تاريخ ابن خلدون
الخبر عن الخلفاء من بني العبّاس أيام
الفتنة وتغلب الأولياء وتضايق نطاق الدولة باستبداد الولاة في النواحي
من لدن المنتصر إلى أيام المستكفي
كان بنو العبّاس حين ولوا الخلافة قد امتدّت إيالتهم على جميع ممالك
الإسلام، كما كان بنو أمية من قبلهم. ثم لحق بالأندلس من فل بني أمية
من ولدها هاشم بن عبد الملك حافده عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، ونجا
من تلك الهلكة فأجاز البحر ودخل الأندلس فملكها من يد عبد الرحمن بن
يوسف الفهري، وخطب للسفّاح فيها حولا ثم لحق به أهل بيته من المشرق
فعزلوه في ذلك فقطع الدعوة عنهم وبقيت بلاد الأندلس مقتطعة من الدولة
الإسلامية عن بني العبّاس. ثم لما كانت وقعة فتح أيام الهادي عليّ بن
الحسن بن عليّ سنة تسع وتسعين ومائة، وقتل داعيتهم يومئذ حسين ابن عليّ
بن حسن المثنى وجماعة من أهل بيته ونجا آخرون، وخلص منهم إدريس بن عبد
الله بن حسن إلى المغرب الأقصى، وقام بدعوته البرابرة هنالك، فاقتطع
المغرب عن بني العبّاس فاستحدثوا هنالك دولة لأنفسهم. ثم ضعفت الدولة
العبّاسية بعد الاستفحال، وتغلب على الخليفة فيها الأولياء والقرابة
والمصطنعون، وصار تحت حجرهم من حين قتل المتوكّل وحدثت الفتن ببغداد،
وصار العلوية إلى النواحي مظهرين لدعوتهم، فدعا أبو عبد الله الشيعي
سنة ست وثمانين ومائتين بإفريقية في طامة لعبيد الله المهدي بن محمد بن
جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وبايع له، وانتزع إفريقية من
يد بني الأغلب استولى عليها وعلى المغرب الأقصى ومصر والشام واقتطعوا
سائر هذه الأعمال عن بني العبّاس واستحدثوا له دولة أقامت مائتين
وسبعين سنة كما يذكر في أخبارهم. ثم ظهر بطبرستان من العلوية الحسن بن
زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط ويعرف بالداعي،
خرج سنة خمسين ومائتين أيام المستعين ولحق بالديلم فأسلموا على يديه
وملك طبرستان ونواحيها، وصار هنالك دولة أخذها من يد أخيه سنة إحدى
وثلاثمائة الأطروش من بني الحسين، ثم من بني على عمر داعي الطالقان
أيام المعتصم وقد مرّ
(3/351)
خبره واسم هذه الأطروش الحسن بن علي بن
الحسن بن علي بن عمر، وكانت لهم دولة وانقرضت أيام الحسين، واستولى
عليها الديلم وصارت لهم دولة أخرى. وظهر باليمن الرئيس وهو ابن إبراهيم
طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن المثنّى فأظهر هنالك دعوة
الزيديّة، وملك صعدة وصنعاء وبلاد اليمن، وكانت لهم هنالك دولة ولم تزل
حتى الآن. وأوّل من ظهر منهم يحيى بن الحسين بن القاسم سنة تسعين
ومائتين، ثم ظهر أيام الفتنة من دعاة العلوية صاحب الزنج ادّعى أنه
أحمد [1] بن عيسى بن زيد الشهيد وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين أيام
المهتدي، وطعن الناس في نسبه فادّعى أنه من ولد يحيى بن زيد قتيل
الجوزجان، وقيل إنه انتسب إلى طاهر بن الحسين بن عليّ والّذي ثبت عند
المحقّقين أنه علي بن عبد الرحيم بن عبد القيس، فكانت له ولبنيه دولة
بنواحي البصرة أيام الفتنة قام بها الزنج إلى أن انقرضت على يد المعتضد
أيام السبعين ومائتين. ثم ظهر القرظ بنواحي البحرين وعمان فسار إليها
من الكوفة سنة تسع وسبعين أيام المعتضد، وانتسب إلى بني إسماعيل الإمام
بن جعفر الصادق دعوى كاذبة، وكان من أصحابه الحسن الجمالي وزكرونة
القاشاني فقاموا من بعده بالدعوة ودعوا لعبد الله المهدي وغلبوا على
البصرة والكوفة، ثم انقطعوا عنها إلى البحرين وعمان، وكانت لهم هنالك
دولة انقرضت آخر المائة الرابعة، وتغلب عليهم العرب من بني سليم وبني
عقيل. وفي خلال ذلك استبدّ بنو سامان بما وراء النهر آخر الستين
ومائتين وأقاموا على الدعوة إلّا أنهم لا ينفذون أوامر الخلفاء، وأقامت
دولتهم إلى آخر المائة الرابعة. ثم اتصلت دولة أخرى في مواليهم بغزنة
إلى منتصف المائة السادسة، وكانت للأغالبة بالقيروان وإفريقية دولة
أخرى بمصر والشام بالاستبداد من لدن الخمسين والمائتين أيام الفتنة إلى
آخر المائة الثالثة ثم أعقبتها دولة أخرى لمواليهم بني طفج إلى الستين
والثلاثمائة. وفي خلال هذا كلّه تضايق نطاق الدولة العباسية إلى نواحي
السواد والجزيرة فقط، إلا أنهم قائمون ببغداد على أمرهم. ثم كانت
للديلم دولة أخرى استولوا فيها على النواحي وملكوا الأعمال ثم ساروا
إلى بغداد وملكوها وصيّروا الخليفة في ملكتهم من لدن المستكفي أعوام
الثلاثين والثلاثمائة، وكانت من أعظم الدول. ثم أخذها من أيديهم
السلجوقية من الغزّ إحدى شعوب الترك، فلم تزل دولتهم من لدن القائم سنة
أربعين وأربعمائة إلى آخر المائة
__________
[1] قوله أحمد في المروج انه عليّ بن احمد أهـ قاله وصحّحه.
(3/352)
السادسة، وكانت دولتهم من أعظم الدول في
العالم. وتشعبت عنها دول هي متصلة إلى عهدنا حسبما يذكر ذلك كله في
مكانه ثم استبدّ الخلفاء من بني العبّاس آخرا في هذا النطاق الضيق ما
بين دجلة والفرات وأعمال السواد وبعض أعمال فارس، إلى أن خرج التتار من
مفازة الصين وزحفوا إلى الدولة السلجوقية وهم على دين المجوسية، وزحفوا
إلى بغداد فقتلوا الخليفة المعتصم، وانقرض أمر الخلافة وذلك سنة ست
وخمسين وستمائة. ثم أسلموا بعد ذلك وكانت لهم دولة عظيمة، وتشعبت عنها
دول لهم ولأشياعهم في النواحي وهي باقية لهذا العهد آخذة في الثلاثين
كما نذكر ذلك كله في أماكنه.
دولة المنتصر
ولما بويع المنتصر كما ذكرناه ولّى على المظالم أبا عمر وأحمد بن سعيد،
وعلى دمشق عيسى بن محمد النوشريّ وكان على وزارته أحمد بن الخصيب،
واستقامت أموره وتفاوض وصيف وبغا وأحمد بن الخصيب في شأن المعتزّ
والمؤيد لما توقعوا من سطوتهما بسبب قتل المتوكل، فحملوا المنتصر على
خلعهما الأربعين يوما من خلافته وبعث إليهما بذلك فأجاب المؤيد وامتنع
المعتز فأغلظوا عليه وأوهموه القتل فخلا به المؤيد وتلطّف به حتى أجاب
وخلع نفسه وكتبا ذلك بخطهما. ثم دخلا على المنتصر فأجلسهما واعتذر لهما
بسمع من الأمراء بأنهم الذين حملوه على خلعهما فأجبتهم إلى ذلك خشية
عليكما منهم، فقبّلا يده وشكرا له وشهد عليهما القضاة وبنو هاشم
والقوّاد ووجوه الناس، وكتب بذلك المنتصر إلى الآفاق وإلى محمد بن طاهر
ببغداد. ثم إنّ أحمد بن الخصيب أخا المنتصر أمر بإخراج وصيف للصائفة
وإبعاده عن الدولة لما بينهما من الشحناء، فأحضره المنتصر وقال له: قد
أتانا من طاغية الروم أنه أفسد الثغر فلا بدّ من مسيرك أو مسيري، فقال
بل أنا أشخص يا أمير المؤمنين! فأمر أحمد بن الخصيب أن يجهّزه ويزيح
علل العسكر معه، وأمره أن يوافي ثغر ملطية فسار وعلى مقدمته مزاحم بن
خاقان أخو الفتح، وعلى نفقات العساكر والمغانم والمقاسم أبو الوليد
القروالي أن يأتيه رأيه.
وفاة المنتصر وبيعة المستعين
ثم أصابت المنتصر علة الذبحة فهلك لخمس بقين من ربيع الأوّل من سنة
ثمان
(3/353)
وأربعين ومائتين لستة أشهر من ولايته، وقيل
بل أكثر من ذلك فجعل السم في مشرطة الطبيب فاجتمع الموالي في القصر
وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير وأتامش وغيرهم فاستحلفوا قوّاد الأتراك
والمغاربة والأشروسيّة على الرضا بمن يرضونه لهم، ثم خلصوا للمشورة
ومعهم أحمد بن الخصيب فعدلوا عن ولد المتوكّل خوفا منهم ونظروا في ولد
المعتصم فبايعوه واستكتب أحمد بن الخصيب واستوزر أتامش وغدا على دار
العامة في زيّ الخلافة، وإبراهيم بن إسحاق يحمل بين يديه الحربة، وصفّت
الممالك والأشروسية صفين بترتيب دواجن [1] ، وحضر أصحاب المراتب من
العبّاسيين والطالبيين، وثار جماعة من الجند وقصدوا الدار يذكرون أنهم
من أصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر، والغوغاء [2] فشهروا السلاح وهتفوا
باسم المعتز وشدّوا على أصحاب دواجن فتضعضعوا، ثم جاءت المبيّضة
والشاكرية، وحمل عليهم المغاربة والأشروسية [3] فنشبت الحرب وانتهبت
الدروع والسلاح من الخزائن بدار العامة، وجاء بغا الصغير فدفعهم عنها
وقتل منهم عدّة وفتقت السجون وتمت بيعة الأتراك للمستعين، ووضع العطاء
على البيعة وبعث إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فبايع له هو والناس
ببغداد. ثم جاء الخبر بوفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان وهلك عمه
الحسين بن طاهر بمرو فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر مكانه وعقد
لمحمد بن عبد الله بن طاهر على خراسان سنة ثمان وأربعين ومائتين، وولّى
عمه طلحة على نيسابور، وابنه منصور بن طلحة على مرو وسرخس وخوارزم،
وعمه الحسين بن عبد الله على هراة وأعمالها، وعمه سليمان بن عبد الله
على طبرستان، والعبّاس ابن عمه على الجوزجان والطالقان. ومات بغا
الكبير فولى ابنه موسى على أعماله كلها وبعث أناجور من قواد الترك إلى
العمرّط الثعلبي فقتله [4] . واستأذنه عبد الله بن يحيى بن خان في
الحجّ فأذن له، ثم بعث خلفه من نفاه إلى برقة، وحبس المعتز والمؤيد في
حجره بالجوسق بعد أن أراد قوّاد الأتراك قتلهما فمنعهم أحمد بن الخصيب
من ذلك.
ثم قبض على أحمد بن الخصيب فاستصفى ماله ومال ولده ونفاه إلى قرطيش [5]
__________
[1] واجن: ابن الأثير ج 7 ص 117.
[2] كذا بالأصل ومقتضى السياق: واما الغوغاء فشهروا السلاح ...
[3] الاشروسنية: ابن الأثير ج 7 ص 118.
[4] وفي الكامل ج 7 ص 119: «وفيها- اي سنة 248- وجه انوجور التركي إلى
أبي العمود الثعلبي، فقتله بكفرثوثى ... »
[5] أقريطش: المرجع السابق.
(3/354)
واستوزر أتامش وعقد له على مصر والمغرب
وعقد لبغا الصغير على حلوان وماسبذان ومهر جا تعرف، وجعل شاهك الخادم
على داره وكراعه وحرمه وخاصة أموره وخادمه، وأشناس على جميع الناس.
وعزل علي بن يحيى الأرمني عن الثغور الشامية وعقد له على أرمينية
وأذربيجان. وكان على حمص كندر فوثب به أهلها فأخرجوه فبعث المستعين
الفضل بن قارن وهو أخو مازيار فاستباحهم وحمل أعيانهم إلى سامرّا وبعث
المستعين إلى وصيف وهو بالثغر الشامي بأن يغزو بالصائفة، فدخل بلاد
الروم وافتتح حصن قرورية ثم غزا بالصائفة سنة تسع وأربعين جعفر بن
دينار وافتتح مطامير واستأذنه عمر بن عبد الله الأقطع في تدويخ بلاد
الروم فأذن له فدخل في جماعة من أهل ملطية ولقي ملك الروم، فخرج الأسقف
في خمسين ألفا أحاطوا به وقتل عمر في ألفين من المسلمين. وكان على
الثغور الجزرية فأغار عليها الروم وبلغ ذلك عليّ بن يحيى وهو قابل من
أرمينية إلى ميافارقين ومعه جماعة من أهلها فنفر إليهم وهو في نحو
أربعمائة فقتلوا وقتل.
فتنة بغداد وسامرا
ولما اتصل الخبر ببغداد وسامرّا بقتل عمر بن عبد الله وعليّ بن يحيى
شقّ ذلك على الناس لما كانوا عليه من عظيم الغناء في الجهاد، واشتدّ
نكيرهم على الترك في غفلتهم عن المصالح وتذكّروا قتل المتوكّل
واستيلاءهم على الأمور فاجتمعت العامة وتنادوا بالنفير إلى الجهاد.
وانضمّ إليهم الشاكريّة يطلبون أرزاقهم ثم فتقوا السجون وقطعوا الجسور
وانتهبوا دور كتاب محمد بن عبد الله بن طاهر. ثم أخرج أهل اليسار من
بغداد الأموال ففرّقوها في المجاهدين وجاءت العامة من الجبال وفارس
والأهواز فنفروا للغزو، ولم يظهر للمستعين ولا لأهل الدولة في ذلك أثر.
ثم وثب العامة بسامرّا وفتقوا السجون وخرج من كان فيها وجاء جماعة من
الموالي في طلبهم فوثب العامة بهم وهزموهم وركب بغا ووصيف وأتامش في
الترك فقتلوا من العامة خلقا وانتهبوا منازلهم وسكنت الفتنة.
مقتل أتامش
كان المستعين لما ولي أطلق يد أمّه وأتامش وشاهك الخادم في الأموال وما
فضل عنهم فلنفقات العبّاس بن المستعين، وكان في حجر أتامش فبعث ذلك
عليه بغا
(3/355)
ووصيف وضاق حال الأتراك والفراغنة ودسّهم
عليهم بغا ووصيف فخرج منهم أهل الكرخ والدور وقصدوه في الجوسق مع
المستعين وأراد الهرب فلم يطق، واستجار بالمستعين فلم يجره وحاصروه
يومين، ثم افتتحوا عليه الجوسق وقتلوه وكاتبه شجاع بن القاسم ونهبت
أموالهم واستوزر المستعين مكانه أبا صالح عبد الله بن محمد بن علي على
الأهواز ولبغا الصغير على فلسطين. ثم غضب بغا الصغير على أبي صالح فهرب
إلى بغداد واستوزر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجاني وولّى على
ديوان الرسائل سعيد بن حميد.
ظهور يحيى بن عمر ومقتله
كان على الطالبيين بالكوفة يحيى بن عمر بن يحيى بن زيد الشهيد ويكنى
أبا الحسين وأمّه من ولد عبد الله بن جعفر وكان من سراتهم ووجوههم وكان
عمر بن فرج يتولّى أمر الطالبيّين أيام المتوكل، فعرض له أبو الحسين
عند مقدمه من خراسان يسأله صلة لدين لزمه فأغلظ له عمر القول وحبسه حتى
أخذ عليه الكفلاء وانطلق إلى بغداد. ثم جاء إلى سامرّا وقد أملق فتعرّض
لوصيف في رزق يجرى له، فأساءه عليه وإليها فرجع إلى الكوفة وعاملها
يومئذ أيوب بن الحسين بن موسى بن جعفر بن سليمان بن علي من قبل محمد بن
عبد الله بن طاهر، فاعتزم على الخروج والتفّ عليه جمع من الأعراب وأهل
الكوفة، ودعا للرضى من آل محمد ففتق السجون ونهبه وطرد العمّال، وأخذ
من بيت المال ألفي دينار وسبعين ألف درهم، وكان صاحب البريد قد طيّر
بخبره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فكتب إلى عامله بالسواد عبد الله
بن محمود السرخسيّ أن يصير مددا إلى الكوفة فلقيه وقاتله فهزمهم يحيى
وانتهب ما معهم، وخرج إلى سواد الكوفة واتبعه خلق من الزيدية، وانتهى
إلى ناحية واسط وكثرت جموعه. وسرّح محمد بن عبد الله بن طاهر إلى
محاربة الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب في العساكر
فسار إليه. وقد كان يحيى قصد الكوفة فلقيه عبد الرحمن بن الخطّاب
المعروف بوجه الفلس فهزمه يحيى إلى ناحية شاهي ودخل الكوفة واجتمعت
عليه الزيدية، واشتمل عليه عامة أهل الكوفة وأمداد الزيدية من بغداد،
وجاء الحسين بن إسماعيل وانضمّ إليه عبد الرحمن بن الخطّاب وخرج يحيى
من الكوفة ليعاجلهم الحرب فأسرى ليلته وصبح العساكر فساروا إليه فهزموه
ووضعوا السيف في أصحابه، وأسروا الكثير من اتباعه، كان منهم الهيصم
العجليّ
(3/356)
وغيره، وانجلت الحرب عن يحيى بن عمر قتيلا
فبعثوا برأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فبعث به إلى المستعين وجعل
في صندوق في بيت السلاح وجيء بالأسرى فحبسوا وكان ذلك منتصف رجب سنة
خمس ومائتين [1] .
ابتداء الدولة العلوية بطبرستان
لما ظهر محمد بن عبد الله بن طاهر بيحيى بن عمر وكان له من الغناء في
حربه ما قدّمناه، أقطعه المستعين قطائع من صوافي السلطان بطبرستان كانت
منها قطعة بقرب ثغر الديلم تسمى روسالوس [2] وفيها أرض موات ذات غياض
وأشجار وكلأ، مباحة لمصالح الناس من الاحتطاب والرعي، وكان عامل
طبرستان يومئذ من قبل محمد بن طاهر صاحب خراسان عمّه سليمان بن عبد
الله بن طاهر وهو أخو محمد صاحب القطائع، وكان سليمان مكفولا لأمّه وقد
حظي عندها وتقدّم وفرّق أولاده في أعمال طبرستان وأساءوا السيرة في
الرعايا ودخل محمد بن أوس بلاد الديلم وهم مسالمون فسبى منهم وانحرفوا
لذلك. وجاء نائب محمد بن عبد الله لقبض القطائع فحاز فيها تلك الأرض
الموات المرصدة لمرافق الناس، فنكر ذلك الناظر على تلك الأرض وهما محمد
وجعفر ابنا رستم واستنهضا من أطاعهما من أهل تلك الناحية لمنعه من ذلك،
فخافهما النائب ولحق بسليمان صاحب طبرستان. وبعث ابنا رستم إلى الديلم
يستنجدانهم على حرب سليمان، وبعثا إلى محمد بن إبراهيم من العلويّين
بطبرستان يدعوانه إلى القيام بأمره، فامتنع ودلّهما على كبير العلويّة
بالري الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن
السبط، فشخص إليهما وقد اجتمع أهل كلار وسالوس ومقدّمهم ابنا رستم وأهل
الريان ومعهم الديلم بأسرهم، فبايعوه جميعا وطردوا عمّال سليمان وابن
أوس. ثم انضمّ إليهم جبال طبرستان وزحف الحسن بمن معه إلى مدينة آمد،
وخرج ابن أوس من سارية لمدافعته فانهزم ولحق بسليمان في سارية فخرج
سليمان لحرب الحسن. ولما التقى الجمعان بعث الحسن بعض قوّاده خلف
سليمان إلى سارية وسمع بذلك سليمان فانهزم، وملك الحسن سارية، وبعث
بعيال سليمان وأولاده في البحر إلى جرجان. وقيل إنّ سليمان انهزم
اختيارا لما
__________
[1] الصحيح خمسين. مائتين كما في الكامل لابن الأثير ج 7 ص 128.
[2] وفي الكامل ج 7 ص 130: منها مطيعة قرب ثغر الديلم وهما كلار
وشالوس.
(3/357)
كان بنو طاهر يتّهمون به من التّشييع [1]
ثم بعث الحسن إلى الري ابن عمه وهو القاسم ابن علي بن إسماعيل ويقال
محمد بن جعفر بن عبد الله العقيقي بن الحسين بن علي بن زين العابدين
فملكها، وبعث المستعين جندا إلى همذان ليمنعها. ولما ملك محمد بن جعفر
قائد الحسن بن زيد الريّ أساء السيرة، وبعث محمد بن طاهر قائد محمد بن
ميكال أخو الشاه فغلبه على الريّ، وانتزعها منه وأسره، فبعث إليه الحسن
بن زيد قائده دواجن فهزم ابن ميكال وقتله واسترجع الريّ ثم رجع سليمان
بن طاهر من جرجان إلى طبرستان فملكها ولحق الحسين بالديلم وسار سليمان
إلى سارية وآمد، ومعهم أبناء قارن بن شهرزاد فصفح عنهم ونهى أصحابه عن
الفتك والأذى. ثم جاء موسى بن بغا بالعساكر فملك الريّ من يدي أبي دلف
وبعث مصلحا إلى طبرستان فحارب الحسن بن زيد وهزمه واستولى على طبرستان
ولحق الحسن بالديلم ودخل مفلح آمد وخرب منازل الحسن ورجع إلى موسى
بالريّ.
مقتل باغر
وكان باغر هذا من قواد الترك ومن جملة بغا الصغير، ولما قتل المتوكّل
زيد في أرزاقه وأقطعوه قرى بسواد الكوفة وضمنها له بعض أهل باروسما
بألفي دينار فطلبه ابن مارمّة وكيل باغر، وحبسه ثم تخلّص وسار إلى
سامرّا، وكانت له ذمّة من نصراني عند بغا الصغير فأجاره النصراني من
كيد بغا وأغراه عليه فغضب لذلك باغر وشكى إلى بغا فأغلظ له القول،
وقال: إني مستبدل من النصراني وأفعل فيه بعد ذلك ما تريد، ودسّ إلى
النصراني بالحذر من باغر وأظهر عزله، وبقي باغر يتهدّده وقد انقطع عن
المستعين، وقد منعه بغا في يوم نوبته عن الحضور بدار السلطان فسأل
المستعين وصيفا عن أعمال إتياخ وقلّدها لباغر، فعذل وصيفا في الشأن
فحلف له أنه ما علم قصد الخليفة. وتنكّر بغا لباغر فجمع أصحابه الذين
بايعوه على المتوكّل وجدّد عليهم العهد في قتل المستعين وبغا ووصيف،
وأن ينصّبوا ابن المعتصم أو ابن الواثق ويكون الأمر لهم. ونما الخبر
على الترك إلى المستعين فأحضر بغا ووصيفا وأعلمهما بالخبر، فحلفا له
على العلم وأمروا بحبس باغر ورجلين معه من الأتراك فسخطوا ذلك، وثاروا
فانتهبوا الإصطبل وحضروا الجوثق وأمر بغا ووصيف وشاهك الخادم وكاتبه
أحمد بن صالح
__________
[1] الصحيح التشيّع.
(3/358)
ابن شيزاده [1] ونزل على محمد بن طاهر في
بيته في المحرّم سنة إحدى وخمسين ولحق به القوّاد والكتاب والعمّال
وبنو هاشم وتخلّف جعفر الخيّاط وسليمان بن يحيى بن معاذ فندم الأتراك،
وركب جماعة من قوّادهم إلى المستعين وأصحابه ليردّوهم فأبوا ورجعوا
آيسين منه وتفاوضوا في بيعة المعتز.
بيعة المعتز وحصار المستعين
كان قوّاد الأتراك لما جاءوا إلى المستعين ببغداد يعتذرون من فعلهم
ويتطارحون في الرضا عنهم والرجوع إلى دار مكّة وهو يوبّخهم ويعدّد
عليهم إحسانه وإساءتهم ولم يزالوا به حتى صرّح لهم بالرضا، فقال بعضهم:
فإن كنت رضيت فقم واركب معنا إلى سامرّا فكلّمه ابن طاهر لسوء خطابهم،
وضحك المستعين لعجمتهم وجهلهم بآداب الخطاب، وأمر باستمرار أرزاقهم
ووعدهم بالرجوع، فانصرفوا حاقدين ما كان من ابن طاهر، وأخرجوا المعتز
من محبسه وبايعوا له بالخلافة، وأعطى للناس شهرين. وحضر للبيعة أبو
أحمد بن الرشيد فامتنع منها وقال: قد خلعت نفسك! فقال: أكرهت، فقال: ما
علمنا ذلك ولا مخلص لنا في إيماننا فتركه. وولّوا على الشرطة إبراهيم
البربرح [2] وأضيفت له الكتابة والدواوين وبيت المال، وهرب عتّاب ابن
عتّاب من القوّاد إلى بغداد وقال محمد بن عبد الله بن طاهر بالاحتشاد
واستقدم مالك بن طوق في أهل بيته وجنده، وأمر حوبة بن قيس [3] وهو على
الأنبار وبالاحتشاد وكتب إلى سليمان بن عمران صاحب الموصل بمنع الميرة
عن سامرّا، وشرع في تحصين بغداد وأدار عليها الأسوار والخنادق من
الجانبين وجعل على كل باب قائدا، ونصب على الأبواب المجانيق والعدادات
[4] ، وشحن الأسوار بالرماة
__________
[1] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 139: «وانتهى الخبر
إلى المستعين فبعث إلى بغا ووصيف وقال لهما: أنتما جعلتماني خليفة ثم
تريدان قتلي! فحلفا انّهما ما علما بذلك، فأعلمهما الخبر، فاتفق رأيهم
على أخذ باغر ورجلين من الأتراك معه، وحبسهم، فاحضروا باغرا فأقبل في
عدة، فعدل به إلى حمّام وحبس فيه، وبلغ الخبر الأتراك، فوثبوا على
إصطبل الخليفة فانتهبوه وركبوا ما فيه، وحصروا الجوسق بالسلاح، فأمر
بغا ووصيف بقتل باغر فقتل.» «فلما قتل باغر وانتهى خبر قتله إلى
الأتراك المشغبين أقاموا على ما هم عليه، فانحدر المستعين وبغا ووصيف
وشاهك الخادم واحمد بن صالح بن شيرزاد ... »
[2] إبراهيم الديرج: ابن الأثير ج 7 ص 143.
[3] نجوبة بن قيس: ابن الأثير ج 7 ص 143.
[4] الصحيح العرّادات.
(3/359)
والمقاتلة وبلغت النفقة في ذلك ثلاثمائة
وثلاثين ألف دينار وفوّض للعيّارين الرزق واغدق عليهم، وأنفذ كتب
المستعين إلى العمّال بالنواحي تحمل الخراج إلى بغداد. وكتب المستعين
إلى الأتراك يأمرهم بالرجوع عمّا فعلوا وكتب المعتز إلى محمد يدعوه إلى
بيعته، وطالت المراجعات في ذلك وكان موسى بن بغا قد خرج لقتال أهل حمص،
فاختلفت إليه وهو بالشام كتب المستعين والمعتزّ يدعوه كل واحد منهما
إلى نفسه، فاختار المعتز ورجع إليه، وهرب إليه عبد الله بن بغا الصغير
من بغداد بعد أن هرب عنه فقتله. وهرب الحسن بن الأفشين إلى بغداد فخلع
عليه المستعين وضمّ إليه الأشروسية. ثم عقد المعتز لأخيه إلى أحمد
الواثق عن حرب بغداد وضمّ إليه الجنود مع باكليال [1] من قوّادهم، فسار
في خمسين ألفا من الأتراك والفراغنة والمغاربة، وانتهبوا ما بين عكبرا
وبغداد من القرى والضياع وخرّبوها، وهرب إليهم جماعة من أصحاب بغا
الصغير ووصلوا إلى باب الشماسية. وولّى المستعين على باب الشماسية
الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب، وجعل القوّاد هنالك
تحت يده ووافقت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية فوقفوا بالقرب منه،
وأمدّه ابن طاهر بالشاه بن ميكال وبيدار الطبري [2] . ثم ركب محمد بن
عبد الله بن طاهر من الغد ومعه بغا ووصيف والفقهاء والقضاة، وذلك عاشر
صفر، وبعث إليهم يدعوهم إلى مراجعة الطاعة على المعتزّ ولي عهده فلم
يجيبوا، فانصرفوا، وبعث إليه القوّاد من الغد بأنهم زحفوا إلى باب
الشماسية فنهاهم عن مناداتهم بالقتال. وقدم ذلك اليوم عبد الله بن
سليمان خليفة بغا من مكة في ثلاثمائة رجل. ثم جاء الأتراك من الغد
فاقتتلوا مع القوّاد وانهزم القوّاد وبلغ ابن طاهر أنّ جماعة من
الأتراك ساروا نحو النهروان، فبعث قائدا من أصحابه إليهم فرجع منهزما،
واستولى الأتراك على طريق خراسان وقطعوها عن بغداد. ثم بعث المعتز
عسكرا آخر نحو أربعة آلاف فنزلوا في الجانب الغربي، وبعث ابن طاهر
إليهم الشاه ابن ميكال فهزمهم وأثخن فيهم، ورجع إلى بغداد فخلع عليه
وعلى سائر القوّاد أربع خلع وطوقا وسوارا من ذهب لكل واحد. ثم أمر ابن
طاهر بهدم الدور والحوانيت إلى باب الشماسية ليتسع المجال للحرب، وقدمت
عليه أموال فارس والأهواز مع مكحول الأشروسي [3]
__________
[1] كلبا تكين التركي: ابن الأثير ج 7 ص 145.
[2] بندار الطبري: ابن الأثير ج 7 ص 146.
[3] منكجور الاشروسني: ابن الأثير ج 7 ص 148.
(3/360)
وخرج الأتراك لاعتراضه وبعث ابن طاهر لحفظه
فقدموا به بغداد، ولم يظفر به الأتراك، ومضوا نحو النهروان فأحرقوا سفن
الجسر. وكان المستعين قد بعث محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد واليا على
الثغور الجزرية، وأقام ينتظر الجند والمال، فلما بلغه خبر هذه الفتنة
جاء على طريق الرقّة إلى بغداد فخلع عليه ابن طاهر وبعثه في جيش كثيف
لمحاربتهم، وصار إلى ضبيعة بالسواد فأقام بها فقال ابن طاهر: لن يفلح
أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره الله به! ثم ذهب الأتراك
وقاتلوا واتصل الحصار واشتدّت الحرب وانتهبت الأسواق، وورد الخبر من
الثغور بأنّ بلكاجور حمل الناس على بيعة المعتز فقال ابن طاهر: لعله
ظنّ موت المستعين فكان كذلك، ووصل كتابه بأنه جدّد البيعة، وكان موسى
بن بغا مع الأتراك كما قدّمنا، فأراد الرجوع على المستعين فامتنع
أصحابه وقاتلوه فلم يتم له أمره وفرّ القعّاطون [1] من البصرة ورموا
على الأتراك فأحرقوهم، فبعث ابن طاهر إلى المدائن ليحفظها، وأمده
بثلاثة آلاف فارس، وبعث إلى الأنبار حوبة بن قيس فشق الماء إلى خندقها
من الفرات، وجاء إلى الإسحاقي من قبل المعتز فسبق المدد الّذي جاء من
قبل ابن طاهر، وملك الأنبار. ورجع حوبة إلى بغداد فأنفذ ابن طاهر
الحسين بن إسماعيل في جماعة من القوّاد والجند، فاعترضه الأتراك
وحاربوه، وعاد الأنبار وتقدّم هو لينزل عليهما، وبينما هو يحطّ الأثقال
إذا بالأتراك فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم، وكانوا قد كمنوا له فخرج
الكمين وانهزم الحسين وغرق كثير من أصحابه في الفرات، وأخذ الأتراك
عسكره، ووصل إلى الياسرية آخر جمادى الآخرة ومنع ابن طاهر المنهزمين من
دخول بغداد وتوعدهم على الرجوع إليه، وأمدّه بجند آخر، فدخل من
الياسرية وبعث على المخاض الحسين بن علي بن يحيى الأرميني في مائتي
مقاتل ليمنع الأتراك من العبور إليه من عدوة الفرات، فوافوه وقاتلوه
عليها فهزموه، وركب الحسين في زورق منحدرا وترك عسكره وأثقاله، فاستولى
عليها الأتراك ووصل المنهزمون إلى بغداد من ليلتهم، ولحق من عسكره
جماعة من القوّاد والكتّاب بالمعتزّ وفيهم عليّ ومحمد ابنا الواثق،
وذلك أوّل رجب. ثم كانت بينهم عدّة وقعات وقتل من الفريقين خلق ودخل
الأتراك في كثير من الأيام بغداد وأخرجوا عنها ثم ساروا إلى المدائن
وغلبوا عليها ابن أبي السفّاح وملكوها. وجاء الأتراك الذين بالأنبار
إلى الجانب الغربي وانتهوا إلى
__________
[1] مقتضى السياق: النغّاطون.
(3/361)
صرصر وقصر ابن هبيرة، واتصل الحصار إلى شهر
ذي القعدة وخرج ابن طاهر في بعض أيامه في جميع القوّاد والعساكر،
فقاتلهم وانهزموا وقتل منهم خلق وارتقم الذين كانوا مع بغا ووصيف لذلك
فلحقوا بالأتراك. ثم تراجع الأتراك وانهزم أهل بغداد. ثم خرج في ذي
الحجة رشيد بن كاووس أخو الأفشين ساعيا في الصلح بين الفريقين، واتهم
الناس ابن طاهر بالسعي في خلع المستعين. فلما جاء رشيد وأبلغهم سلام
المعتز وأخيه أبي أحمد شتموه وشتموا ابن طاهر وعمدوا إلى دار رشيد
ليهدموها، وسأل ابن طاهر من المستعين أن يسكنهم، فخرج إليهم ونهاهم
وبرّأ ابن طاهر مما اتهموه به، فانصرفوا، وتردّدت الرسل بين ابن طاهر
وبين أبي أحمد فتجدّد للعامة والجند سوء الظنّ، وطلب الجند أرزاقهم
فوعدهم بشهرين وأمرهم بالنزول، فأبوا إلا أن يعلمهم الصحيح من رأيه في
المستعين. وخاف أن يدخلوا الأتراك كما عمل أهل المدائن والأنبار، فأصعد
المستعين على سطح دار العامة حتى رآه الناس وبيده البردة والقضيب،
وأقسم عليهم فانصرفوا. واعتزم ابن طاهر على التحوّل إلى المدائن، فجاءه
وجوه الناس واعتذروا له بالغوغاء فأقصروا بنقل المستعين عن دار ابن
طاهر إلى دار رزق الخادم بالرصافة. وأمر القوّاد وبني هاشم بالكون مع
ابن طاهر، فركب في تعبية وحلف لهم على المستعين وعلى قصد الإصلاح فدعوا
له، وسار إلى المستعين وأغراه به وأمر بغا ووصيفا بقتله فلم يفعلا.
وجاءه أحمد بن إسرائيل والحسين بن مخلد بمثل ذلك في المستعين، فتغيّر
له ابن طاهر. فلما كان يوم الأضحى وقد حضر الفقهاء والقضاة طالبه ابن
طاهر بإمضاء الصلح، فأجاب وخرج إلى باب الشماسية، فجلس هناك ابن طاهر
إلى المستعين وأخبره بأنه عقد الأمر إلى أن يخلع نفسه، ويبتذلوا له
خمسين ألف دينار، ويعطوه غلّة ثلاثين ألف دينار، ويقيم بالحجاز متردّدا
بين الحرمين، ويكون بغا واليا على الحجاز، ووصيف على الجبل، ويكون ثلث
الجباية لابن طاهر وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك.
فامتنع المستعين أوّلا من الخلع ظنّا منه أنّ وصيفا وبغا معه. ثم تبين
موافقتهما عليه فأجاب وكتب بما أراد من الشروط، وأدخل الفقهاء والقضاة
واشهدهم بأنه قد صيّر أمره إلى ابن طاهر. ثم أحضر القوّاد وأخبرهم بأنه
ما قصد بهذا الإصلاح إلّا حقن الدماء، وأخرجهم إلى المعتزّ ليوافقهم
بخطه على كتاب الشرط ويشهدوا على إقراره، فجاءوا بذلك لست خلون من
المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
(3/362)
خلع المستعين ومقتله
والفتن خلال ذلك
ولما تمّ ما عقده ابن طاهر ووافى القوّاد بخط المعتز على على كتاب
الشروط، أخذ البيعة للمعتز على أهل بغداد، وخطب له بها وبايع له
المستعين وأشهد على نفسه بذلك، فنقله من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل
ومعه عياله وأهله، وأخذ البردة والقضيب والخاتم ومنع من الخروج إلى
مكّة، فطلب البصرة فمنع منها وبعث إلى واسط. فاستوزر المعتز أحمد بن
أبي إسرائيل ورجع أخوه أبو أحمد إلى سامرّا. وفي آخر المحرّم انصرف أبو
الساج دبواز بن درموسب [1] إلى بغداد فقلّده ابن طاهر معاون السواد
فبعث معه مؤنه [2] إليها لطرد الأتراك والمغاربة عنها، وسار هو إلى
الكوفة. ثم كتب المعتز إلى ابن طاهر بإسقاط بغا ووصيف ومن معهما من
الدواوين وكان محمد أبو عون من قوّاد ابن طاهر قد تكفّل لأبى إسحاق
بقتلهما، وعقد له المعتز على اليمامة والبحرين والبصرة. ونمى الخبر
إليهما بذلك فركبا إلى ابن طاهر وأخبراه الخبر وأنّ القوم قد نقضوا
العهد. ثم بعث وصيف أخته سعاد إلى المؤيد وكان في حجرها فاستوهن له
الرضا من المعتز وكذا فعل أبو أحمد مع بغا وكتب لهما المعتز جميعا
بالرضا. ثم رغب الأتراك في إحضارهما بسامرّا، فكتب بذلك ودسّ إلى ابن
طاهر بمنعهما. فخرجا فيمن معهما ولم يقدر ابن طاهر على منعهما. وحضرا
بسامرّا فعقد إليهما المعتز على أعمالهما، وردّ البريد إلى موسى بن بغا
الكبير. ثم كانت فتنة بين جند بغداد وابن طاهر في شهر رمضان، جاءوا
إليه يطلبون أرزاقهم قال: كتبت إلى أمير المؤمنين في ذلك فكتب إليّ إن
كنت تريد الجند لنفسك فأعطهم، وإن كان لنا فلا حاجة لنا فيهم. فشغبوا
ففرّق فيهم ألفي دينار فسكنوا. ثم اجتمعوا ثانية ومعهم الأعلام
والطبول، وضربوا الخيام بباب الشماسية وبنوا البيوت من الأعواد والقصب.
وجمع محمد بن إبراهيم أصحابه وشحن داره بالرجال، وأرادوا يوم الجمعة أن
يمنعوا الخطيب من الدعاء للمعتز فقعد واعتذر بالمرض، فخرجوا إلى الجسر
ليقطعوه فقاتلهم أصحاب ابن طاهر ودفعوهم عنه. ثم دفعوا أصحاب ابن طاهر
بإعانة أهل الجانب الشرقي، وجاء العامّة فجلس الشرطة فأمر ابن طاهر
بإحراق الحوانيت إلى باب الجسر ومات أصحاب تعبية الحرب وجاء من دلّه
على عورة الجند فسرّح الشاه
__________
[1] ابو الساج ديوداد بن ديودست: ابن الأثير ج 7 ص 168.
[2] نوابة: المرجع السابق.
(3/363)
بن ميكال وعرض القواد فسار إلى ناحيتهم،
وافترقوا وقتل بينهم ابن الخليل. وحمل رئيسهم الآخر ابن القاسم عبدون
بن الموفق إلى ابن طاهر ومات في خلال ذلك.
وأخرج المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد، وذلك أنّ العلاء بن أحمد
عامل أرمينية بعث إلى المؤيد بخمسة آلاف دينار فأخذها عيسى بن فرخان
شاه، فأغرى المؤيد بعيسى الأتراك والمغاربة فبعث المعتز إلى المؤيد
وأبي أحمد فحبسهما وقتل [1] المؤيد، فأخذ خطّه بخلع نفسه. ثم نمي إليه
أنّ الأتراك يرومون إخراجه من الحبس، فسأل عن ذلك موسى بن بغا فأنكر
علم ذلك، وأخرج المؤيد من الغد ميتا ودفنته أمّه. فيقال غطّى على أنفه
فمات، وقيل أقعد في الثلج ووضع على رأسه. ثم نقل أخوه ابن أحمد إلى
مجلسه. ثم اعتزم المعتزّ على قتل المستعين فكتب إلى محمد بن عبد الله
بن طاهر أن يسلّمه إلى سيما الخادم، وكتب محمد في ذلك إلى الموكلين به
بواسط، يقال بل أرسل بذلك أحمد بن طولون، فسار به في القاطون وسلّمه
إلى سعيد بن صالح، فضربه سعيد حتى مات، وقيل ألقاه في دجلة بحجر في
رجله، وكانت معه دابته فقتلت معه وحمل رأسه إلى المعتز فأمر بدفنه،
وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولّاه معونة البصرة. ثم وقعت فتنة بين
الأتراك والمغاربة مستهلّ رجب، بسبب أن الأتراك وثبوا بعيسى بن فرخان
شاه فضربوه وأخذوا دابته لما أمرهم المؤيد، فامتعضت المغاربة له ونكروا
على الأتراك وغلبوهم على الجوسق، وأخذوا دوابهم وركبوها وملكوا بيت
المال. واستجاش الأتراك بمن كان منهم في الكرخ والدور وانضم الغوغاء
والشاكريّة إلى المغاربة فضعفت الأتراك عن لقائهم وسعى بينهم جعفر بن
عبد الواحد في الصلح فتوادعوا أياما ثم اجتمع الأتراك على حين افتراق
المغاربة فقصد محمد بن راشد ونصر ابن سعيد منزل محمد بن عون يختفيان
عنده حتى تسكن الهيعة، فدسّ للأتراك بخبرهما وجاءوا فقتلوهما في منزله
وبلغ ذلك المعتز فهمّ بقتل! ابن عون ثم نفاه.
أخبار مساور الخارجي
كان الوالي على الموصل عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث بن هاني
الخزاعيّ، وكان صاحب الشرطة بالحديثة من أعمالها حسين بن بكير، وكان
مساور
__________
[1] وفي نسخة اخرى: قيّد المؤيد وكذلك عند ابن الأثير ج 7 ص 172.
(3/364)
ابن عبد الله بن مساور البجليّ من الخوارج
يسكن البواريخ [1] . وحبس صاحب الشرطة حسين بن بكير بالحديثة ابنا
للمساور هذا يسمى جوثرة وكان جميلا، فكتب إلى أبيه مساور بأنّ حسين بن
بكير نال منه الفاحشة، فغضب لذلك وخرج فقصد الحديثة، فاختفى حسين وأخرج
ابنه من الحبس. ثم كثر جمعه من الأكراد والأعراب وقصد الموصل فقاتلها
أياما، ثم رجع فكان تحت طريق خراسان، وكانت لنظر بندأر ومظفر بن مشبك
[2] فسار إليه بندار في ثلاثمائة مقاتل والخوارج مع مساور في سبعمائة
فهزموه وقتلوه، ولم ينج منهم إلا نحو خمسين رجلا وفرّ مظفر إلى بغداد.
وجاء الخوارج إلى جلولاء وكانت فيهم حرب هلك فيها من الجانبين خلق. ثم
سار خطرمش في العساكر فلقيهم بجلولاء وهزمه مساور، ثم استولى مساور على
أكثر أعمال الموصل، ثم ولّى الموصل أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطّاب
التغلبي سنة أربع وخمسين، فاستخلف عليها ابنه الحسن، فجمع عسكرا كان
فيهم حمدون بن الحرث بن لقمان جدا لأمراء من بني حمدان ومحمد بن عبد
الله بن السيد بن أنس، وسار إلى مساور وعبر إليه نهر الزاب فتأخر عن
موضعه. وسار الحسن في طلبه فالتقوا واقتتلوا وانهزم عسكر الموصل وقتل
محمد بن السيد الأزدي، ونجا الحسن بن أيوب إلى أعمال اربل. ثم كانت
الفتنة سنة خمس وخمسين خلع المعتز وبويع للمهتدي وولّى على الموصل عبد
الله بن سليمان فزحف إليه مساور، وخام عبد الله عن لقائه فملك مساور
البلد وأقام بها جمعة وصلى وخطب، ثم خرج منها إلى الحديثة وكانت دار
هجرته. ثم انتقض عليه سنة ست وخمسين رجل من الخوارج اسمه عبيدة بن زهير
العمريّ [3] بسبب الخلاف في توبة الخاطئ وقال عبيدة: لا تقبل واجتمع
معه جماعة وخرج إليهم مساور من الحديثة واقتتلوا قتالا شديدا ثم قتل
عبيدة وانهزم أصحابه وخرج إليه آخر من بني زهر اسمه طوق، فجمع له الحسن
بن أيوب بن أحمد العدوي جمعا كثيرا وحاربه فقاتله سنة خمس أو سبع،
واستولى مساور على أكثر العراق ومنع الأموال، فسار إليه موسى بن بغا
بابكيال في العساكر فانتهوا إلى [4]
__________
[1] وفي نسخة اخرى البوازيج وكذلك عند ابن الأثير ج 7 ص 174.
[2] مظفر بن سيسل: ابن الأثير ج 7 ص 175.
[3] عبيدة من بني زهير العمروي: ابن الأثير ج 7 ص 226.
[4] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 226: «واستولى مساور على كثير من
العراق ومنع الأموال عن الخليفة فضاقت على الجند أرزاقهم، فاضطرهم ذلك
إلى ان سار اليه موسى بن بغا وبابكيال وغيرهما في عسكر عظيم، فوصلوا
إلى السفّ فأقاموا به، ثم عادوا إلى سامرّا.»
(3/365)
وبلغهم خبر الأتراك مع المهتدي فأقاموا ثم
زحفوا بخلع المهتدي، فلما ولي المعتمد سيّر مفلحا إلى قتال مساور في
عسكر كبير وخرج مساور عن الحديثة إلى جبلين حذاءها وقاتله مفلح في
أتباعه، ولحق الجبل فاعتصم به وأقام مفلح في حصاره، فكانت بينهما وقعات
وكثرت الجراحة في أصحاب مساور من لدن حربه مع عبيدة إلى هذه الحروب
فسار عن الجبل وتركه وأصبح مفلح وقد فقدهم فسار إلى الموصل ثم إلى ديار
ربيعة وسنجار ونصيبين والخابور، فأصلح أمورها وخرج من الموصل إلى
الحديثة ففارقها عنه فرجع مساور في اتباعهم يتخطّف من أعقابهم ويقاتلهم
حتى وصل الحديثة فأقام بها أياما، ثم سار إلى بغداد في رمضان سنة ست
وخمسين فرجع مساور الحديثة واستولى على البلاد واشتدّت شوكته، ثم أوقع
به مسرور البلخي سنة ثمان وخمسين، وجهّز العسكر بالحديثة مع جعلان من
قوّاد الترك. ثم قتل سنة إحدى وستين يحيى بن جعفر من ولاة خراسان، وسار
مسرور في طلبه وتبعه الموفّق فلم يدركاه.
مقتل وصيف ثم بغا
وفي سنة ثلاث وخمسين أيام المعتز اجتمع الجند من الأتراك والفراغنة
والأشروسية فطلبوا أرزاقهم منهم لأربعة أشهر وشغبوا، فخرج إليهم بغا
ووصيف وسيما الطويل، وكلّمهم وصيف واعتذر بعدم المال وقال: خذوا الزاب
في أرزاقكم. ونزلوا بدار أشناس يتناظرون في ذلك، ومضى بغا وسيما إلى
المعتزّ يسألانه في أمرهم، وبقي وصيف في أيديهم فوثب عليه بعضهم فقتله
وقطعوا رأسه ونصبوه. ثم انقادوا وأهدر لهم ذلك، وجعل المعتز لبغا
الشرابي ما كان لوصيف وألبسه التاج والوشاحين، ثم تغيّر له المعتز لما
عليه من الاستبداد على الدولة، وخشي غائلته ومال باطنا إلى بابكيال
وداخله في أمره واعتده لذلك. ثم زوّج بغا ابنته آمنة من صالح بن وصيف
وشغل بجهازها، فركب المعتز في تلك الغفلة ومعه حمدان بن إسرائيل إلى
بابكيال في كرخ سامرّا وكانت بينه وبين بغا وحشة شديدة وبلغ ذلك بغا
فركب في خمسمائة من غلمانه وولده وقوّاده، وكان أكثرهم منحرفين عنه
ولحق بالسنّ، وأقام المعتزّ على وجل لا ينام إلا بسلاحه. ثم تعلّل
أصحاب بغا عليه فأعرض عنهم وركب البحر راجعا إلى بغداد، وجاء الجسر
ليلا لئلا يفطن به الموكّلون هنالك، وبعثوا إلى المعتزّ
(3/366)
بخبره [1] ، فأمر بقتله وحمل إليه رأسه
ونصب بسامرّا وأحرقت المغاربة شلوه وكان قصد دار صالح بن وصيف ليثبوا
على المعتز.
ابتداء دولة الصفار
كان يعقوب بن الليث عمر [2] : الصفر بسجستان وكان صالح بن النضر
الكناني من أهل البيت قد ظهر بتلك الناحية وقام يقاتل الخوارج وسمّى
أصحابه المتطوّعة حتى قيل له صالح المطّوّعي وصحبه جماعة منهم درهم بن
الحسن ويعقوب بن الليث هذا وغلبوا على سجستان، ثم أخرجهم عنها طاهر بن
عبد الله أمير خراسان. وهلك صالح إثر ذلك وقام بأمر المتطوّعة درهم بن
الحسن فكثر أتباعه. وكان يعقوب بن الليث شهما وكان درهم مضعفا، واحتال
صاحب خراسان حتى ظفر به وحبس ببغداد، فاجتمعت المتطوّعة على يعقوب بن
الليث، وقام بقتال السراة وأتيح له الظفر عليهم وأثخن فيهم وخرّب
قراهم، وكانت له شرية في أصحابه لم تكن لأحد قبله، فحسنت طاعتهم له
وعظم أمره وملك سجستان مظهرا طاعة الخليفة وكاتبه وقلّده حرب السراة،
فأحسن الغناء فيه وتجاوزه إلى سائر أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر. ثم سار من سجستان إلى نواحي خراسان وعليها يومئذ محمد بن عبد
الله بن طاهر، وعلى هراة من قبله محمد بن أوس الأنباري، فجمع لمحاربة
يعقوب وسار إليهم في التعبية، فاقتتلوا وانهزم ابن أوس وملك يعقوب هراة
وبوشنج، وعظم أمره وهابه صاحب خراسان وغيرها من الأطراف. وكان المعتز
قد كتب له بولاية سجستان، فكتب له الآن بولاية كرمان، وكان على فارس
علي بن الحسين بن شبل، وأبطأ عامل الخراج واعتذر، فكتب له المعتز
بولاية كرمان يريد إعداء كل منهما بصاحبه لأنّ طاعتهما مهوضة [3] فأرسل
عليّ
__________
[1] يبدو من سياق المعنى ان جملة سقطت أثناء النسخ وفي الكامل لابن
الأثير ج 7 ص 187: «فسار بغا الى الجسر في الثلث الأول من الليل، فبعث
الموكلون بالجسر ينظرون من هو، فصاح بالغلام فرجع، وخرج بغا في البستان
الخاقاني، فلحقه عدة من الموكلين فوقف لهم بغا وقال: انا بغا، اما ان
تذهبوا معي إلى صالح بن وصيف واما ان تصيروا معي حتى أحسن إليكم.
فتوكّل به بعضهم وأرسلوا إلى المعتز بالخبر ... »
[2] بياضان في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 184: «وكان يعقوب بن
الليث وأخوه عمر ويعملان الصّغر بسجستان.
[3] إذا كانت من فعل «هاض» فينبغي ان تكون «مهيضة» اي مكسورة.
(3/367)
ابن الحسين بفارس طوق بن الغلس خليفة على
كرمان، وسار يعقوب الصفّار من سجستان فسبقه طوق واستولى عليها وأقام
يعقوب بمكانه قريبا منها يترقب خروج طوق إليه. وبعد شهرين ارتحل إلى
سجستان فوضع طوق أوزار الحرب وأقبل على اللهو، واتصل ذلك بيعقوب في
طريقه، فكرّ راجعا وأغذّ السير فصادفه بعد يومين، وركب أصحابه وقد أحيط
بهم ففرّوا ناجين بأنفسهم، وملك يعقوب كرمان وحبس طوق.
وبلغ الخبر إلى عليّ بن الحسين وهو على شيراز، فجمع جيشه ونزل على مضيق
شيراز، وأقبل عليه يعقوب حتى نزل قبالته، والمضيق متوعّر بين جبل ونهر
ضيق المسلك بينهما، فاقتحم يعقوب النهر بينهما وأجاز إلى عليّ بن
الحسين وأصحابه فانهزموا، وأخذ عليّ أسيرا واستولى على جميع عسكره،
ودخل شيراز وملكها وجبى الخراج ورجع إلى سجستان وذلك سنة خمس وخمسين.
ويقال بل وقع بينهما بعد عبور النهر حرب شديدة انهزم آخرها عليّ وكان
عسكره نحوا من خمسة عشر ألفا من الموالي والأكراد، ورجعوا منهزمين إلى
شيراز آخر يومهم وازدحموا في الأبواب وافترقوا في نواحي فارس وانتهوا
إلى الأهواز، وبلغ القتلى منهم خمسة آلاف. ولما دخل يعقوب وملك فارس
امتحن عليّا وأخذ منه ألف بردة [1] ومن الفرش والسلاح والآلة ما لا
يحدّ، وكتب إلى الخليفة بطاعته وأهدى هدية جليلة يقال منها عشر بازات
بيض وباز أبلق صيني ومائة نافجة من المسك وغير ذلك من الطرف ورجع إلى
سجستان، ثم استعاد الخليفة بعد ذلك فارس وبعث عماله إليها.
ابتداء دولة ابن طولون بمصر
كان بابكيال من أكابر قوّاد الأتراك مع بغا ووصيف وسيما الطويل، ولمّا
حدثت هذه الفتن وتغلبوا على الخلفاء أخذوا الأعمال والنواحي في
اقطاعهم، فاقطع المعتز بابكيال هذا أعمال مصر وبها يومئذ ابن مدبّر،
وكان بابكيال مقيما بالحفيدة فنظر فيمن يستخلفه عليها وكان أحمد بن
طولون من أبناء الأتراك وأبوه من سبي فرغانة وربّي في دار الخلفاء،
ونشأ ابنه أحمد بها على طريقة مستقيمة لبابكيال خاله، وأشير عليه
بتوليته فبعثه على مصر فاستولى عليها أوّلا دون أعمالها والاسكندرية،
ثم قتل المعتز بابكيال وصارت مصر في اقطاع بارجوع الترك [2] وكان بينه
وبين أحمد بن طولون
__________
[1] بدرة كما في ابن الأثير ج 7 ص 194.
[2] ياركوج التركي: ابن الأثير ج 7 ص 187.
(3/368)
مودّة متأكدة فكتب إليه واستخلفه على مصر
جميعها، ورسخت قدمه فيها وأصارها تراثا لبنيه فكانت لهم فيها الدولة
المعروفة.
استقدام سليمان بن طاهر لولاية بغداد
قد تقدّم لنا أنّ محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين كان على العراق
والسواد، وكانت لهم الشرطة وغيرها، وكان مقيما ببغداد وكان في المدافعة
عن المستعين لما لجأ إليه. ثم صلح ما بينه وبين المعتز، واستقل المعتز
بالخلافة والآثار المذكورة. ثم هلك آخر سنة ثلاث وثمانين أيام المعتز
وفوّض ما كان بيده من الولاية إلى أخيه عبيد الله، نازعه ابنه طاهر في
الصلاة عليه ومالت العامّة مع أصحاب طاهر والقوّاد مع عبيد الله لوصية
أخيه. ثم أمضى المعتز عهد أخيه وخلع عليه، وبذل لصاحب الخلع خمسين ألف
درهم. ثم بعث المعتز عن سليمان بن عبد الله بن طاهر من خراسان، وولّاه
على العراق والشرطة وغيرها مكان أخيه محمد، وعزل أخاهما عبيد الله.
فلمّا علم عبيد الله تقدّم سليمان أخذ ما في بيت المال وانتقل إلى
غربيّ دجلة، وجاء سليمان وقائده محمد ابن أوس ومعه جند من خراسان
فأساءوا السيرة في أهل بغداد فحنق الناس عليهم وأعطى أرزاقهم مما بقي
في بيت المال وقدمهم على جند بغداد وشاكريّها، فاتفق الجند على الثورة
وفتقوا السجون، وعبر ابن أوس إلى الجزيرة واتبعه الجند والعامّة،
فحاربهم وانهزم وأخرجوه من باب الشماسية، ونهب من منزله قيمة ألفي ألف
درهم، ومن الأمتعة ما لا يحصر ونهب منازل جنده. ورأى سليمان أن يسكن
الثائرة فأمره بالخروج إلى خراسان، ثم كانت الفتنة في خلع المعتز
وولاية المهدي كما يذكر، وبعث المهتدي سلخ رجب من سنة خمس وخمسين إلى
سليمان ليأخذ البيعة له ببغداد. وكان أبو أحمد بن المتوكل ببغداد قد
بعثه إليها المعتز، فنقله سليمان إلى داره ووثب الجند والعامّة لذلك
واجتمعوا بباب سليمان، وقاتلهم أصحابه مليا، ثم انصرفوا وخطب من الغد
للمعتز فسكنوا ثم ساروا ودعوا إلى بيعة أبي أحمد، وطلبوا رؤيته فأظهره
لهم ووعدهم بما طلبوا، فافترقوا ووكّل بحفظ أبي أحمد ثم بايع للمهتدي
في شعبان من تلك السنة.
(3/369)
خبر كرخ أصبهان وأبي
دلف
قد تقدّم لنا شأن أبي دلف أيام المأمون وأنه كان مقيما بكرخة وأن
المأمون عفا له عما وقع منه في القعود عن نصره، وأقام بتلك الناحية
وهلك، فقام ابنه عبد العزيز مكانه. ولما كانت أيام الفتنة تمسك بطاعة
المستعين وولّى وصيف على الجبل وأصبهان، فكتب إلى عبد العزيز باستخلافه
عليها وبعث عليه بالخلع، وعقد المعتز لموسى بن بغا الكبير في شهر رجب
من سنة ثلاث وخمسين على الجبل وأصبهان، فسار لذلك وفي مقدمته مفلح،
فلقيه عبد العزيز بن أبي دلف في عشرين ألفا خارج همذان، فتحاربا وانهزم
عبد العزيز وقتل أصحابه. وسار مفلح إلى الكرخ، فخرج إليه عبد العزيز
وقاتله ثانية، فانهزم واستولى مفلح على الكرخ. ومضى عبد العزيز إلى
قلعة نهاوند فتحصّن بها وأخذ مفلح أهله وأمّه. ثم عقد له وصيف سنة
اثنين وخمسين على أعمال الجبل، ثم عقد لموسى بن بغا، فسار وفي مقدّمته
مفلح، فقاتله عبد العزيز فانهزم وملك مفلح الكرخ وأخذ ماله وعياله. ثم
ملك عبد العزيز وقام مكانه ابنه دلف وقاتله القاسم بن صبهاه من أهالي
أصبهان. ثم قتل القاسم أصحاب أبي دلف وولّوا أخاه أحمد بن عبد العزيز
سنة خمس وستين. وولّاه عمر الصفّار من قبله على أصبهان عند ما ولّاه
عليها المعتمد سنة ست وستين، وحاربه كغليغ التركي سنة تسع وستين، فغلبه
أحمد وأخرجه إلى الصميرة، وبعث إليه عمر سنة ثمان وستين في المال فبعث
إليه. ثم سار الموفّق سنة ست وسبعين يريد أحمد بأصبهان فشاغله أحمد عن
البلد وترك داره بفرشها لنزول الموفّق. ثم مات أحمد سنة ثمانين وولّى
أخوه عمر وأخوه بكير يرادفه وقاتلا رافع بن الليث بأمر المعتضد فهزمهما
كما يأتي ذكره. ثم قلّده المعتضد أصبهان ونهوند والكرخ عمر بن عبد
العزيز سنة إحدى وثمانين ثم راجعا الطاعة.
خلع المعتز وموته وبيعة المهتدي
كان صالح بن وصيف بن بغا متغلبا على المعتز، وكان كاتبه أحمد بن
إسرائيل، وكانت أمّه قبيحة ووزيرها الحسن بن مخلد، وكان أبو نوح عيسى
بن إبراهيم من كبار الكتّاب وجباة الأموال. وطلب الأتراك أرزاقهم
وشغبوا، فقال صالح للمعتز:
هذه الأموال قد ذهب بها الكتّاب والوزراء، وليس في بيت المال شيء فردّ
عليه
(3/370)
أحمد بن إسرائيل وأفحش في ردّه وتفاوضا في
الكلام فسقط صالح مغشيا عليه، وتبادر أصحابه بالباب فدخلوا منتضين
سيوفهم فدخل إلى قصره، فأمر صالح بالوزراء الثلاثة فقيّدوا وشفع المعتز
في أمر وزيره فلم يقبل شفاعته، وصادرهم على مال جليل حملوه فلم يسدّ
شيئا، فلما فعلوا بالكتاب ما فعلوا من المصادرة اتّهم الجند أنهم حملوا
على مال ولم يكن ذلك، فشفعوا في طلب أرزاقهم وضمنوا للمعتز قتل صالح بن
وصيف على خمسين ألفا يبذلها لهم. وسألها من أمّه فاعتذرت فاتفقت كلمتهم
على خلعه. ودخل إليه صالح بن وصيف ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر
وبابكيال وطلبوه في الخروج إليهم، فاعتذر لهم وأذن لبعضهم في الدخول
فدخلوا، وجرّوه إلى الباب وضربوه وأقاموه في الشمس في صحن الدار وكلما
مرّ به أحد منهم لطمه. ثم أحضروا القاضي ابن أبي الشوارب في جماعة
فأشهدهم على خلعه، وعلى صالح بن وصيف بأمانه وأمان أمّه وأخته وولده
[1] . وفرّت أمّه قبيحة من سرب كانت اتخذته بالدار، ثم عذّبوا المعتز
ثم جعلوه في سرب وطمّوا عليه، وأشهدوا على موته بني هاشم والقوّاد،
وذلك آخر رجب من سنة خمس وخمسين، وبايعوا لمحمد ابن عمه الواثق ولقّبوه
المهتدي باللَّه عند ما خلع المعتز نفسه وأقرّ بالعجز والرغبة في
تسليمها إلى المهتدي، بايعه الخاصّة والعامّة. وكانت قبيحة أم المعتز
لما فعل صالح بالكتاب ما فعل قد [2] نفرا منهم على الفتك بذلك بصالح،
ونمي ذلك إليه، فجمع الأتراك على الثوران، وأيقنت قبيحة بالهلاك فأودعت
ما في الخزائن من الأموال والجواهر، وحفرت سربا في حجرتها هربت منه لما
أحيط بالمعتزّ، ولما قتل خشيت على نفسها فبعثت إلى صالح تستأمنه
فأحضرها في رمضان وظفر منها بخمسمائة ألف دينار، وعذّبها على خزائن تحت
الأرض فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار ومقدار مكوك من الزبرجد
لم ير مثله، ومقدار مكوك آخر من اللؤلؤ العظيم وجراب من الياقوت الأحمر
القليل النظير، وذمّها الناس بأنها عرّضت ابنها للقتل في خمسين ألف
دينار ومعها هذا المال، ثم سارت إلى مكة فأقامت هنالك، وقبض صالح على
أحمد بن إسرائيل وزيد بن المعتز وعذّبه وصادره. ثم قبض على
__________
[1] الضمير يعود للمعتز:
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 199: «وكان السبب في
هربها وظهورها انها كانت قد واطأت النفر من الكتّاب الذين أوقع بهم
صالح على الفتك بصالح ... »
(3/371)
أبي نوح وفعل به مثله، وقبض على الحسن بن
مخلد كذلك ولم يمت. وبلغ المهتدي ذلك فنكره وقال: كان الحبس كافيا في
العقوبة. ولأوّل ولاية المهتدي أخرج القيان والمغنّين من سامرّا ونفاهم
عنها، وأمر بقتل السباع التي كانت في دار السلطان وطرد الكلاب وردّ
المظالم وجلس للعامة، وكانت الفتن قائمة، والدولة مضطربة، فشمّر
لإصلاحها لو أمهل واستوزر سليمان بن وهب وغلب على أمره صالح بن وصيف
وقام بالدولة.
