثير الأجلاب على
بغداد. فلما توفي ولّى ابنه أبو الشوك وقام مقامه فبعث فخر الملك
العساكر لقتاله فهزموه إلى حلوان. ثم راجع الطاعة وأصلح حاله.
مقتل فخر الملك وولاية ابن سهلان
كان فخر الملك أبو غالب من أعظم وزراء بني بويه، وولى نيابة بغداد
لسلطان الدولة خمس سنين وأربعة أشهر. ثم قبض عليه وقتله في ربيعة سنة
ست وأربعمائة، وولّى مكانه أبا محمد الحسن بن سهلان ولقبه عميد أصحاب
الجيوش. وسار سنة تسع إلى بغداد وجرد من الطريق مع طراد بن دشير
الأسديّ في طلب مهارش ومضر ابني دشير. وكان مضر قد قبض عليه قديما بأمر
فخر الملك. فأراد أن يأخذ جزيرة بني أسد منه ويولّيها طرادا. فساروا عن
المدار واتبعهم ولحق الحسن بن دبيس آخرهم فأوقع به واستباحة. ثم استأمن
له مضر ومهارش فأمّنهما وأشرك معهما طرادا في الجزيرة، ورجع وأنكر عليه
سلطان الدولة فعله. ووصل إلى واسط والفتنة قائمة فأصلحها. ثم بلغه
اشتداد الفتن ببغداد فسار وأصلحها وكان أمر الديلم قد ضعف ببغداد
وخرجوا إلى واسط.
الفتنة بين سلطان الدولة وأخيه أبي الفوارس
قد ذكرنا ان سلطان الدولة لما ملك بعد أبيه بهاء الدولة ولى أخاه أبا
الفوارس على كرمان. فلما سار إليها اجتمع إليه الديلم وحملوه على
الانتقاض وانتزاع الملك من يد أخيه. فسار سنة ثمان إلى شيراز. ثم سار
منها ولقيه سلطان الدولة فهزمه وعاد إلى كرمان. واتبعه سلطان الدولة
فخرج هاربا من كرمان. ولحق محمود بن سبكتكين مستنجدا به فأكرمه وأمدّه
بالعساكر. وعليهم أبو سعيد الطائي من أعيان قوّاده. فسار إلى كرمان
وملكها. ثم إلى شيراز كذلك. وعاد سلطان الدولة لحربه فهزمه وأخرجه
(3/548)
من بلاد فارس إلى كرمان، وبعث الجيوش في
أثره فانتزعوا كرمان منه. ولحق بشمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه صاحب
همذان، وترك ابن سبكتكين لأنه أساء معاملة قائده أبي سعيد الطائي. ثم
فارق شمس الدولة إلى مهذّب الدولة صاحب البطيحة فأكرمه، وبعث إليه أخوه
جلال الدولة من البصرة مالا وثيابا وعرض عليه المسير إليه فأبى وأرسل
أخاه سلطان الدولة في المراجعة وأعاده إلى ولاية كرمان، وقبض سلطان
الدولة سنة تسع على وزير بن فانجس وإخوته، وولّى مكانه أبا غالب الحسن
بن منصور.
خروج الترك من الصين
وفي سنة ثمان وأربعين خرجت من المفازة التي بين الصين وما وراء النهر
أمّة عظيمة من الترك تزيد على ثلاثمائة ألف خيمة ويسمّون الخيمة
(جذكان) ، ويتخذونها من الجلود. وكان معظمهم من الخطا قد ظهروا في ملك
تركستان، فمرض ملكها طغان فساروا إليها وعاثوا فيها. ثم أبلّ طغان
واستنفر المسلمين من جميع النواحي وسار إليهم في مائة وعشرين ألفا
فهزموا أمامه واتّبعهم مسيرة ثلاثة أشهر، ثم كبسهم فقتل منهم نحوا من
مائتي ألف وأسر مائة ألف، وغنم من الدواب والبيوت وأواني الذهب والفضّة
من معمول الصين ما لا يعبّر عنه.
ملك مشرف الدولة وغلبه على سلطان الدولة
لم يزل سلطان الدولة ثابت القدم في ملكه بالعراق إلى سنة إحدى عشرة
وأربعمائة فشغب عليه الجند ونادوا بشعار أخيه مشرف الدولة فأشير عليه
بحبسه فعفّ عن ذلك وأراد الانحدار إلى واسط فطلبه الجند في الاستخلاف
فاستخلف أخاه مشرف الدولة على العراق، وسار إلى الأهواز، فلمّا بلغ
تستر استوزر سهلان، وقد كان اتفق مع أخيه مشرف الدولة الوزير ابن سهلان
أن لا يستوزره، فاستوحش لذلك مشرف الدولة، وبعث سلطان الدولة الوزير
ابن سهلان ليخرجه من العراق فجمع أتراك واسط وأبا الأغر دبيس بن عليّ
بن مزيد، ولقي ابن سهلان عند واسط فهزمه وحاصره بها حتى اشتدّ حصاره،
وجهده الحصار فصالحه ونزل عن واسط فملكها في ذي الحجّة من سنة إحدى
عشرة. وسار الديلم الذين بواسط في خدمته، وسار أخوه جلال الدولة أبو
طاهر صاحب البصرة إلى وفاته وخطب له ببغداد، وقبض على ابن
(3/549)
سهلان وكحّله. وسار سلطان الدولة إلى
أرّجان ثم رجع إلى الأهواز وثار عليه الأتراك الذين هنالك، ودعوا بشعار
مشرف الدولة، وخرجوا إلى السابلة فأفسدوها، وعاد مشرف الدولة إلى بغداد
فخطب له بها سنة اثنتي عشرة، وطلب منه الديلم أن ينحدروا إلى بيوتهم
بخوزستان فبعث معهم وزيره أبا غالب، فلمّا وصلوا إلى الأهواز انتقضوا
ونادوا بشعار سلطان الدولة، وقتلوا أبا غالب لسنة ونصف من وزارته. ولحق
الأتراك الذين كانوا معه بطراد بن دبيس بالجزيرة. وبلغ سلطان الدولة
قتل أبي غالب وافتراق الديلم فأنفذ ابنه أبا كاليجار إلى الأهواز
وملكها. ثم وقع الصلح بينهما على يد أبي محمد بن أبي مكرم ومؤيد الملك
الرخّجي على أن تكون العراق لمشرف الدولة وفارس وكرمان لسلطان الدولة
واستوزر مشرف الدولة أبا الحسين بن الحسن الرخّجي ولقّبه مؤيد الملك
بعد قتل أبي غالب ومصادرة ابنه أبي العبّاس. ثم قبض عليه سنة أربع عشرة
بعد حول من وزارته بسعاية الأثير الخادم فيه واستوزر مكانه أبا القاسم
الحسين بن عليّ بن الحسين المغربي، كان أبوه من أصحاب سيف الدولة بن
حمدان، وهرب إلى مصر وخدم الحاكم فقتله وهرب ابنه أبو القاسم هذا إلى
الشام، وحمل حسّان بن الفرج الجرّاح الطائي على نقض طاعة الحاكم
والبيعة لأبي الفتوح الحسن بن جعفر العلويّ أمير مكة، فاستقدمه إلى
الرملة وبايعه. ثم خلفه وعاد إلى مكة وقصد أبو القاسم العراق، واتصل
بالوزير فخر الملك وأمره القادر بإبعاده، فلحق بقرواش أمير الموصل،
وكتب له ثم عاد إلى العراق وتنقّلت به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك
الرخّجي، وكان خبيثا محتالا حسودا.
ثم قدم مشرف الدولة إلى بغداد سنة أربع عشرة ولقيه القادر ولم يلق أحدا
قبله.
الخبر عن وحشة الأكراد وفتنة الكوفة
كان الأثير عنبر الخادم مستوليا في دولة مشرف الدولة الوزير أبي القاسم
المغربي عديله في حملها فنقم الأتراك عليهما، وطلب من مشرف الدولة
الخراج [1] من بغداد خوفا على أنفسهما، فخرج معهما غضبا على الأتراك،
ونزلوا على قرواش بالسّندية. واستعظم الأتراك ذلك، وبعثوا بالاعتذار
والرغبة. وقال أبو
__________
[1] مقتضى السياق: الخروج من بغداد.
(3/550)
القاسم المغربي دخل بغداد إنما هو أربعمائة
ألف وخرجها ستمائة فاتركوا مائة واحتمل مائة فأجابوه إلى ذلك خداعا.
وشعر بوصولهم فهرب لعشرة أشهر من وزارته. ثم كانت فتنة بالكوفة بين
العلويّة والعبّاسيّة. وكان لأبي القاسم المغربي صهر وصداقة في
العلويّة فاستعدى العبّاسيون المغربيّ عليهم فلم يعدهم [1] لمكان
المغربي. وأمرهم بالصلح فرجعوا إلى الكوفة. واستمدّ كل واحد منهم خفاجة
فأمدوهم وافترقوا عليهم. واقتتل العلويّة والعبّاسيّة فغلبهم العلويّة
ولحقوا ببغداد. ومنعوا الخطبة يوم الجمعة. وقتلوا بعض قرابة العلويّة
الذين بالكوفة. فعهد القادر للمرتضى أن يصرف أبا الحسن عليّ بن أبي
طالب ابن عمر عن نقابة الكوفة. ويردّها إلى المختار صاحب العبّاسيّة.
وبلغ ذلك المغربي عند قرواش بسرّ من رأى فشرع في إرغام القادر. وبعث
القادر إلى قرواش بطرده فلحق بابن مروان في ديار بكر.
وفاة مشرف الدولة وولاية أخيه جلال الدولة
ثم توفي مشرف الدولة أبو عليّ بن بهاء الدولة سنة ست عشرة في ربيع لخمس
سنين من ملكه، وولّى مكانه بالعراق أخوه أبو طاهر جلال الدولة صاحب
البصرة وخطب له ببغداد، واستقدم فبلغ واسط ثم عاد إلى البصرة فقطعت
خطبته وخطب ببغداد في شوّال لابن أخيه أبي كاليجار بن سلطان الدولة،
وهو بخوزستان يحارب عمّه أبا الفوارس صاحب كرمان. وسمع جلال الدولة
بذلك فبادر إلى بغداد ومعه وزيره أبو سعد ابن ماكولا. ولقيه عسكرها
فردّوه أقبح ردّ ونهبوا خزائنه فعاد إلى البصرة، واستحثوا أبا كاليجار
فتباطأ لشغله بحرب عمّه، وسار إلى كرمان لقتال عمّه فملكها واعتصم عمّه
بالجبال. ثم تراسلا واصطلحا على أن تبقى كرمان لأبي الفوارس وتكون بلاد
فارس لأبي كاليجار.
قدوم جلال الدولة إلى بغداد
ولما رأى الأتراك اختلال الأحوال وضعف الدولة بفتنة العامّة وتسلط
العرب والأكراد بحصار بغداد، وطمعهم فيها وأنّهم بقوا فوضى، وندموا على
ما كان منهم في ردّ جلال الدولة، اجتمعوا إلى الخليفة يرغبون إلى ان
يحضر جلال الدولة من البصرة
__________
[1] أي لم يغيثهم.
(3/551)
ليقيم أمر الدولة فبعث إليه القاضي أبا
جعفر السمناني بالعهد عليه. وعلى القوّاد فسار جلال الدولة إلى بغداد
في جمادى من سنة ثمان عشرة. وركب الخليفة في الطيار لتلقّيه فدخل ونزل
التجيبي وأمر بضرب الطبل في أوقات الصلوات. ومنعه الخليفة من ذلك فقطعه
مغاضبا. ثم أذن له الخليفة فيه فأعاده. وأرسل مؤيد الملك أبا علي
الرخّجي إلى الأثير عنبر الخادم عند قرواش يستدعيه يعتذر عن الأتراك.
ثم شغب الأتراك عليه سنة تسع عشرة وحاصروه بداره وطلبوا من الوزير أبي
علي بن ماكولا أرزاقهم. ونهبوا دوره ودور الكتّاب والحواشي. وبعث
القادر من أصلح بينهم وبينه فسكن شغبهم. ثم خالفوا أبا كاليجار بن
سلطان الدولة إلى البصرة فملكها، ثم ملك كرمان بعد وفاة صاحبها قوام
الدولة أبي الفوارس بن بهاء الدولة كما نذكر في أخبارهم في دولتهم عند
إفرادها بالذكر فنستوفي أخبارهم ودول سائر بني بويه وبني وشمكير وبني
المرزبان وغيرهم من الديلم في النواحي.
مسير جلال الدولة إلى الأهواز
كان نور الدولة دبيس بن عليّ بن مزيد صاحب الحلّة، ولم تكن الحلّة
يومئذ بمدينة، قد خطب لأبي كاليجار لمضايقة المقلّد بن أبي الأغر الحسن
بن مزيد وجمع عليه منيعا أمير بني خفاجة وعساكر بغداد، فخطب هو لأبي
كاليجار واستدعاه لملك واسط وبها الملك العزيز بن جلال الدولة فلحق
بالنعمانيّة وتركها وضيّق عليه نور الدولة من كل جهة فتفرق ناس من
أصحابه وهلك الكثير من أثقاله واستولى أبو كاليجار على واسط ثم خطب له
في البطيحة وأرسل إلى قرواش صاحب الموصل وعنده الأثير عنبر يستدعيهما
إلى بغداد، فانحدر عنبر إلى الكحيل ومات به.
وقعد قرواش وجمع جلال الدولة عساكره ببغداد، واستمدّ أبا الشوك وغيره،
وانحدر إلى واسط وأقام هنالك من غير قتال، وضاقت عليه الأحوال. واعتزم
أبو كاليجار على مخالفته إلى بغداد، وجاءه كتاب أبي الشوك بزحف عساكر
محمود بن سبكتكين إلى العراق، ويشير بالصلح والاجتماع لمدافعتهم، فأنفذ
أبو كاليجار الكتاب لجلال الدولة فلم ينته عن قصده، ودخل الأهواز
فنهبها، وأخذ من دار الإمارة مائتي ألف دينار، واستباح العرب والأكراد
سائر البلد وحمل حريم كاليجار إلى بغداد سبيا فماتت أمه في الطريق.
وسار أبو كاليجار لاعتراض جلال الدولة وتخلّف عنه دبيس
(3/552)
لدفع خفاجة عن أصحابه. واقتتلوا في ربيع
سنة إحدى وعشرين ثلاثة أيام فانهزم أبو كاليجار، وقتل من أصحابه ألفان.
ودبيس لما فارق أبا كاليجار وصل الى بلده وجمع إليه جماعة من قومه،
وكانوا منتقضين عليه بالجامعين فأوقع بهم وحبس منهم وردّهم إلى وفاقه.
ثم لقي المقلّد بن أبي الأغر وعساكر جلال الدولة فانهزم أمامهم وأسر
جماعة من أصحابه، وسار منهزما إلى أبي سنان غريب بن مكين فأصلح حاله مع
جلال الدولة وأعاده إلى ولايته على ضمان عشرة آلاف دينار، وسمع بذلك
المقلّد فجمع خفاجة ونهبوا النيل وسورا وأحرقوا منازلها. ثم عبر
المقلّد إلى أبي الشوك فأصلح أمره مع جلال الدولة. ثم بعث جلال الدولة
سنة إحدى وعشرين عسكره إلى المدار فملكها من يد أصحاب أبي كاليجار،
واستباحوها، وبعث أبو كاليجار عسكره لمدافعتهم فهزموهم وثار أهل البلد
بهم فقتلوهم، ولحق من نجا منهم بواسط وعادت المدار إلى أبي كاليجار.
استيلاء جلال الدولة على البصرة ثانيا
وانتزاعها منه
لما استولى جلال الدولة على واسط نزل بها ولده وبعث وزيره أبا عليّ بن
ماكولا إلى البطائح فملكها. ثم بعثه إلى البصرة وبها أبو منصور بختيار
بن عليّ من قبل أبي كاليجار. فسار في السفن وعليهم أبو عبد الله
الشرابي صاحب البطيحة فلقى بختيار وهزمه. ثم سار الوزير أبو علي في
أثره في السفن فهزمه بختيار. وسيق إليه أسيرا فأكرمه وبعثه إلى أبي
كاليجار فأقام عنده، وقتله غلمانه خوفا منه لقبيح منهم اطلع عليه. وكان
قد أحدث في ولايته رسوما جائرة ومكوسا فاضحة. ولما أصيب الوزير أبو علي
بعث جلال الدولة من كان عنده من جند البصرة فقاتلوا عسكر أبي كاليجار،
وهزموهم وملكوا البصرة ونجا من كان بها إلى أبي منصور بختيار بالأبلّة.
وبعث السفن لقتال من بالبصرة فظفر بهم أصحاب جلال الدولة فسار بختيار
بنفسه وقاتلهم، وانهزم وقتل وأخذ كثير من السفهاء. وعزم الأتراك
بالبصرة على المسير إلى الأبلّة وطلبوا المال من العامل فاختلفوا
وتنازعوا وافترقوا، ورجع صاحب البطيحة، واستأمن آخرون إلى أبي الفرج
ابن مسافجس وزير أبي كاليجار. وجاء إلى البصرة فملكها. ثم توفي بختيار
نائب الملك أبي كاليجار في البصرة، وقام بعده صهره أبو القاسم بطاعة
أبي كاليجار في البصرة. ثم استوحش وانتقض وبعث بالطاعة لجلال
(3/553)
الدولة وخطب له، وبعث إلى ابنه العزيز
بواسط يستدعيه فسار إليه وأخرج عساكر أبي كاليجار وأقام معه إلى سنة
خمس وعشرين والحكم لأبي القاسم. ثم أغراه الديلم به وأنه يتغلّب عليهم،
فأخرجه العزيز وامتنع بالأبلّة وحاربهم أياما، وأخرج العزيز عن البصرة،
ولحق بواسط وعاد أبو القاسم إلى طاعة أبي كاليجار.
وفاة القادر ونصب القائم
ثم توفي القادر باللَّه سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة لإحدى وعشرين سنة
وأربعة أشهر من خلافته، وكانت الخلافة قبلها قد ذهب رونقها بجسارة
الديلم والأتراك عليها، فأعاد إليها أبهتها وجدّد ناموسها، وكان له في
قلوب الناس هيبة. ولما توفي نصّب للخلافة ابنه أبو جعفر عبد الله، وقد
كان أبوه بايع له بالعهد في السنة قبلها لمرض طرقه وأرجف الناس بموته،
فبويع الآن واستقرّت له الخلافة ولقّب القائم بأمر الله.
وأوّل من بايعه الشريف المرتضى. وبعث القاضي أبا الحسن الماوردي إلى
أبي كاليجار ليأخذ عليه البيعة ويخطب له في بلاده. فأجاب وبعث
بالهدايا. ووقعت لأوّل بيعته فتنة بين أهل السنّة والشيعة، وعظم الهرج
والنهب والقتل وخربت فيها أسواق وقتل كثير من جباة المكوس. وأصيب أهل
الكرخ وتطرّق الدعّار إلى كبس المنازل ليلا، وتنادى الجند بكراهية جلال
الدولة وقطع خطبته. ولم يجبهم القائم إلى ذلك وفرّق جلال الدولة فيهم
الأموال فسكنوا، وقعد في بيته وأخرج دوابه من الإصطبل وأطلقها بغير
سائس ولا حافظ لقلّة العلف. وطلب الأتراك منه أن يحملهم في كل وقت
فأطلقها، وكانت خمسة عشر وفقد الجاري فطرد الطواشي والحواشي والأتباع
وأغلق باب داره والفتنة تتزايد إلى آخر السنة.
وثوب الجند بجلال الدولة وخروجه من بغداد
ثم جاء الأتراك سنة ست وعشرين إلى جلال الدولة فنهبوا داره وكتبه
ودواوينه، وطلبوا الوزير أبا إسحاق السهيليّ فهرب إلى حلّة غريب بن
مكين، وخرج جلال الدولة إلى عكبرا وخطبوا ببغداد لأبي كاليجار وهو
بالأهواز واستقدموه فأشار عليه بعض أصحابه بالامتناع فاعتذر إليهم
فأعادوا لجلال الدولة. وساروا إليه معتذرين وأعادوه بعد ثلاثة وأربعين
يوما واستوزر أبا القاسم بن ماكولا، ثم عزله واستوزر
(3/554)
عميد الملك أبا سعيد عبد الرحيم. ثم أمره
بمصادرة أبي المعمّر بن الحسين البساسيري فاعتقله في داره، وجاء
الأتراك لمنعه فضربوا الوزير ومزّقوا ثيابه وأدموه. وركب جلال الدولة
فأطفأ الفتنة وأخذ من البساسيري ألف دينار وأطلقه، واختفى الوزير.
ثم شغب الجند ثانيا في رمضان وأنكروا تقديم الوزير أبي القاسم من غير
علمهم وأنه يريد التعرّض لأموالهم فوثبوا به ونهبوا داره وأخرجوه إلى
مسجد هنالك فوكّلوا به فوثب العامّة مع بعض القوّاد من أصحابه فأطلقوه
وأعادوه إلى داره. وذهب هو في الليل إلى الكرخ بحرمة ووزيره أبو القاسم
معه. واختلف الجند في أمره وأرسلوا إليه بأن يملّكوا بعض أولاده
الأصاغر، وينحدر هو إلى واسط، وهو في خلال ذلك يستميلهم حتى فرّق
جماعتهم، وجاء الكثير إليه فأعادوه إلى داره، واستخلف البساسيري في
جماعة للجانب الغربي سنة خمس وعشرين لاشتداد أمر العيّارين ببغداد،
وكثرة الهرج وكفايته هو ونهضته [1] . ثم عاد أمر الخلافة والسلطنة إلى
أن اضمحل وتلاشى، وخرج بعض الجند إلى قرية فلقيهم أكراد وأخذوا دوابهم
وجاءوا إلى بستان القائم فتعلّلوا على عمّاله بأنهم لم يدفعوا عنهم،
ونهبوا ثمرة البستان، وعجز جلال الدولة عن عتاب الأكراد وعقاب الجند،
وسخط القائم أمره وتقدّم إلى القضاة والشهود والفقهاء بتعطيل المراتب
الدينية، فرغب جلال الدولة من الجند أن يحملهم إلى ديوان الخلافة
فحملوا وأطلقوا، وعظم أمر العيّارين وصاروا في حماية الجند وانتشر
العرب في النواحي فنهبوها وأفسدوا السابلة. وبلغوا جامع المنصور من
البلد، وسلبوا النساء في المقبرة.
ولحق الوزير أبو سعيد وزير جلال الدولة بابي الشوك مفارقا للوزارة،
ووزر بعده أبا القاسم فكثرت مطالبات الجند عليه فهرب وأخذه الجند
وجاءوا به الى دار الملك حاسرا عاريا إلّا من قميص خلق، وذلك لشهرين من
وزارته، وعاد سعيد بن عبد الرحيم إلى الوزارة. ثم ثار الجند سنة سبع
وعشرين بجلال الدولة وأخرجوه من بغداد بعد ان استمهلهم ثلاثا فأبوا
ورموه بالحجارة فأصابوه، ومضى الى دار المرتضى بالكرخ. وسار منها إلى
رافع بن الحسين بن مكن بتكريت، ونهب الأتراك داره، وقلعوا أبوابها، ثم
أصلح القائم شأنه مع الجند، وأعاده وقبض على وزيره أبي سعيد
__________
[1] هكذا بالأصل والعبارة غير واضحة وغير مفهومة وفي الكامل لابن
الأثير ج 9 ص 437: «وفيها استخلف البساسيري في حماية الجانب الغربي
ببغداد لأن العيارين اشتد أمرهم وعظم فسادهم، وعجز عنهم نواب السلطان،
فاستعملوا البساسيري لكفايته ونهضته.»
(3/555)
ابن عبد الرحيم، وهي وزارته السادسة. وفي
هذه السنة نهى القائم عن التعامل بالدنانير المعزيّة، وتقدّم إلى
الشهود أن لا يذكروها في كتب التعامل.
الصلح بين جلال الدولة وأبي كاليجار
ترددت الرسل سنة ثمان وعشرين بين جلال الدولة وابن أخيه أبي كاليجار
حتى انعقد بينهما الصلح على يد القاضي أبي الحسن الماوردي وأبي عبد
الله المردوسي، واستحلف كل واحد منهما للآخر، وأظهر جلال الدولة سنة
تسع وعشرين من القائم الخطاب بملك الملوك فردّ ذلك الى الفتيا، وأجازه
القاضي أبو الطيّب الطبريّ، والقاضي أبو عبد الله الصهيري، والقاضي ابن
البيضاوي وأبو القاسم الكرخي، ومنع منه القاضي أبو الحسن الماوردي وردّ
عليهم فأخذ بفتواهم، وخطب له بملك الملوك. وكان الماوردي من أخصّ الناس
بجلال الدولة، وكان يتردّد إليه. ثم انقطع عنه بهذه الفتيا، ولزم بيته
من رمضان الى النحر فاستدعاه جلال الدولة وحضر خائفا، وشكره على القول
بالحق، وعدم المحاباة، وقد عدت إلى ما تحب فشكره ودعا له، وأذن
للحاضرين بالانصراف معه، وكان الاذن لهم تبعا له.
استيلاء أبي كاليجار على البصرة
وفي سنة إحدى وثلاثين بعث ابو كاليجار عساكره الى البصرة مع العادل أبي
منصور ابن مافنّة، وكانت في ولاية الظهير أبي القاسم بن [1] وليها بعد
بختيار، انتقض عليه مرّة ثم عاد، وكان يحمل إلى أبي كاليجار كل سنة
سبعين ألف دينار، وكثرت أمواله ودامت دولته. ثم تعرّض ملا الحسين بن
أبي القاسم بن مكرم صاحب عمان فكاتب ابا كاليجار وضمن البصرة بزيادة
ثلاثين ألف دينار، وبعث ابو كاليجار العساكر مع ابن مسافيه [2] كما
ذكرنا. وجاء المدد من عمان إلى البصرة، وملكوها وقبض على الظهير أبي
القاسم، وأخذت أمواله وصودر على مائتي ألف دينار فأعطاها، وجاء الملك
أبو كاليجار البصرة فأقام بها أياما وولّى فيها ابنه عزّ الملوك ومعه
الوزير أبو الفرج بن فسانجس، ثم عاد الى الأهواز وحمل معه الظهير.
__________
[1] بياض بالأصل وهو ابو القاسم بن مكرم.
[2] هذا وقد ورد اسمه خطأ: ابن ما فنّه.
(3/556)
شغب الأتراك على
جلال الدولة
ثم شغب الأتراك على جلال الدولة سنة اثنتين وثلاثين وخيّموا بظاهر
البلد ونهبوا منها مواضع. وخيّم جلال الدولة بالجانب الغربي وأراد
الرحيل عن بغداد فمنعه أصحابه فاستمد دبيس بن مزيد وقرواشا صاحب الموصل
فأمدّوه بالعساكر. ثم صلحت الأحوال بينهم وعاد إلى داره وطمع الأتراك
وكثر نهبهم وتعدّيهم وفسدت الأمور بالكلية.
ابتداء دولة السلجوقية
قد تقدّم لنا أنّ أمم الترك في الربع الشرقي الشمالي من المعمور، ما
بين الصين إلى تركستان إلى خوارزم والشاش وفرغانة، وما وراء النهر
بخارى وسمرقند وترمذ، وأن المسلمين أزاحوهم أوّل الملّة عن بلاد ما
وراء النهر وغلبوهم عليها، وبقيت تركستان وكاشغر والشاش وفرغانة
بأيديهم يؤدّون عليها الجزاء [1] . ثم أسلموا عليها فكان لهم بتركستان
ملك ودولة، نذكرها فيما بعد، فإن استفحالها كان في دولة بني سامان
جيرانهم فيما وراء النهر. وكان في المفازة بين تركستان وبلاد الصين أمم
من الترك لا يحصيهم إلا خالقهم لاتساع هذه المفازة وبعد أقطارها فإنّها
فيما يقال مسيرة شهر من كل جهة، فكان هنالك أحياء بادون منتجعون رجالة
غذاؤهم اللحوم والألبان والذرة في بعض الأحيان ومراكبهم الخيل، ومنها
كسبهم وعليها قيامهم وعلى الشاء والبقر من بين الأنعام، فلم يزالوا
بتلك القفار مذودين عن العمران بالحامية، المالكين له في كل جهة. وكان
من أممهم الغز والخطا والتتر وقد تقدّم ذكر هؤلاء الشعوب.
فلما انتهت دولة ملوك تركستان وكان شغر [2] إلى غايتها، وأخذت في
الاضمحلال والتلاشي كما هو شأن الدول وطبيعتها. تقدّم هؤلاء إلى بلاد
تركستان فأجلبوا عليها بما كان غالب معاشهم في تخطّف الناس من السبل،
وتناول الرزق بالرماح شأن أهل القفر البادين، وأقاموا بمفازة بخارى. ثم
انقرضت دولة بني سامان ودولة أهل تركستان. واستولى محمود بن سبكتكين من
قوّاد بني سامان وصنائعهم على ذلك كله. وعبر بعض الأيام إلى بخارى فحضر
عنده أرسلان بن سلجوق فقبض عليه.
__________
[1] جمع جزية.
[2] شغر الناس تفرقوا.
(3/557)
وبعث به إلى بلاد الهند فحبسه، وسار إلى
أحيائه فاستباحها، ولحق بخراسان وسارت العساكر في اتّباعهم فلحقوا
بأصبهان وهمّ صاحبها علاء الدولة بن كالويه بالغدر بهم، وشعروا بذلك
فقاتلوه بأصبهان فغلبهم، فانصرفوا إلى أذربيجان فقاتلهم صاحبها وهشودان
من بني المرزبان. وكانوا لمّا قصدوا أصبهان بقي فلّهم بنواحي خوارزم
فعاثوا في البلاد، وخرج إليهم صاحب طوس وقاتلهم. وجاء محمود بن سبكتكين
فسار في اتّباعهم من رستاق إلى جرجان، ورجع عنهم، ثم استأمنوا
فاستخدمهم وتقدّمهم يغمر، وأنزل ابنه بالريّ. ثم مات محمود وولي أخوه
مسعود، وشغل بحروب الهند فانتقضوا وبعث إليهم قائدا في العساكر، وكانوا
يسمّون العراقية وأمراؤهم يومئذ كوكاش ومرقا وكول ويغمر وباصعكي،
ووصلوا إلى الدامغان فاستباحوها، ثم سمنان، ثم عاثوا في أعمال الريّ
واجتمع صاحب طبرستان وصاحب الريّ مع قائد مسعود وقاتلوهم فهزمهم الغزّ
وفتكوا فيهم وقصدوا الريّ فملكوه، وهرب صاحبه إلى بعض قلاعه فتحصّن
بها، وذلك سنة ست وعشرين وأربعمائة.
واستألفهم علاء الدولة بن كالويه ليدافع بهم ابن سبكتكين فأجابوه
أوّلا، ثم انتقضوا. وأمّا الذين قصدوا أذربيجان منهم، ومقدّموهم بوقا
وكوكباش [1] ومنصور ودانا فاستألفهم وهشودان ليستظهر بهم، فلم يحصل على
بغيته من ذلك. وساروا إلى مراغة سنة تسع وعشرين فاستباحوها، ونالوا من
الأكراد الهديانيّة فحاربوهم وغلبوهم وافترقوا فرقتين، فرجع بوقا إلى
أصحابهم الذين بالريّ، وسار منصور وكوكباش إلى همذان، وبها أبو كاليجار
بن علاء الدولة بن كالويه فظاهرهم على حصاره متّى خسرو بن مجد الدولة
فلمّا جهده الحصار لحق بأصبهان وترك البلد فدخلوها واستباحوها، وفعلوا
في الكرخ مثل ذلك، وحاصروا قزوين حتى أطاعوهم وبذلوا لهم سبعة آلاف
دينار. وسار طائفة منهم إلى بلد الأرمن فاستباحوها وأثخنوا فيها ورجعوا
إلى أرمينية. ثم رجعوا من الريّ إلى حصار همذان فتركها أبو كاليجار
وملكوها سنة ثلاثين ومعهم متى خسرو المذكور فاستباحوا تلك النواحي إلى
أستراباذ، وقاتلهم أبو الفتح بن أبي الشوك صاحب الدّينور فهزمهم وأسر
منهم وصالحوه على إطلاق أسراهم. ثم مكروا بأبي كاليجار أن يكون معهم
ويدبّر أمرهم، وغدروا به ونهبوه.
وخرج علاء الدولة من أصبهان فلقي طائفة منهم فأوقع بهم وأثخن فيهم
وأوقع وهشودان بمن كان منهم في أذربيجان وظفر بهم الأكراد وأثخنوا
فيهم. وفرّقوا
__________
[1] وفي الكامل ج 9 ص 379: كوكتاش.
(3/558)
جماعتهم. ثم توفي كول أمير الفرق الذين
بالري، وكانوا لما أجازوا من وراء النهر إلى خراسان بقي بمواطنهم
الأولى هنالك طغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق وإخوته داود وسعدان وينال
وهمغري فخرجوا إلى خراسان من بعدهم. وكانوا اشدّ منهم شوكة وأقوى عليهم
سلطانا فسار ينال أخو طغرلبك إلى الريّ فهربوا إلى أذربيجان ثم إلى
جزيرة ابن عمر وديار بكر. ومكر سليمان بن نصير الدولة بن مروان صاحب
الجزيرة بمنصور بن غزّ علي منهم فحبسه وافترق أصحابه، وبعث قرواش صاحب
الموصل إليهم جيشه فطردهم وافترقت جموعهم، ولحق الغزّ بديار بكر
وأثخنوا فيها، وأطلق نصير الدولة أميرهم منصورا من يد ابنه فلم ينتفع
منهم بذلك. وقاتلهم صاحب الموصل فحاصروه ثم ركب في السفين ونجا إلى
السّند وملكوا البلد وعاثوا فيها. وبعث قراوش إلى الملك جلال الدولة
يستنجده، وإلى دبيس بن مزيد وأمراء العرب.
وفرض الغزّ على أهل الموصل عشرين ألف دينار فثار الناس بهم، وكان
كوكباش قد فارق الموصل فرجع ودخلها عنوة في رجب سنة خمس وثلاثين، وأفحش
في القتل والنهب. وكانوا يخطبون للخليفة ولطغرلبك بعده، فكتب الملك
جلال الدولة إلى طغرلبك يشكو له بأحوالهم، فكتب إليه أنّ هؤلاء الغز
كانوا في خدمتنا وطاعتنا حتى حدث بيننا وبين محمود بن سبكتكين ما
علمتم، ونهضنا إليه، وساروا في خدمتنا في نواحي خراسان فتجاوزوا حدود
الطاعة وملكة الهيبة، ولا بدّ من إنزال العقوبة بهم.
وبعث إلى نصير الدولة بعده يكفّهم عنه. وسار دبيس بن مزيد وبنو عقيل
إلى قرواش حاجب الموصل وقعد جلال الدولة عن إنجاده لما نزل به من
الأتراك. وسمع الغزّ بجموع قرواش فبعثوا إلى من كان بديار بكر منهم
واجتمعوا إليهم، واقتتل الفريقان فانهزم العرب أوّل النهار، ثم أتيحت
لهم الكرّة على الغزّ فهزموهم واستباحوهم وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا،
واتّبعهم قرواش إلى نصيبين ورجع عنهم فساروا إلى ديار بكر وبلاد الأرمن
والروم، وكثر عيثهم فيها وكان طغرلبك وإخوته لما جاءوا إلى خراسان طالت
الحروب بينهم وبين عساكر بني سبكتكين حتى غلبوهم وحصل لهم الظفر،
وهزموا سياوشي حاجب مسعود آخر هزائمهم، وملكوا هراة فهرب عنها سياوشي
الحاجب ولحق بغزنة، وزحف إليهم مسعود ودخلوا البرية، ولم يزل في
اتّباعهم ثلاث سنين. ثم انتهزوا فيه الفرصة باختلاف عسكره يوما على
الماء فانهزموا وغنموا عسكره وسار طغرلبك إلى نيسابور سنة إحدى وثلاثين
فملكها وسكن
(3/559)
السادياج، وخطب له بالسلطان الأعظم العمّال
في النواحي. وكان الدعار قد اشتدّ ضررهم بنيسابور فسدّ أمرهم وحسم
عللهم، واستولى السلجوقية على جميع البلاد.
وسار بيقو إلى هراة فملكها وسار داود إلى بلخ وبها القوتباق حاجب مسعود
فحاصره، وعجز مسعود عن إمداده فسلّم البلد لداود، واستقلّ السلجوقية
بملك البلاد أجمع. ثم ملك طغرلبك طبرستان وجرجان من يد أنوشروان بن
متوجهر قابوس، وضمنها أنوشروان بثلاثين ألف دينار، وولّى على جرجان
مرداويج من أصحابه بخمسين ألف دينار، وبعث القائم القاضي أبا الحسن
الماوردي إلى طغرلبك فقرّر الصلح بينه وبين جلال الدولة القائم بدولته
ورجع بطاعته.
فتنة قرواش مع جلال الدولة
كان قرواش قد أنفذ عسكره سنة إحدى وثلاثين لحصار خميس بن ثعلب بتكريت،
واستغاث بجلال الدولة، وأمر قرواشا بالكفّ عنه فلم يفعل وسار لحصاره
بنفسه.
وبعث إلى الأتراك ببغداد يستفسدهم على جلال الدولة فاطلع على ذلك فبعث
أبا الحرث أرسلان البساسيري في صفر سنة اثنتين وثلاثين للقبض على نائب
قرواش بالسندسيّة، واعترضه العرب فمنعوه ورجع وأقاموا بين صرصر وبغداد
يفسدون السابلة، وجمع جلال الدولة العساكر وخرج إلى الأنبار وبها قرواش
فحاصرها. ثم اختلفت عقيل على قرواش فرجع إلى مصالحة جلال الدولة.
وفاة جلال الدولة وملك أبي كاليجار
لمّا قلّت الجبايات ببغداد مدّ جلال الدولة يده إلى الجوالي فأخذها
وكانت خاصة بالخليفة. ثم توفي جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة في
شعبان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة لسبع عشرة من ملكه. ولما مات خاف
حاشيته من الأتراك والعامّة فانتقل الوزير كمال الملك بن عبد الرحيم
وأصحابه الأكابر إلى حرم دار الخلافة، واجتمع القوّاد للمدافعة عنهم
وكاتبوا الملك العزيز أبا منصور بن جلال الدولة في واسط بالطاعة
واستقدموه وطلبوا حتى البيعة فراوضهم فيها، فكاتبهم أبو كاليجار عنها
فعدلوا إليه، وجاء العزيز من واسط وانتهى إلى النعمانيّة فغدر به
عسكره، ورجعوا إلى واسط وخطبوا لأبي كاليجار. وسار العزيز إلى دبيس بن
مزيد، ثم إلى
(3/560)
قرواش بن المقلّد، ثم فارقه إلى أبي الشوك
فغدر به فسار إلى ينال أخي طغرلبك فأقام عنده مدّة. ثم قصد بغداد
مختفيا فظهر على بعض أصحابه فقتله، ولحق هو بنصير الدولة بن مروان
فتوفي عنده بميافارقين سنة إحدى وأربعين. وأمّا أبو كاليجار فخطب له
ببغداد في صفر سنة ست وثلاثين. وبعث إلى الخليفة بعشرة آلاف دينار
وبأموال أخرى فرقت إلى الجند ولقّبه القائم بمحي الدين، وخطب له أبو
الشوك ودبيس بن مزيد ونصير الدولة بن مروان بأعمالهم. وسار إلى بغداد
ومعه وزيره أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن فسانجس. وهمّ القائم
لاستقباله فاستعفى من ذلك، وخلع على أرباب الجيوش، وهم البساسيري
والنساوري والهمّام أبو اللقاء. وأخرج عميد الدولة أبا سعيد من بغداد
فمضى إلى تكريت، وعاد أبو منصور بن علاء الدولة بن كالويه صاحب أصبهان
إلى طاعته، وخطب له على منبره انحرافا عن طغرلبك. ثم راجعه بعد الحصار
واصطلحا على مال يحمله، وبعث أبو كاليجار إلى السلطان طغرلبك في الصلح
وزوّجه ابنته فأجاب وتمّ بينهما سنة تسع وثلاثين.
وفاة أبي كاليجار وملك ابنه الملك الرحيم
كان أبو كاليجار والمرزبان بن سلطان الدولة قد سارا سنة أربعين إلى
نواحي كرمان، وكان صاحبها بهرام بن لشكرستان من وجوه الديلم قد منع
الحمل فتنكّر له أبو كاليجار، وبعث إلى أبي كاليجار يحتمي به، وهو
بقلعة برد شير فملكها من يده، وقتل بهرام بعض الجند الذين ظهر منهم على
الميل لأبي كاليجار فسار إليه ومرض في طريقه، ومات بمدينة جنايا في سنة
أربعين لأربع سنين وثلاثة أشهر من ملكه. ولما توفي نهب الأتراك معسكره
وانتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى مخيم الوزير أبي منصور، وأرادوا
نهبه فمنعهم الديلم، وساروا إلى شيراز فملكها أبو منصور واستوحش الوزير
منه فلحق ببعض قلاعه، وامتنع بها، ووصل خبر وفاة أبي كاليجار إلى بغداد
وبها ولده الملك الرحيم أبو نصر خسرو فيروز فبايع له الجند وبعث إلى
الخليفة في الخطبة والتلقّب بالملك الرحيم فأجابه إلى ما سأل إلّا
اللقب بالرحيم للمانع الشرعي من ذلك. واستقرّ ملكه بالعراق وخوزستان
والبصرة، وكان بها أخوه أبو علي، واستولى أخوه أبو منصور كما ذكرنا على
شيراز فبعث الملك الرحيم أخاه أبا سعد في العساكر فملكها، وقبض على
أخيه أبي منصور، وسار العزيز جلال الدولة من
(3/561)
عند قرواش إلى البصرة فدافعه أبو علي بن
كاليجار عنها. ثم سار الملك الرحيم إلى خوزستان. وأطاعه من بها من
الجند وكثرت الفتنة ببغداد بين أهل السنّة والشيعة.
مسير الملك الرحيم الى فارس
ثم سار الملك الرحيم من الأهواز إلى فارس سنة إحدى وأربعين، وخيّم
بظاهر شيراز.
ووقعت فتنة بين أتراك شيراز وبغداد فرحل أتراك بغداد إلى العراق.
وتبعهم الملك الرحيم لانحرافه عن أتراك شيراز. وكان أيضا منحرفا عن
الديلم بفارس لميلهم إلى أخيه فلاستون بإصطخر، وانتهى إلى الأهواز
فأقام بها واستخلف بأرّجان أخويه أبا سعد وأبا طالب فزحف إليهما أخوهما
فلاستون، وخرج الملك الرحيم من الأهواز إلى رامهرمز للقائهم فلقيهم
وانهزم إلى البصرة، ثم إلى واسط. وسارت عساكر فارس إلى الأهواز فملكوها
وخيّموا بظاهرها. ثم شغبوا على أبي منصور، وجاء بعضهم إلى الملك الرحيم
فبعث إلى بغداد واستقرّ الجند الذين بها، وسار إلى الأهواز فملكها
وأقام ينتظر عسكر بغداد. ثم سار إلى عسكر مكرم فملكها سنة اثنتين
وأربعين. ثم تقدّم سنة ثلاث وأربعين ومعه دبيس بن مزيد والبساسيري
وغيرهما. وسار هزارشب بن تنكير ومنصور بن الحسين الأسدي فيمن معهما من
الديلم والأكراد من أرّجان إلى تستر فسبقهم الملك الرحيم إليها وغلبهم
عليها. ثم زحف في عسكر هزارشب فوافاه أميره أبو منصور بمدينة شيراز
فاضطربوا ورجعوا. ولحق منهم جماعة بالملك الرحيم فبعث عساكر إلى
رامهرمز وبها أصحاب أبي منصور فحاصرها وملكها في ربيع سنة ثلاث
وأربعين. ثم بعث أخاه أبا سعد في العساكر إلى بلاد فارس لأنّ أخاه أبا
نصر خسرو كان بإصطخر، ضجر من تغلّب هزارشب بن تنكير صاحب أخيه أبي
منصور فكتب إلى أخيه الملك الرحيم بالطاعة فبعث إليه أخاه أبا سعد
فأدخله إصطخر وملكه. ثم اجتمع أبو منصور فلاستون وهزارشب ومنصور بن
الحسين الأسدي، وساروا للقاء الملك الرحيم بالأهواز، واستمدّوا السلطان
طغرلبك وأبوا طاعته، فبعث إليهم عسكرا، وكان قد ملك أصبهان واستطال
وافترق كثير من أصحاب الملك الرحيم عنه، مثل البساسيري ودبيس بن مزيد
والعرب والأكراد وبقي في الديلم الأهوازية وبعض الأتراك من بغداد ورأى
أن يعود من عسكر مكرم إلى الأهواز ليتحصّن بها وينتظر عسكر بغداد. ثم
بعث أخاه أبا سعد إلى فارس كما ذكرنا ليشغل أبا منصور
(3/562)
وهزارشب ومن معهما عن قصده فلم يعرجوا على
ذلك. وساروا إليه بالأهواز وقاتلهم فانهزم الى واسط ونهب الأهواز وفقد
في الواقعة الوزير كمال الملك أبو المعالي عبد الرحيم فلم يوقف له على
خبر. وسار أبو منصور وأصحابه إلى شيراز لأجل أبي سعد وأصحابه فلقيهم
قريبا منها، وهزمهم مرّات واستأمن إليه الكثير منهم، واعتصم أبو منصور
ببعض القلاع وأعيدت الخطبة بالأهواز للملك الرحيم، واستدعاه الجند بها
وعظمت الفتنة ببغداد بين أهل السنّة والشيعة في غيبة الملك الرحيم
واقتتلوا، وبعث القائم نقيب العلويين ونقيب العبّاسيّين لكشف الأمر
بينهما فلم يوقف على يقين في ذلك. وزاد الأمر وأحرقت مشاهد العظماء من
أهل البيت، وبلغ الخبر إلى دبيس ابن مزيد فاتّهم القائم بالمداهنة في
ذلك فقطع الخطبة له ثم عوتب فاستعتب وعاد إلى حاله.
مهادنة طغرلبك للقائم
قد تقدّم لنا شأن الغزّ واستيلائهم على خراسان من يد بني سبكتكين عام
اثنتين وثلاثين، ثم استيلاء طغرلبك على أصبهان من يد ابن كالويه سنة
اثنتين وأربعين.
ثم بعث السلطان طغرلبك أرسلان بن أخيه داود إلى بلاد فارس فافتتحها سنة
اثنتين وأربعين، واستلحم من كان بها من الديلم، ونزل مدينة نسا وبعث
إليه القائم بأمر الله بالخلع والألقاب، وولّاه على ما غلب عليه فبعث
إليه طغرلبك بعشرة آلاف دينار، وأعلاق نفيسة من الجواهر والثياب
والطيب، وإلى الحاشية بخمسة آلاف دينار، وللوزير رئيس الرؤساء بألفين،
وحضروا العيد في سنة ثلاث وأربعين ببغداد فأمر الخليفة بالاحتفال في
الزينة والمراكب والسلاح. ثم سار الغزّ سنة أربع وأربعين إلى شيراز
وبها الأمير أبو سعد أخو الملك الرحيم فقاتلهم وهزمهم كما نذكر في
أخبارهم.
استيلاء الملك الرحيم على البصرة من يد
أخيه
ثم بعث الملك الرحيم سنة أربع وأربعين جيوشه إلى البصرة مع بصيرة
البساسيري فحاصروا بها أخاه أبا عليّ وقاتلوا عسكره في السفن فهزموهم
وملكوا عليهم دجلة والأنهر. وجاء الملك الرحيم فالعسكر في البرّ
واستأمن إليه قبائل ربيعة ومضر فأمّنهم وملك البصرة، وجاءته رسل الديلم
بخوزستان بطاعتهم. ومضى أخوه أبو علي إلى
(3/563)
شطّ عمان وتحصّن به فسار إليه الملك
الرحيم، وملك عليه شط عمان ولحق بعبادان، وسار منها إلى أرّجان. ثم لحق
بالسلطان طغرلبك بأصبهان فأكرمه وأصهر إليه، وأقطع له وأنزله بقلعة من
أعمال جرباذقان. وولّى الملك الرحيم وزيره البساسيري على البصرة، وسار
إلى الأهواز وأرسل منصور بن الحسين وهزارشب في تسليم أرّجان وتستر
فتسلمها واصطلحا. وكان المقدّم على أرّجان فولاذ بن خسرو من الديلم
فرجع إلى طاعة الملك الرحيم سنة خمس وأربعين.
فتنة ابن أبي الشوك ثم طاعته
كان سعدي بن أبي الشوك قد أعطى طاعته للسلطان طغرلبك بنواحي الريّ،
وسار في خدمته، وبعثه سنة أربع وأربعين في العساكر إلى نواحي العراق
فبلغ النعمانيّة وكثر عيثه، وراسله ملد [1] من بني عقيل قرابة قريش بن
بدران في الاستظهار له على قريش ومهلهل أخي أبي الشوك فوعدهم، فسار
إليهم مهلهل وأوقع بهم على عكبرا فساروا الى سعدى وشكوا اليه وهو على
سامرا فسار وأوقع بعمّه مهلهل وأسره وعاد إلى حلوان وهمّ الملك الرحيم
بتجهيز العساكر إليه بحلوان واستقدم دبيس بن مزيد لذلك. ثم عظمت الفتنة
سنة خمس وأربعين ببغداد من أهل الكرخ وأهل السنّة، ودخلها طوائف من
الأتراك، وعمّ الشرّ واطرحت مراقبة السلطان، وركب القوّاد لحسم العلّة
فقتلوا علويا من أهل الكرخ فنادت نساؤه بالويل فقاتلهم العامّة، وأضرم
النار في الكرخ بعض الأتراك فاحترق جميعه. ثم بعث القائم وسكن الأمر،
وكان مهلهل لما أسر سار ابنه بدر إلى طغرلبك وابن سعدي كان عنده رهينة،
وبعث إلى سعدي بإطلاق مهلهل عند ذلك، فامتنع سعدي من ذلك وانتقض على
طغرلبك، وسار من همذان إلى حلوان وقاتلها فامتنعت عليه، فكاتب الملك
الرحيم بالطاعة ولحقه عساكر طغرلبك فهزموه، ولحق ببعض القلاع هنالك
وسار بدر في اتباعه إلى شهرزور، ثم جاءه الخبر بأنّ جمعا من الأكراد
والأتراك قد أفسدوا السابلة وأكثروا العيث، فخرج إليهم البساسيري
واتبعهم إلى البواريج وأوقع بالطوائف منهم واستباحهم وعبروا الزاب فلم
يمكنه العود إليهم ونجوا.
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 590: «فأرسل إليه ولده مع أولاد
الزّرير ومطر يشكون إليه ما عاملهم به عمّه مهلهل وقريش بن بدران» .
(3/564)
فتنة الأتراك
وفي سنة ست وأربعين شغب الأتراك على وزير الملك الرحيم في مطالبة
أرزاقهم واستعدوه عليه فلم يعدهم فشكوا من الديوان وانصرفوا مغضبين،
وباكروا من الغد لحصار دار الخليفة، وحضر البساسيري واستكشف حال الوزير
فلم يقف له على خبر. وكبست الدور في طلبه فكان ذلك وسيلة للأتراك في
نهب دور الناس. واجتمع أهل المحال لمنعهم، ونهاهم الخليفة فلم ينتهوا
فهمّ بالرحلة عن بغداد. ثم ظهر الوزير وأنصفهم في أرزاقهم فتمادوا على
بغيهم وعسفهم، واشتدّ عيث الأكراد والأعراب في النواحي فخربت البلاد،
وتفرّق أهلها، وأغار أصحاب ابن بدران بالبرد وكبسوا حلل كامل بن محمد
بن المسيّب ونهبوها. ونهبوا في جملتها ظهرا وأنعاما للبساسيري وانحل
أمر الملك والسلطنة بالكلية.
استيلاء طغرلبك على أذربيجان وعلى أرمينية
والموصل
سار طغرلبك سنة أربعين إلى أذربيجان فأطاعه صاحب قبرير أبو منصور
وشهودان ابن محمد [1] وخطب له ورهن ولده عنده. ثم أطاعه صاحب جنده [2]
أبو الأسوار ثم تبايع سائر النواحي على الطاعة وأخذ رهنهم. وسار إلى
أرمينية فحاصر ملازكرد [3] وامتنعت عليه فخرّب ما جاورها من البلاد.
وبعث إليه نصير الدولة بن مروان بالهدايا وقد كان دخل في طاعته من قبل
وسار السلطان طغرلبك لغزو بلاد الروم واكتسحها الى أن أردن الروم، ورجع
إلى أذربيجان ثم إلى الريّ، وخطب له قريش بن بدران صاحب الموصل في جميع
أعماله وزحف إلى الأنبار ففتحها ونهب ما فيها البساسيري فانتقض لذلك
وسار في العساكر إلى الأنبار فاستعاده من يده.
__________
[1] بياض بالأصل والأسماء محرفة وفي الكامل ج 9 ص 598: «في هذه السنة-
445- سار طغرلبك الى آذربيجان، فقصد تبريز وصاحبها الأمير أبو منصور
وهسوذان بن محمد الرواديّ، فأطاعه وخطب له وحمل اليه ما أرضاه به.»
[2] جنزة: المرجع السابق.
[3] ملازكرد: المرجع السابق ص 599.
(3/565)
وحشة البساسيري
كان أبو الغنائم وأبو سعد ابنا المجلبان صاحبي قريش بن بدران وبعثهما
إلى القائم سرّا من البساسيري بما فعل بالأنبار فانتقض البساسيري لذلك،
واستوحش من القائم ومن رئيس الرؤساء، وأسقط مشاهراتهم ومشاهرة حواشيهم،
وهمّ بهدم منازل بني المجلبان. ثم أقسر وسار إلى الأنبار وبها أبو
القاسم بن المجلبان، وجاءه دبيس بن مزيد ممدّا له فحاصر الأنبار وفتحها
عنوة ونهبها وأسر من أهلها خمسمائة، ومائة من بني خفاجة وأسر أبا
الغنائم وجاء به إلى بغداد فأدخله على جمل، وشفع دبيس بن مزيد في قتله،
وجاء إلى مقابل التاج من دار الخليفة فقبل الأرض وعاد إلى منزله.
وصول الغز الى الدسكرة ونواحي بغداد
وفي شوّال من سنة ست وأربعين وصل صاحب حلوان من الغزّ وهو إبراهيم بن
إسحاق إلى الدسكرة فافتتحها ونهبها وصادر النساء. ثم سار إلى رسغباد
[1] وقلعة البردان وهي لسعدي ابن أبي الشوك، وبها أمواله فامتنعت عليه
فخرّب ما حولها من القرى ونهبها. وقوي طمع الغزّ في البلاد وضعف أمر
الديلم والأتراك. ثم بعث طغرلبك أبا عليّ بن أبي كاليجار الّذي كان
بالبصرة في جيش من الغزّ إلى خوزستان فاستولى على الأهواز وملكها ونهب
الغزّ الذين معه أموال الناس ولقوا منهم عناء.
استيلاء الملك الرحيم على شيراز
وفي سنة سبع وأربعين سار فولاذ الّذي كان بقلعة إصطخر من الديلم. وقد
ذكرناه إلى شيراز فملكها من يد أبي منصور فولاستون بن أبي كاليجار.
وكان خطب بها للسلطان طغرلبك فخطب فولاذ بها للملك الرحيم ولأخيه أبي
سعد يخادعهما بذلك.
وكان أبو سعد بأرّجان فاجتمع هو وأخوه أبو منصور على حصار شيراز في
طاعة أخيهما الملك واشتدّ الحصار على فولاذ وعدمت الأقوات فهرب عنها
إلى قلعة إصطخر وملك الأخوان شيراز وخطبا لأخيهما الملك الرحيم.
__________
[1] روشنقباذ: ابن الأثير ج 9 ص 603.
(3/566)
وثوب الأتراك ببغداد
بالبساسيري
قد ذكرنا تأكد الوحشة بين البساسيري ورئيس الرؤساء. ثم تأكدت سنة سبع
وأربعين وعظمت الفتنة بالجانب الشرقي بين العامّة وبين أهل السنّة
للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحضروا الديوان حتى أذن لهم في ذلك
وتعرّضوا لبعض سفن البساسيري منحدرة إليه بواسط، وكشفوا فيها عن جرار
خمر، فجاءوا إلى أصحاب الديوان الذين أمروا بمساعدتهم واستدعوهم لكسرها
فكسروها، واستوحش لذلك البساسيري ونسبه إلى رئيس الرؤساء. واستفتى
الفقهاء في أنّ ذلك تعدّ على سفينته فأفتاه الحنفية بذلك. ووضع رئيس
الرؤساء الأعيان على البساسيري بإذن من دار الخلافة، وأظهر معايبه.
وبالغوا في ذلك، ثم قصدوا في رمضان دور البساسيري بإذن من دار الخلافة
فنهبوها وأحرقوها، ووكّلوا بحرمة وحاشيته وأعلن رئيس الرؤساء بذمّ
البساسيري وأنه يكاتب المستنصر صاحب مصر فبعث القائم إلى الملك الرحيم
فأمره بإبعاده فأبعده.
استيلاء السلطان طغرلبك على بغداد والخلعة
والخطبة له
قد ذكرنا من قبل رجوع السلطان طغرلبك من غزو الروم إلى الريّ، ثم رجع
إلى همذان، ثم سار إلى حلوان عازما على الحجّ والاجتياز بالشام لإزالته
من يد العلوية.
وأجفل الناس إلى غربيّ بغداد، وعظم الإرجاف ببغداد ونواحيها، وخيّم
الأتراك بظاهر البلد. وجاء الملك الرحيم من واسط بعد أن طرد البساسيري
عنه كما أمره القائم فسار إلى بلد دبيس بن مزيد لصهر بينهما. وبعث
طغرلبك إلى لقائهما بالطاعة وإلى الأتراك بالمقاربة والوعد فلم يقبلوا،
وطلبوا من القائم إعادة البساسيري لأنه كبيرهم. ولما وصل الملك الرحيم
سأل من الخليفة إصلاح أمره مع السلطان طغرلبك فأشار القائم بأن يقوّض
الأجناد خيامهم ويخيّموا بالحريم الخلافي، ويبعثوا جميعا إلى طغرلبك
بالطاعة، فقبلوا إشارته وبعثوا إلى طغرلبك بذلك فأجاب بالقبول
والإحسان. وأمر القائم بالخطبة لطغرلبك على منابر بغداد فخطب آخر رمضان
من سنة سبع وأربعين، واستأذن في لقاء الخليفة وخرج إليه رؤساء الناس في
موكب من القضاة
(3/567)
والفقهاء والأشراف وأعيان الديلم. وبعث
طغرلبك للقائم وزيره أبا نصر الكندريّ وأبلغه رسالة القائم واستخلفه له
وللملك الرحيم وأمراء الأجناد. ودخل طغرلبك بغداد ونزل بباب الشمّاسيّة
لخمس بقين من رمضان، وجاء هنالك قريش بن بدران صاحب الموصل وكان من قبل
في طاعته.
القبض على الملك الرحيم وانقراض دولة بني
بويه
ولما نزل طغرلبك بغداد وافترق أهل عسكره في البلد يقضون بعض حاجاتهم،
فوقعت بينهم وبين بعض العامّة منازعة فصاحوا بهم ورجموهم، وظنّ الناس
أنّ الملك الرحيم قد اعتزم على قتال طغرلبك فتواثبوا بالغزّ من كل جهة.
إلّا أهل الكرخ فإنهم سألوا [1] من وقع إليهم من الغز. وأرسل عميد
الملك وزير طغرلبك عن عدنان ابن الرضي نقيب العلويّين، وكان مسكنه
بالكرخ فشكره عن السلطان طغرلبك.
ودخل أعيان الديلم وأصحاب الملك الرحيم إلى دار الخلافة نفيا للتهمة
عنهم.
وركب أصحاب طغرلبك فقاتلوا العامّة وهزموهم وقتلوا منهم خلقا ونهبوا
سائر الدروب ودور رئيس الرؤساء وأصحابه والرصافة، ودور الخلفاء، وكان
بها أموال الناس نقلت إليها للحرمة فنهب الجميع، واشتدّ البلاء وعظم
الخوف وأرسل طغرلبك إلى القائم بالعتاب ونسبة ما وقع إلى الملك الرحيم
والديلم، وأنهم انحرفوا، وكانوا برآء من ذلك. وتقدّم إليهم الخليفة
بالحضور عند طغرلبك مع رسوله، فلمّا وصلوا إلى الخيام نهبها الغزّ
ونهبوا رسل القائم معهم، ثم قبض طغرلبك على الملك الرحيم ومن معه، وبعث
بالملك الرحيم إلى قلعة السيروان فحبس بها وكان ذلك لست سنين من ملكه.
ونهب في تلك الهيعة قريش بن بدران صاحب الموصل، ومن معه من العرب، ونجا
سليبا إلى خيمة بدر بن المهلهل، واتصل بطغرلبك خبره فأرسل إليه وخلع
عليه وأعاده الى مخيّمه، وبعث القائم إلى طغرلبك بإنكار ما وقع في
إخفار ذمّته في الملك الرحيم وأصحابه، وأنه يتحوّل عن بغداد فأطلق له
بعضهم
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 611: «وأقبلوا من كل حدب ينسلون
يقتلون من الغزّ من وجد في محال بغداد، إلا أهل الكرخ فإنّهم لم
يتعرّضوا الى الغزّ، بل جمعوهم وحفظوهم.»
(3/568)
بلكسكسالربه [1] وأنزع الاقطاعات من يد
أصحابه الملك الرحيم فلحقوا بالبساسيري وكثر جمعه، وبعث طغرلبك إلى
دبيس بالطاعة وإنفاذ البساسيري فخطب له في بلاده، وطرد البساسيري فسار
إلى رحبة ملك، وكاتب المستنصر العلويّ صاحب مصر وأمر طغرلبك بأخذ أموال
الأتراك الجند وأهملهم وانتشر الغزّ السلجوقية في سواد بغداد فنهبوا
الجانب الغربي من تكريت إلى النيل، والجانب الشرقي إلى النهر وأنات [2]
وخرّب السواد وانجلى أهله وضمن السلطان طغرلبك البصرة والأهواز من
هزارشب بن شكر بن عياض [3] بثلاثمائة وستين ألف دينار، وأقطعه أرّجان،
وأمره أن يخطب لنفسه بالأهواز دون ما سواها. وأقطع أبا علي بن كاليجار
ويسين [4] وأعمالها وأمر أهل الكرخ بزيادة الصلاة خير من النوم في نداء
الصبح، وأمر بعمارة دار المملكة وانتقل إليها في شوّال. وتوفي ذخيرة
الدين أبو العباس محمد بن القائم باللَّه في ذي القعدة من هذه السنة.
ثم انكح السلطان طغرلبك من القائم باللَّه خديجة بنت أخيه داود واسمها
أرسلان خاتون، وحضر للعقد عميد الملك الكندي وزير طغرلبك وأبو علي بن
أبي كاليجار وهزارشب بن شكر بن عياض الكرديّ وابن أبي الشوك وغيرهم من
أمراء الأتراك من عسكر طغرلبك. وخطب رئيس الرؤساء وولي العقد وقبل
الخليفة بنفسه. وحضر نقيب النقباء أبو علي بن أبي تمّام، ونقيب
العلويّين عدنان ابن الرضي [5] والقاضي أبو الحسن الماوردي وغيرهم.
انتقاض أبي الغنائم بواسط
كان رئيس الرؤساء سعى لأبي الغنائم بن المجلبان في ولاية واسط
وأعمالها، فوليها وصادر أعيانها، وجنّد جماعة وتقوّى بأهل البطيحة،
وخندق على واسط، وخطب
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 613: «وأرسل الخليفة إلى السلطان
ينكر ما جرى من قبض الرحيم وأصحابه ونهب بغداد، ويقول: إنهم إنما خرجوا
إليك بأمري وأماني، فإن أطلقتهم، وإلا فأنا أفارق بغداد، فاني إنما
اخترتك واستدعيتك اعتقادا مني أنّ تعظيم الأوامر الشريفة يزداد، وحرمة
الحريم تعظم، وأرى الأمر بالضد، فأطلق بعضهم، وأخذ جميع إقطاعات عسكر
الرحيم، وأمرهم بالسعي في أرزاق يحصّلونها لأنفسهم. فتوجه كثير منهم
الى البساسيري ولزموه، فكثر جمعه ونفق سوقه.»
[2] ومن الشرقي الى النهروان: المرجع السابق.
[3] هزارسب بن بنكير بن عياض: المرجع السابق.
[4] قرميسين: المرجع السابق ص 614.
[5] وهو عدنان بن الشريف الرضي.
(3/569)
للمستنصر العلويّ بمصر فسار أبو نصر عميد
العراق لحربه فهزمه وأسر من أصحابه.
ووصل الى السور فحاصره حتى تسلّم البلد. ومرّ أبو الغنائم ومعه الوزير
ابن فسانجس ورجع عميد العراق إلى بغداد بعد أن ولّى على واسط منصور بن
الحسين فعاد ابن فسانجس إلى واسط وأعاد خطبة العلويّ وقتل من وجده من
الغزّ. ومضى منصور بن الحسين إلى المدار وبعث يطلب المدد فكتب إليه
عميد العراق ورئيس الرؤساء بحصار واسط فحاصرها، وقاتله ابن فسانجس
فهزمه وضيّق حصاره. واستأمن إليه جماعة من أهل واسط فملكها وهرب فسانجس
واتبعوه فأدركوه وحمل إلى بغداد في صفر سنة ست وأربعين فشهّر وقتل.
الوقعة بين البساسيري وقطلمش
وفي سلخ شوّال من سنة ثمان وأربعين سار قطلمش وهو ابن عم السلطان
طغرلبك وجدّ بني قليج أرسلان ملوك البلاد الروم، فسار ومعه قريش بن
بدران صاحب الموصل لقتال البساسيري ودبيس، وسار بهم إلى الموصل وخطبوا
بها للمستنصر العلويّ صاحب مصر وبعث إليهم بالخلع. وكان معهم جابر بن
ناشب وأبو الحسن وعبد الرحيم [1] وأبو الفتح ابن ورائر [2] ونصر بن عمر
ومحمد بن حمّاد.
مسير طغرلبك إلى الموصل
لما كان السلطان طغرلبك قد ثقلت وطأته على العامّة ببغداد، وفشا الضرر
والأذى فيهم من معسكره فكاتبه القائم يعظه ويذكّره، ويصف له ما الناس
فيه فأجابه السلطان بالاعتذار بكثرة العساكر. ثم رأى رؤيا في ليلته
كأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يوبّخه على ذلك. فبعث وزيره عميد الملك
إلى القائم بطاعة أمره فيما أمر، وأخرج الجند من وراء العامّة ورفع
المصادرات. ثم بلغه خبر وقعة قطلمش مع البساسيري وانحراف قريش صاحب
الموصل إلى العلويّة، فتجهز وسار عن بغداد ثلاثة عشر شهر من نزوله
عليها، ونهبت عساكره أوانا وعكبرا، وحاصر تكريت حتى رجع صاحبها نصر بن
عيسى إلى الدعوة العبّاسيّة، وقتله السلطان، ورجع
__________
[1] هو أبو الحسن بن عبد الرحيم.
[2] ابو الفتح بن ورّام: ابن الأثير ج 9 ص 626.
(3/570)
عنه إلى البواريج فتوفي نصر وخافت أمّه
غريبة بنت غريب بن حكن [1] أن يملك البلد أخوه أبو الغشّام، فاستخلفت
أبا الغنائم بن المجلبان ولحقت بالموصل، ونزلت على دبيس بن مزيد. وأرسل
أبو الغنائم رئيس الرؤساء فأصلح حاله ورجع إلى بغداد وسلّم له تكريت،
وأقام السلطان بالبواريخ [2] إلى سنة تسع وأربعين، وجاءه أخوه ياقوتي
في العساكر فسار إلى الموصل، وأقطع مدينة بلد هزارشب بن شكر الكردي،
وأراد العسكر نهبها فمنعهم السلطان. ثم أذن لهم في اللحاق إلى الموصل،
وتوجه إلى نصيبين، وبعث هزارشب إلى البرّيّة في ألف فارس ليصيب من
العرب، فسار حتى قارب رحالهم، وأكمن الكمائن، وقاتلهم ساعة. ثم استطرهم
واتّبعوه فخرجت عليهم الكمائن فانهزموا وأثخن فيهم الغزّ بالقتل
والأسر. وكان فيهم جماعة من بني نمير أصحاب حرّان والرقّة، وحمل الأسرى
إلى السلطان فقتلهم أجمعين. ثم بعث دبيس وقريش إلى هزارشب يستعطف لهم
السلطان فقبل السلطان ذلك منهما، وورد أمر البساسيري إلى الخليفة ومعه
الأتراك البغداديون، وقتل ابن المقلّد وجماعة من عقيل إلى الرحبة،
وأرسل السلطان إليهما أبا الفتح بن ورّام يستخبرهما فجاء بطاعتهما،
وبمسير هزارشب إليهما فأذن له السلطان في المسير، وجاء إليهما
واستحلفهما وحثّهما على الحضور فخافا. وأرسل قريش أبا السيد هبة الله
بن جعفر، ودبيس ابنه منصورا فأكرمهما السلطان، وكتب لهما بأعمالهما.
وكان لقريش نهر الملك وباذروبا والأنبار وهيت ودجيل ونهر بيطر وعكبرا
وأوانا وتكريت والموصل ونصيبين. ثم سار السلطان إلى ديار بكر فحاصر
جزيرة ابن عمر، وبعث إليه يستعطفه ويبذل له المال، وجاء إبراهيم ينال
أخو السلطان وهو محاصر، ولقيه الأمراء والناس، وبعث هزارشب إلى دبيس
وقريش يحذرهما فانحدر دبيس إلى بلده بالعراق. وأقام قريش عند البساسيري
بالرحبة ومعه ابنه مسلم، وشكا قطلمش ما أصاب أهل سنجار منه عند هزيمته
أمام قريش ودبيس، فبعث العساكر إليها، وحاصرها ففتحها عنوة واستباحها،
وقتل أميرها عليّ بن مرجى [3] وشفع إبراهيم في الباقين فتركها وسلّمها
الله وسلّم معها الموصل وأعمالها ورجع إلى بغداد في سنة تسع وأربعين
فخرج رئيس
__________
[1] اميرة بنت غريب بن مقن: ابن الأثير ج 9 ص 627.
[2] تردد هذا الاسم في محلات عديدة البواريخ وهي البواريج كما عند ابن
الأثير ج 9 ص 627.
[3] مجلى بن مرجا: ابن الأثير ج 9 ص 631.
(3/571)
الرؤساء للقائه عن القائم، وبلغه سلامه
وهديته، وهي جام من ذهب فيه جواهر، وألبسه لباس الخليفة وعمامته فقبل
السلطان ذلك بالشكر والخضوع والدعاء، وطلب لقاء الخليفة، فأسعف وجلس له
جلوسا فخما. وجاء السلطان في البحر فقرّب له لما نزل من السهيرية من
مراكب الخليفة، والقائم على سرير علوّه سبعة أذرع متوشحا البردة وبيده
القضيب، وقبالته كرسيّ لجلوس السلطان فقبّل الأرض وجلس على الكرسي،
وقال له رئيس الرؤساء عن القائم: أمير المؤمنين شاكر لسعيك حامد لفعلك
مستأنس بقربك، وولّاك ما ولّاه الله من بلاده، وردّ إليك مراعاة عباده
فاتق الله فيما ولّاك واعرف نعمته عليك، واجتهد في نشر العدل وكفّ
الظلم وإصلاح الرعيّة، فقبّل الأرض، وأفيضت عليه الخلع وخوطب بملك
المشرق والمغرب، وقبّل يد الخليفة ووضعها على عينيه ودفع إليه كتاب
العهد، وخرج فبعث إلى القائم خمسين ألف دينار وخمسين مملوكا من الأتراك
منتقين بخيولهم وسلاحهم، إلى ما في معنى ذلك من الثياب والطيب وغيرهما.
فتنة ينال مع أخيه طغرلبك ومقتله
كان إبراهيم ينال قد ملك بلاد الجبل وهمذان واستولى على الجهات من
نواحيها إلى حلوان أعوام سنة سبع وثلاثين. ثم استوحش من السلطان طغرلبك
بما طلب منه أن يسلّم إليه مدينة همذان والقلاع فأبى من ذلك ينال، وجمع
جموعا وتلاقيا فانهزم ينال وتحصّن بقلعة سرماج فملكها عليه بعد الحصار،
واستنزله منها، وذلك سنة إحدى وأربعين. وأحسن إليه طغرلبك وخيّره بين
المقام معه أو اقطاع الأعمال فاختار المقام.
ثم لمّا ملك طغرلبك بغداد وخطب له بها سنة سبع وأربعين، أخرج إليه
البساسيري مع قريش بن بدران صاحب الموصل ودبيس بن مزيد صاحب الحلّة،
وسار طغرلبك إليهم من بغداد، ولحقه أخوه إبراهيم ينال فلمّا ملك الموصل
سلّمها إليه وجعلها لنظره مع سنجار والرحبة وسائر تلك الأعمال التي
لقريش، ورجع إلى بغداد سنة تسع وأربعين. ثم بلغه سنة خمسين بعدها أنّه
سار إلى بلاد الجبل فاستراب به وبعث إليه يستقدمه بكتابه وكتاب القائم
مع العهد الكندي فقدم معه. وفي خلال ذلك قصد البساسيري وقريش بن بدران
الموصل فملكاها جفلوا عنها فاتبعهم إلى نصيبين، وخالفه أخوه إبراهيم
ينال إلى همذان في رمضان سنة خمسين. يقال إنّ
(3/572)
العلويّ صاحب مصر والبساسيري كاتبوه
واستمالوه وأطمعوه في السلطنة، فسار السلطان في اتباعه من نصيبين، وردّ
وزيره عميد الملك الكندي وزوجته خاتون إلى بغداد، ووصل إلى همذان ولحق
به من كان ببغداد من الأتراك فحاصر همذان في قلعة من العسكر، واجتمع
لأخيه خلق كثير من الترك وحلف لهم أن لا يصالح طغرلبك ولا يدخل بهم
العراق لكثرة نفقاته. وجاءه محمد وأحمد ابنا أخيه أرباش بأمداد من
الغزّ فقوي بهم، ووهن طغرلبك فأفرج عنه إلى الريّ، وكاتب إلى أرسلان
ابن أخيه داود، وقد كان ملك خراسان بعد أبيه سنة إحدى وخمسين كما يذكر
في أخبارهم، فزحف إليه في العساكر ومعه أخواه ياقوت وقاروت بك، ولقيهم
إبراهيم فيمن معه فانهزم، وجيء به وبابني أخيه محمد وأحمد أسرى إلى
طغرلبك فقتلهم جميعا ورجع إلى بغداد لاسترجاع القائم.
دخول البساسيري بغداد وخلع القائم ثم عوده
قد ذكرنا أنّ طغرلبك سار إلى همذان لقتال أخيه وترك وزيره عميد الملك
الكندي ببغداد مع الخليفة، وكان البساسيري وقريش بن بدران فارقا الموصل
عند زحف السلطان طغرلبك إليهما، فلما سار عن بغداد لقتال أخيه بهمذان
خالفه البساسيري وقريش إلى بغداد فكثر الإرجاف بذلك، وبعث عن دبيس بن
مزيد حاجبه ببغداد ونزلوا بالجانب الشرقي، وطلب من القائم الخروج معه
إلى إحيائه، واستدعى هزارشب من واسط للمدافعة، واستمهل في ذلك فقال
العرب: لا نشير فأشيروا بنظركم، وجاء البساسيري ثامن ذي القعدة سنة
خمسين في أربعمائة غلام على غاية من سوء الحال ومعه أبو الحسين بن عبد
الرحيم، وجاء حسين بن بدران في مائة فارس وخيّموا مفترقين عن البلد،
واجتمع العسكر والقوم إلى عميد العراق، وأقاموا إزاء البساسيري وخطب
البساسيري ببغداد للمستنصر العلويّ صاحب مصر بجامع المنصور، ثم
بالرصافة، وأمر بالأذان بحيّ على خير العمل، وخيّم بالزاهر، وكان هوى
البساسيري لمذاهب الشيعة، وترك أهل السنّة للانحراف عن الأتراك فرأى
الكندي المطاولة لانتظار السلطان، ورأى رئيس الرؤساء المناجزة وكان غير
بصير بالحرب، فخرج لقتالهم في غفلة من الكنديّ، فانهزم وقتل من أصحابه
خلق، ونهب باب الأزج وهو باب الخلافة.
(3/573)
وهرب أهل الحريم الخلافي فاستدعى القائم
العميد الكندي للمدافعة عن دار الخلافة فلم يرعهم إلّا اقتحام العدوّ
عليهم من الباب النوبي، فركب الخليفة ولبس السواد، والنهب قد وصل باب
الفردوس، والعميد الكندي قد استأمن الى قريش فرجع ونادى بقريش من السور
فاستأمن إليه على لسان رئيس الرؤساء، واستأمن هو أيضا معه، وخرجا إليه
وسارا معه ونكر البساسيري على قريش نقضه لما تعاهدا عليه، فقال: إنما
تعاهدنا على الشركة فيما يستولي عليه، وهذا رئيس الرؤساء لك والخليفة
لي.
ولما حضر رئيس الرؤساء عند البساسيري وبّخه وسأله العفو فأبى منه، وحمل
قريش القائم الى معسكره على هيئته، ووضع خاتون بنت أخي السلطان طغرلبك
في يد بعض الثقات من خواصّه وأمره بخدمتها، وبعث القائم ابن عمّه مهارش
فسار به إلى بلده حديثة خان وأنزله بها. وأقام البساسيري ببغداد وصلّى
عيد النحر بالألوية المصريّة وأحسن إلى الناس وأجرى أرزاق الفقهاء ولم
يتعصّب المذهب. وأنزل أمّ القائم بدارها وسهّل جرايتها، وولى محمود بن
الأفرم على الكوفة، وسعى الفرات وأخرج رئيس الرؤساء من محبسه آخر ذي
الحجة فصلبه عند التجيبيّ لخمسين سنة من تردّده في الوزارة. وكان ابن
ماكولا قد قبل شهادته سنة أربع عشرة، وبعث البساسيري الى المستنصر
العلويّ بالفتح والخطبة له بالعراق، وكان هنالك أبو الغرج ابن أخي أبي
القائم المغربي، فاستهان بفعله وخوّفه عاقبته، وأبطأت أجوبته مدّة، ثم
جاءت بغير ما أمل، وسار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكها،
وأراد قصر الأهواز فبعث صاحبها هزارشب بن شكر فأصلح أمره على مال
يحمله. ورجع البساسيري إلى واسط في شعبان سنة إحدى وخمسين، وفارقه صدقة
بن منصور بن الحسين الأسدي إلى هزارشب، وقد كان ولّى بغداد أباه على ما
يذكر. ثم جاء الخبر إلى البساسيري بظفر طغرلبك بأخيه، وبعث إليه والي
قريش في إعادة الخليفة إلى داره، ويقيم طغرلبك، وتكون الخطبة والسكّة
له فأبى البساسيري من ذلك، فسار طغرلبك إلى العراق، وانتهى إلى قصر
شيرين، وأجفل الناس بين يديه. ورحل أهل الكرخ بأهليهم وأولادهم برّا
وبحرا، وكثر عيث بني شيبان في الناس، وارتحل البساسيري بأهله وولده
ساوس ذي القعدة سنة إحدى وخمسين لحول كامل.
من دخوله وكثر الهرج في المدينة والنهب والإحراق. ورحل طغرلبك إلى
بغداد بعد أن
(3/574)
أرسل من طريقه الأستاذ أحمد بن محمد بن
أيوب المعروف بابن فورك إلى قريش بن بدران بالشكر على فعله في القائم
وفي خاتون بنت أخيه زوجة القائم، وأنّ أبا بكر بن فورك جاء بإحضارهما
والقيام بخدمتهما، وقد كان قريش بعث إلى مهارش بأن يدخل معهم إلى
البريّة بالخليفة ليصدّ ذلك طغرلبك عن العراق، ويتحكّم عليه بما يريد
فأبى مهارش لنقض البساسيري عهوده، واعتذر بأنه قد عاهد الخليفة القائم
بما لا يمكن نقضه ورحل بالخليفة إلى العراق، وجعل طريقه على بدران بن
مهلهل. وجاء أبو فورك إلى بدر فحمله معه إلى الخليفة وأبلغه رسالة
طغرلبك وهداياه، وبعث طغرلبك للقائه وزيره الكنديّ والأمراء والحجّاب
بالخيام والسرادقات والمقرّبات بالمراكب الذهبيّة فلقوه في بلد بدر. ثم
خرج السلطان فلقيه بالنهروان واعتذر عن تأخّره بوفاة أخيه داود بخراسان
وعصيان إبراهيم بهمذان، وأنه قتله على عصيان. وأقام حتى رتّب أولاد
داود في مملكته وقال إنه يسير إلى الشام في اتّباع البساسيري. وطلب
صاحب مصر فقلّده القائم سيفه إذ لم يجد سواه، وأبدى وجهه للأمراء
فحيّوه وانصرفوا. وتقدّم طغرلبك إلى بغداد فجلس في الباب النوبي مكان
الحاجب، وجاء القائم فأخذ طغرلبك بلجام بغلته إلى باب داره وذلك لخمس
بقين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وسار السلطان إلى معسكره وأخذ في
تدبير أموره.
مقتل البساسيري
ثم أرسل السلطان طغرلبك خمارتكين في ألفين إلى الكوفة، واستقرّ معه
سرايا بن منيع في بني خفاجة، وسار السلطان طغرلبك في أثرهم فلم يشعر
دبيس وقريش والبساسيري- وقد كانوا نهبوا الكوفة- إلّا والعساكر قد طلعت
عليهم من طريق الكوفة، فأجفلوا نحو البطيحة. وسار دبيس ليردّ العرب إلى
القتال فلم يرجعوا، ومضى معهم، ووقف البساسيري وقريش فقتل من أصحابهما
جماعة وأسر أبو الفتح ابن ورّام ومنصور بن بدران وحمّاد بن دبيس، وأصاب
البساسيري سهم فسقط عن فرسه، وأخذ رأسه لمتنكيرز [1] وأتى العميد
الكندريّ وحمله إلى السلطان، وغنم العسكر جميع أموالهم وأهليهم، وحمل
رأس البساسيري إلى دار الخلافة فعلّق قبالة
__________
[1] كمشتكين: ابن الأثير ج 9 ص 649.
(3/575)
النوبي في منتصف ذي الحجة. ولحق دبيس
بالبطيحة ومعه زعيم الملك أبو الحسن عبد الرحيم، وكان هذا البساسيري من
مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة اسمه أرسلان وكنيته أبو الحرث ونسبه
في الترك. وهذه النسبة المعروفة له نسبة إلى مدينة بفارس حرفها الأوّل
متوسّط بين الفاء والباء، والنسبة إليها فسوي، ومنها أبو علي الفارسيّ
صاحب الإيضاح. وكان أوّلا ينسب إليها فلذلك قيل فيه هو بساسيري [1] .
مسير السلطان الى واسط وطاعة دبيس
ثم انحدر السلطان الى واسط أول سنة اثنتين وخمسين وحضر عنده هزارشب بن
شكر من الأهواز، وأصلح حال دبيس بن مزيد وصدقة بن منصور بن الحسين،
أحضرهما عند السلطان وضمن واسط أبو علي بن فضلان بمائتي ألف دينار،
وضمن البصرة الأغر أبو سعد سابور بن المظفّر، وأصعد السلطان إلى بغداد،
واجتمع بالخليفة، ثم سار إلى بلد الجبل في ربيع سنة اثنتين وخمسين.
وأنزل ببغداد الأمير برسو شحنة، وضمن أبو الفتح المظفّر بن الحسين في
ثلاث سنين بأربعمائة ألف دينار، وردّ إلى محمود الأخرم إمارة بني
خفاجة، وولّاه الكوفة وسقى الفرات وخواصّ السلطان بأربعة آلاف دينار في
كل سنة.
وزارة القائم
ولما عاد القائم إلى بغداد ولّى أبا تراب الأشيري على الأنهار وحضور
المراكب، ولقّبه حاجب الحجّاب، وكان خدمه بالحديثة ثم سعى الشيخ أبو
منصور في وزارة أبي الفتح بن أحمد بن دارست على أن يحمل مالا فأجيب
وأحضر من الأهواز في منتصف ربيع من سنة ثلاث وخمسين فاستوزره وكان من
قبل تاجرا لأبي كاليجار، ثم ظهر عجزه في استيفاء الأموال فعزله، وعاد
إلى الأهواز. وقدّم أثر ذلك أبو نصر بن جهير وزير نصير الدولة بن مروان
نازعا منه إلى الخليفة القائم فقبله واستوزره، ولقّبه فخر الدولة.
__________
[1] عبارة أبي الفداء بسا، وهي بالعربية فسا من اللباب. بفتح الباء
الموحدة والسين المهملة، ثم ألف.
ومدينة فسا عن ابن حوقل أكبر مدينة في كورة دارابجرد، وتقارب في الكبر
شيراز. وفي اللباب ينسب إليها بالعربية فسوي، وأهل فارس ينسبون اليها
البساسيري، وسيد أرسلان التركي من فسا فنسب الغلام اليه، واشتهر
بالبساسيري، والبساسيري المذكور له ذكر مشهور في التواريخ وهو الّذي
خطب لخلفاء مصر في بغداد، وطرد القائم العباسي عن بغداد، أهـ. باختصار.