مسير موسى بن بغا إلى سامرا ومقتل صالح بن
وصيف
كان موسى بن بغا غائبا بنواحي الريّ وأصبهان منذ ولاية المعتز عليها
سنة ثلاث وخمسين، ومعه مفلح غلام أبي الساج، وكانت قبيحة أم المعتز لما
رأت اضطراب أموره كتبت إلى موسى قبل أن يفوت في أمره، فجاءه كتابها،
وقد بعث مفلحا لحرب الحسن بن زيد العلويّ فحربه [1] بطبرستان فغلبه،
وأحرق قصوره بآمد وخرج في اتباعه إلى الديلم، فكتب إلى موسى بالرجوع
لمداهمة من شاء وبينما هو في استقدامه وانتظاره قتل المعتزّ وبويع
المهتدي، وبلغ أصحابه ما حواه صالح من أموال المعتز وكتّابه وأمّه،
فشرهوا إلى مثل ذلك، وأغروا موسى بالمسير إلى سامرّا، ورجع مفلح من
بلاد الديلم إليه وهو بالريّ، فسار نحو سامرّا وسمع المهتدي بذلك فكتب
إليه بالمقام ويحذّره على ما وراءه من العلويين فلم يصغ لذلك، وأفحش
أصحابه في إساءة الرسل الواصلين بالكتب. فكتب بالاعتذار واحتج بما
عاينه الرسل وأنه يخشى أن يقتله أصحابه إن عادوا إلى الريّ وصالح بن
وصيف في خلال ذلك يغري به المهتدي وينسبه إلى المعصية والخلاف، إلى أن
قدم في المحرّم سنة ست وخمسين ودخل في التبعية، فاختفى صالح بن وصيف
ومضى موسى إلى الجوسق والمهتدي جالس للمظالم فأعرض له عن الإذن ساعة
ارتاب فيها هو وأصحابه وظنّوا أنه ينتظر قدوم صالح بالعساكر. ثم أذن
لهم فدخلوا وقبضوا على المهتدي وأودعوه دار باجورة [2] وانتهبوا ما كان
في الجوسق. واستغاث المهتدي بموسى فعطف عليه ثم
__________
[1] لعلها فحاربه.
[2] دار ياجور: ابن الأثير ج 7 ص 218.
(3/372)
أخذ عليه العهود والإيمان أن لا يوالي
صالحا وأنّ باطنه وظاهره في موالاتهم سواء، فجدّدوا له البيعة واستبد
موسى بالأمر، وبعث إلى صالح للمطالبة بما احتجبه من الأموال فلم يوقف
له على أثر، وأخذوا في البحث عنه. وفي آخر المحرّم أحضر المهتدي كتابا
رفعه إليه سيما الشرابيّ، زعم أنّ امرأة دفعته إليه وغابت فلم يرها،
وحضر القوّاد وقرأه سليمان بن وهب عليهم وهو بخط صالح يذكر ما صار إليه
من الأموال، وأنه إنما استتر خشية على نفسه وحسما للفتنة وإبقاء على
الموالي. ولما قرأ الكتاب حثّهم المهتدي على الصلح والاتفاق، فاتهمه
الأتراك بالميل إلى صالح وأنه مطلع على مكانه، وطال الكلام بينهم بذلك
ثم اجتمعوا من الغد بدار موسى بن بغا داخل الجوسق واتفقوا على خلع
المهتدي، إلا أخا بابكيال فإنه أبى من ذلك وتهدّدهم بأنه مفارقهم إلى
خراسان، واتصل الخبر بالمهتدي فاستدعاه إليه وقد نظّف ثيابه وتطيب
وتقلّد سيفه فأرعد وأبرق وتهدّدهم بالاستماتة، ثم حلف لا يعلم مكان
صالح، وقال لمحمد بن بغا وبابكيال قد حضرتما مع صالح في أمر المعتز
وأموال الكتّاب وأنتم شركاؤه في ذلك كلّه. وانتشر الخبر في العامة
بأنهم أرهقوه وأرادوا خلعه فطفقوا يحاذرون على الدعاء في المساجد
والطرقات ويبغون على القوّاد بغيهم على الخليفة، ويرمون الرقاع بذلك في
الطرقات. ثم إنّ الموالي بالكرخ والدور دسوا إلى المهتدي أن يبعثوا
إليه أخاه أبا القاسم عبد الله بعد أن ركبوا وتحرّكوا فقالوا لأبي
القاسم: بلغنا ما عليه موسى وبابكيال وأصحابهما ونحن شيعة للخليفة فيما
يريده، وشكوا مع ذلك تأخّر أرزاقهم وما صاروا من الاقطاع والزيادات إلى
قوّادهم وما أخذه النساء والدخلاء حتى أصحب ذلك كله بالخراج والضياع،
وكتبوا بذلك إلى المهتدي، فأجابهم بالثناء على التشيّع له والطاعة
والوعد الجميل في الرزق، والنظر الجميل في شأن الاقطاعات للقوّاد
والنساء، فأفاضوا في الدعاء وأجمعوا على منع الخليفة من الحجر
الاستبداد عليه، وأن ترجع الرسوم إلى عادتها أيام المستعين على كل عشرة
عريف، وعلى كل خمسين خليفة، وعلى كل مائة قائد، وأن تسقط النساء
والزيادة في الاقطاع ويوضع العطاء في كل شهرين. وكتبوا بذلك إلى
المهتدي وأنهم صائرون إلى بابه ليقضي حوائجهم، وإن أحد اعترض عليه
أخذوا رأسه وإن تعرّض له أحد قتلوا موسى بن بغا وبابكيال وماجور. فجاء
أبو القاسم بالكتاب وقد قعد المهتدي للمظالم وعنده الفقهاء والقضاة
والقوّاد قائمون في مراتبهم فقرأ كتابهم على
(3/373)
القوّاد فاضطربوا وكتب جوابهم بما سألوا،
وطلب أبو القاسم من القوّاد أن يبعثوا معه رسولا بالعذر عنهم ففعلوا،
ومضى أبو القاسم إليهم بكتاب الكتّاب وبرسل القوّاد وأعذارهم. فكتبوا
إلى المهتدي يطلبون التوقيعات بحط الزيادات وردّ الاقطاعات وإخراج
الموالي البرّانيين من الخاصة، وردّ الرسوم إلى عاداتها أيام المستعين،
ومحاسبة موسى بن بغا وصالح بن وصيف على ما عندهم من الأموال ووضع
العطاء على كل شهرين وصرف النظر في الجيش إلى بعض إخوته أو قرابته
وإخراجه من الموالي، وكتبوا بذلك إلى المهتدي والقوّاد فأجابهم إلى
جميع ما سألوه. وكتب إليهم موسى بن بغا بالإجابة في شأن صالح والإذن في
ظهوره فقرءوا الكتابين ووعدوا بالجواب، فركب إليهم أبو القاسم واتبعه
موسى في ألف وخمسمائة فوقف في طريقهم، وجاءهم أبو القاسم فاضطربوا في
الجواب ولم يتّفقوا فرجع وردّ موسى بن بغا فأمرهم المهتدي بالرجوع وأن
يتقدّم إليهم محمد بن بغا مع أبي القاسم، ويدفعوا إليهم كتاب الأمان
لصالح بن وصيف، وقد كان من طلبتهم أن يكون موسى في مرتبة أبيه وصالح
كذلك والجيش في يده، وأن يظهر على الأمان فأجيبوا إلى ذلك. وافترق
الناس إلى الكرخ والدور وسامرّا، فلما كان من الغد ركب بنو وصيف في
جماعة ولبسوا السلاح فنهبوا دواب العامة وعسكروا بسامرّا وتعلقوا بأبي
القاسم يطلبون صالحا فأنكر المهتدي أن يكون علم بمكانه، وقال: إن كان
عندهم فليظهروه. ثم ركب ابن بغا في القوّاد ومعه أربعة آلاف فارس
وعسكر، وافترق الأتراك ولم يظهر للكرخيين ولا لأهل الدور وسامرّا في
هذا اليوم حركة، وجدّ موسى في طلب صالح ونادى عليه وعثر عليه بعض
الغوغاء فجاء به إلى الجوسق والعامة في اتباعه فضربه بعض أصحاب مفلح
فقتله وطيف برأسه على قناة وخرج موسى بن بغا لقتال السراة بناحية
السنّ.
الصوائف منذ ولاية المنتصر إلى آخر أيام
المهتدي
في سنة ثمان وأربعين أيام المستعين خرج بناحية الموصل محمد بن عمر
الشاربي وحكم فسرّح المنتصر إسحاق بن ثابت الفرغاني فأسره في عدّة من
أصحابه وقتلوا وصلبوا وفي هذه السنة غزا بالصائفة وصيف وأمره المنتصر
بالمقام بملطية أربع سنين يغزو في أوقات الغزو إلى أن يأتيه رأيه، وكان
مقيما بالثغر الشامي فدخل بلاد الروم وافتتح حصن قدورية. وفي سنة تسع
وأربعين غزا بالصائفة جعفر بن دينار فافتتح مطامير واستأذنه
(3/374)
عمر بن عبد الله الأقطع في الدخول إلى بلاد
الروم فأذن له، فدخل في جموع من أهل ملطية، ولقي ملك الروم بمرج الأسقف
في خمسين ألفا فأحاطوا به وقيل في ألفين من المسلمين، وخرج الروم إلى
الثغور الخزريّة [1] فاستباحوها وبلغ ذلك عليّ ابن يحيى الأرمني وقد
كان صرف عن الثغور الشامية وعقد له على أرمينية وأذربيجان. فلما سمع
بخبرهم نفر إليهم وقاتلهم فانهزم وقتل في أربعمائة من المسلمين، وفي
سنة ثلاث وخمسين أيام المعتز غزا محمد بن معاذ من ناحية ملطية فانهزم
وأسر (الولاة) لما ولي المنتصر استوزر أحمد بن الخصيب وولّى على
المظالم أبا عمر أحمد بن سعيد مولى بني هاشم. ثم ولي المستعين ومات
طاهر بن عبد الله بخراسان فولّى المستعين مكانه ابنه محمدا وولّى محمد
بن عبد الله على العراق وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعاون السواد،
واستخلف أخاه سليمان بن عبد الله على طبرستان. وتوفي بغا الكبير فولّى
ابنه موسى على أعماله وضاف إليه ديوان البريد، وشغب أهل حمص على عاملهم
وأخرجوه، فبعث عليهم المستعين الفضل بن قارن أخا مازيار فقتل منهم خلقا
وحمل مائة من أعيانهم إلى سامرّا. واستوزر المستعين أتامش بعد أن عزل
أحمد بن الخصيب، واستصفى بقي إلى أقريطش، وعقد لأتامش على مصر والمغرب،
ولبغا الشرابي على حلوان وماسبذان ومهرجا بعده [2] . ثم قتل أتامش
فاستوزر المستعين مكانه أبا صالح عبد الله بن محمد بن داود وعزل الفضل
بن مروان عن ديوان الخراج وولّاه عيسى بن فرخان شاه، وولّى وصيفا على
الأهواز وبغا الصغير على فلسطين، ثم غضب بغا على أبي صالح ففرّ إلى
بغداد واستوزر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجاني، وولى ديوان
الرسائل سعيد بن حميد وعزل جعفر بن عبد الواحد عن القضاء ونفاه إلى
البصرة، وولّى جعفر بن محمد بن عمّار البرجمي، وفي خمسين عقد لجعفر بن
الفضل بن عيسى بن موسى المعروف بساسان على مكة ووثب أهل حمص على عاملهم
الفضل بن قارن فقتلوه فسرّح إليهم المستعين موسى بن بغا وحاربوه
فهزمهم، وافتتحت حمص وأثخن فيهم وأحرقها، وفيها وثب الشاكريّة والجند
بفارس بعبد الله بن إسحاق فانتهبوا منزله، وقتلوا محمد بن الحسن بن
قارن وهرب عبد الله بن إسحاق وفيها كان ظهور العلويّة بنواحي طبرستان.
وفي سنة إحدى
__________
[1] الثغور الجزرية وقد مرّ ذكرها من قبل.
[2] مهرجان قذق: ابن الأثير ج 7 ص 120.
(3/375)
وخمسين عقد المعتز لبغا ووصيف على أعمالها،
وردّ البريد إلى موسى بن بغا الكبير، وعقد محمد بن طاهر لأبي الساج
وقدّم بين يديه عبد الرحمن كما قلنا، وأظهر أنه إنما جاء لحرب الأعراب
وتلطّف لأبي أحمد حتى خالطه وقيّده وبعث به إلى بغداد في سنة اثنتين
وخمسين. وولّى المعتز الحسين بن أبي الشوارب على القضاء وبعث محمد ابن
عبد الله بن طاهر أبا الساج على طريق مكة، وعقد المعتز لعيسى الشيخ بن
السليل الشيبانيّ من ولد جسّاس بن مرّة على الرملة فاستولى على فلسطين
وعلى دمشق وأعمالها، وقطع ما كان يحمل من الشام. وكان إبراهيم بن
المدبّر على مصر فبعث إلى بغداد من المال بسبعمائة ألف دينار فاعترضها
عيسى وأخذها، وطولب بالمال فقال:
الفتنة على الجند! فولّاه المعتمد على أرمينية يقيم بها دعواه. وبعث
المعتمد إلى الشام ما جور على دمشق وأعمالها، وبلغ الخبر إلى عيسى فبعث
ابنه منصورا في عشرين ألف مقاتل، فانهزم وقتل وسار عيسى إلى أرمينية
على طريق الساحل. وفيها عقد وصيف لعبد العزيز بن أبي دلف العجليّ على
أعمال الجبل. وفي سنة ثلاث وخمسين عقد لموسى بن بغا على الجبل، فسار
وفي مقدمته مفلح مولى بني الساج، وقاتله عبد العزيز بن أبي دلف فانهزم
ولجأ إلى قلعة لهادر [1] وملك مفلح الكرخ، وأخذ أهله وعياله، وفيها مات
ابن عبد الله بن طاهر ببغداد وولّى أخوه عبيد الله بعهده. ثم بعث
المعتز عن أخيه سليمان بطبرستان فولّاه مكانه، وكان على الموصل سليمان
بن عمران الأزدي، وكانت بينه وبين الأزد حروب بنواحي الموصل. وفيها مات
مزاحم بن خاقان بمصر. وفيها ملك يعقوب الصفّار سجستان وفارس وهراة،
وكان ابتداء دولته، وولى بابكيال أحمد بن طولون على برّ مصر من قبله
فكان ابتداء دولته. ثم أقطعها المعتمد سنة سبع وخمسين ليارجوج [2] فولى
عليها أحمد بن طولون من قبله وفي سنة خمس وخمسين أيام المهتدي استولى
مساور الخارجي على الموصل وفيها ظهر صاحب الزنج وكان ابتداء فتنته.
أخبار صاحب الزنج وابتداء فتنته
كان أكثر دعاة العلوية الخارجين بالعراق أيام المعتصم وما بعده أكثرهم
من
__________
[1] هكذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 178: «ومضى إلى قلعة
له يقال لها: زرّ فتحصّن بها ودخل مفلح كرج» .
[2] ياركوج: ابن الأثير ج 7 ص 241.
(3/376)
الزيديّة، وكان من أئمتهم عليّ بن محمد بن
أحمد بن عيسى بن زيد الشهير وكان نازلا بالبصرة، ولما وقع البحث عليه
من الخلفاء ظفروا بابن عمّه عليّ بن محمد بن الحسين، فقتل بغدك ولأيام
من قتله خرج رجل بالريّ يدّعي أنه عليّ بن محمد بن أحمد بن عيسى
المطلوب وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهتدي. ولما ملك البصرة
لقي عليّا هذا حيّا معروف النسب، فرجع عن ذلك وانتسب إلى يحيى قتيل
الجوزجان أخي عيسى المذكور. ونسبه المسعوديّ إلى طاهر بن الحسين وأظنّه
الحسين ابن طاهر بن يحيى المحدّث بن الحسين بن جعفر بن عبد الله بن
الحسين بن عليّ، لأن ابن حزم قال في الحسين السبط أنه لا عقب له إلا من
عليّ بن الحسين، وقال فيه عليّ بن محمد بن جعفر بن الحسين بن طاهر.
وقال الطبريّ وابن حزم وغيرهم من المحقّقين أنه من عبد القيس، واسمه
عليّ بن عبد الرحيم من قرية من قرى الريّ، ورأى كثرة خروج الزيديّة
فحدّثته نفسه بالتوثّب فانتحل هذا النسب، ويشهد لذلك أنه كان على رأي
الأزارقة من الخوارج، ولا يكون ذلك من أهل البيت.
وسياقة خبره أنه كان اتصل بجماعة من حاشية المنتصر ومدحهم. ثم شخص من
سامرّا إلى البحرين سنة تسع وأربعين ادّعى أنه من ولد العبّاس بن أبي
طالب من ولد الحسن بن عبد الله بن العبّاس، ودعا الناس إلى طاعته
فاتبعه كثير من أهل حجر وغيرها، وقاتلوا أصحاب السلطان بسببه وعظمت
فتنته، فتحوّل عنهم إلى الأحساء ونزل على بني الشمّاس من سعد بن تميم،
وصحبه جماعة من البحرين منهم يحيى بن محمد الأزرق وسليمان بن جامع،
فكانا قائدين له، وقاتل أهل البحرين فانهزم وافترقت العرب عنه واتبعه
عليّ بن أبان وسار إلى البصرة ونزل في بني ضبيعة وعاملها يومئذ محمد بن
رجاء، والفتنة فيها بين البلاليّة والسعديّة، وطلبه ابن رجاء فهرب وحبس
ابنه وزوجته وجماعة من أصحابه، فسار إلى بغداد وأقام بها حولا وانتسب
إلى محمد بن أبي أحمد بن عيسى كما قلناه، واستمال بها جماعة منهم جعفر
ابن محمد الصوحانيّ من ولد زيد بن ضوحان ومسروق ورفيق غلامان ليحيى بن
عبد الرحمن وسمّى مسروقا حمزة وكنّاه أبا أحمد، وسمّى رفيقا جعفرا
وكنّاه أبا الفضل.
ثم وثب رؤساء البلاليّة والسعديّة بالبصرة وأخرجوا العامل محمد بن
رجاء، فبلغه ذلك وهو ببغداد، وأنّ أهله خلعوه فرجع إلى البصرة في رمضان
سنة خمس وخمسين ويحيى بن محمد وسليمان بن جامع ومسروق ورفيق، فنزل بقصر
القرش
(3/377)
ودعا الغلمان من الزنوج ووعدهم بالعتق
فاجتمع له منهم خلق وخطبهم ووعدهم بالملك ورغّبهم في الإحسان وحلف لهم
وكتب لهم في خرقة إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم الآية.
واتخذها راية وجاءه موالي الزنوج في عبيدهم فأمر كل عبد أن يضرب مولاه
وحبسهم ثم أطلقهم، ولم يزل هذا رأيه والزنوج في متابعته والدخول في
أمره وهو يخطبهم في كل وقت ويرغّبهم. ثم عبر دجيلا إلى نهر ميمون،
فأخرج عند الحميريّ وملكه وسار إلى الأيلّة وبها ابن أبي عون فخرج إليه
في أربعة آلاف فهزمهم ونال منهم. ثم سار إلى القادسية فنهبها وكثر
سلاحهم، وخرج جماعة من أهل البصرة لقتاله، فبعث إليهم يحيى بن محمد في
خمسمائة رجل فهزمهم وأخذ سلاحهم. ثم طائفة أخرى كذلك وأخرى، وخرج
قائدان من البصرة فهزمهما وقتل منهما، وكانت معهما سفن ألقتها الريح
إلى الشطّ فغنموا ما فيها وقتلوا وكثر عيثه وفساده. وجاء أبو هلال من
قوّاد الأتراك في أربعة آلاف مقاتل فلقيه على نهر الريان فهزمه الزنج
واستلحموا أكثر أصحابه، ثم خرج أبو منصور أحد موالي الهاشميين في عسكر
عظيم من المطوعة والبلاليّة والسعديّة فسرّح للقائهم علي بن أبان فلقي
طائفة منهم فهزمهم، ثم أرسل طائفة أخرى إلى مرفأ السفن وفيه نحو من
ألفي سفينة فهرب عنها أهلها ونهبوها، ثم جاءت عساكر أبي منصور وقعد
الزنوج لهم بين النخل وعليهم عليّ بن أبان، ومحمد بن مسلم، فهزموا
العسكر وقتلوا منهم وأخذوا سلاحهم. ثم سار فنهب القرى حتى امتلأت
أيديهم بالنهب. ثم سار يريد البصرة ولقيته عساكرها فهزمهم الزنج
وأثخنوا فيهم. ثم سار من الغد نحو البصرة وخرج إليه أهلها واحتشدوا
وزحفوا إليه برّا وبحرا فلقيهم بالسدّ وانهزموا هزيمة شنعاء كثر فيها
القتل. ووهن أهل البصرة وكتبوا إلى الخليفة فبعث إليهم جعلان التركي
مددا وولّى على الأبلّة أبا الأحوص الباهلي وأمّه بجند من الأتراك، وقد
بثّ صاحب الزنج أصحابه يمينا وشمالا للغارة والنهب. ولما وصل جعلان إلى
البصرة، نزل على فرسخ منهم وخندق عليه، وأقام ستة أشهر يسرّح لحربهم
الزيني مع بني هاشم ومرجف. ثم بيته الزنج فقتلوا جماعة من أصحابه،
وتحوّل عن مكانه ثم انصرف عن حربهم وظفر صاحب الزنج بعده من المراكب
غنم فيها أموالا عظيمة، وقتل أهلها وألحّ بالغارات على الأبلّة إلى أن
دخلها عنوة آخر رجب سنة ست وخمسين، وقتل عاملها أبا الأخوص عبيد الله
ابن حميد الطوسي وخلقا من أهلها واستباحها وأحرقها وبلغ ذلك أهل
عبّادان
(3/378)
فاستأمنوا له وملكها، واستولى على ما فيها
من الأموال والعبيد والسلاح إلى الأهواز وبها إبراهيم بن المدبّر على
الخراج، فهرب أهلها ودخلها الزنج ونهبوا وأسروا ابن المدبّر فخاف أهل
البصرة وافترق كثير منهم من البلدان. وبعث المعتمد سعيد بن صالح الحاجب
لحربهم سنة سبع وخمسين فهزمهم وأخذ ما معهم وأثخن فيهم وكان ابن المدبر
أسيرا عندهم في بيت يحيى بن محمد البحراني وقد ضمن لهم مالا كثيرا
ووكّل به رجلين فداخلهم حتى حفر سربا من البيت وخرج منه ولحق بأهله.
خلع المهتدي وقتله وبيعة المعتمد
وفي أوّل رجب من سنة ست وخمسين شعف الأتراك من الترك والدور بطلب
أرزاقهم وبعث المهتدي أخاه أبا القاسم ومعه كفقا [1] وغيره فسكّنوهم
وعادوا وبلغ محمد بن بغا أنّ المهتدي قال للأتراك أنّ الأموال عند محمد
وموسى ابني بغا، فهرب إلى أخيه بالسّند وهو في مقاتلة موسى الشاربي
فأمّنه المهتدي ورجع ومعه أخوه حنون وكيغلغ فكتب له المهتدي بالأمان
ورجع إلى أصحابه وحبسه وصادره على خمسة عشر ألف دينار، ثم قتله وبعث
بابكيال بكتابه إلى موسى بن بغا بأن يتسلّم العسكر وأوصاه بمحاربة
الشاربي [2] وقتل موسى بن بغا ومفلح، فقرأ الكتاب على موسى وتواطئوا
على أن يرجع بابكيال فيتدبر على قتل المهتدي، فرجع ومعه يارجوج
واساتكين [3] وسيما الطويل، ودخلوا دار الخلافة منتصف رجب فحبس بابكيال
من بينهم واجتمع أصحابه ومعهم الأتراك وشغبوا. وكان عند المهتدي صالح
بن عليّ بن يعقوب بن المنصور فأشار بقتله ومناجزتهم، فركب في المغاربة
والأتراك والفراغنة على التعبية. ومشى والبلخي [4] في الميمنة ويارجوج
في الميسرة ووقف هو في القلب ومعه أساتكين وغيره من القوّاد وبعث برأس
بابكيال إليهم مع عتّاب بن عتّاب، ولحق الأتراك من صفّه بإخوانهم
الأتراك وانقضّ الباقون على المهتدي وولّى منهزما ينادي بالناس ولا
يجيبه أحد وسار إلى السجن فأطلق المحبوسين ودخل دار أحمد بن جميل صاحب
الشرطة، وافتتحوا عليه وحملوه على بغل إلى الجوسق، وحبس عند أحمد
__________
[1] كيغلغ: ابن الأثير ج 7 ص 228.
[2] هو مساور الشاري وليس الشاربي.
[3] ياركوج واسارتكين: ابن الأثير ج 7 ص 229.
[4] هو مسرور البلخي.
(3/379)
ابن خاقان، وأرادوه على الخلع فأبى واستمات
فأخرجوا رقعة بخطّه لموسى بن بغا وبابكيال وجماعة القوّاد أنه لا يغدر
بهم ولا يقاتلهم ولا يهمّ بذلك، ومتى فعل شيئا من ذلك فقد جعل أمر
الخلافة بأيديهم يولّون من شاءوا فاستحلّوا بذلك أمره وقتلوه.
وقيل في سبب خلعه غير هذا وهو أنّ أهل الكرخ والدور من الأتراك طلبوا
الدخول على المهتدي ليكلّموه فأذن لهم وخرج محمد بن بغا إلى المحمديّة
ودخلوا في أربعة آلاف، فطلبوا أن يعزل عنهم قوّاده ويصادرهم وكتّابهم
على الأهواز، ويصير الأمر إلى إخوته فوعدهم بالإجابة وأصبحوا من الغد
يطلبون الوفاء بما وعدهم به، فاعتذر لهم بالعجز عن ذلك إلا بسياسة ورفق
فأبوا إلّا المعاجلة، فاستخلفهم على القيام معه في ذلك بإيمان البيعة
فحلفوا، ثم كتبوا إلى محمد بن بغا عن المهتدي وعنهم يعذلونه في غيبته
عن مجلسهم مع المهتدي، وأنهم إنما جاءوا بشكوى حالهم ووجدوا الدار
خالية فأقاموا ورجع محمد بن بغا فحبسوه في الأموال وكتبوا إلى موسى بن
بغا ومفلح بالقدوم وتسليم العسكر إلى من ذكروه لهم، وبعثوا من يقيدهما
إن لم يأتمرا ذلك. ولما قرئت الكتب على موسى وأصحابه امتنعوا لذلك
وساروا نحو سامرّا، وخرج المهتدي لقتالهم على التعبية وتردّدت الرسل
بينهم بطلب موسى أن يولّى على ناحية ينصرف إليها، ويطلب أصحاب المهتدي
أن يحضر عندهم فيناظرهم على الأموال إلى أن انفضّ عنهم أصحابه وسار هو
ومفلح على طريق خراسان، ورجع بابكيال وجماعة من القوّاد إلى المهتدي
فقتل بابكيال ثم أنف الأتراك من مساواة الفراغنة والمغاربة لهم وأرادوا
طردهم فأبى المهتدي ذلك، فخرج الأتراك عن الدار بأجمعهم طالبين ثأر
بابكيال فركب المهتدي على التعبية في ستة آلاف من الفراغنة والمغاربة
ونحو ألف من الأتراك أصحاب صالح بن وصيف، واجتمع الأتراك للحرب في عشرة
آلاف فانهزم المهتدي وكان ما ذكرناه من شأنه. ثم أحضر أبو العبّاس أحمد
بن المتوكل وكان محبوسا بالجوسق فبايعه الناس. وكتب الأتراك إلى موسى
بن بغا وهو غائب فحضر وكملت البيعة لأحمد بن المتوكل ولقب المعتمد على
الله، واستوزر عبيد الله بن خاقان فأصبح المهتدي ثانى يوم البيعة ميتا
منتصف رجب من سنة ست وخمسين على رأس سنة من ولايته. ولم يزل ابن خاقان
في وزارته إلى أن هلك سنة ثلاث وستين من سقطة بالميدان سال فيها دماغه
من منخريه، فاستوزر محمد بن مخلد، ثم سخط عليه موسى بن بغا واختلفا
فاستوزر مكانه سليمان بن وهب، ثم عزله وحبسه وولّى
(3/380)
الحسن ابن مخلد وغضب الموفّق لحبسه ابن وهب
وعسكر بالجانب الغربي وتردّدت الرسل بينهما فاتفقا وأطلقه وذلك سنة
أربع وستين.
ظهور العلوية بمصر والكوفة
وفي سنة ست وخمسين ظهر بمصر إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن
محمد بن الحنفية ويعرف بالصولي يدعو إلى الرضا من آل محمد وملك أشياء
من بلاد الصعيد.
وجاءه عسكر أحمد بن طولون من مصر فهزمهم وقتل قائدهم، فجاء جيش آخر
فانهزم أمامهم إلى أبو خات وجمع هنالك جموعا وسار إلى الأشمومين [1]
فلقيه هنالك أبو عبد الرحمن العمري وهو عبد الحميد بن عبد العزيز بن
عبد الله بن عمر كان قد أخذ نفسه بحرب البجاة وغزوا بلادهم لما كان
منهم في غزو بلاد المسلمين، فاشتدّ أمره في تلك الناحية وكثر اتباعه،
وبعث إليه ابن طولون عسكرا فقال لقائده أنا ألبث هناك لدفع الأذى عن
بلاد المسلمين، فشاور أحمد بن طولون فأبى القائد إلا من أجزته [2]
فهزمه العمريّ. ولما سمع ابن طولون خبره أنكر عليهم أن لا يكونوا
بذكره، فبقي على حاله من الغارة على البجاة حتى أدوا الجزية. فلما جاء
الصولي من الأشمونين لقيه العمري فهزمه، وعاد العمري إلى أسوان واشتدّ
عيثه، فبعث إليه ابن طولون العساكر فهرب إلى عيذاب وأجاز البحر إلى مكة
وافترق أصحابه، وقبض عليه والي مكة وبعث به إلى ابن طولون فحبسه مدّة
ثم أطلقه، فرجع إلى المدينة ومات بها.
وفي هذه السنة ظهر عليّ بن زيد، وجاءه الشاه بن ميكال من قبل المعتمد
في جيش كثيف فهزمه وأثخن في أصحابه. فسرّح المعتمد إلى حربه كيجور
التركي فخرج عليّ عن الكوفة إلى القادسية وملك كيجور الكوفة أوّل
شوّال، وأقام عليّ بن زيد ببلاد بني أسد. ثم غزا كيجور آخر ذي الحجة
فأوقع به وقتل وأسر من أصحابه ورجع إلى الكوفة، ثم إلى سرّ من رأى،
وبقي عليّ هنالك إلى أن بعث المعتمد سنة تسع [3]
__________
[1] الاشمونين: ابن الأثير ج 7 ص 263.
[2] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 264: «فاكتب إلى
الأمير أحمد عرّفه كيف حالي، فان أمرك بالانصراف فانصرف، وإلا فان أمرك
بغير ذلك كنت معذورا. فلم يجبه إلى ذلك، وقاتله فانهزم جيش ابن طولون»
.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 240: «فوجه اليه الخليفة
نفرا من القوّاد، فقتلوه بعكبرا في ربيع الأول سنة سبع وخمسين ومائتين»
.
(3/381)
عسكرا فقتلوه بعكبر وانقطع أمره وقيل سار
إلى صاحب الزنج فقتله سنه ستين وفي هذه السنة غلب الحسين بن زيد
الطالبي على الريّ وسار موسى بن بغا إليه.
بقية أخبار الزنج
قد تقدّم لنا أنّ المعتمد بعث سعيد بن صالح الحاجب لحربهم فأوقع بهم،
ثم عاودوه فأوقعوا به وقتلوا من أصحابه وأحرقوا عسكره، ورجع إلى سامرّا
فعقد المعتمد على حربهم لجعفر بن منصور الخيّاط فقطع عنهم ميرة السفن.
ثم سار إليهم في البحر فهزموه إلى البحرين، ثم بعث الخبيث عليّ بن أبان
من قوّاده إلى اربل [1] لقطع قنطرتها، فلقي إبراهيم بن سيما منصرفا من
فارس، فأوقع بهم إبراهيم وخرج عليّ بن أبان وسار إبراهيم إلى نهر جيّ
وأمر كاتبه شاهين بن بسطام باتباعه وجاء الخبر إلى علي ابن أبان بإقبال
شاهين فسار ولقيه وهزمه أشدّ من الأوّل، وانصرف إلى جيّ. وكان منصور بن
جعفر الخيّاط منذ انهزم في البحر، لم يعد لقتال الزنج واقتصر على حفر
الخنادق وإصلاح السفن، فزحف عليّ بن أبان لحصاره بالبصرة، وضيّق على
أهل البلد وأشرف على دخولها، وبعث لاحتشاد العرب، فوافاه منهم خلق
فدفعهم لقتال أهل البصرة وفرّقهم على نواحيها فقاتلهم كذلك يومين، ثم
افتتحها عليّ بن أبان منتصف شوّال وأفحش في القتل والتخريب، ورجع ثم
عاودهم ثانية وثالثة حتى طلبوا الأمان فأمّنهم وأحضرهم في بعض دور
الامارة فقتلهم أجمعين، وحرق عليّ ابن أبان الجامع ومواضع من البصرة
واتسع الحريق من الجبل إلى الجبل وعمّ النهب وأقام كذلك أياما، ثم نادى
بالأمان فلم يظهر أحد وانتهى الخبر إلى الخبيث فصرف عليّ بن أبان وولّى
عليها يحيى بن محمد البحراني.
مسير المولد لحربهم
لما دخل الزنج البصرة وخرّبوها، أمر المعتمد محمدا المعروف بالمولد
بالمسير إلى البصرة، وسار إلى الأبلّة، ثم نزل البصرة واجتمع إليه
أهلها، وأخرج الزنج عنها إلى نهر معقل، ثم بعث الخبيث قائده يحيى بن
محمد لحرب المولد فقاتله عشرة أيام
__________
[1] قنطرة أربك: ابن الأثير ج 7 ص 243.
(3/382)
ووطن المولد نفسه على المقام، وبعث الخبيث
إلى يحيى بن محمد أبا الليث الأصبهاني مددا وأمرهم بتبييت المولد،
فبيتوه وقاتلوه تلك الليلة والغد إلى المساء، ثم هزموه وغنم الزنج
عسكره واتبعه البحراني إلى الجامدة وأوقع بأهلها، ونهب تلك القرى أجمع
وعاث فيها ورجع إلى نهر معقل.
مقتل منصور الخياط
كان الزنج لما فرغوا من البصرة سار عليّ بن أبان إلى جيّ وعلى الأهواز
يومئذ منصور ابن جعفر الخياط قد ولّاه عليها المعتمد بعد مواقعته الزنج
بالبحرين، فسار إلى الأهواز ونزل جيّ وسار عليّ بن أبان قائد الزنج
لحربه. وجاء أبو الليث الأصبهاني في البحر مددا له وتقدّم إلى منصور من
غير أمر عليّ فظفر منصور وقتل الكثير ممن معه وأفلت منهزما إلى الخبيث.
ثم تواقع عليّ بن أبان مع منصور فهزمه واتبعه الزنج فحمل عليهم وألقى
نفسه في النهر ليعبر إليهم فغرق، وقيل تقدّم إليه بعض الزنج لما رآه
فقتله في الماء. ثم قتل أخوه خلف وغيره من العسكر وولّى يارجوج على عمل
منصور اصطيخور [1] من قوّاد الأتراك.
مسير الموفق لحرب الزنج
كان أبو أحمد الموفّق وهو أخو المعتمد بمكة، وكان المعتمد قد استقدمه
عند ما اشتدّ أمر الزنج وعقد له على الكوفة والحرمين وطريق مكة واليمن،
ثم عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز، وأمره
أن يعقد ليارجوج على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد بن
صالح. ولما انهزم سعيد بن سعيد بن صالح عقد يارجوج لمنصور بن جعفر
مكانه على البصرة وكور دجلة والأهواز ثم قتله كما قلناه فعقد المعتمد
لأخيه أبي أحمد الموفّق على مصر وقنّسرين والعواصم وخلع على مفلح، وذلك
في ربيع سنة ثمان وخمسين وسيّرهما لحرب الزنج فساروا في عدّة كاملة.
وخرج المعتمد يشيع أخاه وكان عليّ بن أبان بجيّ ويحيى بن محمد البحراني
بنهر العبّاس والخبيث في قلّة من الناس، وأصحابه متردّدون إلى البصرة
لنقل ما نهبوه. فلما نزل الموفق نهر معقل أجفل الزنج إلى صاحبهم
مرتاعين، فأمر عليّ بن أبان بالمسير إليهم ولقي مفلحا في مقدمة الموفق
فاقتتلوا وبينما هم يقتتلون إذ أصاب مفلحا
__________
[1] اصعجور: ابن الأثير ج 7 ص 254.
(3/383)
سهم غرب فقتل، وانهزم أصحابه وأسر الكثير
منهم. ثم رحل الموفق نحو الأبلّة ليجمع العساكر ونزل نهر أبي الأسد
ووقع الموتان في عسكره، فرجع إلى بادرود، وأقام لتجهيز الآلة وإزاحة
العلل وإصلاح السفن، ثم عاد إلى عسكر الخبيث فالتقوا واشتدّ الحرب
بينهم على نهر أبي الخصيب وقتل جماعة من الزنج، واستنقذ كثير من النساء
المسبيّات ورجع إلى عسكره ببادرود فوقع الحريق في عسكره، ورحل إلى واسط
وافترق أصحابه فرجع إلى سامرّا واستخلف على واسط.
مقتل البحراني قائد الزنج
كان اصطيخور لما ولي الأهواز بعد منصور الخياط بلغه مسير يحيى بن محمد
قائد الزنج إلى نهر العباس عند مسير الموفّق إليهم، فخرج إليه اصطيخور
فقاتله وعبر يحيى النهر وغنم سفن الميرة التي كانت عند اصطيخور، وبعث
طلائعه إلى دجلة فلقوا جيش الموفّق فرجعوا هاربين، وطلائع الموفّق في
اتباعهم وعبروا النهر منهزمين. وبقي يحيى فقاتل وانهزم ودخل في بعض
السفن جريحا وغنم [1] طلائع الموفّق غنائمهم والسفن وأحرقوا بعضها
وعبروا الماخورة على يحيى فأنزلوه من سفنهم خشية على أنفسهم، فسعى به
طبيب كان يداوي جراحة وقبض عليه وحمل إلى سامرّا وقطّع ثم قتل. ثم أنفذ
الخبيث عليّ بن أبان وسليمان بن موسى الشعراني من قوّاده إلى الأهواز،
وضم إليهما الجيش الّذي كان مع يحيى ومحمد البحراني وذلك سنة تسع
وخمسين فلقيهما اصطيخور بدستميسان [2] وانهزم أمامهما وغرق، وهلك من
أصحابه خلق وأسر الحسن بن هزيمة والحسن بن جعفر وغيرهما وحبسوا ودخل
الزنج الأهواز فأقاموا يفسدون في نواحيها ويغنمون إلى أن قدم موسى بن
بغا.
مسير ابن بغا لحرب الزنج
ولما ملك الزنج الأهواز سنة تسع وخمسين سرّح المعتمد لحربهم موسى بن
بغا وعقد له على الأعمال، فبعث إلى الأهواز عبد الرحمن بن مفلح وإلى
البصرة إسحاق بن كنداجق وإلى بادرود [3] إبراهيم بن سيما وأمرهم
بمحاربة الزنج. فسار عبد الرحمن إلى
__________
[1] الصحيح وغنمت طلائع الموفق.
[2] دشت ميسان: ابن الأثير ج 7 ص 259.
[3] باذاورد: ابن الأثير ج 7 ص 260.
(3/384)
عليّ بن أبان فهزمه أوّلا ثم كانت لعبد
الرحمن الكرّة ثانيا فأثخن فيهم، ورجعوا إلى الخبيث وجاء عبد الرحمن
إلى حصن نهدي [1] فعسكر به وزحف إليه عليّ بن أبان فامتنع عليه، فسار
إلى إبراهيم بن سيما ببادرود فواقعه فانهزم أوّلا إبراهيم، ثم كانت له
الكرّة ثانيا. وسار ابن أبان في الغياض فاضرموها عليهم نارا ففرّوا
هاربين وأسر منهم جماعة وسار عبد الرحمن إلى عليّ بن أبان وجاءه المدد
من الخبيث في البحر، فبينما عبد الرحمن في حربه إذ بعث عليّ جماعة من
خلفه وشعر بهم، فرجع القهقرى ولم يصب منهم شيء إلا بعض السفن البحريّة.
ثم راجع حرب عليّ بن أبان وفي مقدّمته طاشتمر فأوقعوا بعليّ بن أبان
ولحق بالخبيث صاحب الزنج، وأقام عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم يتناوبان
حرب الخبيث ويوقعان به، وإسحاق بن كنداجق بالبصرة يقطع عنه المدد، وهو
يبعث لكل منهما طائفة يقاتلونهم، وأقاموا على ذلك سبعة عشر شهرا إلى أن
صرف موسى بن بغا عن حربهم ووليها مسرور البلخي كما نذكر.
استيلاء الصفّار على فارس وطبرستان
قد تقدّم استيلاء يعقوب بن الليث الصفّار على فارس أيام المعتز من يد
عليّ بن الحسين بن مقبل. ثم عادت فارس إلى الخلفاء، ووليها الحرث بن
سيما، وكان بها من رجال العراق محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي فاتفق
مع أحمد بن الليث من الأكراد الذين بنواحيها ووثبوا بالحرث بن سيما
فقتلوه، واستولى ابن واصل على فارس سنة ست وخمسين، وقام بدعوة المعتمد
وبعث عليها المعتمد الحسن بن الفيّاض، فسار إليه يعقوب بن الليث سنة
سبع وخمسين، وبلغ ذلك المعتمد فكتب إليه بالنكير، وبعث إليه الموفّق
بولاية بلخ وطخارستان فملكهما وقبض على رتبيل، وبعث إلى المعتمد برسله
وهداياه. ثم رجع إلى بست، واعتزم على العود إلى سجستان فعجّل بعض
قوّاده الرحيل قبله، فغضب وأقام سنة ثم رجع إلى سجستان.
__________
[1] حصن مهدي: ابن الأثير ج 7 ص 260.
(3/385)
استيلاء الصفار على
خراسان وانقراض أمر بنى طاهر منها ثم استيلاؤه على طبرستان
ثم جاء إلى هراة وحاصر مدينة نيسابور حتى ملكها ثم سار إلى بوشنج وقبض
على الحسين بن علي بن طاهر بن الحسين، وبعث إليه محمد بن طاهر بن عبد
الله شافعا فيه فأبى من إطلاقه، ثم ولّى على هراة وبوشنج وباذغيس ورجع
إلى سجستان وكان بها عبد الله السخريّ [1] ينازعه. فلما قوي عليه يعقوب
فر منه إلى خراسان وحاصر محمد بن طاهر في نيسابور، ورجع إليه الفقهاء
فأصلحوا بينه وبين محمد، وولّاه الطبسين وقهستان، وأرسل يعقوب في طلبه
فأجاره محمد فسار يعقوب إليه بنيسابور فلم يطق لقاءه، ونزل يعقوب
بظاهرها، فبعث محمد بعمومته وأهل بيته فتلقوه. ثم خرج إليه فوبّخه على
التفريط في عمله وقبض عليه وعلى أهل بيته، ودخل نيسابور واستعمل عليها،
وأرسل إلى الخليفة بأن أهل خراسان استدعوه لتفريط ابن طاهر في أمره،
وغلبه العلويّ على طبرستان فبعث إليه المعتمد بالنكير والاقتصار على ما
بيده وإلا سلك به سبيل المخالفين وذلك سنة تسع وخمسين. وقيل في ملكه
نيسابور غير ذلك وهو أن محمد بن طاهر أصاب دولته العجز والإدبار، فكاتب
بعض قرابته يعقوب بن الصفّار واستدعوه، فكتب يعقوب إلى محمد بن طاهر
بمجيئه إلى ناحية موريا بقصد الحسن ابن زيد في طبرستان، وأن المعتمد
أمره بذلك، وأنه لا يعرض شيئا من أعمال خراسان. وبعث بعض قوّاده عينا
عليه يمنعه من البراح عن نيسابور، وجاء بعده وقدّم أخاه عمرا إلى محمد
بن طاهر فقبض عليه وعنّفه على الأعمال والعجز، وقبض على جميع أهل بيته
نحو من مائة وستين رجلا، وحملهم جميعا إلى سجستان واستولى على خراسان،
ووثب نوّابه في سائر أعمالها وذلك لإحدى عشرة سنة وشهرين من ولاية
محمد. ولما قبض يعقوب على ابن طاهر واستولى على خراسان هرب منازعة عبد
الله السخريّ إلى الحسن بن زيد صاحب طبرستان فبعث إليه فيه فأجاره،
وسار إلى يعقوب سنة ستين وحاربه فانهزم الحسن إلى أرض الديلم، وملك
يعقوب سارية وآمل ومضى في اثر الحسين من عسكره نحو من أربعين ألفا من
الرجل والظهر ونجا بعد مشقة شديدة، وكتب إلى المعتمد بذلك وكان عبد
الله السخري قد هرب بعد هزيمة الحسن
__________
[1] وفي نسخة اخرى: عبد الله السجزيّ. وكذلك ابن الأثير ج 7 ص 268.
(3/386)
العلويّ إلى الريّ، فسار يعقوب في طلبه،
وكتب إلى عامل الريّ يؤذنه بالحرب إن لم يدفعه إليه، فبعث به إليه
وقتله ورجع إلى سجستان.
استيلاء الحسن بن زيد على جرجان
ولما هرب الحسن بن زيد أمام مفلح من طبرستان، ورجع مفلح اعتزم الحسن
على الرجوع إلى جرجان، فبعث محمد بن طاهر إليها العساكر لحفظها فلم
يغنوا عنها، وجاء الحسن فملكها وضعف أمر ابن طاهر في خراسان، وانتقض
عليه كثير من أعمالها وظهر المتغلّبون في نواحيها وعاث السراة من
الخوارج في أعمالها ولم يقدر على دفعهم، وآل ذلك إلى تغلّب الصفّار على
ابن طاهر وانتزاع خراسان من يده كما ذكرنا [1] .
فتنة الموصل
كان المعتمد قد ولّى على الموصل أساتكين من قوّاد الأتراك فبعث عليها
هو ابنه اذكرتكين [2] وسار إليها في جمادى سنة تسع وخمسين، فأساء
السيرة وأظهر المنكر وعسف بالناس في طلب الخوارج، وتعرّض بعض الأيام
رجل من حاشيته إلى امرأة في الطريق وتخلّصها من يده بعض الصالحين،
فأحضره أذكوتكين وضربه ضربا شديدا، فاجتمع وجوه البلد وتآمروا في رفع
أمرهم إلى المعتمد، فركب إليهم ليوقع بهم فقاتلوه وأخرجوه واجتمعوا على
يحيى بن سليمان، وولّوه أمرهم، ولما كانت سنة إحدى وستين ولّى أستاكين
عليها الهيثم بن عبد الله بن العمد الثعلبي العدوي [3] وأمره أن يزحف
لحربهم ففعل، وقاتلوه أياما وكثرت القتلى بينهم، ورجع عنهم الهيثم
وولّى أستاكين مكانه إسحاق بن أيوب الثعلبي [4] جدّ بني حمدان وغيره،
__________
[1] بياض بالأصل وفي الطبري ج 11 ص 260: «وذكر أنه- أي يعقوب الليث-
كتب إلى السلطان كتابا يذكر فيه مسيره إلى الحسن بن زيد، وأنه سار من
جرجان إلى طحيس فافتتحها ثم سار إلى سارية، وقد أخرب الحسن بن زيد
القناطر ورفع المعابر وعور الطريق، وعسكر الحسن بن زيد على باب سارية
متحصنا بأودية عظام، وقد مالأه خرشاد بن جيلا وصاحب الديلم فزحف
باقتدار فيمن جمع اليه من الطبرية والديالمة والخراسانية والقمية
والجبلية والشامية والجزرية فهزمته وقتلت عدة لم يبلغها بعهدي عدة،
وأسرت سبعين من الطالبيين وذلك في رجب وسار الحسن بن زيد إلى الشرر
ومعه الديلم» .
[2] اذكوتكين: ابن الأثير ج 7 ص 269.
[3] الهيثم بن عبد الله بن المعمر التغلبي ثم العدوي: ابن الأثير ج 7 ص
270.
[4] التغلبي: المرجع السابق.
(3/387)
وحاصرها مدّة ومرض يحيى بن سليمان الأمير
وفي أثنائها، فطمع إسحاق في البلد وجدّ في الحصار، واقتحمها من بعض
الجهات فأخرجوه، وحملوا يحيى بن سليمان في قبّة وألقوه أمام الصفّ،
واشتدّ القتال ولم يزل إسحاق يراسلهم ويعدهم حسن السيرة إلى أن أجابوه
على أن يقيم بالربض فأقام أسبوعا، ثم حدثت ممن بايعه بعض الفعلات
فوثبوا به وأخرجوه، واستقرّ يحيى بن سليمان بالموصل.
حروب ابن واصل بفارس
قد تقدّم لنا وثوب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي بالحرث بن سيما
عامل فارس وتغلبه عليها سنة ست وخمسين، فلما بلغ ذلك إلى المعتمد أضاف
فارس إلى عبد الرحمن بن مفلح وبعثه إلى الأهواز وأمدّه بطاشتمر، وزحفوا
من الأهواز إلى ابن واصل سنة إحدى وستين، فسار معهم من فارس ومعه أبو
داود العلوس [1] ولقيهم برام هرمز فهزمهم وقتل طاشتمر وأسر ابن مفلح
وغنم عسكرهم. وبعث إليه المعتمد في إطلاق ابن مفلح فقتله خفية، وسار
لحرب موسى بن بغا بواسط، وانتهى إلى الأهواز وبها إبراهيم بن سيما في
جموع كثيرة. ولما رأى موسى بن بغا اضطراب هذه الناحية استعفى المعتمد
من ولايتها فأعفاه، وكان عند انصراف ابن مفلح عن الأهواز إلى فارس قد
ولّى مكانه بالساج وأمره بمحاربة الزنج، فبعث صهره عبد الرحمن لذلك،
فلقيه عليّ بن أبان قائد الزنج، فهزمه عليّ وقتله، وانحاز أبو الساج
إلى عسكر مكرم، وملك الزنج الأهواز فعاثوا فيها. ثم عزل أبو الساج عن
ذلك وولّى مكانه إبراهيم بن سيما فلم يزل بها حتى انصرف موسى بن بغا عن
الأعمال كلها، ولما هزم إبراهيم بن سيما بن واصل عبد الرحمن بن مفلح
وقتله طمع يعقوب الصفّار في ملك فارس، فسار من سجستان مجدّا، ورجع ابن
واصل من الأهواز وترك محاربة ابن سيما، وأرسل خاله أبا بلال مرداس إلى
الصفّار، وراجعه بالكتب والرسل بحبس ابن واصل رسله، ورحل بعد السير
ليفجأه [2] على بغتة، وشعر به الصفّار فقال لخاله مرداس: إنّ صاحبك قد
غدر بنا! وسار إليهم وقد أعيوا وتعبوا من شدّة السير ومات أكثرهم عطشا.
فلما تراءى الجمعان انهزم ابن واصل دون قتال، وغنم الصفّار ما في عسكره
وما كان لابن مفلح، واستولى على بلاد فارس ورتّب بها العمّال وأوقع
بأهل زمّ لأعانتهم ابن واصل، وطمع في الاستيلاء على الأهواز وغيرها.
__________
[1] ابو داود الصعلوك: ابن الأثير ج 7 ص 275.
[2] لعلها ليفاجئه.
(3/388)
مبدأ دولة بني سامان
وراء النهر
كان جدّهم أسد بن سامان من أهل خراسان وبيوتها وينتسبون في الفرس تارة
وإلى سامة بن لؤيّ بن غالب أخرى، وكان لأسد أربعة من الولد: نوح وأحمد
ويحيى وإلياس. وتقدّموا عند المأمون أيام ولايته خراسان واستعملهم،
ولما انصرف المأمون إلى العراق ولىّ على خراسان غسّان بن عبّاد من
قرابة الفضل بن سهل، فولّى نوحا منهم على سمرقند وأحمد على فرغانة
ويحيى على الشاش وأشروسنة وإلياس على هراة. فلما ولي طاهر بن الحسين
بعده أقرّهم على أعمالهم ثم مات نوح بن أسد فأقر إخوته يحيى وأحمد على
عمله، وكان حسن السيرة ومات إلياس بهراة، فولّى عبد الله ابن طاهر
مكانه ابنه أبا إسحاق محمد بن إلياس، وكان لأحمد بن أسد من البنين
سبعة: نصر ويعقوب ويحيى وإسماعيل وإسحاق وأسد وكنيته أبو الأشعث وحميد
وكنيته أبو غانم. فلما توفي أحمد استخلف ابنه نصرا على أعماله بسمرقند
وما إليها، وأقام إلى انقراض أيام بني طاهر وبعدهم، وكان يلي أعماله من
قبل ولاة خراسان إلى حين انقراض أيام بني طاهر. واستولى الصفّار على
خراسان فعقد المعتمد لنصر هذا على أعماله من قبله سنة إحدى وستين، ولما
ملك يعقوب الصفّار خراسان كما قلنا بعث نصر جيوشه إلى شطّ جيحون مسلحة
من الصفّار، فقتلوا مقدّمهم ورجعوا إلى بخارى، وخشيهم واليها على نفسه
ففرّ عنها، فولّوا عليهم ثم عزلوا ثم ولّوا ثم عزلوا، فبعث نصر أخاه
إسماعيل لضبط بخارى. ثم ولي خراسان بعد ذلك رافع بن هرثمة بدعوة بني
طاهر، وغلب الصفّار عليها، وحصلت بينه وبين إسماعيل صاحب بخارى موالاة
اتفقا فيها على التعاون والتعاضد، وطلب منه إسماعيل أعمال خوارزم،
فولّاه إيّاها، وفسد ما بين إسماعيل وأخيه نصر، وزحف نصر إليه سنة
اثنتين وسبعين، واستجاش إسماعيل برافع بن هرثمة فسار إليه بنفسه مددا،
ووصل إلى بخارى، ثم أوقع الصلح بينه وبين أخيه خوفا على نفسه، وانصرف
رافع ثم انتقض ما بينهما وتحاربا سنة خمس وسبعين، وظفر إسماعيل بنصر.
ولما حضر عنده ترجّل له إسماعيل وقبّل يده وردّه إلى كرسي إمارته
بسمرقند، وأقام نائبا عنه ببخارى، وكان إسماعيل خيرا مكرّما لأهل العلم
والدين.
(3/389)
مسير الموفق إلى
البصرة لحرب الزنج وولاية العهد
ولما استعفى موسى بن بغا من ولاية الناحية الشرقيّة عزم المعتمد على
تجهيز أخيه أبي أحمد الموفق، فجلس في دار العامّة وأحضر الناس على
طبقاتهم، وذلك في شوّال من سنة إحدى وستين وعقد لابنه جعفر العهد من
بعده، ولقّبه المفوّض إلى الله، وضمّ إليه موسى بن بغا وولّاه إفريقية
ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان ونهر تصدق، وعقد
لأخيه أبي أحمد العهد بعده ولقّبه الناصر لدين الله الموفّق، وولّاه
المشرق وبغداد وسواد الكوفة وطريق مكّة واليمن وكسكر وكور دجلة
والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والريّ وزنجان والسند. وعقد
لكل واحد منهما لواءين أبيض وأسود، وشرط أنه إن مات وجعفر لم يبلغ
بتقدّم الموفق عليه، ويكون هو بعده وأخذت البيعة بذلك على الناس، وعقد
جعفر لموسى بن بغا على أعمال العرب، واستوزر صاعد بن مخلد، ثم نكبه سنة
اثنتين وسبعين، واستصفاه واستكتب مكانه الصّفر إسماعيل بن بابل، وأمر
المعتمد أخاه الموفق بالمسير لحرب الزنج، فبعثه في مقدّمته واعتزم على
المسير بعده.
وقعة الصفار والموفق
لما كان يعقوب الصفّار ملك فارس من يد واصل وخراسان من يد ابن طاهر
وقبض عليه صرّح المعتمد بأنه لم يولّه ولا فعل ما فعل باذنه، وبعث ذلك
مع حاج خراسان وطبرستان. ثم سار إلى الأهواز يريد لقاء المعتمد، وذلك
سنة اثنتين وسبعين فأرسل إليه المعتمد إسماعيل بن إسحاق وفهواج [1] من
قوّاد الأتراك ليردّوه على ذلك وبعث معهما من كان في حبسه من أصحابه
الذين حبسوا عند ما قبض على محمد بن طاهر، وعاد إسماعيل من عند الصفّار
بعزمه على الموصل، فتأخر الموفق لذلك عن المسير لحرب الزنج. ووصل مع
إسماعيل من عند الصفّار حاجبه درهم يطلب ولاية طبرستان وخراسان وجرجان
والريّ وفارس، والشرطة ببغداد، فولاه المعتمد ذلك كله مضافا إلى ما
بيده من سجستان وكرمان، وأعاد حاجبه إليه بذلك ومعه عمر بن سيما فكتب
يقول: لا بدّ من الحضور بباب المعتمد. وارتحل من عسكر مكرم حاما وسار
إليه أبو
__________
[1] بفراج: ابن الأثير ج 7 ص 290.
(3/390)
الساج من الأهواز لدخوله تحت ولايته،
فأكرمه ووصله وسار إلى بغداد. ونهض المعتمد من بغداد فعسكر
بالزعفرانيّة وأخاه مسرور البلخي، فقاتله منتصف رجب وانهزمت ميسرة
الموفّق، وقتل فيها إبراهيم بن سيما وغيره من القوّاد. ثم تراجعوا
واشتدّت الحرب وجاء إلى الموفق محمد بن أوس والدارانيّ مددا من
المعتمد، وفشل أصحاب الصفّار لمّا رأوا مدد الخليفة فانهزموا، وخرج
الصفّار وأتبعهم أصحاب الموفق وغنموا من عسكره نحوا من عشرة آلاف من
الظهر، ومن الأموال ما يؤد حمله. وكان محمد بن طاهر معتقلا معه في
العسكر منذ قبض عليه بخراسان، فتخلّص ذلك اليوم وجاء إلى الموفّق وخلع
عليه وولّاه الشرطة ببغداد، وسار الصفّار إلى خوزستان فنزل جنديسابور،
وأرسله صاحب الزنج يحثّه على الرجوع ويعده المساعدة، فكتب إليه: قُلْ
يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ 109: 1- 2
(السورة) . وكان ابن واصل قد خالف الصفّار إلى فارس وملكها، فكتب إليه
المعتمد بولايتها، وبعث الصفّار إليه جيشا مع عمر بن السري من قوّاده،
فأخرجه عنها وولّى على الأهواز محمد بن عبد الله بن طاهر. ثم رجع
المعتمد إلى سامرّا والموفّق إلى واسط واعتزم الموفّق على اتباع
الصفّار، فقعد به المرض عن ذلك، وعاد إلى بغداد ومعه مسرور البلخيّ سار
بعد موسى وأقطعه ما لأبي الساج من الضياع والمنازل، وقدم معه محمد بن
طاهر فقام بولاية الشرطة ببغداد.