(3/576)
عقد طغرلبك على ابنه
الخليفة
كان السلطان طغرلبك قد خطب من القائم ابنته على يد أبي سعد قاضي الريّ
سنة ثلاث وخمسين، فاستنكف من ذلك. ثم بعث أبا محمد التميمي في
الاستعفاء من ذلك وإلّا فيشترط ثلاثمائة ألف دينار وواسط وأعمالها.
فلما ذكر التميمي ذلك للوزير عميد الملك بنى الأمر على الإجابة قال:
ولا يحسن الاستعفاء، ولا يليق بالخليفة طلب المال، وأخبر السلطان بذلك
فسرّ به وأشاعه في الناس ولقّب وزيره عميد الملك وأتى أرسلان خاتون
زوجة القائم ومعه مائة ألف ألف دينار وما يناسبها من الجواهر والجوار،
وبعث معهم قرامرد بن كاكويه [1] وغيره من أمراء الريّ، فلمّا وصلوا إلى
القائم استشاط وهمّ بالخروج من بغداد. وقال له العميد: ما جمع لك في
الأوّل بين الامتناع والاقتراح وخرج مغضبا إلى النهروان فاستوقفه قاضي
القضاة والشيخ أبو منصور بن يوسف. وكتب من الديوان إلى خمارتكين من
أصحاب السلطان بالشكوى من عميد الملك وجاءه الجواب بالرفق. ولم يزل
عميد الملك يريّض الخليفة وهو يتمنّع إلى أن رحل في جمادى من سنة أربع
وخمسين. ورجع إلى السلطان وعرّفه بالحال، ونسب القضية إلى خمارتكين
فتنكر له السلطان وهرب، واتّبعه أولاد ينال فقتلوه بثأر أبيهم، وجعل
مكانه سارتكين [2] وبعث للوزير بشأنه. وكتب السلطان إلى قاضي القضاة
والشيخ أبي منصور بن يوسف بالعتب، وطلب بنت أخي زوجة القائم فأجاب
الخليفة حينئذ إلى الإصهار، وفوّض إلى الوزير عميد الكندريّ عقد النكاح
على ابنته للسلطان، وكتب بذلك إلى أبي الغنائم المجلبان فعقد عليها في
شعبان من تلك السنة بظاهر تبريز. وحمل السلطان للخليفة أموالا كثيرة
وجواهر لوليّ العهد وللمخطوبة، وأقطع ما كان بالعراق لزوجته خاتون
المتوفاة للسيدة بنت الخليفة.
وتوجّه السلطان في المحرم سنة خمس وخمسين من أرمينية إلى بغداد ومعه من
الأمراء أبو علي بن أبي كاليجار وسرخاب بن بدر وهزار وأبو منصور بن
قرامرد بن كاكويه، وخرج الوزير ابن جهير فتلقّاه، وترك عسكره بالجانب
الغربي، ونادى الناس بهم. وجاء الوزير ابن العميد لطلب المخطوبة فأفرد
له القائم دورا لسكناه وسكنى
__________
[1] فرامرز بن كاكويه: ابن الأثير ج 10 ص 21.
[2] ساوتكين: ابن الأثير ج 10 ص 22.
(3/577)
حاشيته، وانتقلت المخطوبة إليها وجلست على
سرير ملبّس بالذهب، ودخل السلطان فقبّل الأرض، وحمل لها مالا كثيرا من
الجواهر وأولم أياما، وخلع على جميع أمرائه وأصحابه، وعقد ضمان بغداد
على أبي سعد الفارسيّ بمائة وخمسين ألف دينار، وأعاد ما كان أطلقه رئيس
العراقين من المواريث والمكوس، وقبض على الأعرابي سعد ضامن البصرة،
وعقد ضمان واسط على أبي جعفر بن فضلان بمائتي ألف.
وفاة السلطان طغرلبك وملك ابن أخيه داود
ثم سار السلطان طغرلبك من بغداد في ربيع الآخر إلى بلد الجبل، فلمّا
وصل الريّ أصابه المرض وتوفي ثامن رمضان من سنة خمس وخمسين، وبلغ خبر
وفاته إلى بغداد فاضطربت، واستقدم القائم مسلم بن قريش صاحب الموصل
ودبيس بن مزيد وهزارشب صاحب الأهواز وبني ورّام وبدر بن مهلهل فقدموا،
وأقام أبو سعد الفارسيّ ضامن بغداد سورا على قصر عيسى، وجمع الغلال،
وخرج مسلم بن قريش من بغداد فنهب النواحي، وسار دبيس بن مزيد وبنو
خفاجة وبنو ورّام والأكراد لقتاله. ثم استتيب ورجع إلى الطاعة وتوفي
أبو الفتح بن ورّام مقدّم الأكراد والجاوانيّة، وحمل العامّة السلاح
لقتال الأعراب فكانت سببا لكثرة الذعّار. ولما مات طغرلبك بايع عميد
الدولة الكندريّ بالسلطنة لسليمان بن داود، وجعفر بك، وكان ربيب
السلطان طغرلبك خلّف أخاه جعفر بك داود على أمّه، وعهد إليه بالملك،
فلما خطب له اختلف عليه الأمر وسار باغي سيان وأرذم إلى قزوين فخطب
لأخيه ألب أرسلان وهو محمد بن داود، وهو يومئذ صاحب خراسان ووزيره نظام
الملك سار إلى المذكور، وسأل الناس إليه وشعر الكندري باختلال أمره
فخطب بالريّ للسلطان ألب أرسلان وبعده لأخيه سليمان. وزحف ألب أرسلان
في العساكر من خراسان إلى الريّ فلقيه الناس جميعا ودخلوا في طاعته،
وجاء عميد الملك الكندريّ إلى وزيره نظام الملك فخدمه وهاداه فلم يغن
عنه، وخشي السلطان غائلته فقبض عليه سنة ست وخمسين وحبسه بمروالروذ. ثم
بعث بعد سنة من محبسه بقتله في ذي الحجة من سنة سبع وخمسين، وكان من
أهل نيسابور كاتبا بليغا. فلمّا ملك طغرلبك نيسابور، وطلب كاتبا فدلّه
عليه الموفّق والد أبي سهل فاستكتبه
(3/578)
واستخلصه، وكان خصيّا يقال إنّ طغرلبك خصاه
لأنه تزوّج بامرأة خطبها له، وغطّى عليه فظفر به فحاصره وأقرّه على
خدمته. وقيل أشاع عند أعدائه أنه تزوّجها ولم يكن ذلك فخصى نفسه ليأمن
من غائلته، وكان شديد التعصّب على الشافعيّة والأشعريّة. واستأذن
السلطان في لعن الرافضة على منابر خراسان، ثم أضاف إليهم الأشعرية
فاستعظم ذلك أئمة السنة. وفارق خراسان أبو القاسم القشيري ثم أبو
المعالي إلى مكّة فأقام أربعة سنين يتردّد بين الحرمين يدرّس ويفتي حتى
لقّب إمام الحرمين.
فلمّا جاء دولة ألب أرسلان أحضرهم نظام الملك وزيره فأحسن إليهم وأعاد
السلطان ألب أرسلان السيدة بنت الخليفة التي كانت زوجة طغرلبك إلى
بغداد، وبعث في خدمتها الأمير أيتكين السليماني، وولّاه شحنة ببغداد،
وبعث معها أيضا أبا سهل محمد بن هبة الله المعروف بابن الموفّق لطلب
الخطبة ببغداد فمات في طريقه، وكان من رؤساء الشافعيّة بنيسابور. وبعث
السلطان مكانه العميد أبا الفتح المظفّر بن الحسين فمات أيضا في طريقه،
فبعث وزيره نظام الملك، وخرج عميد الملك ابن الوزير فخر الدولة بن
جهيّر لتلقّيهم، وجلس لهم القائم جلوسا فخما في جمادى الأولى من سنة ست
وخمسين، وساق الرسل بتقليد ألب أرسلان السلطنة، وسلّمت إليهم الخلع
بمشهد من الناس، ولقّب ضياء الدولة، وأمر بالخطبة له على منابر بغداد،
وأن يخاطب بالولد المؤيد حسب اقتراحه، فأرسل إلى الديوان لأخذ البيعة
النقيب طراد الزينبي، فأرسل إليه بنقجوان من أذربيجان، وبايع وانتقض
على السلطان ألب أرسلان من السلجوقية صاحب هراة وصغانيان، فسار إليهم
وظفر بهم كما نذكر في أخبارهم ودولتهم عند إفرادها بالذكر انتهى.
فتنة قطلمش والجهاد بعدها
كان قطلمش هذا من كبار السلجوقية وأقربهم نسبا إلى السلطان طغرلبك، ومن
أهل بيته، وكان قد استولى على قومة واقصراي [1] وملطية، وهو الّذي بعثه
السلطان طغرلبك أوّل ما ملك بغداد سنة تسع وأربعين لقتال البساسيري
وقريش بن بدران صاحب الموصل، ولقيهم على سنجار الريّ. فجهّز ألب أرسلان
العساكر من نيسابور في المحرّم من سنة سبع وخمسين، وساروا على المفارقة
فسبقوا قطلمش إلى
__________
[1] قونية وأقصرا: ابن الأثير ج 10 ص 36.
(3/579)
الريّ وجاء كتاب السلطان إليه ولقيه فلم
يثبت ومضى منهزما واستباح السلطان عسكره قتلا وأسرا وأجلت الواقعة عنه
قتيلا، فحزن له السلطان ودفنه. ثم سار إلى بلاد الروم معتزما على
الجهاد، ومرّ بأذربيجان ولقيه طغرتكين [1] من أمراء التركمان في عشيرة،
وكان ممارسا للجهاد فحثّه على قصده، وسلك دليلا بين يديه فوصل إلى
نجران على نهر أرس وأمر بعمل السفن لعبوره، وبعث عساكر لقتال خويّ
وسلماس من حصون أذربيجان، وسار هو في العساكر فدخل بلاد الكرخ وفتح
قلاعها واحدة بعد واحدة كما نذكر في أخبارهم. ودوّخ بلادهم وأحرق مدنهم
وحصونهم، وسار إلى مدينة آي من بلاد الديلم فافتتحها وأثخن فيها وبعث
بالبشائر إلى بغداد وصالحه ملك الكرخ على الجزية ورجع إلى أصبهان. ثم
سار منها إلى كرمان فأطاعه أخوه قاروت بن داود جعفر بك. ثم سار إلى مرو
وأصهر إليه خاقان ملك ما وراء النهر بابنته لابنه ملك شاه، وصاحب غزنة
بابنته لابنه الآخر انتهى.
العهد بالسلطنة لملكشاه بن ألب ارسلان
وفي سنة ثمان وخمسين عهد ألب أرسلان بالسلطنة لابنه ملك شاه، واستخلف
له الأمراء وخلع عليهم وأمر بالخطبة له في سائر أعماله، وأقطع بلخ
لأخيه سليمان وخوارزم لأخيه ازعزا. [2] ومرو لابنه أرسلان شاه،
وصغانيان وطخارستان لأخيه إلياس ومازنداران للأمير ابتايخ وبيغوا [3]
وجعل ولاية نقشوان [4] ونواحيها لمسعود بن ازناس [5] وكان وزيره نظام
الملك قد ابتدأ سنة سبع وخمسين بناء المدرسة النظاميّة ببغداد، وتمّت
عمارتها في ذي القعدة سنة تسع وخمسين، وعيّن للتدريس بها الشيخ إسحاق
الشيرازي، واجتمع الناس لحضور درسه، وتخلّف لأنه سمع أن في مكانها
غصبا. وبقي الناس في انتظاره حتى يئسوا منه، فقال الشيخ أبو منصور: لا
ينفصل هذا الجمع إلا عن تدريس، وكان أبو منصور الصبّاغ حاضرا فدرّس
وأقام مدرّسا عشرين يوما حتى سمع أبو إسحاق الشيرازي بالتدريس فاستقرّ
بها.
__________
[1] طغركين: ابن الأثير ج 10 ص 37.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 50: «وخوارزم لأخيه أرسلان ارغو.»
[3] إينانج تيغو: ابن الأثير ج 10 ص 50.
[4] ولاية بغشور: ابن الأثير ج 10 ص 50.
[5] مسعود بن أرتاش.
(3/580)
وزراء الخليفة
كان فخر الدولة بن جهير وزير القائم كما ذكرناه، ثم عزله سنة ستين
وأربعمائة فلحق بنور الدولة دبيس بن مزيد بالقلوجة، وبعث القائم عن أبي
يعلى والد الوزير أبي شجاع، وكان يكتب لهزارسب بن عوض صاحب الأهواز
فاستقدمه ليولّيه الوزارة، فقدم ومات في طريقه، ونفع دبيس بن مزيد في
فخر الدولة بن جهيّر فأعيد إلى وزارته سنة إحدى وستين في صفر.
الخطبة بمكة
وفي سنة اثنتين وستين خطب محمد بن أبي هاشم بمكّة للقائم وللسلطان ألب
أرسلان، وأسقط خطبة العلويّ صاحب مصر وترك حيّ على خير العمل من
الأذان، وبعث ابنه وافدا على السلطان بذلك فأعطاه ثلاثين ألف دينار،
وخلعا نفيسة ورتّب كل سنة عشرة آلاف دينار.
طاعة دبيس ومسلم بن قريش
كان مسلم بن قريش منتقضا على السلطان، وكان هزارشب بن شكر بن عوض قد
أغرى السلطان بدبيس بن مزيد ليأخذ بلاده فانتقض. ثم هلك هزارشب سنة
اثنتين وستين بأصبهان منصرفا من وفادته على السلطان بخراسان، فوفد دبيس
على السلطان ومعه مشرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل، وخرج نظام
الملك لتلقّيهما وأكرمهما السلطان ورجعا إلى الطاعة.
الخطبة العباسية بحلب واستيلاء السلطان
عليها
كان محمود بن صالح بن مراد قد استولى هو وقومه على مدينة حلب، وكانت
للعلويّ صاحب مصر. فلمّا رأى إقبال دولة ألب أرسلان وقوّتها خافه على
بلده فحملهم على الدخول في دعوة القائم، وخطب له على منابر حلب سنة
ثلاث وستين، وكتب بذلك إلى القائم، فبعث إليه نقيب النقباء طراد بن
محمد الزينبيّ بالخلع، ثم سار السلطان ألب أرسلان إلى حلب ومرّ بديار
بكر فخرج إليه صاحبها ابن مروان، وخدمه بمائة ألف دينار. ومرّ بآمد
فامتنعت عليه وبالرها كذلك. ثم نزل على حلب
(3/581)
وبعث إليه صاحبها محمود مع نقيب النقباء
طراد بالاستعفاء من الحضور فألحّ في ذلك، وحاصره فلما اشتدّ عليه
الحصار خرج ليلا إلى السلطان، ومعه أمّه منيعة بنت وثاب النميري ملقيا
بنفسه فأكرمه السلطان وخلع عليه وأعاده إلى بلده فقام بطاعته.
واقعة السلطان مع ملك الروم وأسره
كان ملك الروم في القسطنطينية وهو أرمانوس قد خرج سنة اثنتين وستين إلى
بلاد الشام في عساكر كثيفة، ونزل على منبج ونهبها وقتل أهلها، وزحف
إليه محمود بن صالح بن مرداس وابن حسّان الطائي في بني كلاب وطيِّئ ومن
إليهم من جموع العرب فهزمهم، وطال عليه المقام على منبج وعزّت الأقوات
فرجع إلى بلاده، واحتشد وسار في مائتي ألف من الزنج والروم والروس
والكرخ، وخرج في احتفال إلى أعمال خلاط ووصل الى ملاذجرد. وكان السلطان
ألب أرسلان بمدينة خويّ من أذربيجان عند عوده من حلب فتشوّق إلى
الجهاد، ولم يتمكن من الاحتشاد، فبعث أثقاله وزوجته مع نظام الملك إلى
همذان وسار فيمن حضره من العساكر.
وكانوا خمسة عشر ألفا ووطّن نفسه على الاستماتة، فلقيت مقدّمته عند
خلاط جموع الروسية في عشرة آلاف فانهزموا وجيء بملكهم إلى السلطان
فحبسه، وبعث بالأسلاب إلى نظام الملك ليرسلها الى بغداد. ثم تقارب
العسكران وجنح السلطان للمهادنة فأبى ملك الروم فاعتزم السلطان وزحف
وأكثر من الدعاء والبكاء. وعفّر وجهه بالتراب. ثم حمل عليهم فهزمهم
وامتلأت الأرض باشلائهم وأسر الملك أرمانوس، جاء به بعض الغلمان أسيرا
فضربه السلطان على رأسه ثلاثا ووبّخه. ثم فاداه بألف ألف دينار
وخمسمائة ألف دينار، وعلى أن يطلق كل أسير عنده، وأن تكون عساكر الروم
مددا للسلطان متى يطلبها. وتمّ الصلح على ذلك لمدّة خمسين سنة. وأعطاه
السلطان عشرة آلاف دينار وخلع عليه وأطلقه، ووثب ميخاييل على الروم
فملك عليهم مكان أرمانوس فجمع ما عنده من الأموال فكان مائتي ألف
دينار، وجيء بطبق مملوء بجواهر قيمته تسعون ألفا. ثم استولى أرمانوس
بعد ذلك على أعمال الأرمن وبلادهم.
(3/582)
شحنة بغداد
قد ذكرنا أنّ السلطان ألب أرسلان ولّى لأوّل ملكه أيتكين السليماني
شحنة ببغداد سنة ست وخمسين فأقام فيها مدّة، ثم سار إلى السلطان في بعض
مهمّاته، واستخلف ابنه مكانه فأساء السيرة، وقتل بعض المماليك الداريّة
فأنفذ قميصه من الديوان إلى السلطان، وخوطب بعزله. وكان نظام الملك
يعنى به فكتب فيه بالشفاعة، وورد سنة أربع وستين فقصد دار الخلافة وسأل
العفو فلم يجب، وبعث إلى تكريت ليسوغها [1] بإقطاع السلطان فبرز
المرسوم من ديوان الخلافة بمنع ذلك. ولما رأى السلطان ونظام الملك
إصرار القائم على عزله، بعث السلطان مكانه سعد الدولة كوهرابين [2]
أتباعا لمرضاة الخليفة. ولما ورد بغداد خرج الناس للقائه وجلس له
القائم واستقرّ شحنة.
مقتل السلطان ألب أرسلان وملك ابنه ملك شاه
سار السلطان ألب أرسلان محمد إلى ما وراء النهر، وصاحبه شمس الملك
تكين، وذلك سنة خمس وستين، وعبر على جسر عقده على جيحون في نيّف وعشرين
يوما، وعسكره تزيد على مائتي ألف. وجيء له بمستحفظ القلاع، ويعرف بيوسف
الخوارزمي فأمر بعقابه على ارتكابه فأفحش في سبّ السلطان فغضب وأمر
بإطلاقه، ورماه بسهم فأخطأه، فسيّر إليه يوسف، وقام السلطان عن سريره
فعثر ووقع فضربه بسكينة، وضرب سعد الدولة، ودخل السلطان خيمته جريحا.
وقتل الأتراك يوسف هذا، ومات السلطان من جراحته عاشر ربيع سنة خمس
وستين لتسع سنين ونصف من ملكه، ودفن بمرو عند أبيه، وكان كريما عادلا
كثير الشكر لنعمة الله والصدقة، واتّسع ملكه حتى قيل فيه سلطان العالم.
ولما مات وقد أوصى بالملك لابنه ملك شاه فجلس للملك، وأخذ له البيعة
وزيره نظام الملك، وأرسل إلى بغداد فخطب له على منابرها، وكان ألب
أرسلان اوصى أن يعطي أخوه قاروت بك أعمال فارس وكرمان وشيئا عيّنه من
المال، وكان بكرمان. وأن يعطي ابنه إياس بن ألب أرسلان
__________
[1] هكذا بالأصل ويسوغ بمعنى يسهل ولا يلتئم. وفي الكامل ج 10 ص 70:
«وكان نظام الملك يعنى بالسليماني فأضاف إلى إقطاعه تكريت، فكوتب
واليها من ديوان الخلافة بالتوقف عن تسليمها.»
[2] كوهرائين: المرجع السابق.
(3/583)
ما كان لأبيه داود، وهو خمسمائة ألف دينار،
وعهد بقتال من لم يقض بوصيّته.
وعاد ملك شاه من بلاد ما وراء النهر فعبر الجسر في ثلاثة أيام، وزاد
الجند في أرزاقهم سبعمائة ألف دينار، ونزل نيسابور وأرسل إلى ملوك
الأطراف بالطاعة والخطبة فأجابوا. وأنزل أخاه إياس بن ألب أرسلان ببلخ
وسار إلى الريّ. ثم فوّض إلى نظام الملك وأقطعه مدينة طوس التي هي
منشؤه وغيرها، ولقّبه ألقابا منها أتابك ومعناها الأمير الوالد، فحمل
الدولة بصرامة وكفاية وحسن سيرة، وبعث كوهرابين الشحنة إلى بغداد سنة
ست وستين لاقتضاء العهد، فجلس له القائم وعلى رأسه حافده ووليّ عهده
المقتدي بأمر الله، وسلم الى سعد الدولة كوهرابين عهد السلطان ملك شاه
بعد ان قرأ الوزير أوّله في المحفل وعقد له اللواء بيده ودفعه إليه.
وفاة القائم ونصب المقتدي للخلافة
ثم توفي القائم بأمر الله أبو جعفر بن القادر افتصد منتصف شعبان من سنة
سبع وستين ونام فانفجر فصاده، وسقطت قوّته، ولما أيقن بالموت أحضر
حافده أبا القاسم عبد الله ابن ابنه ذخيرة الدين محمد، وأحضر الوزير
ابن جهير والنقباء والقضاة وغيرهم، وعهد له بالخلافة. ثم مات لخمس
وأربعين سنة من خلافته. وصلّى عليه المقتدي، وبويع بعهد جده، وحضر
بيعته مؤيد الملك بن نظام الملك، والوزير فخر الدولة بن جهير وابنه
عميد الدولة، وأبو إسحاق الشيرازي وأبو نصر بن الصبّاغ، ونقيب النقباء
طراد، والنقيب الطاهر المعمر بن محمد، وقاضي القضاة أبو عبد الله
الدامغانيّ، وغيرهم من الأعيان والأماثل. ولما فرغوا من البيعة صلّى
بهم العصر ولم يكن للقائم عقب ذكر غيره لأنّ ابنه ذخيرة الدين أبا
العبّاس محمدا توفي في حياته ولم يكن له غيره فاعتمد القائم لذلك. ثم
جاءت جاريته أرجوان بعد موته لستة أشهر بولد ذكر فعظم سرور القائم به،
ولما كانت حادثة البساسيري حمله أبو الغنائم بن المجلبان إلى حرّان وهو
ابن أربع سنين، وأعاده عند عود القائم إلى داره.
فلما بلغ الحلم عهد له القائم بالخلافة ولما تمت بيعته لقّب المقتدي
وأقرّ فخر الدولة بن جهير على وزارته بوصية جدّه القائم بذلك. وبعث ابن
عميد الدولة إلى السلطان ملك شاه لأخذ البيعة في رمضان من سنة سبع
وستين، وبعث معه من الهدايا ما يجلّ عن الوصف. وقدم سعد الدولة
كوهرابين سنة ثمان وستين إلى بغداد شحنة، ومعه
(3/584)
العميد أبو نصر ناظرا في أعمال بغداد، وقدم
مؤيد الملك بن نظام الملك سنة سبعين للإقامة ببغداد، ونزل بالدار التي
بجوار مدرستهم.
عزل الوزير ابن جهير ووزارة أبي شجاع
كان أبو نصر بن الأستاذ أبي القاسم القشيريّ قد حجّ سنة تسع وستين،
فورد بغداد منصرفا من الحجّ، ووعظ الناس بالنظاميّة، وفي رباط شيخ
الشيوخ، ونصر مذهب الأشعريّ فأنكر عليه الحنابلة، وكثر التعصّب من
الجانبين، وحدثت الفتنة والنهب عند المدرسة النظاميّة، فأرسل مؤيد
الملك إلى العميد والشحنة فحضروا في الجند، وعظمت الفتنة ونسب ذلك إلى
الوزير فخر الدولة بن جهير، وعظم ذلك على عضد الدولة فأعاد كوهرابين
إلى الشحنة ببغداد وأوصاه المقتدي بعزل فخر الدولة من الوزارة، وأمر
كوهرابين بالقبض على أصحابه ونمي الخبر إلى بني جهير فبادر عميد الدولة
ابن الوزير إلى نظام الملك يستعطفه. ولما بلغ كوهرابين رسالة الملك إلى
المقتدى أمر فخر الدولة بلزوم منزله. ثم جاء ابنه عميد الدولة، وقد
استصلح نظام الملك في الشفاعة لهم، فأعيد عميد الملك إلى الوزارة دون
أبيه فخر الدولة وذلك في صفر سنة اثنتين وسبعين.
استيلاء تتش بن ألب أرسلان على دمشق
وابتداء دولته ودولة نفيه فيها
كان أتسز بهمزة وسين وزاي بن أبق [1] الخوارزمي من أمراء السلطان ملك
شاه وقد سار سنة ثلاث وستين إلى فلسطين من الشام ففتح مدينة الرملة، ثم
حاصر بيت المقدس وفتحها من يد العلويين أصحاب مصر، وملك ما يجاورها ما
عدا عسقلان. ثم حاصر دمشق حتى جهدها الحصار فرجع وبقي يردّد الغزوات
إليها كل سنة. ثم حاصرها سنة سبع وستين وبها المعلّى بن حمدرة [2] من
قبل المنتصر العبيدي
__________
[1] أتسز بن اوق الخوارزمي: ابن الأثير ج 10 ص 68.
[2] المعلّى بن حيدرة: ابن الأثير ج 10 ص 99.
(3/585)
فأقام عليها شهرا. ثم أقلع ديار أهل دمشق
[1] بالمعلّى لسوء سيرته فهرب إلى بانياس ثم إلى صور، ثم أخذ إلى مصر
وجلس بها ومات محبوسا واجتمع المصامدة بعد هربه من دمشق وولّوا عليهم
انتصار بن يحيى المصمودي ولقّبوه زين الدولة. ثم اختلفوا عليه ووقعت
الفتنة، وغلت الأسعار ورجع أتسز إلى حصارها فنزل له عنها انتصار على
الأمان، وعوّضه عنها بقلعة بانياس ومدينة يافا من الساحل، وخطب فيها
أتسز للمقتدي العبّاسي في ذي القعدة سنة ثمان وستين. وتغلّب على أكثر
الشام ومنع من الأذان بحيّ على خير العمل. ثم سار سنة تسع وستين إلى
مصر وحاصرها حتى أشرف على أخذها. ثم انهزم من غير قتال ورجع إلى دمشق
وقد انتقض عليه أكثر بلاد الشام، فشكر لأهل دمشق صونهم لمخلّفه
وأمواله، ورفع عنهم خراج سنة وبلغه أنّ أهل القدس وثبوا بأصحابه ومخلفه
وحصروهم في محراب داود عليه السلام، فسار إليهم وقاتلهم فملكهم عنوة
وقتلهم في كل مكان إلّا من كان عند الصخرة. ثم إنّ السلطان ملك شاه
أقطع أخاه تاج الدولة تتش سنة سبعين وأربعمائة بلاد الشام وما يفتحه من
نواحيها، فسار إلى حلب سنة إحدى وسبعين وحاصرها وضيّق عليها، وكانت معه
جموع كثيرة من التركمان. وكان صاحب مصر قد بعث عساكره مع قائده نصير
الدولة لحصار دمشق فأحاطوا بها، وبعث أتسز إلى تتش وهو على حلب يستمدّه
فسار إليه، وأجفلت العساكر المصرية عن دمشق، وجاء إليها تتش فخرج أتسز
للقائه بظاهر البلد فتجنى عليه حيث لم يستعد للقائه، وقبض عليه وقتله
لوقته، وملك البلد وأحسن السيرة فيها وذلك سنة إحدى وسبعين فيما قال
الهمذاني. وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر إنّ ذلك كان سنة اثنتين
وسبعين. وقال ابن الأثير والشاميّون في هذا الاسم افسلس والصحيح أنه
أتسز وهو اسم تركي [2] .
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 99: «فلما كان رمضان سنة سبع وستين
سار الى دمشق فحصرها وأميرها المعلّى بن حيدرة من قبل الخليفة
المستنصر، فلم يقدر عليها، فانصرف عنها في شوال، فهرب أميرها المعلّى
في ذي الحجة. وكان سبب هربه أنه أساء السيرة مع الجند والرعية وظلمهم،
فكثر الدعاء عليه، وثار به العسكر، وأعانهم العامة فهرب منها الى
بانياس، ثم منها الى صور، ثم أخذ الى مصر فحبس بها فمات محبوسا» .
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 103: «هكذا يذكر الشاميون هذا الاسم
أقسيس والصحيح أنه أتسز وهو اسم تركي» .
(3/586)
سفارة الشيخ أبى
إسحاق الشيرازي عن الخليفة
كان عميد العراق أبو الفتح بن أبى الليث قد أساء السيرة وأساء إلى
الرعيّة وعسفهم، واطرح جانب الخليفة المقتدي وحواشيه فاستدعى المقتدي
الشيخ أبا إسحاق الشيرازي وبعثه إلى السلطان ملك شاه والوزير نظام
الملك بالشكوى من ابن العميد، فسار لذلك ومعه جماعة من أعيان الشافعيّة
منهم أبو بكر الشاشي وغيره، وذلك سنة خمس وخمسين. وتنافس أهل البلاد في
لقائه والتمسّح بأطرافه والتماس البركة في ملبوسه ومركوبة، وكان أهل
البلاد إذا مرّ بهم يتسايلون إليه ويزدحمون على ركابه، وينشدون على
موكبه كل أحد ما يناسب ذلك، وصدر الأمر بإهانة ابن العميد ورفع يده عما
يتعلق بحواشي المقتدي، وجرى بينه وبين إمام الحرمين مناظرة بحضرة نظام
الملك ذكرها الناس في كتبهم انتهى.
عزل ابن جهير عن الوزارة وإمارته على ديار
بكر
ثم إنّ عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير عزله الخليفة المقتدي عن
الوزارة ووصل يوم عزل رسول من قبل السلطان ونظام الملك يطلب بني جهير
فأذن لهم وساروا بأهلهم إلى السلطان فلقّاهم كرامة وبرّا، وعقد لفخر
الدولة على ديار بكر وكان بني مروان وبعث معه العساكر سنة وأعطاه الآلة
وأذن له أن يخطب فيها لنفسه، ويكتب اسمه في السكّة فسار لذلك سنة ست
وسبعين ثم بعث إليه السلطان سنة سبع وسبعين بمدد العساكر مع الأمير
أرتق بن اكسب جلّ أصحاب ماردين لهذا العهد، وكان ابن مروان قد استمدّ
فخر الدولة بن جهير بنواحيها، وكان معه جماعة من التركمان فتقدّموا إلى
قتل مشرف الدولة، وانهزم أمامهم وغنم التركمان من كان معه من أحياء
العرب، ودخل آمد فحصره بها فخر الدولة وأرتق، فراسل أرتق وبذل له مالا
على الخروج من ناحيته، فأذن له وخرج. ورجع ابن جهير الى ميافارقين ومعه
بهاء الدولة منصور بن مزيد صاحب الحلّة والنيل والجامعين وابنه سيف
الدولة صدقة ففارقوه إلى العراق، وسار هو إلى خلاط. وكان السلطان لما
بلغه انهزام مشرف الدولة وحصاره بآمد بعث عميد الدولة بن فخر الدولة بن
جهير في عسكره إلى الموصل ومعه قسيم الدولة آق سنقر جدّ نور الدين
العادل، وكاتب أمراء التركمان بطاعته وساروا
(3/587)
إلى الموصل فملكوها. وسار السلطان بنفسه
إليها وقارن ذلك خلوص مشرف الدولة من حصار آمد فراسل مؤيد الدولة بن
نظام الملك وهو على الرحبة، وأهدى له فسعى له عند السلطان وأحضره وأهدى
للسلطان سوابق خيله وصالحه وأقرّه على بلاده، وعاد إلى خراسان. ولم يزل
فخر الدولة بن جهير في طلب ديار بكر حتى ملكها. فأنفذ إليه زعيم
الرؤساء القاسم سنة ثمان وسبعين، وحاصرها وضيّق عليها حتى غدر بها بعض
أهل العسكر من خارج وملكها. وعمد أهل البلد إلى بيوت النصارى بينهم
فنهبوها بما [1] كانوا عمّال بني مروان، وكان لهم جور على الناس. وكان
فخر الدولة مقيما على ميافارقين محاصرا لها، وجاءه سعد الدولة كوهرابين
في العسكر مددا من عند السلطان فخرج في حصارها وسقط بعض الأيام جانب من
سورها فدهش أهل البلد وتنادوا بشعار السلطان ملك شاه، واقتحم فخر
الدولة البلد واستولى على ما كان لبني مروان، وبعث بأموالهم إلى
السلطان مع ابنه زعيم الرؤساء فلحقه بأصبهان سنة ثمان وسبعين. ثم بعث
فخر الدولة أيضا عسكرا إلى جزيرة ابن عمر وحاصروها حتى جهدهم الحصار،
فوثب طائفة من أهل البلد بعاملها، وفتحوا الباب، ودخل مقدّم العسكر
فملك البلد ودخل سنة ثمان وسبعين. وانقرضت دولة بني مروان من ديار بكر
واستولى عليها فخر الدولة بن جهير، ثم أخذها السلطان من يده وسار إلى
الموصل فتوفي بها، وكان مولده بها واستخدم لبرلة بن مقلة [2] وسفر عنه
إلى ملك الروم. ثم سار إلى حلب ووزر لمعزّ الدولة أبي هال بن صالح. ثم
مضى إلى ملطية ثم إلى مروان بديار بكر، فوزر له ولولده. ثم سار إلى
بغداد ووزر للخليفة كما مرّ في آخر ما ذكرنا، وتوفي سنة ثلاث وثمانين
انتهى.
خبر الوزارة
لما عزل الخليفة المقتدي عميد الدولة عن الوزارة سنة ست وسبعين رتّب في
الديوان أبا الفتح المظفر بن رئيس الرؤساء. ثم استوزر أبا شجاع محمد بن
الحسين فلم يزل في الوزارة إلى سنة أربع وثمانين فتعرّض لأبي سعد بن
سمحاء اليهودي كان وكيلا للسلطان، ونظام الملك، وسار كوهرابين الشحنة
إلى السلطان بأصبهان، فمضى
__________
[1] مقتضى السياق لأنهم كانوا.
[2] بركة بن المقلد: ابن الأثير ج 10 ص 182.
(3/588)
اليهودي في ركابه، وسمع المقتدي بذلك فخرج
توقيعه بإلزام أهل الذمة بالغيار فأسلم بعضهم وهرب بعضهم. وكان ممن
أسلم أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن موصلايا الكاتب وقرابته، ولما
وصل كوهرابين وأبو سعد إلى السلطان وعظمت سعايتهما في الوزير أبي شجاع
فكتب السلطان ونظام الملك إلى المقتدي في عزله فعزله، وأمره بلزوم
بيته، وولّى مكانه أبا سعد بن موصلايا الكاتب، وبعث المقتدي اليهما في
عميد الدولة بن جهير فبعثا به إليه واستوزره سنة أربع وثمانين، وركب
إليه نظام الدولة فهنّأه بالوزارة في بيته، وتوفي الوزير أبو شجاع سنة
ثمان وثمانين.
استيلاء السلطان على حلب
قد ذكرنا من قبل استيلاء السلطان ألب أرسلان على حلب، وخطبة صاحبها
محمود ابن صالح بن مرداس على منابره باسمه سنة ثلاث وستين. ثم عاد بعد
ذلك إلى طاعة العلويّة بمصر. ثم انتقضت دولة بني مرداس بها، وعادت
رياستها شورى في مشيختها، وطاعتهم لمسلم بن قريش صاحب الموصل، وكبيرهم
ابن الحثيثي. واستقرّ ملك سليمان بن قطلمش ببلاد الروم، وملك أنطاكية
سنة سبع وسبعين. وتنازع مع مشرف الدولة ابن قريش ملك حلب وتزاحفا فقتل
سليمان بن قطلمش مسلم بن قريش سنة تسع وسبعين. وكتب إلى أهل حلب
يستدعيهم إلى طاعته فاستمهلوه إلى أن يكاتبوا السلطان ملك شاه. فإنّ
الكل كانوا في طاعته وكتبوا إلى تتش أخي السلطان وهو بدمشق أن يملّكوه
فسار إليهم ومعه أرتق بن أكسب، كان قد لحق به عند ما جاء السلطان إلى
الموصل وفتحها خشية مما فعله في خلاص مسلم بن قريش من حصار آمد فأقطعه
تتش بيت المقدس. فلما جاء تتش إلى حلب وحاصر القلعة، وبها سالم بن مالك
بن بدران ابن عمّ مشرف الدولة مسلم بن قريش، وكان ابن الحثيثي وأهل حلب
قد كاتبوا السلطان ملك شاه أن يسلّموا إليه البلد، فسار من أصبهان في
جمادى سنة تسع وستين، ومرّ بالموصل ثم بحرّان فتسلّمها وأقطعها محمد بن
مسلم بن قريش، ثم بالرها فملكها من يد الروم، ثم بقلعة جعفر فحاصرها
وملكها من يد بعض بني قشير، ثم بمنبج فملكها ثم عبر الفرات إلى حلب
فأجفل أخوه تتش إلى البريّة ومعه أرتق. ثم عاد إلى دمشق وكان سالم بن
مالك ممتنعا بالقلعة فاستنزله منها وأقطعه قلعة جعبر فلم تزل بيده ويد
بنيه حتى ملكها منهم نور الدين العادل، وبعث إلى
(3/589)
السلطان بالطاعة على شيراز، وولّى السلطان
على حلب قسيم الدولة صاحب شيراز نصر بن عليّ بن منقذ الكناني وسلّم
إليه اللاذقية وكفر طاب وفامية، فأقرّ على شيراز، وولّى السلطان على
حلب قسيم الدولة آق سنقر جدّ نور الدين العادل، ورحل إلى العراق وطلب
أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فحمله معه وأنزله بديار بكر فتوفي
فيها بحلل إملاق. ودخل السلطان بغداد في ذي الحجة من سنة تسع وسبعين
وأهدى إلى المقتدي وخلع عليه الخليفة، وقد جلس له في مجلس حفل ونظام
الملك قائم يقدّم أمراء السلطان واحدا بعد واحد آخر للسلام للخليفة،
ويعرّف بأسمائهم وأنسابهم ومراتبهم. ثم فوّض الخليفة المقتدي إلى
السلطان أمور الدولة، وقبّل يده وانصرف. ودخل نظام الملك إلى مدرسته
فجلس في خزانة الكتب وأسمع جزء حديث وأملى آخر. وأقام السلطان ببغداد
شهرا ورحل في صفر من سنة ثمانين إلى أصبهان وجاء إلى بغداد مرّة أخرى
في رمضان من سنة أربع وثمانين ونزل بدار الملك وقدّم عليه أخوه تاج
الدولة تتش وقسيم الدولة آق سنقر من حلب، وغيرهما من أمراء النواحي.
وعمل ليلة الميعاد من سنة خمس وثمانين، لم ير أهل بغداد مثله وأخذ
الأمراء في بناء الدور ببغداد لسكناهم عند قدومهم فلم تمهلهم الأيام
لذلك.
فتنة بغداد
كانت مدينة بغداد قد احتفلت في كثرة العمران بما لم تنته إليه مدينة في
العالم منذ مبدإ الخليفة فيما علمناه، واضطربت آخر الدولة العبّاسيّة
بالفتن، وكثر فيها المفسدون والدعّار والعيارون من الرّها، وأعيا على
الحكّام أمرهم، وربما أركبوا العساكر لقتالهم ويثخنون فيهم فلم يحسم
ذلك من عللهم شيئا وربما حدثت الفتن من أهل المذاهب ومن أهل السنّة
والشيعة من الخلاف في الإمامة ومذاهبها، وبين الحنابلة والشافعية
وغيرهم من تصريح الحنابلة بالتشبيه في الذات والصفات، ونسبتهم ذلك إلى
الإمام أحمد، وحاشاه منه، فيقع الجدال والنكير ثم يفضي إلى الفتنة بين
العوام. وتكرّر ذلك منذ حجر الخلفاء. ولم يقدر بنو بويه ولا السلجوقيّة
على حسم ذلك منها لسكنى أولئك بفارس، وهؤلاء بأصبهان، وبعدهم عن بغداد
والشوكة التي تكون بها حسم العلل لاتفاقهم. وإنما تكون ببغداد شحنة
تحسم ما خفّ من العلل ما لم ينته إلى عموم الفتنة، ولم يحصل من ملوكهم
اهتمام لحسم ذلك
(3/590)
لاشتغالهم بما هو أعظم منه في الدولة
والنواحي. وعامة بغداد أهون عليهم من أن يصرفوا همتهم عن العظائم إليهم
فاستمرّت هذه العلّة ببغداد، ولم يقلع عنها إلى أن اختلفت جدّتها
وتلاشى عمرانها، وبقي طراز في ردائها لم تذهبه الأيام.
مقتل نظام الملك وأخباره
كان من أبناء الدهاقين بطوس أبو علي الحسين بن عليّ بن إسحاق، فشبّ
وقرأ بها وسمع الحديث الكبير وتعلّق بالأحكام السلطانية وظهرت فيها
كفايته، وكان يعرف بحسن الطوسي. وكان أميره الّذي يستخدمه يصادره كل
سنة فهرب منه إلى داود وحفري بك، وطلبه مخدومه الأمير فمنعه، وخدم أبا
علي بن شادان متولّي الأعمال ببلخ لحفري بك أخي السلطان طغرلبك، وهو
والد السلطان ألب أرسلان. ولما مات أبو علي وقد عرف نظام الملك هذا
بالكفاية والأمانة أوصى به ألب أرسلان فأقام بأمور دولته ودولة ابنه
ملك شاه من بعده، وبلغ المبالغ كما مرّ واستولى على الدولة.
وولّى أولاده الأعمال وكان فيمن ولّاه منهم ابن ابنه عثمان جمال. وولّى
على مرو، وبعث السلطان إليها شحنة من أعظم أمرائه، وقع بينه وبين عثمان
نزاع فحملته الحداثة والإدلال بجاهه على أن قبض على الأمير وعاقبه،
فانطلق إلى السلطان مستغيثا، وامتعض لها السلطان وبعث إلى نظام الملك
بالنكير مع خواصه وثقاته فحملته الدالة على تحقيق تعديد حقوقه على
السلطان، وإطلاق القول في العتاب والتهديد بطوارق الزمن. وأرادوا طي
ذلك عن السلطان فوشى به بعضهم. فلما كان رمضان من سنة خمس وثمانين،
والسلطان على نهاوند عائدا من أصبهان إلى بغداد، وقد انصرف الملك يومه
ذلك من خيمة السلطان إلى خيمته، فاعترضه صبيّ قيل إنه من الباطنة في
صورة مستغيث فطعنه بسكينة فمات، وهرب الصبي فأدرك وقتل، وجاء السلطان
إلى خيمة نظام الملك يومه، وسكن أصحابه وعسكره، وذلك لثلاثين سنة من
وزارته سوى ما وزر لأبيه ألب أرسلان أيام إمارته بخراسان.
وفاة السلطان ملك شاه وملك ابنه محمود
لما قتل نظام الملك على نهاوند كما ذكرناه سار السلطان لوجهه، ودخل
بغداد آخر رمضان من سنته، ولقيه الوزير عميد الدولة بن جهير واعتزم
السلطان أن يولّي،
(3/591)
وزارته تاج الملك وهو الّذي سعى بنظام
الملك، وكانت قد ظهرت كفايته. فلما صلّى السلطان العيد عاد إلى بيته
وقد طرقه المرض، وتوفي منتصف شوّال، فكتمت زوجته تركمان خاتون موته
وأنزلت أموالها وأموال أهل الدولة بحريم دار الخلافة، وارتحلت إلى
أصبهان، وسلّوا السلطان معها في تابوته وقد بذلت الأموال للأمراء على
طاعة ابنها محمود والبيعة له فبايعوه، وقدمت من طريق قوام الدولة
كربوقا الّذي ملك الموصل من بعد ذلك، فسار بخاتم السلطان لنائب القلعة
وتسلّمها. ولما بايعت لولدها محمود وعمره يومئذ أربع سنين بعثت إلى
الخليفة المقتدي في الخطبة له فأجابها على شرط أن يكون أنز من أمراء
أبيه هو القائم بتدبير الملك، وأن يصدر عن رأي الوزير تاج الملك، ويكون
له ترتيب العمّال وجباية الأموال فأبت أوّلا من قبول هذا الشرط، حتى
جاءها الإمام أبو حامد الغزالي وأخبرها أنّ الشرع لا يجير تصرفاته
فأذعنت لذلك، فخطب لابنها آخر شوّال من السنة، ولقّب ناصر الدولة
والدين، وكتب إلى الحرمين الشريفين فخطب له بهما.
ثورة بركيارق بملك شاه
كانت تركمان خاتون عند موت السلطان ملك شاه قد كتمت موته وبايعت لابنها
محمود كما قلناه، وبعثت إلى أصبهان سرّا في القبض على بركيارق ابن
السلطان ملك شاه خوفا من أن ينازع ابنها محمود فحبس. فلما ظهر موت ملك
شاه وثب مماليك بركيارق ونظام الملك على سلاح كان له بأصبهان وثاروا في
البلد وأخرجوا بركيارق في محبسه وبايعوه وخطبوا له بأصبهان. وكانت أمّه
زبيدة بنت عم ملك شاه وهو ياقولي خائفة على ولدها من خاتون أمّ محمود،
وكان تاج الملك قد تقدّم إلى أصبهان وطالبه العسكر بالأموال فطلع إلى
بعض القلاع لينزل منها المال وامتنع منها خوفا من مماليك نظام الملك.
ولما وصلت تركمان خاتون إلى أصبهان جاءها فقبلت عذره. وكان بركيارق لما
أقامت خاتون ابنها محمودا بأصبهان خرج فيمن معه من النظامية إلى الريّ
واجتمع معه بعض أمراء أبيه وبعثت خاتون العساكر إلى قتاله، وفيهم أمراء
ملك شاه. فلما تراءى الجمعان هرب كثير من الأمراء إلى بركيارق واشتدّ
القتال فانهزم عسكر محمود وخاتون، وعادوا إلى أصبهان وسار بركيارق في
أثرهم فحاصرهم بها.
(3/592)
مقتل تاج الملك
كان الوزير تاج الملك قد حضر مع عسكر خاتون وشهد وقعة بركيارق. فلما
انهزموا سار إلى قلعة يزدجرد فحبس في طريقه، وحمل إلى بركيارق وهو
محاصر أصبهان، وكان يعرف كفايته فأجمع أن يستوزره، وأصلح هو النظاميّة
وبذل لهم مائتي ألف دينار واسترضاهم بها. ونمي ذلك إلى عثمان نائب نظام
الملك فوضع الغلمان الأصاغر عليه الطالبين ثأر سيدهم وأغراهم فقتلوه
وقطعوه قطعا [1] وذلك في المحرّم سنة ست وثمانين. ثم خرج إلى بركيارق
من أصبهان وهو محاصر لها عزّ الملك أبو عبد الله بن الحسين بن نظام
الملك وكان على خوارزم، ووفد على السلطان ملك شاه قبل مقتل أبيه. ثم
كان ملكهما فأقام هو بأصبهان وخرج إلى بركيارق وهو يحاصرها فاستوزره
وفوّض إليه أمر دولته انتهى.
الخطبة لبركيارق ببغداد
ثم قدم بركيارق بغداد سنة ست وثمانين، وطلب من المقتدي الخطبة فخطب له
على منابرها ولقّب ركن الدين وحمل الوزير عميد الدولة بن جهير إليه
الخلع فلبسها وتوفي المقتدي وهو مقيم ببغداد.
وفاة المقتدي ونصب المستظهر للخلافة
ثم توفي المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن
القائم بأمر الله في منتصف محرّم سنة سبع وثمانين، وكان موته فجأة،
أحضر عنده تقليد السلطان بركيارق ليعلم عليه فقرأه ووضعه. ثم قدّم إليه
طعام فأكل منه ثم غشي عليه فمات، وحضر الوزير فجهزوا جنازته وصلّى عليه
ابنه أبو العبّاس أحمد ودفن وذلك لتسع عشرة سنة وثمانية أشهر من
خلافته. وكانت له قوّة وهمّة لولا أنه كان مغلبا، وعظمت عمارة بغداد في
أيامه، وأظنّ ذلك لاستفحال دولة بني طغرلبك. ولما توفي المقتدي وحضر
الوزير أحضر ابنه أبا العباس أحمد الحاشية فبايعوه ولقّبوه المستظهر،
وركب الوزير إلى بركيارق وأخذ بيعته للمستظهر. ثم حضر بركيارق لثالثة
من وفاته ومعه وزيره عزّ الملك بن نظام الملك وأخوه بهاء الملك، وأمر
السلطان بأرباب
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 216: «فلما بلغ عثمان نائب نظام
الملك الخبر ساءه، فوضع الغلمان الأصاغر على الاستغاثة وان لا يقنعوا
إلا بقتل قاتل صاحبهم، ففعلوا وفصّلوه أجزاء» .
(3/593)
المناصب فجمعوا وحضر النقيبان طراد
العبّاسى والمعمّر العلويّ، وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغانيّ
والغزالي والشاشي وغيرهم فحبسوا في العراء وبايعوا.
أخبار تتش وانتقاضه وحروبه ومقتله
قد ذكرنا فيما تقدّم أنّ تتش بن السلطان ألب أرسلان استقل بملك دمشق
وأعمالها، وأنه وفد على السلطان ملك شاه ببغداد قبل موته وانصرف، وبلغه
خبر وفاته بهيت فملكها وسار إلى دمشق فجمع العساكر، وزحف إلى حلب
فأطاعه صاحبها قسيم الدولة آق سنقر. وسار معه، وكتب إلى ناعيسان صاحب
أنطاكية وإلى برار صاحب الرها وحرّان يشير عليهما بطاعة تتش حتى يصلح
حال أولاد ملك شاه فقبلوا منه، وخطبوا له في بلادهم وساروا معه فحضر
الرحبة وملكها في المحرّم سنة ست وثمانين، وخطب فيها لنفسه. ثم فتح
نصيبين عنوة وعاث فيها وسلّمها لمحمد بن مشرف الدولة وسار يريد الموصل
ولقيه الكافي فخر الدولة بن جهير وكان في جزيرة ابن عمر فاستوزره وبعث
إلى إبراهيم بن مشرف الدولة مسلم بن قريش وهو يومئذ ملك الموصل يأمره
بالخطبة له، وتسهيل طريقه إلى بغداد فأبى من ذلك وزحف إليه تتش وهو في
عشرة آلاف وآق سنقر على ميمنته وتوزران [1] على ميسرته، وإبراهيم في
ستين ألفا والتقوا فانهزم إبراهيم وأخذ أسيرا وقتل جماعة من أمراء
العرب صبرا، وملك تاج الدولة تتش الموصل، وولّى عليها عليّ بن مشرف
الدولة. وفوّض إليه أمر صفيّة عمة تتش وبعث إلى بغداد يطلب مساعدة
كوهرابين الشحنة فجاء العذر بانتظار الرسل من العسكر، فسار إلى ديار
بكر وملكها، ثم إلى أذربيجان، وبلغ خبره إلى بركيارق، وقد استولى على
همذان والريّ فسار لمدافعته، فلمّا التقى العسكران جنح آق سنقر إلى
بركيارق وفاوض توران في ذلك، وأنهما إنّما اتّبعا تتش حتى يظهر أمر
أولاد ملك شاه، فوافقه على ذلك، وسارا معا إلى بركيارق فانهزم تتش وعاد
إلى دمشق، واستفحل بركيارق وجاءه كوهرابين يعتذر من مساعدته لتتش في
الخطبة فلم يقبله، وعزله وولّى الأمير نكبرد شحنة بغداد مكانه. ثم خطب
لبركيارق ببغداد كما قدّمناه.
ومات المقتدي ونصب المستظهر، ولما عاد تتش من أذربيجان إلى الشام جمع
العساكر وسار إلى حلب لقتال آق سنقر، وبعث بركيارق كربوقا الّذي صار
أمير الموصل مددا لآقسنقر، ولقيهم تتش قريبا من حلب فهزمهم وأسر آق
سنقر فقتله صبرا. ولحق
__________
[1] توزون: الكامل في التاريخ ج 8 ص 301 ووردت أيضا توران.
(3/594)
توران وكربوقا بحلب، وحاصرهما تتش فملكها
وأخذهما أسيرين، وبعث إلى حرّان والرّها في الطاعة، وكانتا لتوران
فامتنعوا، فبعث برأسه إليهم وأطاعوه، وحبس كربوقا في حمص إلى أن أطاعه
رضوان بعد قتل أبيه تتش. ثم سار تتش إلى الجزيرة فملكها، ثم ديار بكر
ثم خلاط وأرمينية، ثم أذربيجان. ثم سار إلى همذان فملكها، وكان بها فخر
الدولة نظام الملك، سار من حرّان لخدمة بركيارق فلقيه الأمير تاج من
عسكر محمود بن ملك شاه بأصبهان، فنهب ماله ونجا بنفسه إلى همذان، وصادف
بها تتش وشفع فيه باغسيان وأشار بوزارته فاستوزره، وأرسل إلى بغداد
يطلب الخطبة من المستظهر وبعث يوسف بن أبق التركماني شحنته إلى بغداد
في جمع من التركمان فمنع من دخولها. وكان بركيارق قد سار إلى نصيبين
وعبر دجلة فوق الموصل إلى أربل، ثم إلى بلد سرخاب بن بدر حتى إذا كان
بينه وبين عمّه تسعة فراسخ، وهو في ألف رجل وعمّه في خمسين ألفا،
فبيّته بعض الأمراء من عسكر عمّه فانهزم إلى أصبهان، وبها محمود ابن
أخيه، وقد ماتت أمّه تركمان خاتون فأدخله أمراء محمود، واحتاطوا عليه.
ثم مات محمود سلخ شوّال من سنة سبع وثمانين، واستولى بركيارق على
الأمر، وقصده مؤيد الملك بن نظام الملك فاستوزره في ذي الحجّة، واستمال
الأمراء فرجعوا إليه وكثر جمعه. وكان تتش بعد هزيمة بركيارق قد اختلف
عليه الأمراء وراسل أمراء أصبهان يدعوهم إلى طاعته فواعدوه انتظار
بركيارق، وكان قد أصابه الجدري، فلمّا أبلّ نبذوا إليه عهده، وساروا مع
بركيارق من أصبهان، وأقبلت إليهم العساكر من كل مكان وانتهوا إلى
ثلاثين ألفا والتقوا قريبا من الريّ فانهزم تتش وقتله بعض أصحاب آق
سنقر، وكان قد حبس وزيره فخر الملك بن نظام الملك فأطلق ذلك اليوم،
واستفحل أمر بركيارق وخطب له ببغداد.
ظهور السلطان ملك شاه والخطبة له ببغداد
كان السلطان بركيارق قد ولّى على خراسان وأعمالها أخاه لأبيه سنجر
فاستقل بأعمال خراسان كما يذكر في أخبار دولتهم عند انفرادها بالذكر.
وإنما نذكر هنا من أخبارهم ما يتعلّق بالخلافة والخطبة لهم ببغداد،
لأنّ مساق الكلام هنا إنما هو عن أخبار دولة بني العبّاس، ومن وزر لهم
أو تغلّب خاصة. وكان لسنجر بن ملك شاه أخ شقيق اسمه محمد، ولمّا هلك
السلطان ملك شاه سار مع أخيه محمود وتركمان خاتون إلى
(3/595)
أصبهان. فلمّا حاصرهم بركيارق لحق به أخوه
محمد هذا وسار معه إلى بغداد سنة ست وثمانين، وأقطعه دجلة وأعمالها
وبعث معه قطلغ تكين أتابك. فلمّا استوى على أمره قتله أنفة من حجره. ثم
لحق به مؤيد الملك بن عبيد الله بن نظام الملك، كان مع الأمير أنز
وداخله في الخلاف على السلطان بركيارق. فلما قتل أنز كما نذكر في
أخبارهم لحق مؤيد الملك بمحمد بن السلطان ملك شاه، وأشار عليه ففعل
وخطب لنفسه. واستوزر مؤيد الملك، وقارن ذلك أنّ السلطان بركيارق قتل
خاله مجد الملك البارسلاني فاستوحش منه أمراؤه، ولحقوا بأخيه محمد وسار
بركيارق إلى الريّ واجتمع له بها عساكر وجاء عزّ الملك منصور بن نظام
الملك في عساكر، وبينما هو في الريّ إذ بلغه مسير أخيه محمد إليه فأجفل
راجعا إلى أصبهان فمنعه أهلها الدخول، فسار إلى خوزستان. وجاء السلطان
محمد إلى الريّ أوّل ذي القعدة من سنة اثنتين وتسعين، ووجد أم بركيارق
بها وهي زبيدة خاتون فحبسها مؤيد الملك وقتلها، واستفحل ملك محمد،
وجاءه سعد الدولة كوهرابين شحنة بغداد وكان مستوحشا من بركيارق، وجاء
معه كربوقا صاحب الموصل وجكرمش صاحب جزيرة ابن عمر، وسرخاب ابن بدر
صاحب كركور فلقوه جميعا بقمّ وسار كربوقا وجكرمش معه إلى أصبهان، وردّ
كوهرابين إلى بغداد في طلب الخطبة من الخليفة، وأن يكون شحنة [1] بها
فأجابه المستظهر إلى ذلك وخطب له منتصف ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين
ولقب غياث الدنيا والدين.
اعادة الخطبة لبركيارق
لما سار بركيارق مجفلا من الريّ إلى خوزستان أمام أخيه محمد، وأمير
عسكره يومئذ ينال بن أنوش تكين الحسامي، ومعه جماعة من الأمراء، أجمع
المسير إلى العراق، فسار إلى واسط، وجاءه صدقة بن مزيد صاحب الحلّة. ثم
سار إلى بغداد فخطب له بها منتصف صفر من سنة ثلاث وتسعين. ولحق سعد
الدولة كوهرابين ببعض الحصون هنالك ومعه أبو الغازي بن أرتق وغيره من
الأمراء، وأرسل إلى السلطان محمد ووزيره مؤيد الملك يستحثّهما في
الوصول، فبعث إليه كربوقا صاحب
__________
[1] الشحنة: الحامية وقد استعملها ابن خلدون بمعنى القائد أو رئيس
الشرطة وفي لسان العرب: وبالبلد شحنة من الخيل اي رابطة. قال ابن بري:
وقول العامة في الشحنة إنه الأمير غلط. وقال الأزهري شحنة الكورة من
فيهم الكفاية لضبطها من أولياء السلطان.
(3/596)
الموصل وجكرمش صاحب الجزيرة فلم يرضه. وطلب
جكرمش العود إلى بلده فأطلقه. ثم نزع كوهرابين ومن معه من الأمراء إلى
بركيارق باغزاء كربوقا صاحب الموصل، وكاتبوه فخرج إليهم ودخلوا معه
بغداد واستوزره الأغرّ ابو المحاسن عبد الجليل بن عليّ بن محمد
الدهستانيّ، وقبض على عميد الدولة ابن جهير وزير الخليفة وطالبه بأموال
ديار بكر والموصل في ولايته وولاية أبيه، وصادره على مائة وستين ألف
دينار فحملها إليه وخلع المستظهر على السلطان بركيارق واستقرّ أمره.
المصاف الأوّل بين بركيارق ومحمد وقتل كوهرابين والخطبة لمحمد
ثم سار بركيارق من بغداد إلى شهرزور لقتال أخيه محمد، واجتمع إليه عسكر
عظيم من التركمان، وكاتبه رئيس همذان بالمسير إليه فعدا عنه، ولقي أخاه
محمدا على فراسخ من همذان ومحمد في عشرين ألف مقاتل، ومعه الأمير سرخو
شحنة أصبهان وعلى ميمنته أمير آخر وابنه أياز، وعلى ميسرته مؤيد الملك
والنظامية. ومع بركيارق في لقلب وزيره أبو المحاسن، وفي ميمنته
كوهرابين وصدقة بن مزيد وسرخاب بن بدر.
وفي ميسرته كربوقا وغيره من الأمراء. فحمل كوهرابين من ميمنة بركيارق
على ميسرة محمد فانهزموا حتى نهبت خيامهم. ثم حملت ميمنة محمد على
ميسرة بركيارق فانهزمت، وحمل محمد معهم فانهزم بركيارق، ورجع كوهرابين
للمنهزمين فكبا به فرسه وقتل، وافترقت عساكر بركيارق وأسر وزيره أبو
المحاسن فأكرمه مؤيد الملك وأنزله وأعاده إلى بغداد ليخاطب المستظهر في
إعادة الخطبة للسلطان محمد ففعل، وخطب له ببغداد منتصف رجب سنة ثلاث
وتسعين. وابتداء أمر كوهرابين أنه كان لامرأة بخوزستان وصار خادما
للملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة. وحظي عنده وكان يستعرض حوائج تلك
المرأة وأصاب أهلها منه خيرا. وأرسله أبو كاليجار مع ولده أبي نصر إلى
بغداد، فلمّا قبض عليه السلطان طغرلبك مضى معه إلى محبسه بقلعة طبرك.
ولمّا مات أبو نصر سار إلى خدمة السلطان ألب أرسلان فحظي عنده وأقطعه
واسط وجعله شحنة بغداد، وكان حاضرا معه يوم قتله يوسف الخوارزمي ووقّاه
بنفسه. ثم بعثه ابنه ملك شاه إلى بغداد لإحضار الخلع والتقليد، واستقرّ
(3/597)
شحنة ببغداد إلى أن قتل، ورأى ما لم يره
خادم قبله من نفوذ الكلمة وكمال القدرة وخدمة الأمراء والأعيان وطاعتهم
انتهى.
مصاف بركيارق مع أخيه سنجر
ولما انهزم السلطان بركيارق من أخيه محمد لحق بالريّ واستدعى شيعته
وأنصاره من الأمراء فلحقوا به. ثم ساروا إلى أسفراين وكاتب الأمير داود
حبشر بن التونطاق يستدعيه وهو صاحب خراسان وطبرستان ومنزله بالدامغان،
فأشار عليه باللحاق بنيسابور حتى يأتيه. فدخل نيسابور وقبض على
رؤسائها، ثم أطلقهم وأساء التصرّف. ثم أعاد الكتاب إلى داود حبشي
بالاستدعاء فاعتذر بأنّ السلطان سنجر زحف إليه في عساكر بلخ. ثم سأل
منه المدد فسار بركيارق إليه في ألف فارس وهو في عشرين ألفا والتقوا
بسنجر عند النوشجان وفي ميمنة سنجر الأمير برغش وفي ميسرته كوكر، ومعه
في القلب رستم. فحمل بركيارق على رستم فقتله وانهزم أصحابه ونهب
عسكرهم، وكادت الهزيمة تتم عليهم. ثم حمل برغش وكوكر على عسكر بركيارق
وهم مشتغلون بالنهب فانهزموا، وانهزم بركيارق. وجاء بعض التركمان
بالأمير داود حبشي أسيرا إلى برغش فقتله ولحق بركيارق بجرجان ثم
بالدامغان، وقطع البريّة إلى أصبهان بمراسلة أهلها فسبقه أخوه محمد
إليها فعاد أسيرهم انتهى.
عزل الوزير عميد الدولة بن جهير ووفاته
قد ذكرنا أنّ وزير السلطان بركيارق وهو الأغر أبو المحاسن أسر في
المصاف الأوّل بين بركيارق ومحمد، وأنّ مؤيد الملك بن نظام الملك وزير
محمد أطلقه واصطنعه وضمنه عمارة بغداد، وحمله طلب الخطبة لمحمد ببغداد
من المستظهر فخطب له، وكان فيما حمله للمستظهر عزل وزيره عميد الدولة
بن جهير. وبلغ ذلك عميد الدولة فأرسل من يعترض الأغر ويقتله فامتنع
بعقر باب. ثم صالحه ذلك الّذي اعترضه وطلب لقاءه فلقيه، ودسّ الأغر إلى
أبي الغازي بن أرتق، وكان وصل معه وسبقه إلى بغداد، فرجع إليه ليلا
ويئس منه ذلك الّذي اعترضه، ووصل الأغرّ بغداد، وبلغ إلى المستظهر
رسالة مؤيد الدولة في عزل عميد الدولة فقبض عليه في رمضان من سنة
(3/598)
ثلاث وتسعين، وعلى إخوته، وصودر على خمسة
وعشرين ألف دينار، وبقي محبوسا بدار الخلافة إلى أن هلك في محبسه.
المصاف الثاني بين بركيارق وأخيه محمد
ومقتل مؤيد الملك والخطبة لبركيارق
قد ذكرنا أنّ بركيارق لمّا انهزم أمام أخيه محمد في المصاف الأوّل سار
إلى أصبهان، ولم يدخلها فمضى إلى عسكر مكرم إلى خوزستان وجاءه الأميران
زنكي وألبكي ابنا برسق. ثم سار إلى همذان فكاتبه أياز من كبار أمراء
محمد بما كان استوحش منه فجاءه في خمسة آلاف فارس وأغراه باللقاء
فارتحل لذلك. ثم استأمن إليه سرخاب ابن كنخسرو صاحب آوة فاجتمع له
خمسون ألفا من المقاتلة، وبقي أخوه في خمسة عشر ألفا. ثم اقتتلوا أول
جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين، وأصحاب محمد يغدون على محمد شيئا فشيئا
مستأمنين. ثم انهزم آخر النهار وأسر وزيره مؤيد الملك، وأحضره عند
بركيارق غلام لمجد الملك البارسلاني ثار منه مولاه، فلمّا حضر وبّخه
بركيارق وقتله وبعث الوزير أبو المحاسن من يسلم إليه أمواله، وصادر
عليها قرابته، في بغداد وفي غير بغداد من بلاد العجم. ويقال كان فيما
أخذ له قطعة من البلخش زنة إحدى وأربعين مثقالا. ثم سار بركيارق إلى
الريّ ولقيه هناك كربوقا صاحب الموصل، ونور الدولة دبيس بن صدقة بن
مزيد، واجتمعت إليه نحو من مائة ألف فارس حتى ضاقت بهم البلاد ففرق
العساكر. وعاد دبيس إلى أبيه وسار كربوقا إلى أذربيجان لقتال مودود بن
إسماعيل بن ياقوتا، كان خرج على السلطان هنالك وسار أياز إلى همذان
ليقضي الصوم عند أهله ويعود، فبقي بركيارق في خفّ من الجنود. وكان محمد
أخوه لما انهزم لجهات همذان سار إلى شقيقه بخراسان فانتهى إلى جرجان،
وبعث يطلب منه المدد فأمدّه بالمال أوّلا. ثم سار إليه بنفسه إلى جرجان
وسار معه إلى الدامغان وخرّب عسكر خراسان ما مروا به من البلاد،
وانتهوا إلى الريّ، واجتمعت إليهم النظامية وبلغهم افتراق العساكر عن
بركيارق فأغذّوا إليه السير فرحل إلى همذان فبلغه أن أياز راسل محمدا،
فقصد خوزستان وانتهى إلى تستر، واستدعى بني برسق فقعدوا عنه لما بلغهم
مراسلة أياز للسلطان، فسار بركيارق نحو العراق، وكان أياز راسل محمدا
في الكون معه فلم يقبله فسار من همذان، ولحق بركيارق إلى حلوان
(3/599)
وساروا جميعا إلى بغداد. واستولى محمد على
مخلّف أياز بهمذان وحلوان وكان شيئا مما لا يعبّر عنه. وصادر جماعة من
أصحاب أياز من أهل همذان، ووصل بركيارق إلى بغداد منتصف ذي القعدة سنة
أربع وتسعين، وبعث المستظهر لتلقّيه أمين الدولة بن موصلايا في
المراكب، وكان بركيارق مريضا فلزم بيته، وبعث المستظهر في عيد الأضحى
إلى داره منبرا خطب عليه باسمه، وتخلّف بركيارق عن شهود العيد لمرضه،
وضاقت عليه الأموال فطلب الإعانة من المستظهر، وحمل إليه خمسين ألف
دينار بعد المراجعات، ومد يده إلى أموال الناس وصادرهم فضجّوا، وارتكب
خطيئة شنعاء في قاضي جبلة وهو أبو محمد عبد الله بن منصور. وكان من
خبره أنّ أباه منصورا كان قاضيا بجبلة في ملكة الروم، فلما ملكها
المسلمون وصارت في يد أبي الحسن عليّ بن عمّار صاحب طرابلس أقرّه على
القضاء بها. وتوفي فقام ابنه أبو محمد هذا مقامه ولبس شعار الجنديّة
وكان شهما، فهمّ ابن عمّار بالقبض عليه، وشعر فانتقض وخطب للخلفاء
العبّاسية. وكان ابن عمّار يخطب للعلويّة بمصر، وطالت منازلة الفرنج
بحصن جبلة إلى أن ضجر أبو محمد هذا، وبعث إلى صاحب دمشق وهو يومئذ
طغتكين الأتابك أن يسلّم إليه البلد، فبعث ابنه تاج الملوك موري وتسلّم
منه البلد، وجاء به إلى دمشق وبذل لهم فيه ابن عمّار ثلاثين ألف دينار
دون أمواله، فلم يرضوا بإخفار ذمتهم وسار عنهم إلى بغداد، ولقي بها
بركيارق فأحضره الوزير أبو المحاسن وطلبه في ثلاثين ألف دينار، فأجاب
وأحالهم على منزله بالأنبار، فبعث الوزير من أتاه بجميع ما فيه، وكان
لا يعبّر فكانت من المنكرات التي أتاها بركيارق.
ثم بعث الوزير إلى صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد صاحب حلب يطلب منه
ألف ألف دينار متخلّفة من مال الجباية، وتهدّده عليها فغضب وانتقض وخطب
لمحمد، وبعث إليه بركيارق الأمير أياز يستقدمه فلم يجب، وبعث إلى
الكوفة وطرد عنها نائب بركيارق واستضافها إليه.
استيلاء محمد على بغداد
قد ذكرنا استيلاء محمد على همذان في آخر ذي الحجة من سنة أربع وتسعين،
ومعه أخوه سنجر. وذهب بركيارق إلى بغداد فاستولى عليها وأساء السيرة
بها، وبلغ الخبر إلى محمد فسار من همذان في عشرة آلاف فارس، ولقيه
بحلوان أبو الغازي بن أرتق شحنته ببغداد في عساكره وأتباعه. وكان
بركيارق في شدّة من المرض، قد أشرف
(3/600)
على الهلاك فاضطرب أصحابه وعبروا به إلى
الجانب الغربي حتى إذا وصل محمد بغداد وتراءى الجمعان من عدوتي دجلة
ذهب بركيارق وأصحابه إلى واسط ودخل محمد بغداد، وجاءه توقيع المستظهر
بالانتقاض مما وقع به بركيارق، وخطب له على منابر بغداد، وجاءه صدقة بن
منصور صاحب الحلّة فأخرج الناس للقائه ونزل سنجر بدار كوهرابين،
واستوزر محمد بعد مؤيد الملك خطيب الملك أبا منصور محمد بن الحسين،
فقدم إليه في المحرم سنة خمس وتسعين انتهى.
المصاف الثالث والرابع وما تخلل بينهما من
الصلح ولم يتم
ثم ارتحل السلطان وأخوه سنجر عن بغداد منتصف المحرّم من سنة خمس
وتسعين، وقصد سنجر خراسان ومحمد همذان، فاعترض بركيارق خاص الخليفة
المستظهر، وأبلغه القبيح فاستدعى المستظهر محمدا لقتال بركيارق فجاء
إليه وقال: انا أكفيكه.
ورتّب أبا المعالي شحنة ببغداد، وكان بركيارق بواسط كما قلنا، فلما
أبلّ من مرضه عبر إلى الجانب الشرقي بعد جهد وصعوبة لفرار الناس من
واسط لسوء سيرتهم. ثم سار إلى بلاد بني برسق حتى أطاعوا واستقاموا
وساروا معه فاتبع أخاه محمدا إلى نهاوند وتصافوا يومين ومنعهما شدّة
البرد من القتال. ثم اجتمع أياز والوزير الأغر من عسكر بركيارق وبلد
أجى وغيرهم من الأمراء من عسكر محمد. تفاوضوا في شكوى ما نزل بهم من
هذه الفتنة، ثم اتفقوا على أن تكون السلطنة بالعراق لبركيارق ويكون
لمحمد من البلاد الحيرة وأعمالها وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل
على أن يمدّه بركيارق بالعسكر متى احتاج إليه على من يمتنع عليه منها.
وتحالفا على ذلك وافترقا في ربيع الأوّل سنة خمس وتسعين، ثم سار
بركيارق إلى ساوة ومحمد إلى قزوين، وبدا له في الصلح واتّهم الأمراء
الذين سعوا فيه، وأسرّ إلى رئيس قزوين أن يدعوهم إلى صنيع عنده، وغدر
بهم محمد فقتل بعضا وسمل بعضا وأظهر الفتنة. وكان الأمير ينال بن أنوش
تكين قد فارق بركيارق، وأقام مجاهدا للباطنية في الجبال والقلاع فلقي
محمدا وسار معه إلى الريّ، وبلغ الخبر إلى بركيارق فأغذّ إليه السير في
ثمان ليال واصطفّوا في التاسع وكلا الفريقين في عشرة آلاف مقاتل. وحمل
سرخاب بن
(3/601)
كنجسرو الديلميّ صاحب آوة [1] ومن أصحاب
بركيارق على ينال بن أنوش تكين فهزمه، وانهزم معه عسكر محمد، وافترقوا
فلحق فريق بطبرستان وآخر بقزوين، ولحق محمد بأصبهان في سبعين فارسا،
واتّبعه أياز وألبكي بن برسق فنجا إلى البلد وبها نوّابه، فلمّ ما
تشعّث من السور، وكان من بناء علاء الدين بن كاكويه سنة تسع وعشرين
لقتال طغرلبك وحفر الخنادق وأبعد مهواها وأجرى فيها المياه، ونصب
المجانيق، واستعدّ للحصار. وجاء بركيارق في جمادى ومعه خمسة عشر ألف
فارس ومائة ألف من الرجل والأتباع، فحاصرها حتى جهدهم الحصار وعدمت
الأقوات والعلوفة، فخرج محمد عن البلد في عيد الأضحى من سنته في مائة
وخمسين فارسا، ومعه ينال، ونزل في الأمراء، وبعث بركيارق في اتباعه
الأمير أياز. وكانت خيل محمد ضامرة من الجوع، فالتفت إلى أياز يذكّره
العهود فرجع عنه بعد أن نهب منه خيلا ومالا، وأخذ علمه وجنده وعاد إلى
بركيارق. ثم شدّ بركيارق في حصار أصبهان، وزحف بالسلاليم والذبابات،
وجمع الأيدي على الخندق فطمّه، وتعلّق الناس بالسور فاستمات أهل البلد
ودفعوهم. وعلم بركيارق امتناعها فرحل عنها ثامن عشر ذي الحجّة. وجمّر
عسكرا مع ابنه ملك شاه وترشك الصوالي على البلد القديم الّذي يسمّى
شهرستان، وسار إلى همذان بعد أن كان قتل على أصبهان وزيره الأغر أبو
المحاسن عبد الجليل الدهستاني، اعترضه في ركوبه من خيمته إلى خدمة
السلطان متظلم فطعنه وأشواه، ورجع إلى خيمته فمات، وذهب للتجّار الذين
كانوا يعاملونه أموال عظيمة لأنّ الجباية كانت ضاقت بالفتن، فاحتاج إلى
الاستدانة، ونفر منه التجّار لذلك. ثم عامله بعضهم فذهب ما لهم بموته،
وكان أخوه العميد المهذّب أبو محمد قد سار إلى بغداد لينوب عنه حين عقد
الأمراء الصلح بين بركيارق ومحمد، فقبض عليه الشحنة ببغداد أبو الغازي
بن أرتق وكان على طاعة محمد.
الشحنة ببغداد والخطبة لبركيارق
كان أبو الغازي [2] بن أرتق شحنة ببغداد وولّاه عليها السلطان محمد عند
استيلائه في المصاف الأوّل، وكان طريق خراسان إليه فعاد بعض الأيام
منها إلى بغداد، وضرب
__________
[1] سرخاب بن كيخسرو الديلميّ صاحب أبة: ابن الأثير ج 10 ص 332.
[2] إيلغازي: ابن الأثير ج 10 ص 337.
(3/602)
فارس من أصحابه بعض الملّاحين بسهم في
ملاحاة وقعت بينهم عند العبور فقتله فثارت بهم العامة وأمسكوا القاتل،
وجاءوا به إلى باب النوبة في دار الخلافة ولقيهم ولد أبي الغازي
فاستنقذه من أيديهم فرجموه، وجاء إلى أبيه مستغيثا وركب إلى محلة
الملّاحين فنهبها وعطف عليه العيّارون فقتلوا من أصحابه، وركبوا السفين
للنجاة فهرب الملّاحون وتركوهم فغرقوا، وجمع أبو الغازي التركماني لنهب
الجانب الغربي، فبعث إليه المستظهر قاضي القضاة والكيا الهرّاسي مدرّس
النظامية بالامتناع من ذلك فاقتصر ابو الغازي أثناء ذلك متمسكا بطاعة
السلطان محمد. فلمّا انهزم محمد وانطلق من حصار أصبهان واستولى بركيارق
على الريّ بعث في منتصف ربيع الأوّل من سنة ست وتسعين من همذان كمستكين
القيصراني شحنة إلى بغداد. فلما سمع أبو الغازي بعث إلى أخيه سقمان
بحصن كيفا يستدعيه للدفاع. وجاءه سقمان ومرّ بتكريت فنهبها، ووصل
كمستكين ولقيه شيعة بركيارق وأشاروا عليه بالمعاجلة، ووصل إلى بغداد
منتصف ربيع. وخرج ابو الغازي وأخوه سقمان إلى دجيل ونهبا بعض قراها،
واتبعهما طائفة من عسكر كمستكين. ثم رجعوا عنهما وخطب للسلطان بركيارق
ببغداد وبعث كمستكين إلى سيف الدولة صدقة بالحلّة عنه وعن المستظهر
بطاعة بركيارق فلم يجب، وكشف القناع وسار إلى جسر صرصر فقطعت الخطبة
على منابر بغداد فلم يذكر أحد عليها من السلاطين. واقتصر على الخليفة
فقط. وبعث سيف الدولة صدقة إلى أبي الغازي وسقمان بأنه جاء لنصرتهما
فعادوا إلى دجيل وعاثوا في البلاد، واجتمع لذلك حشد العرب والأكراد مع
سيف الدولة، وبعث إليه المستظهر في الإصلاح، وخيّموا جميعا بالرملة
وقاتلهم العامّة وبعث الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن الدامغانيّ وتاج
رؤساء الرئاسة ابن الموصلايا إلى سيف الدولة بكفّ الأيدي عن الفساد،
فاشترطوا خروج كمستكين القيصراني شحنة بركيارق وإعادة الخطبة للسلطان
محمد، فتم الأمر على ذلك، وعاد سيف الدولة إلى الحلّة وعاد القيصراني
إلى واسط، وخطب بها لبركيارق فسار إليه صدقة وأبو الغازي، وفارقها
القيصراني فاتّبعه سيف الدولة. ثم استأمن ورجع إليه فأكرمه وخطب
للسلطان محمد بواسط، وبعده لسيف الدولة وأبي الغازي واستناب كل واحد
ولده، ورجع ابو الغازي إلى بغداد وسيف الدولة إلى الحلّة، وبعث ولده
منصورا إلى المستظهر يخطب رضاه بما كان منه في هذه الحادثة فأجيب إلى
ذلك.
(3/603)
استيلاء ينال على الريّ بدعوة السلطان محمد
ومسيره إلى العراق
كانت الخطبة بالريّ للسلطان بركيارق، فلما خرج السلطان محمد من الحصار
بأصبهان، بعث ينال بن أنوش تكين الحسامي إلى الريّ ليقيم الخطبة له بها
فسار ومعه أخوه عليّ، وعسف الرعايا. ثم بعث السلطان بركيارق إليه برسق
بن برسق في العساكر فقاتله على الريّ، وانهزم ينال وأخوه منتصف ربيع من
سنة ست وتسعين، وذهب عليّ إلى قزوين وسلك ينال على الجبال إلى بغداد
وتقطّع أصحابه في الأوعار وقتلوا، ووصل إلى بغداد في سبعمائة رجل،
وأكرمه المستظهر واجتمع هو وأبو الغازي وسقمان ابنا أرتق بمشهد أبي
حنيفة، فاستحلفوه على طاعة السلطان محمد، وساروا إلى سيف الدولة صدقة
واستحلفوه على ذلك. واستقرّ ينال ببغداد في طاعة السلطان محمد، وتزوّج
أخت أبي الغازي كانت تحت تاج الدولة تتش. وعسف بالناس وصادر العمّال
واستطال أصحابه على العامّة بالضرب والقتل. وبعث إليه المستظهر مع
القاضي الدامغانيّ بالنهي عن ذلك وتقبيح فعله، ثم مع إيلغازي فأجاب
وحلف على كفّ أصحابه ومنعهم. واستمرّ على قبح السيرة فبعث المستظهر إلى
سيف الدولة صداقة يستدعيه لكفّ عدوانه، فجاء إلى بغداد في شوّال من سنة
ست وتسعين، وخيّم بالمنجمي ودعا ينالا للرحمة عن العراق على أن يدفع
إليه. وعاد إلى الحلّة وسار ينال مستهل ذي القعدة إلى أوانا ففعل من
النهب والعسف أقبح مما فعل ببغداد، فبعث المستظهر إلى صدقة في ذلك،
فأرسل ألف فارس، وساروا إليه مع جماعة من أصحاب المستظهر وأبي الغازي
الشحنة، وذهب ينال أمامهم إلى أذربيجان قاصدا إلى السلطان محمد ورجع
أبو الغازي والعساكر عنه.
المصاف الخامس بين السلطانين
كانت كنجة وبلاد أرزن [1] للسلطان محمد وعسكره مقيم بها مع الأمير عز
علي [2] فلما طال حصاره بأصبهان جاءوا لنصرته، ومعهم منصور بن نظام
الملك ومحمد بن
__________
[1] كنجة وبلاد ارّان: ابن الأثير ج 10 ص 359.
[2] غزغلي: المرجع السابق.
(3/604)
أخيه مؤيد الملك، ووصلوا إلى الريّ آخر ذي
الحجّة سنة خمس وتسعين، وفارقه عسكر بركيارق. ثم خرج محمد من أصبهان
فساروا إليه ولقوة بهمذان، ومعه ينال وعلي ابنا أنوش تكين فاجتمعوا في
ستة آلاف فارس. وسار ينال وأخوه على الريّ وأزعجتهم عنها عساكر بركيارق
كما مرّ. ثم جاءهم الخبر في همذان بزحف بركيارق إليهم، فسار محمد إلى
بلاد شروان. ولما انتهى إلى أردبيل بعث إليه مودود بن إسماعيل ابن
ياقوتي، وكان أميرا على بيلقان من أذربيجان، وكان أبوه إسماعيل خال
بركيارق، وانتقض عليه أوّل أمره فقتله فكان مودود يطالبه بثأر أبيه،
وكانت أخته تحت محمد فبعث إليه وجاءه الى بيلقان. وتوفي مودود اثر
قدومه منتصف ربيع من سنة ست وتسعين، فاجتمع عسكره على الطاعة لمحمد
وفيهم سقمان القطبي [1] صاحب خلاط وأرمينية ومحمد بن غاغيسا، كان أبوه
صاحب أنطاكية. وكان ألب أرسلان ابن السبع الأحمر. ولما بلغ بركيارق
اجتماعهم لحربه أغذّ السير إليهم فوصل وقاتلهم على باب خوي من أذربيجان
من المغرب إلى العشاء. ثم حمل أياز من أصحاب بركيارق على عسكر محمد
فانهزموا، وسار إلى خلاط ومعه سقمان القطبي ولقيه الأمير عليّ صاحب
أرزن الروم، ثم سار إلى [2] وبها منوجهر أخو فضلون الروادي. ثم سار إلى
تبريز ولحق محمد بن مؤيد الملك بديار بكر، وسار منها إلى بغداد وكان من
خبره أنه كان مقيما ببغداد مجاورا للمدرسة النظامية فشكا الجيران منه
إلى أبيه، فكتب إلى كوهرابين بالقبض عليه فاستجار بدار الخلافة. ثم سار
سنة اثنتين وتسعين إلى محمد الملك الباسلاني [3] وأبوه حينئذ بكنجة عند
السلطان محمد قبل أن يدعو لنفسه. ثم سار بعد أن قتل محمد الملك إلى
والده مؤيد الملك، وهو وزير السلطان محمد. ثم قتل أبوه واتصل هو
بالسلطان، وحضر هذه الحروب كما ذكرنا. وأمّا السلطان بركيارق بعد هزيمة
محمد فإنه نزل جبل بين مراغة وتبريز وأقام به حولا، وكان خليفة
المستظهر سديد الملك أبو المعالي كما ذكرناه. ثم قبض عليه منتصف رجب
سنة ست وتسعين وحبس بدار الخليفة مع أهله كانوا قد وردوا عليه من
أصبهان. وسبب عزله جهله بقواعد ديوان الخلافة لأنه كان يتصرّف
__________
[1] سكمان القبطي: ابن الأثير ج 10 ص 361.
[2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 361: «وتوجه الى آني، وصاحبها
منوجهر أخو فضلون الروادي.»