سياقة أخبار الزنج
قد ذكر أنّ مسرورا البلخي سار بعد موسى بن بغا لحرب الزنج، ثم سار
مسرور للقاء المعتمد وحضر الموفق حرب الصفّار، وبلغ صاحب الزنج جاءوا
تلك النواحي من العساكر، فبعث سراياه فيها للنهب والحرق والتخريب في
بعث سليمان بن جامع إلى البطيحة، وسليمان بن موسى إلى القادسية. وجاء
أبو التركي في السفن يريد عسكر الزنج، فأخذ عليه سليمان بن موسى وقاتله
شهرا حتى تخلّص وانحاز إلى سليمان بن جامع، وبعث إليهما الخبيث بالمدد،
وكان مسرور قد بعث قبل مسيره من واسط جندا في البحر إلى سليمان فهزمهم
وأوقع بهم وقتل أسراهم، ونزل بقرّة مروان قريبا من يعقوب متحصّنا
بالغياض والأغوار. وزحف إليه قائدان من بغداد وهما أغرتمش وحشيش في
العساكر برّا وبحرا وأمر سليمان أصحابه بالاختفاء في تلك
(3/391)
الغياض حتى يسمعوا أصوات الطبول. وأقبل
أغرتمش ونهض شرذمة من الزنج فواقعوا أصحابه وشاغلوهم، وسار سليمان من
خلفهم وضرب طبوله وعبروا إليهم في الماء، فانهزم أصحاب أغرتمش وظهر ما
كان مختفيا، وقتل حشيش، واتبعوهم إلى العسكر وغنموا منه، وأخذوا من
القطع البحرية، ثم استردّها أغرتمش من أيديهم، وعاد سليمان ظافرا وبعث
برأس حشيش إلى الخبيث صاحبه، فبعث به إلى عليّ بن أبان في نواحي
الأهواز. وكان مسرور البلخي قد بعث إلى كور الأهواز أحمد بن كيتونة،
فنزل السوس وكان صاحب الأهواز من قبل الصفّار يكاتب صاحب الزنج
ويداريه، ويطلب له الولاية عنه، فشرط عليه أن يكون خليفة لابن أبان،
واجتمعا بتستر. ولما رأى أحمد تظافرهما رجع إلى السوس، وكان علي بن
أبان يروم خطبة محمد له بعمله، فلما اجتمعا بتستر خطب للمعتضد والصفّار
ولم يذكر الخبيث، فغضب عليّ وسار إلى الأهواز. وجاء أحمد بن كيتونة إلى
تستر، فأوقع بمحمد بن عبد الله وتحصّن منه بتستر. وأقبل علي بن أبان
إليه فاقتتلا واشتدّ القتال بينهما، وانهزم علي بن أبان وقتل جماعة من
أصحابه، ونجا بنفسه جريحا في الساريات بالنهر، وعاد إلى الأهواز. وسار
منها إلى عسكر الخبيث، واستخلف على عسكره بالأهواز حتى داوى جراحة
ورجع. ثم بعث أخاه الخليل إلى أحمد بن كيتونة بعسكر مكرم فقاتله، وقد
أكمن لهم فانهزموا، وقتل من الزنج خلق ورجع المنهزمون إلى علي بن أبان،
وبعث مسلحة إلى السرقان فاعترضهم جيش من أعيان فارس أصحاب أحمد بن
كيتونة، وقتلهم الزنج جميعا فحظي عنده بذلك وبعث في أثر إبراهيم من
قتله في سرخس. ولما أراد الصفّار العود إلى سجستان ولّى على نيسابور
عزيز بن السري، وعلى هراة أخاه عمرو بن الليث، فاستخلف عمر وعليها طاهر
بن حفص الباذغيسي وسار إلى سجستان سنة إحدى وستين، فجاء الخبيث إلى
أخيه عليّ وزيّن له أن يقيم نائبا عنه في أموره بخراسان، وطلب ذلك من
أخيه يعقوب فأذن له. ولما ارتحلوا جمع جمعا وحارب عليّا فأخرجه من
بلده. ثم غلب عزيز بن السري على نيسابور وملكها أوّل اثنتين وستين،
وقام بدعوة بني طاهر. واستقدم رافع بن هرثمة من رجالاتهم فجعله صاحب
جيشه، وكتب إلى يعمر بن سركب وهو يحاصر بلخ يستقدمه، فلم يثق إليه،
وسار إلى هراة فملكها من يد طاهر بن حفص، وقتله وزحف إليه أحمد وكانت
بينهما مواساة، ثم داخل بعض قوّاد أحمد الخجستاني في
(3/392)
الغدر بيعمر على أن يمكنه من أخيه أبي
طلحة، فكلف ذلك القائد به فتمّ ذلك، وكبسهم أحمد وقبض على يعمر وبعثه
إلى نائبة بنيسابور فقتله، وقتل أبا طلحة القائد الّذي غدر بأخيه. وسار
إلى نيسابور في جماعة، فلقي بها الحسين بن طاهر مردودا من أصبهان طمعا
أن يدعو له أحمد الخجستاني كما كان يزعم حين أورد فلم يخطب، فخطب له
أبو طلحة وأقام معه بنيسابور، فسار إليهما الخجستاني من هراة في اثني
عشر ألفا، وقدم أخاه العبّاس فخرج إليه أبو طلحة وهزمه، فرجع أحمد إلى
هراة ولم يقف على خبر أخيه، وانتدب رافع وهرثمة إلى استعلام خبره
واستأمن إلى أبي طلحة فأمّنه ووثق إليه، وبعث رافع إلى أحمد بخبر أخيه
العبّاس، ثم أنفذه طاهر إلى بيهق لجباية مالها، وضمّ معه قائدين لذلك،
فجبى المال وقبض على القائدين وانتقض. وسار إلى الخجستاني ونزل في
طريقه بقرية وبها عليّ بن يحي الخارجيّ، فنزل ناحية عنه، وركب ابن طاهر
في أتباعه فأدركه بتلك القرية، فأوقع بالخارجيّ يظنّه رافعا ونجا رافع
إلى الخجستاني. وبعث ابن طاهر إسحاق الشاربي إلى جرجان لمحاربة الحسن
بن زيد والديلم منتصف ثلاث وستين فأثخن في الديلم ثم انتقض على ابن
طاهر، فسار إليه وكبسه إسحاق في طريقه فانهزم إلى نيسابور، واستضعفه
أهلها فأخرجوه، فأقام على فرسخ منها وجمع جمعا وحاربهم، ثم كتب على أهل
نيسابور إلى إسحاق باستدعائه ومساعدته على ابن طاهر وأبي طلحة، وكتب
إلى أهل نيسابور عن إسحاق بالمواعدة. وسار إسحاق أبو محمد في قلّة من
الجند، فاعترضه أبو طلحة وقتله وحاصر نيسابور، فاستقدموا الخجستاني من
هراة وأدخلوه. وسار أبو طلحة إلى الحسن بن زيد مستنجدا فأنجده ولم
يظفر، وعاد إلى بلخ وحاصرها سنة خمس وستين، وخرج للخجستاني من نيسابور
به، وحاربه الحسن بن زيد لما عدته أبا طلحة. وجاء أهل جرجان مددا
للحسن، فهزمهم الخجستاني وأغرمهم أربعة آلاف ألف درهم. ثم جاء عمرو بن
الليث إلى هراة بعد وفاة أخيه يعقوب الصفّار وعاد الخجستاني من جرجان
إلى نيسابور، وسار إليه عمرو من هراة فاقتتلا وانهزم عمرو ورجع إلى
هراة، وأقام أحمد بنيسابور. وكانت الفقهاء بنيسابور يميلون إلى عمرو
لتولية السلطان إياه، فأوقع الخجستاني بينهم الفتنة ليشغلهم بها، ثم
سار إلى هراة سنة سبع وستين وحاصر عمرو بن الليث فلم يظفر منه بشيء،
فسار نحو سجستان وترك نائبة بنيسابور، فأساء السيرة وقوي أهل الفساد،
فوثب به أهل نيسابور
(3/393)
واستعانوا بعمرو بن الليث وبعث إليهم جندا
يقبض على نائب الخجستاني وأقاموا بها، ورجع من سجستان فأخرجهم وملكها،
وأقام إلى تمام سبع وستين، وكاتب عمرو أبا طلحة وهو يحاصر بلخ فقدم
عليه وأعطاه أموالا واستخلفه بخراسان، وسار إلى سجستان، وسار أحمد إلى
سرخس ولقيه أبو طلحة فهزمه أحمد ولحق بسجستان، وأقام أحمد بطخارستان.
ثم جاء أبو طلحة إلى نيسابور فقبض على أهل الخجستاني وعياله، وجاء أحمد
من طخارستان إلى نيسابور وأقام بها. ثم تبين لابن طاهر أنّ الخجستاني
إنما يروم لنفسه وليس على ما يدّعيه من القيام بأمرهم وكان على خوارزم
أحمد بن محمد بن طاهر فبعث قائده أبا العبّاس النوفلي إلى نيسابور في
خمسة آلاف مقاتل، وخرج أحمد أمامهم وأقام قريبا منهم وأفحش النوفليّ في
القتل والضرب والتشويه، وبعث إليه الخجستاني فنهاه عن مثل ذلك فضرب
الرسل، فلحق أهل نيسابور بالخجستاني واستدعوه وجاءوا به وقبض على
النوفليّ وقتله. ثم بلغه أنّ إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله بن
طاهر بمرو، فسار إليه من أسورد في يوم وليلة وقبض عليه وولّى عليها
موسى البلخيّ، ثم وافاها الحسين بن طاهر فأحسن فيهم السيرة ووصل إليه
نحو عشرين ألف درهم، وكان الخجستاني لما بلغه أخذ والدته من نيسابور
وهو بطخارستان سار مجدّا، فلما بلغ هراة أتاه غلام لأبي طلحة مستأمنا
فأمّنه وقرّبه، فغص به وغلامه الخالصة عنده والجنود، وطلب الفرصة في
قتل الخجستاني، وكان قد غور ساقية قطلغ، فاتفقا على قتله فقتلاه في
شوّال سنة ثمان وستين. وأنفذ دامجور خاتمه إلى الإسطبل مع جماعة فركبوا
الدواب وساروا بالخبر إلى أبي طلحة ليستقدموه، وأبطأ ظهوره على القوّاد
فدخلوا فوجدوه قتيلا، وأخبرهم صاحب الإسطبل بخبر الخاتم والدواب،
وطلبوا دامجور فلم يجدوه، ثم عثروا عليه بعد أيام فقتلوه، واجتمعوا على
رافع بن هرثمة وكان من خبره ما نذكره.
استيلاء الصفّار على الأهواز
ثم سار يعقوب الصفّار من فارس إلى الأهواز وأحمد بن كيتونة قائد مسرور
البلخيّ على الأهواز مقيم على تستر فرحل عنها ونزل يعقوب جنديسابور،
ففرّ كل من كان في تلك النواحي من عساكر السلطان، وبعث إلى الأهواز من
أصحابه الخضر بن
(3/394)
المعير [1] ، فأفرج عنها عليّ بن أبان
والزنج ونزلوا السّدرة ودخل خضر الأهواز، وأقام أصحاب الخضر وابن أبان
يغير بعضهم على بعض. ثم فرّ ابن أبان وسار إلى الأهواز فأوقع بالخضر
وفتك في أصحابه وغنم، ولحق الخضر بعسكر مكرم، واستخرج ابن أبان ما كان
بالأهواز ورجع إلى نهر السّدرة. وبعث يعقوب إلى الخضر مددا وأمره
بالكفّ عن قتال الزنج والمقام بالأهواز، فأبى ابن أبان من ذلك إلا أن
ينقل طعاما ما كان هناك فنقله وتوادعوا.
استيلاء الزنج على واسط
قد تقدّم لنا واقعة أغرتمش مع سليمان بن جامع، وظفر سليمان به فلما
انقضى أمره سار سليمان إلى صاحب الخبيث ومرّ في طريقه بعسكر تكين
البخاريّ وهو ببردود [2] ، فلما حاذاه قريبا أشار عليه الجناني [3] أن
يغير على العسكر في البحر ويستطرد لهم لينتهزوا منهم الفرصة ففعل وجاء
مستطردا وقد أكمنوا لهم الكمناء حتى أجازوا موضع الكمائن. وركب سليمان
إليهم وعطف الجناني على من في النهر وخرجت الكمائن من خلفهم فأثخنوا
فيهم إلى معسكرهم، ثم بيّتوهم ليلا فنالوا منهم، وانكشف سليمان قليلا،
ثم عبر أصحابه وأتاهم من وجوه عديدة برّا وبحرا، فانهزم تكين وغنم
الزنج عسكره. ثم استخلف سليمان على عسكره الجناني وسار إلى صاحب الخبيث
سنة ثلاث وستين. ومضى الجناني بالعسكر لطلب الميرة فاعترضه جعلان من
قوّاد السلطان وهزمه وأخذ سيفه [4] . ثم زحف منجور ومحمد بن علي بن
حبيب من القوّاد وبلغ الحجّاجيّة فرجع سليمان مجدّا إلى طهثا يريد
جعلان وفي مقدمته الجنانيّ. ثم كرّ إلى ابن خبيث فهزمه وقتل أخاه وغنم
ما معه. ثم سار في شعبان إلى قرية حسّان فأوقع بالقائد هناك جيش ابن
خمار تكين وهزمه ونهب القرية وأحرقها. ثم بعث العساكر في الجهات للنهب
برّا وبحرا، واعترض جعلان بعضهم فأوقع بهم، ثم سار سليمان إلى الرّصافة
فأوقع بالقائد بها واستباحها وغنم ما فيها ورجع إلى منزله بمدينة
الخبيث، وجاء مطر إلى الحجّاجيّة فعاث فيها وأسر جماعة منها كان منهم
القاضي سليمان، فحمله إلى
__________
[1] الخضر بن العنبر: ابن الأثير ج 7 ص 308.
[2] بيزود: ابن الأثير ج 7 ص 313.
[3] الحياتي: المرجع السابق.
[4] سفنه: ابن الأثير ج 7 ص 314.
(3/395)
واسط [1] . ثم سار إلى طهثا وكتب الجناني
بذلك إلى سليمان فوافاه لاثنتين من ذي الحجّة، وجاء أحمد بن كيتونة بعد
أن كان سار إلى الكوفة وجبيل [2] ، فعاد إلى البريدية [3] وصرف جعلان
وضبط تلك الأعمال، وأوقع تكين بسليمان وقتل جماعة من قوّاده. ثم ولّى
الموفّق على مدينة واسط محمد بن الوليد وجاءه في العساكر واستمدّ
سليمان صاحبه بالخليل بن أبان في ألف وخمسمائة مقاتل، فزحف إلى ابن
المولّد وهزمه واقتحم واسط بها منكجور البخاري فقاتله عامة يومه، ثم
قتل ونهب البلد وأحرقها وانصرف سليمان إلى جبيل واستدعوه في نواحيها
تسعين ليلة.
استيلاء ابن طولون على الشام
كان على دمشق أيام المعتمد ماجور [4] من قوّاد الأتراك، فتوفي سنة أربع
وستين وقام ابنه عليّ مكانه. وتجهّز أحمد بن طولون من مصر إلى دمشق
وكتب إلى ابن ماجور بأنّ المعتمد أقطعه الشام والثغور، فأجاب بالطاعة،
وسار أحمد واستخلف على مصر ابنه العبّاس ولقيه ابن ماجور بالرملة
فولّاه عليها، وسار إلى دمشق فملكها وأقرّ القوّاد على أقطاعهم. ثم سار
إلى حمص فملكها ثم حماة ثم حلب، وكان على أنطاكية وطرسوس سيما الطويل
من قوّاد الأتراك، فبعث إليه ابن طولون بالطاعة وأن يقرّه على ولايته
فامتنع، فسار إليه ودلّوه على عورة في سور البلد نصب عليها المجانيق،
وقاتله فملكها عنوة وقتل سيما في الحرب، فسار ثم قصد طرسوس فدخلها
واعتزم على المقام بها ويريد الغزو. وشكا أهلها غلاء السعر وسألوه
الرحيل فرحل عنهم إلى الشام، ومضى إلى حرّان وبها محمد بن أتامش فحاربه
وهزمه، واستولى عليها. ثم جاءه الخبر بانتقاض ابنه العبّاس بمصر وأنه
أخذ الأموال وسار إلى برقة فلم يكترث لذلك، وأصلح أحوال الشام وأنزل
بحرّان عسكرا، وولّى مولاه لؤلؤا على الرقّة وأنزل معه عسكرا، وبلغ
موسى بن أتامش خبر أخيه محمد فجمع العساكر وسار نحو
__________
[1] «وأسر جماعة وكان بها قاض لسليمان فأسره مطر وحمله إلى واسط»
المرجع السابق ص 315.
[2] جنبلاء: المرجع السابق.
[3] الشديدية: المرجع السابق.
[4] أماجور: ابن الأثير ج 7 ص 316.
(3/396)
جرجان [1] وبها أحمد بن جيفونة [2] من
قوّاد ابن طولون فأهمل مسيره وقال له بعض الأعراب واسمه أبو الأعز [3]
: لا يهمك أمره فإنه طيّاش قلق وأنا آتيك به! فقال:
افعل وزاده عشرين رجلا، وسار إلى عسكر موسى بن أتامش، فأكمن بعض أصحابه
ودخل العسكر بالباقي على زيّ الأعراب وقصد الخيل المرتبطة عند خيام ابن
موسى فأطلقها وصاحوا فيها فنفرت واهتاج العسكر وركبوا واستطرد لهم أبو
الأعز حتى جاوز الكمين وموسى في أوائلهم، فخرج الكمين وانهزم أصحاب
موسى من ورائه، وعطف عليه أبو الأعز فأخذه أسيرا وجاء به إلى ابن
جيفونة، وبعث به إلى ابن طولون فاعتقله وعاد إلى مصر وذلك سنة ست
وستين.
(ومن أخبار الزنج) أنّ سليمان احتفر نهرا يمرّ إلى سواد الكوفة ليتهيأ
له الغارة على تلك النواحي وكان أحمد بن كيتونة [4] فكبسهم وهم يعلمون،
وقد جمّروا عساكرهم لذلك فأوقع بهم وقتل منهم نحوا من أربعين قائدا
وأحرق سفنهم، ورجع سليمان مهزوما إلى طهتا. ثم عدّت عساكر الزنج
النعمانيّة واستباحوها وصار أهلها الى جرجرايا وأحفل أهل السواد إلى
بغداد، وزحف عليّ بن أبان بعسكر الزنج إلى تستر فحاصرها وأشرف على
أخذها. وكان الموفّق استعمل على كور الأهواز مسرورا البلخيّ فولّى
عليها تكين البخاريّ فسار إليها ووافاها أهل تستر في تلك الحال فأغزى
عليّ ابن أبان وهزمه وقتل من الزنج خلقا ونزل تستر. وبعث ابن أبان
جماعة من قوّاد الزنج ليقيموا بقنطرة فارس، وجاء عين بخبرهم إلى تكين
فكبسهم وهزمهم وقتل منهم جماعة. وسار ابن أبان فانهزم أمامه، وكتب ابن
أبان إلى تكين يسأله الموادعة فوادعه بعض الشيء واتهمه مسرور فسار وقبض
عليه وحبسه عند عجلان بن أبان، وفرّ منه أصحابه وطائفة إلى الزنج
وطائفة إلى محمد بن عبد الله الكرخيّ ثم أمّن الباقين فرجعوا إليه.
موت يعقوب الصفار وولاية عمر وأخيه
وفي سنة خمس وستين أخريات شوّال منها مات يعقوب الصفّار وقد كان افتتح
__________
[1] حسب مقتضى السياق ينبغي ان تكون حرّان، راجع ابن الأثير ج 7 ص 318.
[2] احمد بن جيعويه: المرجع السابق.
[3] ابو الأغر: المرجع السابق.
[4] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 322: «أحمد بن ليثويه، وهو عامل
الموفّق بجنبلاء» .
(3/397)
الرحج [1] وقتل ملكها وأسلم أهلها على يده،
وكانت مملكة واسعة الحدود وافتتح زابلستان وهي غزنة، وكان المعتمد قد
استماله وقلّده أعمال فارس، ولما مات قام أخوه عمرو بن الليث وكتب إلى
المعتمد بطاعته، فولاه الموفّق من قبله ما كان له من الأعمال، خراسان
وأصبهان والسّند وسجستان والشرطة ببغداد وسرمن رأى وقبله عبيد الله بن
عبد الله بن طاهر، وخلع الموفّق عمرو بن الليث وولّى على أصبهان من
قبله أحمد بن عبد العزيز.
أخبار الزنج مع أغرتمش
قد كان تقدّم لنا إيقاع سليمان بن جامع بأغرتمش وحربه بعد ذلك مع تكين
وجعلان ومطر ابن جامع وأحمد بن كيتونة واستيلاؤه على مدينة واسط، ثم
ولي أغرتمش مكان تكين البخاري ما يتولاه من أعمال الأهواز فدخل تستر في
رمضان ومعه مطر بن جامع، وقتل جماعة من أصحاب أبان كانوا مأسورين بها.
ثم سار إلى عسكر مكرم، ووافاه هناك عليّ ابن أبان والزنج، فاقتتلوا ثم
تجازوا لكثرة الزنج، ورجع عليّ إلى الأهواز وسار أغرتمش إلى الخليل بن
أبان ليعبروا إليه من قنطرة اربل [2] وجاءه أخوه عليّ وخاف أصحابه
المخلّفون بالأهواز، فارتحلوا إلى نهر السروة [3] وتحارب عليّ وأغرتمش
يوما ثم رجع عليّ إلى الأهواز ولم يجد أصحابه، فبعث من يردّهم إليه فلم
يرجعوا. وجاء أغرتمش وقتل مطر بن جامع في عدّة من القوّاد.
وجاء المدد لابن أبان من صاحبه الخبيث فوادعه أغرتمش وتركه. ثم بعث
محمد بن عبيد الله إلى أبكلاى [4] ابن الخبيث في أن يرفع عنه يد ابن
أبان فزاد ذلك في غيظه، وبعث يطالبه محمد بالخراج ودافعه فسار إليه،
وهرب محمد من رامهرمز إلى أقصى معاقلة، ودخل عليّ والزنج رامهرمز
وغنموا ما فيها. ثم صالحه محمد على مائتي ألف درهم، وترك أعماله. ثم
استنجده محمد بن عبيد الله على الأكراد على أنّ لعليّ غنائمهم، فاستخلف
عليّ على ذلك مجلز وطلب منه الرهن فمطل وبعث إليه الجيش فزحف بهم إلى
الأكراد. فلما نشب القتال انهزم أصحاب محمد فانهزم الزنج
__________
[1] الرخّج كما في الكامل لابن الأثير ج 7 ص 326.
[2] قنطرة أربك: ابن الأثير ج 7 ص 329.
[3] نهر السدرة: المرجع السابق.
[4] انكلاي: المرجع السابق.
(3/398)
وأثخن الأكراد فيهم، وبعث عليّ من يعترضهم
فاستلبوهم وكتب عليّ إلى محمد يتهدّده فاعتذر وردّ عليهم كثيرا من
أسلابهم، وخشي من الخبيث وبعث إلى أصحابه مالا ليسألوه في الرضا عنه،
فأجابهم إلى ذلك على أن يقيم دعوته في أعماله ففعل كذلك. ثم سار ابن
أبان لحصار موتة [1] واستكثر من آلات الحصار، وعلم بذلك مسرور البلخي
وهو بكور الأهواز، فسار إليه ووافاه عليها، فانهزم ابن أبان وترك ما
كان حمله هناك، وقتل من الزنج خلق وجاء الخبر بمسير الموفّق إليهم.
استرجاع ابن الموفق ما غلب عليه الزنج من
أعمال دجلة
لما دخل الزنج واسط وعاثوا فيها كما ذكرناه بعث الموفّق ابنه أبا
العبّاس، وهو الّذي وليّ الخلافة بعد المعتمد ولقّب المعتضد، فبعثه
أبوه بين يديه في ربيع سنة ست وستين في عشرة آلاف من الخيل والرجال.
وركب لتشييعه وبعث معه السفن في النهر عليها أبو حمزة نصر، فسار حتى
وافى الخيل والرجل والسفن النهرية، وعلى مقدّمته الجناني [2] وانهم
نزلوا الجزيرة قريبا من بردرويا، وجاءهم سليمان بن موسى الشعراني مددا
بمثل ذلك وأنّ الزنج اختلفوا في الاحتشاد، ونزلوا من السفح إلى أسفل
واسط ينتهزون الفرصة في ابن الموفّق لما يظنون من قلّة دراسيته بالحرب،
فركب أبو العباس لاستعلام أمرهم ووافى نصيرا، فلقيهم جماعة من الزنج
فاستطرد لهم أوّلا، ثم كرّ في وجوههم وصاح بنصير فرجع، وركب أبو
العبّاس السفن النهرية فهزم الزنج وأثخن فيهم واتبعهم ستة فراسخ، وغنم
من سعيهم وكان ذلك أوّل الفتح. ورجع سليمان بن جامع إلى نهر الأمين [3]
وسليمان بن موسى الشعراني إلى سوق الخميس، وأبو العبّاس على فرسخ من
واسط يغاديهم القتال ويراوحهم. ثم احتشد سليمان وجاء من ثلاثة وجوه،
وركب في السفن النهرية وبرز إليه نصير في سفنه، وركب معه أبو العبّاس
في خاصّته، وأمر الجند بمحاذاته من الشطّ، ونشب الحرب فوقعت الهزيمة
على الزنج وغنمت سفنهم، وأفلت سليمان والجناني من
__________
[1] مثّوث: المرجع السابق.
[2] الجناتي وقد مر ذكره من قبل.
[3] نهر الأمير: ابن الأثير ج 7 ص 339.
(3/399)
الهلكة، وبلغوا طهتا، ورجع أبو العبّاس إلى
معسكره وأمر بإصلاح السفن المغنومة، وحفر الزنج في طريق الجبل الآبار
وغطوها، فوقع بعض الفرسان فيها، فعدل جند السلطان عن ذلك الطريق. وأمر
الخبيث أصحابه بالسفن في النهر وأغاروا على سفن أبي العبّاس وغنموا
بعضها، وركب في اتباعهم واستنقذ سفنهم وغنم من سفنهم نحوا من ثلاثين،
وجدّ في قتالهم وتحصّن ابن جامع بطهتا، وسمّى مدينته المنصورة.
والشعراني بسوق الخميس وسمّى مدينته المنيعة. وكان أبو العبّاس يغير
على الميرة التي تأتيهم من سائر النواحي، وركب في بعض الأيام إلى مدينة
الشعراني التي سمّاها المنيعة، وركب نصير في النهر، وافترقوا في مسيرهم
واعترضت أبا العبّاس جماعة من الزنج فمنعوه من طريق المدينة وقاتلوه
مقدار نهاره، وأشاعوا قتل نصير، وخالفهم نصير إلى المدينة فأثخن فيها
وأضرموا النار في بيوتها. وجاء الخبر بذلك إلى أبي العبّاس بسبرة. ثم
جاء نصير ومعه أسرى كثيرون فقاتلوا الزنج وهزموهم، ورجع أبو العبّاس
إلى عسكره وبعث الخبيث إلى ابن أبان وابن جامع فأمرهما بالاجتماع على
حرب أبي العبّاس.
وصول الموفق لحرب الزنج وفتح المنيعة
والمنصورة
كان الموفّق لما بعث ابنه أبا العبّاس لحرب الزنج تأخر لإمداده بالحشود
والعدد وإزاحة علله ومسارقة أحواله، فلما بلغه اجتماع ابن أبان وابن
جامع لحربه سار من بغداد إليه فوصل إلى واسط في ربيع الأوّل من سنة سبع
وستين، ولقيه ابنه وأخبره بالأحوال، ورجع إلى عسكره. ونزل الموفّق على
نهر شدّاد ونزل ابنه شرقي دجلة على موهة بن مساور [1] فأقام يومين ثم
رحل إلى المنيعة بسوق الخميس، سار إليها في النهر ونادى بالمقامة،
ولقيه الزنج فحاربوه، ثم جاء الموفّق فانهزموا واتبعهم أصحاب أبي
العبّاس فاقتحموا عليهم المنيعة وقتلوا خلقا وأسروا آخرين، وهرب
الشعراني، واختفى في الآجام آخرون. ورجع الموفّق إلى عسكره وقد استنقذ
من المسلمات نحو خمس عشرة امرأة [2] ، ثم غدا على المنيعة فأمر بنهبها
وهدم سورها وطم خندقها وإحراق ما بقي من
__________
[1] هكذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 344: «وامر ابنه ان
يسير بما معه من آلات الحرب الى فوهه نهر مساور» .
[2] وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 344: خمسة آلاف امرأة.
(3/400)
السفن فيها، وببعث الأقوات التي أخذت،
فكانت لا حدّ لها، فصرفت في الجند.
وكتب الخبيث إلى ابن جامع يحذّره مثل ما نزل بالشعراني، وجاءت العيون
إلى الموفّق أنّ ابن جامع بالحوانيت، فسار إلى الضبيّة [1] وأمر ابنه
بالسير في النهر إلى الحوانيت، فلم يلق ابن جامع بها، ووجد قائدين من
الزنج استخلفهم عليها بحفظ الغلّات، ولحق بمدينته المنصورة بطهتا،
فقاتل ذلك الجند ورجع إلى أبيه بالخبر فأمره بالمسير إليه، وسار على
أثره برّا وبحرا حتى نزلوا على ميلين من طهتا. وركب لبيوني مقاعد
القتال على المنصور [2] فلقيه الزنج وقاتلوه وأسروا جماعة من غلمانه.
ورمى أبو العبّاس بن الموفّق أحمد بن مهدي الجناني فمات وأوهن موته [3]
، ثم ركب يوم السبت آخر ربيع من سنة سبع وعبّى عسكره وبعث السفن في
البحر الّذي يصل إلى المنصورة، ثم صلّى وابتهل بالدعاء، وقدّم ابنه أبا
العبّاس إلى السور، واعترضه الجند فقاتلهم عليه واقتحموا وولّوا
منهزمين إلى الخنادق وراءه، فقاتلوه عندها واقتحمها عليهم كلّها، ودخلت
السفن المدينة من النهر فقتلوا وأسروا، وأجلوهم عن المدينة وما اتصل
بها، وهو مقدار فرسخ وملكه الموفق، وأفلت ابن جامع في نفر من أصحابه،
وبلغ الطلّاب في أثره إلى دجلة، وكثر القتل في الزنج والأسر، واستنقذ
العبّاس من نساء الكوفة وواسط وصبيانهم أكثر من عشرة آلاف [4] وأعطى ما
وجد في المنصورة من الذخائر والأموال للأجناد، وأسر من نساء سليمان
وأولاده عدّة. ولما جاء جماعة من الزنج إلى الآجام اختفوا، فأمر بطلبهم
وهدم سور المدينة وطمّ خنادقها وأقام سبعة عشر يوما في ذلك ثم رجع إلى
واسط.
حصار مدينة الخبيث المختارة وفتحها
ثم إنّ الموفق عرض عساكره وأزاح عللهم، وسار ومعه ابنه أبو العبّاس إلى
مدينة
__________
[1] الصينيّة: المرجع السابق.
[2] المعنى غير واضح وما يذكره ابن الأثير ج 7 ص 346: «ومطرت السماء
مطرا شديدا، فشغل (أبو العباس) عن القتال، ثم ركب لينظر موضعا للحرب،
فانتهى إلى قريب من سور مدينة سليمان بطهثا، وهي التي سمّاها المنصورة،
فتلقّاه خلق كثير، وخرج عليهم كمناء من مواضع شتّى، واشتدت الحرب،
وترجّل جماعة من الفرسان، وقاتلوا حتى خرجوا عن المضيق الّذي كانوا
فيه، وأسروا من غلمان الموفّق جماعة.»
[3] اي أوهن موته الزنج.
[4] عشرين الفا عند ابن الأثير ج 7 ص 347.
(3/401)
الخبيث، فأشرف عليها ورأى من حصانتها
بالأسوار والخنادق ووعر الطرق، وما أعد من الآلات للحصار ومن كثرة
المقاتلة ما استعظمه، ولما عاين الزنج عساكر الموفّق دهشوا. وقدّم ابنه
العبّاس في السفن حتى ألصقها بالأسوار فرموه بالحجارة في المجانيق
والمقاليع والأيدي، ورأوا من صبره وأصحابه ما لم يحتسبوه، ثم رجعوا
وتبعهم مستأمنة من المقاتلة والملّاحين نزعوا إلى الموفّق، فقبلهم
وأحسن إليهم، فتتابع المستأمنون في النهر فوكّل الخبيث بفوهة النهر من
معهم، وتعبّى أهل السفن للحرب مع بهبود قائد الخبيث، فزحف إليه أبو
العبّاس في السفن وهزمه، وقتل الكثير من أصحابه ورجع فاستأمن إليه بعض
تلك السفن النهرية وكثير من المقاتلة فأمّنهم وأقام شهرا لم يقاتلهم.
ثم عبّى عساكره منتصف شعبان في البرّ والبحر وكانوا نحوا من خمسين
ألفا، وكان الزنج في نحو ثلاثمائة ألف مقاتل، فأشرف عليهم ونادى
بالأمان إلا للخبيث، ورمى بالرقاع في السهام بالأمان، فجاء كثير منهم
ولم يكن حرب. ثم رحل من مكانه ونزل قريبا من المختارة، ورتّب المنازل
من إنشاء السفن، وشرع في اختطاط مدينة لنزله سمّاها الموفّقيّة. فأكمل
بناءها وشيّد جامعها وكتب بحمل الأموال والميرة إليها وأغب الحرب شهرا
فتتابعت الميرة إلى المدينة، ورحل إليها التجار بصنوف البضائع، واستجر
فيها العمران ونفقت الأسواق وجلبت صنوف الأشياء.
ثم أمر الموفّق ابنه أبا العبّاس بقتال من كان من الزنج خارج المختارة
فقاتلهم وأثخن فيهم، فاستأمن إليه كثير منهم فأمّنهم ووصلهم، وأقام
الموفّق أياما يحاصر المحاربين ويصل المستأمنين، واعترض الزنج بعض
الوفاد الجائية بالميرة، فأمر بترتيب السفن على مخارج الأنهار، ووكّل
ابنه أبا العبّاس بحفظها، وجاءت طائفة من الزنج بعض الأيام إلى عسكر
نصير يريدون الإيقاع به، فأوقع بهم وظفر ببعض القوّاد منهم، فقتل رشقا
بالسهام، وتتابع المستأمنة فبلغوا إلى آخر رمضان خمسين ألفا. ثم بعث
الخبيث عسكرا من الزنج مع عليّ بن أبان ليأتوا من وراء الموفّق إذا
ناشبهم الحرب، ونمي إليه الخبر بذلك فبعث ابنه أبا العبّاس فأوقع بهم،
وحملت الأسرى والرءوس في السفن النهرية ليراها الخبيث وأصحابه، وظنّوا
أنّ ذلك تمويه فرميت الرءوس في المجانيق حتى عرفوها، فظهر منهم الجزع
وتكرّرت الحرب في السفن بين أبي العبّاس وبين الزنج، وهو يظهر عليهم في
جميعها حتى انقطعت الميرة عنهم، فاشتدّ الحصار عليهم وخرج كثير من وجوه
أصحابه مستأمنين، مثل محمد بن الحرث
(3/402)
القمّيّ وأحمد اليربوعي. وكان من أشجع
رجاله القمّيّ منهم موكلا بحفظ السور فأمّنهم الموفق ووصلهم، وبعث
الخبيث قائدين من أصحابه في عشرة آلاف ليأتوا البطيحة من ثلاثة وجوه،
فيعبروا من تلك النواحي ويقطعوا الميرة عن الموفّق. وبلغ الموفق خبرهم
فبعث إليهم عسكرا مع مولاه، ونزل فأوقع بهم وقتل وأسر، وأخذ منهم
أربعمائة سفينة. ولما تتابع خروج المستأمنة وكل الخبيث من يحفظها،
وجهدهم الحصار فبعث جماعة من قوّاده إلى الموفّق يستأمنون وان يناشبهم
الحرب ليجدوا السبيل إليه، فأرسل ابنه أبا العبّاس إلى نهر الغربي وبه
عليّ بن أبان فاشتدّ الحرب وظهر أبو العبّاس على بن أبان، وأمدّه
الخبيث بابن جامع ودامت الحرب عامّة يومهم، وكان الظفر لأبي العبّاس،
وسار إليه المستأمنة الذين وأعدوه. وانصرف أبو العبّاس إلى مدينة
الخبيث وقاتل بعض الزنج طمعا فيهم فتكاثروا عليه، ثم جاءه المدد من قبل
أبيه فظهر عليهم. وكان ابن جامع قد صعد في النهر وأتى أبا العبّاس من
ورائه، وخفقت طبوله فانكشف أصحاب أبي العبّاس، ورجع منهزمة الزنج فأجبت
جماعة من غلمان الموفّق وعدّه من أعلامهم، وحامي أبو العبّاس عن أصحابه
حتى خلصوا، وقوي الزنج بهذه الواقعة، فأجمع الموفّق العبور إلى مدينتهم
بعسكره. فعبّى الناس لذلك من الغداة آخر ذي الحجة واستكثر من المعابر
والسفن وقصدوا حصن أو كان بالمدينة وفيها أنكلاي بن الخبيث وابن جامع
وابن أبان وعليه المجانيق والآلات، فأمر غلمانه بالدنو منه فخاموا
لاعتراض نهر الأتراك بينهم وبينه، فصاح بهم فقطعوا النهر سبحا،
وتناولوا الركن بالسلاح يهدمونه، ثم صعدوا عليه وملكوه ونصبوا به علم
الموفّق، وأحرقوا ما كان عليه من الآلات وقتلوا من الزنج خلقا عظيما،
وكان أبو العبّاس يقاتلهم من الناحية الأخرى وابن أبان قبالته فهزمه،
ووصل أصحاب أبي العبّاس إلى السور فثلموه ودخلوا، ولقيهم ابن جامع
فقاتلهم حتى ردّهم إلى مواقفهم. ثم توافي الفعلة فثلموا السور في
مواضع، ونصبوا على الخندق جسرا عبر عليه المقاتلة، فانهزم الزنج عن
السور واتبعهم أصحاب الموفق يقتلونهم إلى دير ابن سمعان، فملكه أصحاب
الموفّق وأحرقوه، وقاتلهم الزنج هناك ثم انهزموا فبلغوا ميدان الخبيث،
فركب من هنالك وانهزم عنه أصحابه، وأظلم الليل ورجع الموفّق بالناس،
وتأخّر أبو العبّاس لحمل بعض المستأمنين في السفن، واتبعه بعض الزنج
ونالوا من آخر السفن. وكان بهبود بإزاء مسرور البلخيّ فنال من أصحابه
واستأمن
(3/403)
بعض المنهزمين من الزنج والأعراب بعثوا
بذلك من عبادان والبصرة، وكان منهم قائده ريحان أبو صالح المعريّ
فأمّنهم الموفّق وأحسن إليهم وضم ريحان إلى أبي العبّاس. وخرج في
المحرّم إلى الموفّق من قوّاد الخبيث وثقاته جعفر بن إبراهيم المعروف
بالسجّان فأحسن إليه الموفّق وحمله في بعض السفن إلى قصر الخبيث، فوقف
وكلّم الزنج في ذلك، وأقام الموفّق أياما استجمّ فيها أصحابه، فلما كان
منتصف ربيع الثاني قصد مدينة، وفرّق القوّاد على جهاتها ومعهم
النقّابون للسور ومن ورائهم الرماة يحمونهم. وتقدّم إليهم أن لا يدخلوا
بعد الهزم إلّا بإذنه، فوصلوا إلى السور وثلموه وحاربوا الزنج من ورائه
وهزموهم، وبلغوا أبعد مما وصلوا إليه بالأمس. ثم تراجع الزنج وحاربوا
من المكامن فرجع أصحاب الموفق نحو دجلة بعد أن نال منهم الزنج، ورجع
الموفّق إلى مدينته، ولام أصحابه على تقدمهم بغير إذنه، ثم بلغ الموفّق
أنّ بعض الأعراب من بني تميم يجلبون الميرة إلى الزنج فبعث إليهم عسكرا
أثخنوا فيهم قتلا وأسرا، وجيء بالأسرى فقتلهم، وأوعز إلى البصرة بقطع
الميرة فانقطعت عن الزنج بالكلية، وجهدهم الحصار وكثر المستأمنة وافترق
كثير من الزنج في القرى والأمصار البعيدة، وبث الموفّق دعاته فيهم ومن
أبى قتلوه وعرض المستأمنين وأحسن إليهم ليستميل غيرهم وتابع الموفّق
وابنه قتال الزنج، وقتل بهبود بن عبد الواحد من قوّاد الخبيث في تلك
الحروب، فكان قتله من أعظم الفتوح، وكان قتله في السفن البحرية ينصب
فيها أعلاما كأعلام الموفّق ويخايل أطراف العسكر فيصيب منهم.
وأفلت في بعض الأيام من يد أبي العبّاس بعد أن كان حصل في قبضته، ثم
خيل أخرى لبعض السفن طامعا فيها فحاربوه وطعنه بعض الغلمان منها فسقط
في الماء، وأخذه أصحابه فمات بين أيديهم. وخلع الموفق على الغلام الّذي
طعنه وعلى أهل السفينة. ولما هلك بهبود قبض الخبيث على بعض أصحابه
وضربهم على ماله، فاستفسد قلوبهم، وهرب كثير منهم إلى الموفق، فوصلهم
ونادى بالأمان لبقيتهم. ثم اعتزم على العبور إلى الزنج من الجانب
الغربي وكانت طرقه ملتفة بالنخيل فأمر بقطعها، وأدار الخنادق على
معسكره حذرا من البيات. ثم صعب على الموفق القتال من الجانب الغربي
لكثرة أوعاره وصعوبة مسالكه وما يتوجه فيها على أصحابه من خيل الزنج
لقلّة خبرتهم بها، فصرف قصده إلى هدم أسوارهم وتوسعت الطرق فهدم طائفة
من السور من ناحية نهر سلمى، وباشر الحرب بنفسه، واشتدّ القتال وكثرت
(3/404)
القتلى في الجانبين وفشت الجراح، وكانت في
النهر قنطرتان يعبر منهما الزنج عند القتال، ويأتون أصحاب الموفق من
ورائهم فأمر بهدمهما فهدمتا، ثم هدم طائفة من السور ودخلوا المدينة
وانتهوا إلى دار ابن سمعان من خزائن الخبيث ودواوينه. ثم تقدّموا إلى
الجامع فخرّبوه وجاءوا بمنبره إلى الموفّق بعد أن استمات الزنج دونه،
فلم يغنوا به. ثم أكثروا من هدم السور وظهرت علامات الفتح، ثم أصاب
الموفّق في ذلك اليوم سهم في صدره وذلك لخمس بقين من جمادى سنة تسع
وستين، فعاد إلى عسكره. ثم صابح الحرب تقوية لقلوب الناس. ثم لزم
الفراش واضطرب العسكر، وأشير عليه بالذهاب إلى بغداد فأبى فاحتجب عن
الناس ثلاثة أشهر حتى اندمل جرحه. ثم ركب إلى الحرب فوجد الزنج قد
سدّدوا ما تثلّم من الأسوار، فامر بهدمها كلّها، واتصل القتال مما يلي
نهر سلمى كما كان، والزنج يظنّون أنهم لا يأتون إلا منها، فركب يوما
لقتالهم وبعث السفن أسفل نهر أبي الخصيب، فانتهوا إلى قصر من قصور
الزنج فأحرقوه وانتهبوا ما فيه واستنقذوا كثيرا من الساكن فيه. ورجع
الموفّق آخر يومه ظافرا. ثم بكر لحربهم فوصلت المقدّمات دار أنكلاي بن
الخبيث وهي متّصلة بدار أبيه، وأشار ابن أبان بإجراء المياه على الساج
وحفر الخنادق بين يدي العساكر، وأمر الموفّق بطم الخنادق والأنهار،
ورام إحراق قصره وقصده من دجلة فمنع من ذلك كثرة الحماة عنه، فأمر أن
تسقف السفن بالأخشاب، وتطلى بالأدوية المانعة من الإحراق. ورتّب فيها
أنجاد أصحابه، وباتوا على أهبة الزحف من الغد. وجاء كاتب الخبيث وهو
محمد بن سمعان عشاء ذلك اليوم مستأمنا، وبكروا إلى الحرب وأمر الموفّق
ابنه أبا العبّاس بإحراق منازل القوّاد المتصلة بقصر الخبيث ليشغلهم عن
حمايته، وقصدت السفن المطليّة قصر الخبيث فأحرقوا الرواشن والأبنية
الخارجة وعلت النار فيه ورموا بالنار على السفن فلم تؤثر فيها. ثم حصر
الماء من النهر فزحفت السفن، فلما جاء الدعاة إلى القصر أحرقوا بيوتا
كانت تشرع على دجلة، واشتعلت النار فيها وقويت وهرب الخبيث وأصحابه
وتركوها وما فيها. واستولى أصحاب الموفّق على ذلك كلّه واستنقذوا جماعة
من النساء، وأحرق قصر أنكلاي ابنه، وجرحا، وعاد الموفّق عشاء يومه
مظفرا، ثم بكر من الغد للقتال وأمر نصيرا قائد السفن بقصد القنطرة التي
كان الخبيث عملها في نهر أبي الخصيب دون القنطرة التي كان اتخذها،
وفرّق العسكر في الجهات فدخل نصير في أوّل المدّ ولصق
(3/405)
بالقنطرة، واتصل الشدّ من ورائه فلم يقدر
على الرجوع حتى حسر الماء عنها، وفطن لها الزنج فقصدوها فألقى
الملّاحون أنفسهم في الماء وألقى نصير نفسه وقاتل ابن جامع ذلك اليوم
أشدّ قتال. ثم انهزم وسقط في الحريق فاحترق، ثم خلص بعد الجهد.
وانصرف الموفّق سالما وأصابه مرض المفاصل واتّصل به إلى شعبان من سنته
فأمسك في هذه المدّة عن الحرب حتى أبلى فأعاد الخبيث القنطرة التي غرق
عندها نصير وزاد فيها وأحكمها، وجعل أمامها سكرا من الحجارة ليضيق
المدخل على السفن، فبعث الموفّق طائفة من شرقي نهر أبي الخصيب، وطائفة
من بحريه ومعهم الفعلة لقطع القنطرة، وجعل أمامها سفنا مملوءة من القصب
لتصيبها النار بالنفط فيحترق الجسر، وفرّق جنده على القتال وساروا لما
أمرهم عاشر شوّال، وتقدّموا إلى الجسر ولقيهم أنكلاي بن الخبيث وابن
أبان وابن جامع وحاموا عن القنطرة لعلمهم بما في قطعها من المضرّة
عليهم، ودامت الحرب عليها إلى العشيّ ثم غلبهم أصحاب الموفّق عليها،
ونقضها النجّارون ونقضوا الأثقال التي دونها وأدخلوا السفن بالقصب،
وأضرموها نارا ووافت القنطرة فأحرقتها ووصل النجّارون بذلك إلى ما
أرادوا. وسهل سبيل السفن في النهر وقتل من الزنج خلق واستأمن آخرون،
وانتقل الخبيث بعد حرق قصوره ومساكن أصحابه إلى الجانب الشرقي من نهر
أبي الخصيب، ونقل أسواقه إليه وتبين ضعفه فانقطعت عنه الميرة وفقدت
الأقوات وغلت حتى أكل بعضهم بعضا، وأجمع الموفّق أن يحرق الجانب الشرقي
كما أحرق الغربي فقصد دار الهمذان وكان حصينا وعليه الآلات فلما انتهى
إليها تعذّر الصعود لعلو السور فرموا بالكلاليب ونشبت في أعلام الخبيث
وجذبوها فتساقطت، فانهزم المقاتلة وصعد النفّاطون فأحرقوا ما كان عليها
من الآلة، ونهبوا الأثاث والمتاع. واتصل الحريق بما حولها من الدور
واستأمن للموفّق جماعة من خاصة الخبيث فأمّنهم ودلّوه على سوق عظيمة
متّصلة بالجسر الأوّل تسمى المباركة، وبها التجّار الذين بهم قوامهم،
فقصدها لإحراقها وحاربه الزنج عندها، واضرم أصحابه النار فيها فاتصلت
وبقي التحريق عامّة اليوم. ثم رجع الموفّق ثم انتقل التجار بأمتعتهم
وأموالهم إلى أعلى المدينة، ثم فعل الخبيث في الجانب الشرقي بعد هذه من
حفر الخنادق وتغوير الطرق مثل ما كان فعل في الجانب الغربي، واحتفر
خندقا عريضا حصّن به منازل أصحابه على النهر الغربي. ثم خرّق الموفق
باقي السور إلى النهر الغربي بعد حرب شديدة كانت
(3/406)
عليه، وكان للخبيث جمع من الزنج وهم أشجع
أصحابه، قد تحصّنوا بحصن منيع يخرجون على أصحاب الموفّق عند الحرب
فيعوقونهم فأجمع على تخريبه وجمع المقاتلة عليه برّا وبحرا وفرّقهم على
سائر جهاته وجهات الخبيث، وأمدّ الخبيث الحصن بالمهلّبيّ وابن جامع،
فلم يغنوا عنه وانهزموا، وتركوا الحصن في يدي أصحاب الموفّق وهزموه
وقتلوا من الزنج خلقا، وخلّصوا من الحصن كثيرا من النساء والصبيان،
ورجع الموفّق إلى عسكره ظافرا.
استيلاء الموفق على الجهة الغربية
ولما هدم الموفق سور دار الخبيث أمر بتوسعة الطرق للحرب، وأحرق الجسر
الأوّل الّذي على نهر أبي الخصيب ليمنع من مدد بعضهم بعضا، فكان في
إحراقه حرب عظيمة. وأعدّت لذلك سفينة ملئت قصبا وجعل فيها النفط،
وأرسلت في قوّة المدد فتبادر الزنج إليها وغرقوها فركب الموفّق إلى
فوهة نهر أبي الخصيب وقصدهم من غربي النهر وشرقيّه إلى أن انتهوا إلى
الجسر من غربيّه وعليه أنكلاي بن الخبيث وابن جامع فأحرقوه، وفعل مثل
ذلك من الجانب الشرقي، فاحترق الجسر والحظيرة التي كانت لإنشاء السفن،
وسجن كان هناك للخبيث. وانحاز هو وأصحابه من الجانب الغربي واستأمن
كثير من قوّاده فأمّنهم وأخرجوا أرسالا وخرج قاضيه هاربا، ووكّل بالجسر
الثاني من يحفظه وأمر الموفّق ابنه أبا العبّاس بأن يتجهّز لإحراقه
فزحف في أنجاد غلمانه ومعه الفعلة والآلات. وكان في الجانب الغربي
قبالة أبي العبّاس أنكلاي وابن جامع، وفي الجانب الغربي قبالة أسد مولى
الموفّق الخبيث نفسه والمهلّبيّ، وجاءت السفن في النهر وقاتلوا حامية
الجسر فانهزم ابن جامع وأنكلاي وأضرمت النار في الجسر، ولما وافياه وهو
مضطرم نارا ألقيا أنفسهما في النهر فخلصا بعد أن غرق من أصحابهما خلق،
واحترق الجسر واتصل الحريق بدورهم وقصورهم وأسواقهم، وافترق الجيش في
الجانبين ونهبت دار الخبيث واستنفذ من كان في حبسه من النسوة والرجال.
وأخرج ما كان في نهر أبي الخصيب من أصناف السفن إلى دجلة ونهبها أصحاب
الموفّق واستأمن أنكلاي بن الخبيث وعلم أبوه فثنّاه عن ذلك. واستأمن
سليمان بن موسى الشعراني من رؤساء قوّاده فأجيب بعد توقف. ولما خرج
تبعه أصحاب الخبيث فقاتلهم، ووصل إلى الموفّق فأحسن إليه واقتفى أثره
في ذلك شبل ابن سالم من قوّاده، وعظم على الخبيث وأوليائه استئمان
هؤلاء، وصار شبل بن سالم يخرج في السرايا إلى عسكر الخبيث ويكثر
النكاية فيهم.
(3/407)
استيلاء الموفق على
الجهة الشرقية
وفي خلال هذه الحروب واتصالها مرن أصحاب الموفّق على تخلّل تلك المسالك
والشعاب مع تضايقها ووعرها، وأجمع الموفّق على قصد الجانب الشرقي في
نهر أبي الخصيب، وندب لذلك قوّاد المستأمنة لخبرتهم بذلك دون غيرهم،
ووعدهم بالإحسان والزيادة فأبوا وسألوه الإقالة فأبى لتتميز مناصحتهم.
وجمع سفن دجلة من كل جانب، وكان فيها عشرة آلاف ملّاح من المرتزقة.
وأمر ابنه أبا العبّاس بقصد مدينة الخبيث الشرقية من جهاتها، فسار إلى
دار المهلّبيّ وهو في مائة وخمسين قطعة من السفن قد شحنها بأنجاد
غلمانه، وانتخب عشرة آلاف مقاتل وأمرهم بالمسير حفا في النهر يشاهد
أحوالهم. وبكّر الموفّق لثمان خلون من ذي القعدة زاحفا للحرب، فاقتتلوا
مليّا وصبروا. ثم انهزم الزنج وقتل منهم خلق، وأسر آخرون فقتلوا، وقصد
الموفّق بجمعه دار الخبيث، وقد جمع الخبيث أصحابه للمدافعة فلم يغنوا
عنه وانهزموا وأسلموها فنهبها أصحاب الموفق، وسبوا حريمه وبنيه وكانوا
عشرين. ونجا إلى دار المهلّبيّ ونهبها واشتغل أصحابهم جميعا بنقل
الغنائم إلى السفن، فأطمع ذلك الزنج فيهم وتراجعوا وردوا الناس إلى
مواقفهم. ثم صدق الموفّق الحملة عشيّ النهار فهزم الزنج إلى دار الخبيث
ورجع الناس إلى عسكره، ووصله كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون يستأذنه في
القدوم عليه فأخّر القتال إلى حضوره.
مقتل صاحب الزنج
ولما وصل غلام ابن طولون في ثالث المحرم من سنة سبعين جاء في جيش عظيم،
فأحسن إليهم الموفّق وأجرى لهم الأرزاق على مراتبهم، وأمره بالتأهّب
لقتال الخبيث. وقد كان لما غلب على نهر أبي الخصيب وقطعت القناطر
والجسور التي عليه، أحدث فيه سكرا وضيّق جرية الماء ليمنع السفن من
دخوله إذا حضر، ويتعذّر خروجها أمامه. وبقي جريه لا يتهيأ إلّا بإزالة
ذلك السكر، فحاول ذلك مدّة والزنج يدافعون عنه، ودفع الموفق لذلك لؤلؤا
في أصحابه ليتمرّنوا على حرب الزنج في تلك المسالك والطرق فأحسنوا
البلاء فيها ووصلهم، وألح على العسكر، وهو كل يوم يقتل مقاتلهم ويحرق
مساكنهم ويقتل المستأمنة منهم. وقد كان بقي بالجهة الغربية بقية من
أبنية ومزارع وبها جماعة يحفظونها، فسار إليهم أبو العبّاس وأوقع بهم،
ولم
(3/408)
يسلم منهم إلا الشريد. ثم غلبهم على السكر
وأحرقه واعتزم على لقاء الخبيث وقدّم ابنه أبا العبّاس إلى دار المهلّب
وأضاف المستأمنة إلى شبل بن سالم وأمرهم أن ينتظروا بالقتال نفخ البوق،
ونصب علمه الأسود على دار الكرمانيّ. ثم صمد إليهم وزحف الناس في البر
والنهر، ونفخت الأبواق وذلك لثلاث بقين من المحرّم سنة سبعين. واشتدّ
القتال وانهزم الزنج ومات منهم قتلا وغرقا ما لا يحصى، واستولى الموفّق
على المدينة واستنقذوا الأسرى وأسروا الخليل وابن أبان وأولادهما وعيال
أخيهما، ومضى الخبيث ومعه ابنه أنكلاي وابن جامع وقوّاد من الزنج إلى
موضع بنهر السّفيانيّ كانوا أعدّوه ملجأ إذا غلب على المدينة، واتبعه
الموفّق في السفن ولؤلؤ في البر. ثم اقتحم النهر بفرسه واتّبعه أصحابه
فأوقعوا بالخبيث ومن معه حتى عبروا نهر السامان [1] واعتصموا بجبل
وراءه، ورجع لؤلؤ عنهم وشكر له الموفّق ورفع منزلته واستبشر الناس
بالفتح. وجمع الموفّق أصحابه فوبّخهم على انقطاعهم عنه فاستعذروا بأنهم
ظنّوا انصرافه. ثم تحالفوا على الإقدام والثبات حتى يظفروا وسألوه أن
تردّ المعابر التي يعبرون فيها ليستميت الناس في حرب عدوّهم، فوعدهم
بذلك وأصبح ثالث صفر فعبّى المراكب وبعثهم إلى المراكز وردّ المعابر
التي عبروا فيها وتقدّم سرعان العسكر فأوقعوا بالخبيث وأصحابه ففضّوا
جماعة وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا، وافترقوا كل ناحية. وثبت مع الخبيث
لمّة من أصحابه فيهم المهلّبيّ وذهب ابنه أنكلاي وابن جامع واتبع كلّا
منهم طائفة من العسكر بأمر أبي العبّاس ابن الموفّق. ثم أسر إبراهيم بن
جعفر الهمذاني فاستوثقوا منه. ثم كرّ الخبيث والمنهزمون معه على من
اتّبعهم من أهل العسكر فأزالوهم عن مواقفهم. ثم رجعوا ومضى الموفّق في
اتباع الخبيث إلى آخر نهر أبي الخصيب فلقيه غلام من أصحاب لؤلؤ برأس
الخبيث وسار أنكلاي نحو الديناريّ ومعه المهلّبىّ وبعث الموفّق أصحابه
في طلبهم فظفر بهم وبمن معهم، وكانوا زهاء خمسة آلاف، فاستوثق منهم ثم
استأمن إليه ورمونة [2] وكان عند البطيحة قد اعتصم بمغايض وآجام هنالك
يخيف السابلة، ويغير على تلك النواحي وعلى الواردين إلى مدينة الموفّق.
فلما علم بموت الخبيث سقط في يده وبعث يستأمن فأمّنه الموفّق فحسنت
توبته وردّ الغصوبات إلى أهلها ظاهرا،
__________
[1] نهر السفياني: ابن الأثير ج 7 ص 403.
[2] درمويه الزنجيّ: المرجع السابق ص 404.
(3/409)
وأمر الموفّق بالنداء برجوع الزنج إلى
موطنهم فرجعوا وأقام الموفّق بمدينة الموفّقية ليأمن الناس بمقامه،
وولّى على البصرة والأبلّة وكور دجلة محمد بن حمّاد وقدم ابنه أبا
العبّاس إلى بغداد فدخلها منتصف جمادى من سنة سبعين وكان خروج صاحب
الزنج آخر رمضان سنة خمس وخمسين وقتله أوّل صفر سنة سبعين لأربع عشرة
سنة وأربعة أشهر من دولته.
ولاية ابن كنداج على الموصل
لما سار أحمد بن موسى بن بغا إلى الجزيرة وولّى موسى بن أتامش على ديار
ربيعة فتغيّر لذلك إسحاق بن كنداج وفارق عسكره وأوقع بالأكراد
اليعقوبيّة وانتهب أموالهم ثم لقي ابن مساور الخارجيّ فقتله، وسار إلى
الموصل فقاطع أهلها على مال، وكان عليهم عليّ بن داود قائدا، فدفعه
وسار ابن كنداج إليه، فخرج عليّ بن داود واجتمع حمدان بن حمدون
الثعلبيّ وإسحاق بن عمر بن أيوب بن الخطّاب الثعلبيّ العدويّ، فكانوا
خمسة عشر، وجاءهم عليّ بن داود فلقيهم إسحاق في ثلاثة آلاف فهزمهم
بدسيسة من أهل مسيرتهم، وسار حمدان وعليّ بن داود إلى نيسابور، وابن
أيّوب إلى نصيبين، وابن كنداج في اتّباعه، فسار عنها واستجار بعيسى ابن
الشيخ الشيبانيّ وهو بآمد، وأبي العزّ موسى بن زرارة وهو عامل أردن،
فأنجداه وبعث المعتمد إلى إسحاق بن كنداج بولاية الموصل فدخلها، وأرسل
إليه ابن الشيخ وابن زرارة مائة ألف دينار على أن يقرّهم على أعمالهم
فأبى، فاجتمعوا على حربه، فرجع إلى إجابتهم. ثم حاربوه سنة سبع وستين.
واجتمع لحربه إسحاق بن أيوب وعيسى ابن الشيخ وأبو العزّ بن حمدان بن
حمدون في ربيعة وثعلب وبكر واليمن فهزمهم ابن كنداج إلى نصيبين، ثم إلى
آمد وحمر [1] عسكرا لحصار ابن الشيخ بآمد وكانت بينهم حروب.
حروب الخوارج بالموصل
كان مساور الخارجي قد هلك في حروبه مع العساكر سنة ثلاث وستين
بالبوارسح [2]
__________
[1] حمر الرجل: تحرق غضبا، وحمره: قال له يا حمار (قاموس) .
[2] البوازيج: ابن الأثير ج 7 ص 309.
(3/410)
وأراد أصحابه ولاية محمد بن حرداد [1]
بشهرزور فامتنع، وبايعوا أيوب بن حيّان المعروف بالغلام فقتل، فبايعوا
هارون بن عبد الله البجلي وكثر أتباعه واستولى على بلد الموصل، وخرج
عليه من أصحابه محمد بن حرداد، وكان كثير العبادة والزهد يجلس على
الأرض ويلبس الصوف الغليظ ويركب البقر لئلا يفرّ في الحرب، فنزل واسط
وجاء وجوه أهل الموصل، فسار إليهم وهارون غائب في الأحشاد، فبادر إليه
واقتتلا، وانهزم هارون وقتل من أصحابه نحو مائتين، وقصد بني ثعلب [2]
مستنجدا بهم فأنجدوه وسار معه حمدان بن حمدون ودخل معه الموصل، ودخل
ابن حرداد، واستمال هارون أصحابه، ورجع إلى الحديثة، ولم يبق مع ابن
حرداد إلا قليل من الأكراد فمالوا إلى هارون بالموصل، فخرج وأوقع بابن
حرداد فقتله وأوقع بالأكراد الجلاليّة وكثر أتباعه، وغلب على القرى
والرساتيق، وجعل على دجلة من يأخذ الزكاة من الأموال المصعّدة
والمنحدرة، ووضع في الرساتيق من يقبض اعتبار الغلّات، واستقام أمره. ثم
جاء بنو ساسان لقتاله سنة ست وسبعين واستنجد بحمدان بن حمدون فجاءه
بنفسه، وسار إلى نهر الخازن وانهزمت طليعتهم، وانهزموا بانهزامها، وجاء
بنو شيبان إلى فسا فانجفل أهلها وأقام هارون وأصحابه بالحديثة.
أخبار رافع بن هرثمة من بعد الخجستاني
لما قتل أحمد الخجستاني سنة ثمان وستين كما قدّمناه اجتمع أصحابه على
رافع بن هرثمة من قوّاد محمد بن طاهر، وكان رافع هذا لما استولى يعقوب
الصفّار على نيسابور، وزال بنو طاهر، صار رافع في جملته، وصحبه إلى
سجستان. ثم أقصاه عن خدمته وعاد إلى منزله بنواحي جيّ حتى استخدمه
الخجستانيّ وجعله صاحب جيشه. فلما قتل الخجستانيّ اجتمع الجيش عليه
بهراة وأمّروه وسار إلى نيسابور فحاصر بها أبا طلحة بن شركب وقد كان
وصل إليها من جرجان، فضيّق عليه المخنق ففارقها أبو طلحة إلى مرو،
وولّى على هراة ابن المهدي وخطب لمحمد بن طاهر بمرو وهراة وزحف إليه
عمرو بن الليث فهزمه وغلبه على ما بيده. واستخلف على
__________
[1] محمد بن خرزاد: ابن الأثير ج 7 ص 309.
[2] هم بنو تغلب وقد لاحظنا ان ابن خلدون يكنيهم بالثعالبة بدل
التغالبة أو ان ذلك عائد لتحريف الناسخ!
(3/411)
مرو محمد بن سهل بن هاشم، وخرج أبو طلحة
إلى مكمد [1] واستعان بإسماعيل بن أحمد السامانيّ، فأمدّه بعسكر وأخرج
محمد بن سهل، وخطب بها لعمرو بن الليث سنة إحدى وسبعين. ثم قلّد
الموفّق تلك السنة أعمال خراسان لمحمد ابن طاهر، وهو ببغداد، فاستخلف
عليها رافع بن الليث وأقرّ على ما وراء النهر نصر بن أحمد. ووردت كتب
الموفّق بعزل عمرو بن الليث ولعنه، فسار رافع إلى هراة وقد كان بها
محمد بن المهدي خليفة أبي طلحة، فثار عليه يوسف بن معبد. فلما جاء رافع
استأمن إليه فأمّنه واستعمل على هراة مهدي بن محسن. ثم سار رافع إلى
أبي طلحة بمرو بعد أن استمدّ إسماعيل بن أحمد وأمدّه بنفسه في أربعة
آلاف فارس، واستقدم عليّ بن محسن المروروذيّ فقدم عليه في عسكره،
وساروا جميعا إلى أبي طلحة بمرو سنة اثنتين وسبعين، فهزموه وعاد
إسماعيل إلى بخارى ولحق بأبي طلحة وبها مهدي، فاجتمع معه على مخالفة
رافع فهزمهما رافع، ولحق أبو طلحة بعمرو بن الليث وقبض على مهدي سنة
اثنتين وسبعين ثم خلّى سبيله وسار رافع إلى خوارزم فجبى أموالها ورجع
إلى نيسابور.