[3] مجد الملك البلاساني: ابن الأثير ج 10 ص 361.
(3/605)
في أعمال السلاطين، وليست فيها هذه
القوانين. ولما قبض عاد أمين الدولة أبو سعد ابن الموصلايا إلى النظر
في الديوان وبعث المستظهر عن زعيم الرؤساء أبي القاسم بن جهير من
الحلّة، وكان ذهب إليها في السنة قبلها مستجيرا بسيف الدولة صدقة لأنّ
خاله أمين الدولة أبا سعد بن الموصلايا كان الوزير الأعز وزير بركيارق
يشيع عنه أنه الّذي يحمل المستظهر على موالاة السلطان محمد، والخطبة له
دون بركيارق، فاعتزل أمين الدولة الديوان وسار ابن أخته هذا أبو القاسم
بن جهير مستجيرا بصاحب الحلّة فاستقدمه الخليفة الآن. وخرج أرباب
الدولة لاستقباله، وخلع عليه للوزارة ولقيه قوام الدولة، ثم عزله على
رأس المائة الخامسة. واستجار سيف الدولة صدقة بن منصور ببغداد فأجاره
وبعث عنه إلى الحلّة وذلك لثلاث سنين ونصف من وزارته، وناب في مكانه
القاضي أبو الحسن بن الدامغانيّ أياما. ثم استوزر مكانه أبا المعالي بن
محمد بن المطلب في المحرّم سنة إحدى وخمسمائة، ثم عزله سنة اثنتين
بإشارة السلطان محمد، وأعاده بإذنه على شرطية العدل وحسن السيرة، وأن
لا يستعمل أحدا من أهل الذمّة. ثم عزل في رجب من سنة اثنتين وخمسين،
واستوزر أبا القاسم بن جهير سنة تسع وخمسين، واستوزر بعده الربيع أبا
منصور بن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير السلطان.
الصلح بين السلطانين بركيارق ومحمد
ولما تطاولت الفتنة بين السلطانين، وكثر النهب والهرج وخربت القرى،
واستطال الأمر عليهم وكان السلطان بركيارق بالريّ والخطبة له بها
وبالجبل وطبرستان وخوزستان وفارس وديار بكر والجزيرة والحرمين، وكان
السلطان محمد بأذربيجان والخطبة له بها وببلاد أرّان وأرمينية وأصبهان
والعراق جميعه إلّا تكريت. وأمّا البطائح فبعضها لهذا وبعضها لهذا،
والخطبة بالبصرة لهما جميعا وأمّا خراسان من جرجان إلى ما وراء النهر،
فكان يخطب فيها لسنجر بعد أخيه السلطان محمد. فلمّا استبصر بركيارق في
ذلك، ورأى تحكّم الأمراء عليه، وقلّة المال، جنح إلى الصلح وبعث القاضي
أبا المظفّر الجرجاني الحنفيّ وأبا الفرج أحمد بن عبد الغفّار
الهمذاني، المعروف بصاحب قراتكين إلى أخيه محمد في الصلح، فوصلا إليه
بمراغة وذكراه ووعظاه فأجاب إلى الصلح على أنّ السلطان لبركيارق، ولا
يمنع محمدا من اتخاذ
(3/606)
الآلة، ولا يذكر أحد منهما مع صاحبه في
الخطبة في البلاد التي صارت إليه وتكون المكاتبة من وزيريهما في الشؤون
لا يكاتب أحدهما الآخر، ولا يعارض أحد من العسكر في الذهاب إلى أيهما
شاء، ويكون للسلطان محمد من نهر اسبيدروذ إلى الأبواب وديار بكر
والجزيرة والموصل والشام، وأن يدخل سيف الدولة صدقة بأعماله في خلفه
وبلاده والسلطنة كلّها، وبقية الأعمال والبلاد كلها للسلطان بركيارق.
وبعث محمد إلى أصحابه بأصبهان بالإفراج عنها لأصحاب أخيه، وجاءوا بحريم
محمد إليه بعد أن دعاهم السلطان بركيارق إلى خدمته فامتنعوا فأكرمهم،
وحمل حريم أخيه وزوّدهم بالأموال، وبعث العساكر في خدمتهم. ثم بعث
السلطان بركيارق إلى المستظهر بما استقرّ عليه الحال في الصلح بينهم،
وحضر أبو الغازي بالديوان وهو شحنة محمد وشيعته، إلا أنه وقف مع الصلح،
فسأل الخطبة لبركيارق فأمر بها المستظهر، وخطب له على منابر بغداد
وواسط في جمادى سنة سبع وتسعين، ونكر الأمير صدقة صاحب الحلّة الخطبة
لبركيارق وكان شيعة لمحمد.
وكتب إلى الخليفة بالنكير على أبي الغازي وأنه سائر لإخراجه عن بغداد،
فجمع أبو الغازي التركمان، وفارق بغداد الى عقرقوبا [1] وجاء سيف
الدولة صدقة ونزل مقابل التاج وقبّل الأرض وخيّم بالجانب الغربي. وأرسل
إليه أبو الغازي يعتذر عن طاعة بركيارق بالصلح الواقع، وأنّ إقطاعه
بحلوان في جملة بلاده التي وقع الصلح عليها وبغداد التي هو شحنه فيها
قد صارت له فقبل ورضي، وعاد إلى الحلّة وبعث المستظهر في ذي القعدة من
سنة سبع وتسعين الخلع للسلطان بركيارق والأمير أياز والخطير وزير
بركيارق، وبعث معهما العهد له بالسلطنة واستحلفه الرسل على طاعة
المستظهر ورجعوا.
وفاة السلطان بركيارق وملك ابنه ملك شاه
كان السلطان بركيارق بعد الصلح وانعقاده أقام بأصبهان أشهرا وطرقه
المرض فسار إلى بغداد، فلمّا بلغ بلد يزدجرد اشتدّ مرضه وأقام بها
أربعين يوما حتى أشفى على الموت، فأحضر ولده ملك شاه وجماعة الأمراء،
وولّاه عهده في السلطنة، وهو ابن خمس سنين وجعل الأمير أياز أتابكه،
وأوصاهم بالطاعة لهما واستحلفهم على ذلك، وأمرهم بالمسير إلى بغداد
وتخلّف عنهم ليعود إلى أصبهان فتوفي في شهر ربيع
__________
[1] يعقوبا: ابن الأثير ج 10 ص 372.
(3/607)
الآخر سنة ثمان وتسعين. وبلغ الخبر إلى
ابنه ملك شاه والأمير أياز على اثني عشر فرسخا من بلد يزدجرد [1]
فرجعوا، وحضروا لتجهيزه وبعثوا به إلى أصبهان للدفن بها في تربة
أعدّها، وأحضر أياز السرادقات والخيام والخفر والشمسة، وجميع آلات
السلطنة فجعلها الملك شاه. وكان أبو الغازي شحنة ببغداد وقد حضر عند
السلطان بركيارق بأصبهان في المحرّم وحثّه على المسير إلى بغداد، فلما
مات بركيارق سار مع ابنه ملك شاه والأمير أياز ووصلوا بغداد منتصف ربيع
الآخر في خمسة آلاف فارس، وركب الوزير أبو القاسم عليّ بن جهير
لتلقّيهم فلقيهم بديالى، وأحضر أبو الغازي والأمير طما يدل [2]
بالديوان وطلبوا الخطبة لملك شاه بن بركيارق فأجاب المستظهر إلى ذلك
وخطب له ولقّب بألقاب جدّه ملك شاه ونثرت الدنانير عند الخطبة.
وصول السلطان محمد الى بغداد واستبداده بالسلطنة والخطبة ومقتل أياز
كان محمد بعد صلحه مع أخيه بركيارق قد اعتزم على المسير الى الموصل
ليتناولها من يد جكرمش لما كانت من البلاد التي عقد عليها وكان بتبريز
ينتظر وصول أصحابه من أذربيجان، فلمّا وصلوا استوزر سعد الملك أبا
المحاسن لحسن أثره في حفظ أصبهان.
ثم رحل في صفر سنة ثمان وتسعين يريد الموصل وسمع جكرمش فاستعدّ للحصار
وأمر أهل السواد بدخول البلد. وجاء محمد فحاصره وبعث إليه كتب أخيه
بأنّ الموصل والجزيرة من قسمته، وأراه إيمانه بذلك، ووعده بأن يقرّه
على ولايتها فقال جكرمش: قد جاءتني كتب بركيارق بعد الصلح بخلاف هذا
فاشتدّ محمد في حصاره، وقتل بين الفريقين خلق، ونقب السور ليلة فأصبحوا
وأعادوه، ووصل الخبر إلى جكرمش بوفاة بركيارق عاشر جمادى فاستشار
أصحابه ورأى المصلحة في طاعة السلطان محمد فأرسل إليه بالطاعة، وأن
يدخل إليه وزيره بعد الملك فدخل، وأشار عليه بالحضور عند السلطان فحضر،
وأقبل السلطان عليه وردّه لجيشه لما توقع من ارتياب أهل البلد بخروجه،
وأكثر من الهدايا والتحف للسلطان ولوزيره. ولما بلغ وفاة أخيه بركيارق
سار إلى بغداد ومعه سقمان القطبي نسبة إلى قطب الدولة
__________
[1] بروجرد: ابن الأثير ج 10 ص 380 وقد مرّ ذكرها من قبل.
[2] طغايرك: ابن الأثير ج 10 ص 382.
(3/608)
إسماعيل بن ياقوتا بن داود، وداود هو
حقربيك وأبو ألب أرسلان، وسار معه جكرمش وصاحب الموصل وغيرهما من
الأمراء. وكان سيف الدولة صاحب الحلة قد جمع عسكرا خمسة عشر ألفا من
الفرسان وعشرة آلاف رجل، وبعث ولديه بدران ودبيس إلى السلطان محمد
يستحثّه على بغداد. ولمّا سمع الأمير أياز بقدومه، خرج هو وعسكره
وخيّموا خارج بغداد واستشار أصحابه فصمّموا على الحرب، وأشار وزيره أبو
المحاسن بطاعة السلطان محمد وخوّفه عاقبة خلافه وسفّه آراءهم في حربه،
وأطمعه في زيادة الأقطاع، وتردّد أياز في أمره وجمع السفن عنده، وضبط
المثار ووصل السلطان محمد آخر جمادى من سنة ثمان وتسعين، ونزل بالجانب
الغربي وخطب له هنالك، ولملك شاه بالجانب الشرقي. واقتصر خطيب جامع
المنصور على الدعاء للمستظهر ولسلطان العالم فقط. وجمع أياز أصحابه
لليمين فأبوا من المعاودة وقالوا لا فائدة فيها والوفاء إنما يكون
بواحدة فارتاب أياز بهم، وبعث وزيره المصفى أبا المحاسن إلى السلطان
محمد في الصلح، وتسليم الأمر فلقي أوّلا وزيره سعد الملك أبا المحاسن
سعد بن محمد وأخبر فأحضره عند السلطان محمد وأدى رسالة أياز والعذر عما
كان منه أيام بركيارق فقبله السلطان وأعتبه، وأجابه إلى اليمين وحضر من
الغد القاضي والنقيبان واستحلف الكيا الهرّاسي مدرس النظامية بمحضر
القاضي وزير أياز بمحضرهم لملك شاه ولأياز وللأمراء الذين معه، فقال:
أمّا ملك شاه فهو ابني وأمّا أياز والأمراء فأحلف لهم إلّا ينال بن
أنوش، وسار واستحلفه الكيا الهرّاسي مدرّس النظامية بمحضر القاضي
والنقيبين. ثم حضر أياز من الغد ووصل سيف الدولة صدقة وركب السلطان
للقائهما وأحسن إليهما، وعمل أياز دعوة في داره وهي دار كوهرابين وحضر
عنده السلطان وأتحفه بأشياء كثيرة منها حبل البلخش الّذي كان أخذه من
تركة مؤيد الملك بن نظام الملك. وحضر مع السلطان سيف الدولة صدقة بن
مزيد.
وكان أياز قد تقدّم إلى غلمانه يلبس السلاح ليعرضهم على السلطان، وحضر
عندهم بعض الصفاعين فأخذوا معه في السخرية وألبسوه درعا تحت قميصه،
وجعلوا يتناولونه بأيديهم فهرب منهم إلى خواص السلطان، ورآه السلطان
متسلحا فأمر بعض غلمانه فالتمسوه وقد وجدوا السلاح فارتاب ونهض من دار
أياز. ثم استدعاه بعد أيام ومعه جكرمش وسائر الأمراء فلما حضر وقف
عليهم بعض قوّاده وقال لهم أن قليج أرسلان ابن سليمان بن قطلمش قصد
ديار بكر ليملكها فأشيروا بمن نسيّر لقتاله، فأشاروا جميعا
(3/609)
بالأمير أياز، وطلب هو مسير سيف الدولة
صدقة معه فاستدعى أياز وصدقة ليفاوضهم في ذلك فنهضوا إليه، وقد أعدّ
جماعة من خواصه لقتل أياز فلما دخلوا ضرب أياز فقطع رأسه ولف شلوه في
مشلح وألقي على الطريق. وركب عسكره فنهبوا داره وأرسل السلطان لحمايتها
فافترقوا واختفى وزيره. ثم حمل إلى دار الوزير سعد الملك وقتل في رمضان
من سنته. وكان من بيت رياسة بهمذان وكان أياز من مماليك السلطان ملك
شاه، وصار بعد موته في جملة أمير آخر فاتخذه ولدا، وكان شجاعا حسن
الرأي في الحرب واستبدّ السلطان محمد بالسلطنة وأحسن السيرة، ورفع
الضرائب، وكتب بها الألواح ونصبت في الأسواق وعظم فساد التركمان بطريق
خراسان، وهي من أعمال العراق فبعث أبو الغازي بن أرتق شحنة بغداد بدل
ابن أخيه بهرام بن أرتق على ذلك البلد فحماه وكفّ الفساد منه. وسار إلى
حصن من أعمال سرخاب بن بدر فحصره وملكه. ثم ولّى السلطان محمد سنقر
البرسقي شحنة بالعراق وكان معه في حروبه وأقطع الأمير قاياز الكوفة
وأمر صدقة صاحب الحلّة أن يحمي أصحابه من خفاجة. ولما كان شهر رمضان من
سنة ثمانية وتسعين عاد السلطان محمد إلى أصبهان وأحسن فيهم السيرة وكفّ
عنهم الأيدي العادية.
الشحنة ببغداد
كان السلطان قد قبض سنة اثنتين وخمسين على أبي القاسم الحسين بن عبد
الواحد صاحب المخزن، وعلي بن الفرج ابن رئيس الرؤساء واعتقلهما
وصادرهما على مال يحملانه، وأرسل مجاهد الدين لقبض المال، وأمره بعمارة
دار الملك فاضطلع بعمارتها، وأحسن السيرة في الناس وقدم السلطان أثر
ذلك إلى بغداد فشكر سيرته، وولّاه شحنة بالعراق وعاد إلى أصبهان.
وفاة السلطان محمد وملك ابنه محمود
ثم توفي السلطان محمد بن ملك شاه آخر ذي الحجة من سنة إحدى وخمسمائة،
وقد كان عهد لولده محمود وهو يومئذ غلام محتلم، وأمره بالجلوس على
التخت بالتاج والسوارين وذلك لاثنتي عشرة سنة ونصف من استبداده بالملك
واجتماع الناس عليه بعد أخيه. وولي بعده ابنه محمود وبايعه أمراء
السلجوقية، ودبّر دولته الوزير الرسب
(3/610)
أبو منصور ابن الوزير أبي شجاع محمد بن
الحسين وزير أبيه، وبعث إلى المستظهر في الخطبة فخطب له على منابر
بغداد منتصف المحرّم سنة اثنتي عشرة، وكان آق سنقر البرسقي مقيما
بالرحبة استخلف بها ابنه مسعودا، وسار إلى السلطان محمد يطلب الزيادة
في الأقطاع والولاية ولقيه خبر وفاته قريبا من بغداد فمنعه بهروز
الشحنة من دخولها، وسار إلى أصبهان فلقيه بحلوان توقيع السلطان محمود
بأن يكون شحنة بغداد لسعي الأمراء له في ذلك تعصبا على مجاهد الدين
بهروز وغيره منه لمكانه عند السلطان محمد. ولما رجع آق سنقر إلى بغداد
هرب مجاهد الدين بهروز إلى تكريت وكانت من أعماله. ثم عزل السلطان
محمود آق سنقر وولّى شحنة بغداد الأمير منكبرس حاكما في دولته بأصبهان،
فبعث نائبا عنه ببغداد والعراق الأمير حسين بن أروبك أحد أمراء
الأتراك. ورغب البرسقي من المستظهر بالعدة فلم يتوقّف فسار آق سنقر
إليه وقاتله، وانهزم الأمير حسين وقتل أخوه وعاد إلى عسكر السلطان وذلك
في ربيع الأوّل من سنة اثنتي عشرة.
وفاة المستظهر وخلافة المسترشد
ثم توفي المستظهر باللَّه أبو العبّاس أحمد بن المقتدي باللَّه أبو
القاسم عبد الله بن القائم باللَّه في منتصف ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة
وخمسمائة لأربع وعشرين سنة وثلاثة أشهر من خلافته، وبويع بعده ابنه
المسترشد باللَّه الفضل، وكان ولي عهده منذ ثلاث وعشرين سنة وبايعه
أخوه عبد الله محمد وهو المقتدي، وأبو طالب العبّاس وعمومته بنو
المقتدي وغيرهم من الأمراء والقضاة والأئمة والأعيان. وتولى أخذ البيعة
القاضي أبو الحسن الدامغانيّ، وكان نائبا عن الوزارة فأقرّه المسترشد
عليها، ولم يأخذ البيعة قاض غير هذا للمسترشد، وأحمد بن أبي داود [1]
للواثق والقاضي أبو علي إسماعيل بن إسحاق للمعتضد. ثم عزل المسترشد
قاضي القضاة عن نيابة الوزارة واستوزر أبا شجاع محمد بن الرسب أبي
منصور، خاطبه أبوه وزير السلطان محمود وابنه محمد في شأنه فاستوزره، ثم
عزله سنة عشر واستوزر مكانه جلال الدين عميد الدولة أبا علي بن صدقة،
وهو عمّ جلال الدين أبي الرضى بن صدقة وزير الراشد.
__________
[1] احمد بن أبي دؤاد: وهو اياد، وكان ذو نفوذ وجاه في دولتي المعتصم
والواثق (البيان والتبيين للجاحظ ج 2 ص 190) .
(3/611)
ولما شغل الناس ببيعة المسترشد ركب أخوه
الأمير أبو الحسن في السفن مع ثلاثة نفر وانحدر إلى المدائن، ومنها إلى
الحلّة فأكرمه دبيس، وأهمّ ذلك المسترشد وبعث إلى دبيس في إعادته مع
النقيب علي بن طراد الرثيني فاعتذر بالذمام، وأنه لا يكرهه فخطب النقيب
أبا الحسن أخا الخليفة في الرجوع فاعتذر بالخوف، وطلب الأمان.
ثم حدث من البرسقي ودبيس ما نذكره فتأخر ذلك إلى صفر من سنته وهي سنة
ثلاث عشرة، فسار أبو الحسن بن المستظهر إلى واسط وملكها، فبادر
المسترشد إلى ولاية العهد لابنه جعفر المنصور ابن اثنتي عشر سنة، فخطب
له وكتب إلى البلاد بذلك، وكتب إلى دبيس بمعاجلة أخيه أبي الحسن فإنه
فارق ذمامه فبعث دبيس العساكر إلى واسط فهرب منها، وصادفوه عند الصبح
فنهبوا أثقاله وهرب الأكراد والأتراك عنه، وقبض عليه بعض الفرق وجاءوا
به إلى دبيس فأكرمه المسترشد وأمّنه وأنزله أحسن نزل.
انتقاض الملك مسعود على أخيه السلطان محمود
ثم مصالحته واستقرار جكرمش شحنة ببغداد
كان السلطان محمد قد أنزل ابنه مسعودا بالحلّة وجعل معه حيوس بك أتابك،
فلما ملك السلطان محمود بعده وفاة أبيه، ثم ولي المسترشد الخلافة بعد
أبيه، وكان دبيس صاحب الحلة ممرضا في طاعته، وكان آق سنقر البرسقي شحنة
بالعراق كما ذكرناه، أراد قصد الحلّة وأخلى دبيس عنها، وجمع لذلك جموعا
من العرب والأكراد، وبرز من بغداد في جمادى سنة اثنتي عشرة، وبلغ الخبر
إلى الملك مسعود بالموصل وأنّ العراق خال من الحامية، فأشار عليه
أصحابه بقصد العراق للسلطنة فلا مانع دونها. فسار في جيوش كثيرة ومعه
وزيره فخر الملك أبو علي بن عمّار صاحب طرابلس، وسيأتي خبره، وقسيم
الدولة زنكي بن آق سنقر ابن الملك العادل، وصاحب سنجار، وأبو الهيجاء
صاحب اربل، وكربادي بن خراسان التركماني صاحب البواريج. ولما قربوا من
العراق خافهم آق سنقر البرسقي بمكان حيوس بك من الملك المسعود، وأمّا
هو فقد كان أبوه محمد جعله أتابك لابنه مسعود فسار البرسقي لقتالهم،
وبعثوا إليه الأمير كربادي في الصلح، وأنهم إنما جاءوا بحدّة له على
دبيس فقبل، وتعاهدوا ورجعوا إلى بغداد كما مرّ خبره، وسار البرسقي
لقتاله فاجتمع مع
(3/612)
دبيس بن صدقة واتفقا على المعاضدة، وسار
الملك مسعود ومن معه إلى المدائن للقاء دبيس ومنكبرس. ثم بلغهم كثرة
جموعهما فعاد الملك مسعود والبرسقي وحيوس بك، وعبروا نهر صرصر وحفظ
المخاضات وأفحش الطائفتان في نهب السواد واستباحته بنهر الملك ونهر
صرصر ونهر عيسى ودجيل. وبعث المسترشد إلى الملك مسعود والبرسقي بالنكير
عليهم فأنكر البرسقي وقوع شيء من ذلك، واعتزم على العود إلى بغداد،
وبلغه أنّ دبيس ومنكبرس قد جهّز العساكر إليها مع منصور أخي دبيس وحسن
بن أو ربك ربيب منكبرس فأغذّ السير وخلّف ابنه عز الدين مسعودا على
العسكر بصرصر، واستصحب عماد الدين زنكي بن آق سنقر. وجاءوا بغداد ليلا
فمنعوا عساكر منكبرس ودبيس من العبور. ثم انعقد الصلح بين منكبرس
والملك مسعود وكان سببه أنّ حيوس بك كاتب السلطان محمود وهو بالموصل في
طلب الزيادة له وللملك مسعود، فجاء كتاب الرسول بأنه أقطعهم أذربيجان.
ثم بلغه قصدهم بغداد فاتهمهم بالانتقاض وجهّز العساكر إلى الموصل وسقط
الكتاب بيد منكبرس، وكان على أم الملك مسعود فبعث به إلى حيوس بك
وداخله في الصلح والرجوع عمّا هم فيه فاصطلحوا واتفقوا. وبلغ الخبر إلى
البرسقي فجاء إلى الملك مسعود وأخذ ماله وتركه، وعاد إلى بغداد فخيّم
بجانب منها، وجاء الملك مسعود وحيوس بك فخيّما في جانب آخر، وأصعد دبيس
ومنكبرس فخيّما كذلك، وتفرّق على البرسقي أصحابه وجموعه وسار عن العراق
إلى الملك مسعود فأقام معه، واستقرّ منكبرس شحنة ببغداد وعاد دبيس إلى
الحلة، وأساء منكبرس السيرة في بغداد بالظلم والعسف، وانطلاق أيدي
أصحابه بالفساد حتى ضجر الناس، وبعث عنه السلطان محمود فسار إليه وكفى
الناس شرّه.
انتقاض الملك طغرل على أخيه السلطان محمود
كان الملك طغرل قد أقطعه أبوه السلطان محمد سنة أربع وخمسين وخمسمائة
ساوة وآوة وزنجان، وجعل أتابكه الأمير شركير، وكان قد افتتح كثيرا من
قلاع الإسماعيلية فاتسع ملك طغرل بها، ولما مات السلطان محمد بعث
السلطان محمود الأمير كتبغري أتابك طغرل، وأمره أن يحمله إليه، وحسن له
المخالفة فانتقض سنة ثلاث عشرة، فبعث إليه السلطان بثلاثين ألف دينار
وتحف وودّعه بإقطاع كثيرة،
(3/613)
وطلبه في الوصول فمنعه كتبغري وأجاب بأننا
في الطاعة، ومعنا العساكر وإلى أيّ جهة أراد السلطان قصدنا. فاعتزم
السلطان على السير إليهم وسار من همذان في جمادى سنة ثلاث عشرة في عشرة
آلاف غازيا وجاء النذير إلى كتبغري بمسيره، فأجفل هو وطغرل إلى قلعة
سرجهان، وجاء السلطان إلى العسكر بزنجان فنهبه وأخذ من خزانة طغرل
ثلاثمائة ألف دينار، وأقام بزنجان وتوجّه منها إلى الريّ وكتبغري من
سرجهان بكنجة، وقصده أصحابه وقويت شوكته وتأكدت الوحشة بينه وبين أخيه
السلطان محمود.
الفتنة بين السلطان محمود وعمه سنجر صاحب
خراسان والخطبة ببغداد لسنجر
كان الملك سنجر أميرا على خراسان وما وراء النهر منذ أيام شقيقة
السلطان محمد الأولى مع بركيارق. ولما توفي السلطان محمد جزع له جزعا
شديدا حتى أغلق البلد للعزاء، وتقدّم للخطبة بذكر آثاره ومحاسن سيره من
قتال الباطنية وإطلاق المكوس وغير ذلك. وبلغه ملك ابنه محمود مكانه
وتغلب الأمراء عليه، فنكر ذلك واعتزم على قصد بلد الجبل والعراق، وأتى
له محمود ابن أخيه، وكان يلقّب بناصر الدين فتلقّب بمعز الدين لقب أبيه
ملك شاه. وبعث إليه السلطان محمود بالهدايا والتحف مع شرف الدولة
أنوشروان بن خالد، وفخر الدولة طغايرك بن أكفر بن وبذل عن مازندران
مائتي ألف دينار كل سنة فتجهّز لذلك، ونكر على محمود تغلّب وزيره أبي
منصور وأمير حاجب عليّ بن عمر عليه، وسار وعلى مقدّمته الأمير أنز،
وجهّز السلطان محمود عليّ بن عمر حاجبه وحاجب أبيه في عشرة آلاف فارس،
وأقام هو بالري.
فلما قارب الحاجب مقدّمة سنجر مع الأمير أنز بجرجان راسله باللين
والخشونة، وأنّ السلطان محمد أوصانا بتعظيم أخيه سنجر واستحلفنا على
ذلك إلا أنّا لا نقضي على زوال ملكنا. ثم تهدّده بكثرة العساكر وقوّتها
فرجع أنز عن جرجان، واتبعه بعض العساكر فنالوا منه. وعاد عليّ بن عمر
إلى السلطان محمود فشكره، وأشار عليه أصحابه بالمقام بالريّ فلم يقبل.
ثم ضجر وسار إلى حرقان [1] وتوافت إليه الأمداد من العراق، منكبرس شحنة
بغداد في عشرة آلاف فارس، ومنصور أخو دبيس وأمراء
__________
[1] جرجان: ابن الأثير ج 10 ص 551.
(3/614)
البلخية [1] وغيرهم. وسار إلى همذان فأقام
بها وتوفي بها وزيره الربيب، واستوزر مكانه أبا طالب السميري [2] . ثم
جاء السلطان سنجر إلى الريّ في عشرين ألفا وثمانية عشر فيلا ومعه ابن
الأمير أبي الفضل صاحب سجستان وخوارزم شاه محمد، والأمير أنز والأمير
قماج، واتصل به علاء الدولة كرساسفا بن قرامرد بن كاكويه [3] صاحب يزد
وكان صهر محمد وسنجر على أختهما. واختص بمحمد ودعاه محمود فتأخر عنه
فأقطع بلده لقراجا الساقي الّذي ولي بعد ذلك فارس. وسار علاء الدولة
إلى سنجر وعرفه حال السلطان محمود واختلاف أصحابه، وفساد بلاده فزحف
إليه السلطان محمود من همذان في ثلاثين ألفا، ومعه علي بن عمر أمير
حاجب ومنكبرس وأتابكه غزغلي وبنو برسق وسنجق البخاري [4] وقراجا الساقي
ومعه تسعمائة حمل من السلاح والتقيا على ساوة في جمادى سنة ثلاث عشرة
فانهزمت عساكر السلطان سنجر أولا وثبت هو بين الفيلة والسلطان محمود،
واجتمع أصحابه إليه وبلغ الخبر إلى بغداد فأرسل دبيس بن صدقة إلى
المسترشد في الخطبة للسلطان سنجر فخطب له آخر جمادى، وقطعت خطبة محمود
بعد الهزيمة إلى أصبهان ومعه وزيره أبو طالب السميري والأمير علي بن
عمر وقراجا، واجتمعت عليه العساكر وقوي أمره. وسار السلطان سنجر من
همذان ورأى قلّة عساكره فراسل ابن أخيه في الصلح، وكانت والدته وهي
جدّة محمود تحرّضه على ذلك فأجاب إليه. ثم وصل إليه آق سنقر البرسقي
الّذي كان شحنة ببغداد، وكان عند الملك مسعود من يوم انصرافه عنها،
وجاء رسوله من عند السلطان محمود بأنّ الصلح إنما يوافق عليه الأمراء
بعد عود السلطان سنجر إلى خراسان، فأنف من ذلك وسار من همذان الى
الكرج، وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح وأن يكون وليّ عهده فأجاب
إلى ذلك، وتحالفا عليه وجاء السلطان محمود إلى عمّه سنجر ونزل في بيت
والدته وهي جدّة محمود، وحمل إليه هدية حفلة. وكتب السلطان سنجر إلى
أعماله بخراسان وغزنة وما وراء النهر وغيرها من الولايات بأن يخطب
للسلطان محمود، وكتب إلى بغداد بمثل ذلك،
__________
[1] البكجية: ابن الأثير ج 10 ص 551.
[2] السميرمي: المرجع السابق.
[3] علاء الدولة كرشاسف بن فرامرز بن كاكويه: ابن الأثير ج 10 ص 551.
[4] سنقر البخاري: ابن الأثير ج 10 ص 552.
(3/615)
وأعاد عليه جميع البلاد سوى الريّ لئلا
تحدّث محمودا نفسه بالانتقاض. ثم قتل السلطان محمود الأمير منكبرس شحنة
بغداد لأنه لما انهزم محمود وسار إلى بغداد ليدخلها منعه دبيس فعاد في
البلاد، ورجع وقد استقرّ في الصلح فقصد السلطان مستجيرا به فأبى من
إجارته ومؤاخذته، وبعثه إلى السلطان محمود فقتله صبرا لما كان يستبد
عليه بالأمور. وسار شحنة إلى بغداد على زعمه فحقد له ذلك، وأمر السلطان
سنجر بإعادة مجاهد الدين بهروز شحنة بالعراق، وكان بها نائب دبيس بن
صدقة فعزل به. ثم قتل السلطان محمود حاجبه علي بن عمر وكان قد استخلفه
ورفع منزلته فكثرت السعاية فيه فهرب إلى قلعة عند الكرج، كان بها أهله
وماله. ثم لحق بخوزستان وكان بيد بني برسق فاقتضى عهودهم وسار إليهم.
فلما كان على تستر بعثوا من يقبض عليه فقاتلهم فلم يقرّ عنه وأسروه
واستأذنوا السلطان محمودا في أمره فأمر بقتله وحمل رأسه إليه.
انتقاض الملك مسعود على أخيه السلطان محمود
والفتنة بينهما
كان الملك مسعود قد استقرّ بالموصل وأذربيجان منذ صالحه السلطان محمود
عليها بأوّل ملكه، وكان آق سنقر البرسقي مع الملك مسعود منذ فارق شحنة
بغداد، وأقطعه مراغة مضافة إلى الرحبة وكان دبيس يكاتب حيوس بك [1]
الأتابك في القبض عليه وبعثه الى مولاه السلطان محمود، ويبذل لهم المال
على ذلك. وشعر البرسقي ففارقه إلى السلطان محمود، وعاد إلى جميل رأيه
فيه. وكان دبيس مع ذلك يغري الأتابك حيوس بك بالخلاف على السلطان
محمود، ويعدهم من نفسه المناصرة لينال باختلافهم في تمهيد سلطانه ما
ناله أبوه باختلاف بركيارق ومحمد. وكان أبو المؤيد محمد بن أبي إسماعيل
الحسين بن علي الأصبهاني يكتب للملك محمود، ويرسم الطغري وهي العلامة
على مراسيمه، ومنها هباته. وجاء والده أبو إسماعيل من أصبهان فعزل
الملك مسعود وزيره أبا علي بن عمار صاحب طرابلس، واستوزره مكانه سنة
ثلاث عشرة فحسن له الخلاف الّذي كان دبيس يكاتبهم فيه ويحسّنه لهم.
وبلغ السلطان محمودا
__________
[1] جيوش بك: ابن الأثير ج 10 ص 562.
(3/616)
خبرهم فكتب يحذّرهم فلم يقبلوا وخلعوا،
وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة وضربوا له النوب الخمس، وذلك سنة أربع
عشرة. وكانت عساكر السلطان محمود مفترقة فبادروا إليه والتقوا في عقبة
أستراباذ منتصف ربيع الأوّل. والبرسقي في مقدمة محمود، وأبلى يومئذ،
واقتتلوا يوما كاملا وانهزمت عساكر مسعود في عشيته وأسر جماعة منهم،
وفيهم الوزير الأستاذ أبو إسماعيل الطّغرائي، فأمر السلطان بقتله لسنة
من وزارته، وقال هو فاسد العقيدة، وكان حسن الكتابة والشعر وله تصانيف
في الكيمياء. وقصد الملك مسعود بعد الهزيمة جبلا على اثني عشر فرسخا من
مكان الوقعة فاختفى فيه، وبعث يطلب الأمان من أخيه فبعث إليه البرسقي
يؤمّنه ويحضره.
وكان بعض الأمراء قد لحق به في الجبل وأشار عليه باللحاق بالموصل،
واستمدّ دبيسا فسار لذلك وأدركه البرسقي على ثلاثين فرسخا من مكانه
وأمّنه عن أخيه، وأعاده إليه فأريب العساكر للقائه وبالغ في إكرامه
وخلطه بنفسه. وأمّا أتابكه حيوس بك فلما افتقد السلطان مسعود سار إلى
الموصل وجمع العساكر، وبلغه فعل السلطان مع أخيه فسار إلى الزاب. ثم
جاء السلطان بهمذان فأمّنه وأحسن إليه. وأمّا دبيس فلما بلغه خبر
الهزيمة عاث في البلاد وأخربها وبعث إليه المسترشد بالنكير فلم يقبل،
فكتب بشأنه إلى السلطان محمود وخاطبه السلطان في ذلك فلم يقبل، وسار
إلى بغداد وخيّم إزاء المسترشد وأظهر أنه يثأر منهم بأبيه. ثم عاد عن
بغداد ووصل السلطان في رجب، فبعث دبيس إليه زوجته بنت عميد الدولة بن
جهير بمال وهدايا نفيسة وأجيب إلى الصلح على شروط امتنع منها فسار إليه
السلطان في شوّال ومعه ألف سفينة. ثم استأمن إلى السلطان فأمّنه وأرسل
نساءه إلى البطيحة. وسار إلى أبي الغازي مستجيرا به، ودخل السلطان
الحلّة وعاد عنها ولم يزل دبيس عند أبي الغازي. وبعث أخاه منصورا إلى
أصحابه من أمراء النواحي ليصلح حاله مع السلطان فلم يتمّ ذلك.
وبعث إليه أخوه منصور يستدعيه إلى العراق، فسار من قلعة جعبر إلى
الحلّة سنة خمس عشرة وملكها، وأرسل إلى الخليفة والسلطان بالاعتذار
والوعد بالطاعة، فلم يقبل منه، وسارت إليه العساكر مع سعد الدولة بن
تتش ففارق الحلّة ودخلها سعد وأنزل بالحلّة عسكرا وبالكوفة آخر. ثم
راجع دبيس الطاعة على أن يرسل أخاه منصورا رهينة فقبل، ورجع العسكر إلى
بغداد سنة ست عشرة.
(3/617)
اقطاع الموصل
للبرسقي وميافارقين لابي الغازي
ثم أقطع السلطان محمود الموصل وأعمالها، والجزيرة وسنجار وما يضاف إلى
ذلك للأمير آق سنقر البرسقي شحنة بغداد، وذلك أنه كان ملازما للسلطان
في حروبه ناصحا له وهو الّذي حمل السلطان مسعودا على طاعة أخيه محمود
وأحضره عنده، فلما حضر حيوس بك وزيره عند السلطان محمود من الموصل بقيت
بدون أمير، فولّى عليها البرسقي سنة خمس عشرة وخمسمائة، وأمره بمجاهدة
الفرنج فأقام في إمارتها دهرا هو وبنوه كما يأتي في أخبارهم. ثم بعث
الأمير أبو الغازي بن أرتق ابنه حسام الدين تمرتاش شافعا في دبيس بن
صدقة، وأن يضمن الحلّة بألف دينار وفرس في كل يوم، ولم يتمّ ذلك. فلمّا
انصرف عن السلطان أقطع أباه أبا الغازي مدينة ميافارقين وتسلّمها من يد
سقمان صاحب خلاط سنة خمس عشرة، وبقيت في يده ويد بنيه إلى أن ملكها
منهم صلاح الدين بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة كما يذكر في أخبارهم.
طاعة طغرل لأخيه السلطان محمود
قد تقدّم ذكر انتقاض الملك طغرل بساوة وزنجان على أخيه السلطان محمود
بمداخلة أتابكه كتبغري [1] ، وأنّ السلطان محمود المشار إليه أزعجه إلى
كنجة، وسار إلى أذربيجان يحاول ملكها. ثم توفي أتابكه كتبغري في شوّال
سنة خمس عشرة، وكان آق سنقر الأحمديلي صاحب مراغة فطمع في رتبة كتبغري،
وسار إلى طغرل واستدعاه إلى مراغة وقصدوا أردبيل فامتنعت عليهم، فجاءوا
إلى تبريز، وبلغهم أنّ السلطان أقطع أذربيجان لحيوس بك، وبعثه في
العساكر وأنه سبقهم إلى مراغة فعدلوا عنها وكافئوا صاحب زنجان فأجابهم
وسار معهم إلى أبهر، فلم يتمّ لهم مرادهم، وراسلوا السلطان في الطاعة
واستقرّ حالهم، وأمّا حيوس بك فوقعت بينه وبين الأمراء من عسكره
منافرة، فسعوا به عند السلطان فقتله بتبريز في رمضان من سنته، وكان
تركيا من مماليك السلطان محمد، وكان حسن السيرة مضطلعا بالولاية.
ولمّا ولي الموصل والجزيرة كان الأكراد قد عاثوا في نواحيها، وأخافوا
سبلها فأوقع بهم وحصر قلاعهم، وفتح الكثير منها ببلد الهكّاريّة وبلد
الزوزان وبلد النسوية [2] وبلد النحسة، حتى خاف الأكراد واطمأن الناس
وأمنت السبل.
__________
[1] كنتغدي: ابن الأثير ج 10 ص 597.
[2] البشنوية: ابن الأثير: ج 10 ص 604.
(3/618)
أخبار دبيس مع
المسترشد
قد ذكرنا مسير العساكر إلى دبيس مع برسق الكركوي [1] سنة أربع عشرة
وكيف وقع الاتفاق وبعث دبيس أخاه منصورا رهينة فجاء برتقش به بغداد سنة
ست عشرة، ولم يرض المسترشد ذلك، وكتب إلى السلطان محمود بأنّ دبيس لا
يصلحه شيء لأنه مطالب بثأر أبيه، وأشار بأن يبعث عن البرسقي من الموصل
لتشديد دبيس ويكون شحنة ببغداد فبعث اليه السلطان وأنزله شحنة ببغداد،
وأمره بقتال دبيس، فأقام عشرين شهرا ودبيس معمل في الخلافة. ثم أمره
المسترشد بالمسير إليه وإخراجه من الحلّة، فاستقدم البرسقي عساكره من
الموصل، وسار إلى الحلّة، ولقيه دبيس فهزم عساكره ورجع إلى بغداد في
ربيع من سنة ست عشرة، وكان معه في العسكر مضر [2] بن النفيس بن مهذّب
الدولة أحمد بن أبي الخير عامل البطيحة، فغدا عليه عمّه المظفّر بن
عماد بن أبي الخير فقتله في انهزامهم. وسار إلى البطيحة فتغلّب عليها،
وكاتب دبيس في الطاعة، وأرسل دبيس إلى المسترشد بطاعته، وأن يبعث
عمّاله لقرى الخاص يقبضون دخلها على أن يقبض المسترشد على وزيره جلال
الدين أبي عليّ بن صدقة فتمّ بينهما ذلك، وقبض المسترشد على وزيره،
وهرب ابن أخيه جلال الدين أبو الرضى إلى الموصل، وبلغ الخبر بالهزيمة
إلى السلطان محمود فقبض على منصور أخي دبيس وحبسه، وأذن دبيس لأصحاب
الإقطاع بواسط في المسير إلى إقطاعهم، فمنعهم الأتراك بها، فجهّز إليهم
عسكرا مع مهلهل بن أبي العسكر وامر مظفر بن أبي الخير عامل البطيحة
بمساعدته وبعث البرسقي المدد إلى أهل واسط فلقيهم مهلهل بن أبي المظفّر
فهزموه وأسروه وجماعة من عسكره واستلحموا كثيرا منهم. وجاء المظفّر أبو
الخير على أثره، وأكثر النهب والعيث، وبلغه خبر الهزيمة فرجع وبعث أهل
واسط بتذكرة وجدوها مع مهلهل بخطّ دبيس فأمره بالقبض على المظفّر فمال
إليهم وانحرف عن دبيس، ثم بلغ دبيس أنّ السلطان محمودا سمل أخاه
منصورا، فانتقض ونهب ما كان للخليفة بأعماله، وسار أهل واسط الى
__________
[1] يرنقش الزكوي: ابن الأثير ج 10 ص 598.
[2] نصر بن النفيس: ابن الأثير ج 10 ص 599.
(3/619)
النعمانيّة فأجلوا عنها أصحاب دبيس. وتقدّم
المسترشد إلى البرسقي بالمسير لحرب دبيس فسار لذلك كما نذكر. ثم أقطع
السلطان محمود مدينة واسط للبرسقي مضافة إلى ولاية الموصل فبعث عماد
الدين زنكي بن آق سنقر ولد نور الدين العادل.