مغاضبة المعتمد للموفّق ومسيرة ابن طولون وما نشأ من الفتنة لأجل ذلك
كان الموفّق حدثت بينه وبين ابن طولون وحشة وأراد عزله، وبعث موسى بن
بغا في العساكر إليه سنة اثنتين وستين فأقام بالرقّة عشرة أشهر، واختلف
عليه العسكر فرجع، وكان الموفق مستبدّا على أخيه المعتمد منذ قيامه
بأمر دولته مع ما كان من الكفاية والغناء، إلّا أنه كان المعتمد يتأفّف
من الحجر، وكتب إلى أحمد بن طولون في السرّ يشكو ذلك وأشار عليه
باللحاق إليه بمصر لينصره، وبعث عسكرا إلى الرقّة في انتظاره، وكان
الموفّق مشغولا بحرب الزنج، فسار المعتمد منتصف سنة تسع وستين في
القوّاد مظهرا أنه يتصيّد، ثم سار إلى أعمال الموصل وعليها يومئذ وعلى
سائر الجزيرة أصحاب كنداج [2] وكتب صاعد بن مخلّد وزير الموفّق عن
الموفّق إلى
__________
[1] بيكند: ابن الأثير ج 7 ص 368.
[2] إسحاق بن كنداجيق: ابن الأثير ج 7 ص 394.
(3/412)
إسحاق بردّه عن طريقه، والقبض على من معه
من القوّاد. فلمّا وصل المعتمد إلى عمله أظهر إسحاق طاعته، فارتحل في
خدمته إلى أوّل عمل ابن طولون. ثم اجتمع بالمعتمد والقوّاد وفيهم نيزك
وأحمد بن خاقان وغيرهم فعذلهم في المسير إلى ابن طولون والمقام تحت
يده، وطال الكلام بينهم مليّا ثم دعاهم إلى خيمته للمناظرة في ذلك أدبا
مع المعتمد، وقيّدهم وجاء إلى المعتمد فعذله في المسير عن دار خلافته
ومغاضبة أخيه، وهو في دفاع عدوّه ومن يريد خراب ملكه، وحمل الجميع إلى
سامرّا. وقطع ابن طولون الدعاء للموفق على منابره وأسقط اسمه من الطرز
[1] وغضب الموفّق بسبب ذلك على أحمد بن طولون، وحمل المعتمد على أن
يشار بلعنه على المنابر. وولّى إسحاق بن كنداج على أعماله وفوّض إليه
من باب الشماسية إلى إفريقية، وكان لؤلؤ مولى ابن طولون عاملا على حمص
وحلب وقنّسرين وديار مصر من الجزيرة. وكان منزله بالرقّة فانتقض عليه
في هذه السنة، وسار إلى بالس فنهبها، وكتب إلى الموفّق فمرّ بقرقيسياء
وبها ابن صفوان العقيليّ فحاربه وغلبه عليها وسلّمها إلى أحمد بن مالك
بن طوق. ووصل إلى الموفّق في عسكر عظيم وهو يقاتل صاحب الزنج فأكرمه
الموفّق وأحسن هو الغناء في تلك الحرب. ثم بعث ابن طولون في تلك السنة
جيشه إلى مكة لإقامة الموسم، وعامل مكة هارون بن محمد ففارقها خوفا
منهم، وبعث الموفّق جعفرا في عسكر فقوي بهم هارون ولقوا أصحاب ابن
طولون فهزموهم وصادروا القائد على ألف دينار. وقرئ الكتاب في المسجد
بلعن ابن طولون وانقلب أهل مصر إلى بلدهم آمنين. ولم يزل لؤلؤ في خدمة
الموفّق إلى أن قبض عليه سنة ثلاث وسبعين وصادره على أربعمائة ألف
وأدبر أمره ثمّ، ثم عاد إلى مصر آخر أيام هارون بن حماديه [2] .
وفاة ابن طولون ومسير ابن كنداج إلى الشام
وفي سنة سبعين انتقض بازمان [3] الخادم بطرسوس وقبض على نائبة، وسار
إليه أحمد بن طولون في العساكر وحاصروه فامتنع عليه، فرجع إلى أنطاكية
فمرض هنالك ومات لست وعشرين سنة من ولايته على مصر وولي بعده ابنه
خمارويه،
__________
[1] الطرر: حواشي الكتب.
[2] هارون بن خمارويه: ابن الأثير ج 7 ص 425.
[3] بازمار الخادم: ابن الأثير ج 7 ص 408.
(3/413)
وانتقضت عليه دمشق فبعث إليها العساكر
وعادت إلى طاعته. وكان يومئذ بالموصل والجزيرة إسحاق بن كنداج وعلى
الأنبار والرحبة وطريق الفرات محمد بن أبي الساج، فكاتبا الموفّق في
المسير إلى الشام واستمدّاه، فأذن لهما ووعدهما بالمدد، فسارا وملكا ما
يجاورهما من بلاده، واستولى إسحاق على أنطاكية وحلب وحمص، وكاتبه نائب
دمشق واجتمع الخلاف على خمارويه فسار إليه فهرب إلى شيزر وهي في طاعة
خمارويه، ودمشق. وجاء أبو العبّاس بن الموفّق وهو المعتضد من بغداد
بالعساكر فكبس شيزر وقتل من جند ابن طولون مقتله عظيمة، ولحق فلّهم
بدمشق وأبو العبّاس في اتباعهم، فجلوا عنها، وملكها في شعبان سنة إحدى
وسبعين.
ورجعت عساكر خمارويه إلى الرّملة فأقاموا بها. وزحف إسحاق بن كنداج إلى
الرقّة وعليها وعلى الثغور والعواصم ابن دعاص [1] من قبل خمارويه
فقاتله وكان الظهور لإسحاق. ثم زحف أبو العبّاس المعتضد من دمشق إلى
الرملة، وسار خمارويه من مصر واجتمع بعساكره في الرملة على ماء
الطواحين، وكان المعتضد قد استفسد لابن كنداج وابن أبي الساج ونسبهما
إلى الجبن في انتظارهما إياه في محاربة خمارويه. وعبّى المعتضد عساكره
ولقي خمارويه وقد أكمن له، فانهزم خمارويه أولا وملك المعتضد خيامه،
وشغل أصحابه بالنهب فخرج عليهم الكمين فانهزم المعتضد إلى دمشق، فلم
يفتح له أهلها، فراح إلى طرسوس وأقام العسكران يقتتلان دون أمير، وأقام
أصحاب خمارويه عليهم أخاه سعدا مكانه، وذهبوا إلى الشام فملكوه أجمع،
وأذهبوا منه دعوة الموفّق وابنه. وبلغ الخبر إلى خمارويه فسرّ وأطلق
الأسرى الذين كانوا معه. ثم ثار أهل طرسوس بأبي العبّاس فأخرجوه، وسار
إلى بغداد وولّوا عليهم مازيار، فاستبدّ بها ثم دعا لخمارويه بعد أن
وصله بمال جليل يقال أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة
مطرف وسلاحا كثيرا، فدعا له ثم بعث إليه بخمسين ألف دينار.
وفاة صاحب طبرستان وولاية أخيه
ثم توفي الحسن بن زيد العلويّ صاحب طبرستان في رجب سنة سبعين لعشرين
سنة من ولايته وولّي مكانه أخوه وكان على قزوين أتكوتكين [2] فسار إلى
الريّ في أربعة
__________
[1] ابن دعباس: ابن الأثير ج 7 ص 411.
[2] اذكوتكين: ابن الأثير ج 7 ص 418.
(3/414)
آلاف فارس، وسار إليه محمد بن زيد في عالم
كثير من الديلم والخراسانيّة، والتقوا فانهزم محمد بن زيد وقتل من
عسكره نحو من ستة آلاف وأسر ألفان، وغنم أتكوتكين عسكرا وملك الريّ
وأغرم أهلها مائة ألف دينار، وفرّق عمّاله عليها، وسار محمد بن زيد إلى
جرجان، ثم عزل عمرو بن الليث عن خراسان وولّى عليها محمد بن طاهر،
واستخلف محمد بن رافع بن هرثمة، وسار سنة خمس وسبعين إلى جرجان وهرب
عنها ليلا إلى استرياد [1] فحاصره رافع فيها سنتين حتى أجهده الحصار،
ففرّ عنها ليلا إلى سارية، فاتبعه فهرب عن طبرستان سنة سبع وسبعين،
واستأمن رستم بن قارن إلى رافع بطبرستان فأمنه، وبعث إلى سالوس محمد بن
هارون نائبا عنه وأتاه بها عليّ ابن كاني مستأمنا. ثم جاءه محمد
وحاصرهما بسالوس، وانقطعت أخبارهما عن نافع.
ثم جاءه الخبر بحصارهما فسار إليهما فارتحل محمد بن زيد إلى أرض
الديلم، فدخل رافع خلفه وأثخن فيها نهبا وتخريبا إلى حدود قزوين، وعاد
إلى الريّ إلى أن توفي المعتمد سنة تسع وتسعين. [2]
فتنة ابن كنداج وابن أبي الساج وابن طولون
كان ابن أبي الساج في أعماله بقنّسرين والفرات والرحبة ينافس إسحاق وهو
على الجزيرة، ويريد التقدّم عليه، فحدثت لذلك منهما فتنة. فخطب ابن أبي
الساج لخمارويه بن طولون [3] . وبعث ابنه ديواداد رهينة إليه، فبعث
إليه خمارويه أموالا جمّة وسار إلى الشام، واجتمع بابن أبي الساج
ببالس، ثم عبر ابن أبي الساج الفرات إلى الرقّة، وهزم إسحاق بن كنداج،
واستولى على أعماله. وعبر خمارويه ونزل الرقّة ومضى إسحاق إلى قلعة
ماردين وحاصره ابن أبي الساج بها، ثم أفرج عنها وسار إلى سنجار لقتال
بعض الأعراب فسار ابن كنداج من ماردين إلى الموصل، فاعترضه ابن أبي
الساج، وهزمه فعاد إلى ماردين، واستولى ابن أبي الساج على الجزيرة
والموصل، وخطب فيهما لخمارويه ثم لنفسه بعد، وبعث غلامه فتحا إلى أعمال
الموصل لجباية الخراج. وكان اليعقوبيّة من السّراة قريبا منه، فهادنهم،
ثم
__________
[1] أستراباذ: ابن الأثير ج 7 ص 434.
[2] الصحيح ان المعتمد توفي سنة تسع وسبعين ومائتين وليس تسع وتسعين
كما يذكر ابن خلدون.
[3] هو خمارويه بن احمد بن طولون.
(3/415)
غدر بهم فكسبهم، وجاءهم أصحابهم من غير
شعور بالواقعة، فحملوا على أصحاب فتح فاستلحموهم. ثم انتقض ابن أبي
الساج واستبيح عسكره. وكان له بحمص مخلف من أثقاله، فقدّم خمارويه
طائفة من العسكر إليها، فاستولوا على ما فيها، ومنعوا ابن أبي الساج من
دخولها، فسار إلى حلب، ثم إلى الرقة وخمارويه في اتباعه، فعبر الفرات
إلى الموصل، وجاء خمارويه إلى بلد وأقام بها وسار ابن أبي الساج إلى
الحديثة وكان إسحاق بن كنداج قد لحق بخمارويه من ماردين فبعث معه جيشا
وجماعة من القوّاد، وسار في طلب ابن أبي الساج، وقد عبر دجلة فجمع ابن
كنداج السفن ليوطئ جسرا للعبور. وبينما هو في ذلك أسرى ابن أبي الساج
من تكريت إلى الموصل، فوصلها لرابعة وسار ابن كنداج في اتّباعه،
فاقتتلوا بظاهر الموصل وابن أبي الساج في ألفين، فصبر واشتدّ القتال،
وانهزم ابن كنداج وهو في عشرين ألفا. فخلص إلى الرقة ومحمد بن أبي
الساج في اتباعه. وكتب إلى الموفّق يستأذنه في عبور الفرات إلى بلاد
خمارويه بالشام، فأمره بالتوقّف إلى وصول المدد من عنده، ومضى ابن
كنداج إلى خمارويه فجاء بجيوشه إلى الفرات، وتوافق مع ابن أبي الساج
والفرات بينهما. ثم عبرت طائفة من عسكر ابن كنداج فأوقعوا بطائفة من
عسكر ابن أبي الساج فانهزموا إلى الرقّة، فسار ابن أبي الساج عن الرقّة
إلى بغداد سنة ست وسبعين في ربيع منها، فأكرمه الموفّق ووصله واستولى
ابن كنداج على ديار ربيعة من أعمال الجزيرة، وأقام بها وولّى الموفق
محمد بن أبي الساج على أذربيجان، فسار إليها فخرج إليه عبد الله بن
الحسين الهمذاني عامل مراغة ليصدّه فهزمه ابن أبي الساج فحاصره وأخذ
منه مراغة سنة ثمان وسبعين وقتله. واستقرّ ابن أبي الساج في عمله
بأذربيجان.
أخبار عمرو بن الليث
كان عمرو بن الليث بعد مهلك أخيه يعقوب قد ولّاه الموفّق خراسان
وأصبهان وسجستان والسند وكرمان والشرطة ببغداد كما كان أخوه، وقد ذكرنا
ذلك قبل.
وكان عامله على فارس ابن الليث فانتقض عليه سنة ثمان وستين فسار عمر
ولحربه فهزمه واستباح عسكره ونهب إصطخر ثم ظفرت جيوشه بمحمّد وأسره
وحبسه بكرمان، فأقام بها ثم بعث إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وهو
بأصبهان يطلبه
(3/416)
بالمال. فبعث إليه بالأموال، وبعث عمرو إلى
الموفق بثلاثمائة ألف دينار، وبخمسين منّا من المسك ومثلها من العنبر
ومائتين من العود، وثلاثمائة ثوب من الوشي ومن آنية الذّهب والفضّة
والدواب والغلمان قيمة مائة ألف دينار. واستأذنه في غزو محمد ابن عبيد
الكرديّ في رامهرمز فأذن له، فبعث قائدا من جيشه إليه فأسره وجاء به
إلى عمرو، ثم عزل المعتمد سنة إحدى وستين عمرو بن الليث عما كان قلّده
من الأعمال، وأدخل إليه الحاج من أهلها عند منصرفهم من مكة، فأعلمهم
بعزله، وأنه قد ولّى على خراسان محمد بن طاهر، وأمر بلعن عمرو على
المنابر. وجهّز مخلّد ابن صاعد إلى فارس لحرب عمرو، واستخلف محمد بن
طاهر على خراسان رافع بن هرثمة، وكتب المعتمد إلى أحمد بن عبد العزيز
بن أبي دلف يأمره بقتاله، وبعث إليه الجيوش فاقتتلوا مع عمرو، وكان في
خمسة عشر ألف مقاتل، فانهزم عمرو وخرج قائده الديلميّ وقتل مائة من
أعيانهم وأسر ثلاثة آلاف، فاستأمن منهم وغنموا من عسكره ما لا يحصى. ثم
زحف الموفّق سنة أربع وسبعين إلى فارس لحرب عمرو فأنفذ عمرو ابنه محمدا
إلى أرّجان في العساكر، وعلى مقدّمته أبو طلحة بن شركب وعبّاس بن إسحاق
إلى سيراف، واستأمن أبو طلحة إلى الموفّق ففتّ ذلك في عضد عمرو، وعاد
إلى كرمان واستراب الموفّق بأبي طلحة فقبض عليه قريبا من شيراز، وجعل
ماله لابنه أبي العبّاس المعتضد، وسار في طلب عمرو، فخرج من كرمان إلى
سجستان ومات ابنه محمد بالمفازة، ورجع عنه الموفّق وسار رافع بن الليث
من خراسان وغلب محمد بن زيد على طبرستان كما قدّمناه، (وقدم عليه هنالك
عليّ بن الليث هو وابناه المعدّل والليث بن حسن أخيه عليّ بكرمان ثم
قتله رافع سنة ثمان وستين) [1] .
مسير الموفق إلى أصبهان والجبل
كان كاتب أتوتكين [2] أنهى إلى المعتضد أن له مالا عظيما ببلاد الجبل
فتوجّه لذلك فلم يجد شيئا ثم سار إلى الكرخ ثم إلى أصبهان يريد أحمد بن
عبد العزيز بن أبي دلف
__________
[1] المعنى غير واضح والعبارة مشوشة ويذكر ابن الأثير في احداث 278:
«وفيها قتل علي بن الليث أخو الصفّار، قتله رافع بن هرثمة، وكان قد حنق
به، وترك أخاه» . والمعدل والليث هما ابنا عليّ بن الليث.
[2] اذكوتكين: وقد مرّ ذكره من قبل.
(3/417)
فتنحّى أحمد عن البلد بعسكره، وترك داره
بفرشها لنزل الموفّق عند قدومه، ثم رجع الموفّق إلى بغداد.
قبض الموفق على ابنه أبي العبّاس المعتضد ثم وفاته وقيام ابنه أبي
العباس بالأمر بعده
كان الموفّق بعد رجوعه من أصبهان نزل واسط، ثم عاد إلى بغداد وترك
المعتمد بالمدائن، وأمر ابنه أبا العبّاس وهو المعتضد بالمسير إلى بعض
الوجوه فأبى، فأمر بحبسه، ووكّل به. وركب القوّاد من أصحابه واضطربت
بغداد فركب الموفّق إلى الميدان وسكّن الناس، وقال: إني احتجت إلى
تقويم ابني فقوّمته، فانصرف الناس وذلك سنة ست وسبعين. وكان عند منصرفه
من الجبل قد اشتدّ به وجع النّقرس ولم يقدر على الركوب، فكان يحمل في
المحفّة، ووصل إلى داره في صفر من سنة سبع، وطال مرضه وبعث كاتبه أبا
الصقر ابن بلبل إلى الميدان، فجاء بالمعتمد وأولاده وأنزله بداره، ولم
يأت دار الموفّق، فارتاب الأولياء لذلك، وعمد غلمان أبي العبّاس فكسروا
الأقفال المغلقة عليه وأخرجوه وأقعدوه عند رأس أبيه وهو يجود بنفسه،
فلما فتح عينه قرّبه وأدناه وجمع أبو الصقر عنده القواد والجند. ثم
تسامع الناس أنّ الموفّق حيّ، فتسلّلوا عن أبي الصقر وأوّلهم محمد بن
أبي الساج، فلم يسع أبا الصقر إلا الحضور بدار الموفّق، فحضر هو وابنه
وأشاع أعداء أبي الصقر أنه هرب بمال الموفّق إلى المعتمد، فنهبوا داره،
وأخرجت نساؤه حفاة عراة، ونهب ما يجاوره من الدور، وفتقت السجون، ثم
خلع الموفق على ابنه أبي العبّاس وأبي الصقر، وركب إلى منزلهما وولّى
أبو العبّاس غلامه بدار الشرطة. ثم مات لثمان بقين من صفر سنة ثمان
وسبعين ودفن بالرصافة. واجتمع القوّاد فبايعوا ابنه أبا العبّاس
المعتضد باللَّه، واجتمع عليه أصحاب أبيه، ثم قبض المعتضد على أبي
الصقر ابن بلبل وأصحابه، وانتهبت منازلهم، وولّى عبد الله بن سليمان بن
وهب الوزارة، وبعث محمد بن أبي الساج إلى واسط ليردّ غلامه وصيفا إلى
بغداد فأبى وصيف وسار إلى السوس فأقام بها.
(3/418)
ابتداء أمر القرامطة
كان ابتداء أمرهم فيما زعموا أنّ رجلا ظهر بسواد الكوفة سنة ثمان
وسبعين ومائتين يتّسم بالزهد، وكان يدعى قرمط يقال لركوبه على ثور كان
صاحبه يدعى كرميطة فعرب وقيل بل اسمه حمدان ولقبه قرمط. يقال وزعم أنه
داعية لأهل البيت للمنتظر منهم واتّبعه العبّاس فقبض عليه الهيصم عامل
الكوفة وحبسه، ففرّ من حبسه وزعم أنّ الإغلاق لا يمنعه. ثم زعم أنه
الّذي بشّر به أحمد بن محمد ابن الحنفية، وجاء بكتاب تناقله القرامطة
فيه بعد البسملة: يقول الفرح بن عثمان من قرية نصرانه أنه داعية المسيح
وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهديّ، وهو أحمد بن محمد بن الحنفيّة، وهو
جبريل. وإنّ المسيح تصوّر له في جسم إنسان فقال له إنك الداعية وإنك
الحجة وإنك الناقة وإنك الدابة وإنك يحيى بن زكريا وإنك روح القدس،
وعرّفه أنّ الصلاة أربع ركعات قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها، وأنّ
الأذان بالتكبير في افتتاحه وشهادة التوحيد مرّتين، ثم شهادة بالرسالة
لآدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم عيسى ثم محمّد صلوات الله عليهم، ثم لأحمد
بن محمد بن الحنفية ويقرأ الاستفتاح في كل ركعة وهو من المنزل على أحمد
بن محمد بن الحنفية، والقبلة بيت المقدس والجمعة يوم الإثنين، ولا يعمل
فيه شيء. والسورة التي تقرأ فيها: الحمد للَّه بكلمته وتعالى باسمه
المنجد لأوليائه، قل إنّ الأهلّة مواقيت للناس، ظاهرها ليعلم عدد
السنين والحساب والشهور والأيام، وباطنها أوليائي الذين عرّفوا عبادي
سبيلي، اتقوني يا أولى الألباب، وأنا الّذي لا أسأل عما أفعل وأنا
العليم الحكيم، وأنا الّذي أبلو عبادي وأمتحن خلقي، فمن صبر على بلائي
ومحنتي واختباري ألقيته في جنّتي وفي نعمتي، ومن زال عن أمري وكذّب
رسلي أخلدته مهانا في عذابي وأتممت أجلي وأظهرت على ألسنة رسلي. فأنا
الّذي لم يعل جبار إلا وضعته وأذللته، فبئس الّذي أصرّ على أمره، ودام
على جهالته. وقال: لن نبرح عليه عاكفين وبه موقنين أولئك هم الكافرون.
ثم يركع ويقول في ركوعه: مرتين سبحان ربي وربّ العزة وتعالى عما يصف
الظالمون، وفي سجوده الله أعلى مرّتين، الله أعظم مرّة، والصوم مشروع
يوم المهرجان، والنّيروز. والنبيذ حرام والخمر حلال، والغسل من الجنابة
كالوضوء. ولا يؤكل ذو ناب ولا ذو مخالب، ومن خالفهم
(3/419)
وحارب وجب قتله، وإن لم يحارب أخذت منه
الجزية انتهى إلى غير ذلك من دعاوى شنيعة متعارضة يهدم بعضها بعضا،
وتشهد عليهم بالكذب، وهذا الفرح ابن يحيى الّذي ذكر هذا أوّل الكتاب
أنه داعية القرامطة يلقّب عندهم ذكرويه بن مهرويه. ويقال إنّ ظهور هذا
الرجل كان قبل مقتل صاحب الزنج، وإنه سار إليه على الأمان، وقال له:
إنّ ورائي مائة سيف، فتعال نتناظر فلعلّنا نتفق ونتعاون. ثم تناظرا
فاختلفا وانصرف قرمط عنه، وكان يسمّي نفسه القائم بالحق. وزعم بعض
الناس أنه كان يرى رأي الأزارقة من الخوارج.
فتنة طرسوس
قد تقدّم لنا انتقاض بازمان [1] بطرسوس على مولاه أحمد بن طولون، وأنه
حاصره فامتنع عليه، وأنه راجع بعد طاعة ابنه خمارويه مما حمل إليه من
الأموال والأمتعة والسلاح، فاستقام أمره بطرسوس مدّة، وغزا سنة ثمان
وسبعين بالصائفة مع أحمد الجعفيّ [2] وحاصروا اسكندا فأصيب بحجر
منجنيق، فرجع وهلك في طريقه ودفن بطرسوس. وكان استخلف ابن عجيف فأقرّه
خمارويه وأمدّه بالخيل والسلاح والمال، ثم عزله واستعمل عليها ابن عمه
ابن محمد بن موسى بن طولون. ولما توفي الموفّق نزع خادم من خواصه اسمه
راغب إلى الشكّ، وطلب المقام بالثغر للجهاد، فأذن له المعتضد، فسار إلى
طرسوس وحطّ أثقاله بها وسار إلى لقاء خمارويه بدمشق فأكرمه واستجلب
أنسه، فطال مقامه وألهم أصحابه بطرسوس أنه قبض عليه، فأوصلوا أهل البلد
في ذلك، فوثبوا بأميرهم محمد بن موسى حتى يطلق لهم راغب، وبلغ الخبر
إلى خمارويه فأطلقه فجاء إليهم ووبّخهم على فعلهم، فأطلقوا محمد بن
موسى وسار عنهم إلى بيت المقدس فأعادوا ابن عجيف إلى ولايته.
فتنة أهل الموصل مع الخوارج
قد تقدّم لنا أنّ هارون بن سليمان كان على الشراة من الخوارج، وكان بنو
شيبان يقاتلونهم ويغيرون على الموصل. فلما كانت سنة تسع وسبعين جاء بنو
شيبان لذلك وأغاروا على نينوى وغيرها من الأعمال، فاجتمع هارون الشاربي
في الخوارج وحمدان
__________
[1] هو بازمار الخادم وقد مرّ معنا من قبل.
[2] العجيفي: ابن الأثير ج 7 ص 450.
(3/420)
ابن حمدون الثعلبي على مدافعتهم. وكان مع
بني شيبان هارون بن سيما مولى أحمد بن عيسى بن الشيخ الشيبانيّ، بعثه
محمد بن إسحاق بن كنداجق واليا على الموصل عند ما مات أبوه إسحاق،
وولّى مكانه على أعماله بالموصل وديار ربيعة فلم يرضه أهل الموصل
وطردوه، فسار إلى بني شيبان مستنجدا بهم، فلما التقى الجمعان انهزم بنو
شيبان أوّلا واشتغل أصحاب حمدان والخوارج بالنهب، فكرّ عليهم بنو شيبان
وظفروا بهم. وكتب هارون بن سيما إلى محمد بن إسحاق بن كنداجق يستمدّه
فسار بنفسه، وخشيه أهل الموصل فسار بعضهم إلى بغداد يطلبون عاملا
يكفيهم أمر ابن كنداجق، ومرّوا في طريقهم بمحمد بن يحيى المجروح
الموكّل بحفظ الطريق فألفوه وقد وصل إليه بولاية العهد الموصل، فبادر
وملكها، وتواثق ابن كنداجق في مكانه، وبعث إلى خمارويه بالهدية، ويسأل
إمارة الموصل كما كان من قبل، فلم يجبه إلى ذلك، ثم عزل المجروح وولّى
بعده عليّ بن داود الكردي.
الصوائف أيام المعتمد
وصل الخبر في سنة سبع وخمسين بأنّ ملك الروم بالقسطنطينية ميخاييل بن
روفيل وثب عليه قريبه مسك، ويعرف بالصقلي [1] فقتله لأربع وعشرين سنة
من ملكه، وملك مكانه. وفي سنة تسع وخمسين خرجت عساكر الروم فنازلوا
سميساط ثم نازلوا مليطة [2] وقاتلهم أهلها فانهزموا، وقتل بطريق من
بطارقتهم. وفي سنة ثلاث وستين استولى الروم على قلعة الصقالبة، وكانت
ثغرا لطرسوس وتسمّى قلعة كركرة [3] فردّ المعتمد ولاية ثغر طرسوس لابن
طولون، وكان أحمد بن طولون قد خطب ولايتها من الموفّق يريد أن يجعلها
ركابا لجهاده لخبرته بأحوالها. وكان يردّد الغزو من طرسوس إلى بلاد
الروم قبل ولاية مصر، فلم يجبه الموفّق، وولّى عليها الموفّق محمد بن
هارون الثعلبيّ، واعترضه الشراة أصحاب مساور وهو مسافر في دجلة فقتلوه،
فولّى مكانه أماجور بن أولغ بن طرخان من الترك، فسار إليها وكان غرّا
جاهلا، فأساء السيرة ومنع أقران أهل كركرة ميرتهم، وكتبوا إلى أهل
طرسوس يشكون فجمعوا لهم خمسة عشر ألف دينار فأخذها أماجور لنفسه، وأبطأ
على أهل القلعة شأنها. فنزلوا
__________
[1] بسيل المعروف بالصقلبيّ: ابن الأثير ج 7 ص 248.
[2] هي ملطية: المرجع السابق.
[3] لؤلؤة: ابن الأثير ج 7 ص 309.
(3/421)
عنها وأعطوها الروم، وكثر أسف أهل طرسوس
لذلك بما كانت ثغرهم وعينا لهم على العدوّ، وبلغ ذلك المعتمد، فكتب
لأحمد بن طولون بولايتها وفوّض إليه أمر الثغور، فوليها واستعمل فيها
من يحفظ الثغر ويقيم الجهاد، وقارن ذلك وفاة أماجور عامل دمشق، وملك
ابن طولون الشام جميعها كما ذكرناه قبل. وفي سنة أربع وستين غزا
بالصائفة عبد الله بن رشيد بن كاوس في أربعين ألفا من أهل الثغور
الشامية، فأثخن فيهم وغنم ورجع، فلما رحل عن البدندون خرج عليه بطريق
سلوقية، وقرّة كوكب وحرسيه [1] ، وأحاطوا بالمسلمين فاستمات المسلمون
واستلحمهم الروم بالقتل، ونجا فلّهم إلى الثغر، وأسر عبد الله بن كاوس
وحمل إلى القسطنطينية وفي سنة خمس وستين خرج خمسة من بطارقة الروم إلى
أذنة فقتلوا وأسروا والي الثغور أوخرد [2] فعزل عنها وأقام مرابطا،
وبعث ملك الروم بعبد الله بن كاوس ومن معه من الأسرى إلى أحمد بن
طولون، وأهدى إليه عدّة مصاحف. وفي سنة ست وستين لقي أسطول المسلمين
أسطول الروم عند صقيلة [3] فظفر الروم بهم، ولحق من سلم منهم بصقيلة،
وفيها خرجت الروم على ديار ربيعة، واستنفر الناس ففرّوا ولم يطيقوا
دخول الدرب لشدّة البرد فيها. وغزا عامل ابن طولون على الثغور الشامية
في ثلاثمائة من أهل طرسوس واعترضهم أربعة آلاف من الروم من بلاد هرقل،
فنال المسلمون منهم أعظم النيل. وفي سنة ثمان وستين خرج ملك الروم،
وفيها غزا بالصائفة خلف الفرغانيّ عامل ابن طولون على الثغور الشامية
فأثخن ورجع. وفي سنة سبعين زحف الروم في مائة ألف ونزلوا قلمية على ستة
أميال من طرسوس، فخرج إليهم بازيار [4] فهزمهم وقتل منهم سبعين ألفا
وجماعة من البطارقة، وقتل مقدّمهم بطريق البطارقة، وغنم منهم سبع صلبان
ذهبا وفضّة، وكان أعظمها مكلّلا بالجواهر. وغنم خمسة عشر ألف دابة، ومن
السروج والسيوف مثل ذلك، وأربع كراسي من ذهب، ومائتين من فضّة وعشرين
علما من الديباج وآنية كثيرة. وفي سنة ثلاث وسبعين غزا بالصائفة بازيار
وتوغّل في أرض الروم وقتل وغنم وأسر وسبى وعاد إلى طرسوس. وفي سنة ثمان
وسبعين دخل أحمد الجعفي [5] طرسوس وغزا مع بازيار
__________
[1] خرشنة: ابن الأثير ج 7 ص 312.
[2] أرجوز: ابن الأثير ج 7 ص 327.
[3] هي صقلّيّة.
[4] بازمار: ابن الأثير ج 7 ص 406.
[5] احمد الجعيفي: ابن الأثير ج 7 ص 449.
(3/422)
بالصائفة ونازلوا إسكندا [1] فأصيب بازيار
عليها بحجر منجنيق فرجع ومات في طريقه ودفن بطرسوس.
الولايات بالنواحي أيام المعتز
كانت الفتنة قد ملأت نواحي الدولة من أطرافها وأوساطها واستولى بنو
سامان على ما وراء النهر، والصفّار على سجستان وكرمان وملك فارس من يد
عمّال الخليفة، وانتزع خراسان من بني طاهر وكلّهم مع ذلك يقيمون دعوة
الخليفة. وغلب الحسن بن زيد على طبرستان وجرجان منازعا بالدعوة ومحاربا
بالديلم لابن سامان والصفّار، وعساكر الخليفة بأصبهان، واستولى صاحب
الزنج على البصرة والأبلّة إلى واسط وكور دجلة منازعا للدعوة ومشاققا،
وأضرم تلك النواحي فتنة. ولم يزل الموفّق في محاربته حتى حسم علّته
وقطع أثره واضطرمت بلاد الموصل والجزيرة فتنة بخوارج السراة [2]
وبالقرب من بني شيبان وتغلب بالأكراد، واستولى ابن طولون على مصر
والشام مقيما لدعوة الخلافة العبّاسيّة، وابن الأغلب بإفريقية كذلك.
وأمّا المغرب الأقصى والأندلس فاقتطعا عن المملكة العبّاسيّة منذ أزمان
كما قلنا، ولم يكن للمعتمد مدّة خلافته كلّها حكم ولا أمر ونهي، إنما
كان مغلبا لأخيه الموفّق وتحت استبداده، ولم يكن لهما جميعا كبير ولاية
في النواحي باستيلاء من استولى عليها ممن ذكرناه إلّا بعض الأجناس،
فلنذكر ما وصل إلينا من هذه الولايات أيام المعتمد، فلأوّل ولايته
استوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان وبعث جعلان لحرب الزنج بالبصرة فكان
أمره معهم كما مرّ. ثم ولّى عيسى بن الشيخ من بني شيبان على دمشق
فاستأثر بها ومنع الخراج، وجاءه حسين الخادم من بغداد يطلب المال
فاعتذر بأنه أنفقه على الجند، فكتب له المعتمد عهده في أرمينية ليقيم
بها دعوته وقلّد أماجور دمشق وأعمالها فسار إليها، وأنفذ عيسى بن الشيخ
ابنه منصورا لقتال أماجور في عشرين ألفا، فانهزموا وقتل منصور وسار
عيسى إلى أرمينية على طريق الساحل ودخل أماجور دمشق. وفي سنة ست وخمسين
سار موسى بن بغا لحرب مساور الخارجي فلقيه (ساحة جائعين) [3] فنال
الخوارج منهم. وفيها كان وثوب محمد بن واصل بن
__________
[1] شكند: ابن الأثير ج 7 ص 449.
[2] هم الشراة وهي فرقة من الخوارج وقد مرّت سابقا عدة مرات باسم
السراة.
[3] هي ناحية خانقين.
(3/423)
إبراهيم التميميّ على الحرث بن سيما عامل
فارس، فقتله وغلب عليها كما مرّ. وفيها غلب الحسن بن زيد الطالبيّ على
الريّ فسار إليها موسى بن بغا وغلب على عساكر الحسن، وظهر عليّ بن زيد
بالكوفة وملكها، وبعث المعتمد لمحاربته كيجور التركيّ فخرج عنها إلى
القادسية، ثم إلى ختان [1] ثم إلى بلاد بني أسد. وغزاه كيجور من الكوفة
فأوقع به وعاد إلى الكوفة، ثم إلى سرّ من رأى. وفي سنة سبع وخمسين عقد
المعتمد لأخيه الموفق على الكوفة والحرمين واليمن ثم على بغداد والسواد
إلى البصرة والأهواز وأمره أن يعقد ليارجوج [2] على البصرة وكور دجلة
واليمامة والبحرين مكان سعيد الحاجب. وعقد يارجوج على ذلك لمنصور بن
جعفر الخيّاط ونزل الأهواز ثم عقد المعتمد حرب الزنج بالبصرة لأحمد بن
المولّد، فسار إليها وقاتل الزنج. وكان بالبطائح سعيد بن أحمد الباهليّ
متغلّبا عليها فأخذه ابن المولّد وبعث به إلى سامرّا.
وفيها تغلّب يعقوب الصفّار على فارس وبعض أعمال خراسان، وولّاه المعتمد
ما غلب عليها [3] وفيها غلب الحسن بن زيد على خراسان، وانتقضت على ابن
طاهر أعمال خراسان، وفيها اقتطع المعتمد مصر وأعمالها ليارجوج التركي
فولّى عليها أحمد بن طولون، ومات يارجوج لسنة بعدها فاستبدّ ابن طولون
بها، وكان عبد العزيز بن أبي دلف على الريّ، فخرج عليها خوفا من جيوش
ابن زيد صاحب طبرستان، فبعث الحسن من قرابته القاسم بن عليّ القاسم،
فأساء فيها السيرة. وفي سنة ثمان وخمسين قتل منصور بن جعفر الخيّاط في
حرب الزنج، وولي يارجوج على أعمال منصور، فولّى عليها أصطيخور، وهلك في
حرب الزنج، وعقد المعتمد للموفّق على ديار مصر وقنّسرين والعواصم.
وبعثه لحرب الزنج ومعه مفلح فهلك في تلك الحرب. وعقد المعتمد على
الموصل والجزيرة لمسرور البلخيّ فكانت بينه وبين مساور الشيبانيّ حروب
وكذلك بين الأكراد واليعقوبية، وأوقع بهم كما مرّ. وفيها رجع أحمد بن
واصل إلى طاعة السلطان وسلّم فارس للحسن بن الفيّاض. وفي سنة تسع
وخمسين كان مهلك أصطيخور بالأهواز، فأمر المعتمد موسى بن بغا بالمسير
__________
[1] خفان: ابن الأثير ج 7 ص 239.
[2] ياركوج: ابن الأثير ج 7 ص 241.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 247: «وفي هذه السنة- 257- سار يعقوب
بن الليث إلى فارس، فأرسل اليه المعتمد ينكر ذلك عليه، فكتب اليه
الموفق بولاية بلخ، وطخارستان، وسجستان..
السند فقبل ذلك وعاد، وسار إلى بلخ وطخارستان ... »
(3/424)
لحرب الزنج كما مرّ. وفيها ملك يعقوب
الصفّار خراسان وقبض على محمد بن طاهر، وكان لمنكجور على الكوفة، فسار
عنها إلى سامرّا بغير إذن، وأمر بالرجوع فأبى، فبعث المعتمد عدّة من
القوّاد فلقوه بعكبر فقتلوه وحملوا رأسه. وفيها غلب الحسن بن زيد على
قومس وملكها، وكانت وقعة بين محمد بن الفضل بن نيسان وبين دهشودان ابن
حسّان الديليّ فهزمه محمد، وفيها غلب شركب الحمّال على مرو ونواحيها.
وفي سنة ستين أقام يعقوب بن الصفّار الحسن بن زيد فهزمه وملك طبرستان
كما مرّ.
وأخرج أهل الموصل عاملهم أتكوتكين بن أساتكين، فبعث عليهم أساتكين
إسحاق ابن أيّوب في عشرين ألفا ومعه حمدان بن حمدون الثعلبي فامتنع أهل
الموصل منهم وولّوا عليهم يحيى بن سليمان، فاستولى عليها، وفيها قتلت
الأعراب منجور وإلى حمص فولّى بكتر، وولّى على أذربيجان الرذيني عمر بن
عليّ لما بلغه أنّ عاملها العلاء بن أحمد الأزدي فلج، فلما أتى الرذيني
حاربه العلاء فانهزم وقتل، واستولى الرذيني على مخلّفه قريبا من ألفي
ألف وسبعمائة ألف درهم. وفيها سار عليّ بن زيد القائد بالكوفة إلى صاحب
الزنج فقتله. وفي سنة إحدى وستين عقد المعتمد لموسى بن بغا على الأهواز
والبصرة والبحرين واليمامة، مضافا لما بيده. فولّاها موسى عبد الرحمن
بن مفلح وبعثه لحرب ابن واصل، فهزمه ابن واصل وأسره كما مرّ، ورأى موسى
بن بغا اضطراب تلك الناحية، فاستعفى منها ووليها أبو الساج، وملك الزنج
الأهواز من يده، فصرف عن ولايتها ووليها إبراهيم بن سيما وولي محمد بن
أوس البلخيّ طريق خراسان. ثم جاء الصفّار إلى فارس، فغلب عليها ابن
واصل كما مرّ، فجهّز المعتمد أخاه الموفّق إلى البصرة بعد أن ولّاه
المعتمد عهده بعد ابنه جعفر كما ذكرناه. وبعث الموفّق ابنه أبا العبّاس
لحرب الزنج فتقدّما بين يديه، وفيها فارق محمد بن زيد ولاية يعقوب
الصفّار، وسار ابن أبي الساج إلى الأهواز وطلب أن يوجّه الحسين بن طاهر
بن عبد الله بن طاهر إلى خراسان، وفيها استبدّ نصر بن أحمد بن سامان
بسمرقند وما وراء النهر، وولّى أخاه إسماعيل بخارى وفيها ولّى المعتمد
على الموصل الخضر بن أحمد بن عمر بن الخطّاب، وفيها رجع الحسين بن زيد
إلى طبرستان وأخرج منها أصحاب الصفّار، وأحرق سالوس لممالأة أهلها
الصفّار وأقطع ضياعهم للديلم، وفيها نادى المعتمد في حاج خراسان والريّ
وطبرستان وجرجان بالنكير على ما فعله الصفّار في خراسان وابن طاهر،
وانه لم يكن عن أمره ولا ولّاه.
(3/425)
وفيها قتل مساور الشاربي يحيى ابن جعفر من
ولاة خراسان، فسار مسرور البلخيّ في طلبه والموفّق من ورائه. وفي سنة
اثنتين وستين كانت الحرب بين الموفّق والصفّار، واستولى الزنج على
البطيحة ودسيميسان [1] وولّى على الأهواز كما ذكرنا، وبعث مسرور البلخي
أحمد بن ليتونة [2] لحربهم كما مرّ. وفيها ثار أحمد بن عبد الله
الخجستاني في خراسان بدعوة بني طاهر، وغلب عليها الصفّار إلى أن قتل
كما مرّ ذكره. وفيها وقعت مغاضبة بين الموفّق وابن طولون فبعث إليه
الموفق موسى بن بغا فأقام بالرقّة حولا، وعجز عن المسير لقلّة الأموال
فرجع إلى العراق. وفيها انصرف عامل الموصل وهو القطّان صاحب مفلح فقتله
الأعراب بالبريّة. وفي سنة ثلاث وستين استولى الصفّار على الأهواز،
ومات مساور الشاربي [3] وهو قاصد لقاء العساكر السلطانية بالتواريخ [4]
. فولّى الخوارج مكانه هارون بن عبد الله البلخيّ، فاستولى على الموصل.
وفيها ظفر أصحاب الصفّار بابن واصل. وفيها هزم ابن أوس من طريق خراسان
وعاد إلى الموصل. وفيها ظفر أصحاب الصفّار بابن واصل وأسروه، ومات عبيد
الله بن يحيى بن خاقان وزير المعتمد فاستوزر مكانه الحسن بن مخلّد،
وكان موسى بن بغا غائبا في غزو العرب، فلما قدم خافه الحسين [5]
وتغيّب، فاستوزر مكانه سليمان بن وهب وفيها غلب أخو شركب الحمّال على
نيسابور وخرج عنها الحسين بن طاهر إلى مرو وبها خوارزم شاه يدعو لأخيه
محمد.
وفيها ملك صاحب الزنج مدينة واسط وقاتله دونها محمد بن المولّد فهزمه
ودخلها واستباحها. وفيها قبض المعتمد على وزيره سليمان بن وهب وولّى
مكانه الحسن بن مخلّد، وجاء الموفّق مع عبد الله بن سليمان شفيعا فلم
يشفعه، فتحوّل إلى الجانب الغربي مغاضبا واختلفت الرسل بينه وبين
المعتمد، وكان مع الموفّق مسرور كيغلغ وأحمد بن موسى بن بغا. ثم أطلق
سليمان ودعا إلى الجوسق وهرب محمد بن صالح ابن شيرزاده والقوّاد الذين
كانوا بسامرّا مع المعتمد خوفا من الموفّق، فوصلوا إلى الموصل وكتب
الموفّق لأحمد بن أبي الأصبغ في قبض أموالهم. وفيها مات أماجور
__________
[1] دست ميسان: ابن الأثير ج 7 ص 292.
[2] احمد بن ليثويه: ابن الأثير ج 7 ص 322.
[3] مساور الشاري وقد مرّ ذكره من قبل.
[4] البوازيج: ابن الأثير ج 7 ص 309.
[5] حسب مقتضى السياق الحسن.
(3/426)
عامل دمشق وملك ابن طولون الشام وطرسوس
وقتل عاملها سيما. وفي سنة خمس وستين ولي مسرور البلخيّ على الأهواز،
وهزم الزنج. وفيها مات يعقوب الصفّار وقام بأمره أخوه عمر، ولّاه
الموفّق مكان أخيه بخراسان وأصبهان وسجستان والسّند وكرمان والشّرطة
ببغداد. وفيها وثب القاسم بن مهان [1] بدلف ابن عبد العزيز بن أبي دلف
بأصبهان، فوثب جماعة من أصحاب دلف بالقاسم فقتلوه. فولي أصبهان أحمد بن
عبد العزيز أخو دلف، وفيها لحق محمد بن المولّد بيعقوب الصفّار وقبضت
أمواله وعقاره ببغداد. وفيها حبس الموفّق سليمان بن وهب وابنه عبد الله
وصادرهما على تسعمائة ألف دينار، وفيها ذهب موسى بن أتامشّ وإسحاق بن
كنداجق والفضل بن موسى بن بغا مغاضبين، وبعث الموفّق في أثرهم صاعد بن
مخلّد فردّهم من صرصر وفيها استوزر الموفّق أبا الصقر إسماعيل بن بلبل.
وفي سنة ست وستين ملك الزنج رامهرمز وغلب أساتكين على الريّ وأخرج عنها
عاملها فطلقت [2] . ثم مضى إلى قزوين وبها أخوه كيغلغ فصالحه ملكها.
وفيها ولّى عليّ بن الليث على الشرطة ببغداد عبيد الله بن عبد الله
طاهر، وعلى أصبهان أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، وعلى الحرمين وطريق
مكة محمد بن أبي الساج، وولّى الموفق على الجزيرة أحمد بن موسى بن بغا
فولّى من قبله على ديار ربيعة موسى بن أتامش، فغضب لذلك إسحاق ابن
كنداجق وفارق عسكر موسى، وسار إلى بلد، وأوقع بالأكراد اليعقوبيّة، ثم
لقي ابن مساور الخارجيّ فقاتله وسار إلى الموصل، وطلب من أهلها المال،
وخرج على ابن داود لقتاله مع إسحاق بن أيّوب وحمدان بن حمدون، وكانت
بينهم حروب أخّرها المعتمد لإسحاق بن كنداجق على الموصل، وقد مرّ ذلك
من قبل، وفيها قتل أهل حمص عاملها عيسى الكرخيّ. وفيها كانت بين لؤلؤ
غلام ابن طولون وبين موسى بن أتامش وقعة برأس عين، وأسره لؤلؤ وبعث به
إلى الرقّة، ثم لقيه أحمد بن موسى فاقتتلوا، وغلب أحمد أوّلا ثم كرّ
لؤلؤ فغلبهم وانتهوا إلى قرقيسيا. ثم ساروا إلى بغداد وسامرّا. وفيها
أوقع أحمد بن عبد العزيز ببكتم [3] فانهزم ولحق ببغداد وأوقع الخجستاني
بالحسن بن زيد بجرجان فلحق بآمد، وملك الخجستاني جرجان وأقطعه من
طبرستان واستخلف على سارية الحسن ابن محمد بن جعفر بن عبد الله العقيقي
بن
__________
[1] القاسم بن مهاة: ابن الأثير ج 7 ص 327.
[2] اسم العامل خطلنخجور كما في الكامل ج 7 ص 332.
[3] بكتمر: ابن الأثير ج 7 ص 335.
(3/427)
حسين الأصفر بن زين العابدين، فلما انهزم
الحسن بن زيد أظهر الحسن بن محمد أنه قتل، ودعا لنفسه وحاربه الحسن بن
زيد فظفر به وقتله. وفيها ملك الخجستاني نيسابور من يد عامل ابن عمرو
بن الليث، وفيها في صفر زحف الموفّق لقتال صاحب الزنج، فلم يزل يحاصره
حتى اقتحم عليه مدينته وقتله منتصف سنة سبعين.
وفيها كانت الحرب بالمدينة بين بني حسن وبني جعفر. وفي سنة سبع وستين
كانت الفتنة بالموصل بين الخوارج. وفيها حبس السلطان محمد بن عبد الله
بن طاهر وجماعة من بيته، اتهمه عمرو بن الليث بممالأة الخجستاني
والحسين بن طاهر أخيه، فكتب إلى المعتمد وحبسه. وفيها كانت بين كيقلغ
[1] التركي وأحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، وانهزم أحمد وملك كيقلغ
همذان، فزحف إليه أحمد بن عبد العزيز فهزمه، وملك همذان. وسار كيقلغ
إلى الصحيرة [2] . وفيها أزال الخجستاني ذكر محمد بن طاهر من المنابر
ودعا لنفسه بعد المعتمد، وضرب السكة باسمه، وجاء يريد العراق فانتهى
إلى الريّ. ثم رجع وفيها أوقع أصحاب أبي الساج بالهيثم العجليّ صاحب
الكوفة، وغنموا عسكره. وفيها أوقع أبو العباس بن الموفّق بالأعراب
الذين كانوا يجلبون الميرة بالزنج من بين تميم وغيرهم. وفي سنة ثمان
وستين كان مقتل الخجستاني و [3] أصحابه بعده على رافع بن هرثمة من
قوّاد بني طاهر وملك بلاد خراسان وخوارزم، وفيها انتقض محمد بن الليث
بفارس على أخيه عمرو، فسار إليه وهزمه واستباح عسكره، وملك أصطيخور [4]
وشيراز وظفر به، فحبسه كما مرّ. وفيها كانت وقعة بين أتكوتكين [5] بن
أساتكين وبين أحمد بن عبد العزيز ابن أبي دلف فهزمه اتكوتكين وغلبه على
قمّ. وفيها بعث عمرو بن الليث عسكرا إلى محمد بن عبد الله الكرديّ.
وفيها انتقض لؤلؤ على مولاه أحمد بن طولون، وسار إلى الموفّق وقاتل معه
الزنج. وفيها سار المعتمد إلى ابن طولون بمصر مغاضبا لأخيه الموفّق،
وكتب الموفّق إلى إسحاق بن كنداجق بالموصل بردّه، فسار معه إلى آخر
عمله، ثم
__________
[1] تردد هذا الاسم مرات عديدة وفي الكامل كيغلغ: ج 7 ص 361.
[2] الصّيمرة: ابن الأثير ج 7 ص 362.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 372: «وفيها قتل احمد بن عبد الله
الخجستاني في ذي الحجة، قتله غلام له» .
[4] هي مدينة إصطخر.
[5] اسمه أذكوتكين وقد مرّ معنا في السابق.
(3/428)
قبض على القوّاد الذين معه، وردّه إلى
سامرّا. وفيها وثب العامة ببغداد بأميرهم الخلنجيّ وكان كاتب عبيد الله
بن طاهر، وقتل غلام له امرأة بسهم، فلم يعدهم عليه، فوثبوا به وقتلوا
من أصحابه ونهبوا منزله وخرج هاربا، فركب محمد بن عبد الله واستردّ من
العامة ما نهبوه. وفيها وثب بطرسوس خلق من أصحاب ابن طولون وعامله على
الثغور الشامية، فاستنقذه أهل طرسوس من يده، وزحف إليهم ابن طولون
فامتنعوا عليه، ورجع إلى حمص، ثم إلى دمشق، وفيها كانت وقعة بين
العلويّين والجعفريّين بالحجاز، فقتل ثمانية من الجعفريين وخلّصوا عامل
المدينة من أيديهم. وفيها عقد هارون بن الموفّق لأبي الساج على الأنبار
والرحبة وطريق الفرات، وولّى محمد بن أحمد على الكوفة وسوادها ودافعه
عنها محمد بن الهيثم فهزمه محمد ودخلها. وفيها مات عيسى بن الشيخ
الشيبانيّ عامل أرمينية وديار بكر.
وفيها عظمت الفتنة بين الموفّق وابن طولون، فحمل المعتمد على لعنه
وعزله، وولّى إسحاق بن كنداجق على أعماله إلى إفريقية، وعلى شرطة
الخاصّة. وقطع ابن طولون الخطبة للموفّق واسمه من الطرر [1] وفيها ملك
ابن طولون الرحبة بعد مقاتلة أهلها، وهرب أحمد بن مالك بن طوق إلى
الشام، ثم سار إلى ابن الشمّاخ بقرقيسياء. وفي سنة سبعين كان مقتل صاحب
الزنج وانقراض دعوته، ووفاة الحسن بن زيد العلويّ صاحب طبرستان، وقيام
أخيه محمّد بأمره، ووفاة أحمد بن طولون صاحب مصر وولاية ابنه خمارويه
ومسير إسحاق بن كنداجق بابن دعامس عامل الرقّة والثغور والعواصم لابن
طولون. وفي سنة إحدى وسبعين ثار بالمدينة محمد وعليّ ابنا الحسن بن
جعفر بن موسى الكاظم وقتلا جماعة من أهلها، ونهبا أموال الناس، ومنعا
الجمعة بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا. وفيها عزل المعتمد
عمرو بن الليث من خراسان فقاتله أحمد بن عبد الله بن أبي دلف بأصبهان
وهزمه. وفيها استعاد خمارويه الشام من يد أبي العبّاس بن الموفّق، وفرّ
إلى طرسوس كما تقدّم. وفيها عقد المعتمد لأحمد بن محمد الطائي على
المدينة وطريق مكة، وكان يوسف بن أبي الساج والي مكة. وجاء بدر غلام
الطائي أميرا على الحاج فحاربه يوسف على باب المسجد الحرام وأسره، فسار
الجند والحاج بيوسف وأطلقوا بدرا من يده وحملوا يوسف أميرا إلى بغداد.
وفي منتصف سنة اثنتين وسبعين غلب أتكوتكين على الريّ من يد محمد بن
__________
[1] الطرر: حواشي الكتب.
(3/429)
زيد العلويّ. سار هو من قزوين في أربعة
آلاف، ومحمد بن زيد من طبرستان في الديلم، وأهل خراسان، فانهزموا وقتل
منهم ستة آلاف. وفيها ثار أهل طرسوس بأبي العبّاس بن الموفّق وأخرجوه
إلى بغداد وولّوا عليهم بازيار [1] . وفيها توفي سليمان ابن وهب في حبس
الموفق. وفيها دخل حمدان بن حمدون وهارون مدينة الموصل. وفيها قدم صاعد
بن مخلّد الوزير من فارس، وقد كان بعثه الموفّق إليها لحرب [2] فرجع
إلى واسط وركب القوّاد لاستقباله فترجّلوا إليه وقبّلوا يده، ولم
يكلّمهم. ثم قبض الموفّق على جميع أصحابه وأهله ونهب منازلهم، وكتب إلى
بغداد بقبض ابنه أبي عيسى وصالح وأخيه عبدون، واستكتب مكانه أبا الصقر
إسماعيل بن بلبل، واقتصر به على الكتابة. وفيها جاء بنو شيبان إلى
الموصل فعاثوا في نواحيها وأجمع هارون الشاربي وأصحابه على قصدهم، وكتب
إلى أحمد بن حمدون الثعلبي فجاءه وساروا إلى الموصل وعبروا الجانب
الشرقي من دجلة، ثم ساروا إلى نهر الحادر [3] فلما تراءى الجمعان انهزم
هارون وأصحابه وانجلى سوى [4] عنها. وفي سنة ثلاث وسبعين وقعت الفتنة
بين ابن كنداجق وبين ابن أبي الساج وسار ابن أبي الساج إلى ابن طولون
واستولى على الجزيرة والموصل، وخطب له فيها. وقاتل الشراة كما ذكرنا.
وفيها قبض الموفّق على لؤلؤ غلام ابن طولون وصادره على أربعمائة ألف
دينار وبقي في إدبار إلى أن عاد إلى مصر أيام هارون بن خمارويه. وفي
سنة أربع وسبعين سار الموفّق إلى فارس فاستولى عليها من يد عمرو بن
الليث ورجع عمرو إلى كرمان وسجستان، وعاد الموفّق إلى بغداد. وفي سنة
خمس وسبعين نقض ابن أبي الساج طاعة خمارويه وقاتله خمارويه فهزمه، وملك
الشام من يده وسار إلى الموصل، وخمارويه في اتباعه إلى بغداد. ولحق ابن
أبي الساج بالحديثة فأقام بها إلى أن رجع خمارويه. وكان إسحاق ابن
كنداج قد جاء إلى خمارويه فبعث معه جيشا وقوّاد في طلب ابن أبي الساج.
واشتغل بعمل السفن للعبور إليه فسار ابن أبي الساج عنها إلى الموصل،
وأتبعه ابن
__________
[1] اسمه مازيار وقد مرّ معنا من قبل عدة مرّات.
[2] بياض بالأصل وفي الطبري ج 11 ص 331: «وفيها قدم صاعد بن مخلّد من
فارس ودخل واسط في رجب» وعند ابن الأثير ج 7 ص 419- 420: «وفيها قدم
صاعد من فارس إلى واسط وكان يتولى على فارس في هذه الفترة عمرو ابن
الليث وقد بعث الموفق صاعد بن مخلد لقتاله.
[3] نهر الخازر: ابن الأثير ج 7 ص 419.
[4] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 7 ص 419: «وجلا أهل نينوى عنها» .
(3/430)
كنداج وسار إلى الرقّة فاتبعه ابن أبي
الساج، وكتب إلى الموفّق يستأذنه في اتباعه إلى الشام. وجاء ابن كنداج
بالعساكر من عند خمارويه وأقام على حدود الشام ثم هزم ابن أبي الساج
فسار إلى الموفّق وملك ابن كنداج ديار ربيعة وديار مضر، وقد تقدّم ذكر
ذلك. وفيها خرج أحمد بن محمد الطائي من الكوفة لحرب فارس العبديّ وكان
يخيف السابلة فهزمه العبديّ، وكان الطائي على الكوفة وسوادها وطريق
خراسان وسامرّا وشرطة بغداد، وخراج بادر دباد قطربُّل [1] وفيها قبض
الموفّق على ابنه أبي العبّاس وحبسه. وفيها ملك رافع بن هرثمة جرجان من
يد محمد بن زيد وحاصره في أستراباذ نحوا من سنتين، ثم فارقها الجيش
لحربه فسار عن سارية وعن طبرستان سنة سبع وسبعين. واستأمن رستم بن قارن
إلى رافع وقدم عليه عليّ بن الليث من حبس أخيه بكرمان هو وابناه العدل
والليث. رافع على سالوس محمد بن هارون وجاء إليه علي بن كاني مستأمنا
فحصرهما محمد بن زيد، وسار إليه رافع ففرّ إلى أرض الديلم ورافع في
اتباعه إلى حدود قزوين فسار فيها وأحرقها وعاد إلى الريّ. وفي سنة ست
وسبعين رضي المعتمد عن عمرو بن الليث وولّاه وكتب اسمه على الأعلام،
وولّى على الشرطة ببغداد من قبله عبيد الله ابن عبد الله بن طاهر. ثم
انتقض فأزيل. وفيها كان مسير الموفّق إلى الجبل لأتكوتكين ومحاربة أحمد
بن عبد العزيز بن أبي دلف، وقد تقدّم ذلك. وفيها ولّى الموفّق ابن أبي
الساج على أذربيجان فسار إليها ودافعه عبد الله ابن حسن الهمذاني صاحب
مراغة فهزمه ابن أبي الساج، واستقرّ في عمله. وفيها زحف هارون الشاري
من الحديثة إلى الموصل يريد حربها، ثم صانعه أهل الموصل ورحل عنهم. وفي
سنة سبع وسبعين دعا مازيار بطرسوس لخمارويه بن أحمد بن طولون، وكان
أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة مطرف وسلاحا كثيرا.
وبعث إليه بعد الدعاء بخمسين ألف دينار. وفي سنة ثمان وسبعين كانت وفاة
الموفّق وبيعة المعتضد بالعهد كما مرّ. وفيها كان ابتداء أمر القرامطة
وقد تقدّم. وفي سنة تسع وسبعين خلع جعفر بن المعتمد وقدّم عليه المعتضد
وكانت الحرب بين الخوارج وأهل الموصل، وبين بني شيبان وعلى بني شيبان
هارون بن سيما من قبل محمد ابن إسحاق بن كنداج، ولّاه عليها فطرده
أهلها، فزحف إليهم مع بني شيبان ودافع عن أهل الموصل هارون الشاري
وحمدان بن حمدون فهزمهم بنو شيبان، وخاف أهل
__________
[1] بادوريا، وقطربُّل: ابن الأثير ج 7 ص 432.
(3/431)
الموصل من ابن سيما وبعثوا إلى بغداد
يطلبون واليا، فولّى المعتمد عليهم محمد بن يحيى المجروح الموكّل بحفظ
الطريق، وكان ينزل الحديثة فأقام بها أياما ثم استبدل منه بعليّ بن
داود الكردي.
وفاة المعتمد وبيعة المعتضد
توفى المعتمد على الله أبو العبّاس أحمد بن المتوكّل لعشر بقين من رجب
سنة تسع وسبعين ومائتين لثلاث وعشرين سنة من ولايته، ودفن بسامرّا، وهو
أوّل من انتقل إلى بغداد وكان في خلافته مغلبا عاجزا وكان أخوه الموفّق
مستبدّا عليه، ولم يكن له معه حكم في شيء. ولما مات الموفّق سنة ثمان
وسبعين كما قدّمناه أقام مكانه ابنه أبا العبّاس أحمد المعتضد وحجر
المعتمد كما كان أبوه يحجره، وولّاه عهده كما كان أبوه.
ثم قدّمه في العهد على ابنه جعفر، ثم هلك فبايع الناس للمعتضد بالخلافة
صبيحة موته، فولّى غلامه بدرا الشرطة وعبيد الله بن سليمان بن وهب
الوزارة، ومحمد بن الشاري بن ملك الحرس. ووفد عليه لأوّل خلافته رسول
عمرو بن الليث بالهدايا وسأل ولاية خراسان فعقد له عليها، وبعث إليه
بالخلع واللواء، ولأوّل خلافته مات نصر بن أحمد الساماني ملك ما وراء
النهر، وقام مكانه أخوه إسماعيل.
مقتل رافع بن الليث [1]
كان رافع بن الليث قد وضع يده على قرى السلطان بالريّ، وكتب إليه
المعتضد برفع يده عنها، فكتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف
بإخراجه عن الريّ فقاتله وأخرجه، وسار إلى جرجان ودخل نيسابور سنة ثلاث
وثمانين، فوقعت بينه وبين عمرو حرب وانهزم رافع إلى أبيورد وخلص عمرو
ابني أخيه من حبسه، وهما العدل والليث ابنا عليّ بن الليث، وقد تقدّم
خبرهما. ثم سار رافع إلى هراة ورصده عمرو بسرخس فشعر به ورجع إلى
نيسابور في مسالك صعبة، وطرق ضيّقة، واتبعه عمرو فحاصره في نيسابور. ثم
تلاقيا وهرب عن رافع بعض قوّاده إلى عمرو فانهزم رافع، وبعث أخاه محمد
بن هرثمة إلى محمد بن زيد يستمدّه كما شرط له فلم يفعل.
وافترق عن رافع أصحابه وغلمانه، وفارقه محمد بن هارون إلى أحمد بن
إسماعيل في
__________
[1] رافع بن هرثمة: ابن الأثير ج 7 ص 457.
(3/432)
بخارى، ولحق رافع بخوارزم في فلّ من العسكر
ومعه بقية أمواله وآلته، ومرّ في طريقه بأبي سعيد الدرعاني ببلد
فاستغفله وغدر به وحمل رأسه إلى عمرو بن الليث بنيسابور وذلك في شوّال
سنة ثلاث وثمانين.
خبر الخوارج بالموصل
قد تقدّم لنا أنّ خوارج الموصل من الشراة استفدر عليهم بعد مساور هارون
الشاري وذكرنا شيئا من أخبارهم. ثم خرج عليه سنة ثمانين محمد بن عبادة
ويعرف بأبي جوزة من بني زهير من البقعاء، وكان فقيرا ومعاشه ومعاش بنيه
في التقاط الكمأة وغيرها وأمثال ذلك، وكان يتديّن ويظهر الزهد، ثم جمع
الجموع وحكم واستجمع إليه الأعراب من تلك النواحي، وقبض الزكوات
والأعشار من تلك الأعمال، وبنى عند سنجار حصنا ووضع فيه أمتعته وما
عونه، وأنزل به ابنه أبا هلال في مائة وخمسين، فجمع هارون الشاري
أصحابه وبدأ بحصار الحصن فأحاط به ومحمد بن عبادة في داخله. وجدّ في
حصاره حتى أشرف على فتحه وقيّد أبا هلال ابنه ونفرا معه وبعث بنو ثعلب
وهم مع هارون إلى من كان بالحصن من بني زهير فأمّنوهم، وملك هارون
الحصن. ثم ساروا إلى محمد فلقيهم وهزمهم أوّلا ثم كرّوا عليه مستميتين
فهزموه، وقتلوا من أصحابه ألفا وأربعمائة، وقسّم هارون ماله ولحق محمد
بآمد، فحاربه صاحبها أحمد بن عيسى بن الشيخ فظفر به وبعثه إلى المعتضد
فسلخه حيّا.
إيقاع المعتضد ببني شيبان واستيلاؤه على
ماردين
وفي سنة ثمانين سار المعتضد إلى بني شيبان بأرض الجزيرة ففرّوا أمامه،
وأثار على طوائف من العرب عند السّند فاستباحهم، وسار إلى الموصل فجاءه
بنو شيبان وأعطوه رهنهم على الطاعة، فغلبهم وعاد إلى بغداد. وبعث إلى
أحمد بن عيسى بن الشيخ في أموال ابن كنداج التي أخذها بأحمد، فبعث بها
وبهل أياما كثيرة معها [1] . ثم بلغه أنّ أحمد بن حمدون ممالئ لهارون
الشاري، وداخل في دعوته، فسار المعتضد إليه سنة إحدى وثمانين واجتمع
الأعراب من بني ثعلب وغيرهم للقائه، وقتل منهم
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 462: «وأرسل إلى احمد بن
عيسى بن الشيخ يطلب منه ما اخذه من أموال كنداجيق بآمد، فبعثه اليه
ومعه هدايا كثيرة» .
(3/433)
وغرق في الزاب كثيرا، وسار إلى الموصل. ثم
بلغه أنّ أحمد هرب عن ماردين وخلف بها ابنه، فسار المعتضد إليه ونازلة
وقاتله يوما، ثم صعد من الغد إلى باب القلعة، وصاح بابن حمدان واستفتح
الباب ففتح له دهشا وأمر بنقل ما في القلعة وهدمها، وبعث في طلب حمدان
وأخذ أمواله.
الولاية على الجبل وأصبهان
عقد المعتضد سنة إحدى وثمانين لابنه عليّ وهو المكتفي على الريّ وقزوين
وزنجان وأبهر وقمّ وهمذان والدينور فاستأمن إليه عامل الريّ لرافع بن
الليث، وهو الحسن بن عليّ كورة فأمّنه وبعث به إلى أبيه.
عود حمدان إلى الطاعة
وفي سنة اثنتين وثمانين سار المعتضد إلى الموصل واستقدم إسحاق بن أيّوب
وحمدان ابن حمدون، فبادر إسحاق بقلاعه وأودع حرمه وأمواله، فبعث إليه
المعتضد العساكر مع وصيف ونصر القسوريّ [1] ، فمرّوا بذيل الزعفران من
أرض الموصل وبه الحسن ابن علي كورة، ومعه الحسين بن حمدان. فاستأمن
الحسين وبعثوا له إلى المعتضد فأمر بهدم القلعة. وسار وصيف في اتباع
حمدان. فواقعه وهزمه وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة وسار في ديار
ربيعة، وعبرت إليه العساكر وحبسوه فأخذوا ماله، وهرب وضاقت عليه الأرض
فقصد خيمة إسحاق بن أيّوب في عسكر المعتضد مستجيرا به فأحضره عند
المعتضد فوكّل به وحبسه.
هزيمة هارون الشاري ومهلكه
كان المعتضد قد ترك بالموصل نصر القسرويّ لإعادته العمّال على الجباية،
وخرج بعض العمّال لذلك فأغارت عليهم طائفة من أصحاب هارون الشاري وقتل
بعضهم، فكثر عيث الخوارج. وكتب نصر القسروي إلى هارون يهدّده، فأجابه
وأساء في الردّ وعرّض بذكر الخليفة فبعث نصر بالكتاب إلى المعتضد فأمره
بالجدّ في طلب هارون، وكان على الموصل يكتم طاتشمر من مواليهم فقبض
عليه وقيّده، وولّى على الموصل الحسن كورة، وأمر ولاة الأعمال بطاعته،
فجمعهم وعسكر بالموصل،
__________
[1] القشوري: ابن الأثير ج 7 ص 469.
(3/434)
وخندق على عسكره إلى أن أوقع بالناس
غلاتهم. ثم سار إلى الخوارج وعبر الزاب إليهم فقاتلهم قتالا شديدا
فهزمهم وقتل منهم وافترقوا، وسار الكثير منهم إلى أذربيجان ودخل هارون
البريّة واستأمن وجوه أصحابه إلى المعتضد فأمّنهم. ثم سار المعتضد سنة
ثلاث وثمانين في طلب هارون فانتهى إلى تكريت، وبعث الحسين بن حمدون في
عسكر نحو من ثلاثمائة فارس، واشترط إن جاء به إطلاق ابنه حمدان! وسار
معه وصيف وانتهى إلى بعض مخايض دجلة فأرصد بها وصيفا وقال: لا تفارقوها
حتى تروني! ومضى في طلبه فواقعه وهزمه، وقتل من أصحابه. وأقام وصيف
ثلاثة أيام فأبطأ عليه الأمر فسار في اتباع ابن حمدان، وجاء هارون
منهزما إلى تلك المخاضة فعبر، وابن حمدان في أثره إلى حيّ من أحياء
العرب قد اجتاز بهم هارون، فدلّوا ابن حمدان عليه فلحقه وأسره وجاء به
إلى المعتضد. فرجع المعتضد آخر ربيع الأوّل وخلع على الحسين وإخوته
وطوقه، وأدخل هارون على الفيل وهو ينادي: لا حكم إلا للَّه ولو كره
المشركون، وكان صغديّا [1] . ثم أمر المعتضد بحلّ القيود عن حمدان ابن
حمدون والإحسان إليه وبإطلاقه. وفي سنة اثنتين وثمانين سار المعتضد من
الموصل إلى الجبل فبلغ الكرخ فهرب عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بين
يديه فأخذ أمواله وبعث إليه في طلب جدّ كان عنده فوجهه إليه. ثم بعث
المعتضد وزيره عبيد الله بن سليمان إلى ابنه بالريّ ليسير من هناك إلى
عمر بن عبد العزيز بالأمان، فسار وأمّنه ورجع إلى الطاعة فخلع عليه
وعلى أهل بيته، وكان أخوه بكر بن عبد العزيز قد استأمن قبل ذلك إلى
عبيد الله بن سليمان وبدر فولّاه عمله، على أن يسير إلى حربه.
فلما وصل عمر في الأمان قال لبكر: إنما ولّيناك وأخوك عاص فامضيا إلى
أمير المؤمنين المعتضد وولى عيسى النوشريّ على أصبهان من قبل عمرو هرب
بكر إلى الأهواز وسار عبيد الله بن سليمان الوزير إلى عليّ بن المعتضد
بالريّ. ولما بلغ الخبر إلى المعتضد بعث وصيفا موسكين [2] إلى بكر بن
عبد العزيز بالأهواز فلحقه بحدود فارس، فمضى بكر إلى أصبهان ليلا ورجع
وصيف إلى بغداد، وكتب المعتضد إلى بدر مولاه بطلب بكر بن عبد العزيز
وحربه، فأمر بذلك عيسى النوشريّ فقام به ولقي بكرا بنواحي أصبهان فهزمه
بكر، ثم عاد النوشريّ لقتاله سنة أربع وثمانين فهزمه بنواحي أصبهان
__________
[1] صغريا: ابن الأثير ج 7 ص 477.
[2] وصيف بن موشكير: المرجع السابق ص 476.
(3/435)
واستباح عسكره ولجأ بكر إلى محمد بن زيد
العلويّ بطبرستان وهلك بها سنة خمس وثمانين، وكان عمر لما مات أبوه قبض
على أخيه الحرث ويكنّى أبا ليلى، وحبسه في قلعة ردّ، ووكل به شفيعا
الخادم. فلما جاء المعتضد واستأمن عمر وهرب بكر وبقيت القلعة بيد شفيع
بأموالها، رغب إليه الحرث في إطلاقه فلم يفعل، وكان شفيع يسامره كل
ليلة وينصرف فحادثه ليلة ونادمه وقام شفيع لبعض حاجته فجعل الحرث في
فراشه تمثالا وغطّاه وقال لجاريته: قولي لشفيع إذا عاد هو نائم، ومضى
فاختفى في الدار وفكّ القيد عن رجله بمبرد أدخل إليه وبرد به مسماره.
ولما أخبر شفيع بنومه مضى إلى مرقده وقصده أبو ليلى على فراشه فقتله،
وأمر أهل الدار واجتمع عليه الناس فاستحلفهم ووعدهم، وجمع الأكراد
وغيرهم وخرج من القلعة ناقضا للطاعة. فسار إلى عيسى النوشريّ وحاربه
فأصاب أبا ليلى سهم فمات، وحمل رأسه إلى أصبهان ثم إلى بغداد.
خبر ابن الشيخ بآمد
وفي سنة خمس وثمانين توفي أحمد بن عيسى بن الشيخ وقام بأمره في آمد
وأعمالها ابنه محمد فسار المعتضد إليه في العساكر ومعه ابنه أبو محمد
علي المكتفي، ومرّ بالموصل وحاصر المعتمد إلى ربيع الآخر من سنة ست
وثمانين ونصب عليها المجانيق حتى استأمن لنفسه ولأهل آمد، وخرج إلى
المعتمد فخلع عليه وهدم سورها ثم بلغه أنه يروم الهرب فقبض عليه وعلى
أهله.
خبر ابن أبي الساج
قد تقدّم لنا ولاية محمد بن أبي الساج على أذربيجان ومدافعة الحسين
إياه عن مراغة، ثم فتحها واستيلاؤه على أعمال أذربيجان، وبعث المعتضد
سنة اثنتين وثمانين أخاه يوسف بن أبي الساج إلى الصّيمرة مددا لفتح
القلانسي [1] غلام الموفّق، فخرج يوسف فيمن أطاعه فولّاه المعتضد على
أعماله، وبعث إليه بالخلع وأعطاه الرهن بما ضمن من الطاعة والمناصحة
وبعث بالهدايا.
__________
[1] القلابسي: ابن الأثير ج 7 ص 473.
(3/436)
ابتداء أمر القرامطة
بالبحرين والشام
كان في سنة احدى وثمانين قد جاء إلى القطيف بالبحرين رجل تسمّى بيحيى
بن المهدي وزعم أنه رسول من المهدي، وأنه قد قرب خروجه، وقصد من أهل
القطيف علي بن المعلّى بن حمدان الرباديني، وكان متغاليا في التشيع،
فجمع الشيعة وأقرأهم كتاب المهدي ليشيع الخبر في سائر قرى البحرين،
فأجابوا كلّهم وفيهم أبو سعيد الجنابي وكان من عظمائهم. ثم غاب عنهم
يحيى بن المهدي مدّة ورجع بكتاب المهدي يشكرهم على إجابتهم وأمرهم أن
يدفعوا ليحيى ستة دنانير وثلاثين عن كل رجل منهم ففعلوا. ثم غاب وجاء
بكتاب آخر بأن يدفعوا إليه خمس أموالهم فدفعوا، وأقام يتردّد في قبائل
قيس، ثم أظهر أبو سعيد الجنابي الدعوة بالبحرين سنة ست وثمانين واجتمع
إليه القرامطة والأعراب، وقتل واستباح وسار إلى القطيف طالبا البصرة،
وبلغت النفقة فيه أربعة عشر ألف دينار. ثم قرب أبو سعيد من نواحي
البصرة، وبعث المعتضد إليهم المدد مع عبّاس بن عمر الغنويّ وعزله عن
فارس وأقطعه اليمامة والبحرين، وضمّ إليه ألفين من المقاتلة، وسار إلى
البصرة وأكثر من الحشد جندا ومتطوّعة. فسار ولقي أبا سعيد الجنابي،
ورجع من كان معه بني ضبّة إلى البصرة. ثم كان اللقاء فهزمه الجنابي
وأسره واحتوى على معسكره وحرق الأسرى بالنار وذلك في شعبان من هذه
السنة. وسار إلى هجر فملكها وأمّن أهلها ورجع إلى أهل البصرة، وبعثوا
إليهم بالرواحل عليها الطعام والماء، فاعترضهم بنو أسد وأخذوا الرواحل
وقتلوا الفلّ، واضطربت البصرة وتشوف أهلها إلى الانتقال فمنعهم
الواثقي. ثم أطلق الجنابي العبّاس الغنويّ فركب إلى الأبلّة وسار منها
إلى بغداد، فخلع عليه المعتضد. وأمّا ظهورهم بالشام فان داعيتهم ذكرويه
بن مهرويه الّذي جاء بكتاب المهدي إلى العراق لما رأى الجيوش متتابعة
إلى القرامطة بالسواد، وأبادهم القتل، لحق بأعراب أسد وطيِّئ، فلم يجبه
فبعث أولاده في كلب بن وبرة فلم يجبه منهم إلّا بنو القليظي بن ضمضم بن
عديّ بن جناب، فبايعوا ذكرويه ويسمّى بيحيى ويكنّى بأبي القاسم،
ولقّبوه الشيخ، وأنه من ولد إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق. وأنه يحيى
بن عبد الله بن يحيى بن إسماعيل، وزعم أنّ له مائة ألف تابع، وانّ
ناقته التي يركبها مأمورة فمن تبعها كان منصورا. فقصدهم شبل مولى
(3/437)
المعتضد في العساكر من ناحية الرصافة
فقتلوه. فسار إليهم شبل مولى أحمد بن محمد الطائي فأوقع بهم. وجاء ببعض
رؤسائهم أسيرا فأحضره المعتضد وقال له هل تزعمون أنّ روح الله وأنبيائه
تحل في أجسادكم فتعصمكم من الزلل، وتوفّقكم لصالح العمل؟ فقال له: يا
هذا أرأيت إن حلّت روح إبليس فما ينفعك؟ فاترك ما لا يعنيك إلى ما
يعنيك. قال له: فقل فيما يعنيني! فقال له: قبض رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبوكم العبّاس حيّ فلم يطلب الأمر ولا بايعه. ثم مات أبو بكر
واستخلف عمر وهو يرى العبّاس ولم يعهد إليه عمر ولا جعله من أهل
الشورى، وكانوا ستة وفيهم الأقرب والأبعد، وهذا إجماع منهم على دفع
جدّك عنها. فبماذا تستحقون أنتم الخلافة؟ فأمر به المعتضد فعذب وخلعت
عظامه، ثم قطع مرّتين ثم قتل. ولما أوقع شبل بالقرامطة بسواد الكوفة
ساروا إلى الشام فانتهوا إلى دمشق وعليها طغج بن جفّ مولى أحمد بن
طولون من قبل ابنه هارون، فخرج إليهم فقاتلهم مرارا، هزموه في كلها.
هذه أخبار بدايتهم ونقبض العنان عنها إلى أن نذكر سياقتها عند ما نعدّد
أخبارهم على شريطتنا في هذا الكتاب كما تقدّم.
استيلاء ابن ماسان على خراسان من يد عمرو
بن الليث وأسره ثم مقتله
لما تغلب عمرو بن الليث الصفّار على خراسان من يد رافع بن الليث، وقتله
وبعث برأسه إلى المعتضد، وطلب منه أن يولّيه ما وراء النهر مضافا إلى
ولاية خراسان، كتب له بذلك فجهّز الجيوش لمحاربة إسماعيل بن أحمد صاحب
ما وراء النهر، وجعل عليهم محمد بن بشير من أخصّ أصحابه. وبعث معه
القوّاد فانتهوا إلى آمد من شطّ جيحون، وعبر إليهم إسماعيل فهزمهم وقتل
محمد بن بشير في ستة آلاف، ولحق الفلّ بعمرو في نيسابور، فتجهّز وسار
إلى بلخ، وكتب إليه إسماعيل يستعطفه ويقول: أنا في ثغر وأنت في دنيا
عريضة فاتركني واستفد ألفتي فأبى. وصعب على أصحابه عبور النهر لشدّته
فعبر إسماعيل وأخذ الطرق على بلخ وصار عمرو محصورا. واقتتلوا فانهزم
عمرو وتسرّب من بعض المسالك عن أصحابه فوجد في أجمة وأخذ أسيرا، وبعث
به إسماعيل إلى سمرقند ومن هناك إلى المعتضد سنة ثمان وثمانين، فحبسه
إلى أن مات المعتضد سنة تسع بعدها فقتله ابنه المكتفي وعقد لإسماعيل
على
(3/438)
خراسان كما كانت لعمرو، وكان عمرو عظيم
السياسة، وكان يستكثر من المماليك ويجرى علي الأرزاق ويفرّقهم على
قوّاد ليطالعوه بأخبارهم. وكان شديد الهيبة، ولم يكن أحد يتجاسر أن
يعاقب غلاما ولا خادما إلا أن يرفعه إلى حجّابه.
استيلاء ابن سامان على طبرستان من يد العلويّ ومقتله
ولما بلغ محمد بن زيد العلويّ صاحب طبرستان والديلم ما وقع بعمر وبن
الليث وأنه أسر طمع هو في خراسان وظنّ أنّ ابن إسماعيل لا يتجاوز عمله،
فسار إلى جرجان وبعث إليه إسماعيل بالكف فأبى، فجهّز لحربه محمد بن
هارون، وكان من قوّاد رافع بن الليث. واستأمن إلى عمرو ثم إلى إسماعيل
فنظّمه في قوّاده وندبه الآن لحرب محمد بن زيد، فسار لذلك. ولقيه على
باب خراسان، فاقتتلوا قتالا شديدا، وانهزم محمد بن هارون أوّلا وافترقت
عساكر محمد بن زيد على النهب ثم رجع هو وأصحابه، وانهزم محمد بن زيد
وجرح جراحات فاحشة هلك منها لأيام، وأسر ابنه زيد، وبعث به إسماعيل إلى
بخارى واجترأ عليه وغنم ابن هارون معسكرهم، ثم سار إلى طبرستان فملكها
وصار خراسان وطبرستان لبني سامان، واتصلت لهم دولة نذكر سياقة أخبارها
عند إفراد دولتهم بالذكر كما شرطناه في تأليفنا.
ولاية علي بن المعتضد على الجزيرة والثغور
ولما ملك المعتضد آمد من يد ابن الشيخ كما قدّمناه، سار إلى الرقّة
وتسلّم قنّسرين والعواصم من يد عمّال هارون بن خمارويه لأنه كان كتب
إليه أن يقاطعه على الشام ومصر ويسلّم إليه أعمال قنّسرين، ويحمل إليه
أربعمائة ألف دينار وخمسين ألفا فأجابوه وسار من آمد إلى الرقّة فأنزل
ابنه عليّا الّذي لقّبه بعد ذلك بالمكتفي وعقد له على الجزيرة وقنّسرين
والعواصم سنة ست وثمانين. واستكتب له الحسن بن عمر النصراني واستقدم
وهو بالرقّة راغبا مولى الموفّق من طرسوس، فقدم عليه وحبسه وحبس ملنون
غلامه، واستصفى أموالهما، ومات راغب لأيام من حبسه وقد كان راغب استبدّ
بطرسوس وترك الدعاء لهارون بن خمارويه، ودعا لبدر مولى المعتضد. ولما
جاء أحمد بن طبان للغزّ سنة ثلاث وثمانين تنازع معه راغب، فركب أحمد
البحر في
(3/439)
رجوعه ولم يعرّج على طرسوس وترك بها دميانة
غلام بازيار [1] وأمدّه فقوي وأنكر على راغب أفعاله بحمل دميانة إلى
بغداد، واستبدّ راغب إلى استدعاء المعتضد ونكبه كما قلناه، وولّى ابن
الأخشاء على طرسوس فمات لسنة. واستخلف أبا ثابت وخرج سنة سبع وثمانين
غازيا فأسر وولّى الناس عليهم مكانه علي بن الأعرابيّ، ولحق بملطية في
هذه السنة وصيف مولى محمد بن أبي الساج صاحب بردعة، وكتب إلى المعتمد
يسأله ولاية الثغور وقد وطأ صاحبه أن يسير إليه إذا وليها فيقصدان ابن
طولون ويملكان مصر من يده، وظهر المعتضد على ذلك فسار لاعتراضه، وقدّم
العساكر بين يديه، فأخذوه بعين زربة وجاءوا به إلى المعتضد فحبسه،
وأمّن عسكره ورحل إلى قرب طرسوس، واستدعى رؤساءها وقبض عليهم بمكاتبتهم
وصيفا، وأمر بإحراق مراكب طرسوس بإشارة دميانة، واستعمل على أهل الثغور
الحسن بن علي كورة وسار إلى أنطاكية وحلب ورجع منها إلى بغداد وقتل
وصيفا وصلبه. واستقدم المكتفي بعد وفاة المعتضد الحسن بن عليّ، وولّى
على الثغور مظفّر بن حاج. ثم شكا أهل الثغر منه فعزله وولّى أبا
العشائر بن أحمد بن نصر سنة تسعين.
حرب الأعراب
وفي سنة ست وثمانين اعترضت طيِّئ ركب الحاج بالاجيعر، وقاتلوه ونهبوا
أموال التجّار ما قيمته ألف ألف دينار، ثم اعترضوا الحاج كذلك سنة تسع
وثمانين بالقرن فهزمهم الحاج وسلموا.
تغلب ابن الليث على فارس وإخراج بدر إياه
وفي فاتح ثمان وثمانين جاء طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث في العساكر
إلى بلاد فارس، وأخرج منها عامل المعتضد وهو عيسى النوشريّ كان على
أصبهان فولّاه المعتضد فارس، فسار إليها فجاءه طاهر وملكها. وكتب إليه
إسماعيل صاحب ما وراء النهر بأن المعتضد ولّاه سجستان لذلك، وعقد
المعتضد لبدر مولاه على فارس، وهرب عمّال طاهر عنها وملكها بدر وجبى
خراجها. ثم مات المعتضد وسار مغرّبا عن فارس فقتل بواسط وقاطع طاهر
بلاد فارس على مال يحمله، فقلّده المكتفي ولايتها سنة تسعين.
__________
[1] مازيار.
(3/440)
الولايات في النواحي
كان أكثر النواحي في دولة المعتضد مغلبا عليها كخراسان وما وراء النهر
لابن سامان، والبحرين للقرامطة ومصر لابن طولون وإفريقية لابن الأغلب،
وقد ذكرنا من ولي الموصل. وفي سنة خمس وثمانين ولّى المعتضد عليها وعلى
الجزيرة والثغور الشامية [1] مولاه، ثم ملك آمد من يد ابن الشيخ وجعلها
لابنه عليّ المكتفي وأنزله الرقّة كما ذكرناه وعقد له على الثغور. ثم
عقد بعده للحسن بن عليّ كورة وولّى على فارس بدرا مولاه. ومات إسحاق بن
أيّوب بن عمر بن الخطّاب الثعلبي العدويّ أمير ديار ربيعة، فولّى
المعتضد مكانه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعمر.
وفي سنة ثمان وثمانين ظهر باليمن بعض العلويّين وتغلّب على صنعاء، فجمع
له بنو يعفر وقاتلوه فهزموه وأسروا ابنه، وتجافى نحو خمسين فارسا، وملك
بنو يعفر صنعاء وخطبوا فيها للمعتضد، وهلك ابن أبي الساج في هذه السنة،
فولّى أصحابه ابنه ديوداد. ونازعه عمّه يوسف بن رافع بابن أخيه وهزمه
ومضى إلى بغداد على طريق الموصل، واستقل يوسف بملك أذربيجان، وعرض على
ابن أخيه المقام عنده فأبى، وقلّد المعتضد لأول خلافته ديوان المشرق
لمحمد بن داود بن الجرّاح، عوضا عن أحمد بن محمد بن الفرات، وديوان
المغرب عليّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح، ومات وزيره عبيد الله بن
سليمان بن وهب فولى ابنه أبا القاسم مكانه.
الصوائف
وفي سنة خمس وثمانين غزا راغب مولى الموفّق من طرسوس في البحر، فغنم
مراكب الروم، قتل فيها نحوا من ثلاثة آلاف وأحرقها. وخرج الروم سنة سبع
وثمانين ونازلوا طرسوس فقاتلهم أميرها واتبعهم إلى نهر الرحال فأسروه.
وفي سنة ثمان وثمانين بعث الحسن بن علي كورة صاحب الثغور بالصائفة،
فغزا وفتح حصونا كثيرة وعاد بالأسرى، فخرج الروم في أثره برا وبحرا إلى
كيسوم من نواحي حلب فأسروا نحوا من خمسة عشر ألفا ورجعوا.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 490: «وفيها- 285- سار فاتك مولى
المعتضد إلى الموصل لينظر في أعمالها وأعمال الجزيرة والثغور الشامية
والجزرية وإصلاحها، مضافا إلى ما كان يتقلّده من البريد بها.»
(3/441)
وفاة المعتضد وبيعة
ابنه
كان بدر مولى المعتضد عظيم دولته، وكان القاسم بن عبيد الله الوزير
يروم نقل الخلافة في غير بني المعتضد، وفاوض في ذلك بدرا أيام المعتضد
فأبى، ولم يمكن القاسم مخالفته. فلما مات المعتضد كان بدر بفارس بعثه
إليها المعتضد لما بلغه أن طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث غلب عليها
فبعث بدرا وولّاه. فلما مات عقد الوزير البيعة لابنه المكتفي وخشي من
بدر فيما اطلع عليه منه، فأعمل الحيلة في أمره. وكان المكتفي أيضا يحقد
لبدر كثيرا من منازعة معه أيام أبيه، فدسّ الوزير إلى القوّاد الذين مع
بدر بمفارقته، ففارقه العبّاس بن عمر الغنويّ ومحمد بن إسحاق بن كنداج
وخاقان العلجى [1] وغيرهم، فأحسن الملتقى إليهم وسار بدر إلى واسط،
فوكّل المكتفي بداره وقبض على أصحابه وأمر بمحو اسمه من الفراش [2]
والأعلام وبعث الحسن بن علي كورة في جيش إلى واسط، وعرض على بدر ما شاء
من النواحي، فقال: لا بدّ لي أن أشافه مولاي بالقول! فخوف الوزير
المكتفي خائنته ومنعه من ذلك، وشعر أن بدرا بعث عن ابنه هلال فوكّل به.
ثم بعث الوزير عن القاضي أبي عمر المالكيّ وحمّله الأمان إلى بدر، فجاء
بأمانه وبعث الوزير من اعترضه بالطريق فقتله لست خلون من رمضان، وحمل
أهله شلوه إلى مكّة فدفن بها لوصيته بذلك، وحزن القاضي أبو عمر لاخفار
ذمّته.
استيلاء محمد بن هارون على الري ثم أسره
وقتله
قد تقدّم لنا ذكر محمد بن هارون وأنه كان من قوّاد رافع بن هرثمة،
ونظّمه إسماعيل بن أحمد صاحب ما وراء النهر في قوّاده وبعثه لحرب محمد
بن زيد فهزمه واستولى على طبرستان، وولّاه إسماعيل عليها. ثم انتقض
ودعا بدعوة العلويّة وبيّض [3] وساعده ابن حسّان الديلميّ. وبعث
إسماعيل العساكر لقتال ابن حسّان فهزموه. وكان على الري من قبل المكتفي
أغرتمش التركيّ، فأساء السيرة فبعث أهل الريّ إلى محمّد بن هارون أن
يسير إليهم ويولّوه، فسار وحارب أغرتمش فهزمه وقتله، وقتل ابنيه وأخاه
__________
[1] خاقان المفلحيّ: ابن الأثير ج 7 ص 518.
[2] التراس: المرجع السابق.
[3] اي أنه لبس ثيابا بيضاء بعكس العباسيين الذين كان شعارهم السواد.
(3/442)
كيغلغ من القوّاد واستولى على الريّ وبعث
المكتفي مولاه خاقان المفلحيّ لولاية الريّ في جيش كثيف فلم يصلها،
وبعث المكتفي إلى إسماعيل بولايته ومحاربة محمد بن هارون فسار إسماعيل
إليه وهزمه، فخرج عن الريّ إلى قزوين وزنجان. ثم لحق بطبرستان واستقرّ
مع ابنه مستجيزا، ولما ملك إسماعيل الريّ ولّى على جرجان مولاه نارس
الكبير [1] ، والزمه إحضار محمد بن هارون فكاتبه نارس وضمن له صلاح
الحال، فقبل وانصرف عن الديلم إلى بخارى، فبعث إسماعيل من اعترضه وحمل
إلى بخارى مقيّدا فمات في الحبس بعد شهر وذلك في شعبان سنة تسعين.
استيلاء المكتفي على مصر وانقراض دولة ابن
طولون
كان محمد بن سليمان من قوّاد بني طولون وكاتب جيشهم واستوحش منهم، فلحق
بالمعتضد وصرفوه في الخدم، وكانت القرامطة عاثوا في بلاد الشام وحاصروا
عامل بني طولون بدمشق وهو طغج بن جفّ، وقتلوا قوّاده. وسار المكتفي
إليهم فنزل الرقّة وبعث محمد بن سليمان لحربهم ومعه الحسن بن حمدان
والعساكر وبنو شيبان، فلقيهم قرب حماة فهزمهم واتبعهم إلى الكوفة، وقبض
في طريقه على أميرهم صاحب الشامة فبعث به إلى المكتفي، فرجع إلى بغداد
وخلّف محمد بن سليمان في العساكر فتبعهم وأسر جماعة منهم. وبينما هو
يروم العود إلى بغداد جاءه كتاب بدر الحماميّ مولى هارون بن خمارويه
ومحمد فائق صاحب دمشق يستقدمانه إلى البلاد لعجز هارون عنها، فأنهى ذلك
محمد بن سليمان عند عوده إلى المكتفي فأعاده وأمدّه بالجنود والأموال،
وبعث دميانة غلام بازيار في الأسطول ليدخل من فوهة النيل ويحاصر مصر،
ولما وصل ودنا من مصر كاتب القوّاد، وخرج إليه رئيسهم بدر الحماميّ
وتتابع منهم جماعة، وبرز هارون لقتاله فحاربه أياما. ثم وقعت بعض
الأيام في عسكره هيعة ركب لها ليسكنها فأصابته حربة مات منها، واجتمع
أصحابه على عمّه شيبان وبذل الأموال فقاتلوا معه. ثم جاءهم كتاب محمد
بن سليمان بالأمان فأجابوه، وخالف شيبان إلى مصر فاستولى عليها واستأمن
إليه شيبان سرّا فأمّنه ولحق به. ثم قبض على بني طولون وحبسهم واستصفى
أموالهم وذلك في صفر سنة اثنتين وتسعين، وأمره المكتفي بإزالة آل طولون
وأشياعهم من مصر والشام ففعل.
__________
[1] بارس الكبير: ابن الأثير ج 7 ص 527.
(3/443)
وسار بهم إلى بغداد وولّى المكتفي على مصر
عيسى النوشريّ وخرج عليه إبراهيم الخليجي من قوّاد بني طولون يخلف عن
محمد بن سليمان، فخلّفه وكثر جمعه وسار النوشريّ إلى الإسكندرية عجزا
عن مدافعته، واستولى الخليجي على مصر وبعث المكتفي بالجنود مع فاتك
مولى المعتضد وأحمد بن كيغلغ وبدر الحمامي من قوّاد بني طولون، فوصلوا
سنة ثلاث وتسعين، وتقدّم أحمد بن كيغلغ وجماعة من القوّاد، فلقيهم قرب
العريش فهزمهم وقوي الأمر، وبلغ الخبر إلى المكتفي فعسكر ظاهر بغداد،
وانتهى مدّه إلى تكريت فلقيه كتاب فاتك في شعبان يذكر أنهم هزموا
الخليجي بعد حروب متّصلة، وغنموا عسكره. ثم هرب واختفى بفسطاط مصر وجاء
من دلّ عليه فأمر المكتفي بحمله ومن معه إلى بغداد فبعثوا بهم وحبسوا.
ابتداء دولة بني حمدان
وفي سنة اثنتين وتسعين عقد المكتفي على الموصل وأعمالها لأبي الهيجاء
عبد الله بن حمدان بن حمدون العدويّ الثعلبيّ فقدمها أوّل المحرّم وجاء
الصريخ من نينوى بأن الأكراد الهدبانيّة ومقدّمهم محمد بن سلّال [1] قد
أغاروا على البلاد وعانوا، فخرج في العساكر وعبر الجسر إلى الجانب
الشرقيّ، ولقيهم على الحارد [2] فقاتلهم وقتل من قوّاد سليمان الحمداني
[3] ورجع عنهم، وبعث إلى الخليفة يستمدّه، فأبطأ عليه المدد إلى ربيع
من سنة أربع [4] ، فلما جاءه المدد سار إلى الهدبانيّة وهم مجتمعون في
خمسة آلاف بيت، فارتحلوا أمامه واعتصموا بجبل السّلق المشرف على الزاب،
فحاصرهم وعرفوا حقّه فخذله أميرهم محمد بن سلال بالمراسلة في الطاعة
والرهن، وحثّ أصحابه خلال ذلك في المسير إلى أذربيجان، واتّبعهم أبو
الهيجاء فلحقهم صاعدا إلى جبل القنديل فنال منهم، وامتنعوا بذروته.
ورجع أبو الهيجاء عنهم فلحقوا بأذربيجان، ووفد أبو الهيجاء على المكتفي
فأنجده بالعسكر وعاد إلى الموصل. ثم سار إلى الأكراد بجبل السّلق فدخله
وحاصرهم بقنّته، وطال حصارهم واشتدّ البرد وعدمت الأقوات، وطلب محمد بن
سلال النجاة بأهله
__________
[1] محمد بن بلال: ابن الأثير ج 7 ص 538.
[2] الخازر: ابن الأثير ج 7 ص 538.
[3] وقتل من قواده سيما الحمداني المرجع السابق.
[4] اي من سنة اربع وتسعين ومائتين.
(3/444)
وولده، فنجا واستولى ابن حمدان على أموالهم
وأهليهم وأمّنهم. ثم استأمن محمد بن سلال فأمّنه وحضر عنده وأقام
بالموصل وتتابع الأكراد الحميديّة مستأمنين، واستقام أمر أبي الهيجاء
بالموصل. ثم انتقض سنة إحدى وثلاثمائة فبعث إليه المقتدر مؤنسا الخادم
فجاء بنفسه مستأمنا ورجع إلى بغداد، فقبله المقتدر وأكرمه. وبقي ببغداد
إلى أن انتقض أخوه الحسين بديار ربيعة سنة ثلاث وثلاثمائة. وسارت
العساكر فجاءوا به أسيرا. فحبس المقتدر عند ذلك أبا الهيجاء وأولاده،
وجمع إخوته بداره ثم أطلقهم سنة خمس وثلاثمائة.
أخبار ابن الليث بفارس
قد تقدّم لنا استقلال طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث ببلاد فارس وأن
المكتفي عقد له عليها سنة تسعين، ثم أنه تشاغل باللهو والصيد، وأعرض عن
أمور ملكه.
ومضى في بعض الأيام إلى سجستان فوثب على فارس الليث بن عليّ بن الليث،
وسيكرى مولى عمرو بن الليث، فاستوحش منها بعض قوّادهما يعرف بأبي
قابوس، وفارقهما إلى بغداد وأحسن المكتفي إليه. ثم كتب إليه طاهر في
ردّ أبي قابوس إليه، ويحتسب له ما معه من أموال الجباية فأعرض الخليفة
عن ذلك.
الصوائف
وفي سنة إحدى وتسعين خرج الروم إلى الثغور في مائة ألف، وقصد جماعة
منهم الحدث. ثم غزا بالصائفة من طرسوس القائد المعروف غلام زرافة، ففتح
مدينة أنطاكية وفتحها عنوة فقتل خمسة آلاف من مقاتلتهم وأسر مثلها.
واستنقذ من أسرى المسلمين مثلها، وغنم ستين من مراكب الروم بما فيها من
المال والمتاع والرقيق، فقسّمها مع غنائم أنطاكية، فكان السهم ألف
دينار. وفي سنة اثنتين وتسعين أغار الروم على مرعش ونواحيها، فخرج أهل
المصيصة وأهل طرسوس فأصيب منهم جماعة، فعزل المكتفي أبا العشائر عن
الثغور وولّى رستم بن برد، فكان على يديه الفداء، وفودي ألف من
المسلمين. ثم أغارت الروم سنة ثلاث وتسعين على موارس من أعمال حلب،
وقاتلهم أهلها فانهزموا وقتل منهم خلق، ودخلها الروم فأحرقوا جامعها
وأخذوا من بقي فيها. وفي سنة أربع وتسعين غزا ابن كيغلغ من طرسوس فأصاب
من الروم أربعة آلاف سبيا، واستأمن بطريق من الروم فأسلم. ثم عاود ابن
(3/445)
كيغلغ الغزو وبلغ سكند [1] وافتتحها، وسار
إلى الليس فبلغ خمسين ألف رأس.
وقتل من الروم خلقا ثم استأمن البطريق المتولي الثغور من جهة الروم إلى
المكتفي، وخرج بمائتي أسير من المسلمين. وكان ملك الروم قد شعر بأمره
وبعث من يقبض عليه، فقتل الأسرى المسلمون من جاء للقبض عليه وغنموا
عسكرهم. واجتمع الروم على محاربة البطريق انذوقس [2] وزحف المسلمون
لخلاصه وخلاص من معه من الأسرى، فبلغوا قونية وخرّبوها وانصرف الروم،
ومرّ المسلمون في طريقهم بحصن أندوس فخرج معهم بأهله وسار إلى بغداد.
وفي سنة إحدى وتسعين خرج الترك إلى ما وراء النهر في خلق لا يحصون،
فبعث إليهم إسماعيل عسكرا عظيما من الجند والمطوّعة فكبسوهم
واستباحوهم. وفي سنة ثلاث وتسعين افتتح إسماعيل مدائن كثيرة من بلاد
الترك والديلم.
الولايات بالنواحي
قد ذكرنا ولايات خاقان المفلحيّ على الريّ، ثم إسماعيل بن أحمد بن
سامان بعده، وولاية عيسى النوشريّ على مصر بعد انتزاعها من بني طولون،
وولاية أبي العشائر أحمد بن نصر على طرسوس وعزل مظفّر بن حاج عنها سنة
تسعين، ثم عزل أبي العشائر وولاية رستم بن برد، وسنة اثنتين وتسعين.
وانتزاع الليث بن عليّ بن الليث بلاد فارس من يد طاهر بن محمد سنة ثلاث
وتسعين بعد أن كان المكتفي عقد له عليها سنة تسعين، وولاية أبي الهيجاء
عبد الله بن حمدان على الموصل سنة ثلاث وتسعين.
وفي هذه السنة ثار داعية القرامطة باليمن إلى صنعاء فملكها واستباحها
وتغلب على كثير من مدن اليمن وبعث المكتفي المظفّر بن الحاج في شوّال
من هذه السنة إلى عمله باليمن فأقام به وفي سنة إحدى وتسعين توفي
الوزير أبو القاسم بن عبيد الله واستوزر مكانه العبّاس بن الحسن.
وفاة المكتفي وبيعة المقتدر
ثم توفي المكتفي باللَّه أبو محمد علي بن المعتضد في شهر جمادى سنة خمس
وتسعين لست سنين ونصف من ولايته، ودفن بدار محمد بن طاهر من بغداد بعد
أن عهد
__________
[1] هي مدينة بيكند وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 552 شكند.
[2] اندرونقس: ابن الأثير ج 7 ص 552.
(3/446)
بالأمر إلى أخيه جعفر. وكان الوزير العبّاس
بن الحسن قد استشار أصحابه فيمن يولّيه، فأشار محمد بن داود بن الجرّاح
بعبد الله بن المعتز، ووصفه بالعقل والرأي والأدب، وأشار أبو الحسين بن
محمد بن الفرات بجعفر بن المعتضد بعد أن أطال في مفاوضته وقال له: اتّق
الله ولا توال إلّا من خبرته ولا تولّ البخيل فيضيق على الناس في
الأرزاق، ولا الطمّاع فيشره إلى أموال الناس، ولا المتهاون بالدين فلا
يجتنب المآثم ولا يطلب الثواب. ولا تولّ من خبر الناس وعاملهم واطلع
على أحوالهم، فيستكثر على الناس نعمهم، وأصلح الموجودين مع ذلك جعفر بن
المعتضد. قال: ويحك وهو صبيّ! فقال: وما حاجتنا بمن لا يحتاج إلينا
ويستبد علينا؟ ثم استشار عليّ بن عيسى فقال: اتّق الله وانظر من يصلح.
فمالت نفس الوزير إلى جعفر كما أشار ابن الفرات، وكما أوصى أخوه، فبعث
صائفا الخدمي [1] فأتى به من داره بالجانب الغربي، ثم خشي عليه غائلة
الوزير فتركه في الحرّاقة، وجاء إلى دار الخلافة فأخذ له البيعة على
الحاشية. ثم جاء به من الحرّاقة وجاء إلى دار الخلافة فأخذ له البيعة
على الحاشية. ثم جاء به من الحرّاقة وأقعده على الأريكة وجاء الوزير
والقوّاد فبايعوه، ولقّب المقتدر باللَّه وأطلق يد الوزير في المال
وكان خمسة عشر ألف ألف دينار فأخرج منه حق البيعة واستقام الأمر.
خلع المقتدر بابن المعتز وإعادته
ولما بويع المقتدر وكان عمره ثلاث عشرة سنة استصغره الناس وأجمع الوزير
خلعه والبيعة لأبي عبد الله محمد بن المعتز وراسله في ذلك، فأجاب
وانتظر قدوم نارس حاجب إسماعيل بن سامان، كان قد انتقض إلى مولاه وسار
عنه، فاستأذن في القدوم إلى بغداد وأذن له. وقصد الاستعانة به على
موالي المعتضد. وأبطأ نارس عليه، وهلك أبو عبد الله بن المقتدر خلال
ذلك فصرف الوزير وجهة لأبي الحسين بن الموكّل فمات، فأقرّ المقتدر، ثم
بدا له وأجمع عزله، واجتمع لذلك مع القوّاد والقضاة والكتّاب وراسلوا
عبد الله بن المعتز فأجابهم على أن لا يكون قتال. فأخبروه باتفاقهم وأن
لا منازع لهم. وكان المتولّون لذلك الوزير العبّاس بن الحسين ومحمد بن
داود بن الجرّاح وأبا المثنّى أحمد بن يعقوب القاضي، ومن القوّاد
الحسين بن حمدان
__________
[1] صافي الحرميّ: ابن الأثير ج 8 ص 10.
(3/447)
وبدر الأعجمي ووصيف بن صوارتكين. ثم رأى
الوزير أمره صالحا المقتدر فبدا له في ذلك فأجمع الآخرون أمرهم،
واعترضه الحسين بن حمدان وبدر الأعجمي ووصيف في طريق لستانة فقتلوه
لعشر بقين من ربيع الأوّل سنة ست وتسعين، وخلعوا المقتدر من الغد
وبايعوا لابن المعتز، وكان المقتدر في الحلبة يلعب الأكرة، فلما بلغه
قتل الوزير دخل الدار وأغلق الأبواب، وجاء الحسين بن حمدان إلى الحلبة
ليفتك به فلم يجده، فقدم وأحضروا ابن المعتز فبايعوه، وحضر الناس
والقوّاد وأرباب الدواوين سوى أبي الحسن بن الفرات وخواص المقتدر فلم
يحضروا. ولقّب ابن المعتز المرتضى باللَّه، واستوزر محمد بن داود بن
الجرّاح، وقلّد عليّ بن موسى الدواوين، وبعث إلى المقتدر بالخروج من
دار الخلافة، فطلب الإمهال إلى الليل، وقال مؤنس الخادم ومؤنس الخازن:
وعربت الحال وسائر الحاشية لا بد أن يبدي عذرا فيما أصابنا. وباكر
الحسين بن حمدان من الغد دار الخلافة فقاتله الغلمان والخدم من وراء
السور وانصرف. فلما جاء الليل سار إلى الموصل بأهله، وأجمع رأي أصحاب
المقتدر على قصد ابن المعتز في داره فتسلّحوا وركبوا في دجلة، فلما
رآهم أصحاب ابن المعتز اضطربوا وهربوا واتهموا الحسين بن حمدان أنه قد
واطأ المقتدر عليهم، وركب ابن المعتز ووزيره محمد بن داود بن الجرّاح
وخرجوا إلى الصحراء ظنّا منهم أن الجند الذين بايعوهم يخرجون معهم،
وأنهم يلحقون بسامرّا فيمتنعون، فلما تفرّدوا بالصحراء رجعوا إلى البلد
وتسرّبوا في الدور، واختفى ابن الجرّاح في داره، ودخل ابن المعتز
ومولاه دار أبي عبد الله بن الجصّاص مستجيرا به. وثار العيّارون والسفل
[1] ينتهبون. وفشا القتل وركب ابن عمرويه صاحب الشرطة، وكان ممن بايع
ابن المعتز، فنادى بثأر المقتدر مغالطا، فقاتله فهرب واستتر، وأمر
المقتدر مؤنسا الخازن فزحف في العسكر وقبض على وصيف بن صوارتكين فقتله،
وقبض على القاضي أبي عمر عليّ بن عيسى والقاضي محمد بن خلف، ثم أطلقهم
وقبض على القاضي أبي المثنّى أحمد بن يعقوب، قال له: بايع المقتدر!
قال: هو صبي! فقتله وبعث المقتدر إلى أبي الحسن بن الفرات كان مختفيا
فأحضره واستوزره. وجاء سوسن خادم ابن الجصّاص فأخبر صافيا الخرّميّ
مولى المقتدر بمكانه عندهم، فكبست الدار وأخذ ابن المعتز وحبس إلى
الليل، ثم خصيت خصيتاه فمات وسلّم إلى أهله وأخذ
__________
[1] الأصح ان يقول السفلة.
(3/448)
ابن الجصّاص وصودر على مال كثير، وأخذ محمد
بن داود وزير ابن المعتز وكان مستترا فقتل. ونفى عليّ بن عيسى بن عليّ
إلى واسط، واستأذن من ابن الفرات في المسير إلى مكة فسار إليها على
طريق البصرة واقام بها، وصودر القاضي أبو عمر على مائة ألف دينار،
وسارت العساكر في طلب الحسين بن حمدان إلى الموصل فلم يظفروا به، وشفع
الوزير ابن الفرات في ابن عمرويه صاحب الشرطة وإبراهيم بن كيغلغ
وغيرهم. وبسط ابن الفرات الإحسان وأدرّ الأرزاق للعبّاسيين والطالبيّين
وأرضى القوّاد بالأموال، ففرّق معظم ما كان في بيت المال، وبعث المقتدر
القاسم بن سيما وجماعة من القوّاد في طلب الحسين بن حمدان، فبلغوا
قرقيسيا والرحبة ولم يظفروا به، وكتب المقتدر إلى أخيه أبي الهيجاء وهو
عامل الموصل بطلبه، فسار مع القاسم بن سيما والقوّاد ولقوة عند تكريت
فهزموه، وبعث مع أخيه إبراهيم يستأمن فأمّنوه وجاءوا به إلى بغداد،
فخلع عليه المقتدر وعقد له على قمّ وقاشان، وعزل عنها العبّاس بن عمر
الغنويّ فسار إليها الحسين، ووصل نارس مولى إسماعيل بن سامان فقلّده
المقتدر ديار ربيعة.
ابتداء دولة العبيديّين من الشيعة بإفريقية
نسبة هؤلاء العبيديّين إلى أوّل خلفائهم، وهو عبيد الله المهدي بن محمد
الحبيب بن جعفر المصدّق بن محمد المكتوم بن إسماعيل الإمام بن جعفر
الصادق، ولا يلتفت لإنكار هذا النسب، فكتاب المعتضد إلى ابن الأغلب
بالقيروان وابن مدرار بسلجماسة يغريهم بالقبض عليه لمّا سار إلى المغرب
شاهد بصحّة نسبهم وشعر الشريف الرضي في قوله:
ألبس الذلّ في بلاد الأعادي ... وبمصر الخليفة العلويّ
من أبوه أبي ومولاه مولاي ... إذا ضامني البعيد القصيّ
لفّ عرقي بعرقه سيّدا لناس ... جميعا، محمّد وعليّ
وأما المحضر الّذي ثبت ببغداد أيام القادر بالقدح في نسبهم، وشذّ فيه
أعلام الأئمّة مثل القدوري والصهيريّ [1] وأبي العبّاس الأبيورديّ وأبي
حامد الأسفراينيّ وأبي الفضل النسويّ وأبي جعفر النسفيّ، ومن العلويّة
المرتضى وابن
__________
[1] الصيمري: ابن الأثير ج 7 ص 26.
(3/449)
البطحاوي، وابن الأزرق، وزعيم الشيعة أبو
عبد الله بن النعمان، فهي شهادة على السماع. وكان ذلك متّصلا في دولة
العبّاسية منذ مائتين من السنين فاشيا في أمصارهم وأعصارهم. والشهادة
على السماع في مثله جائزة على أنّها شهادة نفي، ولا تعارض ما ثبت في
كتاب المعتضد مع أن طبيعة الوجود في الانقياد لهم، وظهور كلمتهم أدل
شيء على صدق نسبهم. وأمّا من جعل نسبهم في اليهودية أو النصرانيّة
لميمون القدّاح أو غيره فكفاه إثما تعرّضه لذلك. وأما دعوتهم التي
كانوا يدعون لها فقد تقدّم ذكرها في مذاهب الشيعة من مقدّمة الكتاب،
وانقسمت مذاهب الشيعة مع اتفاقهم على تفضيل عليّ على جميع الصحابة إلى
الزيديّة القائلين بصحة إمامة الشيخين مع فضل عليّ، ويجوّزون إمامة
المفضول وهو مذهب زيد الشهيد وأتباعه، والرافضة ويدعون بالإمامية
المتبرّءين من الشيخين بإهمالهما وصية النبيّ صلى الله عليه وسلم
بخلافة عليّ. مع أنّ هذه الوصية لم تنقل من طريق صحيح، قال بها أحد من
السلف الذين يقتض بهم، وإنما هي من أوضاع الرّافضة. وانقسم الرافضة بعد
ذلك إلى اثني عشريّة نقلوا الخلافة من جعفر بعد الحسن والحسين وعليّ
زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم وولده
على سلسلة واحدة إلى تمام الاثني عشر، وهو محمد المهدي وزعموا أنه دخل
سردابا وهم في انتظاره إلى الآن. وإلى الإسماعيلية نقلوا الخلافة من
جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل، ثم ساقوها في عقبة فمنهم من انتهى بها
إلى عبيد الله هذا المهدي، وهم العبيديّون، ومنهم من ساقها إلى يحيى بن
عبيد الله بن محمد المكتوم. وهؤلاء طائفة من القرامطة وهي من كذباتهم،
ولا يعرف لمحمد بن إسماعيل ولد اسمه عبيد الله. وكان شيعة هؤلاء
العبيديّين بالمشرق واليمن وإفريقية. وسار بها إلى إفريقية رجلان يعرف
أحدهما بالحلوانيّ والآخر بالسفيانيّ أنفذهما الشيعة إلى هنالك وقالوا
لهما: إنّ العرب أرض بور فاذهبا واحرثاها حتى يحيا صاحب البذر، وسارا
لذلك ونزلا أرض كتامة، أحدهما ببلد يسمّى سوق حمار. وفشت هذه الدعوة
منهما في أهل تلك النواحي من البربر وخصوصا في كتامة، وكانوا يزعمون
أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أوصى إلى عليّ بالخلافة بالنصوص الجليّة
وعدل عنها الصحابة إلى غيره فوجب البراءة ممن عدل عنها. ثم أوصى عليّ
إلى ابنه الحسن ثم الحسن إلى أخيه الحسين، ثم الحسين إلى ابنه عليّ زين
العابدين، ثم زين العابدين إلى ابنه محمد الباقر، ثم محمد
(3/450)
الباقر إلى ابنه جعفر الصادق، ثم جعفر
الصادق إلى ابنه إسماعيل الإمام، ومنه إلى ابنه محمّد، ويسمّونه
المكتوم لأنهم كانوا يكتمون اسمه حذرا عليه. ثم اوصى محمد المكتوم إلى
ابنه جعفر المصدق، وجعفر المصدق إلى ابنه محمد الحبيب، ومحمد الحبيب
إلى ابنه عبيد الله المهدي الّذي دعا له أبو عبد الله الشيعي. وكانت
شيعهم منتشرين في الأرض من اليمن إلى الحجاز والبحرين والطرق وخراسان
والكوفة والبصرة والطالقان. وكان محمد الحبيب ينزل سلمية من أرض حمص،
وكان عادتهم في كل ناحية يدعون للرضا من آل محمد، ويرومون إظهار الدعوة
بحسب ما عليهم.
وكان الشيعة من النواحي يعملون مكيهم في أكبر الأوقات لزيارة قبر
الحسين، ثم يعرجون على سلمية لزيارة الأئمة من ولد إسماعيل وكان باليمن
من شيعتهم. ثم بعده لأئمة قوم يعرفون ببني موسى ورجل آخر يعرف بمحمّد
بن الفضل أصله من جند.
وجاء محمد إلى زيارة الإمام محمد الحبيب، فبعث معه أصحابه رستم بن
الحسين بن حوشب بن داود النجّار، وهو كوفيّ الأصل وأمره بإقامة الدعوة،
وأنّ المهديّ خارج في هذا الوقت، فسار إلى اليمن ونزل على بني موسى
وأظهر الدعوة هنالك للمهدي من آل محمد الّذي ينعتونه بالنعوت المعروفة
عندهم، فاتّبعه واستولى على كثير من نواحي اليمن. وكان أبو عبد الله
الحسن بن أحمد بن محمد بن زكريا المعروف بالمحتسب، وكان محتسبا
بالبصرة. وقيل إنما المحتسب أخوه أبو العبّاس المخطوم وأبو عبد الله
يعرف بالعلم. لأنه كان يعرف مذهب الإمامية الباطنية، قد اتّصل بالإمام
محمد الحبيب وخبر أهليته، فأرسله إلى أبي حوشب، ولزم مجالسته وأفاد
علمه. ثم بعثه مع الحاج اليمني إلى مكّة، وبعث معه عبد الله بن أبي
ملّا، فأتى الموسم ولقي به رجالات كتامة مثل حريث الحميليّ وموسى بن
مكاد، فاختلط بهم وعكفوا عليه لما رأوا عنده من العبادة والزهد، ووجّه
إليهم بدرا من ذلك المذهب، فاغتبط واغتبطوا وارتحل معهم إلى بلدهم ونزل
بها منتصف ربيع سنة ثمان وثلاثين، وعيّن لهم مكان منزله بفتح الأحار
وأن النصّ عنده من المهديّ بذلك، ولجهره المهدي وأنّ أنصاره الأخيار من
أهل زمانه، وأنّ اسم أنصاره مشتق من الكتمان ولم يعيّنه، واجتمع
لمناظرته كثير من أهل كتامة فأبى، ثم أطاعوه بعد فتن وحروب. واجتمعوا
على دعوته وكانوا يسمّونه أبا عبد الله المشرفي والشيعيّ، ولما اختلف
كتامة عليه واجتمع كثير منهم على قتله قام بنصرته الحسن بن هارون، وسار
به
(3/451)
إلى جبل إيكجان وأنزله مدينة تاصروت من بلد
زرارة، وقاتل من لم يتبعه بمن تبعه حتى استقاموا جميعا على طاعته. وبلغ
خبره إبراهيم بن أحمد بن الأغلب عامل إفريقية بالقيروان، فأرسل إلى
عامل ميلة يسأله عن أمره فحقّره وذكر أنه رجل يلبس الخشن، ويأمر
بالعبادة والخير فأعرض عنه حتى إذا اجتمع لأبي عبد الله أمره، زحف في
قبائل كتامة إلى بلد ميلة فملكها على الأمان بعد الحصار، فبعث إبراهيم
بن أحمد بن الأغلب ابنه الأحوال في عسكرهم يجاوز عشرين ألفا، فهزم
كتامة وامتنع أبو عبد الله بجبل إيكجان، وأحرق الأحول مدينة تاصروت
ومدينة ميلة، وعاد إلى إفريقية، وبنى أبو عبد الله بجبل إيكجان [1]
مدينة سمّاها دار الهجرة.
ثم توفي إبراهيم بن الأغلب صاحب إفريقية وولّى ابنه أبو العبّاس، وقتل
واستقرّ الأمر لزيادة الله، وكان الأحول حمل العساكر لحضوره فاستقدمه
زيادة الله وقتله.
وفاة الحبيب وايصاؤه لابنه عبيد الله
ولما توفي محمد الحبيب وأوصى لابنه عبيد الله، وقال له: أنت المهدي
وتهاجر بعدي هجرة بعيدة، وترى محنا شديدة. فقام عبيد الله بالأمر
وانتشرت دعوته وأرسل إليه أبو عبد الله الشيعيّ رجالا من كتامة يخبرونه
بما فتح الله عليهم، وأنّهم في انتظاره.
وشاع خبره وطلبه المكتفي فهرب هو وولده نزار الّذي ولي بعده وتلقّب
بالقائم.
وخرج معه خاصته ومواليه يريد المغرب. وانتهى إلى مصر وعليها يومئذ عيسى
النوشريّ، فلبس عبيد الله زي التجّار يتستّر به. وجاء كتاب المكتفي
للنوشري بالقبض عليه، وفيه صفته وحليته، فبعث العيون في طلبه. ونمي
الخبر بذلك إلى عبيد الله من بعض خواص النوشريّ فخرج في رفقة، ورآه
النوشريّ وأحضره ودعاه للمؤاكلة فاعتذر بالصوم، ثم امتحنه فلم تشهد له
أحواله بشيء مما ذكر له عنه. وقارن ذلك رجوع ابنه أبي القاسم يسأل عن
كلب للصيد ضاع له، فلمّا رآه النوشريّ وأخبر أنه ولد عبد الله علم أنّ
هذه الدالة في طلب الضائع منافية للرقبة والخوف، فخلّى سبيله. وجدّ
المهدي في السير وكان له كتب من الملاحم ورثها منقولة عن أبيه سرقت من
رحله في تلك الطريق، ويقال إنّ ابنه أبا القاسم لما زحف إلى مصر أخذها
من بلاد برقة. ولما انتهى المهدي وابنه إلى طرابلس وفارقه التجّار أهل
الرفقة، قدّم أبا
__________
[1] إنكجان: ابن الأثير ج 8 ص 34.
(3/452)
العبّاس أخا أبي عبيد الله الشيعيّ إلى
أخيه بكتامة، ومرّ بالقيروان، وقد سبق خبرهم إلى زيادة الله وهو يسأل
عنهم، فقبض على أبي العبّاس وسأله فأنكر فحبسه، وكتب إلى عامل طرابلس
بالقبض على المهدي ففاته، وسار إلى قسطنطينية فعدل عنها خشية على أبي
العبّاس أخي الشيعيّ المعتقل بالقيروان، وذهب إلى سجلماسة وبها أليشع
بن مدرار فأكرمه. ثم جاءه كتاب زيادة الله ويقال كتاب المكتفي بأنه
المهدي الّذي داعيه في كتامة فحبسه، وبعث زيادة الله العساكر، الى
كتامة مع قريبه إبراهيم بن حيش [1] ، وكانوا أربعين ألفا، فانتهى إلى
قسطنطينية [2] فأقام بها وهم متحصّنون بخيلهم ستة أشهر. ثم زحف إليهم
ودافعهم عند مدينة بلزمة فانهزم إلى القيروان. وكتب أبو عبد الله
بالفتح إلى المهدي وهو في محبسه. ثم زحف إلى مدينة طبنة فحاصرها وملكها
بالأمان، ثم إلى مدينة بلزمة فملكها عنوة، فبعث زيادة الله العساكر مع
هارون الطبنيّ فانتهوا إلى مدينة دار ملوك، وكانوا قد أطاعوا الشيعي
فهدمها هارون، وقتل أهلها، وسار إلى الشيعي فانهزم من غير قتال وقتل.
وفتح الشيعي مدينة عيسى فزحف زيادة الله في العساكر سنة خمس وتسعين
ونزل الأربس ثم أشار عليه أصحابه بالرجوع إلى القيروان ليكون ردءا
للعساكر، فبعث الجيوش مع إبراهيم بن أبي الأغلب من قرابته ورجع، وزحف
أبو عبد الله إلى باغاية فهرب عاملها وملكها. ثم إلى مدينة مرماجنّة
فافتتحها عنوة وقتل عاملها ثم إلى مدينة تيفاش فملكها على الأمان،
واستأمن إليه القبائل من كل جهة فأمّنهم وسار بنفسه إلى مسلبابة [3] ثم
إلى تبسة ثم إلى مجانة ففتحها على الأمان، ثم سار إلى القصرين من قمودة
وأمّن أهلها وسار يريد قادة وبلغ الخبر إلى إبراهيم بن أبي الأغلب وهو
بالأربس أميرا على الجيش، فخشي على زيادة الله برقادة لقلة عسكره،
وارتحل ذاهبا إليه، وسار أبو عبد الله إلى قسطنطينية فحاصرها وافتتحها
على الأمان ورجع إلى باغاية فأنزل بها عسكرا وعاد الى ايكجان فسار
إبراهيم بن أبي الأغلب إلى باغاية وحاصر أصحاب أبي عبد الله بها، فبعث
أبو عبد الله عساكره إلى مج [4] العرعار فألفوا
__________
[1] خنيش: ابن الأثير ج 8 ص 40.
[2] هكذا في الأصل وكذلك عند ابن الأثير وفي نسخة اخرى قسنطينه.
[3] مسكياتة: ابن الأثير ج 8 ص 43.
[4] فج: ابن الأثير ج 8 ص 44.
(3/453)
إبراهيم قد عاد عنها إلى الأربس. ثم زحف
أبو عبد الله إلى إبراهيم سنة ست وتسعين في مائة ألف مقاتل وبعث من
عسكره من يأتي إبراهيم من خلفه، وسار إليه فانهزم وأثخن فيهم أبو عبد
الله بالقتل والأسر، وغنم أموالهم وخيلهم وظهرهم. ودخل الأربس
فاستباحها، ثم سار فنزل قمودة، وبلغ الخبر إلى زيادة الله فهرب إلى
مصر.