نكبة الوزير ابن صدقة وولاية نظام الملك
قد ذكرنا آنفا أنّ دبيس اشترط على المسترشد في صلحه معه القبض على
وزيره جلال الدين أبي علي بن صدقة، فقبض عليه في جمادى سنة ست عشرة،
وأقام في نيابة الوزارة شرف الدين عليّ بن طراد الزينبيّ. وهرب جلال
الدين أبو الرضي ابن أخي الوزير إلى الموصل. وبعث السلطان محمود إلى
المسترشد في أن يستوزر نظام الدولة أبا نصر أحمد بن نظام الملك، وكان
السلطان محمود قد استوزر أخاه شمس الملك عثمان عند ما قلّ الباطنية
بهمذان [1] وزيره الكمال أبا طالب السميري فقبل المسترشد إشارته،
واستوزر نظام الملك، وقد كان وزر للسلطان محمد سنة خمسمائة، ثم عزل
ولزم داره ببغداد. فلما وزر وعلم ابن صدقة أنه يخرجه طلب من المسترشد
أن يسير إلى سليمان بن مهارش بحديثة غانة، فأذن له، فسار ونهب في طريقه
وأسر، ثم خلص إلى مأمنه في واقعة عجيبة. ثم قتل السلطان محمود وزيره
شمس الملك فعزل المسترشد أخاه نظام الدين أحمد عن وزارته، وأعاد جلال
الدين أبا علي بن صدقة إلى مكانه.
واقعة المسترشد مع دبيس
كان دبيس في واقعته مع البرسقي قد أسر عفيفا الخادم، ثم أطلقه سنة سبع
عشرة، وحمله إلى المسترشد رسالة بخروج البرسقي للقتال يتهدده بذلك على
ما بلغه من سمل أخيه، وحلف لينهبنّ بغداد، فاستطار المسترشد غضبا وأمر
البرسقي بالمسير لحربه، فسار في رمضان من سنته. ثم تجهّز للخليفة وبرز
من بغداد واستدعى العساكر فجاءه سليمان بن مهارش صاحب الحديثة في بني
عقيل، وقرواش بن مسلم وغيرهما. ونهب
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 602: «فأرسل السلطان إلى
المسترشد باللَّه في معنى وزارة نظام الملك، وكان أخا شمس الملك عثمان
بن نظام الملك وزير السلطان محمود، فأجيب الى ذلك واستوزر في شعبان.
(3/620)
دبيس نهر الملك من خاص الخليفة ونودي في
بغداد بالنفير فلم يتخلّف أحد، وفرّقت فيهم الأموال والسلاح وعسكر
المسترشد خارج بغداد في عشر ذي الحجة، وبرز لأربع بعدها وعبر دجلة
وعليه قباء أسود وعمامة سوداء، وعلى كتفه البردة وفي يده القضيب وفي
وسطه منقطة حديد صيني، ووزيره معه نظام الدين ونقيب الطالبيّين ونقيب
النقباء علي بن طراد، وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل وغيرهم. فنزل
بخيمة، وبلغ البرسقي خروجه فعاد بعسكره إليه. ونزل المسترشد بالحديثة
بنهر الملك واستحلف البرسقي والأمراء على المناصحة، وسار فنزل
المباركة، وعبّى البرسقي أصحابه للحرب ووقف المسترشد وراء العسكر في
خاصته، وعبّى دبيس أصحابه صفّا واحدا وبين يديهم الإماء تعزف وأصحاب
الملاهي، وعسكر الخليفة تتجاذب القراءة والتسبيح مع جنباته، ومع أعلامه
كرباوي بن خراسان وفي الساقة سليمان بن مهارش وفي ميمنة البرسقي أبو
بكر بن إلياس مع الأمراء البلخية، فحمل عنتر بن أبي العسكر من عسكر
دبيس على ميمنة البرسقي فدحرجها وقتل ابن أخي أبي بكر.
ثم حمل ثانية كذلك فحمل عماد الدين زنكي بن آق سنقر في عسكر واسط على
عنتر بن أبي العسكر فأسره ومن معه. وكان من عسكر المسترشد كمين متوار،
فلما التحم الناس خرج الكمين واشتدّ الحرب وجرّد المسترشد سيفه وكبّر
وتقدّم فانهزمت عساكر دبيس، وجيء بالأسرى فقتلوا بين يدي الخليفة وسبي
نساؤهم، ورجع الخليفة إلى بغداد في عاشوراء من سنة سبع عشرة. وذهب دبيس
وخفي أثره قصد غزية من العرب فأبوا من ذلك إيثارا لرضا المسترشد
والسلطان، فسار إلى المشقر من البحرين فأجابوه وسار بهم إلى البصرة
فنهبوها وقتلوا أميرها، وتقدّم المسترشد للبرسقي بالانحدار إليه بعد أن
عنّفه على غفلته عنه، وسمع دبيس ففارق البصرة، وبعث البرسقي عليها زنكي
بن آق سنقر فأحسن حمايتها وطرد العرب عن نواحيها، ولحق دبيس بالفرنج في
جعبر وحاصر معهم حلب فلم يظفروا وأقلعوا عنها سنة ثمان عشرة، فلحق دبيس
بطغرل ابن السلطان محمد وأغراه بالمسترشد وبملك العراق كما نذكر.
ولاية برتقش شحنة بغداد
ثم إنّ المسترشد وقعت بينه وبين البرسقي منافرة فكتب إلى السلطان محمود
في عزله عن العراق، وإبعاده إلى الموصل فأجابه إلى ذلك، وأرسل إلى
البرسقي بالمسير إلى الموصل لجهاد الإفرنج، وبعث إليه بابن صغير من
أولاده يكون معه وولّى على شحنة بغداد برتقش
(3/621)
الزكوي، وجاء نائبة إلى بغداد فسلّم إليه
البرسقي العمل وسار إلى الموصل بابن السلطان، وبعث إلى عماد الدين زنكي
أن يلحق به فسار إلى السلطان، وقدم عليه بالموصل فأكرمه وأقطعه البصرة
وأعاده إليها.
وصول الملك طغرل ودبيس إلى العراق
قد ذكرنا مسير دبيس بن صدقة من الشام إلى الملك طغرل فأحسن إليه ورتبه
في خاص أمرائه، وجعل دبيس يغريه بالعراق ويضمن له ملكه، فسار لذلك سنة
تسع عشرة، ووصلوا دقوقا، فكتب مجاهد الدين مهروز من تكريت إلى المسترشد
بخبرهما، فتجهّز إلى دفاعهما وسار إليهما. وأمر برتقش الزكوي الشحنة أن
يستنفر ويستبعد فبلغت عدّة العسكر اثني عشر ألفا سوى أهل بغداد، وبرز
خامس صفر سنة تسع عشرة، وسار فنزل الخالص، وعدل طغرل إلى طريق خراسان،
وأكثرت عساكره النهب، ونزل رباط جلولاء وسار إليه الوزير جلال الدين بن
صدقة في العساكر، فنزل الدسكرة وجاء المسترشد فنزل معه، وتوجّه طغرل
ودبيس فنزلا الهارونية، واتفقا أن يقطعا جسر النهروان فيقيم دبيس على
المعابر، ويخالفهم طغرل إلى بغداد، ثم عاقتهم جميعا عوائق المطر وأصابت
طغرل الحمّى، وجاء دبيس إلى النهروان ليعبر وقد لحقهم الجوع، فصادف
أحمالا من البرّ، والأطعمة جاءت من بغداد للمسترشد فنهبها، وأرجف في
معسكر المسترشد أنّ دبيس ملك بغداد فأجفلوا من الدسكرة إلى النهروان
وتركوا أثقالهم. ولما حلوا بالنهروان وجدوا دبيس وأصحابه نياما فاستيقظ
وقبل الأرض بين يدي المسترشد وتذلّل [1] فهمّ بصلحه ووصل الوزير ابن
صدقة فثناه عن ذلك ثم مدّ المسترشد الجسر وعبر ودخل بغداد لفتنة خمسة
وعشرين يوما [2] . وسار دبيس إلى طغرل ثم اعتزموا على المسير إلى
السلطان سنجر، ومرّوا بهمذان فعاثوا في أعمالها وصادروا، واتبعهم
السلطان فانهزموا بين يديه ولحقوا بالسلطان سنجر شاكين من المسترشد
والشحنة برتقش.
__________
[1] هكذا بالأصل والعبارة غير واضحة وفي الكامل ج 10 ص 627: «ووصلت
رايات الخليفة ودبيس وأصحابه نيام، وتقدم الخليفة وأشرف على ديالى
ودبيس نازل غرب النهروان، والجسر ممدود شرقي النهروان فلما أبصر دبيس
شمسة الخليفة قبّل الأرض بين يدي الخليفة وقال: انا العبد المطرود،
فليعف أمير المؤمنين عن عبده.»
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 628: «وسيّر الخليفة عسكرا مع
الوزير في أثره، وعاد إلى بغداد فدخلها، وكانت غيبته خمسة وعشرون
يوما.»
(3/622)
الفتنة بين المسترشد
والسلطان محمود
ثم وقعت بين برتقش الزكوي وبين نواب المسترشد نبوة فبعث إليه المسترشد
يتهدّده فخافه على نفسه، وسار إلى السلطان محمود في رجب سنة عشرين فحذر
منه، وأنه ثاور العساكر ولقي الحروب وقوت نفسه، وأشار بمعاجلته قبل أن
يستفحل أمره، ويمتنع عليه فسار السلطان نحو العراق، فبعث إليه المسترشد
بالرجوع عن البلاد لما فيها من الغلاء من فتنة دبيس، وبذل له المال،
وأن يسير إلى العراق مرّة أخرى، فارتاب السلطان وصدّق ما ظنّه برتقش
وأغذّ السير فعبر المسترشد إلى الجانب الغربي مغضبا يظهر الرحيل عن
بغداد إذ قصدها السلطان. وصانعه السلطان بالاستعطاف وسؤاله في العود
فأبى فغضب السلطان ودخل نحو بغداد. وأقام المسترشد بالجانب الغربي وبعث
عفيفا الخادم من خواصه في عسكر إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان،
فأرسل السلطان إليه عماد الدين زنكي بن آق سنقر وكان على البصرة كما
ذكرناه، فسار إليه وهزمه وقتل من عسكره، ونجا عفيف إلى المسترشد برأسه
فجمع المسترشد السفن وسدّ أبواب دار الخلافة إلّا باب النوبي، ووصل
السلطان في عشر ذي الحجة من سنة عشرين، ونزل باب الشماسية، ومنع العسكر
عن دور الناس.
وراسل المسترشد في العود والصلح فأبى، ونجا جماعة من عسكر السلطان
فنهبوا التاج في أوّل المحرّم سنة إحدى وعشرين فضج العامّة لذلك،
واجتمعوا، وخرج المسترشد والشماسية على رأسه والوزير بين يديه، وأمر
بضرب الطبول ونفخ الأبواق، ونادى بأعلى صوته يا لهاشم! ونصب الجسر وعبر
الناس دفعة واحدة. وكان في الدار رجال مختفون في السراديب فخرجوا على
العسكر وهم مشتغلون في نهب الدار فأسروا جماعة منهم ونهب العامّة دور
أصحاب السلطان وعبر المسترشد إلى الجانب الشرقي في ثلاثين ألف مقاتل من
أهل بغداد والسواد، وأمر بحفر الخنادق فحفرت ليلا، ومنعوا بغداد عنهم،
واعتزموا على كبس السلطان محمود. وجاء عماد الدين زنكي من البصرة في
حشود عظيمة ملأت البرّ والبحر فاعتزم السلطان على قتال بغداد، وأذعن
المسترشد إلى الصلح فاصطلحوا وأقام السلطان ببغداد إلى ربيع الآخر سنة
إحدى وعشرين، ومرض فأشير عليه بمفارقة بغداد فارتحل إلى همذان ونظر
فيمن يولّيه شحنة العراق مضافا إلى ما بيده، ويثق به في سدّ تلك
الخلّة. وحمل إليه الخليفة عند رحيله
(3/623)
الهدايا والتحف والألطاف فقبل جميعها. ولما
أبعد السلطان عن بغداد قبض على وزيره أبي القاسم عليّ بن الناصر
النشاباذي لاتهامه بممالأة المسترشد، واستوزر مكانه شرف الدين أنوشروان
بن خالد، وكان مقيما ببغداد فاستدعاه وأهدى إليه الناس حتى الخليفة.
وسار من بغداد في شعبان فوصل إلى السلطان بأصبهان وخلع عليه، ثم استعفى
لعشرة أشهر وعاد إلى بغداد ولم يزل الوزير أبو القاسم محبوسا إلى أن
جاء السلطان سنجر إلى الريّ في السنة بعدها فأطلقه وأعاده إلى وزارة
السلطان.
أخبار دبيس مع السلطان سنجر
لما وصل دبيس إلى السلطان سنجر ومعه طغرل أغرياه بالمسترشد والسلطان
محمود، وأنهما عاصيان عليه، وسهّلا عليه أمر العراق فسار إلى الريّ
واستدعى السلطان محمودا يختبر طاعته بذلك فبادر للقائه. ولما وصل أمر
سنجر العساكر فتلقّوه وأجلسه معه على سريره، وأقام عنده مدّة وأوصاه
بدبيس أن يعيده إلى بلده، ورجع سنجر إلى خراسان منتصف ذي الحجة ورجع
محمود إلى همذان ودبيس معه. ثم سار إلى بغداد فقدمها في تاسوعاء سنة
ثلاث وعشرين واسترضى المسترشد لدبيس فرضى عنه، على شريطة أن يولّيه غير
الحلّة فبذل في الموصل مائة ألف دينار. وشعر بذلك زنكي فجاء بنفسه إلى
السلطان وهجم على الستر متذمما، وحمل الهدايا وبذل مائة ألف فأعاده
السلطان إلى الموصل، وأعاد بهروز شحنة على بغداد، وجعلت الحلّة لنظره.
وسار السلطان إلى همذان في جمادى سنة ثلاث وعشرين، ثم مرض السلطان فلحق
دبيس بالعراق، وحشد المسترشد لمدافعته، وهرب بهروز من الحلة فدخلها
دبيس في رمضان من سنة ثلاث وعشرين. وبعث السلطان في أثره الأميرين
اللذين ضمناه له، وهما كزل والأحمديلي، فلما سمع دبيس بهما أرسل إلى
المسترشد يستعطفه، وتردّد الرسل وهو يجمع الأموال والرجال حتى بلغ
عسكره عشرة آلاف، ووصل الأحمديلي بغداد في شوّال وسار في أثر دبيس. ثم
جاء السلطان إلى العراق فبعث إليه دبيس بالهدايا وبذل الأموال على
الرضا فأبى، ووصل إلى بغداد، ودخل دبيس البرية، وقصد البصرة فأخذ ما
كان فيها للخليفة والسلطان، وجاءت العساكر في اتّباعه فدخل البرية
انتهى.
(3/624)
وفاة السلطان محمود
وملك ابنه داود ثم منازعته عمومه واستقلال مسعود
ثم توفي السلطان محمود في شوّال من سنة خمس وعشرين لثلاث عشرة سنة من
ملكه، واتفق وزيره أبو القاسم النشاباذي وأتابكه آق سنقر الأحمديلي على
ولاية ابنه داود مكانه وخطب له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان، ووقعت
الفتنة بهمذان ونواحيها ثم سكنت، فسار الوزير بأمواله إلى الريّ ليأمن
في إيالة السلطان سنجر. ثم إنّ الملك داود سار في ذي القعدة من سنة خمس
وعشرين من همذان إلى ربكان، وبعث إلى المسترشد ببغداد في الخطبة، وأتاه
الخبر بأنّ عمه مسعودا سار من جرجان إلى تبريز، وملكها فسار إليه وحصره
في تبريز إلى سلخ المحرّم من سنة ست وعشرين، ثم اصطلحا وأفرج داود عن
تبريز، وخرج السلطان مسعود منها، واجتمعت عليه العساكر فانتقض وسار إلى
همذان. وأرسل الى المسترشد في الخطبة فأجابهم جميعا بأنّ الخطبة
للسلطان سنجر صاحب خراسان، ويعين بعده من يراه. وبعث إلى سنجر بأنّ
الخطبة للسلطان سنجر صاحب خراسان، ويعين بعده من يراه. وبعث إلى سنجر
بأنّ الخطبة إنما ينبغي أن تكون لك وحدك فوقع ذلك منه أحسن موقع، وكاتب
السلطان مسعود عماد الدين زنكي صاحب الموصل فأجابه وسار إليه وانتهى
إلى المعشوق. وبينما هم في ذلك إذ سار قراجا الساقي صاحب فارس وخوزستان
بالملك سلجوق شاه ابن السلطان محمد، وكان أتابكه فدخل بغداد في عسكر
كبير، ونزل دار السلطان واستخلفه المسترشد لنفسه، ووصل مسعود إلى عباسة
فبرزوا للقائه، وجاءهم خبر عماد الدين زنكي فعبر قراجا إلى الجانب
الغربي للقائه، وواقعه فهزمه، وسار منهزما إلى تكريت وبها يومئذ نجم
الدين أيوب أبو السلطان صلاح الدين، فهيّأ له الجسر للعبور، وعبر فأمن
وسار لوجهه. وجاء السلطان مسعود من العبّاسة للقاء أخيه سلجوق ومن معه
مدلا بمكان زنكي وعسكره من ورائهم، وبلغه خبر انهزامهم فنكص على عقبه،
وراسل المسترشد بأنّ السلطان سنجر وصل إليّ وطلب الاتفاق من المسترشد
وأخيه سلجوق شاه وقراجا على قتال سنجر، على أن يكون العراق للمسترشد
يتصرّف فيه نوابه، والسلطنة لمسعود وسلجوق شاه ولي عهده فأجابوه إلى
ذلك وجاء بغداد في جمادى الأولى سنة ست وعشرين، وتعاهدوا على ذلك.
(3/625)
واقعة مسعود مع سنجر
وهزيمته وسلطنة طغرل
لما توفي السلطان محمود وولي ابنه داود مكانه، نكر ذلك عمّه السلطان
سنجر عليهم، وسار إلى بلاد الجبل ومعه طغرل ابن أخيه السلطان محمد، كان
عنده منذ وصوله مع دبيس فوصل إلى الريّ، ثم إلى همذان، وسار السلطان
مسعود وأخوه سلجوق وقراجا الساقي أتابك سلجوق للقائه. وكان المسترشد قد
عاهدهم على الخروج وألزموه ذلك. ثم إنّ السلطان سنجر بعث إلى دبيس
وأقطعه الحلّة وأمره بالمسير إلى بغداد، وبعث إلى عماد الدين زنكي
بولاية شحنكيّة بغداد، والسير إليها فبلغ المسترشد خبر مسيرهما فرجع
لمدافعتهما. وسار السلطان مسعود وأصحابه للقاء السلطان سنجر، ونزل
أستراباذ في مائة ألف من العسكر فخاموا عن لقائه، ورجعوا أربع مراحل
فاتبعهم سنجر، وتراءى الجمعان عند الدّينور ثامن رجب، فاقتتلوا وعلى
ميمنة مسعود قراجا الساقي وكزل، وعلى ميسرته برتقش بازدار، ويوسف حاروس
[1] فحمل قراجا الساقي في عشرة آلاف على السلطان سنجر، حتى تورّط في
مضافه فانعطفوا عليه من الجانبين، وأخذ أسيرا بعد جراحات. وانهزم مسعود
وأصحابه وقتل بعضهم، وفيهم يومئذ يوسف حاروس، وأسر آخرون فيهم قراجا
فأحضر عند السلطان سنجر فوبّخه، ثم أمر بقتله. وجاء السلطان مسعود إليه
فأكرمه وعاتبه على مخالفته وأعاده أميرا إلى كنجة. وولّى الملك طغرل
ابن أخيه محمدا في السلطنة وجعل وزيره أبا القاسم النشاباذي وزير
السلطان محمود، وعاد إلى خراسان ووصل نيسابور في عاشر رمضان من سنته.
وأمّا الخليفة فرجع إلى بغداد كما قلناه لمدافعة دبيس وزنكي، وبلغه
الخبر بهزيمة السلطان مسعود، فعبر إلى الجانب الغربي وسار إلى العبّاسة
[2] ، ولقيهما بحصن البرامكة آخر رجب. وكان في ميمنته جمال الدولة
إقبال، وفي ميسرته مطر الخادم فانهزم إقبال لحملة زنكي، وحمل الخليفة
ومطر على دبيس فانهزم، وتبعه زنكي فاستمرّت الهزيمة عليهم وافترقوا،
ومضى دبيس إلى الحلّة وكانت بيد إقبال، وجاءه المدد من بغداد فلقي دبيس
وهزمه، ثم تخلّص بعد
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 677: «وعلى ميمنته قراجة الساقي
والأمير قزل، وعلى ميسرته يرنقش بازدار، ويوسف جاووش، وغيرهما، وكان
قزل قد واطأ سنجر على الانهزام» .
[2] العباسية: ابن الأثير ج 10 ص 678.
(3/626)
الجهد، وقصد واسط وأطاعه عسكرها إلى أن خلت
سنة سبع وعشرين، فجاءهم إقبال وبرتقش بازدار، وزحفوا في العساكر برّا
وبحرا فانهزمت أهل واسط. ولمّا استقرّ طغرل بالسلطنة وعاد عمّه سنجر
إلى خراسان لخلاف أحمد خان صاحب ما وراء النهر عليه، وكان داود ببلاد
أذربيجان وكنجة فانتقض وجمع العساكر وسار إلى همذان وبرز إليه طغرل وفي
ميمنته ابن برسق وفي ميسرته كزل وفي مقدّمته آق سنقر. وسار إليه داود
في ميمنته برتقش الزكويّ والتقيا في رمضان سنة ست وعشرين فأمسك برتقش
عن القتال، واستراب التركمان منه فنهبوا خيمته، واضطرب عسكر داود لذلك
فهرب أتابكه آق سنقر الأحمديلي، واستمرّت الهزيمة عليهم وأسر برتقش
الزكوي، ومضى داود ثم قدم بغداد ومعه أتابكه آق سنقر الأحمديلي فأنزله
الخليفة بدار السلطان وأكرمه. ولمّا بلغ السلطان مسعودا هزيمة داود
ووصوله الى بغداد قدم إليها وخرج داود لتلقيه، وترجّل له عن فرسه، ونزل
مسعود بدار السلطنة في صفر سنة سبع وعشرين، وخطب له على منابر بغداد
ولداود بعده، واتفقا مع المسترشد بالسير إلى أذربيجان وأن يمدّهما،
وسارا لذلك، وملك مسعود سائر بلاد أذربيجان، وحاصر جماعة من الأمراء
بأردبيل ثم هزمهم وقتل منهم، وسار إلى همذان وبرز أخو طغرل للقائه
فانهزم، واستولى مسعود على همذان وقتل آق سنقر، قتله الباطنية ويقال
بدسيسة السلطان محمود. ولما انهزم طغرل قصد الريّ وبلغ قمّ، ثم عاد إلى
أصبهان ليمتنع بها وسار أخوه مسعود للحصار فارتاب طغرل بأهل أصبهان،
وسار إلى بلاد فارس فاتبعه مسعود، واستأمن إليه بعض أمراء طغرل فارتاب
بالباقين، وانهزم إلى الريّ في رمضان من سنته، واتّبعه مسعود فلحقه
بالريّ، وقاتله فانهزم طغرل وأسر جماعة من أمرائه. وعاد مسعود إلى
همذان ظافرا، وعند ما قصد طغرل الريّ من فارس قتل في طريقه وزيره أبا
القاسم النشاباذي في شوّال من سنته لموجدة وجدها عليه.
مسير المسترشد لحصار الموصل
لما انهزم عماد الدين زنكي أمام المسترشد كما قلنا لحق بالموصل، وشغل
سلاطين السلجوقية في همذان بالخلف الواقع بينهم، وجماعة من أمراء
السلجوقية إلى بغداد فرارا من الفتنة فقوي بهم المسترشد، وبعث إلى عماد
الدين زنكي بعض شيوخ
(3/627)
الصوفيّة من حضرته فأغلظ له في الموعظة
فأهانه زنكي وحبسه، فاعتزم المسترشد على حصار الموصل وبعث بذلك إلى
السلطان مسعود، وسار من بغداد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين في ثلاثين
ألف مقاتل. ولما قارب الموصل فارقها زنكي ونزل بها نائبة نصير الدين
حقر، ولحق بسنجر وأقام يقطع المدد والميرة عن عسكر المسترشد حتى ضاقت
بهم الأمور، وحاصرها المسترشد ثلاثة أشهر فامتنعت عليه ورحل عائدا إلى
بغداد، فوصل يوم عرفة من سنته. يقال إن مطرا الخادم جاء من عسكر
السلطان مسعود لأنه قاصد العراق فارتحل لذلك.
مصاف طغرل ومسعود وانهزام مسعود
ولما عاد مسعود الى همذان بعد انهزام أخيه طغرل، بلغه انتقاض داود ابن
أخيه محمود بأذربيجان فسار إليه وحصره ببعض قلاعها، فخالفه طغرل إلى
بلاد الجبل، واجتمعت عليه العساكر ففتح كثيرا من البلاد، وقصد مسعودا
وانتهى إلى قزوين فسار مسعود للقائه، وهرب من عسكره جماعة كان طغرل قد
داخلهم واستمالهم، فولّى مسعود منهزما آخر رمضان سنة ثمان وعشرين،
واستأذن المسترشد في دخول بغداد وكان نائبة بأصبهان البقش السلاميّ،
ومعه أخوه سلجوق شاه، فلمّا بلغهم خبر الهزيمة لحقوا ببغداد، ونزل
سلجوق بدار السلطان، وبعث إليه الخليفة بعشرة آلاف دينار. ثم قدم مسعود
بعدهم ولقي في طريقه شدة وأصحابه بين راجلين وركاب فبعث إليهم المسترشد
بالمقام والخيام والأموال والثياب والآلات، وقرّب إليهم المنازل، ونزل
مسعود بدار السلطنة ببغداد منتصف شوّال سنة ثمان، وأقام طغرل بهمذان.
وفاة طغرل واستيلاء السلطان مسعود
ولمّا وصل مسعود إلى بغداد أكرمه المسترشد، ووعده بالمسير معه لقتال
أخيه طغرل، وأزاح علل عسكره واستحثه لذلك، وكان جماعة من أمراء
السلجوقية قد ضجروا من الفتنة، ولحقوا بالمسترشد فساروا معه ودسّ إليهم
طغرل بالمواعيد فارتاب المسترشد ببعضهم، واطلع على كتاب طغرل إليه،
وقبض عليه ونهب ماله، فلحق الباقون بالسلطان، وبعث فيهم المسترشد
فمنعهم السلطان فحدثت بينهم الوحشة لذلك،
(3/628)
وبعث السلطان إلى الخليفة يلزمه المسير معه
[1] ، وبينا هما على ذلك إذ جاءه الخبر بوفاة طغرل، في المحرّم من سنة
تسع وعشرين، فسار السلطان مسعود إلى همذان وأقبلت إليه العساكر فاستولى
عليها، وأطاعه أهل البلاد، واستوزر شرف الدين أنوشروان خالدا، وكان قد
سار معه بأهله.
فتنة السلطان مسعود مع المسترشد
لما استولى السلطان مسعود على همذان استوحش منه جماعة من أعيان
الأمراء، منهم برتقش وكزل وسنقر والي همذان، وعبد الرحمن بن طغرلبك،
ففارقوه ودبيس بن صدقة معهم، واستأمنوا إلى الخليفة ولحقوا بخوزستان
وتعاهدوا مع برسق على طاعة المسترشد، وحذّر المسترشد من دبيس وبعث شديد
الدولة ابن الأنباري بالأمان للأمراء دون دبيس، ورجع دبيس إلى السلطان
مسعود. وسار الأمراء إلى بغداد فأكرمهم المسترشد، واشتدّت وحشة السلطان
مسعود لذلك، ومنافرته للمسترشد فاعتزم المسترشد على قتاله، وبرز من
بغداد في عاشر [2] رجب وأقام بالشفيع وعصي عليه صاحب البصرة فلم يجبه،
وأمراء السلجوقية الذين بقوا معه يحرّضونه على المسير فبعث مقدّمته إلى
حلوان. ثم سار من شعبان واستخلف على العراق إقبالا خادمه في ثلاثة آلاف
فارس ولحقه برسق بن برسق فبلغ عسكره سبعة آلاف فارس، وكان أصحاب
الأعراب يكاتبون المسترشد بالطاعة فاستصلحهم مسعود، ولحقوا به، وبلغ
عسكره خمسة عشر ألفا، وتسلّل إليه كثير من عسكر المسترشد حتى بقي في
خمسة آلاف، وبعث إليه داود ابن السلطان محمود من أذربيجان بأن يقصد
الدّينور ليلقاه بها بعسكره فجفل للقاء السلطان مسعود، وسار وفي ميمنته
برتقش بازدار وكور
__________
[1] هكذا بالأصل والظاهر ان العبارة سقط منها فقره أثناء النسخ أو
الطبع وفي الكامل ج 11 ص 19:
«وكان قد اتّصل الأمير ألبقش السلاحيّ وغيره من الأمراء بالخليفة،
وطلبوا خدمته، فاستخدمهم واتّفق معهم. واتّفق أن إنسانا أخذ فوجد معه
ملطّفات من طغرل الى هؤلاء الأمراء وخاتمه بالإقطاع لهم، فلما رأى
الخليفة ذلك قبض على أمير منهم اسمه أغلبك ونهب ماله، فاستشعر غيره من
الأمراء الذين مع الخليفة، فهربوا الى عسكر السلطان مسعود، فأرسل
الخليفة الى مسعود في إعادتهم اليه، فلم يفعل واحتجّ بأشياء، فعظم ذلك
على الخليفة وحدث بينهما وحشة أوجبت تأخّره عن المسير معه، وأرسل اليه
يلزمه بالمسير معا أمرا جزما، فيما الأمراء على هذا، إذ جاءه الخبر
بوفاة طغرل»
[2] في العشرين من رجب: ابن الأثير ج 11 ص 25.
(3/629)
الدولة سنقر [1] وكزل وبرسق بن برسق، وفي
ميسرته جاولي برسقي وسراب سلار [2] وأغلبك الّذي كان قبض عليه من أمراء
السلجوقية بموافقتهم السلطان وكان ذلك عاشر رمضان سنة تسع وعشرين.
وانحازت ميسرة المسترشد إليه وانطبقت عساكره عليه، وانهزم أصحاب
المسترشد وأخذ هو أسيرا بموكبه، وفيهم الوزير شرف الدين عليّ بن طراد
الزينبي، وقاضي القضاة والخطباء والفقهاء والشهود وغيرهم. وأنزل
المسترشد في خيمة، وحبس الباقون بقلعة سرحاب، وعاد السلطان إلى همذان
وبعث الأمير بك آي المحمدي [3] إلى بغداد شحنة، فوصل سلخ رمضان، ومعه
عميد [4] فقبضوا أملاك الخليفة وأخذوا غلّاته، وضج الناس ببغداد وبكوا
على خليفتهم، وأعول النساء ثم عمد العامّة إلى المنبر فكسروه ومنعوا من
الخطبة وتعاقبوا في الأسواق يحثون التراب على رءوسهم، وقاتلوا أصحاب
الشحنة فأثخن فيهم بالقتل وهرب الوالي والحاجب وعظمت الفتنة، ثم بلغ
السلطان في شوّال أن داود ابن أخيه محمود عصي عليه بالمراغة، فسار
لقتاله والمسترشد معه وتردّد الرسل بينهما في الصلح.
مقتل المسترشد وخلافة الراشد
قد ذكرنا مسير المسترشد مع السلطان مسعود إلى مراغة وهو في خيمة موكل
به.
وتردّدت الرسل بينهما وتقرّر الصلح على أن يحمل مالا للسلطان ولا يجمع
العساكر لحرب ولا فتنة، ولا يخرج من داره فانعقد على ذلك بينهما، وركب
المسترشد وحملت الغاشية بين يديه وهو على العود إلى بغداد فوصل الخبر
بموافاة رسول من السلطان سنجر فتأخّر مسيره لذلك، وركب السلطان مسعود
للقاء الرسول، وكانت خيمة المسترشد منفردة العسكر فدخل عليه عشرون رجلا
أو يزيدون من الباطنيّة فقتلوه وجدعوه وصلبوه، وذلك سابع عشر ذي القعدة
من سنة تسع وعشرين، لسبع عشرة ونصف من خلافته. وقتل الرجال الذين قتلوه
وبويع ابنه أبو جعفر بعهد أبيه اليه بذلك فجددت له البيعة ببغداد في
ملأ من الناس، وكان إقبال خادم المسترشد في بغداد، فلمّا وقعت هذه
الحادثة عبر إلى الجانب الغربي وأصعد إلى تكريت،
__________
[1] نور الدولة سنقر: ابن الأثير ج 11 ص 25.
[2] جاولي وبرسق شراب سلار: المرجع السابق.
[3] الأمير بك أبه المحمودي: ابن الأثير ج 11 ص 26.
[4] ليس لها معنى ولعلها عبيد.
(3/630)
ونزل على مجاهد الدين بهروز. ثم بعد مقتل
المسترشد بأيام قتل دبيس بن صدقة على باب سرادقه بظاهر مدينة خويّ، أمر
السلطان مسعود غلاما أرمنيا بقتله فوقف على رأسه فضربه، وأسقط رأسه،
واجتمع إلى أبيه صدقة بالحلّة عساكره ومماليكه واستأمن إليه قطلغ تكين،
وأمر السلطان مسعود بك آي شحنة بغداد فأخذ الحلّة من يد صدقة فبعث بعض
عسكره إلى المدائن، وخام عن لقائه حتى قدم السلطان إلى بغداد سنة إحدى
وثلاثين فقصده وصالحه ولزم بابه.
الفتنة بين الراشد والسلطان مسعود ولحاقه
بالموصل وخلعه
وبعد بيعة الراشد واستقراره في الخلافة وصل برتقش الزكويّ من عند
السلطان محمود يطلب من الراشد ما استقرّ على أبيه من المال أيام كونه
عندهم، وهو أربعمائة ألف دينار فأجابه بأنه لم يخلف شيئا وأنّ ماله كان
معه فنهب. ثم نمي إلى الراشد أنّ برتقش تهجّم على دار الخلافة، وفتّش
المال فجمع الراشد العساكر وأصلح السور، ثم ركب برتقش ومعه الأمراء
البلخيّة وجاءوا لهجم الدار، وقاتلهم عسكر الخليفة والعامّة فساروا إلى
طريق خراسان وانحدر بك آي إلى خراسان، وسار برتقش إلى البندهجين، ونهبت
العامّة دار السلطان واشتدّت الوحشة بين السلطان والراشد، وانحرف الناس
عن طاعة السلطان إلى الخليفة، وسار داود ابن السلطان في عسكر أذربيجان
إلى بغداد، ونزل بدار السلطان في صفر من سنة ثلاثين، ووصل عماد الدين
زنكي من الموصل، ووصل برتقش بازدار صاحب قزوين، والبقش الكبير صاحب
أصبهان، وصدقة بن دبيس صاحب الحلّة، وابن برسق وابن الأحمديلي وجفل
الملك داود برتقش بازدار شحنة ببغداد، وقبض الراشد على ناصح الدولة أبي
عبد الله الحسن بن جهير استادار، وعلى جمال الدين إقبال. وكان قدم إليه
من تكريت فتنكّر له أصحابه وخانوه، وشفع زنكي في إقبال الخادم فأطلقه
وصار عنده، وخرج الوزير جلال الدين أبو الرضا بن صدقة لتلقي زنكي فأقام
عنده. ثم شفع فيه وأعاده إلى وزارته ولحق قاضي القضاة الزينبي بزنكي
أيضا، وسار معه إلى الموصل، ووصل سلجوق شاه إلى واسط وقبض بها بك آي
ونهب ماله فانحدر زنكي إليه وصالحه ورجع إلى بغداد. ثم سار السلطان
داود نحو طريق خراسان
(3/631)
ومعه زنكي لقتال السلطان مسعود، وبرز
الراشد أوّل رمضان وسار إلى طريق خراسان ورجع بعد ثلاث وأرسل إلى داود
والأمراء بالعود، وقتال مسعود من وراء السور، وراسلهم مسعود بالطاعة
والموافقة فأبوا، وتبعهم الخليفة في ذلك. وجاء مسعود فنزل على بغداد
وحصرهم فيها، وثار العيّارون وكثر الهرج وأقاموا كذلك نيفا وخمسين،
وامتنعوا وأقلع السلطان عنهم. ثم وصله طرنطاني صاحب واسط بالسفن فعاد
وعبر إلى الجانب الغربي فاضطرب الراشد وأصحابه، وعاد داود إلى بلاده،
وكان زنكي بالجانب الغربي فعبر إليه الراشد وسار معه إلى الموصل، ودخل
السلطان مسعود بغداد منتصف ذي القعدة سنة ثلاثين، وأمّن الناس. واستدعى
القضاة والفقهاء والشهود وعرض عليهم يمين الراشد بخطّه: إني متى جنّدت
جندا، وخرجت ولقيت أحدا من أصحاب السلطان بالسيف فقد خلعت نفسي من
الأمر فأفتوا بخلعه. ووافقهم على ذلك أصحاب المناصب والولايات، واتفقوا
على ذمّه فتقدّم السلطان لخلعه، وقطعت خطبته ببغداد وسائر البلاد في ذي
القعدة من سنة ثلاثين لسنة من خلافته.
خلافة المقتفي
ولما قطعت خطبة الراشد استشار السلطان مسعود أعيان بغداد فيمن يولّيه،
فأشاروا بمحمد بن المستظهر فقدم إليهم بعمل محضر في خلع الراشد، وذكروا
ما ارتكبه من أخذ الأموال ومن الأفعال القادحة في الإمامة، وختموا آخر
المحضر بأن من هذه صفته لا يصلح أن يكون إماما. وحضر القاضي أبو طاهر
بن الكرخي فشهدوا عنده بذلك وحكم بخلعه، ونفّذه القضاة الآخرون وكان
قاضي القضاة غائبا عند زنكي بالموصل، وحضر السلطان دار الخلافة ومعه
الوزير شرف الدين الزينبي وصاحب المخزن ابن العسقلاني، وأحضر أبو عبد
الله بن المستظهر فدخل إليه السلطان والوزير واستخلفاه. ثم أدخلوا
الأمراء وأرباب المناصب والقضاة والفقهاء فبايعوه ثامن عشر ذي الحجّة
ولقّبوه المقتفي. واستوزر شرف الدين عليّ بن طراد الزينبي وبعث كتاب
الحكم بخلع الراشد إلى الآفاق، وأحضر قاضي القضاة أبا القاسم عليّ بن
الحسين فأعاده إلى منصبه، وكمال الدين حمزة بن طلحة صاحب المخزن كذلك.
(3/632)
فتنة السلطان مسعود
مع داود واجتماع داود للراشد للحرب ومقتل الراشد
ولما بويع للمقتفي والسلطان مسعود ببغداد، وبعث عساكره بطلب الملك داود
فلقيه عند مراغة فانهزم داود وملك قراسنقر أذربيجان. ثم قصد داود
خوزستان، واجتمع عليه من عساكر التركمان وغيرهم نحو عشرة آلاف مقاتل،
وحاصر تستر وكان السلطان سلجوق شاه بواسط بعث إلى أخيه مسعود يستنجده
فأنجده بالعساكر وسار إلى تستر فقاتله داود وهزمه. وكان السلطان مسعود
مقيما ببغداد مخافة أن يقصد الراشد العراق من الموصل، وكان قد بعث
لزنكي فخطب للمقتفي في رجب سنة إحدى وثلاثين، وسار الراشد من الموصل،
فلما بلغ خبر مسيره إلى السلطان مسعود أذن للعسكر في العود إلى بلادهم،
وانصرف صدقة بن دبيس صاحب الحلّة بعد أن زوّجه ابنته.
ثم قدم على السلطان مسعود جماعة الأمراء الذين كانوا مع الملك داود مثل
البقش السلامي وبرسق بن برسق صاحب تستر وسنقر خمارتكين شحنة همذان،
فرضي عنهم ووليّ البقش شحنة ببغداد فظلم الناس وعسفهم. ولما فارق
الراشد زنكي من الموصل سار إلى أذربيجان وانتهى إلى مراغة، وكان بوزابة
وعبد الرحمن طغرلبك [1] صاحب خلخال، والملك داود ابن السلطان محمود
خائفين من السلطان مسعود فاجتمعوا الى منكبرس صاحب فارس وتعاهدوا على
بيعة داود، وأن يردّوا الراشد إلى الخلافة فأجابهم الراشد إلى ذلك،
وبلغ الخبر إلى السلطان فسار من بغداد في شعبان سنة اثنتين وثلاثين،
وبلغهم قبل وصوله وصول الراشد إليهم فقاتلهم بخوزستان فانهزموا وأسر
منكبرس صاحب فارس [2] فقتله السلطان مسعود صبرا، وافترقت عساكره للنهب
وفي طلب المنهزمين، ورآه بوزابة وعبد الرحمن طغرلبك في قلّ من الجنود
فحملوا عليه، وقتل بوزابة جماعة من الأمراء منهم صدقة بن دبيس وابن
قراسنقر الأتابك صاحب أذربيجان وعنتر بن أبي العسكر وغيرهم كان قبض
عليهم لأوّل الهزيمة وأمسكهم عنده، فلمّا بلغه قتل منكبرس قتلهم جميعا
وانصرف
__________
[1] طغايرك: ابن الأثير ج 11 ص 60.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 60: «ووصل الخبر إلى السلطان مسعود
وهو ببغداد باجتماعهم، فسار عنها في شعبان نحوهم، فالتقوا ببنجن كشت،
فاقتتلوا فهزمهم السلطان مسعود وأخذ الأمير منكبرس أسيرا» .
(3/633)
العسكران منهزمين، وقصد مسعود أذربيجان
وداود همذان. وجاء إليه الراشد بعد الوقعة وأشار بوزابة وكان كبير
القوم بمسيرهم، فسار بهم إلى فارس فملكها وأضافها إلى خوزستان. وسار
سلجوق شاه ابن السلطان مسعود ليملكها فدافعه عنها البقش الشحنة ومطر
الخادم أمير الحاج، وثار العيّارون أيام تلك الحرب، وعظم الهرج ببغداد،
ورحل الناس عنها إلى البلاد. فلمّا انصرف سلجوق شاه واستقرّ البقش
الشحنة فتك فيهم بالقتل والصلب. ولما قتل صدقة بن دبيس ولّى السلطان
على الحلّة محمدا أخاه وجعل معه مهلهلا أخا عنتر بن أبي العسكر يدبره.
ولما وصل الراشد والملك داود إلى خوزستان مع الأمراء على ما ذكرناه،
وملكوا فارس، ساروا إلى العراق ومعهم خوارزم شاه. فلما قاربوا الجزيرة
خرج السلطان مسعود لمدافعتهم فافترقوا، ومضى الملك داود إلى فارس
وخوارزم شاه إلى بلاده، وبقي الراشد وحده، فسار إلى أصبهان فوثب عليه
في طريقه نفر من الخراسانيّة الذين كانوا في خدمته فقتلوه في القيلولة
خامس عشر رمضان سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بشهرستان ظاهر أصبهان.