وافترق أهل مدينة رقادة إلى القيروان وسوسة ونهب قصور بني الأغلب ووصل
إبراهيم بن أبي الأغلب إلى القيروان، فنزل قصر الإمارة وجمع الناس
ووعدهم الحماية، وطلب المساعدة بطاعتهم وأموالهم، فاعتذروا وخرجوا إلى
الناس فأخبروهم، فثاروا به وأخرجوه. وبلغ أبا عبد الله الشيعيّ هرب
زيادة الله وهو يشبه [1] فدخل إلى رقادة وقدم بين يديه عروبة بن يوسف
وحسن بن أبي خنزير فساروا وأمّنوا الناس. وخرج أهل القيروان للقاء أبي
عبد الله فأكرمهم وأمّنهم، ودخل رقادة في رجب سنة ست وتسعين، ونزل
قصورها وفرّق دورها على كتامة ونادى بالأمان. وتراجع الناس فأخرج
العمّال وطلب أهل الشرّ فهربوا، وجمع أموال زيادة الله وسلاحه وأمر
بحفظها وبحفظ جواريه، واستأذنه الخطباء لمن يخطبون فلم يعيّن لهم أحدا.
ونقش على السكّة من أحد الوجهين بلغت حجة الله، ومن الآخر تفرّق أعداء
الله، وعلى السلاح عدّة في سبيل الله، ورسم أفخاذ الخيل بالملك للَّه.
بيعة المهدي بسجلماسة
ولما ملك أبو عبد الله إفريقية لقيه أخوه أبو العبّاس منطلقا من
اعتقاله، فاستخلفه عليها وترك معه أبا زاكي تمام بن معارك من قوّاد
كتامة. وسار إلى المغرب ففرّق القبائل من طريقه، وخافته زناتة فدخلوا
في طاعته. ولما قرب من سجلماسة أرسل إلى المهدي بمحبسه يسأله عن حاله
فأنكر، ثم سأل ولده كذلك فأنكر، وضرب رجاله فأنكروا، ونمي الخبر إلى
أبي عبد الله فخشي عليهم وأرسل إلى أليسع يتلطّفه فقتل الرسل فأغذ أبو
عبد الله السير وحاصره يوما وهرب أليسع من الليل هو وأصحابه وبنو عمّه.
وخرج أهل البلد إلى أبي عبد الله فجاء إلى مجلس المهدي
__________
[1] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 46: «ولما بلغ ابا
عبد الله هرب زيادة الله كان بناحية سبيبة فرحل ونزل بوادي النمل،
وقدّم بين يديه عروبة بن يوسف وحسن بن أبي خنزير، في ألف فارس الى
رقادة.
(3/454)
فأخرجه هو وابنه أبا القاسم، وأركبهما ومشى
مع رؤساء القبائل بين يديها وهو يقول:
هذا مولاكم ويبكي من شدّة الفرح، ثم أنزله بالمخيم وبعث في أثر أليسع
فجيء به فجلد، ثم قتل، وأقام بسجلماسة أربعين يوما ورجع إلى إفريقية،
ووصل إلى رقادة في ربيع من سنة ست وتسعين وجدّد البيعة للمهدي واستولى
على ملك بني الأغلب بإفريقية. وملك مدرار سجلماسة ونزل برقادة وتلقّب
بالمهديّ أمير المؤمنين وبعث دعاته في الناس فحملوهم على مذهبهم
فأجابوا إلّا قليلا عرض عليهم السيف، وقسّم الأموال والجواري في رجال
كتامة، وأقطعهم الأموال والأعمال، ودوّن الدواوين وجبى الأموال وبعث
العمّال على البلاد. فبعث على صقلّيّة الحسن بن أحمد بن أبي خنزير فوصل
إلى مازر في عيد الأضحى من سنة تسع وتسعين، فاستقضى بها إسحاق بن
المنهال، وأجاز البحر سنة ثمان وتسعين إلى بسط قلورية [1] فأثخن فيها
وعاد وثار به أهل صقلّيّة سنة تسع وتسعين فحبسوه واعتذروا إلى المهدي
لسوء سيرته، فعذرهم وولّى عليهم علي بن عمر البلويّ فوصل إليهم خاتمة
السنة المذكورة.
أخبار ابن الليث بفارس
قد ذكرنا من قبل استيلاء الليث بن عليّ بن الليث وسيكرى [2] مولى عمر
بن الليث على فارس من يد طاهر بن محمد. ثم أخرج سيكرى بعد ذلك الليث
وانفرد بها، وسار إليه طاهر بن محمد بن عمرو، فواقعه وانهزم طاهر وأسر
سيكرى وأسر أخاه يعقوب، وبعث بهما إلى المقتدر مع كاتبه عبد الرحمن بن
جعفر الشيرازي، وقد أمّره على ما يحمله وذلك سنة ست وتسعين، ثم سار
إليه الليث بن عليّ من سجستان سنة سبع وتسعين، فغلبه وملك فارس، وهرب
سيكرى إلى أرجان وأمدّه المقتدر بمؤنس الخادم في العساكر، فجاء إلى
أرجان وجاء الحسين بن حمدان من قمّ إلى البيضاء في إعانته، فسار
لملاقاته وأضلّ الطريق إلى مسالك صعبة أشرف على عسكر مؤنس. وكان سيكرى
قد بعث أخاه إلى شيراز ليحفظها، فلما أشرف على العسكر ظنّه عسكر أخيه
فثاروا إليه واقتتلوا وانهزم عسكر الليث وأخذ أسيرا. وأشار عليه
__________
[1] كذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 50: «وبقي ابن أبي
خنزير إلى سنة ثمان وتسعين ومائتين، فسار في عسكره إلى دمنش فغنم وسبى
وأحرق»
[2] شبكرى: ابن الأثير ج 8 ص 56- الطبري ج 12 ص 17.
(3/455)
أصحابه أن يقبض على سيكرى ويطلب من المقتدر
ولاية فارس مكانه فوافقهم طاهر ودسّ إليه، فلحق بشيراز وعاد مؤنس إلى
بغداد بالليث أسيرا، والحسين بن حمدان إلى عمله بقمّ. ثم إنّ عبد
الرحمن بن جعفر كاتب سيكرى استولى على أمره، وحسده أصحابه وأكثروا
السعاية فيه عند سيكرى فحبسه، واستكتب مكانه إسماعيل ابن إبراهيم اليمن
[1] ، فحمله على العصيان ومنع الحمل ودسّ عبد الرحمن بن جعفر من محبسه
إلى الوزير ابن الفرات بذلك، فكتب إلى مؤنس وهو بواسط يأمره بالعود إلى
فارس، فسار وأرسله سيكرى وأنسه وسأل منه الوساطة في أمره، وشعر ابن
الفرات بميل مؤنس إلى بغداد، وسار محمد بن جعفر فهزم سيكرى على شيراز
فخلص إلى قمّ وتحصن بها، وحاصره محمد بن جعفر ثم خرج إليه فهزمه ثانية،
ودخل مغارة خراسان فلقيته عساكر، إسماعيل إلى بغداد، فحبسا هنالك
واستولى محمد بن جعفر من القوّاد على فارس وولّى عليها قبيجا [2] خادم
الأفشين، ثم صارت ولايتها لبدر ابن عبد الله الحمامي [3] وفي آخر سنة
تسع وتسعين ومائتين قبض حرمه وقامت الهيعة ببغداد ثلاثة أيام، ثم سكنت
وذلك لثلاث سنين وثلاثة أشهر من وزارته. فاستوزر مكانه أبا عليّ محمد
بن يحيى بن عبيد الله بن يحيى، فرتّب الأمور على الدواوين. ثم زاد قرفه
لضيق صدره وطيشه وعدوله عن مذاهب الرئاسة إلى الوضاعة ومراجعة أصحاب
الحاجات والحقوق إلى ما يريد قضاءه منها، وكثرة التولية والعزل وتبجّح
أصحابه عليه في إطلاق الأموال وانبساط الجاه بإفساد الأحوال. واعتزم
المقتدر على عزله بأبي الحسين بن أبي الفضل، فاستدعاه من أصبهان، ثم
قبض عليه وعلى أبي الحسن ببغداد، وأهمل رأي الوزراء وصار يرجع إلى قول
النساء والخدم، فطمع العمّال في الأطراف، ثم أخرج ابن الفرات من محبسه
وجعله في بعض الحجر، وأحسن إليه وصار يعرض عليه مطالعات العمّال، وأراد
أن يستوزره ثم بدا له واستدعى عليّ بن عيسى من مكّة فاستوزره لأوّل سنة
إحدى وثلاثمائة، وقبض على الخاقاني وحبسه وعين حرسيا عليه. وقام علي بن
عيسى بالوزارة وأصلح ما أفسده الخاقاني واستقامت الأمور.
__________
[1] إسماعيل بن إبراهيم البمّيّ: ابن الأثير ج 8 ص 57.
[2] قنبجا: ابن الأثير ج 8 ص 58.
[3] بياض بالأصل وفي الطبري ج 12 ص 19: «وفيها خالف سيكرى والتوى بما
عليه فندب لمحاربته وصيف كأمه غلام الموقف وشخص معه وجوه القواد وفيهم
الحسين بن حمدان وبدر غلام النوشري وبدر الكبير المعروف بالحمامي
فواقعوا سبكرى في باب شيراز وهزموه.»
(3/456)
قيام أهل صقلّيّة بدعوة المقتدر ثم رجوعهم
إلى طاعة المهدي
قد ذكرنا ولاية عليّ بن عمر على صقلّيّة من عبد الله المهدي سنة تسع
وتسعين. ثم إنّ أهل صقلّيّة انتقضوا عليه وولّوا عليهم أحمد بن موهب
[1] ثم انتقضوا عليه وأرادوا قتله فدعا إلى طاعة المقتدر وخطب له
بصقلية، وقطع خطبة المهدي وبعث أسطولا إلى ناحية ساحل إفريقية، فلقوا
أسطول المهدي، وعليه الحسن بن أبي خنزير، فأحرقوه وقتلوا الحسن ووصلت
خلع السواد وألويته لابن موهب من بغداد ثم جاءت أساطيل المهدي في البحر
وفسد أمر ابن موهب ثم ثارت أهل صقلّيّة به سنة ثلاثمائة وأسروه وبعثوا
به إلى المهدي مع جماعة من أصحابه فأمرهم بقتلهم على قبر ابن أبي
خنزير.
ولاية العهد
وفي سنة إحدى وثلاثمائة ولّى المقتدر ابنه أبا العبّاس العهد وهو الّذي
ولي الخلافة بعد القاهر وسمّي بالرافضي فولّاه أبو المقتدر العهد وهو
ابن سنين [2] وقلّده مصر والمغرب، واستخلف له عليها مؤنسا الخادم وولّى
ابنه الآخر عليّا على الريّ ودنباوند وقزوين وأذربيجان [3] وأبهر.
ظهور الأطروش وملكه خراسان
كان هذا الأطروش من ولد عمر بن عليّ زين العابدين وهو الحسن بن عليّ بن
الحسين بن عليّ بن عمر وكان قد دخل إلى الديلم بعد قتل محمد بن زيد،
ولبث فيهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام ويأخذ منهم العشر، ويدافع
عنهم ملكهم ابن حسّان، فأسلم على يديه منهم خلق كثير وبنى لهم المساجد،
وزحف بهم إلى ثغور المسلمين، أراهم مثل قزوين وسالوس فأطاعوه، وهدم حصن
سالوس. ثم
__________
[1] احمد بن موهر: ابن الأثير ج 8 ص 71.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 76: في هذه السنة- 301-
خلع على الأمير أبي العبّاس بن المقتدر باللَّه، وقلّد أعمال مصر
والمغرب وعمره أربع سنين.
[3] زنجان: المرجع السابق.
(3/457)
دعاهم إلى غزو طبرستان وهي في طاعة ابن
سامان، وكان إسماعيل بن أحمد لما انتقض بها محمد بن هارون، وقبض عليه
إسماعيل وولى عليها أبا العبّاس عبد الله بن محمد بن نوح، فأحسن السيرة
وأظهر العدل، وبالغ في الإحسان إلى العلوية الذين بها، واستمال الديلم
بالمهاداة والإحسان، فاشتمل الناس عليه. فلما دعاهم الحسن إلى غزو
طبرستان، لم يجيبوه من أجل ابن نوح. ثم إنّ أحمد بن إسماعيل عزل ابن
نوح عنها، وولّى عليها سلاما فأساء السيرة ولم يحسن سياسة الديلم،
فهاجوا عليه فقاتلهم وهزمهم، واستعفى من ولايتها فعاد إليها ابن نوح
وصلحت الحال كما كانت إلى أن مات، فولّى عليها محمد بن إبراهيم بن
صعلوك، فأساء السيرة وتنكّر للديلم فصادف الحسن منها الغرّة ودعاهم إلى
غزو طبرستان فأجابوه، وسار إليه ابن صعلوك على من يرحّله من سالوس
بشاطئ البحر، فانهزم وقتل من أصحابه أربعة آلاف، ولجأ الباقون إلى
سالوس، فحاصرهم الأطروش حتى استأمنوا، ورجع عنهم إلى آمد. ثم جاء الحسن
بن القاسم العلويّ الداعي صهر الأطروش إلى أولئك المستأمنين فقتلهم،
واستولى الأطروش على طبرستان، ولحق ابن صعلوك بالريّ سنة إحدى
وثلاثمائة، وسار منها إلى بغداد وكان الأطروش زيديّ المذهب، وجميع
الذين أسلموا على يده فيما وراء أسعيدولى إلى آمد [1] كلهم على مذهب
الشيعة. ثم إن الأطروش العلويّ تنحّى عن آمد إلى سالوس بعد أن غلب
عليها، فبعث إليه صعلوك الريّ من قبل ابن سامان جيشا فهزمهم وعاد إلى
آمد. ثم زحفت إليه عساكر السعيد [2] صاحب خراسان سنة أربع وثلاثمائة
فقتلوه. وكان هذا الأطروش عادلا حسن السيرة لم ير مثله في أيامه وأصابه
الصمم من ضربة في رأسه بالسيف في الحرب. وقال ابن مسكويه في كتاب تجارب
الأمم ويقال فيه الحسن بن عليّ الداعي وليس به، وإنّما الداعي الحسن بن
القاسم صهره، وسنذكره فيما بعد. وكان له من الولد أبو الحسن، وكان
قوّاده من الديلم جماعة منهم ابن النعمان وكانت له ولاية جرجان، وما
كان بن كالي وكان على أستراباذ ومعرّا. ثم كان من قوّاد ولده من الديلم
جماعة آخرون منهم أسفار بن شيرويه من أصحاب ما كان بن كالي ومرداويج بن
__________
[1] هكذا بالأصل العبارة غير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 82:
«الذين هم وراء اسفيدروذ الى ناحية آمل.»
[2] بياض بالأصل وهو السعيد نصر بن سامان كما سيمرّ معنا.
(3/458)
زياد من أصحاب أسفار، واسكرى من أصحابه
أيضا، وبنو بويه من أصحاب مرداويج، وسيأتي الخبر عن جميعهم إن شاء الله
تعالى.
غلب المهدي على الاسكندرية ومسير مؤنس إلى
مصر
وفي سنة اثنتين وثلاثمائة بعث عبد الله المهدي عساكره من إفريقية إلى
الإسكندرية مع قائده خفاشة الكتابي فغلب عليها وسار إلى مصر، وبلغ
المقتدر فبعث مؤنسا الخادم في العساكر لمحاربته، وأمدّه بالأموال
والسلاح. وسار إليهم وقاتلهم فهزمهم بعد وقائع متعدّدة، قتل فيها من
الفريقين، وبلغ القتل والأسر من المغاربة سبعة آلاف ورجعوا إلى المغرب.
انتقاض الحسين على ابن حمدان بديار ربيعة
وأسره
كان الحسين بن حمدان واليا على ديار ربيعة وطالبه الوزير عليّ بن عيسى
بالمال، فدافعه وأمره بتسليم البلاد إلى عمّال السلطان، فامتنع وكان
مؤنس الخادم بمصر في محاربة عساكر المهدي صاحب إفريقية، فجهّز الوزير
إلى ابن حمدان رائقا الكبير في عسكر سنة ثلاث وثلاثمائة، وكتب إلى مؤنس
أن يسير إلى الجزيرة لقتاله بعد فراغه من أصحاب العلويّ بمصر، فسار
رائق أوّلا هزمه الحسين، ولحق بمؤنس فأمره بالمقام بالموصل. وسار نحو
الحسين وتبعه أحمد بن كيغلغ، وانتهى إلى جزيرة ابن عمر والحسين
بأرمينية. ورجع الكثير من عسكره إلى مؤنس. ثم بعث مؤنس عسكرا في أثره
عليهم بليق ومعه سيما الجزريّ. وجاء الصفواني واتبعوه فأدركوه، وقاتلوه
فهزموه، وجاءوا به أسيرا ومعه ابنه عبد الوهاب وأهله وكثير من أصحابه.
وعاد مؤنس إلى بغداد على الموصل، فحبسه المقتدر وأغار على أبي الهيجاء
بن حمدان وجميع إخوته وحبسهم. ثم أطلق أبا الهيجاء سنة خمس وقتل الحسين
سنة ست تقريبا كما نذكر إن شاء الله تعالى.
وزارة ابن الفرات الثانية
كان الوزير أبو الحسن بن الفرات محبوسا كما ذكرنا وكان المقتدر يشاوره
ويرجع إلى رأيه، ويبغي بعض أصحاب المقتدر إعادته. وبلغ ذلك الوزير عليّ
بن عيسى فاستعفى ومنعه المقتدر. ثم جاءت في بعض الأيام قهرمانة القصر
تناظره في نفقات
(3/459)
الحرم والحاشية وكسوتهم، فألفته نائما فلم
يوقظه لها أحده. فرجعت وشكت إلى المقتدر وأمّه فقبض عليه في ذي القعدة
من سنة أربع وثلاثمائة، وأعاد ابن الفرات على أن يحمل إلى بيت المال
ألف دينار وخمسمائة دينار في كل يوم. وقبض على الوزير من قبله عليّ بن
عيسى والخاقاني وأصحابهما، وصادرهم أبو علي بن مقلة وكان مختفيا منذ
قبض على ابن الفرات فقدّمه الآن واستخلصه.
خبر ابن أبي الساج بأذربيجان
قد ذكرنا استقرار يوسف بن أبي الساج على أرمينية وأذربيجان منذ مهلك
أخيه محمد سنة ثمان وثمانين ومائتين، وكان على الحرب والصلاة والأحكام،
وكان عليه مال يؤديه. فلما ولي الخاقاني وعليّ بن عيسى الوزارة،
والتأمت أمور يوسف في الاستبداد، وأخّر بعض المال واجتمع له ما يريده
لذلك، وبلغته نكبة الوزير عليّ ابن عيسى، فأظهر أنّ العهد وصل إليه
بولاية الريّ على يد عليّ بن عيسى. وكان حميد بن صعلوك من قوّاد ابن
سامان قد بعث على الريّ وما يليها، وقاطع عليها بمال يحمله فسار إليه
يوسف سنة أربع وثلاثمائة، فهرب إلى خراسان واستولى يوسف على الريّ
وقزوين وزنجان، وكتب إلى الوزير ابن الفرات بالفتح ويعتذر بأنه طرد
المتغلبين، ويذكر كثرة ما أنفق من ذلك، وأنه كان بأمر الوزير علي بن
عيسى وعهده إليه بذلك، فأستعظم المقتدر ذلك، وسئل عليّ بن عيسى فأنكر
وقال:
سلوا الكتّاب والحاشية والعهد واللواء اللذين كان يسير بهما مع بعض
القوّاد والخدّام.
فكتب ابن الفرات بالنكير على يوسف، وجهّز العساكر لحربه مع خاقان
المفلحيّ، ومعه أحمد بن مسرور البلخيّ، وسيما الجزريّ، ونحرير الصغير،
وساروا سنة خمس وثلاثمائة فهزمهم يوسف وأسر منهم جماعة، فبعث المقتدر
مؤنسا الخادم في جيش كثيف لمحاربته وعزل خاقان المفلحيّ عن أعمال
الجبل، وولّاها نحريرا الصغير. وسار مؤنس واستأمن له أحمد بن عليّ أخو
صعلوك فأمّنه وأكرمه، وبعث ابن أبي الساج في المقاطعة على أعمال الريّ
بسبعمائة ألف دينار سوى أرزاق الجند والخدم، فأبى له المقتدر من ذلك
عقوبة على ما أقدم عليه، وولّى على ذلك العمل وصيفا البكتمري، وطلب ابن
أبي الساج أن يقاطعه على ما كان بيده قبل الريّ من أذربيجان وأرمينية،
فأبى المقتدر إلا أن يحضر في خدمته. فلما يئس
(3/460)
ابن أبي الساج زحف إلى مؤنس وقاتله، فانهزم
مؤنس إلى زنجان وقتل من قوّاده جماعة، وأسر هلال بن بدر وغيره فحبسهم
يوسف في أردبيل، وأقام مؤنس بزنجان بجميع العساكر يستمدّ من المقتدر
وابن أبي الساج يراسله في الصلح، والمقتدر لا يجيب إلى ذلك. ثم قاتله
مؤنس في فاتح سنة سبع وثلاثمائة عند أردبيل فهزمه وأسره وعاد به إلى
بغداد أسيرا، فحبسه المقتدر وولّى مؤنس على الريّ ودنبوند وقزوين وأبهر
وزنجان علي بن وهشودان وجعل أموالها لرجاله، وولّى مؤنس على أصبهان
وقمّ وقاشان أحمد بن علي بن صعلوك، وسار عن أذربيجان فوثب سبك مولى
يوسف بن أبي الساح فملكها واجتمع عليه عسكر فولى مؤنس بن محمد بن عبيد
الفارقيّ وسار بمحاربة سبك فانهزم وعاد إلى بغداد. وتمكّن سبك في
أذربيجان وسأل المقاطعة على مائتي ألف وعشرين ألف دينار في كل سنة.
فأجيب وعقد له عليها، وكان مقيما بقزوين فقتله على مراسة ولحق ببلده،
فولّى المقتدر وصيفا البكتمري مكانه على أعمال الريّ، وولّى محمد بن
سليمان صاحب الجيش على الخوارج بها، ثم وثب أحمد بن عليّ بن صعلوك صاحب
أصبهان وقمّ على الريّ، فملكها وكتب إليه المقتدر بالنكير، وأن يعود
إلى قمّ، فعاد ثم أظهر الخلاف وأجمع المسير إلى الريّ، وسار وصيف
البكتمري لحربه. وأمر نحريرا الصغير أن يسير مددا لبكتمري، فسبقهم أحمد
بن صعلوك إلى الريّ وملكها، وقتل محمد بن سليمان صاحب الخوارج، وبعث
إلى نصر الحاجب ليصلح أمره بالمقاطعة على أعمال الريّ بمائة وستين ألف
دينار، وينزل عن قمّ فكتب له بذلك وولّى غيره على قمّ.
خبر سجستان وكرمان
كانت سجستان قد صارت لابن سامان منذ سنة ثمان وتسعين ومائتين، ثم تغلب
عليها كثير بن أحمد بن صهفود من يده، فكتب المقتدر إلى عامل فارس وهو
بدر ابن عبد الله الحمامي أن يرسل العساكر لمحاربته، ويؤمّر عليهم
دركا، ويجعل على الخراج بها زيد بن إبراهيم. فسارت العساكر وحاربوا أهل
سجستان فهزموهم وأسروا زيد بن إبراهيم، وكتب كثير إلى المقتدر بالبراءة
من ذلك، وطوية أهل سجستان. وأرسل المقتدر أن يسير لقتاله بنفسه، فخاف
كثير وطلب المقاطعة على خمسمائة ألف دينار في كل سنة، فأجيب وقرّرت
البلاد عليه، وذلك سنة اربع وثلاثمائة. وانتقض في هذه السنة بكرمان
صاحب الخوارج بها أبو زيد خالد بن محمد
(3/461)
المارداني، وسار منها إلى شيراز يروم
التغلّب على فارس فسار إليه بدر الحمامي العامل، وحاربه فقتله وحمل
رأسه إلى بغداد.
وزارة حامد بن العباس
وفي سنة ست وثلاثمائة قبض المقتدر على وزيره أبي الحسن بن الفرات بسبب
شكوى الجند بمطله أرزاقهم، واعتذر بضيق الأموال للنفقة في حروب ابن أبي
الساج، ونقص الارتياع بخروج الريّ عن ملكه. فشغب الجند وركبوا، وطلب
ابن الفرات من الخليفة إطلاق مائتي ألف دينار من خاصته يستعين بها،
فنكر ذلك عليه لأنه كان ضمن القيام بأرزاق الأحشاد وجميع النفقات
المرتبة، فاحتجّ بنقص الارتياع وبالنفقة في الحرب كما تقدّم، فلم يقبل.
ويقال سعى فيه عند المقتدر بأنه يروم إرسال الحسين بن حمدان إلى أبي
الساج فيحاربه، وإذا سار عنده اتفقا على المقتدر، فقتل المقتدر ابن
حمدان وقبض على ابن الفرات في جمادى الآخرة، وكان حامد بن العبّاس على
الأعمال بواسط، وكان منافرا لابن الفرات، وسعى به عنده بزيادة ارتياعه
على ضمانه، فخشيه حامد على نفسه. وكتب إلى نصر الحاجب والي والده
المقتدر سعة نفسه وكثرة أتباعه، وذلك عند استيحاشه من ابن الفرات،
فاستقدمه من واسط، وقبض على ابن الفرات وابنه المحسن وأتباعهما،
واستوزر حامدا فلم يوف حقوق الوزارة ولا سياستها، وتحاشى عليه الدواوين
فأطلق المقتدر علي ابن عيسى وأقامه على الدواوين كالنائب عن حامد. فكان
يزاحمه واستبدّ بالأمور دونه ولم يبق لحامد أمر عليه فأجابه ابن الفرات
بأسفه منه وقال لشفيع اللؤلؤي: قل لأمير المؤمنين حامد إنما حمله على
طلب الوزارة، أني طالبته بأكثر من ألفي ألف دينار من فضل ضمانه،
فاستشاط حامد وزاد في السفه، فأنفذ المقتدر من ردّ ابن الفرات إلى
محبسه، ثم صودر وضرب ابنه الحسن وأصحابه وأخذت منهم الأموال. ثم إنّ
حامدا لما رأى استطالة علي بن عيسى عليه وكثرت تصرّفه في الوزارة دونه،
ضمن للمقتدر أعمال الخوارج والضياع الخاصة والمستحدثة والقرارية، بسواد
بغداد والكوفة وواسط والبصرة والأهواز وأصبهان، واستأذنه في الانحدار
إلى واسط لاستخراج ذلك فانحدر واسم الوزارة له وأقام علي بن عيسى يدبّر
الأمور، فأظهر حامد سوء تصرف في الأموال، وبسط المقتدر يده حتى خافه
علي بن عيسى. ثم
(3/462)
تحرّك السعر ببغداد فشغبت العامّة ونهبوا
الغلال، لأنّ حامدا وغيره من القوّاد كانوا يخزنون الغلال. وأحضر حامد
لمنعهم فحضر فقاتلوه، وفتقوا السجون ونهبوا دار الشرطة. وأنفذ المقتدر
غريب الحال في العسكر، فسكن الفتنة وعاقب المتصدّين للشرّ، وأمر بفتح
المخازن التي للحنطة وببيعها، فرخص السعر وسكن إلى منع الناس من بيع
الغلال في البيادر وخزنها فرفع الضمان عن حامد، وصرف عمّاله عن السواد
وردّ ذلك لعليّ بن عيسى وسكن الناس.
وصول ابن المهدي وهو أبو القاسم إلى ابنه
وفي سنة سبع وثلاثمائة بعث المهدي صاحب إفريقية أبا القاسم في العساكر
إلى مصر فوصل إلى الإسكندرية في ربيع الآخر وملكها، ثم سار إلى مصر
ونزل بالجيزة واستولى على الصعيد، وكتب إلى أهل مكة في طاعته فلم
يجيبوا. وبعث المقتدر مؤنسا الخادم إلى مصر لمدافعته، فكانت بينهم حروب
كثر فيها القتلى من الجانبين، وكان الظهور لمؤنس ولقّب يومئذ بالمظفّر.
ووصل من إفريقية أسطول من ثمانين مركبا مددا للقائهم، وعليهم سليمان
الخادم ويعقوب الكتاميّ، وأمر المقتدر بأن يسير إليهم أسطول طرسوس فسار
في خمسة وعشرين مركبا وعليهم أبو اليمن، ومعهم العدد والأنفاط، فغلبوا
أسطول إفريقية وأحرقوا أكثر مراكبه. وأسر سليمان الخادم ويعقوب الكتامي
في جماعة قتل أكثرهم، وحبس سليمان بمصر، وحمل يعقوب إلى بغداد. ثم هرب
وعاد إلى إفريقية وانقطع المدد عن عسكر المغاربة، فوقع الغلاء عندهم
وكثر الموتان في الناس والخيل فارتحلوا راجعين إلى بلادهم وسار عساكر
مصر في أثرهم حتى أبعدوا.
بقية خبر ابن أبي الساج
قد تقدّم لنا أنّ مؤنسا حارب يوسف بن أبي الساج عامل أذربيجان فأسره
وحمله إلى بغداد فحبس بها، واستقرّ بعده في عمله سبك مولاه. ثم إنّ
مؤنسا شفع فيه سنة عشر. فأطلقه المقتدر وخلع عليه ثم عقد له أذربيجان
وعلى الريّ وقزوين أبهر وزنجان وعلى خمسمائة ألف دينار في كل سنة سوى
أرزاق العساكر. وسار يوسف إلى أذربيجان ومعه وصيف البكتمري في العساكر،
ومرّ بالموصل فنظر في
(3/463)
أعمالها وأعمال ديار ربيعة. وقد كان
المقتدر تقدّم إليه بذلك. ثم سار إلى أذربيجان وقد مات مولاه سبك،
فاستولى عليها وسار سنة إحدى عشرة إلى الريّ وكان عليها أحمد بن علي
أخو صعلوك، وقد اقتطعها كما قدّمنا، ثم انتقض على المقتدر وهادن ما كان
بن كالي من قوّاد الديلم القائم بدعوة أولاد الأطروش في طبرستان
وجرجان.
فلما جاء يوسف إلى الريّ حاربه أحمد فقتله يوسف، وأنفذ رأسه إلى بغداد،
واستولى على الريّ في ذي الحجة وأقام بها مدّة، ثم سار عنها إلى همذان
فاتح ثلاث عشرة، واستخلف بها مولاه مفلحا وأخرجه أهل الريّ عنهم، فعاد
يوسف إليهم في جمادى من سنته، واستولى عليها ثانية. ثم قلّده المقتدر
سنة أربع عشرة نواحي المشرق وأذن له في صرف أموالها في قوّاده وأجناده
وأمره بالمسير إلى واسط، ثم منها إلى هجر لمحاربة أبي طاهر القرمطيّ،
فسار يوسف إلى طاهر وكان بها مؤنس المظفّر، فرجع إلى بغداد وجعل له
أموال الخراج بنواحي همذان وساوة وقمّ وقاشان وماه البصرة وماه الكوفة
وماسبذان لينفقها في عسكره، ويستعين بها على حرب القرامطة، ولما سار من
الريّ كتب المقتدر إلى السعيد نصر بن سامان بولاية الريّ وأمره بالمسير
إليها وأخذها من فاتك مولى يوسف، فسار إليها فاتح أربع عشرة، فلما
انتهى إلى جبل قارن منعه أبو نصر الطبري من العبور، وبذل له ثلاثين ألف
دينار فترك سبيله وسار إلى الريّ فملكها من يد فاتك وأقام بها شهرين،
وولّى عليها سيمجور الدواني [1] وعاد إلى بخارى. ثم استعمل على الريّ
محمد بن أبي صعلوك فأقام بها إلى شعبان سنة ست عشرة وأصابه مرض، وكان
الحسن بن القاسم الداعي وما كان ابن كالي أميري الديلم في تسليم الريّ
إليهما، فقدما وسار عنها ومات في طريقه، واستولى الداعي والديلم عليها.
بقية الخبر عن وزراء المقتدر
قد تقدّم الكلام في وزارة حامد بن العبّاس وأنّ عليّ بن عيسى كان
مستبدّا عليه في وزارته، وكان كثيرا ما يطرح جانبه ويسيء في توقعاته
[2] على عمّاله. وإذا اشتكى إليه أحد من نوّابه يوقّع على القصّة: إنما
عقد الضمان على الحقوق الواجبة فليكفّ
__________
[1] سيمجور الدواتي.
[2] الصحيح: توقيعاته ج توقيع.
(3/464)
الظلم عن الرعيّة. فأنف حامد من ذلك
واستأذن في المسير إلى واسط للنظر في ضمانه، فأذن له ثم كثرت استغاثة
الخدم والحاشية من تأخّر أرزاقهم وفسادها، فإنّ عليّ بن عيسى كان
يؤخّرها وإذا اجتمعت عدّة شهور أسقطوا بعضها، وكثرت السعاية واستغاث
العمّال وجميع أصحاب الأرزاق بأنه حطّ من أرزاقهم شهرين من كل سنة،
فكثرت الفتنة على حامد، وكان الحسن ابن الوزير ابن الفرات متعلّقا
بمفلح الأسود خالصة [1] الخليفة المقتدر وكان شقيقه لأبيه، وجرى بينه
وبين حامد يوما كلام، فأساء عليه حامد وحقد له. وكتب ابن الفرات إلى
المقتدر وضمن له أموالا فأطلقه واستوزره، وقبض على عليّ بن عيسى وحبسه
في مكانه، وذلك سنة إحدى عشرة، وجاء حامد من واسط فبعث ابن الفرات من
يقبض عليه، فهرب من طريقه واختفى ببغداد. ثم مضى إلى نصر بن الحاجب
سرّا وسأل إيصاله إلى المقتدر، وأن يحبسه بدار الخلافة، ولا يمكّن ابن
الفرات منه. فاستدعى نصر الحاجب مفلحا الخادم حتى وقفه على أمره وشفع
له في رفع المؤاخذة بما كان منه، فمضى إلى المقتدر وفاوضه بما أحبّ،
وأمر المقتدر بإسلامه [2] لابن الفرات فحبسه مدّة ثم أحضره وأحضر له
القضاة والعمّال، وناظره فيما وصل إليه من الجهات فأقرّ بنحو ألف ألف
دينار. وضمنه المحسن بن الفرات بخمسمائة ألف دينار فسلّم إليه وعذّبه
أنواعا من العذاب، وبعثه إلى واسط ليبيع أمواله هناك فهلك في طريقه
بإسهال أصابه. ثم صودر عليّ بن عيسى على ثلاثمائة ألف دينار وعذّبه
المحسن بعد ذلك عليها فلم يستخرج منه شيئا وسيّره ابن الفرات أيام
عطلته وحبسه بعد أن كان ربّاه وأحسن إليه، فقبض عليه مدّة ثم أطلقه،
وقبض على ابن الجوزي وسلّمه إلى ابنه المحسن، فعذّبه ثم بعثه إلى
الأهواز لاستخراج الأموال، فضربه الموكّل به حتى مات. وقبض أيضا على
الحسين بن أحمد، وكان تولّى مصر والشام وعلى محمد بن علي المارداني
وصادرهما على ألف ألف وسبعمائة ألف دينار، وصادر جماعة من الكتّاب
سواهم ونكبهم. وجاء مؤنس من غزاته فأنهى إليه أفعال ابن الفرات وما هو
يعتمد من المصادرات والنكايات وتعذيب ابنه للناس، فخافه ابن الفرات
وخوّف المقتدر منه. وأشار بسيره إلى الشام ليقيم هنالك بالثغر، فبعثه
__________
[1] هي كلمة عامية بلغة أهل المغرب ومعناها الصديق الحميم.
[2] الأصح ان يقول وتسليمه.
(3/465)
المقتدر وأبعده. ثم سعى ابن الفرات بنصر
الحاجب وأغراه به وأطمعه في ماله وكان مكثرا واستجار نصر بأمّ المقتدر.
ثم كثر الإرجاف بابن الفرات، فخاف وانهى إلى المقتدر بأنّ الناس عادوه
لنصحه للسلطان واستيفاء حقوقه، وركب هو وابنه المحسن إلى المقتدر
فأوصلهما إليه وأسهمهما، وخرجا من عنده فمنعهما نصر الحاجب، ودخل مفلح
على المقتدر وأشار إليه بعزله، فأسرّ إليه وفاقه على ذلك، وأمر بتخلية
سبيلهما.
واختفى المحسن من يومه. وجاء نازوك وبليق من الغد في جماعة من الجند
إلى دار ابن الفرات فأخرجوه حافيا حاسرا، وحمل إلى مؤنس المظفّر ومعه
هلال بن بدر، ثم سلّم إلى شفيع اللؤلؤي فحبس عنده وصودر على ألف ألف
دينار، وذلك سنة اثنتي عشرة. وكان عبد الله أبو القاسم بن عليّ بن محمد
بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان لما تغير حال ابن الفرات سعى في
الوزارة، وضمن في ابن الفرات وأصحابه ألفي ألف دينار على يد مؤنس
الخادم وهارون بن غريب الحال ونصر الحاجب، فاستوزره المقتدر على كراهية
فيه، ومات أبوه عليّ على وزارته. وشفع إليه مؤنس الخادم في إعادة عليّ
بن عيسى من صنعاء، فكتب له في العود وبمشارفة أعمال مصر والشام، وأقام
المحسن بن الفرات مختفيا مدّة. ثم جاءت امرأة إلى دار المقتدر تنادي
بالنصيحة، فأحضرها نصر الحاجب فدلّت على المحسن، فأحضره نازوك صاحب
الشرطة، فسلّم للوزير وعذّب بأنواع العذاب، فلم يستخرج منه شيء فأمر
المقتدر بحمله إلى أبيه بدار الخلافة، وجاء الوزير أبو القاسم الخاقاني
إلى مؤنس وهارون ونصر فحذّرهم شأن ابن الفرات وغائلته بدار الخلافة،
وأغراهم به، فوضعوا القوّاد والجند وقالوا: لا بدّ من قتل ابن الفرات
وولده، ووافق هؤلاء على ذلك فأمر نازوك بقتلهما فذبحهما. وجاء هارون
إلى الوزير الخاقاني يهنّئه بذلك فأغمي عليه، ثم أفاق وأخذ منه ألفي
دينار وشفع مؤنس المظفّر في ابنيه عبد الله وأبي نصر فأطلقهما ووصلهما
بعشرين ألف دينار. ثم عزل الخاقاني سنة ثلاث عشرة لأنه أصابه المرض
وطال به، وشغب الجند في طلب أرزاقهم فوقفت به الأحوال، وعزله المقتدر
وولّى مكانه أبا العبّاس الخصيّ [1] وكان كاتبا لأمّه فقام بالأمر،
وأقرّ علي بن عيسى على أعمال مصر والشام، فكان يتردّد إليهما من مكّة،
ثم أنّ الخصي اضطربت أموره وضاقت الجباية، وكان مدمنا للسكر مهملا
للأمور، ووكّل من يقوم عنه فآثروا مصالحهم
__________
[1] الخصيبيّ: ابن الأثير ج 8 ص 163.
(3/466)
وأضاعوا مصلحته. وأشار مؤنس المظفّر بعزله
وولاية ابن عيسى، فعزل لسنة وشهرين. واستقدم عليّ بن عيسى من دمشق وأبو
القاسم عبد الله بن محمد الكلواذي بالنيابة عنه إلى أن يحضر، فحضر أوّل
سنة خمس عشرة واستقل بأمر الوزارة، وطلب كفالات المصادرين والعمّال،
وما ضمن من الأموال بالسواد والأهواز وفارس والمغرب، فاستحضرها شيئا
بعد شيء وأدرّ الأرزاق وبسط العطاء وأسقط أرزاق المغنّين والمسامرة
والندمان والصفاعنة، وأسقط من الجند أصاغر الأولاد ومن ليس له سلاح
والهرمي والزمنى، وباشر الأمور بنفسه واستعمل الكفاة وطلب أبا العبّاس
الخصي في المناظرة، وأحضر له الفقهاء والقضاة والكتاب، وسأله عن أموال
الخوارج والنواحي والمصادرات وكفالاتها، وما حصل من ذلك وما الواصل
والبواقي، فقال لا أعلم فسأله عن المال الّذي سلّمه لابن أبي الساج كيف
سلّمه بلا مصرف ولا منفق، وكيف سلّم إليه أعمال المشرق، وكيف بعثه
لبلاد الصحراء بهجر هو وأصحابه من أهل الغلول والخصب، فقال: ظننت منهم
القدرة على ذلك. وامتنع ابن أبي الساج من المنفق فقال: وكيف استجزت ضرب
حرم المصادرين؟ فسكت، ثم سئل عن الخراج فخلط فقال: أنت غررت أمير
المؤمنين من نفسك فهلا استعذرت بعدم المعرفة. ثم أعيد إلى محبسه
واستمرّ عليّ بن عيسى في ولايته. ثم اضطربت عليه الأحوال واختلفت
الأعمال، ونقص الارتياع نقصا فاحشا، وزادت النفقات، وزاد المقتدر تلك
الأيام في نفقات الخدم والحرم ما لا يحصى، وعاد الجند من الأنبار
فزادهم في أرزاقهم مائتين وأربعين ألف دينار. فلمّا رأى ذلك عليّ بن
عيسى ويئس من انقطاعه أو توقّفه، وخشي من نصر الحاجب، فقد كان انحرف
عنه لميل مؤنس إليه وما بينهما من المنافرة في الدولة، فاستعفى من
الوزارة وألحّ في ذلك وسكنه مؤنس فقال له: أنت سائر إلى الرقّة، وأخشى
على نفسي بعدك. ثم فاوض المقتدر نصر الحاجب بعد مسير مؤنس فأشار بوزارة
أبي عليّ ابن مقلة، فاستوزره المقتدر سنة ست عشرة وقبض على عليّ بن
عيسى وأخيه عبد الرحمن، وأقام ابن مقلة بالوزارة وأعانه فيها أبو عبد
الله البريدي لمودّة كانت بينهما واستمرّت حاله على ذلك. ثم عزله
المقتدر ونكبه بعد سنتين وأربعة أشهر حين استوحش من مؤنس كما نذكره،
وكان ابن مقلة متّهما بالميل إليه فاتّفق مغيبه في بعض الوجوه فيقبض
عليه المقتدر. فلمّا جاء مؤنس سأل في إعادته فلم يجبه المقتدر
(3/467)
وأراد قتله فمنعه، واستوزر المقتدر سليمان
بن الحسن وأمر عليّ بن عيسى بمشاركته في الاطلاع على الدواوين، وصودر
ابن مقلة على مائتي ألف دينار، وأقام سليمان في وزارته سنة وشهرين
وعليّ بن عيسى يشاركه في الدواوين، وضاقت عليه الأحوال إضاقة شديدة،
وكثرت المطالبات ووقفت وظائف السلطان. ثم أفرد السواد بالولاية فانقطعت
مواد الوزير لأنه كان يقيم من قبله من يشتري توقعات الأرزاق ممن لا
يقدر على السعي في تحصيلها من العمّال والفقهاء وأرباب البيوت،
فيشتريها بنصف المبلغ فتعرّض بعض من كان ينتمى لمفلح الخادم لتحصيل ذلك
للخليفة، وتوسّط له مفلح فدافع لذلك وجاهر في تحصيله من العمّال،
فاختلت الأحوال بذلك وفضح الديوان ودفعت الأحوال لقطع منافع الوزراء
والعمّال التي كانوا يرتفقون بها، وإهمالهم أمور الناس بسبب ذلك. وعاد
الخلل على الدولة وتحرّك المرشحون للوزارة في السعاية وضمان القيام
بالوظائف وأرزاق الجند. وأشار مؤنس بوزارة أبي القاسم الكلواذي
فاستوزره المقتدر في رجب من سنة تسع عشرة وأقام في وزارته شهرين.
وكان ببغداد رجل من المخرّفين يسمّى الدانيالي، وكان ورّاقا ذكيا
محتالا يكتب الخطوط في الورق ويداويها حتى تتمّ بالبلى. وقد أودعها ذكر
من يراه من أهل الدولة برموز وإشارات، ويقسّم له فيها من حظوظ الملك
والجاه والتمكين قسمة من عالم الغيب، يوهم أنها من الحدثان القديم
المأثور عن دانيال وغيره، وأنها من الملاحم المتوارثة عن آبائه، ففعل
مثل ذلك بمفلح. وكتب له في الأوراق م م م بأن يكون له كذا وكذا، وسأله
مفلح عن الميم فقال: هو كناية عنك لأنك مفلح مولى المقتدر. وناسب بينه
وبين علامات مذكورة في تلك الأوراق حتى طبّقها عليه، فشغف به مؤنس
وأغناه. وكان يداخل الحسين بن القاسم بن عبد الله بن وهب، فرمز اسمه في
كتاب وذكر بعض علاماته المنطبقة عليه، وذكر أنه يستوزره الخليفة الثامن
عشر من بني العبّاس، وتستقيم الأمور على يديه، ويقهر الأعادي وتعمر
الدنيا في أيّامه وخلط ذلك في الكتاب بحدثان كثير وقع بعضه ولم يقع
الآخر.
وقرأ الكتاب على مفلح فأعجبه، وجاء بالكتاب إلى المقتدر فأعجب به
الآخر، وقال لمفلح: من تعلم بهذه القصة؟ فقال لا أراه إلا الحسين بن
القاسم. قال:
صدقت وإني لأميل إليه، وقد كان المقتدر أراد ولايته قبل ابن مقلة وقبل
الكلواذي، فامتنع مؤنس. ثم قال المقتدر لمفلح: إن جاءتك رقعة منه
بالسعي في
(3/468)
الوزارة فأعرضها عليّ. ثم سأل مفلح
الدانيالي من أين لك الكتاب؟ قال: وراثة من آبائي وهو من ملاحم دانيال.
فأنهى ذلك إلى المقتدر واغتبطوا بالحسين وبلغ الخبر إليه، فكتب إلى
مفلح بالسعي في الوزارة، فعرض كتابه على المقتدر فأمره بإصلاح مؤنس.
واتفق أنّ الكلواذي عمل حسابا بما يحتاج إليه من النفقات الزائدة على
الحاصل، فكاتب سبعمائة ألف دينار وكتب عليه أهل الديوان خطوطهم، وقال
ليس لهذه جهة إلّا ما يطلقه أمير المؤمنين. فعظم ذلك على المقتدر، وأمر
الحسين بن القاسم أن يضمن جميع النفقات وزيادة ألف ألف دينار لبيت
المال. وعرض كتابه على الكلواذي فاستقال، وأذن للكلواذي لشهرين من
وزارته، وولّى الحسين بن القاسم واشترط أن لا يشاركه عليّ بن عيسى في
شيء من أموره، وإخراجه الصافية. واختصّ به الحسين بن اليزيدي وابن
الفرات. ولمّا ولي واطلع على نقصان الارتياع وكثرة الإنفاق وضاق عليه
الأمر فتعجّل الجباية المستقبلة، وصرفها في الماضية. وبلغ ذلك هارون بن
غريب الحال فأنهاه إلى المقتدر، فرتّب معه الخصيّ واطلع على حسابه،
فألقى له حسبة ليس فيها رمزه. فأظهر ذلك للمقتدر وجميع الكتّاب واطلعوا
عليها وقابلوا الوزير بتصديق الخصيّ فيما قاله، وقبض على الحسين ابن
القاسم في شهر ربيع من سنة عشرين لسبعة أشهر من ولايته. واستوزر أبا
الفتح الفضل بن جعفر وسلّم إليه الحسين فلم يؤاخذه بإساءته ولم يزل على
وزارته.
أخبار القرامطة في البصرة والكوفة
كان القرامطة قد استبدّ طائفة منهم بالبحرين وعليهم أبو طاهر سليمان بن
أبي سعيد الجناني [1] ، ورث ذلك عن أبيه واقتطعوا ذلك العمل بأسره عن
الدولة، كما يذكر في أخبار دولتهم عند إفرادها بالذكر، فقصد أبو طاهر
البصرة سنة إحدى عشرة ومائتين وبها سبط مفلح، فكبسها ليلا في ألفين
وسبعمائة، وتسنّموا الأسوار بالجبال، وركب سبك فقتلوه ووضعوا السيف في
الناس فأفحشوا في القتل وغرق كثير في الماء، وأقام أبو طاهر بها سبعة
عشر يوما، وحمل ما قدر عليه من الأموال والأمتعة والنساء والصبيان وعاد
إلى هجر. وولّى المقتدر على البصرة محمد بن عبد الله الفارقيّ فانحدر
إليها بعد انصرافهم عنها. ثم سار أبو طاهر القرمطيّ سنة اثنتين عشرة
__________
[1] الجنابي: ابن الأثير ج 8 ص 83.
(3/469)
معترضا للحاج في رجوعهم من مكّة، فاعترض
أوائلهم ونهبهم، وجاء الخبر إلى الحاج وهم بعيد، وقد فنيت أزوادهم وكان
معهم أبو الهيجاء بن حمدان صاحب طريق الكوفة. ثم أغار عليهم أبو طاهر
فأوقع بهم وأسر أبا الهيجاء أحمد بن بدر من أخوال المقتدر، ونهب
الأمتعة وسبى النساء والصبيان، ورجع إلى هجر. وبقي الحجّاج ضاحين في
القفر إلى أن هلكوا، ورجع كثير من الحرم إلى بغداد، وأشغبوا واجتمع
معهم حرم المنكوبين أيام ابن الفرات، فكان ذلك من أسباب نكبته. ثم أطلق
أبو طاهر الأسرى الذين عنده ابن حمدان وأصحابه، وأرسل إلى المقتدر يطلب
البصرة والأهواز، فلم يجبه وسار من هجر لاعتراض الحاج، وقد سار بين
أيديهم جعفر بن ورقاء الشيبانيّ في ألف رجل من قومه، وكان صاحب أعمال
الكوفة وعلى الحاج بمثل صاحب البحر وجنا الصفواني وطريف اليشكريّ
وغيرهم في ستة آلاف رجل، فقاتل جعفر الشيبانيّ أوّلا وهزمه. ثم اتبع
الحاج إلى الكوفة فهزم عسكرهم وفتك فيهم، وأسرجنا الصفواني، وهرب
الباقون. وملك الكوفة، وأقام بظاهرها ستة أيام يقيم في المسجد إلى
الليل ويبيت في عسكره وحمل ما قدر عليه من الأموال والمتاع ورجع إلى
هجر. ووصل المنهزمون إلى بغداد فتقدّم المقتدر إلى مؤنس بالخروج إلى
الكوفة فسار إليها بعد خروجهم عنها، واستخلف عليها ياقوتا ومضى إلى
واسط ليمانع أبا طاهر دونها، ولم يحج أحد هذه السنة وبعث المقتدر سنة
أربع عشرة عن يوسف بن أبي الساج من أذربيجان وسيّره إلى واسط لحرب أبي
طاهر. ورجع مؤنس إلى بغداد وخرج أبو طاهر سنة خمس عشرة وقصد الكوفة،
وجاء الخبر إلى ابن أبي الساج فخرج من واسط آخر رمضان يسابق أبا طاهر
إليها، فسبقه أبو طاهر وهرب العمّال عنها واستولى على الأتراك
والعلوفات التي أعدّت بها. ووصل ابن أبي الساج ثامن شوّال بعد وصول أبي
طاهر بيوم وبعث يدعوه إلى الطاعة للمقتدر، فقال لا طاعة إلّا للَّه
فآذنه بالحرب وتزاحفوا يوما إلى الليل. ثم انهزم أصحاب ابن أبي الساج
وأسروا ووكّل أبو طاهر طبيبا يعالج جراحته، ووصل المنهزمون ببغداد
فأرجفوا بالهرب، وبرز مؤنس المظفّر لقصد الكوفة. وقد سار القرامطة إلى
عين التمر فبعث مؤنس من بغداد خمسمائة سرية ليمنعهم من عبور الفرات. ثم
قصد القرامطة الأنبار ونزلوا غربي الفرات، وجاءوا بالسفن من الحديثة،
فأجاز فيها ثلاثمائة منهم، وقاتلوا عسكر الخليفة فهزموهم واستولوا على
مدينة الأنبار. وجاء الخبر إلى بغداد فخرج
(3/470)
الحاجب في العساكر ولحق بمؤنس المظفّر
واجتمعوا في نيف وأربعين ألف مقاتل إلى عسكر القرامطة ليخلّصوا ابن أبي
الساج فقاتلهم القرامطة وهزموهم. وكان أبو طاهر قد نظر إلى ابن أبي
الساج وهو يستشرف إلى الخلاص، وأصحابه يشيرونه، فأحضره وقتله وقتل جميع
الأسرى من أصحابه، وكثر الهرج ببغداد واتّخذوا السفن بالانحدار إلى
واسط ومنهم من نقل متاعه إلى حلوان. وكان نازوك صاحب الشرطة فأكثر
التطواف بالليل والنهار، وقتل بعض الدعّار فأقصروا عن [1] ثم سار
القرامطة عن الأنبار فاتحة سنة ست عشرة ورجع مؤنس إلى بغداد وسار أبو
طاهر إلى الرحبة فملكها واستباحها، واستأمن إليه أهل قرقيسيا فأمّنهم،
وبعث السرايا إلى الأعراب بالجزيرة فنهبوهم وهربوا بين يديه، وقدّر
إليهم الإتاوة في كل سنة يحملونها إلى هجر. ثم سار أبو طاهر إلى الرقّة
وقاتلها ثلاثا، وبعث السرايا إلى رأس عين، وكفرتوثا وسنجار فاستأمنوا
إليهم، وخرج مؤنس المظفّر من بغداد في العسكر وقصد الرقّة، فسار أبو
طاهر عنها إلى الرحبة ووصلها مؤنس، وسار القرامطة إلى هيت، فامتنعت
عليهم فساروا إلى الكوفة. وخرج من بغداد نصر الحاجب وهارون بن غريب
وبنّيّ بن قيس في العساكر إليها، ووصلت جند القرامطة إلى قصر ابن
هبيرة. ثم مرض نصر الحاجب واستخلف على عسكره أحمد بن كيغلغ، وعاد فمات
في طريقه، وولّى مكانه على عسكره هارون بن غريب، وولّى مكانه في الحجة
ابنه أحمد. ثم انصرف القرامطة إلى بلادهم ورجع هارون إلى بغداد في
شوّال من السنة. ثم اجتمع بالسواد جماعات من أهل هذا المذهب بواسط وعين
التمر، وولّى كل جماعة عليهم رجلا منهم، فولى جماعة واسط حريث بن
مسعود، وجماعة عين التمر عيسى بن موسى وسار إلى الكوفة ونزل بظاهرها
وصرف العمّال عن السواد، وجبى الخراج. وسار حريث إلى أعمال الموفّق
وبنى بها دارا سمّاها دار الهجرة، واستولى على تلك الناحية. وكان صاحب
الحرب بواسط بني بن قيس فهزموه، فبعث إليه المقتدر هارون بن غريب في
العساكر، وإلى قرامطة الكوفة صافيا البصريّ، فهزموهم من كل جانب وجاءوا
بأعلامهم بيضاء عليها مكتوب: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا في الْأَرْضِ 28: 5 الآية، وأدخلت إلى بغداد منكوسة،
واضمحلّ أمر القرامطة بالسواد.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 173: «وسلمت بغداد من
نهب العيّارين، لأن نازوك كان يطوف هو وأصحابه ليلا ونهارا، ومن وجدوه
بعد العتمة قتلوه فامتنع العيّارون ... » .
(3/471)
استيلاء القرامطة
على مكة وقلعهم الحجر الأسود
ثم سار أبو طاهر القرمطي سنة تسع عشرة إلى مكّة وحج بالناس منصور
الديلميّ، فلما كان يوم التروية، ونهب أبو طاهر أموال الحجّاج وفتك
فيهم بالقتل حتى في المسجد والكعبة، واقتلع الحجر الأسود وحمله إلى
هجر، وخرج إليه أبو مخلب [1] أمير مكة في جماعة من الأشراف، وسألوه فلم
يسعفهم، وقاتلوه فقتلهم وقلع باب البيت، وأصعد رجلا يقتلع الميزاب فسقط
فمات، وطرح القتلى في زمزم ودفن الباقين في المسجد حيث قتلوا، ولم
يغسلوا ولا صلى عليهم ولا كفّنوا. وقسّم كسوة البيت على أصحابه ونهب
بيوت أهل مكّة. وبلغ الخبر إلى المهدي عبيد الله بإفريقية وكانوا
يظهرون الدعاء له، فكتب إليه بالنكير واللعن ويتهدّده على الحجر
الأسود، فردّه وما أمكنه من أموال الناس واعتذر عن بقية ما أخذوه
بافتراقه في الناس.
خلع المقتدر وعوده
كان من أوّل الأسباب الداعية لذلك أنّ فتنة وقعت بين ماجوريه هارون
الحال ونازوك صاحب الشرطة [2] في بعض مذاهب الفواحش، فحبس نازوك
ماجوريه هارون، وجاء أصحابه إلى محبس الشرطة ووثبوا بنائبه وأخذوا
أصحابهم من الحبس. ورفع نازوك الأمر إلى المقتدر فلم يعد أحدا منهما
لمكانهما منه، فعاد الأمر بينهما إلى المقاتلة وبعث المقتدر إليهما
بالنكير فأقصرا، واستوحش هارون، وخرج بأصحابه ونزل البستان النجمي وبعث
إليه المقتدر يسترضيه، فأرجف الناس أنّ المقتدر جعله أمير الأمراء،
فشقّ ذلك على أصحاب مؤنس، وكان بالرقّة فكتبوا إليه فأسرع العود إلى
بغداد ونزل بالشّمّاسيّة مستوحشا من المقتدر ولم يلقه، وبعث ابنه أبا
العبّاس ووزيره ابن مقلة لتلقّيه وإيناسه فلم يقبل، وتمكّنت الوحشة
وأسكن المقتدر ابن خاله هارون معه في داره فازداد نفور مؤنس. وجاء أبو
العبّاس بن حمدان من بلاده في عسكر كبير، فنزل عند مؤنس وتردّد الأمراء
بين المقتدر ومؤنس، وسار إليه نازوك صاحب
__________
[1] ابن محلب: ابن الأثير ج 8 ص 207.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 200: «وكان سبب ذلك ما
ذكرنا في السنة التي قبلها (ص 187) من استيحاش مؤنس ونزوله
بالشّمّاسيّة وخرج إليه نازوك صاحب الشرطة» والفتنة حصلت بين نازوك
صاحب الشرطة وهارون بن غريب.
(3/472)
الشرطة، وجاءه بنّيّ بن قيس، وكان المقتدر
قد أخذ منه الدّينور وأعادها إليه مؤنس، واشتمل عليه. وجمع المقتدر في
داره هارون بن غريب وأحمد بن كيغلغ والغلمان الحجرية والرجال
المصافيّة، ثم انتقض أصحاب المقتدر وجاءوا إلى مؤنس وذلك في فتح سنة
سبع عشرة. فكتب مؤنس إلى المقتدر بأنّ الناس ينكرون سرفه فيما أقطع
الحرم والخدم من الأموال والضياع ورجوعه إليهم في تدبير ملكه، ويطالبه
بإخراجهم من الدار وإخراج هارون بن غريب معهم، وانتزاع ما في أيديهم من
الأموال والأملاك. فأجاب المقتدر إلى ذلك، وكتب يستعطفه ويذكّره البيعة
ويخوّفه عاقبة النكث، وأخرج هارون إلى الثغور الشامية والجزريّة، فسكن
مؤنس ودخل إلى بغداد ومعه ابن حمدان ونازوك والناس يرجفون بأنه خلع
المقتدر. فلمّا كان عشر محرّم من هذه السنة، ركب مؤنس إلى باب
الشمّاسيّة وتشاور مع أصحابه قليلا، ثم رجعوا إلى دار الخليفة بأسرهم،
وكان المقتدر قد صرف أحمد بن نصر القسوري عن الحجابة وقلّدها ياقوتا
وكان على حرب فارس، فاستخلف مكانه ابنه أبا الفتح المظفّر. فلما جاء
مؤنس إلى الدار هرب ابن ياقوت وسائر الحجبة والخدم والوزير وكل من
بالدار، ودخل مؤنس فأخرج المقتدر وأمّه وولده وخواصّ جواريه، فنقلهم
إلى داره واعتقلهم بها، وبلغ الخبر هارون بن غريب بقطربّل فدخل إلى
بغداد واستتر، ومضى ابن حمدان إلى دار ابن طاهر فأحضر محمد بن المعتضد،
وبايعوه ولقّبوه القاهر باللَّه. وأحضروا القاضي أبا عمر المالكي عند
المقتدر للشهادة عليه بالخلع، وقام ابن حمدان يتأسّف له ويبكي ويقول:
كنت أخشى عليك مثل هذا ونصحتك فلم تقبل، وآثرت قول الخدم والنساء على
قولي، ومع هذا فنحن عبيدك وخدمك، وأودع كتاب الخلع عند القاضي أبي عمر
ولم يظهر عليه أحدا حتى سلّمه إلى المقتدر بعد عوده، فحسن موقع ذلك منه
وولّاه القضاء. ولما تمّ الخلع عمد مؤنس، إلى دار الخليفة فنهبها ومضى
ابن نفيس إلى تربة أمّ المقتدر فاستخرج من بعض قبورها ستمائة ألف دينار
وحملها إلى القاهر، وأخرج مؤنس عليّ ابن عيسى الوزير من الحبس وولّى
عليّ بن مقلة الوزارة، وأضاف إلى نازوك الحجابة مع الشرطة، وأقطع ابن
حمدان حلوان والدّينور وهمذان وكرمان والصيمرة ونهوند وشيراز وماسبذان
مضافا إلى ما بيده من أعمال طريق خراسان، وكان ذلك منتصف المحرّم. ولما
تقلّد نازوك الحجابة أمر الرجّالة بتقويض خيامهم من الدار
(3/473)
وأدالهم ابن جالة من أصحابه فأسفهم بذلك
وتقدّموا إلى خلفاء الحجاب بأن يمنعوا الناس من الدخول إلا أصحاب
المراتب فاضطربت الحجرية لذلك [1] . فلما كان سابع عشر المحرّم وهو يوم
الإثنين بكّر الناس إلى الخليفة لحضور الموكب وامتلأت الرحاب وشاطئ
دجلة بالناس، وجاء الرجّالة المصافيّة شاكي السلاح يطالبون بحق البيعة
ورزق سنة، وقد بلغ منهم الحنق على نازوك مبالغه، وقعد مؤنس عن الحضور
ذلك اليوم، وزعق الرجّالة المصافيّة فنهى نازوك أصحابه أن يعرضوا لهم،
فزاد شغبهم وهجموا على الصحن المنيعي، ودخل معهم من كان على الشطّ من
العامة بالسلاح، والقاهر جالس وعنده عليّ بن مقلة الوزير ونازوك، فقال
لنازوك أخرج إليهم فسكّنهم! فخرج وهو متحامل من الخمار فتقدّم إلى
الرجّالة للشكوى بحالهم ورأى السيوف في أيديهم فهرب، فحدث لهم الطمع
فيه وفي الدولة، واتّبعوه فقتلوه وخادمه عجيفا ونادوا بشعار المقتدر.
وهرب كل من في الديار من سائر الطبقات وصلبوا نازوك وعجيفا على شاطئ
دجلة. ثم ساروا إلى دار مؤنس يطلبون المقتدر، وأغلق الخادم أبواب دار
الخليفة، وكانوا كلّهم صنائع المقتدر، وقصد أبو الهيجاء حمدان الفرات
فتعلق به القاهر واستقدم به، فقال له: أخرج معي إلى عشيرتي أقتل دونك!