وعظم أمر هذه الفتنة واختلفت الأحوال والمواسم وانقطعت كسوة الكعبة في
هذه السنة من دار الخلافة من قبل السلاطين، حتى قام بكسوتها تاجر
فارسيّ من المترددين إلى الهند، أنفق فيها ثمانية عشر ألف دينار مصرية،
وكثر الهرج من العيّارين حتى ركب زعماؤهم الخيول وجمعوا الجموع، وتستر
الوالي ببغداد بلباس ابن أخيه سراويل الفتوّة عن زعيمهم ليدخل في
جملتهم، وحتى همّ زعيمهم بنقش اسمه في سكة بانبار فحاول الشحنة والوزير
على قتله فقتل، ونسب أمر العيّارين إلى البقش الشحنة لما أحدث من الظلم
والعسف فقبض عليه السلطان مسعود وحبسه بتكريت عند مجاهد الدين بهروز،
ثم أمر بقتله فقتل. ثم قدم السلطان مسعود في ربيع سنة ثلاث وثلاثين في
الشتاء، وكان يشتي بالعراق ويصيّف بالجبال. فلما قدم أزال المكوس وكتب
بذلك في الألواح فنصبت في الأسواق وعلى أبواب الجامع ورفع عن العامّة
نزول الجند عليهم فكثر الدعاء له والثناء عليه.
وزارة الخليفة
وفي سنة أربع وثلاثين وقع بين المقتفي ووزيره عليّ بن طراد الزينبي
وحشة بما كان يعترض على المقتفي في أمره، فخاف واستجار بالسلطان مسعود
فأجاره، وشفع إلى
(3/634)
المقتفي في إعادته فامتنع وأسقط اسمه من
الكتب، واستناب المقتفي ابن عمه قاضي القضاة والزينبي، ثم عزله واستناب
شديد الدولة الأنباري. ثم وصل السلطان إلى بغداد سنة ست وثلاثين فوجد
الوزير شرف الدين الزينبي في داره فبعث وزيره إلى المقتفي شفيعا في
إطلاق سبيله إلى بيته فأذن له انتهى.
الشحنة ببغداد
وفي سنة ست وثلاثين عزل مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد، وولّى كزل أمير
آخر من مماليك السلطان محمود، فكان على البصرة فأضيف إليه شحنكية
بغداد، ولمّا وصل السلطان مسعود إلى بغداد ورأى تبسط العيارين وفسادهم
أعاد بهروز شحنة، ولم ينتفع الناس بذلك لأنّ العيارين كانوا يتمسّكون
بالجاه من أهل الدول فلا يقدر بهروز على منعهم، وكان ابن الوزير وابن
قاروت صهر السلطان يقاسمانهم فيما يأخذون من النهب. واتفق سنة ثمان
وثمانين أنّ السلطان أرسل نائب الشحنكية ووبّخه على فساد العيّارين
فأخبره بشأن صهره وابن وزيره فأقسم ليصلبنه إن لم يصلبهما فأخذ خاتمه
على ذلك، وقبض على صهره ابن قاروت فصلبه وهرب ابن الوزير، وقبض على
أكثر العيّارين وافترقوا وكفى الناس شرّهم.
انتقاض الاعياص واستبداد الأمراء على
الأمير مسعود وقتله إياهم
وفي سنة أربعين سار بوزابة صاحب فارس وخوزستان وعساكره إلى قاشان ومعه
الملك محمد ابن السلطان محمود، واتصل بهم الملك سليمان شاه ابن السلطان
محمد، ولقي بوزاة الأمير عبّاس صاحب الريّ وتآمرا في الانتقاض على
السلطان مسعود، وملكا كثيرا من بلاده فسار السلطان مسعود عن بغداد،
ونزل بها الأمير مهلهل والخادم مطر وجماعة من غلمان بهروز. وسار معه
الأمير عبد الرحمن طغرلبك، وكان حاجبه ومتحكما في دولته، وكان هواه مع
ذينك الملكين، فسار السلطان وعبد الرحمن حتى تقارب العسكران، فلقي
سليمان شاه أخاه مسعودا فحنق عليه، وجرى عبد الرحمن في الصلح بين
الفريقين، وأضيفت وظيفة أذربيجان وأرمينية الى ما بيده. وسار أبو الفتح
ابن هزارشب وزير السلطان مسعود ومعه وزير بوزابة فاستبدّوا على السلطان
وحجروه
(3/635)
عن التصرّف فيما يريده، وكان بك أرسلان بن
بلنكري المعروف بخاص بك خالصة صاحب خلخال وبعض أذربيجان، فلمّا عظم
تحكّمه أسرّ السلطان إلى خاص بك بقتل عبد الرحمن، فدسّ ذلك الى جماعة
من الأمراء وقتلوه في موكبه، ضربه بعضهم بمقرعة فسقط إلى الأرض ميتا
وبلغ إلى السلطان مسعود ببغداد ومعه عبّاس صاحب الريّ في عسكر أكثر من
عسكره فامتعض لذلك فتلطّف له السلطان، واستدعاه إلى داره، فلما انفرد
عن غلمانه أمر به فقتل. وكان عبّاس من غلمان السلطان محمود وولي الريّ،
وجاهد الباطنية وحسنت آثاره فيهم. وكان مقتله في ذي القعدة سنة إحدى
وأربعين. ثم حبس السلطان مسعود أخاه سليمان شاه بقلعة تكريت، وبلغ مقتل
عبّاس إلى بوزابة فجمع عساكره من فارس وخوزستان: وسار إلى أصبهان
فحاصرها، ثم سار إلى السلطان مسعود والتقيا بمرج قراتكين فقتل بوزابة
قيل بسهم أصابه وقيل أخذ أسيرا وقتل صبرا، وانهزمت عساكره إلى همذان
وخراسان.
انتقاض الأمراء ثانية على السلطان
ولما قتل السلطان من قتل من أمرائه استخلص الأمير خاص بك وأنفذ كلمته
في الدولة، ورفع منزلته فحسده كثير من الأمراء وخافوا غائلته وساروا
نحو العراق وهم:
إيلدكز المسعودي صاحب كنجة وأرّانية، وقيصر والبقش كون صاحب أعمال
الجبل.
وقتل الحاجب وطرنطاي المحمودي شحنة واسط وابن طغايرك. ولما بلغوا حلوان
خاف الناس بأعمال العراق وعني المقتفي بإصلاح السور، وبعث إليهم بالنهي
عن القدوم فلم ينتهوا ووصلوا في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين، والملك
محمد ابن السلطان محمود معهم، ونزلوا بالجانب الشرقي، وفارق مسعود جلال
الشحنة ببغداد إلى تكريت، ووصل إليهم عليّ بن دبيس صاحب الحلّة، ونزل
بالجانب الغربي وجنّد المقتفي أجنادا وقتلوهم مع العامّة فكانوا
يستطردون للعامّة والجند حتى يبعدوا. ثم يكرّون عليهم فيثخنوا فيهم. ثم
كثر عيثهم ونهبهم. ثم اجتمعوا مقابل التاج وقبّلوا الأرض واعتذروا،
وتردّدت الرسل ورحلوا إلى النّهروان. وعاد مسعود جلال الشحنة من تكريت
إلى بغداد، وافترق هؤلاء الأمراء وفارقوا العراق، والسلطان مع ذلك مقيم
ببلد الجبل. وأرسل عمه سنجر إلى الريّ سنة أربع وأربعين فبادر إليه
مسعود وترضّاه
(3/636)
فأعتبه وقبل عذره. ثم جاءت سنة أربع
وأربعين جماعة أخرى من الأمراء وهم البقش كون والطرنطاي وابن دبيس وملك
شاه ابن السلطان محمود فراسلوا المقتفي في الخطبة لملك شاه فلم يجبهم،
وجمع العساكر وحصّن بغداد وكاتب السلطان مسعودا بالوصول الى بغداد
فشغله عمه سنجر إلى الريّ، ولمّا علم البقش مراسلة المقتفي إلى مسعود
نهب النهروان، وقبض على عليّ بن دبيس وهرب الطرنطاي إلى النعمانية،
ووصل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف شوّال، ورحل البقش كون من النهروان
وأطلق ابن دبيس.
وزارة المقتفي
وفي سنة أربع وأربعين استوزر المقتفي يحيى بن هبيرة وكان صاحب ديوان
الزمام وظهرت منه كفاية في حصار بغداد فاستوزره المقتفي.
وفاة السلطان مسعود وملك ملك شاه ابن أخيه
محمود
ثم توفي السلطان مسعود أوّل رجب سنة سبع وأربعين وخمسمائة لإحدى وعشرين
سنة من بيعته. وعشرين من عوده بعد منازعة إخوته. وكان خاص بك بن سلمكري
[1] متغلّبا على دولته. فبايع لملك شاه ابن أخيه السلطان محمود، وخطب
له بالسلطنة في همذان، وكان هذا السلطان مسعود آخر ملوك السلجوقية عن
بغداد. وبعث السلطان ملك شاه الأمير شكار كرد [2] في عسكر إلى الحلّة
فدخلها، وسار إليه مسعود جلال [3] الشحنة، وأظهر له الاتفاق. ثم قبض
عليه وغرّقه واستبدّ بالحلّة وأظهر المقتفي إليه العساكر مع الوزير عون
الدولة والدين بن هبيرة فعبر الشحنة إليهم الفرات، وقاتلهم فانهزموا
وثار أهل الحلّة بدعوة المقتفي ومنعوا الشحنة من الدخول فعاد إلى تكريت
ودخل ابن هبيرة الحلّة وبعث العساكر إلى الكوفة وواسط فملكوها، وجاءت
عساكر السلطان إلى واسط فغلبوا عليها عسكر المقتفي فتجهّز بنفسه،
وانتزعها من أيديهم، وسار منها إلى الحلّة. ثم عاد إلى بغداد في عشر ذي
__________
[1] خاصّ بك بن بلنكري: ابن الأثير ج 11 ص 161.
[2] سلاركرد: ابن الأثير ج 11 ص 162.
[3] مسعود بلال: المرجع السابق.
(3/637)
القعدة. ثم إنّ خاص بك المتغلّب على
السلطان ملك شاه استوحش وتنكّر وأراد الاستبداد فبعث عن الملك محمد ابن
السلطان محمد بخوزستان سنة ثمان وأربعين فبايعه أوّل صفر وأهدى إليه
وهو مضمر الفتك، فسبقه السلطان محمد لذلك وقتله ثاني يوم البيعة آيدغدي
التركماني المعروف بشملة من أصحاب خاص بك ونهاه عن الدخول إلى السلطان
محمد، فلم يقبل. فلما قتل خاص بك نهب شملة عسكره ولحق بخوزستان وكان
خاص بك صبيّا من التركمان اتصل بالسلطان مسعود واستخلصه وقدّمه على
سائر الأمراء.
حروب المقتفى مع أهل الخلاف وحصار البلاد
ثم بعث المقتفي عساكره لحصار تكريت مع ابن الوزير عون الدين والأمير
ترشك من خواصه وغيرهما، ووقع بينه وبين ابن الوزير منافرة خشي لها ترشك
على نفسه فصالح الشحنة صاحب تكريت، وقبض على ابن الوزير والأمراء،
وحبسهم صاحب تكريت وغرق كثير منهم، وسار ترشك والشحنة إلى طريق خراسان
فعاثوا فيها وخرج المقتفي في اتباعهم فهربا بين يديه، ووصل تكريت
وحاصرها أياما. ثم رجع إلى بغداد وبعث سنة تسع وأربعين بتكريت في ابن
الوزير وغيره من المأسورين، فقبض على الرسول فبعث إليهم عسكرا فامتنعوا
عليه، فسار المقتفي بنفسه في صفر من سنته وملك تكريت، وامتنعت عليه
القلعة فحاصرها، ورجع في ربيع. ثم بعث الوزير عون الدين في العساكر
لحصارها واستكثر من الآلات وضيق عليها. ثم بلغه الخبر بأنّ شحنة مسعود
وترشك وصلا في العساكر ومعهم الأمير البقش كون وأنهما استحثّا الملك
محمدا لقصد العراق، فلم يتهيأ له فبعث هذا العسكر معهم، وانضاف إليهم
خلق كثير من التركمان، فسار المقتفي للقائهم، وبعث الشحنة مسعود عن
أرسلان ابن السلطان طغرل بن محمد وكان محبوسا بتكريت فأحضره عنده
ليقاتل به المقتفي، والتقوا عند عقر بابل فتنازلوا ثمانية عشر يوما، ثم
تناجزوا آخر رجب فانهزمت ميمنة المقتفي إلى بغداد، ونهبت خزائنه وثبت
هو واشتد القتال وانهزمت عساكر العجم وظفر المقتفي بهم، وغنم أموال
التركمان وسبى نساءهم وأولادهم. ولحق البقش كون ببلد المحلو وقلعة
المهاكين وأرسلان بن طغرل، ورجع المقتفي إلى بغداد أوّل شعبان.
وقصد مسعود الشحنة وترشك بلد واسط للعيث فيها، فبعث المقتفي الوزير ابن
هبيرة
(3/638)
في العساكر فهزمهم. ثم عاد فلقيه المقتفي
سلطان العراق وأرسلان بن طغرل، وبعث إليه السلطان محمد في إحضاره عنده.
ومات البقش في رمضان من سنته وبقي أرسلان مع ابن البقش، وحسن الخازندار
فحملاه إلى الجبل ثم سارا به إلى الركن زوج أمّه، وهو أبو البهلوان
وأرسلان وطغرل الّذي قتله خوارزم شاه، وكان آخر السلجوقيّة ثلاثتهم
إخوة لأمّ. ثم سار المقتفي سنة خمسين إلى دقوقا فحاصرها أياما، ثم رجع
عنها لأنه بلغه أنّ عسكر الموصل تجهّز لمدافعته عنها فرحل.
استيلاء شمله على خوزستان
قد ذكرنا من قبل شأن شملة وأنه من التركمان واسمه آيدغدي وأنه كان من
أصحاب خاصّ بك التركماني، وهرب يوم قتل السلطان محمد صاحبه خاص بك بعد
أن حذّره منه فلم يقبل، ونجا من الواقعة فجمع جموعا وسار يريد خوزستان
وصاحبها يومئذ ملك شاه ابن السلطان محمود بن محمد. وبعث المقتفي عساكره
لذلك فلقيهم شملة في رجب وهزمهم وأسر وجوههم. ثم أطلقهم وبعث إلى
الخليفة يعتذر فقبل عذره، وسار إلى خوزستان فملكها من يد ملك شاه ابن
السلطان محمود.
إشارة إلى بعض أخبار السلطان سنجر بخوزستان
ومبدإ دولة بني خوارزم شاه
كان السلطان سنجر من ولد السلطان ملك شاه لصلبه، ولما استولى بركيارق
بن ملك شاه على خوزستان سنة تسعين وأربعمائة من يد عمه أرسلان أرغون،
كما نذكر في أخبارهم عند تفردها مستوفى، ولّى عليها أخاه سنجر، وولّى
على خوارزم محمد بن أنوش تكين من قبل الأمير داود حبشي بن أليوساق. ثم
لما ظهر السلطان محمد ونازع بركيارق وتعاقبا في الملك، وكان سنجر شقيقا
لمحمد فولّاه على خراسان، ولم يزل عليها. ولما اختلف أولاد محمد من
بعده كان عقيد أمرهم وصاحب شوراهم إذا خلّف له ببغداد مقدّما اسمه على
اسم سلطان العراق منهم سنة [1] ثم خرجت أمم الخطا من الترك من مفازة
الصين وملكوا ما وراء النهر من يد الجابية ملوك تركستان سنة ست وثلاثين
كما نذكر في أخبارهم. وسار سنجر لمدافعتهم فهزموه فوهن
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 548 يذكر ابن الأثير أخبار سنجر سنة
513.
(3/639)
لذلك فاستبدّ عليه خوارزم شاه بعض الشيء.
وكان الخلفاء لما ملكوا بلاد تركستان أزعجوا الغز عنها إلى خراسان وهم
بقية السلجوقية هناك. وأجاز السلجوقية لأول دولتهم إلى خراسان فملكوها،
وبقي هؤلاء الغز بنواحي تركستان فأجازوا أمام الخطا إلى خراسان،
وأقاموا السلطان بها حتى عتوا ونموا. ثم كثر عيثهم وفسادهم وسار إليهم
السلطان سنجر سنة ثمان وأربعين فهزموه واستولوا عليه وأسروه، وملكوا
بلاد خراسان وافترق أمراؤه على النواحي. ثم ملكوه وهو أسير في أيديهم
ذريعة لنهب البلاد واستولوا به على كثير منها، وهرب من أيديهم سنة إحدى
وخمسين ولم يقدر على مدافعتهم. ثم توفي سنة اثنتين وخمسين وافترقت بلاد
خراسان على أمرائه كما يذكر في أخبارهم. ثم تغلب بنو خوارزم شاه عليها
كلها وعلى أصبهان والريّ من ورائها وعلى أعمال غزنة من يد بني سبكتكين
وشاركهم فيها النور [1] بعض الشيعة وقام بنو خوارزم شاه مقام السلجوقية
إلى أن انقرضت دولتهم على يد جنكزخان ملك التتر من أمم الترك في أوائل
المائة السابعة كما يذكر ذلك كله في أخبار كل منهم عند ما نفردها
بالذكر إن شاء الله تعالى.
الخطبة ببغداد لسليمان شاه ابن السلطان
محمد وحروبه مع السلطان محمد بن محمود
كان سليمان بن محمد عند عمّه سنجر بخراسان منذ أعوام وقد جعله ولي
عهده، وخطب له بخراسان فلما غلب الغزّ على سنجر وأسروه تقدّم سليمان
شاه على العساكر، ثم غلبتهم الغز فلحق بخوارزم شاه فصاهره أوّلا بابنة
أخيه، ثم تنكّر فسار إلى أصبهان فمنعه شحنتها من الدخول فسار إلى
قاشان، فبعث إليه السلطان محمد شاه بن محمود فقصد اللحف، ونزل على
السيد محسن، وبعث إلى المقتفي ليستأذنه في القدوم، وبعث زوجته وولده
رهنا على الطاعة والمناصحة فأذن له، وقدم في خفّ من العساكر ثلاثمائة
أو نحوها، وأخرج الوزير عون الدين بن هبيرة ولده لتلقّيه ومعه قاضي
القضاة والنقباء، ودخل وعلى رأسه الشمسية، وخلع عليه. ولما كان المحرّم
من سنة إحدى وخمسين حضر عند المقتفي بمحضر قاضي القضاة وأعيان
العبّاسيين
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 222: العسكر الفوري، واما قوله بعض
الشيعة فهم الإسماعيلية وقد أورد ذكرهم ابن الأثير في حوادث 553.
(3/640)
واستحلفه على الطاعة، وأن لا يتعرّض
للعراق. ثم خطب له ببغداد وبلقب أبيه السلطان محمد، وبعث عسكرا نحو
ثلاثة آلاف واستقدم داود صاحب الحلّة فجعل له أمر الحجابة، وسار نحو
الجبل في ربيع. وسار المقتفي إلى حلوان وسار إلى ملك شاه بن محمود أخي
سليمان صاحب خوزستان فاستحلفه لسليمان شاه وجعله وليّ عهده، وأمدّهما
بالمال والأسلحة، وساروا إلى همذان وأصبهان، وجاءهم المذكر صاحب بلاد
أرّان فكثر جمعهم وبلغ خبرهم السلطان محمد بن محمود فبعث إلى قطب الدين
مودود بن زنكي صاحب الموصل، ونائبة زين الدين ليستنجدهما فأجاباه، وسار
للقاء سليمان شاه وأصحابه فالتقوا في جمادى، وانهزم سليمان شاه وافترقت
عساكره.
وسار المذكر إلى بلاده، وسار سليمان شاه إلى بغداد وسلك على شهرزور
فاعترضه زين الدين علي كوجك نائب قطب الدين بالموصل، وكان مقطع شهرزور
الأمير بران من جهة زين الدين فاعترضاه وأخذاه أسيرا، وحمل زين الدين
إلى الموصل فحبسه بقلعتها، وبعث إلى السلطان محمد بالخبر.
حصار السلطان محمد بغداد
كان السلطان محمد قد بعث إلى المقتفي في الخطبة له ببغداد فامتنع من
إجابته، ثم بايع لعمّه سليمان وخطب له وكان ما قدّمناه من أمره معه. ثم
سار السلطان محمد بن همذان في العساكر نحو العراق، فقدم في ذي الحجّة
سنة إحدى وخمسين، وجاءته عساكر الموصل مددا من قبل قطب الدين ونائبة
زين الدين، واضطربت الناس ببغداد، وأرسل المقتفي عن فضلوبواش [1] صاحب
واسط فجاء عسكره. وملك مهلهل الحلّة فاهتمّ ابن هبيرة بأمر الحصار وجمع
السفن تحت الناحي [2] ، وقطع الجسر، وأجفل الناس من الجانب الغربي،
ونقلت الأموال إلى حريم دار الخلافة، وفرّق المقتفي السلاح في الجند
والعامّة، ومكثوا أياما يقتتلون، ومدّ السلطان جسرا على دجلة فعبر على
الجانب الشرقي حتى كان القتال في الجانبين. ونفدت الأقوات في العسكر
واشتدّ القتال والحصار على أهل بغداد لانقطاع الميرة والظهر [3] من
عسكر الموصل لأنّ نور
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 212: «واضطرب الناس ببغداد وأرسل
الخليفة يجمع العساكر فأقبل خطلبرس من واسط وعصى أرغش صاحب البصرة،
وأخذ واسط ... »
[2] تحت التاج: المرجع السابق ص 213.
[3] الظهر: الركاب التي تحمل الأثقال.
(3/641)
الدين محمود بن زنكي وهو أخو قطب الدين
الأكبر بعث إلى زين الدين يلومه على قتال الخليفة. ثم بلغ السلطان
محمدا أنّ أخاه ملك شاه والمذكر صاحب بلاد أرّان، وأرسلان ابن الملك
طغرل بن محمد ساروا إلى همذان وملكوها فارتحل عن بغداد في آخر ربيع سنة
اثنتين وخمسين. وسار إلى همذان وعاد زين الدين كوجك إلى الموصل. ولما
قصد السلطان محمد همذان صار ملك شاه والمذكر [1] ومن معهما إلى الريّ
فقاتلهم شحنتها آبنايخ [2] وهزموه، وأمدّه السلطان محمد بالأمير سقمان
بن قيمار [3] فسار لذلك ولقيهما منصرفين عن الريّ قاصدين بغداد
فقاتلهما، وانهزم أمامهما فسار السلطان في أثرهما إلى خوزستان، فلما
انتهى إلى حلوان جاءه الخبر بأنّ المذكر بالدّينور وبعث إليه آبنايخ
بأنه استولى على همذان وأعاد خطبته فيها، فافترقت جموع ملك شاه والمذكر
وفارقهم شملة صاحب خوزستان، فعادوا هاربين إلى بلادهم وعاد السلطان
محمد إلى همذان.
حروب المقتفي مع أهل النواحي
كان سنقر الهمذاني صاحب اللحف، وكان في هذه الفتنة قد نهب سواد بغداد
وطريق خراسان، فسار المقتفي لحربه في جمادى سنة ثلاث وخمسين وضمن له
الأمير خلطوا برأس [4] إصلاحه، فسار إليه خاله على أن يشرك المقتفي معه
في بلد اللحف الأمير أزغش المسترشدي فأقطعها لهما جميعا ورجع ثم عاد
سنقر على أزغش وأخرجه، وانفرد ببلده وخطب للسلطان محمد فسار إليه خلطوا
برأس من بغداد في العساكر وهزمه، وملك اللحف وسار سنقر إلى قلعة
الماهكي للأمير قايماز العميدي ونزلها في أربعمائة ألف فارس. ثم سار
إليه سنقر سنة أربع وخمسين فهزمه ورجع إلى بغداد فخرج المقتفي إلى
النعمانية وبعث العساكر مع ترشك فهرب سنقر في الجبال ونهب ترشك مخلفه
وحاصر قلعة الماهكي، ثم عاد إلى البندنجين وبعث بالخبر إلى بغداد. ولحق
سنقر بملك شاه فأمدّه بخمسمائة فارس وبعث ترشك إلى المقتفي في المدد
فأمدّه، وبعث إليه سنقر في الإصلاح فحبس رسوله، وسار إليه فهزمه
__________
[1] ايلدكز: ابن الأثير ج 11 ص 215.
[2] اينانج: المرجع السابق.
[3] سقمس بن قيماز الحراميّ: المرجع السابق.
[4] خطلبرس: (وقد مرّ معنا من قبل) ابن الأثير ج 11 ص 229.
(3/642)
واستباح عسكره ونجا سنقر جريحا إلى بلاد
العجم فأقام بها. ثم جاء بها سنة أربع وخمسين إلى بغداد، وألقى نفسه
تحت التاج فرضي عنه المقتفي. وأذن له في دخول دار الخلافة. ثم زحف إلى
قايماز السلطان في ناحية بادرايا سنة ثلاث وخمسين فهزمه وقتله وبعث
المقتفي عساكره لقتال شملة فلحق بملك شاه.
وفاة السلطان محمد بن محمود وملك عمه
سليمان شاه ثم ارسلان بن طغرل
ثم إنّ السلطان محمد بن محمود بن ملك شاه لما رجع عن حصار بغداد أصابه
مرض السل وطال به، وتوفي بهمذان في ذي الحجّة سنة أربع وخمسين لسبع
سنين ونصف من ملكه، وكان له والد فيئس من طاعة الناس له، ودفعه لآقسنقر
الأحمديلي وأوصاه عليه فرحل به إلى مراغة. ولما مات السلطان محمد اختلف
الأمر فيمن يولّونه، ومال الأكثر إلى سليمان شاه عمّه، وطائفة إلى ملك
شاه أخيه، وطائفة إلى أرسلان بن السلطان طغرل الّذي مع الدكز ببلاد
أرّان. وبادر ملك شاه أخوه فسار من خوزستان ومعه شملة التركماني ودكلا
صاحب فارس، ورحل إلى أصبهان فأطاعه ابن الخجنديّ، وأنفق عليه الأموال
وبعث إلى عساكر همذان في الطاعة فلم يجيبوه، وأرسل أكابر الأمراء من
همذان إلى قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في سليمان شاه المحبوس
عنده ليولّوه عليهم، وذلك أوّل سنة خمس وخمسين فأطلقه على أن يكون
أتابكا له وجمال الدين وزيره وزيرا وجهّزه بجهاز السلطنة وبعث معه
نائبة زين الدين عليّ كوجك في عسكر الموصل. فلما قاربوا بلاد الجبل
وأقبلت العساكر من كل جهة على السلطان سليمان فارتاب كوجك لذلك، وعاد
إلى الموصل فلم ينتظم أمر سليمان، ودخل همذان وبايعوا له وخطب له
ببغداد. وكثرت جموع ملك شاه بأصبهان وبعث إلى بغداد في الخطبة، وأن
يقطع خطبة عمّه ويراجع القواعد بالعراق إلى ما كانت فوضع عليه الوزير
عون الدين بن هبيرة جارية بعث بها إليه فسمّته، فمات سنة خمس وخمسين،
فأخرج أهل أصبهان أصحابه وخطبوا لسليمان شاه.
وعاد شملة إلى خراسان فملك كل ما كان ملك شاه تغلّب عليه منها. واستقرّ
سليمان شاه بتلك البلاد، وشغل باللهو والسكر ومنادمة الصفّاعين، وفوض
الأمور إلى شرف الدين دوا داره من مشايخ السلجوقيّة، كان ذا دين وعقل
وحسن تربية، فشكا
(3/643)
الأمراء إليه فدخل عليه وعذله وهو سكران
فأمر الصفّاعين بالردّ عليه، وخرج مغضبا. وصحا سليمان فاستدرك أمره
بالاعتذار فأظهر القبول، واجتنب الحضور عنده وبعث سليمان إلى ابنايخ
صاحب الريّ يستقدمه فاعتذر بالمرض إلى أن يفيق ونمي الخبر إلى كربازة
الخادم فعمل دعوة عظيمة حضرها السلطان والأمراء وقبض عليه وعلى وزيره
أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي وعلى أصحابه في شوّال من سنة
ست وخمسين فقتل وزيره وخواصّه وحبسه أياما. وخرج ابنايخ صاحب الريّ
ونهب البلاد وحاصر همذان وبعث كردباز إلى إلدكز يستدعيه ليبايع لربيبه
أرسلان شاه بن طغرل فسار في عشرين ألف فارس، ودخل همذان وخطب لربيبه
أرسلان شاه بن طغرل بالسلطنة وجعل إلدكز أتابكا له، وأخاه من أمه
البهلول بن إلدكز حاجبا. وبعث إلى المقتفي في الخطبة، وأن تعاد الأمور
إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود فطرد رسوله وعاد إليه على أقبح
حالة. وبعث إلى ابنايخ صاحب الريّ فحالفه على الاتفاق، وصاهره في ابنته
على البهلول وجاءت اليه بهمذان وكان إلدكز من مماليك السلطان مسعود،
وأقطعه أرّان وبعض أذربيجان ولم يحضر شيئا من الفتنة، وتزوّج أم أرسلان
شاه وزوّجه طغرل فولدت له محمدا البهلوان، وعثمان كزل أرسلان [1] . ثم
بعث إلدكز إلى آقسنقر الأحمديليّ صاحب مراغة في الطاعة لأرسلان شاه
ربيبه، فامتنع وهدّدهم بالبيعة للطفل الّذي عنده محمود بن ملك شاه. وقد
كان الوزير ابن هبيرة أطمعه في الخطبة لذلك الطفل فيما بينهم، فجهز
إلدكز العساكر مع ابنه البهلوان وسار إلى مراغة، واستمد آقسنقر ساهرمز
صاحب خلاط فأمدّه بالعساكر، والتقى آقسنقر والبهلوان فانهزم البهلوان
وعاد إلى همذان.
وعاد آقسنقر إلى مراغة ظافرا. وكان ملك شاه بن محمود لما مات بأصبهان
مسموما كما ذكرنا لحق طائفة من أصحابه ببلاد فارس، ومعه ابنه محمود،
فقبض عليه صاحب فارس زنكي بن دكلا السلغري بقلعة إصطخر، ولما بعث إلدكز
إلى بغداد في الخطبة لربيبه أرسلان وشرع الوزير عون الدين أبو المظفر
يحيى بن هبيرة في التصريف بينهم بعث ابن دكلا وأطمعه في الخطبة لمحمود
بن ملك شاه الّذي عنده إن ظفر بإلدكز فأطلقه ابن دكلا وبايع له، وضرب
الطبل على بابه خمس نوب.
وبعث إلى ابنايخ [2] صاحب الريّ فوافقه وسار إليه في عشرة آلاف، وبعث
إليه
__________
[1] البهلوان محمد وقزل أرسلان عثمان: ابن الأثير ج 11 ص 268.
[2] إينانج: المرجع السابق ص 269.
(3/644)
آقسنقر الأحديليّ، وجمع إلدكز العساكر،
وسار إلى أصبهان يريد بلاد فارس، وبعث إلى صاحبها زنكي بن دكلا في
الطاعة لربيبه أرسلان فأبى، وقال: إنّ المقتفي أقطعني بلاده وأنا سائر
إليه. واستمد المقتفي وابن هبيرة فواعدوه وكاتبوا الأمراء الذين مع
إلدكز بالتوبيخ على طاعته والانحراف عنه إلى زنكي بن دكلا صاحب فارس،
وابنايخ صاحب الريّ، وبدأ إلدكز بقصد ابنايخ. ثم بلغه أنّ زنكي بن دكلا
نهب سميرم ونواحيها، فبعث عسكرا نحوا من عشرة آلاف فارس لحفظها فلقيهم
زنكي فهزمهم، فبعث إلدكز إلى عساكر أذربيجان فجاء بها ابنه كزل أرسلان.
وبعث زنكي بن دكلا العساكر إلى ابنايخ ولم يحضر بنفسه خوفا على بلاد
شملة صاحب خوزستان. ثم التقى إلدكز وابنايخ في شعبان سنة ست وخمسين
فانهزم ابنايخ واستبيح عسكره وحاصره إلدكز ثم صالحه ورجع إلى همذان.
وفاة المقتفي وخلافة المستنجد وهو أوّل الخلفاء المستبدّين على أمرهم
من بني العبّاس عند تراجع الدولة وضيق نطاقها ما بين الموصل وواسط
والبصرة وحلوان
ثم توفي المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر في ربيع
الأوّل سنة خمس وخمسين لأربع وعشرين سنة وأربعة أشهر من خلافته، وهو
أول من استبدّ بالعراق منفردا عن سلطان يكون معه من أوّل أيام الديلم،
فحكم على عسكره وأصحابه فيما بقي لمملكتهم من البلدان بعد استبداد
الملوك في الأعمال والنواحي. ولما اشتدّ مرضه تطاول كل من أم ولده إلى
ولاية ابنها. وكانت أم المستنجد تخاف عليه، وأمّ أخيه عليّ تروم ولاية
ابنها، واعتزمت على قتل المستنجد واستدعته لزيارة أبيه وقد جمعت
جواريها وآتت كل واحدة منهنّ سكينا لقتله وأمسكت هي وابنها سيفين، وبلغ
الخبر إلى يوسف المستنجد فأحضر أستاذ دار أبيه، وجماعة من الفرّاشين
وأفرغ السلاح ودخل معهم الدار، وثار به الجواري فضرب إحداهنّ وأمكنها
فهربوا وقبض على أخيه عليّ وأمّه فحبسهما وقسم الجواري بين القتل
والتغريق حتى إذا توفي المقتفي جلس للبيعة فبايعه أقاربه وأوّلهم عمّه
أبو طالب، ثم الوزير عون الدين بن هبيرة وقاضي
(3/645)
القضاة وأرباب الدولة والعلماء وخطب له.
وأقر ابن هبيرة على الوزارة وأصحاب الولايات على ولايتهم، وأزال المكوس
والضرائب، وقرّب رئيس الرؤساء، وكان أستاذ دار فرفع منزلته عبد الواحد
المقتفي، وبعث عن الأمير ترشك سنة ست وخمسين من بلد اللحف وكان مقتطعا
بها فاستدعاه لقتال جمع من التركمان أفسدوا في نواحي البندنيجين فامتنع
من المجيء وقال: يأتيني العسكر وأنا أقاتل بهم، فبعث إليه المستنجد
العساكر مع جماعة من الأمراء فقتلوه وبعثوا برأسه إلى بغداد. ثم استولى
بعد ذلك على قلعة الماهكي من يد مولى سنقر الهمذانيّ ولّاه عليها سنقر
وضعف عن مقاومة التركمان والأكراد حولها فاستنزله المستنجد عنها بخمسة
عشر ألف دينار، وأقام ببغداد. وكانت هذه القلعة أيام المقتدر بأيدي
التركمان والأكراد.
فتنة خفاجة
اجتمعت خفاجة سنة ست وخمسين إلى الحلّة والكوفة وطالبوا برسومهم من
الطعام والتمر، وكان مقطع الكوفة أرغش وشحنة الحلّة قيصر، وهما من
مماليك المستنجد فمنعوهما، فعاثوا في تلك البلاد والنواحي فخرجوا إليهم
في أثرهم، واتّبعوهم إلى الرحبة، فطلبوا الصلح فلم يجبهم أرغش ولا
قيصر، فقاتلوهم فانهزمت العساكر، وقتل قيصر وخرج أرغش ودخل الرحبة،
فاستأمن له شحنتها وبعثوه إلى بغداد.
ومات أكثر الناس عطشا في البرّية وتجهّز عون الدين بن هبيرة في العساكر
لطلب خفاجة فدخلوا البرية ورجع، وانتهت خفاجة إلى البصرة وبعثوا
بالعدوّ وسألوا الصلح فأجيبوا.
إجلاء بني أسد من العراق
كان في نفس المستنجد باللَّه من بني أسد أهل الحلّة لفسادهم ومساعدتهم
السلطان محمد في الحصار، فأمر يزدن بن قماج بإجلائهم من البلاد، وكانوا
منبسطين في البطائح، فجمع العساكر وأرسل إلى ابن معروف فقدّم السفن،
وهو بأرض البصرة فجاءه في جموع وحاصرهم وطاولهم، فبعث المستنجد يعاتبه
ويتّهمه بالتشيّع، فجهّز هو وابن معروف في قتالهم، وسدّ مسالكهم في
الماء فاستسلموا، وقتل منهم أربعة آلاف ونودي عليهم بالملا من الحلّة
فتفرّقوا في البلاد، ولم يبق بالعراق منهم أحد وسلّمت بطائحهم وبلادهم
إلى ابن معروف.
(3/646)
الفتنة بواسط وما
جرت إليه
كان مقطع البصرة منكبرس من موالي المستنجد، وقتله سنة تسع وخمسين،
وولّى مكانه كمستكين، وكان ابن سنكاه ابن أخي شملة صاحب خوزستان،
فانتهز الفرصة في البصرة ونهب قراها، وأمر كمستكين بقتاله فعجز عن
إقامة العسكر وأصعد ابن سنكاه إلى واسط ونهب سوادها وكان مقطعها خلطوا
برس [1] فجمع الجموع وخرج لقتاله، واستمال ابن سنكاه الأمراء الذين معه
فخذلوه، وانهزم وقتله ابن سنكاه سنة إحدى وستين ثم قصد البصرة سنة
اثنتين وستين ونهب جهتها الشرقية وخرج إليه كمستكين وواقعه، وسار ابن
سنكاه إلى واسط وخافه الناس ولم يصل إليها.
مسير شملة الى العراق
سار شملة صاحب خوزستان إلى العراق سنة اثنتين وستين وانتهى إلى قلعة
الماهكيّ وطلب من المستنجد إقطاع البلاد، واشتط في الطلب فبعث المستنجد
العساكر لمنعه، وكتب إليه يحذّره عاقبة الخلاف فاعتذر بأنّ إلدكز
وربيبه السلطان أرسلان شاه أقطعا الملك الّذي عنده، وهو ابن ملك شاه
بلاده البصرة وواسط والحلّة، وعرض التوقيع بذلك، وقال أنا أقنع بالثلث
منه فأمر المستنجد حينئذ بلعنه، وأنه من الخوارج، وتعبّت العساكر إلى
أرغمش المسترشدي بالنعمانيّة والى شرف الدين أبي جعفر البلدي ناظر واسط
ليجتمعا على قتال شملة، وكان شملة أرسل مليح ابن أخيه في عسكر لقتال
بعض الأكراد فركب إليه أرغمش وأسره وبعض أصحابه، وبعث إلى بغداد، وطلب
شملة الصلح فلم يجب إليه. ثم مات أرغمش من سقطة سقطها عن فرسه وبقي
العسكر مقيما ورجع شملة إلى بلاده لأربعة أشهر من سفره.
وفاة الوزير يحيى
ثم توفي الوزير عون الدين يحيى بن محمد بن المظفّر بن هبيرة سنة ستين
وخمسمائة في جمادى الأولى، وقبض المستنجد على أولاده وأهله وأقامت
الوزارة بالنيابة. ثم استوزر المستنجد سنة ثلاث وستين شرف الدين، أبا
جعفر أحمد بن محمد بن سعيد
__________
[1] هو خطلبرس وقد مرّ ذكره معنا من قبل.
(3/647)
المعروف بابن البلديّ ناظر واسط وكان عضد
الدين أبو الفرج بن دبيس قد تحكّم في الدولة فأمره المستنجد بكفّ يده
وأيدي أصحابه، وطالب الوزير أخاه تاج الدين بحساب عمله بنهر الملك من
أيام المقتفي، وكذلك فعل بغيره، فخافه العمّال وأهل الدولة وحصّل بذلك
أموالا جمّة.
وفاة المستنجد وخلافة المستضيء
كان الخليفة المستنجد قد غلب على دولته استاذ دار عضد الدين ابو الفرج
ابن رئيس الرؤساء، وكان أكبر الأمراء ببغداد، وكان يرادفه قطب الدين
قايماز المظفري [1] ولما ولّى المستنجد أبا جعفر البلدي على وزارته غضّ
من استاذ دار وعارضه في أحكامه فاستحكمت بينهما العداوة، وتنكّر
المستنجد لأستاذ دار وصاحبه قطب الدين، فكانا يتّهمان بأنّ ذلك بسعاية
الوزير. ومرض المستنجد سنة ست وستين وخمسمائة واشتدّ مرضه فتحيّلا في
إهلاكه، يقال إنّهما واضعا [2] عليه الطبيب، وعلم أنّ هلاكه في الحمام
فأشار عليه بدخوله فدخله، وأغلقوا عليه بابه فمات. وقيل كتب المستنجد
إلى الوزير ابن البلدي بالقبض على أستاذ دار وقايماز وقتلهما، وأطلعهما
الوزير على كتابه فاستدعيا يزدن وأخاه يتماش [3] وفاوضاهما وعرضا
عليهما كتابه، واتفقوا على قتله فحملوه إلى الحمّام وأغلقوا عليه الباب
وهو يصيح إلى أن مات تاسع ربيع من سنة ست وستين لإحدى عشرة سنة من
خلافته. ولما أرجف بموته قبل أن يقبض ركب الأمراء والأجناد متسلّحين،
وغشيتهم العامّة واحتفت بهم، وبعث إليه أستاذ دار بأنه إنما كان غشيا
عرضا، وقد أفاق أمير المؤمنين وخفّ ما به، فخشي الوزير من دخول الجند
إلى دار الخلافة، فعاد إلى داره وافترق الناس. فعند ذلك أغلق أستاذ دار
وقايماز أبواب الدار وأحضرا ابن المستنجد أبا محمد الحسن وبايعاه
بالخلافة ولقباه المستضيء بأمر الله، وشرطا عليه أن يكون عضد الدين
وزيرا وابنه كمال الدين أستاذ دار وقطب الدين قايماز أمير العسكر،
فأجابهم إلى ذلك، وبايعه أهل بيته البيعة الخاصة. ثم توفي المستنجد
وبايعه الناس من الغد في التاج البيعة العامّة، وأظهر
__________
[1] قطب الدين قايماز المقتفوي: ابن الأثير ج 11 ص 360.
[2] واضعه في الأمير: وافقه فيه، تقول: «هلم أواضعك الرأي» اي أطلعك
على رأيي وتطلعني على رأيك. وفي الكامل ج 11 ص 360 «ووضعا الطبيب» .
[3] تنامش: المرجع السابق.
(3/648)
العدل وبذل الأموال وسقط في يد الوزير وندم
ما فرّط، واستدعي للبيعة، فلما دخل قتلوه وقبض المستضيء على القاضي ابن
مزاحم وكان ظلوما جائرا واستصفاه وردّ الظلامات منه على أربابها، وولّى
أبا بكر بن نصر بن العطّار صاحب المخزن ولقّبه ظهير الدين.
انقراض الدولة العلوية بمصر وعود الدعوة العبّاسية إليها
ولأوّل خلافة المستضيء كان انقراض الدولة العلويّة بمصر، والخطبة بها
للمستضيء من بني العبّاس في شهر المحرّم فاتح سنة سبع وستين وخمسمائة
قبل عاشوراء، وكان آخر الخلفاء العبيديّين بها العاضد لدين الله من
أعقاب الحافظ لدين الله عبد المجيد، وخافوا المستضيء معه ثامن خلفائهم،
وكان مغلبا لوزارته. واستولى شاور منهم وثقلت وطأته عليهم فاستقدم ابن
شوار من أهل الدولة من الإسكندرية. وفرّ شاور إلى الشام مستنجدا بالملك
العادل نور الدين محمود بن زنكي من آقسنقر، وكان من مماليك السلجوقية
وأمرائهم المقيمين للدعوة العبّاسية. وكان صلاح الدين يوسف بن نجم
الدين أيوب بن [1] الكردي هو وأبوه نجم الدين أيوب وعمّه أسد الدين
شيركوه في جماعة من الأكراد في خدمة نور الدين محمود بالشام، فلما جاء
شاور مستنجدا بعث معه هؤلاء الأمراء الأيوبيّة وكبيرهم أسد فأعاده إلى
وزارته، وقتل الضرغام، ولم يوف له شاور بما ضمن له عند مسيره من الشام
في نجدته. وكان الفرنج قد ملكوا سواحل مصر والشام وزاحموا ما يليها من
الأعمال، وضيّقوا على مصر والقاهرة إلى أن ملكوا بلبيس وأيلة عند
العقبة. واستولوا على الدولة العلويّة في الضرائب والطلبات وأصبحوا
مأوى لمن ينحني عن الدولة. وداخلهم شاور في مثل ذلك فارتاب به العاضد
وبعث عزّ الدين مستصرخا به على الفرنج في ظاهر أمره، ويسرحون في ارتعاء
[2] من إبادة شاور والتمكّن منه فوصل لذلك، وولّاه العاضد وزارته
وقلّده ما وراء بابه، فقتل الوزير شاور وحسم داءه وكان مهلكه قريبا من
وزارته يقال لسنة ويقال لخمسين يوما فاستوزر العاضد مكانه صلاح الدين
ابن أخيه
__________
[1] كذا بياض بالأصل: وهو صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي ابن الأثير
ج 11 ص 368.
[2] العبارة غير واضحة ولم نهتد الى تصويبها في المراجع التي بين
أيدينا.
(3/649)
نجم الدين فقام بالأمر وأخذ في إصلاح
الأحوال وهو يعدّ نفسه وعمّه من قبله نائبا عن نور الدين محمود بن زنكي
الّذي بعثه وعمّه للقيام بذلك. ولما ثبت قدمه بمصر وأزال المخالفين ضعف
أمر العاضد وتحكّم صلاح الدين في أموره وأقام خادمه قراقوش للولاية
عليه في قصره والتحكّم عليه، فبعث إليه نور الدين محمود الملك العادل
بالشام أن يقطع الخطبة للعاضد ويخطب للمستضيء ففعل ذلك على توقّع
النكير من أهل مصر. فلما وقع ذلك ظهر منه الاغتباط وانمحت آثار الدولة
العلويّة، وتمكنت الدولة العبّاسية فكان ذلك مبدأ الدولة لبني أيوب
بمصر ثم ملكوا من بعدها أعمال نور الدين بالشام واستضافوا اليمن
وطرابلس الغرب واتسع ملكهم كما يذكر في أخبارهم. ولما خطب للمستضيء
بمصر كتب له نور الدين محمود من دمشق مبشرا بذلك فضربت البشائر ببغداد،
وبعث بالخلع إلى نور الدين وصلاح الدين مع عماد الدين صندل من خوّاص
المقتفوية، وهو أستاذ دار المستضيء فجاء إلى نور الدين بدمشق، وبعث
الخلع إلى صلاح الدين وللخطباء بمصر وبإسلام السواد.
واستقرّت الدعوة العبّاسية بمصر إلى هذا العهد والله وارث الأرض ومن
عليها وهو خير الوارثين. ثم بعث نور الدين محمود إلى المستضيء رسوله
القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري قاضي بلاده
يطلب التقليد لما بيده من الأعمال، وهي مصر والشام والجزيرة والموصل،
وبما هو في طاعته كديار بكر وخلاط وبلاد الروم التي لقليج أرسلان وأن
يقطع صريعين ودرب هارون من بلاد سواد العراق كما كانتا لأبيه، فأكرمه
الرسول وزاد في الإحسان إليه وكتب له بذلك.
خبر يزدن من أمراء المستضيء
كان يزدن قد ولّاه المستضيء الحلّة فكانت في أعماله، وكانت حمايتها
لخفاجة وبني حزن منهم فجعلها يزدن لبني كعب منهم، وأمرهم الغضبان فغضب
بنو حزن وأغاروا عليهم على السواد، وخرج يزدن في العسكر لقتالهم، ومعه
الغضبان وعشيرة بنو كعب فبينما هم ليلة يسيرون رمي الغضبان بسهم فمات،
فعادت العساكر إلى بغداد، وأعيدت حفاظة السواد إلى بني حزن. ثم مات
يزدن سنة ثمان وستين، وكانت واسط من أقطاعه فاقتطعت لأخيه أيتامش ولقّب
علاء الدين.
(3/650)
مقتل سنكاه بن أحمد
أخي شملة
قد ذكرنا في دولة المستنجد فتنة سنكاه هذا وعمّه شملة صاحب خوزستان. ثم
جاء ابن سنكاه إلى قلعة الماهكيّ فبنى بإزائها قلعة ليتمكّن بها من تلك
الأعمال، فبعث المستضيء العسكر من بغداد لمنعه فقاتلهم واشتدّ قتاله.
ثم انهزم وقتل وعلّق رأسه ببغداد وهدمت القلعة.
وفاة قايماز وهربه
قد ذكرنا شأن قطب الدين قايماز وأنه الّذي بايع للمستضيء وجعله أمير
العسكر وجعله عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء وزيرا. ثم استفحل
أمر قايماز وغلب على الدولة وحمل المستضيء على عزل عضد الدين أبي الفرج
من الوزارة، فلم يمكّنه مخالفته، وعزله سنة سبع وستين فأقام معزولا.
وأراد الخليفة سنة تسع وتسعين أن يعيده إلى الوزارة فمنعه قطب الدين من
ذلك، وركب فأغلق المستضيء أبواب داره مما يلي بغداد، وبعث إلى قايماز
ولاطفه بالرجوع فيما هم به من وزارة عضد الدين فقال: لا بدّ من إخراجه
من بغداد! فاستجار برباط شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل
فأجاره، واستطال قايماز على الدولة وأصهر على علاء الدين يتامش في أخته
فزوّجها منه وحملوا الدولة جميعا. ثم سخط قايماز ظهير الدين ابن
العطّار صاحب المخزن وكان خاصّا بالخليفة، وطلبه فهرب فأحرق داره.
وجمع الأمراء فاستحلفهم على المظاهرة وأن يقصدوا دار المستضيء ليخرجوا
منها ابن العطّار، فقصد المستضيء على سطح داره وخدّامه يستغيثون، ونادى
ليخرجوا منها ابن العطّار، فقصد المستضيء على سطح داره وخدّامه
يستغيثون، ونادى في العامّة بطلب قايماز ونهب داره فهرب من ظهر بيته،
ونهبت داره وأخذ منها ما لا يحصى من الأموال واقتتل العامّة على [1]
ولحق قايماز بالحلّة وتبعه الأمراء، وبعث إليه المستضيء شيخ الشيوخ عبد
الرحيم ليسير عن الحلّة إلى الموصل تخوّفا من عوده إلى بغداد فيعود
استيلاؤه لمحبّة العامة فيه، وطاعتهم له، فسار إلى الموصل
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 434: «فقصد الخلق كلّهم دار قطب
الدين للنهب، فلم يمكنه المقام لضيق الشوارع وغلبة العامّة، فهرب من
داره من باب فتحه في ظهرها لكثرة الخلق على بابها، وخرج من بغداد ونهبت
داره.»
(3/651)
وأصابه ومن معه في الطريق عطش فهلك الكثير
منهم، وذلك في ذي الحجة من سنة سبعين. وأقام صهره علاء الدين يتامش
بالموصل. ثم استأذن الخليفة في القدوم إلى بغداد فقدم وأقام بها عاطلا
بغير إقطاع، وهو الّذي حمل قايماز على ما كان منه، وولّى الخليفة أستاذ
داره سنجر المقتفوي، ثم عزله سنة إحدى وسبعين وولّى مكانه أبا الفضل
هبة الله بن علي ابن الصاحب.
فتنة صاحب خوزستان
قد ذكرنا أنّ ملك شاه بن محمود ابن السلطان محمد استقرّ بخوزستان
وذكرنا فتنة شملة مع الخلفاء. ثم مات شملة سنة سبعين وملك ابنه مكانه.
ثم مات ملك شاه ابن محمود وبقي ابنه بخوزستان فجاء سنة اثنتين وسبعين
إلى العراق، وخرج إلى البندنجين، وعاث في الناس وخرج الوزير عضد الدين
أبو الفرج في العساكر ووصل عسكر الحلّة وواسط مع طاش تكين أمير الحاج
وغز علي، وساروا للقاء العدوّ وكان معه جموع من التركمان فأجفلوا
ونهبتهم عساكر بغداد. ثم ردّهم الملك ابن ملك شاه وأوقعوا بالعسكر
أياما ثم مضى الملك إلى مكانه وعادت العساكر إلى بغداد.
مقتل الوزير
قد ذكرنا أخبار الوزير عضد الدين أبي الفرج محمد بن عبد الله بن هبة
الله بن المظفّر بن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة، كان أبوه
أستاذ دار المقتفي. ولما مات ولي ابنه مكانه. ولما مات المقتفي أقرّه
المستنجد ورفع قدره، ثم استوزره المستضيء وكان بينه وبين قايماز ما
قدّمناه، وأعاده المستضيء للوزارة فلما كانت سنة ثلاث وسبعين استأذن
المستضيء في الحجّ فأذن له وعبر دجلة فسافر في موكب عظيم من أرباب
المناصب، واعترضه متظلّم ينادي بظلامته، ثم طعنه فسقط وجاء ابن المعوز
صاحب الباب ليكشف خبره فطعن الآخر وحملا إلى بيتهما فماتا. وولي الوزير
ظهير الدين أبو منصور بن نصر ويعرف بابن العطّار فاستولى على الدولة
وتحكّم فيها.
وفاة المستضيء وخلافة الناصر
ثم توفي المستضيء بأمر الله أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد في ذي
القعدة سنة خمس وسبعين لتسع سنين ونصف من خلافته، وقام ظهير الدين
العطّار في البيعة
(3/652)
لابنه أبي العبّاس أحمد ولقّبه الناصر
الدين الله فقام بخلافته، وقبض على ظهير الدين بن العطّار وحبسه
واستصفاه. ثم أخرجه من عشر ذي القعدة من محبسه ميتا وفطن به العامّة.
فتناوله العامّة وبعثوا به، وتحكّم في الدولة أستاذ دار مجد الدين أبو
الفضل بن الصاحب، وكان تولّى أخذ البيعة للناصر مع ابن العطّار، وبعث
الرسل إلى الآفاق لأخذ البيعة. وسار صدر الدين شيخ الشيوخ إلى البهلوان
صاحب همذان وأصبهان والريّ فامتنع من البيعة فأغلظ له صدر الدين في
القول. وحرّض أصحابه على نقض طاعته إن لم يبايع! فاضطرّ إلى البيعة
والخطبة. ثم قبض سنة ثلاث وثمانين على أستاذ دار أبي الفضل ابن الصاحب
وقتله من أجل تحكّمه، وأخذ له أموالا عظيمة. وكان الساعي فيه عند
الناصر عبيد الله بن يونس من أصحابه وصنائعه، فلم يزل يسعى فيه عند
الناصر حتى أمر بقتله، واستوزر ابن يونس هذا ولقبه جلال الدين وكنيته
أبو المظفر ومشى أرباب الدولة في خدمته حتى قاضي القضاة.
هدم دار السلطنة ببغداد وانقراض ملوك
السلجوقية
قد ذكرنا فيما تقدّم ملك أرسلان شاه بن طغرل ربيب الدكز، واستيلاء
إلدكز عليه وحروبه مع ابنايخ صاحب الريّ. ثم قتله سنة أربع وستين
واستولى على الريّ. ثم توفي إلدكز الأتابك بهمذان سنة ثمان وستين، وقام
مكانه ابنه محمد البهلوان، وبقي أخوه السلطان أرسلان بن طغرل في
كفالته. ثم مات سنة ثلاث وستين ونصّب البهلوان مكانه ابنه طغرل. ثم
توفي البهلوان سنة اثنتين وثمانين وفي مملكته همذان والريّ وأصبهان
وأذربيجان وأرّانيه وغيرها، وفي كفالته السلطان طغرل بن أرسلان. ولما
مات البهلوان قام مكانه أخوه كزل أرسلان ويسمّى عثمان، فاستبدّ طغرل
وخرج عن الكفالة ولحق به جماعة من الأمراء والجند، واستولى على بعض
البلاد ووقعت بينه وبين كزل حروب. ثم قوي أمر طغرل وكثر جمعه وبعث كزل
إلى الناصر يحذره من طغرل ويستنجده ويبذل الطاعة على ما يختاره
المستضيء رسوله، فأمر بعمارة دار السلطنة ليسكنها. وكانت ولايتهم
ببغداد والعراق قد انقطعت منذ أيام المقتفي فأكرم رسول كزل ووعده
بالنجدة، وانصرف رسول طغرل بغير حراب وأمر الناصر بهدم دار السلطنة
ببغداد فمحى أثرها. ثم بعث الناصر وزيره جلال الدين أبا المظفّر عبيد
الله بن
(3/653)
يونس في العساكر لإنجاد كزل ومدافعة طغرل
عن البلاد، فسار لذلك في صفر لسنة أربع وثمانين، واعترضهم طغرل على
همذان قبل اجتماعهم بكزل، واقتتلوا ثامن ربيع، وانهزمت عساكر ببغداد
وأسروا الوزير. ثم استولى كزل على طغرل وحبسه ببعض القلاع، ودانت له
البلاد وخطب لنفسه بالسلطنة وضرب النوب الخمس.
ثم قتل على فراشه سنة سبع وثمانين ولم يعلم قاتله.
استيلاء الناصر على النواحي
توفي الأمير عيسى صاحب تكريت سنة خمس وثمانين قتله إخوته، فبعث الناصر
العساكر فحصروها حتى فتحوها على الأمان وجاءوا بإخوة عيسى إلى بغداد
فسكنوها وأقطع لهم السلطان. ثم بعث سنة خمس وثمانين عساكره إلى مدينة
غانة فحاصروها مدّة وقاتلوها طويلا ثم جهدهم الحصار فنزلوا عنها على
الأمان وإقطاع عيونها ووفّى لهم الناصر بذلك.
نهب العرب البصرة
كانت البصرة في ولاية طغرل مملوك الناصر، كان مقطعها واستناب فيها محمد
بن إسماعيل، واجتمع بنو عامر بن صعصعة سنة ثمان وثمانين، وأميرهم عميرة
وقصدوا البصرة للنهب والعيث. وخرج إليهم محمد بن إسماعيل في صفر
فقاتلهم سائر يومه. ثم ثلموا في الليل ثلما في السور ودخلوا البلد
وعاثوا فيها قتلا ونهبا. ثم بلغ بني عامر أنّ خفاجة والمشفق ساروا
لقتالهم، فرحلوا إليهم وقاتلوهم فهزموهم، وغنموا أموالهم وعادوا إلى
البصرة، وقد جمع الأمير أهل السواد فلم يقوموا للعرب وانهزموا، ودخل
العرب البصرة فنهبوها ورحلوا عنها.
استيلاء الناصر على خوزستان ثم أصبهان والريّ وهمذان
كان الناصر قد استناب في الوزارة بعد أسر ابن يونس مؤيد الدين أبا عبد
الله محمد بن علي المعروف بابن القصّاب، وكان قد ولي الأعمال في
خوزستان وغيرها، وله فيها الأصحاب. ولما توفي صاحبها شملة واختلف
أولاده راسله بعضهم في ذلك، فطلب
(3/654)
من الناصر أن يرسل معه العساكر ليملكها
فأجابه وخرج في العساكر سنة إحدى وتسعين، وحارب أهل خوزستان فملك أوّلا
مدينة تستر ثم ملك سائر الحصون والقلاع وأخذ بني شملة ملوكها فبعث بهم
إلى بغداد، وولّى الناصر على خوزستان طاش تكين مجير الدين أمير الحاج.
ثم سار الوزير إلى جهات الريّ سنة إحدى وتسعين، وجاءه قطلغ ابنايخ بن
البهلوان وقد غلبه خوارزم شاه وهزمه عند زنجان، وملك الريّ من يده.
وجاء قطلغ إلى الوزير مؤيد ورحل معه إلى همذان وبها ابن خوارزم شاه في
العساكر فأجفل عنها إلى الريّ، وملك الوزير همذان ورحل في اتباعهم وملك
كل بلد مرّوا بها إلى الري، وأجفل عسكر خوارزم إلى دامغان وبسطام
وجرجان.
ورجع الوزير إلى الريّ فأقام بها. ثم انتقض قطلغ بن البهلوان وطمع في
الملك فامتنع بالريّ وحاصره الوزير فخرج عنها إلى مدينة آوه فمنعهم
الوزير منها ورحل الوزير في أثرهم من الريّ إلى همذان، وبلغه أنّ قطلغ
قصد مدينة الكرج فسار إليه وقاتله وهزمه، ورجع إلى همذان فجاءه رسول
خوارزم شاه محمد تكش بالنكير على الوزير في أخذ البلاد، ويطلب إعادتها
فلم يجبه الوزير إلى ذلك، فسار خوارزم شاه إلى همذان وقد توفي الوزير
ابن القصّاب خلال ذلك في شعبان سنة اثنتين وتسعين، فقاتل العساكر التي
كانت معه بهمذان وهزمهم، وملك همذان وترك ولده بأصبهان، وكانوا يبغضون
الخوارزميّة فبعث صدر الدين الخجنديّ رئيس الشافعيّة إلى الديوان
ببغداد يستدعي العساكر لملكها، فجهّز الناصر العساكر مع سيف الدين طغرل
يقطع بلد اللحف [1] من العراق، وسار فوصل أصبهان، ونزل ظاهر البلد
وفارقها عسكر الخوارزميّة فملكها طغرل وأقام فيها الناصر وكان من
مماليك البهلوان.
ولما رجع خوارزم شاه إلى خراسان، واجتمعوا واستولوا على الريّ وقدّموا
عليهم كركجه من أعيانهم، وساروا إلى أصبهان فوجدوا بها عسكر الناصر وقد
فارقها عسكر الخوارزميّة فملكوا أصبهان، وبعث كركجه إلى بغداد بالطاعة،
وأن يكون له الريّ وساوة وقمّ وقاشان. ويكون للناصر أصبهان وهمذان
وزنجان وقزوين فكتب له بما طلب وقوي أمره. ثم وصل إلى بغداد أبو
الهيجاء السمين من أكابر أمراء بني أيوب وكان في إقطاعه بيت المقدس
وأعماله، فلما ملك العزيز والعادل مدينة دمشق من الأفضل بن صلاح الدين
عزلوا أبا الهيجاء عن القدس، فسار إلى بغداد فأكرمه
__________
[1] هي بلدة تقع على حدود فارس وقد مرّ ذكرها معنا من قبل.
(3/655)
الناصر وبعثه بالعساكر إلى همذان سنة ثلاث
وتسعين فلقي بها أزبك بن البهلوان وأمير علم وابنه قطلمش، وقد كاتبوا
الناصر بالطاعة فداخل أمير علم وقبض على أزبك وابن قطلمش بموافقته،
وأنكر الناصر ذلك على أبي الهيجاء وأمره بإطلاقهم.
وبعث إليهم بالخلع فلم يأمنوا، وفارقوا أبا الهيجاء فخشي من الناصر
ودخل إلى إربل لأنه كان من أكرادها، ومات قبل وصوله إليها. وأقام كركجه
ببلاد الجبل واصطنع رفيقه إيدغمش، واستخلصه ووثق به فاصطنع إيدغمش
المماليك وانتقض عليه آخر المائة السادسة، وحاربه فقتله واستولى على
البلاد ونصب أزبك بن البهلوان للملك وكفله. ثم توفي طاش تكين أمير
خوزستان سنة اثنتين وستمائة وولىّ الناصر مكانه صهره سنجر وهو من
مواليه، وسار سنجر سنة ثلاث وستمائة إلى جبال تركستان جبال منيعة بين
فارس وعمان وأصبهان وخوزستان وكان صاحب هذه الجبال يعرف بأبي طاهر وكان
للناصر مولى اسمه قشتمر من أكابر مواليه ساءه وزير الدولة ببعض الأحوال
فلحق بأبي طاهر صاحب تركستان فأكرمه وزوّجه بابنته. ثم مات أبو طاهر
فأطاع أهل تلك الولاية قشتمر وملك عليهم، وبعث الناصر إلى سنجر صاحب
خوزستان يعضده في العساكر فسار إليه وبذل له الطاعة على البعد. فلم
يقبل منه فلقيه وقاتله فانهزم سنجر وقوي قشتمر على أمره وأرسل إلى ابن
دكلا صاحب فارس، وإلى إيدغمش صاحب الجبل فاتفق معهما على الامتناع على
الناصر واستمرّ حاله.
عزل الوزير نصير الدين
كان نصير الدين ناصر بن مهدي العلويّ من أهل الريّ من بيت إمارة، وقدم
إلى بغداد عند ما ملك الوزير ابن القصّاب الريّ فأقبل عليه الخليفة،
وجعله نائب الوزارة. ثم استوزره وجعل ابنه صاحب المخزن فتحكّم في
الدولة، وأساء إلى أكابر موالي الناصر، فلما حجّ مظفّر الدين سنقر
المعروف بوجه السبع سنة ثلاث وستمائة وكان أميرا ففارق الحاج ومضى إلى
الشام، وبعث إلى الناصر أنّ الوزير ينفي عليك مواليك ويريد أن يدّعي
الخلافة فعزله الناصر وألزمه بيته. وبعث من كل شيء ملكه، ويطلب الإقامة
بالمشهد فأجابه الناصر بالأمان والاتّفاق، وانّ المعزلة [1] لم
__________
[1] اي العزل من الخدمة.
(3/656)
تكن لذنب وإنما أكثر الأعداء المقالات فوقع
ذلك. واحتز لنفسه موضعا ينتقل إليه موقرا محترما فاختار إيالة الناصر،
خوفا أن يذهب الأعداء بنفسه. ولما عزل عاد سنقر أمير الحاج، وعاد أيضا
قشتمر، وأقيم نائبا في الوزارة فخر الدين أبو البدر محمد بن أحمد بن
اسمينا الواسطيّ، ولم يكن له ذلك التحكّم، وقارن ذلك وفاة صاحب المخزن
ببغداد أبو فراس نصر بن ناصر بن مكي المدائني فولّى مكانه أبو الفتوح
المبارك بن عضد الدين أبي الفرج ابن رئيس الرؤساء، وأعلى محله، وذلك في
المحرّم سنة خمس وستمائة. ثم عزل آخر السنة لعجزه. ثم عزل في ربيع من
سنة ست وستمائة فخر الدين بن اسمينا، ونقل إلى المخزن وولّى نيابة
الوزارة مكانه مكين الدين محمد ابن محمد بن محمد بن بدر القمر كاتب
الإنشاء ولقّب مؤيد الدين.
انتقاض سنجر بخوزستان
قد ذكرنا ولاية سنجر مولى الناصر على خوزستان بعد طاش تكين أمير الحاج
ثم استوحش سنة ست وستمائة واستقدمه الناصر فاعتذر فبعث إليه العساكر مع
مؤيد الدين نائب الوزارة، وعزّ الدين بن نجاح الشرابيّ من خواصّ
الخليفة. فلمّا قاربته العساكر لحق بصاحب فارس أتابك سعد بن دكلا
فأكرمه ومنعه، ووصلت عساكر الخليفة خوزستان في ربيع من سنته وبعثوا إلى
سنجر في الرجوع إلى الطاعة فأبى وساروا إلى أرجان لقصد ابن دكلا
بشيراز، والرسل تتردّد بينهم. ثم رحلوا في شوّال يريدون شيراز فبعث ابن
دكلا إلى الوزير والشرابي بالشفاعة في سنجر واقتضاء الأمان له فأجابوه
إلى ذلك، وأعادوا سنجر إلى بغداد في المحرّم سنة ثمان وستمائة، ودخلوا
به مقيّدا. وولّى الناصر مولاه ياقوتا أمير الحاج على خوزستان. ثم أطلق
الناصر سنجر في صفر من سنة ثمان وستمائة وخلع عليه.
استيلاء منكلى على بلاد الجبل وأصبهان وهرب
ايدغمش ثم مقتله ومقتل منكلى وولاية اغلمش
قد ذكرنا استيلاء إيدغمش من أمراء البهلوانية على بلاد الجبل همذان
وأصبهان والريّ وما إليها فاستفحل فيها وعظم شأنه وتخطّى إلى أذربيجان
وأرانيه فحاصر صاحبها أزبك بن البهلوان. ثم خرج سنة ثمان وستمائة منكلى
من البهلوانيّة، ونازعه الملك
(3/657)
وأطاعه البهلوانيّة، فاستولى على سائر تلك
الأعمال وهرب شمس الدين إيدغمش إلى بغداد، وأمر النّاصر بتلقيه، فكان
يوما مشهودا وخشي منكلى من اتّصاله فأوفد ابنه محمدا في جماعة من
العسكر، وتلقّاه الناس على طبقاتهم وقد كان الناصر شرع في إمداد
إيدغمش، فأمدّه وسار إلى همذان في جمادى من سنة عشر، ووصل إلى بلاد ابن
برجم من التركمان الأيوبيّة، وكان الناصر عزله عن إمارة قومه وولّى
أخاه الأصغر، فبعث إلى منكلى بخبر إيدغمش، فبعث العساكر بطلبه فقتلوه
وافترق جمعه، وبعث الناصر إلى أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأرانية
يغريه به.
وكان مستوحشا منه وأرسل أيضا إلى جلال الدين صاحب قلعة الموت وغيرها من
قلاع الإسماعيليّة من بلاد العجم بمعاضدة أزبك على أن يقتسموا بلاد
الجبل. وجمع الخليفة العساكر من الموصل والجزيرة وبغداد وقدم على عسكر
بغداد مملوكه مظفر الدين وجه السبع واستقدم مظفّر الدين كوكبري بن زين
الدين كوجك وهو على إربل وشهرزور وأعمالها، وجعله مقدّم العساكر جميعا
وساروا إلى همذان فهرب منكلى إلى جبل قريب الكرج وأقاموا عليه يحاصرونه
ونزل منكلي في بعض الأيام فقاتل أزبك وهزمه إلى مخيمه. ثم جاء من الغد
وقد طمع فيهم فاشتدّوا في قتاله وهزموه فهرب عن البلاد أجمع، وافترقت
عساكره واستولت العساكر على البلاد، وأخذ جلال الدين ملك الإسماعيلية
منها ما عينته القسمة وولّى أزبك بن البهلوان على بقية البلاد أغلمش
مملوك أخيه وعادت العساكر إلى بلادها ومضى منكلى منهزما إلى مدينة ساوة
فقبض عليه الشحنة بها وقتله وبعث أزبك برأسه إلى بغداد وذلك في جمادى
سنة اثنتي عشرة.
ولاية حافد الناصر على خوزستان
كان للناصر ولد صغير اسمه عليّ وكنيته أبو الحسن قد رشّحه لولاية العهد
وعزل عنها ابنه الأكبر، وكان هذا أحبّ ولده إليه فمات في ذي القعدة سنة
عشر فتفجّع له وحزن عليه حزنا لم يسمع بمثله. وشمل الأسف عليه الخاصّ
والعام. وكان ترك ولدين لقبهما المؤيد والموفّق فبعثهما الناصر إلى
تستر من خوزستان بالعساكر في المحرّم سنة ثلاث عشرة وبعث معهما مؤيد
الدين نائب الوزارة، وعزل مؤيد الدين الشرابي فأقاما بها أياما. ثم
أعاد الموفّق مع الوزير والشرابي إلى بغداد في شهر ربيع وأقام المؤيد
بتستر.
(3/658)
استيلاء خوارزم شاه
على بلاد الجبل وطلب الخطبة له ببغداد
كان أغلمش قد استولى على بلاد الجبل كما ذكرناه واستفحل أمره وقوي ملكه
فيها.
ثم قتله الباطنيّة سنة أربع عشرة وستمائة. وكان علاء الدين محمد بن تكش
خوارزم شاه وارث ملك السلجوقيّة قد استولى على خراسان وما وراء النهر
فطمع في إضافة هذه البلاد إليه فسار في عساكره واعترضه صاحب بلاد فارس
أتابك سعد بن دكلا على أصبهان وقد ساقه من الطمع في البلاد مثل الّذي
ساقه فقاتله وهزمه خوارزم وأخذه أسيرا. ثم سار إلى ساوة فملكها ثم
قزوين وزنجان وأبهر، ثم همذان ثم أصبهان وقمّ وقاشان. وخطب له صاحب
أذربيجان وأرانية وكان يبعث في الخطبة إلى بغداد ولا يجاب، فاعتزم الآن
على المسير إليها وقدّم أميرا في خمسة عشر ألف فارس وأقطعه حلوان
فنزلها. ثم أتبعه بأمير آخر، فلما سار عن همذان سقط عليهم الثلج وكادوا
يهلكون، وتخطّف بقيتهم بنو برجم من التركمان وبنو عكا من الأكراد.
واعتزم خوارزم شاه على الرجوع إلى خراسان، وولّى على همذان طابسين وجعل
إمارة البلاد كلّها لابنه ركن الدين وأنزل معه عماد الملك المساوي
متوليا أمور دولته، وعاد إلى خراسان سنة خمس عشرة وأزال الخطبة للناصر
من جميع أعماله.
إجلاء بني معروف عن البطائح
كان بنو معروف هؤلاء من ربيعة ومقدّمهم معلّى، وكانت رحالهم غربيّ
الفرات قرب البطائح، فكثر عيثهم وإفسادهم السابلة، وارتفعت شكوى أهل
البلاد إلى الديوان منهم، فرسم للشريف سعد متولّي واسط وأعمالها أن
يسير إلى قتالهم وإجلائهم، فجمع العساكر من تكريت وهيت والحديثة
والأنبار والحلّة والكوفة وواسط والبصرة فهزمهم واستباحهم، وتقسّموا
بين القتل والأسر والغرق، وحملت الرءوس إلى بغداد في ذي القعدة سنة
عشر.
ظهور التتر
ظهرت هذه الأمة من أجناس الترك سنة ست عشرة وستمائة وكانت جبال طمغاج
من أرض الصين بينها وبين بلاد تركستان ما يزيد على ستة أشهر وكان ملكهم
يسمى
(3/659)
جنكزخان، من قبيلة يعرفون نوحى [1] فسار
إلى بلاد تركستان وما وراء النهر وملكها من أيدي الخطا، ثم حارب خوارزم
شاه إلى أن غلبه على ما في يده من خراسان وبلاد الجبل، ثم تخطي أرّانيه
فملكها. ثم ساروا إلى بلاد شروان وبلد اللّان واللكز فاستولوا على
الأمم المختلفة بتلك الأصقاع. ثم ملكوا بلاد قفجاق وسارت طائفة أخرى
إلى غزنة وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان فملكوا ذلك كله في
سنة أو نحوها، وفعلوا من العيث والقتل والنهب ما لم يسمع بمثله في غابر
الأزمان. وهزموا خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش فلحق بجزيرة في بحر
طبرستان فامتنع بها إلى أن مات سنة سبع عشر وستمائة لإحدى إحدى وعشرين
سنة من ملكه. ثم هزموا ابنه جلال الدين بغزنة واتبعه جنكزخان إلى نهر
السّند فعبر إلى بلاد الهند، وخلص منهم وأقام هنالك مدّة ثم رجع سنة
اثنتين وعشرين إلى خوزستان والعراق. ثم ملك أذربيجان وأرمينية إلى أن
قتله المظفّر حسبما نذكر ذلك كلّه مقسّما بين دولتهم ودولة بني خوارزم
شاه أو مكرّرا فيهما. فهناك تفصيل هذا المحلّ من أخبارهم والله الموفق
بمنّه وكرمه.
وفاة الناصر وخلافة الظاهر ابنه
ثم توفي أبو العبّاس أحمد الناصر بن المستضيء في آخر شهر رمضان سنة
اثنتين وعشرين سنة وستمائة لسبع وأربعين سنة من خلافته بعد أن عجز عن
الحركة ثلاث سنين من آخر عمره وذهبت إحدى عينيه وضعف بصر الأخرى. وكانت
حاله مختلفة في الجدّ واللعب وكان متفنّنا في العلوم وله تآليف في فنون
منها متعدّدة، ويقال إنه الّذي أطمع التتر في ملك العراق لما كانت بينه
وبين خوارزم شاه من الفتنة، وكان مع ذلك كثيرا ما يشتغل برمي البندق
واللعب بالحمام المناسيب [2] ويلبس سراويل الفتوّة شأن العيّارين من
أهل بغداد. وكان له فيها سند إلى زعمائها يقتصه على من يلبسه إياها،
وكان ذلك كلّه دليلا على هرم الدولة وذهاب الملك عن أهلها بذهاب ملاكها
منهم. ولما توفي بويع ابنه أبو نصر محمّد ولقّب الظاهر، وكان ولّي عهده
عهد له أوّلا سنة خمس وثمانين وخمسمائة ثم خلعه من العهد وعهد لأخيه
الصغير عليّ لميله
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 12 ص 361: «وكان السبب في
ظهورهم ان ملكهم ويسمى بجنكزخان المعروف بتموجين، كان قد فارق بلاده
وسار الى نواحي تركستان» .
[2] بمعنى المختارة أو المتأصّلة وهي كلمة عاميّة.
(3/660)
إليه. وتوفي سنة اثنتي عشرة فاضطرّ إلى
إعادة هذا، فلما بويع بعد أبيه أظهر من العدل والإحسان ما حمد منه
ويقال إنه فرّق في العلماء ليلة الفطر التي بويع فيها مائة ألف دينار.
وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصر
ثم توفي الظاهر أبو نصر محمد في منتصف رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة
لتسعة أشهر ونصف من ولايته وكانت طريقته مستقيمة وأخباره في العدل
مأثورة. ويقال إنه قبل وفاة كتب بخطّه إلى الوزير توقيعا يقرؤه على أهل
الدولة فجاء الرسول به، وقال: أمير المؤمنين يقول ليس غرضنا أن يقال
برز مرسوم وأنفذ مثال، ثم لا يتبيّن له أثر، بل أنتم إلى إمام فعّال
أحوج منكم إلى إمام قوّال، ثم تناولوا الكتاب وقرءوه فإذا فيه بعد
البسملة أنه ليس إمهالنا إهمالا ولا إغضاؤنا إغفالا، ولكن لنبلوكم
أيّكم أحسن عملا وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد، وتشريد الرعايا
وتقبيح السنّة، وإظهار الباطل الجليّ في صورة الحق الخفيّ حيلة ومكيدة،
وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدراكا للأغراض، انتهزتم فرصتها
مختلسة من براثن ليث باسل وأنياب أسد مهيب، تنطقون بألفاظ مختلفة على
معنى واحد، وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلون رأيه إلى هواكم، ما طلتم بحقّه
فيطيعكم وأنتم له عاصون ويوافقكم وأنتم له مخالفون، والآن فقد بدّل
الله سبحانه بخوفكم أمنا وفقركم غنى وباطلكم حقا ورزقكم سلطانا يقيل
العثرة ولا يؤاخذ إلا من أصرّ، ولا ينتقم إلّا ممن استمرّ، يأمركم
بالعدل وهو يريده منكم، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه يخاف الله فيخوّفكم
مكره، ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته، فان سلكتم مسالك نواب خلفاء
الله في أرضه وأمنائه على خلقه وإلّا هلكتم والسلام. ولما توفي بويع
ابنه أبو جعفر المستنصر وسلك مسالك أبيه، إلّا أنه وجد الدولة اختلفت
والأعمال قد انتقضت والجباية قد انتقصت أو عدمت، فضاقت عن أرزاق الجند
وأعطياتهم فأسقط كثيرا من الجند، واختلفت الأحوال. وهو الّذي أعاد له
محمد بن يوسف بن هود دعوة العبّاسية بالأندلس آخر دولة الموحّدين
بالمغرب فولّاه عليها، وذلك سنة تسع وعشرين وستمائة كما يذكر في
أخبارهم. ولآخر دولته ملك التتر بلاد الروم من يد غيّاث الدين كنجسرو
آخر ملوك بني قليج أرسلان، ثم تخطّوها إلى بلاد أرمينية فملكوها. ثم
استأمن إليهم غيّاث الدين فولّوه من قبلهم وفي طاعتهم كما يذكر في
أخبارهم إن شاء الله تعالى انتهى.
(3/661)
وفاة المستنصر
وخلافة المستعصم آخر بني العباس ببغداد
لم يزل هذا الخليفة المستنصر ببغداد في النطاق الّذي بقي لهم بعد
استبداد أهل النواحي كما قدّمنا. ثم انحل أمرهم من هذا النطاق عروة،
وتملك التتر سائر البلاد.
وتغلّبوا على ملوك النواحي ودولهم أجمعين، ثم زاحموهم في هذا النطاق
وملكوا أكثره، ثم توفي المستنصر سنة إحدى وأربعين لست سنة من خلافته،
وبويع بالخلافة ابنه عبد الله ولقّب المستعصم، وكان فقيها محدّثا. وكان
وزيره ابن العلقميّ رافضيّا، وكانت الفتنة ببغداد لا تزال متّصلة بين
الشيعة وأهل السنّة، وبين الحنابلة وسائر أهل المذاهب، وبين العيّارين
والدعّار والمفسدين مبدأ الأمراء الأول، فلا تتجدّد فتنة بين الملوك
وأهل الدول، إلّا ويحدث فيها بين هؤلاء ما يعني أهل الدولة خاصّة زيادة
لما يحدث منهم أيام سكون الدول واستقامتها، وضاقت الأحوال على المستعصم
فأسقط أهل الجند وفرض أرزاق الباقين على البياعات والأسواق وفي
المعايش. فاضطرب الناس وضاقت الأحوال وعظم الهرج ببغداد ووقعت الفتن
بين الشيعة وأهل السنّة، وكان مسكن الشيعة بالكرخ في الجانب الغربي،
وكان الوزير ابن العلقميّ منهم فسطوا بأهل السنّة، وأنفذ المستعصم ابنه
أبا بكر وركن الدين الدوادار، وأمرهم بنهب بيوتهم بالكرخ، ولم يراع فيه
ذمّة الوزير فآسفه ذلك، وتربّص بالدولة وأسقط معظم الجند يموه بأنه
يدافع التتر بما يتوفّر من أرزاقهم في الدولة. وزحف هلاكو ملك التتر
سنة اثنتين وخمسين إلى العراق وقد فتح الريّ وأصبهان وهمذان وتتّبع
قلاع الإسماعيلية، ثم قصد قلعة الموت سنة خمس وخمسين فبلغه في طريقه
كتاب ابن الموصلايا صاحب إربل وفيه وصية من ابن العلقميّ وزير المستعصم
الى هلاكو يستحثه لقصد بغداد، ويهوّن عليه أمرها، فرجع عن بلاد
الإسماعيلية وسار إلى بغداد واستدعى أمراء التتر فجاءه بنحو مقدّم
العسكر ببلاد الروم، وقد كانوا ملكوها. ولما قاربوا بغداد برز للقائهم
أيبك الدوادار في العساكر فانكشف التتر أوّلا وتذامروا فانهزم المسلمون
واعترضتهم دون بغداد أو حال مياه من بثوق انتفثت من دجلة، فتبعهم التتر
دونها وقتل الدوادار وأسر الأمراء الذين معه.
ونزل هولاكو بغداد وخرج إليه الوزير مؤيد الدين بن العلقميّ فاستأمن
لنفسه ورجع
(3/662)
بالأمان إلى المستعصم، وأنه يبقيه على
خلافته كما فعل بملك بلاد الروم. فخرج المستعصم ومعه الفقهاء والأعيان
فقبض عليه لوقته، وقتل جميع من كان معه. ثم قتل المستعصم شدخا بالعمد
ووطأ بالأقدام لتجافيه بزعمه عن دماء أهل البيت، وذلك سنة ست وخمسين.
وركب إلى بغداد فاستباحها واتصل العيث بها أياما وخرج النساء والصبيان
وعلى رءوسهم المصاحف والألواح فداستهم العساكر وماتوا أجمعين. ويقال
إنّ الّذي أحصى ذلك اليوم من القتلى ألف ألف وستمائة ألف، واستولوا من
قصور الخلافة وذخائرها على ما لا يبلغه الوصف ولا يحصره الضبط والعدّ،
وألقيت كتب العلم التي كانت بخزائنهم جميعها في دجلة، وكانت شيئا لا
يعبّر عنه مقابلة في زعمهم بما فعله المسلمون لأوّل الفتح في كتب الفرس
وعلومهم.
واعتزم هلاكو على إضرام بيوتها نارا فلم يوافقه أهل مملكته. ثم بعث
العساكر إلى ميافارقين فحاصروها سنين، ثم جهدهم الحصار واقتحموها عنوة
وقتل حاميتها جميعا وأميرهم من بني أيوب، وهو الملك ناصر الدين محمد بن
شهاب الدين غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب وبايع له صاحب الموصل، وبعث
بالهدية والطاعة وولّاه على عمله ثم بعث بالعساكر إلى إربل فحاصرها
وامتنعت فرحل العساكر عنها، ثم وصل إليه صاحبها ابن الموصلايا فقتله
واستولى على الجزيرة وديار بكر وديار ربيعة كلّها، وتاخم الشام جميع
جهاته حتى زحف إليه بعد كما يذكر، وانقرض أمر الخلافة الإسلامية لبني
العبّاس ببغداد وأعاد لها ملوك الترك رسما جديدا في خلفاء نصّبوهم
هنالك من أعقاب الخلفاء الأوّلين، ولم يزل متصلا لها العهد على ما نذكر
الآن. ومن العجب أنّ يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب في ذكر ملاحمه
وكلامه على القرآن الّذي دلّ على ظهور الملّة الإسلامية العربية أنّ
انقراض أمر العرب يكون أعوام الستين والستمائة، فكان كذلك، وكانت دولة
بني العبّاس من يوم بويع للسفّاح سنة اثنتين وثلاثين ومائة إلى أن قتل
المستعصم سنة خمس وستمائة، وخمسمائة سنة وأربعا وعشرين وعدد خلفائهم
ببغداد سبعة وثلاثون خليفة. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير
الوارثين.
(3/663)
|