فوجد الأبواب مغلقة فقال له ابن حمدان: قف حتى أعود إليك ونزع ثيابه
ولبس بعض الخلقان، وجاء إلى الباب فوجده مغلقا والناس من ورائه، فرجع
إلى القاهر وتمالأ بعض الخدّام على قتله، فقاتلهم حتى كشفهم، ودخل في
بعض مسارب البستان فجاءوه إليهم فقتلوه وحملوا رأسه. وانتهى الرّجالة
إلى دار مؤنس يطلبون المقتدر فسلّمه إليهم وحملوه على رقابهم إلى دار
الخلافة، فلما توسّط الصحن المنيعي اطمأنّ وسأل عن أخيه القاهر وابن
حمدان وكتب لهما الأمان بخطّه، وبعث فيهما فقيل له إنّ ابن حمدان قد
قتل، فعظم عليه وقال: والله ما كان أحمد بسيف في هذه الأيام غيره،
وأحضر القاهر فاستدناه وقبّل رأسه وقال له: لا ذنب لك ولو لقّبوك
المقهور لكان أولى من القاهر! وهو يبكي ويتطارح عليه حتى حلف له على
الأمان، فانبسط وسكن. وطيف برأس نازوك وابن حمدان،
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 202: «ولمّا تقلّد نازوك
حجبة الخليفة أمر الرجّالة المصافية بقلع خيامهم من دار الخليفة، وأمر
رجاله وأصحابه أن يقيموا بمكان المصافيّة، فعظم ذلك عليهم، وتقدّم إلى
خلفاء الحجاب ان لا يمكنوا أحدا من الدخول إلى دار الخليفة، إلا من له
مرتبة، فاضطربت الحجبة من ذلك» .
(3/474)
وخرج أبو نفيس هاربا من مكان استتاره إلى
الموصل، ثم إلى أرمينية، ولحق بالقسطنطينية فتنصّر، وهرب أبو السرايا
أخو أبي الهيجاء إلى الموصل، وأعاد المقتدر أبا عليّ بن مقلة إلى
الوزارة، وأطلق للجند أرزاقهم وزادهم. وبيع ما في الخزائن بأرخص
الأثمان وأذن في بيع الأملاك لتتمة الأعطيات، وأعاد مؤنسا إلى محلّه من
تدبير الدولة والتعويل عليه في أموره. ويقال إنه كان مقاطعا للمقتدر
وإنه الّذي دسّ إلى المصافيّة والحجرية بما فعلوه، ولذلك قعد عن الحضور
إلى القاهر. ثم إن المقتدر حبس أخاه القاهر عند أمّه فبالغت في الإحسان
إليه والتوسعة عليه في النفقة والسراري.
أخبار قوّاد الديلم وتغلبهم على أعمال الخليفة
قد تقدّم لنا الخبر عن الديلم في غير موضع من الكتاب، وخبر افتتاح
بلادهم بالجبال والأمصار التي تليها، مثل طبرستان وجرجان وسارية وآمد
وأستراباذ، وخبر إسلامهم على يد الأطروش، وأنّه جمعهم وملك بهم بلاد
طبرستان سنة إحدى وثلاثمائة، وملك من بعده أولاده والحسن بن القاسم
الداعي صهره، واستعمل منهم القوّاد على ثغورها فكان منهم ليلى بن
النعمان، كانت إليه ولاية جرجان عن الحسن ابن القاسم الداعي سنة ثمان
ثلاثين. وكانت بين بني سامان وبين بني الأطروش والحسن بن القاسم الداعي
وقوّاد الديلم حروب هلك فيها ليلى بن النعمان سنة تسع وثلاثمائة، لأنّ
أمر الخلفاء كان قد انقطع عن خراسان، وولّوها لبني سامان فكانت بسبب
ذلك بينهم وبين أهل طبرستان من الحروب ما أشرنا إليه. ثم كانت بعد ذلك
حرب مع بني سامان فولّاها من قوّاد الديلم شرخاب بن بهبودان وهو ابن عم
ما كان ابن كالي وصاحب جيش أبي الحسن الأطروش، وقاتله سيمجور صاحب جيش
بني سامان، فهزمه وهلك شرخاب، وولّى ابن الأطروش ما كان بن كالي على
أستراباذ، فاجتمع إليه الديلم وقدّموه على أنفسهم، واستولى على جرجان
كما يذكر ذلك كله في أخبار العلويّة. وكان من أصحاب ما كان هذا أسفار
ابن شيرويه من قوّاد الديلم عن ما كان إلى قوّاد بني سامان. فاتصل ببكر
بن محمد بن أليسع بنيسابور، وبعثه في الجنود لافتتاح جرجان، وبها أبو
الحسن بن كالي نائبا عن أخيه ما كان وهو بطبرستان. فقتل أبو الحسن وقام
بأمر جرجان عليّ بن خرشيد. ودعا
(3/475)
أسفار بن شيرويه إلى حمايتها من ما كان،
فزحف إليهم من طبرستان فهزموه وغلبوه عليها ونصبوا أبا الحسن وعليّ بن
خرشيد. فزحف ما كان إلى أسفار وهزمه وغلبه على طبرستان، ورجع إلى بكر
بن محمد بن أليسع بجرجان. ثم توفي بكر سنة خمس عشرة، فولّى نصر بن أحمد
بن سامان أسفار بن شيرويه مكانه على جرجان، وبعث أسفار عن مرداويج بن
زيار الجبليّ وقدّمه على جيشه، وقصدوا طبرستان فملكوها. وكان الحسن بن
القاسم الداعي قد استولى على الريّ وأعمالها من يد نصر بن سامان، ومعه
قائده ما كان بن كالي. فلمّا غلب أسفار على طبرستان زحف إليه الداعي
وقائده ما كان فانهزما وقتل الداعي ورجع ما كان إلى الريّ، واستولى
أسفار ابن شيرويه على طبرستان وجرجان، ودعا النصر بن أحمد بن سامان،
ونزل سارية واستعمل على آمد هارون بن بهرام. ثم سار أسفار إلى الريّ،
فأخذها من يد ما كان ابن كالي وسار ما كان إلى طبرستان واستولى أسفار
على سائر أعمال الريّ وقزوين وزنجان وأبهر وقمّ والكرخ، وعظمت جيوشه
وحدّثته نفسه بالملك، فانتقض على نصر بن سامان صاحب خراسان، واعتزم على
حربه وحرب الخليفة. وبعث المقتدر هارون بن غريب الحال في عسكر إلى
قزوين، فحاربه أسفار وهزمه وقتل كثيرا من أصحابه. ثم زحف إليه نصر بن
سامان من بخارى فراسله في الصلح وضمان أموال الجباية، فأجابه وولّاه
ورجع إلى بخارى، فعظم أمر أسفار وكثر عيثه وعسف جنده، وكان قائده
مرداويج من أكبر قوّاده قد بعثه أسفار إلى سلار صاحب سميرم، والطرم
يدعوه إلى طاعته. فاتفق مع سلار على الوثوب بأسفار، وقد باطن في ذلك
جماعة من قوّاد أسفار ووزيره محمد بن مطرف الجرجاني. ونمي الخبر إلى
أسفار وثار به الجند، فهرب إلى بيهق. وجاء مرداويج من قزوين إلى الريّ،
وكتب إلى ما كان بن كالي يستدعيه من طبرستان ليظاهره على أسفار، فقصد
ما كان أسفار، فهرب أسفار إلى الريّ ليتّصل بأهله وماله، وقد كان
أنزلهم بقلعة المرت. وركب المفازة إليها، ونمي الخبر إلى مرداويج فسار
لاعتراضه وقدّم بعض قوّاده أمامه فلحقه القائد وجاء به إلى مرداويج
فقتله ورجع إلى الريّ ثم إلى قزوين، وتمكن في الملك وافتتح البلاد وأخذ
همذان والدّينور وقمّ وقاشان وأصبهان، وأساء السيرة في أهل أصبهان وصنع
سريرا من ذهب لجلوسه. فلما قوي أمره نازع ما كان في طبرستان فغلبه
عليها ثم سار إلى جرجان فملكها وعاد إلى أصبهان ظافرا. وسار ما كان على
الديلم
(3/476)
مستنجدا بأبي الفضل الثائر بها، وسار معه
إلى طبرستان فقاتلهم عاملها من قبل مرداويج بالقسم بن بايحين وهزمهم،
ورجع الثائر إلى الديلم وسار ما كان إلى نيسابور، ثم سار إلى الدامغان
فصدّه عنها القسم فعاد إلى خراسان. وعظم أمر مرداويج واستولى على بلد
الريّ والجبل واجتمع إليه الديلم وكثرت جموعه وعظم خرجه. فلم يكف ما في
يده من الأعمال فسما إلى التغلّب على النواحي، فبعث إلى همذان الجيوش
مع ابن أخته، وكانت بها عساكر الخليفة مع محمد بن خلف، فحاربهم وهزمهم
وقتل ابن أخت مرداويج. فسار من الريّ إلى همذان وهرب عسكر الخليفة عنها
وملكها مرداويج عنوة واستباحها. ثم أمّن بقيتهم. وأنفذ المقتدر هارون
بن غريب الحال في العساكر فلقيه مرداويج وهزمهم واستولى على بلاد الجبل
وما وراء همذان، وبعث قائده إلى الدينور ففتحها عنوة، وانتهت عساكره
إلى حلوان فقتل وسبى. وسار هارون إلى قرقيسيا فأقام بها واستمدّ
المقتدر وكان معه اليشكريّ من قوّاد أسفار، وكان قد استأمن بعد أسفار
إلى الخليفة وسار في جملته.
وجاء مع هارون في هذه الغزاة إلى نهاوند لحمل المال إليه منها. فلمّا
دخلها استمدّت [1] عينه إلى ثروة أهلها، فصادرهم على ثلاثة آلاف ألف
دينار، واستخرجها في مدّة أسبوع، وجنّد بها جندا ومضى إلى أصبهان، وبها
يومئذ ابن كيغلغ قبل استيلاء مرداويج عليها، فقاتله أحمد وانهزم وملك
اليشكري أصبهان، ودخل إليها أصحابه، وقام بظاهرها. وسار أحمد بن كيغلغ
في ثلاثين فارسا إلى بعض قرى أصبهان وركب اليشكري ليتطوّف على السور،
فنظر إليهم فسار نحوهم فقاتلوه، وضربه أحمد بن كيغلغ على رأسه بالسيف
فقدّ المغفر وتجاوزه إلى دماغه فسقط ميتا. وقصد أحمد المدينة ففرّ
أصحاب اليشكري، ودخل أحمد إلى أصبهان وذلك قبل استيلاء عسكر مرداويج
عليها، فاستولى عليها وجدّدوا له فيها مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبي
دلف العجليّ وبساتينه، وجاء مرداويج في أربعين أو خمسين ألفا، فنزلها
وبعث جمعا إلى الأهواز فاستولوا عليها، وعلى خوزستان كذلك، وجبى
أموالها وقسّم الكثير منها في أصحابه، وادّخر الباقي وبعث إلى المقتدر
يطلب ولاية هذه الأعمال وإضافة همذان وماه الكوفة إليها على مائتي ألف
دينار في كل سنة، فأجابه وقاطعه وولّاه وذلك سنة تسع عشرة. ثم دعا
مرداويج
__________
[1] الأصح ان يقول: امتدت.
(3/477)
سنة عشرين أخاه وشكمير من بلاد كيلان، فجاء
إليه بدويا حافيا بما كان يعاني من أحوال البداوة والتبذّل في المعاش
ينكر كل ما يراه من أحوال الترف ورقة العيش.
ثم صار إلى ترف الملك وأحوال الرئاسة فرقت حاشيته وعظم ترفهه. وأصبح من
عظماء الملوك وأعرفهم بالتدبير والسياسة.
ابتداء حال أبي عبد الله البريدي
كان بداية أمره عاملا على الأهواز وضبط ابن ماكر لأن هذا الاسم
بالموحدة والراء المهملة نسبة إلى البريد. وضبطه ابن مسكويه بالياء
المثناة التحتانيّة والزاي نسبة إلى يزيد بن عبد الله بن المنصور
الحميريّ، كان جدّه يخدمه ولما ولي عليّ بن عيسى الوزارة واستعمل
العمّال، وكان أبو عبد الله قد ضمن الخاصة بالأهواز وأخوه أبو يوسف على
سوق فائق من الاقتصارية وأخوه علي هذا. فلما وزر أبو علي بن مقلة بذل
له عشرين ألف دينار على أن يقلّده أعمالا فائقة، فقلّده الأهواز جميعها
غير السوس وجنا سابور [1] وقلّد أخاه أبا الحسن القرانية [2] وأخاهما
أبا يوسف الخاصة والأسافل، وضمن المال أبا يوسف السمسار، وجعل الحسين
بن محمد المارداني مشرفا على أبي عبد الله، فلم يلتفت إليه. وكتب إليه
الوزير بن مقلة بالقبض على بعض العمّال ومصادرته، فأخذ منه عشرة آلاف
دينار واستأثر بها على الوزير، فلما نكب ابن مقلة كتب المقتدر بخطّه
إلى الحاجب أحمد بن نصر القسوري بالقبض على أولاد البريدي، وأن لا
يطلقهم إلا بكتابه، فقبض عليهم وجاء أبو عبد الله بكتاب المقتدر بخطّه
بإطلاقهم وظهر تزويره فأحضرهم إلى بغداد وصودروا على أربعمائة ألف
دينار فأعطوها.
الصوائف أيام المقتدر
ساره مؤنس المظفّر سنة ست وتسعين في العساكر من بغداد إلى الفرات، ودخل
من ناحية ملطية ومعه أبو الأغرّ السلميّ، فظفر وغنم وأسر جماعة، وفي
سنة سبع وتسعين بعث المقتدر أبا القاسم بن سيما لغزو الصائفة سنة ثمان
وتسعين. وفي سنة تسع وتسعين غزا بالصائفة رستم أمير الثغور، ودخل من
ناحية طرسوس ومعه دميانة،
__________
[1] هي جنديسابور.
[2] الفراتية: ابن الأثير ج 8 ص 185.
(3/478)
وحاصر حصن مليح الأرمني ففتحه وأحرقه. وفي
سنة ثلاثمائة مات إسكندروس بن لاور ملك الروم، وملك بعده ابنه قسطنطين
ابن اثنتي عشرة سنة. وفي سنة اثنتين وثلاثمائة سار عليّ بن عيسى الوزير
في ألف فارس لغزو الصائفة مددا لبسر الخادم عامل طرسوس، ولم يتيسر لهم
الدخول في المصيف، فدخلوا شاتية في كلب البرد وشدّته، وغنموا وسبوا.
وفي سنة اثنتين وثلاثمائة غزا بسر الخادم والي طرسوس بلاد الروم، ففتح
وغنم وسبى وأسر مائة وخمسين. وكان السبي نحوا من ألفي رأس. وفي سنة
ثلاث وثلاثمائة أغارت الروم على ثغور الجزيرة ونهبوا حصن منصور وسبوا
أهله بتشاغل عسكر الجزيرة بطلب الحسين بن حمدان مع مؤنس، حتى قبض عليه
كما مرّ. وفي هذه السنة خرج الروم إلى ناحية طرسوس والفرات فقاتلوا
وقتلوا نحوا من ستمائة فارس، وجاء مليح الأرمني إلى مرعش فعاث في
نواحيها، ولم يكن للمسلمين في هذه السنة صائفة. وفي سنة أربع بعدها سار
مؤنس المظفّر بالصائفة ومرّ بالموصل فقلّد سبكا المفلحيّ باريدى وقردى
من أعمال الفرات، وقلّد عثمان العبودي مدينة بلد وسنجار ووصيفا
البكتمري باقي بلاد ربيعة، وسار إلى ملطية فدخل منها وكتب إلى أبي
القاسم عليّ بن أحمد بن بسطام أن يدخل من طرسوس في أهلها، ففتح مؤنس
حصونا كثيرة وغنم وسبى ورجع إلى بغداد فأكرمه المعتضد وخلع عليه. وفي
سنة خمس وثلاثمائة وصل رسولان من ملك الروم إلى المقتدر في المهادنة
والفداء، فتلقيا بالإكرام وجلس لهما الوزير في الابهة، وصفّ الأجناد
بالسلاح العظيم الشأن والزينة الكاملة، فأدّيا إليه الرسالة وأدخلهما
من الغد على المقتدر وقد احتفل في الأبهة ما شاء، فأجابهما إلى ما طلب
ملكهم. وبعث مؤنسا الخادم للفداء، وجعله أميرا على كل بلد يدخله إلى أن
ينصرف. وأطلق الأرزاق الواسعة لمن سار معه من الجنود، وأنفذ معه مائة
وعشرين ألف دينار للفدية. وفيها غزا الصائفة جنا الصفواني فغنم وغزا
وسيّر نمالي الخادم في الأسطول فغنم. وفي السنة بعدها غزا نمالي في
البحر كذلك، وجنا الصفواني فظفر وفتح وعاد وغزا بشر الأفشين بلاد
الروم، ففتح عدّة حصون وغنم وسبى. وفي سنة سبع غزا نمالي في البحر فلقي
مراكب المهدي صاحب إفريقية فغلبهم وقتل جماعة منهم، وأسر خادما للمهدي.
وفي سنة عشرة وثلاثمائة غزا محمد بن نصر الحاجب من الموصل على قاليقلا،
فأصاب من الروم، وسار أهل طرسوس من ملطية فظفروا واستباحوا وعادوا. وفي
سنة
(3/479)
إحدى عشرة غزا مؤنس المظفّر بلاد الروم
فغنم وفتح حصونا، وغزا نمالي في البحر فغنم ألف رأس من السبي وثمانية
آلاف من الظهر ومائة ألف من الغنم وشيئا كثيرا من الذهب والفضّة. وفي
سنة اثني عشرة جاء رسول ملك الروم بالهدايا ومعه أبو عمر بن عبد الباقي
يطلبان الهدنة وتقرير الفداء، فأجيبا إلى ذلك. ثم غدروا بالصائفة فدخل
المسلمون بلاد الروم فأثخنوا ورجعوا. وفي سنة أربع عشرة خرجت الروم إلى
ملطية ونواحيها مع الدمستق ومليح الأرمني صاحب الدروب وحاصروا ملطية
وهربوا إلى بغداد واستغاثوا، فلم يغاثوا. وغزا أهل طرسوس بالصائفة
فغنموا ورجعوا.
وفي سنة خمس عشرة دخلت سرية من طرسوس إلى بلاد الروم فأوقع بهم الروم
وقتلوا أربعمائة رجل صبرا، وجاء الدمستق في عساكر من الروم إلى مدينة
دبيل، وبها نصر السبكي فحاصرها وضيّق مخنقها واشتدّ في قتالها حتى نقب
سورها، ودخل الروم إليها ودفعهم المسلمون فأخرجوهم وقتلوا منهم بعد أن
غنموا ما لا يحصى وعاثوا في أنعامهم، فغنموا من الغنم ثلاثمائة ألف رأس
فأكلوها. وكان رجل من رؤساء الأكراد يعرف بالضحّاك في حصن له يعرف
بالجعبريّ فتنصّر وخدم ملك الروم، فلقيه المسلمون في سنة الغزاة فأسروه
وقتلوا من معه. وفي سنة ست عشرة وثلاثمائة خرج الدمستق في عساكر الروم
فحاصر خلاط وملكها صلحا، وجعل الصليب في جامعها، ورحل إلى تدنيس ففعل
بها كذلك، وهرب أهل أردن إلى بغداد واستغاثوا فلم يغاثوا. وفيها ظهر
أهل ملطية على سبعمائة رجل من الروم والأرمن، دخلوا بلدهم خفية وقدّمهم
مليح الأرمني ليكونوا لهم عونا إذا حاصروها، فقتلهم أهل ملطية عن
آخرهم. وفي سنة سبع عشرة بعث أهل الثغور الجزرية مثل ملطية وفارقين
وآمد وأرزا يستمدّون المقتدر في العساكر وإلّا فيعطوا الإتاوة للروم
فلم يمدّهم، فصالحوا الروم وملكوا البلاد. وفيها دخل مفلح الساجيّ بلاد
الروم. وفي سنة عشرين غزا نمالي بلاد الروم من طرسوس ولقي الروم فهزمهم
وقتل منهم ثلاثمائة وأسر ثلاثة آلاف، وغنم من الفضّة والذهب شيئا كثيرا
وعاد بالصائفة في سنته في حشد كثير، وبلغ عمّوريّة فهرب عنها من كان
تجمّع إليها من الروم، ودخلها المسلمون فوجدوا من الأمتعة والأطعمة
كثيرا، فغنموا وأحرقوا وتوغّلوا في بلاد الروم يقتلون ويكتسحون
ويخرّبون حتى بلغوا انكمورية التي مصّرها أهله وعادوا سالمين.
وبلغت قيمة السبي مائة ألف وستة وثلاثين ألف دينار. وفي هذه السنة راسل
ابن
(3/480)
الزيداني وغيره من الأرمن في نواحي أرمينية
وحثّوا الروم على قصد بلاد الإسلام، فساروا وخرّبوا نواحي خلاط وقتلوا
وأسروا فسار إليهم مفلح غلام يوسف بن أبي الساج من أذربيجان في جموع من
الجند والمتطوّعة، فأثخن في بلاد الروم حتى يقال إنّ القتلى بلغوا مائة
ألف، وخرّب بلاد ابن الزيداني ومن وافقه، وقتل ونهب. ثم جاءت الروم إلى
سميساط فحصروها وأمدّهم سعيد بن حمدان، وكان المقتدر ولّاه الموصل
وديار ربيعة على أن يسترجع ملطية من الروم. فلما جاء رسول أهل سميساط
إليهم فأجفل الروم عنها فسار إلى ملطية وبها عساكر الروم ومليح الأرمني
صاحب الثغور الروميّة، وبنّيّ بن قيس صاحب المقتدر الّذي تنصّر. فلما
أحسوا بإقبال سعيد هربوا وتركوها خشية أن يثب بهم أهلها وملكها سعيد
فاستخلف عليها وعاد إلى الموصل.
الولايات على النواحي أيام المقتدر
كان بأصبهان عبد الله بن إبراهيم المسمعي عاملا عليها، خالف الأوّل
ولاية المقتدر وجمع من الأكراد عشرة آلاف، وأمر المقتدر بدرا الحمامي
عامل أصبهان بالمسير إليه.
فسار إليه في خمسة آلاف من الجند وأرسل من يخوّفه عاقبة المعصية، فراجع
الطاعة وسار إلى بغداد واستخلف على أصبهان. وكان على اليمن المظفّر بن
هاج. ففتح ما كان غلب عليه الحرثي باليمن وأخذ الحلتمي من أصحابه. وكان
على الموصل أبو الهيجاء بن حمدان، وسار أخوه الحسين بن حمدان وأوقع
بأعراب كلب وطيِّئ، وأسر سنة أربع وتسعين. ثم سار إلى الأكراد
المتغلّبين على نواحي الموصل سنة خمس وتسعين فاستباحهم وهربوا إلى رءوس
الجبال. وخرج بالحاج في سنة أربع وتسعين وصيف بن سوارتكين فحصره أعراب
طيِّئ بالقتال وأوقعهم فهزمهم، ومضى إلى وجهه. ثم أوقع بهم هنالك الحسن
بن موسى فأثخن فيهم. وكان على فارس سنة ست وتسعين اليشكري [1] غلام
عمرو بن الليث، فلمّا تغلّب وكان على الثغور الشامية أحمد بن كيغلغ في
سنة سبع وتسعين ملك الليث فارس من يد اليشكري، ثم جاءه مؤنس فغلبه
وأسره ورجع اليشكري إلى عمله كما مرّ في خبره.
وفي سنة ست وتسعين وصل ناسر موسى بن سامان وقلد ديار ربيعة وقد مرّ
ذكره.
__________
[1] سبكرى: ابن الأثير ج 8 ص 56.
(3/481)
وفيها رجع الحسين بن حمدان من الخلاف وعقد
له على قمّ وقاشان، فسار إليها ونزل عنها العبّاس بن عمر الغنويّ. وفي
سنة سبع وتسعين توفي عيسى النوشري عامل مصر وولّى المقتدر مكانه تكين
الخادم. وفي سنة ثمان وتسعين توفي منيح خادم الأفشين وهو عامل فارس
وكان معه محمد بن جعفر الفريابيّ فماتا معا. وولي على فارس عبد الله بن
إبراهيم المسمعي وأضيفت إليه كرمان وفيها وليت أمّ موسى الهاشمية قهرمة
دار المقتدر وكانت تؤدّي الرسائل عن المقتدر وأمّه إلى الوزراء وعن
الوزراء إليهما. وفي سنة تسع وتسعين كان على البصرة محمد بن إسحاق بن
كنداج وجاء إليه القرامطة فقاتلهم فهربوا. وفي سنة ثلاثمائة عزل عبد
الله بن إبراهيم المسمعي عن فارس وكرمان ونقل إليها بدر الحمامي عامل
أصبهان، وولّى على أصبهان عليّ بن وهشودان وفيها ولّى بشير الأفشين [1]
طرسوس وفيها قلّد أبو العبّاس بن المقتدر مصر والمغرب وهو ابن أربع
سنين، واستخلف له على مصر مؤنس المظفّر وقلّد معين الطولوني المعونة
بالموصل، ثم عزل واستعمل مكانه نحرير الصغير. وفيها خالف أبو الهيجاء
عبد الله بن حمدان بالموصل فسار إليه مؤنس وجاء به على الأمان، ثم قلّد
الموصل سنة اثنتين وثلاثمائة فاستخلف عليها وهو ببغداد. ثم خالف أخوه
الحسين سنة ثلاثمائة وسار إليه مؤنس وجاء به أسيرا فحبس وقبض المقتدر
على أبي الهيجاء وإخوته جميعا فحبسوا.
وفيها ولي الحسين بن محمد بن عينونة عامل الخراج والضياع بديار ربيعة
بعد وفاة أبيه محمد بن أبي بكر. وفي سنة أربع عزل عليّ بن وهشودان صاحب
الحرب بأصبهان بمنافرة وقعت بينه وبين أحمد بن شاه صاحب الخراج، وولّى
مكانه أحمد ابن مسرور البلخي. وأقام ابن وهشودان بنواحي الجبل. ثم
تغلّب يوسف بن أبي الساج عليها كما مرّ. وسار إليه مؤنس سنة سبع فهزمه
وأسره، وولّى على أصبهان وقمّ وقاشان وساوة أحمد بن علي بن صعلوك، وعلى
الريّ ودنباوند وقزوين وأبهر وزنجان عليّ بن وهشودان استدعاه من الجبل
فولّاه، ووثب به عمه أحمد بن مسافر صاحب الكرم فقتله بقزوين. فاستعمل
مكانه على الحرب وصيفا البكتمري، وعلى الخراج محمد بن سليمان. ثم سار
أحمد بن صعلوك إليها فقتل محمد بن سليمان وطرد وصيفا، ثم قاطع على
الأعمال بمال معلوم كما مرّ. وكان على أعمال سجستان كثيّر بن أحمد
مهقور متغلّبا عليها، فسار إليه أبو الحمامي عامل فارس، فخافه كثير
وقاطع
__________
[1] بشر الأفشيني: ابن الأثير ج 8 ص 74.
(3/482)
على البلاد وعقد له عليها. وكان على كرمان
سنة أربع وثلاثمائة أبو زيد خالد بن محمد المارداني، فانتقض وسار إلى
شيراز فقاتله بدر الحمامي وقتله. وفي هذه السنة قلّد مؤنس المظفّر عند
مسيره إلى الصائفة وانتهائه إلى الموصل، فولّوا على بلد باريدى وقردى
سبكا المفلحيّ وعلى مدينة بلد وسنجار وباكرى عثمان العبودي صاحب الحرب
بديار مصر، فولّى مكانه وصيف البكتمري فعجز عن القيام بها، فعزل وولّى
مكانه جنا الصفواني. وكان على البصرة في هذه السنة الحسن بن الخليل،
تولّاها منذ سنين ووقعت فتن بينه وبين العامّة من مضر وربيعة، واتّصلت
وقتل منهم خلق. ثم اضطرّوه إلى الالتحاق بواسط فاستعمل عليها أبا دلف
هاشم بن محمد الخزاعي، ثم عزل لسنة وولّى سبكا المفلحيّ نيابة عن شفيع
المقتدري. وفي سنة ست وثلاثمائة عزل عن الشرطة نزار وجعل فيها نجيح
الطولوني، فأقام في الأرباع فقهاء يعمل أهل الشرطة بفتواهم، فضعفت
الهيبة بذلك، وكثر اللصوص والعيّارون، وكبست دور التجّار واختطفت ثياب
الناس. وفي سنة سبع وثلاثمائة ولي إبراهيم بن حمدان ديار ربيعة وولّي
بنّيّ بن قيس بلاد شهرزور، واتسعت عليه فاستمدّ المقتدر وحاصرها.
ثم قلّد الحرب بالموصل وأعمالها، وكان على الموصل قبله محمد بن إسحاق
بن كنداج، وكان قد سار لإصلاح البلاد فوقعت فتنة بالموصل فرجع إليها
فمنعوه الدخول فحاصرهم. وعزله المقتدر سنة ثلاث وثلاثمائة وولّى مكانه
عبد الله بن محمد الغسّاني.
وفي سنة ثمان وثلاثمائة ولّى المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان
على طريق خراسان والدرّنور، وفيها ولي على دقوقا وعكبرا وطريق الموصل
بدرا الشرابي. وفي سنة تسع ولّى المقتدر على حرب المصول ومعونتها محمد
بن نصر الحاجب، فسار إليها وأوقع بالمخالفين من الأكراد المادرانية.
وفيها ولّى داود بن حمدان على ديار ربيعة. وفي سنة عشر عقد ليوسف بن
أبي الساج على الريّ وقزوين وأبهر وزنجان وأذربيجان على تقدير العلوية
كما مرّ. وفيها قبض المقتدر على أمّ موسى القهرمانة لأنها كانت كثيرة
المال، وزوّجت بنت أختها من بعض ولد المتوكّل، كان مرشّحا للخلافة،
وكان محسنا فلما صاهرته أوسعت في الشوار [1] واليسار والعرس، وسعى بها
إلى المقتدر أنها استخلصت القوّاد فقبض عليها وصادرها على أموال عظيمة
وجواهر نفيسة. وفيها قتل خليفة نصر بن محمد الحاجب بالموصل، قتله
العامّة فجهّز العساكر من بغداد،
__________
[1] جهاز العروس.
(3/483)
وسار إليها. وفي سنة إحدى عشرة ملك يوسف بن
أبي الساج الريّ من يد أحمد بن علي صعلوك، وقتله المقتدر وقد مرّ خبره.
وفيها ولّى المقتدر بنّيّ بن قيس على حرب أصبهان، وولّى محمد بن بدر
المعتضدي على فارس مكان ابنه بدر عند ما هلك. وفي سنة اثنتي عشرة ولّى
على أصبهان يحيى الطولوني، وعلى المعاون والحرب بنهاوند سعيد بن حمدان.
وفيها توفي محمد بن نصر الحاجب صاحب الموصل وتوفي شفيع اللؤلؤي صاحب
البريد، فولي مكانه شفيع المقتدري. وفي سنة ثلاث عشرة فتح إبراهيم
المسمعي [1] عامل فارس ناحية القفص من حدود كرمان، وأسر منهم خمسة
آلاف، وكان في هذه السنة ولي على الموصل أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان
وابنه ناصر الدولة خليفة فيها، فأفسد الأكراد والعرب بأرض الموصل وطريق
خراسان وكانت إليه، فكتب إليه ابنه ناصر الدولة سنة أربع عشرة
بالانحدار إلى تكريت للقائه، فجاءه في الحشد وأوقع بالعرب والأكراد
الخلالية وحسم علّتهم. وفيها قلّد المقتدر يوسف بن أبي الساج أعمال
الشرق وعزله عن أذربيجان وولّاه واسط، وأمدّه بالسير إليها لحرب
القرامطة، وأقطعه همذان وساوة وقمّ وقاشان وماه البصرة وماه الكوفة
وماسبذان للنفقة في الحرب، وجعل على الريّ من أعماله نصر بن سامان،
فوليها وصار من عمّاله كما مرّ. وفيها ولي أعمال الجزيرة والضياع
بالموصل أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان وأضيف إليه باريدى وقردى وما
إليهما. وفيها قتل ابن أبي الساج كما مرّ. وفي سنة خمس عشرة مات
إبراهيم المسمعي بالنوبندجان، وولّى المقتدر على مكانه ياقوت، وعلى
كرمان أبا طاهر محمد بن عبد الصمد. وفي سنة ست عشرة عزل أحمد بن نصر
القسوري عن حجبة الخليفة ووليها ياقوت وهو على الحرب بفارس واستخلف
عليها ابنه أبا الفتح المظفّر. وفيها ولي على الموصل وأعمالها يونس
المؤنسيّ، وكان على الحرب بالموصل ابن عبد الله بن حمدان، وهو ناصر
الدولة فغضب وعاد إلى الخلافة. وقتل في تلك الفتنة نازوك، وأقرّ على
أعمال قردى وباريدى التي كانت بيد أبي الهيجاء ابنه ناصر الدولة الحسن،
وعلى أعمال الموصل نحريرا الصغير. ثم ولّى عليها سعيدا ونصرا ابني
حمدان، وهما أخوا أبي الهيجاء.
وولّى ناصر الدولة على ديار ربيعة ونصّيبين وسنجار والخابور ورأس عين
وميافارقين من ديار بكر وأرزن على مقاطعة معلومة. وفي سنة ثمان عشرة
صرف ابنا رائق عن الشرطة، ووليها أبو بكر محمد بن ياقوت عن الحجبة
وقلّد أعمال فارس وكرمان. وقلّد
__________
[1] هو عبد الله بن إبراهيم المسمعي كما في الكامل ج 8 ص 12.
(3/484)
ابنه المظفّر أصبهان وابنه أبا بكر محمدا
سجستان وجعل مكان ياقوت وولده في الحجبة والشرطة إبراهيم ومحمد ابنا
رائق، فأقام ياقوت بشيراز وكان عليّ بن خلف بن طيّان على الخوارج،
فتعاقدا على قطع الحمل عن المقتدر إلى أن ملك عليّ بن بويه بلاد فارس
سنة ثلاث وعشرين. وفي هذه السنة غلب مرداويج على أصبهان وهمذان والريّ
وحلوان، وقاطع عليها بمال معلوم وصارت في ولايته.
استيحاش مؤنس من المقتدر الثانية ومسيره
إلى الموصل
كان الحسين بن القاسم بن عبد الله بن وهب وزيرا للمقتدر، وكان مؤنس
منحرفا عنه قبل الوزارة حتى أصلح بليق حاله عند مؤنس، فوزر واختص به
بنو البريدي وابن الفرات. ثم بلغ مؤنسا أن الحسين قد واطأ جماعة من
القوّاد في التدبير عليه، فتنكّر له مؤنس وضاقت الدنيا على الحسين
وبلغه أنّ مؤنسا يكبسه، فانتقل إلى الخلافة وكتب الحسين إلى هارون بن
غريب الحال يستقدمه، وكان مقيما بدير العاقول بعد انهزامه من مرداويج،
وكتب إلى محمد بن ياقوت يستقدمه من الأهواز فاستوحش مؤنس.
ثم جمع الحسين الرجال والغلمان الحجرية في دار الخلافة، وأنفق فيهم
فعظمت نفرة مؤنس، وقدم هارون من الأهواز فخرج مؤنس مغاضبا للمقتدر وقصد
الموصل، وكتب الحسين إلى القوّاد الذين معه بالرجوع فرجع منهم جماعة،
وسار مؤنس في أصحابه ومواليه ومعه من الساجية ثمانمائة من رجالهم،
وتقدّم الوزير بقبض أملاكه وأملاك من معه وأقطاعهم فحصل منه مال كثير،
واغتبط المقتدر به لذلك ولقّبه عميد الدولة ورسم اسمه في السكّة وأطلق
يده في الولاية والعزل، فولّى على البصرة وأعمالها أبا يوسف يعقوب بن
محمد البريدي على مبلغ ضمنه، وكتب إلى سعيد وداود ابني حمدان وابن
أخيهما ناصر الدولة الحسين بن عبد الله بمحاربة مؤنس، فاجتمعوا على
حربه إلّا داود فإنّه توقف لإحسان مؤنس إليه وتربيته إياه. ثم غلبوا
عليه فوافقهم على حربه، وجمع مؤنس في طريقه رؤساء العرب وأوهمهم أنّ
الخليفة ولّاه الموصل وديار ربيعة، فنفر معه بعضهم واجتمع له من العسكر
ثمانمائة وزحف إليه بنو حمدان في ثلاثين ألفا فهزمهم وملك مؤنس الموصل
في صفر من سنة عشرين، وجاءته العساكر من بغداد والشام ومصر رغبة في
إحسانه. وعاد ناصر الدولة بن حمدان إلى خدمته وأقام معه بالموصل ولحق
سعيد ببغداد.
(3/485)
مقتل المقتدر وبيعة
القاهر
ولما ملك مؤنس الموصل أقام بها تسعة واجتمعت العساكر فانحدر إلى بغداد
لقتال المقتدر، وبعث المقتدر الجنود مع أبي محمد بن ياقوت وسعيد بن
حمدان، فرجع عنهم العسكر إلى بغداد ورجعوا وجاء مؤنس فنزل بباب
الشمّاسيّة والقوّاد قبالته، وندب المقتدر ابن خاله هارون بن غريب إلى
الخوارج لقتاله، فاعتذر ثم خرج، وطالبوا المقتدر بالمال لنفقات الجند
فاعتذر وأراد أن ينحدر إلى واسط ويستدعي العساكر من البصرة والأهواز
وفارس وكرمان، فردّه ابن ياقوت عن ذلك وأخرجه للحرب وبين يديه الفقهاء
والقوّاد والمصاحف مشهورة وعليه البردة والناس يحدّقون به، فانهزم
أصحابه ولقيه عليّ بن بليق من أصحاب مؤنس، فعظمه وأشار عليه بالرجوع
ولحقه قوم من المغاربة والبربر فقتلوه وحملوا رأسه وتركوه بالعراء،
فدفن هنالك. ويقال إنّ عليّ بن بليق أشار إليهم بقتله. ولما رأى مؤنس
ذلك ندم وسقط في يده وقال: والله لنقتلنّ جميعا، وتقدّم إلى الشمّاسيّة
وبعث من يحتاط على دار الخلافة وكان ذلك لخمس وعشرين سنة من خلافة
المقتدر. فاتسع الخرق وطمع أهل القاصية في الاستبداد وكان مهملا لأمور
خلافته محكّما للنساء والخدم في دولته مبذرا لأمواله. ولما قتل لحق
ابنه عبد الواحد بالمدائن ومعه هارون بن غريب الحال ومحمد بن ياقوت
وإبراهيم بن رائق. ثم اعتزم مؤنس على البيعة لولده أبي العبّاس وكان
صغيرا، فعذله وزيره أبو يعقوب إسماعيل النويحي في ولاية صغير في حجر
أمّه وأشار بأخيه أبي منصور محمد بن المعتضد، فأجاب مؤنس إلى ذلك على
كره، وأحضر وبويع آخر شوّال من سنة عشرين، ولقّبوه القاهر باللَّه.
واستحلفه مؤنس لنفسه ولحاجبه بليق وابنه عليّ، واستقدم أبا عليّ بن
مقلة من فارس فاستوزره، واستحجب عليّ بن بليق. ثم قبض على أمّ المقتدر
وضربها على الأموال فحلفت فأمرها بحل أوقافها فامتنعت، فأحضر هو القضاة
وأشهد بحل أوقافها ووكّل في بيعها، فاشتراها الجند من أرزاقهم، وصادر
جميع حاشية المقتدر، واشتدّ في البحث عن ولده وكبس عليهم المنازل إلى
أن ظفر بأبي العبّاس الراضي وجماعة من إخوته وصادرهم وسلّمهم عليّ بن
بليق إلى كاتبه الحسين بن هارون، فأحسن صحبتهم وقبض الوزير ابن مقلة
على البريدي واخوته وأصحابه وصادرهم على جملة من المال.
(3/486)
خبر ابن المقتدر
وأصحابه
قد ذكرنا أنّ عبد الواحد بن المقتدر لحق بعد مقتل أبيه بالمدائن، ومعه
هارون بن غريب الحال ومفلح ومحمد بن ياقوت وابنا رائق. ثم انحدروا منها
إلى واسط وأقاموا بها، وخشيهم القاهر على أمره واستأمن هارون بن غريب
على أن يبذل ثلاثمائة ألف دينار وتطلق له أملاكه، فأمّنه القاهر ومؤنس
وكتب له بذلك وعقد له على أعمال ماه الكوفة وماسبذان ومهروبان، وسار
إلى بغداد وسار عبد الواحد بن المقتدر فيمن معه من واسط، ثم إلى السوس
وسوق الأهواز، وطردوا العمّال وجبوا الأموال. وبعث مؤنس إليهم بليقا في
العساكر وبذل أبو عبد الله البريدي في ولاية الأهواز خمسين ألف دينار
فأنفقت في العساكر. وسار معهم وانتهوا إلى واسط ثم إلى السوس، فجاز عبد
الواحد ومن معه من الأهواز إلى تستر، ثم فارقه جميع القوّاد واستأمنوا
إلى بليق إلا ابن ياقوت ومفلحا ومسرورا الخادم، وكان محمد بن ياقوت
مستبدّا على جميعهم في الأموال والتصرّف، فنفروا لذلك واستأمنوا
لأنفسهم ولابن المقتدر إلى بليق، فأمّنهم بعد أن استأمنوا محمد بن
ياقوت وأذن لهم، ثم استأمن هو على بليق إلى أمان القاهر ومؤنس، وساروا
إلى بغداد جميعهم فوفّى لهم القاهر وأطلق لعبد الواحد أملاكه وترك
لأمّه المصادرة التي صاردها، واستولى أبو عبد الله البريدي على أعمال
فارس وأعاد إخوته إلى أعمالهم.
مقتل مؤنس وبليق وابنه
لما رجع محمد بن ياقوت من الأهواز واستخلصه القاهر واختصه لخلواته
وشواره، وكانت بينه وبين الوزير ابن عليّ بن مقلة عداوة، فاستوحش لذلك
ودسّ إلى مؤنس أنّ محمد بن ياقوت يسعى به عند القاهر، وأنّ عيسى الطبيب
سفيره في ذلك، فبعث مؤنس عليّ بن بليق لإحضار عيسى، وتقدّم عليّ بن
بليق بالاحتياط على القاهر، فوكّل به أحمد بن زيرك وضيّق على القاهر
وكشف وجوه النساء المختلفات إلى القصر خشية إيصالهم الرقاع إلى القاهر
حتى كشفت أواني الطعام، ونقل بليق المحابيس من دار الخلافة إلى داره
وفيهم أمّ المقتدر فأكرمها عليّ بن بليق وأنزلهم عند أمّه فماتت في
جمادى من سنة إحدى وعشرين. وعلم القاهر أنّ ذلك من مؤنس وابن مقلة فشرع
في التدبير عليهم وكان طريف السبكري ونشرى من خدم
(3/487)
مؤنس قد استوحشا من مؤنس لتقدّم بليق وابنه
عليهما. وكان اعتماد مؤنس على الساجيّة وقد جاءوا معه من الموصل ولم
يوف لهم فاستوحشوا لذلك، فداخلهم القاهر جميعا وأغراهم بمؤنس وبليق،
وبعث إلى أبي جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله وكان مختصا بابن مقلة
وصاحب رأيه، فوعده بالوزارة فكان يطالعه بالأخبار. وشعر ابن مقلة بذلك
فأبلغوا إلى مؤنس وبليق، وأجمعوا على خلع القاهر، واتفق بليق وابنه
عليّ وابن مقلة والحسن بن هارون على البيعة لأبي أحمد بن المكتفي
فبايعوه، وحلفوا له وأطلعوا مؤنسا على ذلك، فأشار بالمهل وتأنيس القاهر
حتى يعرفوا من واطأه من القوّاد والساجيّة [1] والحجرية فأبوا وهوّنوا
عليه الأمر في استعجال خلفه فأذن لهم، فأشاعوا أن أبا طاهر القرمطيّ
ورد الكوفة، وندبوا عليّ بن بليق للمسير إليه ليدخل للوداع ويقبض على
القاهر وابن مقلة كان نائما فلما استيقظ أعاد الكتاب إلى القاهر
فاستراب. ثم جاءه طريف السيكري [2] غلام مؤنس في زي امرأة مستنصحا،
فأحضره وأطلعه على تدبيرهم وبيعتهم لأبي أحمد بن المكتفي فأخذ القاهر
حذره، وأكمن الساجيّة في دهاليز القصر وممرّاته، وجاء عليّ بن بليق في
خف من أصحابه، واستأذن فلم يؤذن له، وكان ذا خمار فغضب وأفحش في القول
فأخرج الساجيّة في السلاح وشتموه وردّوه، وفرّ عنه أصحابه وألقى بنفسه
في الطيار وعبر إلى الجانب الغربي. واختفى الوزير ابن مقلة والحسن بن
هارون، وركب طريف إلى دار القاهر، فأنكر بليق ما جرى لابنه وشتم
الساجيّة وقال: لا بدّ أن أستعدي الخليفة عليهم، وجاء إلى القاهر ومعه
قوّاد مؤنس، فلم يأذن له وقبض عليه وحبسه، وعلى أحمد بن زيرك صاحب
الشرطة، وجاء العسكر منكرين لذلك فاسترضاهم ووعدهم بالزيارة وبإطلاق
هؤلاء المحبوسين فافترقوا، وبعث إلى مؤنس بالحضور عنده ليطالعه برأيه
فأبى فعزله، وولّى طريف السيكرى مكانه وأعطاه خاتمه وقال: قد فوّضت إلى
ابني عبد الصمد ما كان المقتدر فوّضه إلى ابنه محمد، وقلّدتك خلافته
ورياسة الجيش وإمارة الأمراء وبيوت الأموال كما كان مؤنس وأمض إليه
وأحمله إلى دار الخلافة مرفّها عليه لئلا يجتمع إليه أهل الشرّ ويفسد
ما بيننا
__________
[1] الساجية أو الساجة فرقة من عسكر الخلافة مسماة بهذا الاسم على ما
هو اصطلاح الملوك في تلقيب كل جماعة من العسكر تمييزا لهم عمن عداهم
أهـ. من خط الشيخ العطّار.
[2] طريف السكريّ وقد مرّ ذكره من قبل.
(3/488)
وبينه، فسار طريف إلى مؤنس وأخبره بأمان
القاهر له ولأصحابه، وحمله على الحضور عنده وهوّن عليه أمره، وأنّ
القاهر لا يقدر على مكروهة. فركب وحضر فقبض عليه القاهر وحبسه قبل أن
يراه، وندم طريف على ما فعل واستوحش.
واستوزر القاهر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله، ووكّل بدور مؤنس
وبليق وابنه عليّ وابن مقلة وابن زيرك وابن هارون ونقل ما فيها، وأحرقت
دار ابن مقلة، وجاء محمد بن ياقوت وقام بالحجبة، فتنكّر له طريف
السيكري والساجيّة فاختفى ولحق بابنه بفارس، وكتب إليه القاهر بالعتب
على ذلك وولّاه الأهواز، وكان الّذي دعا طريفا السيكري إلى الانحراف عن
مؤنس وبليق أن مؤنسا رفع رتبة بليق وابنه عليه بعد أن كانا يخدمانه،
فأهملا جانبه. ثم اعتزم بليق على أن يولّيه مصر وفاوض في ذلك الوزير
ابن مقلة، فوافق عليه. ثم أراد عليّ بن بليق عمل مصر لنفسه، ومنع من
إرسال طريف فتربّص بهم. وأما الساجيّة فكانوا مع مؤنس بالموصل وكان
يعدهم ويمنّيهم. ولما ولي القاهر واستبدّ بأمره لم يف لهم. وكان من
أعيانهم الخادم صندل، وكان له بدار القاهر خادم اسمه مؤتمن باعه واتصل
بالقاهر قبل الخلافة، فاستخلفه، فلمّا شرع في التدبير على مؤنس وبليق
بعث مؤنسا هذا إلى صندل يمتّ إليه تقديمه ويدخله في أمر القاهر وإزالة
الحجر عنه. فقصد إلى صندل وزوجته وتلطّف ووصف القاهر بما شاء من محاسن
الأخلاق، وحمل زوجته على الدخول إلى دار القاهر حتى شافهها بما أراد
إبلاغه إلى صندل، وداخل صندل في ذلك سيما من قوّاد الساجيّة، واتفقوا
على مداخلة طريف السيكري في ذلك لعلمهم باستيحاشه من مؤنس، فأجابهم على
شريطة الإبقاء على مؤنس وبليق وابنه، وأن لا يزال مؤنس من مرتبته
وتحالفوا على ذلك من الجانبين. وطلب طريف عهد القاهر بخطّه، فكتب وزاد
فيه أنه يصلّي بالناس ويخطب لهم ويحج بهم ويغزو معهم ويتّئد لكشف
المظالم وغير ذلك من حسن السيرة، وكان جماعة من الحجرية قد أبعدهم ابن
بليق وأدال منهم بأصحابه، فداخلهم طريف في أمر القاهر فأجابوه، ونمي
الخبر بذلك إلى ابن مقلة وإلى بليق، وأرادوا القبض على قوّاد الساجيّة
والحجرية. ثم خشوا الفتنة ودبّروا على القاهر فلم يصلوا إليه لاحتجابه
عنهم بالمرض. فوضعوا أخبار القرامطة كما قدّمناه. ولمّا قبض القاهر على
مؤنس ولّى الحجابة سلامة الطولوني. وعلى الشرطة أحمد بن خاقان، واستوزر
أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله مكان ابن مقلة،
(3/489)
وأمر بالنداء على المتسترين والوعيد لمن
أخفى، وطلب أبا أحمد بن المكتفي فظفر به، وبنى عليه حائطا فمات. ثم ظفر
بعليّ فقتله. ثم شغب الجند في شعبان ومعهم أصحاب مؤنس، وثاروا ونادوا
بشعاره، وطلبوا إطلاقه وأحرقوا روشن دار الوزير أبي جعفر. فعمد القاهر
إلى بليق في محبسه وأمر به فذبح وحمل الرأسين إلى مؤنس، فلما رآهما
مؤنس استرجع ولعن قاتلهما فأمر به فذبح وطيف بالرءوس. ثم أودعت
بالخزانة. وقيل إن قتل عليّ بن بليق تأخّر عن قتل أبيه ومؤنس لأنه كان
مختفيا، فلمّا ظفر به بعدهما قتله. ثم بعث القاهر إلى أبي يعقوب إسحاق
بن إسماعيل اليوصحي فأخذ من محبس الوزير محمد بن القاسم وحبسه، وارتاب
الناس من شدّة القاهر، وندم الساجيّة والحجريّة على مداخلته في ذلك
الأمر. ثم قبض القاهر على وزيره أبي جعفر وأولاده وأخيه عبيد الله
وخدمه لثلاثة أشهر ونصف من ولايته، ومات لثمان عشرة ليلة من حبسه،
واستوزر مكانه أبا العبّاس أحمد بن عبيد الله بن سليمان الحصيبي. ثم
استبدّ القاهر على طريف السيكري واستخف به، فخافه وتنكّر. ثم أحضره بعد
أن قبض على الوزير أبي جعفر فقبض عليه وأودعه السجن إلى أن خلع القاهر.
ابتداء دولة بني بويه
كان أبوهم أبو شجاع بويه من رجالات الديلم، وكان له أولاد: علي والحسن
وأحمد، فعلي أبو الحسن عماد الدولة، والحسن أبو علي ركن الدولة، وأحمد
أبو الحسن معزّ الدولة. ونسبهم ابن ماكولا في الساسانية إلى بهرام جور
بن يزدجرد، وابن مسكويه إلى يزدجرد بن شهريار، وهو نسب مدخول، لأنّ
الرئاسة على قوم لا تكون في غير أهل بلدهم كما ذكرنا في مقدّمة الكتاب.
ولما أسلم الديلم على يد الأطروش وملك بهم طبرستان وجرجان، وكان من
قوّاده ما كان بن كالي وليلى بن النعمان وأسفار بن شيرويه ومرداويج بن
وزيار، وكانوا ملوكا عظاما وازدحموا في طبرستان، فساروا لملك الأرض عند
اختلاط الدولة العبّاسية وضعفها، وقصدوا الاستيلاء على الأعمال
والأطراف. وكان بنو بويه من جملة قوّاد ما كان بن كالي.
فلمّا وقع بينه وبين مرداويج من الفتنة والخلاف ما تقدّم، وغلبه
مرداويج على طبرستان وجرجان عادوا إلى مرداويج لتخفّ عنه مؤنتهم على أن
يرجعوا إليه إذا صلح أمره، فساروا إلى مرداويج فقبلهم وأكرمهم، واستأمن
إليه جماعة من قوّاد ما
(3/490)
كان فقتلهم وأولادهم. وولّى عليّ بن بويه
على الكرج، وكان أكبر إخوته. وسار جميعهم إلى الريّ وعليها وشمكير بن
وزيار أخو مرداويج ومعه وزيره الحسين بن محمد الملقّب بالعميد، فاتّصل
به عليّ بن بويه وأهدى إليه بغلة كانت عنده ومتاعا، وندم مرداويج على
ولاية هؤلاء المستأمنة من قوّاد ما كان، فكتب إلى أخيه وشمكير بالقبض
على الباقين، وأراد أن يبعث في أثر عليّ بن بويه فخشي الفتنة تركه.
ولمّا وصل عليّ بن بويه إلى الكرج استقام أمره وفتح قلاعا للخرمية ظفر
منها بذخائر كثيرة، واستمال الرجال وعظم أمره، وأحبه الناس، ومرداويج
يومئذ بطبرستان. ثم عاد إلى الريّ وأطلق مالا لجماعة من القوّاد على
الكرج فوصلوا إلى عليّ ابن بويه فأحسن إليهم واستمالهم، وبعث إليهم
مرداويج فدافعه فندم على إطلاقهم، وبعث فيهم مرداويج أمراء الكرج
فاستأمن إليه شيرزاد من أعيان قوّاد الديلم. فقويت نفسه وسار إلى
أصبهان وبها المظفّر بن ياقوت على الحرب في عشرة آلاف مقاتل، وأبو عليّ
بن رستم على الخوارج، فأرسل عليّ بن بويه يستعطفهما في الانحياز إلى
طاعة الخليفة وخدمته، والمسير إلى الحضرة فلم يجيباه. وكان أبو عليّ
أشدّ كراهة له فمات تلك الأيام. وسار ابن ياقوت ثلاثة فراسخ عن أصبهان،
وكان في أصحابه حسل وديلم، واستأمنوا إلى ابن بويه، ثم اقتتلوا فانهزم
ابن ياقوت واستولى عليّ بن بويه على أصبهان، وهو عماد الدولة، وكان
عسكره نحوا من تسعمائة، وعسكر ابن ياقوت نحوا من عشرة آلاف. وبلغ ذلك
القاهر فاستعظمه وبلغ مرداويج فأقلقه وخاف على ما بيده، وبعث إلى عماد
الدولة يخادعه يطلب الطاعة منه ليطمئن للرسالة، ويخالفه أخوه وشمكير في
العساكر. وشعر ابن بويه بذلك فرحل عن أصبهان وقصد أرجان وبها أبو بكر
بن ياقوت، فانهزم أبو بكر من غير قتال ولحق برامهرمز. واستولى ابن بويه
على أرجان وخالفه وشمكير أخو مرداويج إلى أصبهان فملكها، وأرسل القاهر
إلى مرداويج بأن يسلّم أصبهان لمحمد بن ياقوت ففعل.
وكتب أبو طالب يستدعيه ويهوّن عليه أمر ابن ياقوت ويغريه به، فخشي ابن
بويه من كثرة عساكر ياقوت وأمواله، وأن يحصل بينه وبين ابنه تأهبات
فتوقف، فأعاد عليه أبو طالب وأراه أن مرداويج طلب الصلح من ابن ياقوت
وخوّفه اجتماعهما عليه. فسار ابن بويه إلى أرجان في ربيع سنة إحدى
وعشرين، ولقيتهم هنالك مقدّمة ابن ياقوت فانهزمت، فزحف ابن ياقوت إليهم
وبعث عماد الدولة أخاه ركن الدولة الحسن إلى
(3/491)
كازرون وغيرها من أعمال فارس، فجبى أموالها
ولقي عسكر ابن ياقوت هنالك فهزمهم ورجع إلى أخيه، وخشي عماد الدولة من
اتفاق مرداويج مع ابن ياقوت فسار إلى إصطخر، واتّبعه ابن ياقوت وشيعه
إلى قنطرة بطريق كرمان اضطرّوا إلى الحرب عليها. فتزاحفوا هنالك
واستأمن بعض قوّاده إلى ابن ياقوت فقتلهم، فاستأمن أصحابه وانهزم ابن
ياقوت واتّبعه ابن بويه واستباح معسكره، وذلك في جمادى سنة اثنتين
وعشرين. وأبلى أخوه معزّ الدولة أحمد في ذلك اليوم بلاء حسنا، ولحق ابن
ياقوت بواسط، وسار عماد الدولة إلى شيراز فملكها وأمّن الناس واستولى
على بلاد فارس، وطلب الجند، أرزاقهم فعجز عنها وعثر على صناديق [1] من
مخلّف ابن ياقوت وذخائر بني الصفّار فيها خمسمائة ألف دينار فامتلأت
خزائنه وثبت ملكه.
واستقرّ ابن ياقوت بواسط وكاتبه أبو عبد الله اليزيدي [2] حتى قتل
مرداويج عاد إلى الأهواز ووصل عسكر مكرم، وكانت عساكر ابن بويه سبقته
فالتقوا بنواحي أرّجان وانهزم ابن ياقوت فأرسل أبو عبد الله اليزيدي في
الصلح فأجابه ابن بويه، واستقرّ ابن ياقوت بالأهواز ومعه ابن اليزيدي
وابن بويه ببلاد فارس. ثم زحف مرداويج إلى الأهواز وملكها من يد ابن
ياقوت، ورجع إلى واسط وكتب إلى الراضي. وكان بعد القاهر كما نذكره،
وإلى وزيره أبي علي بن مقلة بالطاعة والمقاطعة فيما بيده من البلاد
بأعمال فارس على ألف ألف درهم، فأجيب إلى ذلك وبعث إليه باللواء والخلع
وعظم شأنه في فارس وبلغ مرداويج شأنه فخاف غائلته، وكان أخوه وشمكير قد
رجع إلى أصبهان بعد خلع القاهر وصرف محمد بن ياقوت عنها، فسار إليها
مرداويج للتدبير على عماد الدولة وبعث أخاه وشمكير على الريّ وأعمالها.
خلع القاهر وبيعة الراضي
ولما قتل القاهر مؤنسا وأصحابه أقام يتطلب الوزير أبا عليّ بن مقلة
والحسن بن هارون وهما مستتران، وكانا يراسلان قوّاد الساجيّة والحجريّة
ويغريانهم بالقاهر، فإنّهم غرّوه
__________
[1] قوله وعثر على صناديق، ذكر صاحب الفرج بعد الشدة حكاية غريبة في
ذلك ملخصها ان الجند ضايقوه بطلب المال فنام في دار الامارة مستلقيا
على قفاه مفكرا، فرأى حية دخلت في السقف، فاستدعى بعض الخدم ليكشف
الحقيقة فرأى تلك الصناديق. وعثر أيضا على مال كان وديعة وله حكاية
أيضا في ذلك الكتاب انتهى. من خط الشيخ العطّار.
[2] البريدي: ابن الأثير ج 8 ص 286.
(3/492)
كما فعل بأصحابه قبلهم. وكان ابن مقلة
يجتمع بالقوّاد ويراسلهم ويجيء إليهم متنكرا ويغريهم، ووضعوا على سيما
أنّ منجّما أخبره أنه ينكب القاهر ويقتله، ودسّوا إلى معبر كان عنده
أموالا على أن يحذّره من القاهر، فنفر واستوحش، وحفر القاهر مطامير في
داره، فقيل لسيما والقوّاد إنما صنعت لكم فازدادوا نفرة. وكان سيما
رئيس الساجيّة فارتاب بالقاهر وجمع أصحابه وأعطاهم السلاح، وبعث إلى
الحجريّة فجمعهم عنده وتحالفوا على خلع القاهر، وزحفوا إلى الدور
وهجموا عليه فقام من النوم ووجد الأبواب مشحونة بالرجال فهرب إلى
السطح، ودلّهم عليه خادم فجاءوه واستدعوه للنزول فأبى فتهدّدوه بالرشق
بالسهام فنزل وجاءوا به إلى محبس طريف السيكري فحبسوه مكانه وأطلقوه
حتى سمل بعد ذلك، وذلك لسنة ونصف من خلافته. وهرب الحصيبي وزيره وسلامة
حاجبه. وقد قيل في خلعه غير هذا وهو أنّ القاهر لمّا تمكن من الخلافة
اشتدّ على الساجيّة والحجريّة واستهان بهم، فتشاكوا ثم خافه حاجبه
سلامة لأنه كان يطالبه بالأموال ووزيره الخصيبي كذلك، وحفر المطامير في
داره فارتابوا به كما ذكرنا. وأسر جماعة من القرامطة فحبسهم بتلك
المطامير وأراد أن يستظهر بهم على الحجريّة والساجيّة فتنكروا ذلك
وقالوا فيه للوزير وللحاجب، فأخرجهم من الدار وسلّمهم لمحمد بن ياقوت
صاحب الشرطة وأوصاه إليهم فازداد الساجيّة والحجريّة ريبة. ثم تنكّر
لهم القاهر وصار يعلن بذمّهم وكراهتهم فاجتمعوا لخلعه كما ذكرنا. ولما
قبض القاهر بحثوا عن أبي العبّاس بن المقتدر وكان محبوسا مع أمّه،
فأخرجوه وبايعوه في جمادى سنة اثنتين وعشرين، وبايعه القوّاد والناس،
وأحضر عليّ بن عيسى وأخاه عبد الرحمن وصدر عن رأيهما، وأراد عليّ ابن
عيسى على الوزارة فامتنع واعتذر بالنكير، وأشار بابن مقلة فأمّنه
واستوزره.
وبعث القضاة إلى القاهر ليخلع نفسه فأبى فسمل وأمّن ابن مقلة الخصيبي
وولّاه وولى الفضل بن جعفر بن الفرات نائبا عنه عن أعمال الموصل وقردى
وباريدى وماردين وديار الجزيرة وديار بكر وطريق الفرات والثغور الجزرية
والشاميّة وأجناد الشام وديار مصر يعزل ويولي من يراه في الخراج
والمعادن والنفقات والبريد وغير ذلك. وولّى الراضي على الشرطة بدرا
الحمامي وأرسل إلى محمد بن رائق يستدعيه، وكان قد استولى على الأهواز
ودفع عنها ابن ياقوت من تلك الولاية إلى السوس وجنديسابور، وقد ولّى
على أصبهان وهو يروم المسير إليها. فلما ولي الراضي استدعاه
(3/493)
للحجابة فسار إلى واسط، وطلب محمد بن ياقوت
الحجابة فأجيب إليها فسار في أثر ابن رائق، وبلغ ابن رائق الخبر فسار
من واسط مسابقا لابن ياقوت بالمدائن توقيع الراضي بالحرب، والمعادن في
واسط مضافا إلى ما بيده من البصرة والمعادن، فعاد منحدرا في دجلة ولقيه
ابن ياقوت مصعدا ودخل بغداد وولّى الحجبة وصارت إليه رياسة الجيش ونظر
في أمر الدواوين وأمرهم بحضور مجلسه، وأن لا ينفذوا توقيعا في ولاية أو
عزل أو اطلاق إلّا بخطّه، وصار نظر الوزير في الحقيقة له وابن مقلة
مكابر مجلسه مع جملتهم ومتميز عنهم في الإيثار والمجلس فقط.
مقتل هارون
كان هارون بن غريب الحال على ماه الكوفة والدّينور وماسبذان وسائر
الأعمال التي ولّاها القاهر إيّاه، فلمّا خلع القاهر واستخلف الراضي
رأى هارون أنه أحق بالدولة من غيره لأنه ابن خال المقتدر، فكاتب
القوّاد ووعدهم وسار من الدّينور إلى خافقين وشكا ابن مقلة وابن ياقوت
والحجريّة والساجيّة إلى الراضي فأذن لهم في منعه، فراسلوه أوّلا
بالممانعة. والزيادة على ما في يده من الأعمال، فلم يلتفت إليهم وشرع
في الجباية فقويت شوكته، فسار إليه محمد بن ياقوت في العساكر وهرب عنه
بعض أصحابه إلى هارون، وكتب إلى هارون يستميله فلم يجب، وقال: لا بدّ
من دخول بغداد. ثم تزاحفوا لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين
وعشرين، فانهزم أوّلا أصحاب ابن ياقوت ونهب سوادهم وسار محمد حتى قطع
قنطرة تبريز، وسار هارون منفردا لاعتراضه، فدخل في بعض المياه وسقط عن
فرسه، ولحقه غلام لمحمد بن ياقوت فقطع رأسه وانهزم أصحابه وقتل قوّاده
وأسر بعضهم ورجع ابن ياقوت إلى بغداد ظافرا.
نكبة ابن ياقوت
قد ذكرنا أنه كان نظر في أمر الدواوين وصيّر ابن مقلة كالعاطل، فسعى به
عند القاضي وأوهمه خلافه حتى أجمع القبض عليه في جمادى سنة ثلاثة
وعشرين، فجلس الخليفة على عادته وحضر الوزير وسائر الناس على طبقاتهم
يريد تقليد جماعة من القوّاد للأعمال. واستدعى ابن ياقوت للخدمة في
الحجبة على عادته، فبادر وعدل به إلى حجرة فحبس فيها وخمّار. وبعث
الوزير ابن مقلة إلى دار محمد من
(3/494)
يحفظها من النهب وأطلق يده في أمور الدولة
واستبد بها وكان ياقوت مقيما بواسط، فلما بلغه القبض على ابنه انحدر
إلى فارس لمحاربة ابن بويه، وكتب يستعطف الراضي ويسأله إبقاء ابنه
ليساعده على شأنه. ولم يزل محمد محبوسا إلى أن هلك سنة أربع عشرة في
محبسه.
خبر البريدي
كان أبو عبد الله البريدي أيام ابن ياقوت ضامنا للأهواز، فلما استولى
عليها مرداويج وانهزم ابن ياقوت كما مرّ رجع البريدي إلى البصرة وصار
يتصرّف في أسافل الأهواز مع كنانة ياقوت. ثم سار إلى ياقوت فأقام معه
بواسط، فلما قبض على ابن ياقوت وكتب ابن مقلة إليه وإلى ياقوت يعتذر عن
قبض ابن ياقوت ويأمرهما بالمسير لفتح فارس، فسار ياقوت على السوس
والبريدي على طريق الماء حتى انتهيا إلى الأهواز. وكان إلى أخويه أبي
الحسن وأبي يوسف ضمان السوس وجنديسابور، وادعيا أن دخل البلاد أخذه
مرداويج. وبعث ابن مقلة ثانيا لتحقّق ذلك، فوافاهم وكتب بصدقهم،
فاستولى ابن البريدي ما بين ذلك على أربعة آلاف ألف دينار، ثم أشار أبو
عبد الله عليّ بن ياقوت بالمسير لفتح فارس، وأقام هو لجباية الأموال
فحصل منها بغيته. وسار ياقوت فلقيه ابن بويه على أرّجان فهزمه وسار إلى
عسكر مكرم. واتّبعه ابن بويه إلى رامهرمز وأقام بها إلى أن اصطلحا.
مقتل ياقوت
قد تقدّم لنا انهزام ياقوت من فارس أمام عماد الدولة ابن بويه إلى عسكر
مكرم واستيلاء ابن بويه على فارس. وكان أبو عبد الله البريدي بالأهواز
ضامنا كما تقدّم. وكان مع ذلك كاتبا لياقوت، وكان ياقوت يستنيم إليه
ويثق به، وكان مغفّلا ضعيف السياسة فخادعه أبو عبد الله البريدي وأشار
عليه بالمقام بعسكر مكرم وأن يبعث إليه بعض جنده الواصلين من بغداد
تخفيفا للمئونة وتحذيرا من شغبهم. وبعث إليه أخاه بذلك أبا يوسف ودفع
له من مال الأهواز خمسين ألف دينار. ثم قطع عنه فضاق الحال عليه وعلى
جنده، وكان قد نزع إليه من أصحاب ابن بويه طاهر الحمل وكاتبه أبو جعفر
الصهيري، ثم انصرف عنه لضيق حاله إلى غربي تستر ليتغلّب على ماه
البصرة، فكبسه ابن بويه وغنم معسكره وأسر الصهيري فشفع فيه وزيره
وأطلقه،
(3/495)
فلحق بكرمان واتصل بعد ذلك بمعزّ الدولة
ابن بويه واستكتبه. ولما انصرف طاهر عن ياقوت كتب إلى البريدي يشكو
ضعفه واستطالة أصحابه، فأشار عليه بإرسالهم إلى الأهواز متعرّفين
لقومهم. فلما وصلوا إليه انتقى خيارهم وردّ الباقين، وأحسن إلى من عنده
وبعث ياقوت إليه في طلب المعزّ فلم يبعث إليه، فجاءه بنفسه فتلقّاه
وترجّل إليه وقبّل يده، وأنزله بداره وقام في خدمته أحسن مقام، ووضع
الجند على الباب يشغبون ويرومون قتله، فأشار إليه بالنجاة، فعاد إلى
عسكر مكرم فكتب إليه يحذّره اتباعهم، وأنّ عسكر مكرم على ثمانية فراسخ
من الأهواز، وأرى أن تتأخّر بتستر فتتحصّن بها. وكتب له على عامل تستر
بخمسين ألف دينار، وعذله خادمه مؤنس في شأن ابن البريدي وأراه خديعته
وأشار عليه باللحاق ببغداد، وأنّه شيخ الحجريّة، وقد كاتبوك فسر إلى
رياسة بغداد وإلّا فتعاجل إلى البريدي وتخريجه عن الأهواز، فصمّ عن
نصيحته وأبى من قبول السعاية فيه، وتسايل أصحابه إلى ابن البريدي حتى
لم يبق معه إلّا نحو الثمانمائة. وجاءه ابنه المظفّر ناجيا من حبس
الراضي بعد أسبوع، فأطلقه وبعثه إلى أبيه فأشار عليه بالمسير إلى
بغداد، فإن حصل على ما يريد وإلّا فإلى الموصل وديار ربيعة ويتملكها،
فأبى عليه أبوه ففارقه إلى ابن البريدي فأكرمه ووكّل به. ثم حذر ابن
البريدي غائلة ياقوت فبعث إليه بأن الخليفة أمره بإزعاجه [1] من البلاد
اما إلى بغداد وإما إلى بلاد الجبل ليولّيه بعض أعمالها، فكتب يستمهله
فأبى من المهلة وبعث العساكر من الأهواز. وسار ياقوت إلى عسكر مكرم
ليكبس ابن البريدي هنالك فصبح البلد ولم يجده، وجاءت عساكر ابن البريدي
مع قائد أبي جعفر الجمّال، فقاتله من أمامه وأكمن آخرين من خلفه فانهزم
وافترق أصحابه، وحسا إلى حائط متنكرا فمرّ به قوم ابن البريدي فكشفوا
وجهه وعرفوه فقتلوه وحملوا رأسه إلى العسكر، فدفنه الجمّال وبعث
البريدي إلى تستر فحمل ما كان لياقوت هنالك، وقبض على ابنه المظفّر
وبعثه إلى بغداد واستبدّ بتلك الأعمال وذلك سنة أربع وعشرين.
__________
[1] هكذا بالأصل ولعلها بإخراجه.
(3/496)
مسير ابن مقلة إلى
الموصل واستقرارها لابن حمدان
كان ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان
عاملا على الموصل فجاء عمه أبو العلاء سعيد فضمن الموصل وديار ربيعة
سرّا وسار إليها فظهر أنه في طلب المال من ابن أخيه. وشعر ناصر الدولة
بذلك فخرج لتلقّيه، فخالفه إلى بيته فبعث من قبله واهتم الراضي بذلك
وأمر الوزير أبا عليّ بن مقلة بالمسير إلى الموصل فسار في العساكر من
شعبان سنة ثلاث وعشرين، فرحل عنها ناصر الدولة ودخل الزوران واتبعه
الوزير إلى حمل السنّ. ثم عاد عنها إلى الموصل وأقام في جبايتها وبعث
ناصر الدولة إلى بغداد بعشرة آلاف دينار لابن الوزير ليستحث أباه في
القدوم، فكتب إليه بما أزعجه، فسار من الموصل واستخلف عليها عليّ بن
خلف بن طبّاب وما ترد الديلميّ [1] من الساجيّة. ودخل بغداد منتصف
شوّال، وجمع ناصر الدولة ولقي ما ترد الديلميّ على نصيبين فهزمه إلى
الرقّة وانحدر منها إلى بغداد ولحقه ابن طباب، واستولى ناصر الدولة
حمدان على الموصل وكتب في الرضا وضمان البلاد فأجيب وتعذرت عليه.
نكبة ابن مقلة وخبر الوزارة
كان الوزير بن مقلة قد بعث سنة ثلاث وعشرين إلى محمد بن رائق بواسط
يطالبه بارتفاع أعمال واسط والبصرة، وكان قد قطع الجبل. فلما جاءه كتاب
ابن مقلة، كتب إليه جوابه يغالطه وكتب إلى الراضي بالسعي في الوزارة،
وأنّه يقوم بنفقات الدار وأرزاق الجند، فجهّز الوزير ابنه سنة أربع
وعشرين لقصده وورى بالأهواز، وأنفذ رسوله إلى ابن رائق بهذه التوراة
يؤنسه بها، وباكر القصر لانفاذ الرسول فقبض عليه المظفّر بن ياقوت
والحجرية وكان المظفّر قد أطلق من محبسه وأعيد إلى الحجبة، فاستحسن
الراضي فعلهم، واختفى أبو الحسين ابن الوزير وسائر أولاده وحرمه
وأصحابه، وأشار إلى الحجرية والساجيّة بوزارة عليّ بن عيسى فامتنع وسار
بأخيه عبد الرحمن فاستوزره الراضي وصادر ابن مقلة. ثم عجز عن تمشية
الأمور وضاقت عليه الجباية فاستعفى من الوزارة، فقبض عليه الراضي وعلى
أخيه على ثلاثة أشهر من وزارته، واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم
الكرخيّ فصادر عليّ بن عيسى على
__________
[1] ماكرد الديلميّ: ابن الأثير ج 8 ص 310.
(3/497)
مائة ألف دينار، ثم عجز عن الوزارة وضاقت
الأموال وانقطعت، وطمع أهل الأعمال فيما بأيديهم، فقطع ابن رائق حمل
واسط والبصرة وقطع ابن البريدي حمل الأهواز وأعمالها، وانقطع حمل فارس
لغلب ابن بويه عليها، ولم يبق غير هذه الأعمال ونطاق الدولة قد تضايق
إلى الغاية، وأهل الدولة مستبدّون على الخلافة والأحوال متلاشية،
فتحيّر أبو جعفر وكثرت عليه المطالبات وذهبت هيبته، فاختفى لثلاثة أشهر
ونصف من وزارته واستوزر الراضي مكانه أبا القاسم سليمان بن الحسن، فكان
حاله مثل حال من قبله في قلّة المال ووقوف الحال.
استيلاء ابن رائق على الخليفة
ولما رأى الراضي وقوف الحال من الوزراء استدعى أبا بكر محمد بن رائق من
واسط وكاتبه بأنه قد أجابه إلى ما عرض من السعي في الوزارة على القيام
بالنفقات وأرزاق الجند، فسرّ ابن رائق بذلك وشرع يتجهّز للمسير. ثم
أنفذ إليه الراضي الساجيّة وقلّده إمارة الجيش، وجعله أمير الأمراء،
وفوّض إليه الخراج والدواوين والمعادن في جميع البلاد، وأمر بالخطبة له
على المنابر، وانحدر إليه الدواوين والكتّاب والحجّاب.
ولما جاءه الساجيّة قبض عليهم بواسط في ذي الحجة من سنة أربع وعشرين،
ونهب رجالهم ودوابهم ومتاعهم ليوفّر أرزاقهم على الحجرية، فاستوحشوا
لذلك وخيّموا بدار الخلافة، وأصعد ابن رائق إلى بغداد وفوّض الخليفة
إليه أمرهم. وأمر الحجريّة بتقويض خيامهم والرجوع إلى منازلهم، وأبطل
الدواوين وصيّر النظر إليه، فلم يكن الوزير ينظر في شيء من الأمور.
وبقي ابن رائق وكتّابه ينظرون في جميع الأمور فبطلت الدواوين وبيوت
الأموال من يومئذ وصارت لأمير الأمراء، والأموال تحمل إلى خزانته،
ويتصرّف فيها كما يريد، ويطلب من الخليفة ما يريد. وتغلّب أصحاب
الأطراف وزال عنهم الطاعة. ولم يبق للخليفة إلّا بغداد وأعمالها وابن
رائق مستبد عليه. وأمّا باقي الأعمال فكانت البصرة في يد ابن رائق،
وخوزستان والأهواز في يد ابن البريدي، وفارس في يد عماد الدولة ابن
بويه، وكرمان في يد عليّ بن الياس، والري وأصبهان والجبل في يد ركن
الدولة ابن بويه، ووشمكير أخو مرداويج ينازعه في هذه الأعمال، والموصل
وديار بكر ومضر وربيعة في يد حمدان، ومصر والشام في يد ابن طغج،
والمغرب وإفريقية في يد العبيديين، والأندلس في يد
(3/498)
عبد الرحمن بن الناصر من ولد عبد الرحمن
الداخل وما وراء النهر في يد بني سامان، وطبرستان في يد الديلم،
والبحرين واليمامة في يد أبي الطاهر القرمطيّ، ولم يبق لنا من الأخبار
إلّا ما يتعلق بالخلافة فقط في نطاقها المتضايق أخيرا، وإن كانت مغلبة
وهي أخبار ابن رائق والبريدي، وأمّا غير ذلك من الأعمال التي اقتطعت
كما ذكرناه، فنذكر أخبارها منفردة ونسوق المستبدّين دولا كما شرطناه
أوّل الكتاب ثم كتب ابن رائق عن الراضي إلى أبي الفضل بن جعفر بن
الفرات وكان على الخراج بمصر والشام، وظنّ أنه بوزارته تكون له تلك
الجباية، فوصل إلى بغداد وولي وزارة الراضي وابن رائق جميعا.
وصول يحكم مع ابن رائق
كان يحكم هذا من جملة مرداويج قائد الديلم ببلاد الجبل، وكان قبله في
جملة ما كان بن كالي ومن مواليه، وهبه له وزيره أبو عليّ الفارض، ثم
فارق ما كان مع من فارقه إلى مرداويج. وكان مرداويج قد ملك الريّ
وأصبهان والأهواز، وضخم ملكه وصنع كراسيّ من ذهب وفضة للجلوس عليها هو
وقوّاده، ووضع على رأسه تاجا تظنّه تاج كسرى. وأمر أن يخاطب بشاهنشاه
واعتزم على قصد العراق والاستيلاء عليه، وتجديد قصور كسرى بالمدائن.
وكان في خدمته جماعة من الترك ومنهم يحكم. فأساء ملكهم وعسكرهم فقتلوه
سنة ثلاث وعشرين بظاهر أصبهان كما نذكره في أخبارهم.
واجتمع الديلم والجبل بعده على أخيه وشمكير بن وزيار وهو والد قابوس،
ولما قتل مرداويج افترق الأتراك فرقتين ففرقة سارت إلى عماد الدولة بن
بويه بفارس، والأخرى وهي الأكثر سارت نحو الجبل عند يحكم، فجبوا خراج
الدّينور وغيرها. ثم ساروا إلى النهروان وكاتبوا الراضي في المسير
إليه، فأذن لهم وارتاب الحجريّة بهم، فأمرهم الوزير بالرجوع إلى بلد
الجبل فغضبوا واستدعاهم ابن رائق صاحب واسط والبصرة فمضوا إليه وقدم
عليهم يحكم وكان الأتراك والديلم من أصحاب مرداويج فجاءته جماعة منهم
فأحسن إليهم وإلى يحكم وسمّاه الرائقي نسبة إليه وأذن له أن يكتبه في
مخاطباته
.
(3/499)
مسير الراضي وابن
رائق لحرب ابن البريدي
ثم اعتزم ابن رائق سنة خمس وعشرين على الراضي في المسير إلى واسط لطلب
ابن البريديّ في المال ليكون أقرب لمناجزته، فانحدر في شهر محرّم
وارتاب الحجريّة بفعله مع الساجيّة، فتخلفوا ثم تبعوه فاعترضهم وأسقط
أكثرهم من الديوان، فاضطربوا وثاروا فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم جماعة
ولجأ فلّهم إلى بغداد، فأوقع بهم لؤلؤ صاحب الشرطة ونهبت دورهم وقطعت
أرزاقهم وقبضت أملاكهم، وقتل ابن رائق من كان في حبسه من الساجيّة،
وسار هو والراضي نحو الأهواز لإجلاء ابن البريديّ منها. وقدّم إليه في
طلب الاستقامة وتوعّده فجدّد ضمان الأهواز بألف دينار في كل شهر، ويحمل
في كل يوم قسطه [1] . وأجابه إلى تسليم الجيش لمن يسير إلى قتال ابن
بويه لنفرتهم عن بغداد. وعرض ذلك على الراضي، فأشار الحسين بن عليّ
القونجي وزير ابن رائق بأن لا تقبل لأنه خداع ومكر وأشار أبو بكر بن
مقاتل بإجابته، وعقد الضمان على ابن البريدي، وعاد ابن رائق والراضي
إلى بغداد فدخلاها أوّل صفر، ولم يف ابن البريدي بحمل المال، وأنفذ ابن
رائق جعفر بن ورقاء ليسير بالجيش إلى فارس، ودسّ إليهم ابن البريدي أن
يطلبوا منه المال ليتجهّزوا به، فاعتذر فشتموه وتهدّدوه بالقتل. وأتى
ابن البريدي فأشار عليه بالنجاء. ثم سعى ابن مقاتل لابن البريدي في
وزارة ابن رائق عوضا عن الحسين القونجي [2] وبذل عنه ثلاثين ألف دينار،
فاعتذر له بسوابق القونجي عنده وسعيه له، وكان مريضا فقال له ابن
مقاتل: إنه هالك! فقال ابن رائق: قد أعلمني الطبيب أنه ناقة، فقال:
الطبيب يراجيك فيه لقربه منك، ولكن سل ابن أخيه عليّ بن حمدان. وكان
القونجي قد استناب ابن أخيه في مرضه، فأشار عليه ابن مقاتل أن يعرف
الأمير إذا سأله بمهلكه، وأشار عليه أن يستوزره. فلما سأله ابن رائق
أيأسه منه فقال ابن رائق: عند ذلك لابن مقاتل: أكتب لابن البريدي يرسل
من ينوب عنه في الوزارة، فبعث أحمد بن الكوفي واستولى مع ابن مقاتل على
ابن رائق، وسعوا لابن البريدي أبي يوسف في ضمان البصرة. وكان عامل
البصرة من قبل ابن رائق محمد بن
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 330: « ... جدّد ضمان الأهواز كل سنة
بثلاثمائة وستين ألف دينار يحمل كلّ شهر بقسطه.
[2] الحسين بن علي النونجتي: المرجع السابق ص 331.
(3/500)
يزداد وكان شديد الظلم والعسف بهم، فخادعه
ابن البريدي وأنفذ أبو عبد الله مولاه إقبالا في ألفي رجل، وأقاموا في
حصن مهدي قريبا. فعلم ابن يزداد أنه يروم التغلّب على البصرة، وأقاما
على ذلك وأقام ابن رائق شأن هذا العسكر في حصن مهدي.
وبلغه أيضا أنه استخدم الحجريّين الذين أذن لهم في الانسياح في الأرض،
وأنهم اتفقوا مع عسكره على قطع الحمل، وكاتبه يطردهم عنه فلم يفعل.
فأمر ابن الكوفي أن يكتب إلى ابن البريدي بالكتاب على ذلك. ويأمر
بإعادة العسكر من حصن مهدي، فأجاب باعدادهم للقرامطة وابن يزداد عاجز
عن الحماية. وكان القرامطة قد وصلوا إلى الكوفة في ربيع الآخر وخرج ابن
رائق في العساكر إلى حصن ابن هبيرة ولم يستقرّ بينهم أمر. وعاد القرمطي
إلى بلده وسار ابن رائق إلى واسط.
فكتب ابن البريدي إلى عسكره بحصن مهدي أن يدخلوا البصرة ويملكوها من يد
ابن يزداد، وأمدّهم جماعة من الحجريّة فقصدوا البصرة وقاتلوا ابن يزداد
فهزموه، ولحق بالكوفة، وملك إقبال مولى ابن البريدي وأصحابه البصرة،
وكتب ابن رائق إلى البريدي يتهدّده ويأمره بإخراج أصحابه من البصرة فلم
يفعل.
استيلاء يحكم [1] على الأهواز
ولما امتنع ابن البريدي من الإفراج عن البصرة بعث ابن رائق العساكر مع
بدر الحريشيّ [2] ويحكم مولاه، وأمرهم بالمقام بالجامدة فتقدّم يحكم عن
بدر وسار إلى السوس، وجاءته عساكر البريدي مع غلامه محمد الجمّال [3]
في ثلاثة آلاف ومع يحكم مائتان وسبعون من الترك، فهزمهم يحكم ورجع محمد
بن الجمال إلى ابن البريدي فعاقبه على انهزامه، وحشد له العسكر فسار في
ستة آلاف ولقيهم يحكم عند نهر تستر فانهزموا من غير قتال، وركب ابن
البريدي السفن ومعه ثلاثمائة ألف دينار ففرّق أصحابه وماله ونجا إلى
البصرة، وأقام بالأبلّة وبعث غلامه إقبالا فلقي جماعة من أصحاب ابن
رائق فهزمهم، وبعث ابن رائق مع جماعة من أهل البصرة يستعطفه فأبى،
فطلبوا البصرة فحلف ليحرقنّها ويقتل كل من فيها، فرجعوا مستبصرين في
قتاله. وأقام ابن البريدي بالبصرة، واستولى يحكم على الأهواز ثم
__________
[1] بحكم: ابن الأثير ج 8 ص 334.
[2] بدر الخرشنيّ: المرجع السابق.
[3] الحمّال بدل الجمّال: المرجع السابق.
(3/501)
بعث ابن رائق جيشه في البحر والبر فانهزم
عسكر البر واستولى عسكر الماء على الكلا، فهرب ابن البريدي في السفن
إلى جزيرة أوال، وترك أخاه أبا الحسين في عسكر بالبصرة فدفع عسكر ابن
رائق عن الكلا فسار ابن رائق من واسط، واستولى يحكم على الأهواز،
وقاتلوا البصرة فامتنعت عليهم، وسار أبو عبد الله بن البريدي من أوال
إلى عماد الدولة بن بويه بفارس، فاطعمه في العراق وبعث معه أخاه معزّ
الدولة إلى الأهواز فسير إليها ابن رائق مولاه يحكم على أن يكون له
الحرب والخراج، وأقام ابن البريدي على البصرة وزحفت إليه عساكرهم
فأعجلوه عن تقويض خيامه فأحرقها وسار إلى الأهواز مجردا، وسبقته عساكره
إلى واسط وأقام عند يحكم أياما وأشير عليه بحبسه فلم يفعل ورجع ابن
رائق إلى واسط.
استيلاء معز الدولة على الأهواز
لما سار أبو عبد الله بن البريدي من جزيرة أوال إلى عماد الدولة ابن
بويه بفارس مستجيرا به من ابن رائق ويحكم ومستنجدا عليهم، طمع عماد
الدولة في الاستيلاء على العراق. فسيّر معه أخاه معز الدولة أحمد بن
بويه في العسكر، ورهن ابن البريدي عنده ولديه أبا الحسين محمدا وأبا
جعفر الفيّاض. وسار يحكم للقائهم فلقيهم بأرجان فانهزم أمامهم وعاد إلى
الأهواز، وخلّف جيشا بعسكر مكرم. فقاتلهم معزّ الدولة ثلاثة عشر يوما
ثم انفضوا ولحقوا بتستر، وملك معزّ الدولة عسكر مكرم وذلك سنة ست
وعشرين وسار يحكم من الأهواز إلى تستر، وبلغ الخبر إلى ابن رائق بواسط،
فسار إلى بغداد وجاء يحكم من تستر إلى واسط. ولما استولى معزّ الدولة
وابن البريدي على عسكر مكرم، ولقيهم أهل الأهواز وساروا معهم إليها
فأقاموا شهرا. ثم طلب معزّ الدولة من ابن البريدي عسكره الّذي بالبصرة
ليسير بهم إلى أخيه ركن الدولة بأصبهان لحرب وشمكير، فأحضر منهم أربعة
آلاف. ثم طلب من عسكره الذين بحصن مهدي ليسير بهم في الماء إلى واسط
فارتاب ابن البريدي وهرب إلى البصرة. وبعث إلى عسكرها الذين ساروا إلى
أصبهان وكانوا متوقفين بالسوس، فرجعوا إليه، ثم كتب إلى معز الدولة أن
يفرج له عن الأهواز ليتمكن من الجباية والوفاء بها لأخيه عماد الدولة،
وكان قد ضمن له الأهواز والبصرة بثمانية عشر ألف ألف درهم، فرحل معز
الدولة إلى عسكر مكرم وأنفذ ابن البريدي عامله إلى
(3/502)
الأهواز. ثم بعث إلى معزّ الدولة بأن يتأخر
إلى السوس فأبى، وعلم يحكم بحالهم فبعث جيشا استولوا على السوس
وجنديسابور، وبقيت الأهواز بيد ابن البريدي ومعزّ الدولة بعسكر مكرم،
وقد ضاقت أحوال جنده. ثم بعث إليه أخوه عماد الدولة بالمدد فسار إلى
الأهواز وملكها. ورجع ابن البريدي إلى البصرة ويحكم في ذلك مقيم بواسط،
وقد صرف همه إلى الاستيلاء على رتبة ابن رائق ببغداد. وقد أنفذ له ابن
رائق عليّ بن خلف بن طبّاب ليسيروا إلى الأهواز ويخرجوا ابن بويه.
ويكون يحكم على الحرب وابن خلف على الخراج، فلم يلتفت يحكم لذلك
واستوزر عليّ بن خلف ويحكم في أحوال واسط. ولما رأى أبو الفتح الوزير
ببغداد إدبار الأحوال أطمع ابن رائق في مصر والشام، وقال: أنا أجبيهما
لك، وعقد بينه وبين ابن طغج صهرا. وسار أبو الفتح إلى الشام في ربيع
الآخر وشعر ابن رائق بمحاولة يحكم عليه، فبعث إلى ابن البريدي
بالاتّفاق على يحكم على أن يضمن ابن البريدي واسط بستمائة ألف، فنهض
يحكم إلى ابن البريدي قبل ابن رائق وسار إلى البصرة، فبعث إليه ابن
البريدي أبا جعفر الجمال في عشرة آلاف فهزمهم يحكم وارتاع ابن البريدي
لذلك، ولم يكن قصد يحكم إلا الألفة فقط، والتضرّع لابن رائق، فبعث إليه
بالمسالمة وأن يقلّده واسط إذا تم أمره، فاتفقا على ذلك وصرف نظره إلى
أمر بغداد.
وزارة ابن مقلة ونكبته
ولما انصرف أبو الفتح بن الفرات إلى الشام استوزر الراضي أبا عليّ بن
مقلة على سنن من قبله والأمر لابن رائق، وابن مقلة كالعارية. وكتب له
في أمواله وأملاكه فلم يردّها. فشرع في التدبير عليه، فكتب إلى ابن
رائق بواسط ووشمكير بالريّ يطمع كلّا منهما في مكانه، وكتب الراضي يشير
بالقبض على ابن رائق وأصحابه، واستدعى يحكم لمكانه وأنه يستخرج منهم
ثلاثة آلاف ألف دينار، فأطعمه الراضي على كره. فكتب هو إلى يحكم
يستحثّه وطلب من الراضي أن ينتقل إلى دار الخلافة حتى يتم الأمر فأذن
له وحضر متنكرا آخر ليلة من رمضان سنة ست وعشرين، فأمر الراضي باعتقاله
وأطلع ابن رائق من الغد على كتبه فشكر ذلك له ابن رائق، وأمر بابن مقلة
في منتصف شوال فقطع ثم عولج، وبريء وعاد إلى السعي في الوزارة والتظلّم
من ابن رائق والدعاء عليه، فأمر بقطع لسانه وحبسه إلى أن مات.
(3/503)
استيلاء يحكم على
بغداد
لم يزل يحكم يظهر التبعية لابن رائق ويكتب على أعلامه وتراسه يحكم
الرائقيّ إلى أن وصلته كتب ابن مقلة بأنّ الراضي قلّده إمرة الأمراء،
فطمع وكاشف ابن رائق ومحا نسبه إليه من أعلامه وسلاحه. وسار من واسط
إلى بغداد في ذي القعدة سنة ست وعشرين.
وكتب إليه الراضي بالرجوع فأبى، ووصل إلى نهر دبالي وأصاب ابن رائق في
غربيه فانهزموا وعبروا النهر سبحا. وسار ابن رائق إلى عكبرا، ودخل يحكم
بغداد منتصف ذي القعدة ولقي الراضي من الغد، وولّاه أمير الأمراء، وكتب
عن الراضي إلى القوّاد الذين مع ابن رائق بالرجوع عنه فرجعوا، وعاد ابن
رائق إلى بغداد فاختفى بها لسنة وأحد عشر شهرا من إمارته، ونزل يحكم
بدار مؤنس واستقر ببغداد متحكما في الدولة مستبدّا على الخليفة.
دخول آذربيجان في طاعة وشمكير
كان من عمّال وشمكير على أعمال الجبل السيكري [1] بن مردي، وكان مجاورا
لأعمال أذربيجان وعليها يومئذ ديسم بن إبراهيم الكردي من أصحاب ابن أبي
الساج، فحدّثت السيكري نفسه بالتغلّب عليها، فجمع وسار إليها. وخرج
إليه ديسم فانهزم فاستولى على سائر بلاده إلّا أردبيل وهي كرسي
أذربيجان، فحاصرها السيكري وضيّق حصارها، فراسلوا ديسم بالمثنى لقتال
السيكري من ورائه ففعل، وجاءه يوم قتالهم من خلف، فانهزم السيكري إلى
موقان فأعانه أصبهبذها ابن دوالة وسار معه نحو ديسم، فانهزم ديسم وقصد
وشمكير بالريّ واستمدّه على أن يدخل في طاعته ويضمن له مالا في كل سنة.
فأجابه وبعث معه العسكر وبعث أصحاب السيكري إلى وشمكير بأنهم على
الطاعة، وشعر بذلك السيكري فسار في خاصته إلى أرمينية واكتسح في
نواحيها. ثم سار إلى الزوزان من بلاد الأرمن، فاعترضوه وقتلوه ومن معه،
ورجع فلّهم وقد ولّوا عليهم سان بن السيكري، وقصدوا بلد طرم الأرمني
ليثأروا منهم بأصحابهم، فقاتلهم طرم وأثخن فيهم، وساروا إلى ناصر
الدولة بن حمدان وانحدر بعضهم إلى بغداد، وكان على المعادن بأذربيجان
__________
[1] السبكري وقد مرّ ذكره من قبل.
(3/504)
الحسين بن سعيد بن حمدان من قبل ابن عمّه
ناصر الدولة، فلما جاء إلى الموصل أصحاب السيكري مع ابنه بعثهم ابن
عمّه بأذربيجان لقتال ديسم، فلم تكن له به طاقة ورجع إلى الموصل
واستولى ديسم على أذربيجان في طاعة وشمكير.
ظهور ابن رائق ومسيره إلى الشام
وفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة سار يحكم إلى الموصل وديار ربيعة بسبب
أنّ ناصر الدولة بن حمدان أخّر المال الّذي عليه من ضمان البلاد، فأقام
الراضي بتكريت وسار يحكم، ولقيه ناصر الدولة على ستة فراسخ من الموصل،
فانهزم واتّبعه يحكم إلى نصيبين ثم إلى آمد، وكتب إلى الراضي بالفتح.
فسار من تكريت في الماء إلى الموصل، وفارقه جماعة من القرامطة كانوا في
عسكره، وكان ابن رائق يكاتبهم من مكان اكتفائه، فلما وصلوا بغداد خرج
ابن رائق إليهم واستولى، وطار الخبر إلى الراضي فأصعد من الماء وسار
إلى الموصل، وكتب إلى يحكم بذلك. فرجع عن نصيبين بعد أن استولى عليها،
وشرع أهل العسكر يتسلّلون إلى بغداد فأهمّ ذلك يحكم. ثم جاءت رسالة ابن
حمدان في الصلح وتعجيل خمسمائة ألف درهم، فأجابوه وقرّره ورجعوا إلى
بغداد، ولقيهم أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد رسولا عن ابن رائق في
الصلح على أن يقلّده الراضي طريق الفرات وديار مضر حرّان والرها وما
جاورها جندي قنّسرين والعواصم. فأجابه الراضي وقلّده وسار إلى ولايته
في ربيع الآخر. وكان يحكم قد استناب بعض قوّاد الأتراك على الأنبار
واسمه بالبان، وطلب تقليد طريق الفرات فقلّد وسار إلى الرحبة. ثم انتقض
وعاد لابن رائق وعصى على يحكم، فسار إليه غازيا بالرحبة على حين غفلة
لخمسة أيام من مسيره، فظفر به وأدخله بغداد على جمل وحبسه وكان آخر
العهد به.
وزارة ابن البريدي
قد تقدّم لنا مسير الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات إلى
الشام، ولمّا سار استناب بالحضرة عبد الله بن عليّ البصريّ، وكان يحكم
قد قبض على وزيره خلف ابن طبّاب، واستوزر أبا جعفر محمد بن يحيى بن
شيرازاد، فسعى في وزارة ابن البريدي ليحكم حتى تمّ ذلك. ثم ضمن ابن
البريدي أعمال واسط بستمائة ألف دينار كل سنة. ثم جاء الخبر بموت أبي
الفتح بن الفرات بالرملة، فسعى أبو جعفر
(3/505)
ابن شيرزاد في وزارة أبي عبد الله للخليفة،
فعقد له الراضي بذلك واستخلف بالحضرة عبد الله بن عليّ البصري كما كان
مع أبي الفتح.
مسير ركن الدولة إلى واسط ورجوعه عنها
لما استقرّ ابن البريدي بواسط بعث جيشا إلى السوس وبها أبو جعفر
الظهيري وزير معزّ الدولة أحمد بن بويه ومعزّ الدولة بالأهواز. فتحصّن
أبو جعفر بقلعة السوس، وعاث الجيش في نواحيها وكتب معزّ الدولة إلى
أخيه ركن الدولة وهو على إصطخر قد جاء من أصبهان لمّا غلبه وشمكير
عليها. فلمّا جاء كتاب أخيه معز الدولة سار محمد إلى السوس وقد رجع عنه
جيش ابن البريدي. ثم سار إلى واسط يحاول ملكها فنزل في جانبها الشرقي،
وابن البريدي في الجانب الغربي، واضطرب عسكر ابن بويه واستأمن جماعة
منهم إلى ابن البريدي. ثم سار الراضي ويحكم من بغداد إلى واسط للإمداد،
فرجع ركن الدولة إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز. وبلغه أن وشمكير قد أنفذ
عسكره مددا لما كان بن كالي وأنّ أصبهان خالية، فسار إليها من رامهرمز
وأخرج من بقي منها من أصحاب وشمكير وملكها فاستقرّ بها.
مسير يحكم إلى بلد الجبل وعوده إلى واسط
واستيلاؤه عليها
كان يحكم قد أرسل ابن البريدي وصاهره واتفقا على أن يسير يحكم إلى بلاد
الجبل لفتحها من يد وشمكير، وأبو عبد الله بن البريدي إلى الأهواز
لأخذها من يد معزّ الدولة ابن بويه، فسار يحكم إلى حلوان وبعث إليه ابن
البريدي بخمسمائة رجل مددا. وبعث يحكم بعض أصحابه إلى ابن البريدي
يستحثّه إلى السوس والأهواز، فأقام يماطله ويدافعه ويبيّن له أنّه يريد
مخالفة يحكم إلى بغداد. فكتب إليه بذلك فرجع عن قصده إلى بغداد، وعزل
ابن البريدي من الوزارة، وولّى مكانه أبا القاسم بن سليمان بن الحسين
بن مخلّد، وقبض على ابن شيرزاد الّذي كان ساعيا له، وتجهّز إلى واسط
وانحدر في الماء آخر ذي الحجّة سنة ثمان وعشرين. وبعث عسكرا في البرّ،
وبلغ الخبر ابن البريدي فسار عن واسط إلى البصرة واستولى عليها يحكم
وملكها.
(3/506)
استيلاء ابن رائق
على الشام
قد تقدّم لنا مسير ابن رائق إلى ديار مضر وثغور قنّسرين والعواصم فلما
استقرّ بها حدّثته نفسه بملك الشام فسار إلى حمص فملكها ثم سار إلى
دمشق وبها بدر بن عبد الله الإخشيدي ويلقّب بدير، فملكها من يده. ثم
سار إلى الرملة ومنها إلى عريش مصر يريد ملك الديار المصرية، ولقيه
الإخشيد محمد بن طغج وانهزم أوّلا وملك أصحاب ابن رائق خيامه. ثم خرج
كمين الإخشيد فانهزم ابن رائق إلى دمشق وبعث الإخشيد في أثره أخاه أبا
نصر بن طغج، وسار إليهم ابن رائق من دمشق فهزمهم وقتل أبو نصر، فكفّنه
ابن رائق وحمله مع ابنه مزاحم إلى أخيه الإخشيد بمصر. وكتب يعزّيه
ويعتذر فأكرم الإخشيد مزاحما، واصطلح مع أبيه على أن تكون مصر للإخشيد
من حد الرملة وما وراءها من الشام لابن رائق ويعطى الإخشيد عن الرملة
في كل سنة مائة وأربعين ألف دينار.
الصوائف أيام الراضي
وفي سنة اثنتين وعشرين سار الدمستق إلى سميساط في خمسين ألفا من الروم،
ونازل ملطية وحاصرها مدة طويلة حتى فتحها بالأمان، وبعثهم إلى مأمنهم
مع بطريق من بطارقته. وتنصّر الكثير منهم محبّة في أهليهم وأموالهم. ثم
افتتحوا سميساط وخرّبوا أعمالها وأفحشوا في أسطوله في البحر. ففتحوا
بلد جنوة ومروا بسردانية فأوقعوا بأهلها، ثم مروا بقرقيسياء من ساحل
الشام فأحرقوا مراكبها، وعادوا سالمين.
وفي سنة ست وعشرين كان الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعدة على يد
ابن ورقاء الشيبانيّ البريدي في ستة آلاف وثلاثمائة أسير.
الولايات أيام الراضي والقاهر قبله
قد تقدّم لنا أنه لم يبق من الأعمال في تصريف الخلافة لهذا العهد إلا
أعمال الأهواز والبصرة وواسط والجزيرة، وذكرنا استيلاء بني بويه على
فارس وأصبهان، ووشمكير على بلاد الجبل، وابن البريدي على البصرة، وابن
رائق على واسط، وأن عماد الدولة بن بويه على فارس، وركن الدولة أخوه
يتنازع مع وشمكير على أصبهان
(3/507)
وهمذان وقمّ وقاشان والكرج والريّ وقزوين.
واستولى معزّ الدولة أخوهما على الأهواز وعلى كرمان واستولى ابن
البريدي على واسط وسار ابن رائق إلى الشام فاستولى عليها.
وفي سنة ثلاث وعشرين قلّد الراضي ابنيه أبا جعفر وأبا الفضل ناحية
المشرق والمغرب. وفي سنة إحدى وعشرين ورد الخبر بوفاة تكين الخاصكي
بمصر وكان أميرا عليها، وولّى القاهر مكانه ابنه محمدا وثار به الجند،
فظفر بهم. وفيها وقعت الفتنة بين بني ثعلب وبني أسد ومعهم طيِّئ، وركب
ناصر الدولة الحسن بن عبد الله ابن حمدان ومعه أبو الأعزّ بن سعيد بن
حمدان ليصلح بينهم، فوقعت ملاحاة قتل فيها أبو الأعز على يد رجل من
ثعلب، فحمل عليهم ناصر الدولة واستباحهم إلى الحديثة. فلقيهم يأنس غلام
مؤنس واليا على الموصل، فانضم إليه بنو ثعلب وبنو أسد وعادوا إلى ديار
ربيعة. وفي سنة أربع وعشرين قلّد الراضي محمد بن طغج أعمال مصر مضافا
إلى ما بيده من الشام وعزل عنها أحمد بن كيغلغ.
وفاة الراضي وبيعة المتقي
وفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة توفي الراضي أبو العبّاس أحمد بن المقتدر
في ربيع الأوّل منها لسبع سنين غير شهر من خلافته. ولما مات أحضر يحكم
ندماءه وجلساءه لينتفع بما عندهم من الحكمة فلم يفهم عنهم لعجمته. وكان
آخر خليفة خطب على المنبر وان خطب غيره فنادر. وآخر خليفة جالس السّمر
وواصل الندماء. ودولته آخر دول الخلفاء في ترتيب النفقات والجوائز
والجرايات والمطابخ والخدم والحجّاب، وكان يحكم يوم وفاته غائبا بواسط
حين ملكها من يد ابن البريدي، فانتظر في الأمور وصول مراسمه، فورد
كتابه مع كتابه أبي عبد الله الكوفيّ يأمر فيه باجتماع الوزراء وأصحاب
الدواوين والقضاة والعلويّين والعبّاسيين ووجوه البلد عند الوزير أبي
القاسم سليمان بن الحسن، ويشاورهم الكوفيّ فيمن ينصّب للخلافة ممن
يرتضي مذهبه وطريقه، فاجتمعوا وذكروا إبراهيم بن المقتدر، واتّفقوا
عليه وأحضروه من الغد وبايعوا له آخر ربيع الأوّل من سنة تسع وعشرين.
وعرضت عليه الألقاب فاختار المتقي للَّه وأقرّ سليمان على وزارته كما
كان، والتدبير كله للكوفيّ كاتب يحكم، وولّى سلامة الطولوني على
الحجبة.
(3/508)
مقتل يحكم
كان أبو عبد الله البريدي بعد هربه إلى البصرة من واسط أنفذ جيشا إلى
المدار، فبعث إلى لقائهم جيشا من واسط عليهم توزون انتخب له الكرة،
فظفر بجيش ابن البريدي ولقي يحكم خبره في الطريق فسرّ بذلك، وذهب
يتصيّد فبلغ نهر جور، وعثر في طريقه ببعض الأكراد فشره [1] لغزوهم،
وقصدهم في خفّ من أصحابه وهربوا بين يديه وهو يرشقهم بسهامه، وجاءه
غلام منهم من خلفه فطعنه فقتله. واختلف عسكره فمضى الديلم فكانوا ألفا
وخمسمائة إلى ابن البريدي، وقد كان عزم على الهرب من البصرة، فبعث
لقدومهم وضاعف أرزاقهم وأدرّها عليهم، وذهب الأتراك إلى واسط وأطلقوا
بكتيك [2] من حبسه وولّوه عليهم، فسار بهم إلى بغداد في خدمة المتقي
وحصر ما كان في دار يحكم من الأموال والدواوين فكانت ألف ألف ومائة ألف
دينار ومدّة إمارته سنتان وثمانية أشهر.
امارة البريدي ببغداد وعوده إلى واسط
لما قتل يحكم قدّم الديلم عليهم بكشوار بن ملك بن مسافر [3] ومسافر هو
ابن سلا وصاحب الطرم الّذي ملك ولده بعده أذربيجان، وقاتلهم الأتراك
فقتلوه، فقدّم الديلم عليهم مكانه كورتين منهم. وقدّم الأتراك عليهم
بكتيك مولى يحكم، وانحدر الديلم إلى أبي عبد الله بن البريدي فقوي بهم،
وأصعدوا إلى واسط. وأرسل المتّقي إليهم مائة وخمسين ألف دينار على أن
يرجعوا عنها. ثم قسّم في الأتراك في أجناد بغداد أربعمائة ألف دينار من
مال يحكم. وقدّم عليهم سلامة الطولوني وبرز بهم المتّقي إلى نهر دبالي
[4] آخر شعبان سنة ست وعشرين. وسار ابن البريدي من واسط فأشفق أتراك
يحكم، ولحق بعضهم بابن البريدي، وسار آخرون إلى الموصل منهم توزون
وجحجح. واختفى سلامة الطولوني. وأبو عبد الله الكوفيّ، ودخل أبو عبد
الله البريدي بغداد أوّل رمضان ونزل بالشفيعي ولقيه الوزير أبو الحسين
بن ميمون
__________
[1] الأصح: شرهت نفسه لغزوهم.
[2] تكينك: ابن الأثير ج 8 ص 371.
[3] بلسواز بن مالك بن مسافر المرجع السابق ص 372 وفي تجارب الأمم
بلسوار.
[4] نهر ديالى: ابن الأثير ج 8 ص 373.
(3/509)
والكتّاب والقضاة وأعيان الناس، وبعث إليه
المتّقى بالتهنئة والطعام، وكان يخاطب بالوزير. ثم قبض على الوزير أبي
الحسين لشهرين من وزارته وحبسه بالبصرة وطلب من المتّقي خمسمائة ألف
دينار للجند، وهدّده بما وقع للمعتزّ والمستعين والمهتدي، فبعث بها
إليه ولم يلقه مدّة مقامه ببغداد. ولمّا وصله المال من المتّقي شغب
الجند عليه في طلبه وجاء الديلم إلى دار لأخيه أبي الحسين، ثم انضم
إليهم الترك، وقصدوا دار أبي عبد الله، فقطع الجسر ووثب العامّة على
أصحابه، وهرب هو وأخوه وابنه أبو القاسم وأصحابهم، وانحدروا إلى واسط
وذلك سلخ رمضان لأربعة وعشرين يوما من قدومه.
امارة كورتكين الديلميّ
ولما هرب ابن البريدي استولى كورتكين على الأمور ببغداد ودخل إلى
المتقي، فقلّده إمارة الأمراء، وأحضر عليّ بن عيسى وأخاه عبد الرحمن
فدبّر الأمور ولم يسمّهما بوزارة واستوزر أبا إسحاق محمد بن أحمد
الإسكافي القراريطي، وولّى على الحجبة بدرا الجواشيني. ثم قبض كورتكين
على بكتيك مقدّم الأتراك خامس شوّال، وغرّقه واقتتل الأتراك والديلم
وقتل بينهما خلق، وانفرد كورتكين بالأمر وقبض على الوزير أبي إسحاق
القراريطي لشهر ونصف من وزارته، وولّى مكانه أبا جعفر محمد بن القاسم
الكرخيّ.
عود ابن رائق إلى بغداد
قد تقدّم لنا أن جماعة من أتراك يحكم لما انفضوا عن المتّقي ساروا إلى
الموصل، ثم ساروا منها إلى ابن رائق بالشام، وكان من قوّادهم توزون
وجحجح وكورتكين وصيقوان [1] فأطمعوه في بغداد. ثم جاءته كتب المتّقي
يستدعيه، فسار آخر رمضان واستخلف بالشام أبا الحسن أحمد بن عليّ بن
مقاتل وتنحّى ناصر الدولة بن حمدان على طريقه. ثم حمل إليه مائة ألف
دينار وصالحه، وبلغ الخبر إلى أبي عبد الله بن البريدي، فبعث إخوته إلى
واسط وأخرج الديلم عنها وخطبوا له بها. وخرج
__________
[1] هناك بعض الاختلاف والتحريف في الأسماء وفي الكامل ج 8 ص 375:
«توزون وخجخج ونوشتكين وصيغون» .
(3/510)
كورتكين عن بغداد إلى عكبرا فقاتله ابن
رائق أياما ثم أسرى له ليلة عرفة فأصبح ببغداد من الجانب الغربيّ ولقي
الخليفة وركب معه في دجلة، ووصل كورتكين آخر النهار فركب ابن رائق
لقتاله وهو مرجل، واعتزم على العود إلى الشام [1] ، ثم طائفة من عسكره
ليعبروا دجلة ويأتوا من ورائهم، وصاحت العامّة مع ابن رائق بكورتكين
وأصحابه ورجموهم، فانهزموا واستأمن منهم نحو أربعمائة فقتلوا وقتل
قوّاده، وخلع المتّقي على ابن رائق وولّاه أمير الأمراء، وعزل الوزير
أبا جعفر الكرخيّ لشهر من ولايته، وولّى مكانه أحمد الكوفيّ وظفر
بكورتكين فحبسه بدار الخلافة.
وزارة ابن البريدي واستيلاؤه على بغداد وفرار المتقي الى الموصل
لما استقرّ ابن رائق في إمارة الأمراء بدمشق ببغداد أخّر ابن البريدي
حمل المال من واسط، فانحدر إليه في العساكر في عاشوراء من سنة ثلاثين،
وهرب بنو البريدي إلى البصرة. ثم سعى أبو عبد الله الكوفيّ بينهم وبين
ابن رائق، وضمن واسط بستمائة ألف دينار وبقاياها بمائتي ألف. ورجع ابن
رائق إلى بغداد فشغبت عليه الجند، وفيهم تورون وأصحابه. ثم انفضوا آخر
ربيع إلى أبي عبد الله بواسط، فقوي بهم وذهب ابن رائق إلى مداراته،
فكاتبه بالوزارة واستخلف عليها أبا عبد الله بن شيرزاد. ثم انتقض
واعتزم على المسير إلى بغداد في جميع الأتراك والديلم. وعزم ابن رائق
على التحصّن بدار الخلافة، ونصب عليها المجانيق والعرّادات، وجنّد
العامّة، فوقع الهرج، وخرج بالمتّقي إلى نهر دبالي منتصف جمادى الآخرة.
وأتاهم أبو الحسين في الماء والبرّ فهزمهم ودخل دار الخلافة، وهرب
المتّقي وابنه أبو منصور وابن رائق إلى الموصل لستة أشهر من إمارته.
واختفى الوزير القراريطي ونهبت دار الخليفة، ودور الحرم، وعظم الهرج،
وأخذ كورتكين من محبسه فأنفذ إلى واسط، ولم يتعرّضوا للقاهر. وكان نزل
أبو الحسن بدار الخلافة وجعل توزون على الشرطة بالجانب الغربيّ، وأخذ
رهائن القوّاد توزون وغيره وبعث بنسائهم وأولادهم إلى
__________
[1] يبدو هنا انه حذفت عبارة أثناء النسخ وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص
376: «ثم انه عزم ان يناوشهم شيئا من قتال قبل مسيره فأمر طائفة من
عسكره ان يعبروا دجلة ... »
(3/511)
أخيه عبد الله بواسط. وعظم النهب ببغداد
وترك دورهم وفرضت المكوس في الأسواق خمسة دنانير على الكرّ فغلت
الأسعار، وانتهى إلى ثلاثمائة دينار الكرّ، وجاءت ميرة من الكوفة وأخذت
فقيل إنها لعامل الكوفة، وأخذها عامل بغداد وكان معه جماعة من القرامطة
فقاتلهم الأتراك وهزموهم، ووقعت الحرب بين العامّة والديلم فقتل خلق من
العامة، واختفى العمّال لمطاولة الجند إلى الضواحي ينتهبون الزرع
بسنبله عند حصاده، وساءت أحوال بغداد وكثرت نقمات الله فيهم.
مقتل ابن رائق وولاية ابن حمدان مكانه
كان المتّقي قد بعث إلى ناصر الدولة بن حمدان يستمدّه على ابن البريدي
عند ما قصد بغداد، فأمدّه بعسكر مع أخيه سيف الدولة، فلقيه بتكريت
منهزما ورجع معه إلى الموصل. وخرج ناصر الدولة عن الموصل حتى حلف له
ابن رائق واتفقا، فجاء وتركه شرقي دجلة وعبر إليه أبو منصور المتّقي
وابن رائق فبالغ في تكرمتهما. فلما ركب ابن المتّقي قال لابن رائق: أقم
نتحدّث في رأينا فذهبا إلى الاعتذار، وألحّ عليه ناصر الدولة فاستراب
وجذب يده وقصد الركوب، فسقط فأمر ناصر الدولة بقتله وإلقائه في دجلة،
وبعث إلى المتّقي بالعذر وأحسن القول، وركب إليه فولّاه أمير الأمراء
ولقّبه ناصر الدولة وذلك مستهل شعبان من سنة ثلاثين، وخلع على أخيه أبي
الحسن ولقّبه بسيف الدولة، فلمّا قتل ابن رائق سار الإخشيد من مصر إلى
دمشق وبها محمد بن يزداد من قبل ابن رائق فاستأمن إليه وملك الإخشيد
دمشق وأقر ابن يزداد عليها ثم نقله إلى شرطة مصر.
عود المتّقي إلى بغداد وفرار البريدي
لما استولى أبو الحسين البريدي على بغداد وأساء السيرة كما مرّ، امتلأت
القلوب منه نفرة، فلما قتل ابن رائق أخذ الجند في الفرار عنه والانتقاض
عليه، ففرّ جحجح إلى المتّقي واعتزم تورون وأنوش تكين والأتراك على كبس
أبي الحسين البريدي. وزحف تورون لذلك في الديلم فخالفه أنوش تكين في
الأتراك فذهب تورون إلى الموصل فقوي بهم ابن حمدان والمتّقي وانحدروا
إلى بغداد، وولّى ابن حمدان على أعمال الخراج والضياع بديار مضر، وهي
الرها وحرّان. ولقيا أبا الحسن أحمد بن عليّ بن
(3/512)
مقاتل، فاقتتلوا وقتل ابن مقاتل واستولى
ابن طبّاب عليها. ولمّا وصل المتّقي وابن حمدان إلى بغداد هرب أبو
الحسين ابن البريدي منها إلى واسط لثلاثة أشهر وعشرين يوما من دخوله،
واضطربت العامّة وكثر النهب ودخل المتّقي وابن حمدان في العساكر في
شوّال من السنة. وأعاد أبا إسحاق القراريطي إلى الوزارة، وولّى توزون
على الشرطة. ثم سار إليهم أبو الحسين البريدي، فخرج بنو حمدان للقائهم
وانتهوا إلى المدائن، فأقام بها ناصر الدولة، وبعث أخاه سيف الدولة
وابن عمّه أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، فاقتتلوا عنده أياما،
وانهزم سيف الدولة أوّلا، ثم أمدّهم ناصر الدولة بالقوّاد الذين كانوا
معه وجحجح بالأتراك، وعاودوا القتال فانهزم أبو الحسين إلى واسط، وأقصر
سيف الدولة عن اتباعه لما أصاب أصحابه من الوهن والجراح. وعاد ناصر
الدولة إلى بغداد منتصف ذي الحجة. ثم سار سيف الدولة إلى واسط وهرب بنو
البريدي عنها إلى البصرة فملكها وأقام بها.
استيلاء الديلم على أذربيجان
كانت أذربيجان بيد ديسم بن إبراهيم الكردي من أصحاب يوسف بن أبي الساج،
وكان أبوه من أصحاب هارون الشاري من الخوارج. ولما قتل هارون لحق
بأذربيجان وشرّد في الأكراد فولد له ديسم هذا فكبر وخدم ابن أبي الساج،
وتقدّم عنده إلى أن ملك بعدهم أذربيجان. وجاء السيكري خليفة وشمكير في
الجبل سنة ست وعشرين وغلبه على أذربيجان. ثم سار هو إلى وشمكير وضمن له
طاعة ومالا، واستمدّه فأمدّه بعسكر من الديلم وساروا معه، فغلب السيكري
وطرده وملك البلاد، وكان معظم جيشه الأكراد فتغلّبوا على بعض قلاعه
فاستكثر من الديلم وفيهم صعلوك بن محمد بن مسافر بن الفضل وغيرهما [1]
. فاستظهر بهم وانتزع من الأكراد ما تغلّبوا عليه، وقبض على جماعة من
رؤسائهم. وكان وزيره أبو القاسم عليّ ابن جعفر قد ارتاب منه، فهرب إلى
الطرم وبها محمد بن مسافر من أمراء الديلم وقد انتقض عليه ابناه
وهشودان والمرزبان واستوليا على بعض قلاعه، ثم قبض على أبيهما محمد
وانتزعا أمواله وذخائره وتركاه في حصنه سليبا فريدا، فقصد عليّ بن جعفر
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 386: «وفيهم صعلوك بن
محمد بن مسافر وعلي بن الفضل وغيرهما» .
(3/513)
المرزبان وأطمعه في أذربيجان، فقلّده
وزارته وكانت نحلتهما في التشيّع واحدة، لأنّ عليّ بن جعفر كان من
الباطنيّة والمرزبان من الديلم وهم شيعة. وكاتب عليّ بن جعفر أصحاب
ديسم واستمالهم واستفسدهم عليه وخصوصا الديلم، ثم التفتوا للحرب وجاء
الديلم إلى المرزبان واستأمن معهم كثير من الأكراد، وهرب ديسم في فلّ
من أصحابه إلى أرمينية واستجار بجاحق بن الديوانيّ فأجاره وأكرمه، وندم
على ما فرّط في إبعاد الأكراد وهم على مذهبه في الخارجيّة. وملك
المرزبان أذربيجان واستولى عليها. ثم استوحش منه عليّ بن جعفر وزير
ديسم وتنكّر له أصحاب المرزبان، فأطمعه المرزبان فأخذ أموالهم وحملهم
على طاعة ديسم، وقتل الديلم عندهم من جند المرزبان ففعلوا. وجاء ديسم
فملكها وفرّ إليه من كان عند المرزبان حتى اشتدّ عليه الحصار، واستصلح
أثناء ذلك الوزير عليّ بن جعفر، ثم خرجوا من توزير [1] ، ولحق ديسم
بأردبيل، وجاء عليّ بن جعفر إلى المرزبان. ثم حاصر المرزبان أردبيل حتى
نزل له ديسم على الأمان وملكها صلحا. وملك توزير كذلك، ووفّى له، ثم
طلب ديسم أن يبعثه إلى قلعته بالطرم فبعثه بأهله وولده وأقام هنالك.
خبر سيف الدولة بواسط
لما فرّ بنو البريدي عن واسط إلى البصرة ونزل بها سيف الدولة أراد
الانحدار خلفهم لانتزاع البصرة منهم، واستمدّ أخاه ناصر الدولة فأمدّه
بمال مع أبي عبد الله الكوفيّ، وكان تورون وجحجح يستطيلان عليه، فأراد
الاستئثار بالمال فردّه سيف الدولة مع الكوفيّ إلى أخيه، وأذن لتورون
في مال الجامدة ولجحجح في مال المدار.
وكان من قبل يراسل الأتراك وملك الشام ومصر معه فلا يجيبونه. ثم ثاروا
عليه في شعبان من سنة إحدى وثلاثين، فهرب من معسكره ونهب سواده وقتل
جماعة من أصحابه. وكان ناصر الدولة لما أخبره أبو عبد الله الكوفي بخبر
أخيه في واسط، برز يسير إلى الموصل، وركب إليه المتّقي يستمهله، فوقف
حتى عاد وأغذّ السير لثلاثة عشر شهرا من إمارته، فثار الديلم والأتراك
ونهبوا داره، ودبّر الأمور أبو إسحاق القراريطي من غير لقب الوزارة.
وعزل أبو العبّاس الأصبهاني لأحد وخمسين يوما من وزارته، ثم تنازع
الإمارة بواسط بعد سيف الدولة تورون وجحجح، واستقرّ الحال
__________
[1] تبريز: ابن الأثير ج 8 ص 387.
(3/514)
أن يكون تورون أميرا وجحجح صاحب الجيش. ثم
طمع ابن البريدي في واسط وأصعد إليها وطلب من تورون أن يضمّنه إيّاها،
فردّه ردّا جميلا. وكان قد سار جحجح لمدافعته فمرّ به الرسول في طريقه
وحادثة طويلا، وسعى إلى تورون بأنه لحق بابن البريدي فأسرى إليه وكبسه
منتصف رمضان، فقبض عليه وجاء به إلى واسط فسمله، وبلغ الخبر إلى سيف
الدولة وكان لحق بأخيه، فعاد إلى بغداد منتصف رمضان، وطلب المال من
المتّقي لمدافعة تورون، فبعث أربعمائة ألف درهم وفرّقها في أصحابه وظهر
له من كان مستخفيا ببغداد وجاء تورون من واسط بعد أن خلّف بها كيغلغ.
فلمّا أحس به سيف الدولة رحل فيمن انضم إليه من أجناد واسط وفيهم الحسن
بن هارون، وسار إلى الموصل ولم يعاود بنو حمدان بعدها بغداد.
امارة تورون ثم وحشته مع المتقي
لما سار سيف الدولة عن بغداد دخلها تورون آخر رمضان سنة إحدى وثلاثين،
فولّاه المتّقي أمير الأمراء، وجعل النظر في الوزارة لأبي جعفر الكرخيّ
كما كان الكوفيّ.
ولما سار تورون عن واسط خالفه إليها البريدي فملكها. ثم انحدر تورون
أوّل ذي القعدة لقتل البريدي، وقد كان يوسف بن وجيه صاحب عمان سار في
المراكب إلى البصرة، وحارب ابن البريدي حتى أشرفوا على الهلاك. ثم
احترقت مراكب عمان بحيلة دبّرها بعض الملّاحين ونهب منها مال عظيم.
ورجع يوسف بن وجيه مهزوما في المحرّم سنة اثنتين وثلاثين، وهرب في هذه
الفتنة أبو جعفر بن شيرزاد من تورون فاشتمل عليه، وكان تورون عند
إصعاده من بغداد استخلف مكانه محمد بن ينال الترجمان. ثم تنكّر فارتاب
محمد، وارتاب الوزير أبو الحسن بن مقلة بمكان ابن شيرزاد من تورون
وخافا غائلته وخوّفا المتّقي كذلك، وأوهماه أنّ البريدي ضمنه من تورون
بخمسمائة ألف دينار التي أخذها من تركة يحكم، وأنّ ابن شيرزاد جاء عن
البريدي ليخلفه ويسلّمه، فانزعج لذلك وعزم على المسير إلى ابن حمدان،
وكتبوا إليه أن ينفذ عسكرا يسير صحبته.
مسير المتقي إلى الموصل
ولما تمت سعاية ابن مقلة وابن ينال بتورون مع المتّقي اتّفق وصول ابن
شيرزاد إلى بغداد أوّل اثنتين وثلاثين في ثلاثمائة فارس، وأقام بدست
الأمر والنهي لا يعرج على
(3/515)
المتّقي في شيء. وكان المتّقي قد طلب من
ناصر الدولة بن حمدان عسكرا يصحبه إلى الموصل، فبعثهم ابن عمّه ابو عبد
الله الحسين بن سعيد بن حمدان، فلمّا وصلوا بغداد اختفى ابن شيرزاد
وخرج المتّقي إليهم في حرمه وولده، ومعه وزيره وأعيان دولته مثل سلامة
الطولوني وأبي زكريا يحيى بن سعيد السوسي وأبي محمد المارداني وأبي
إسحاق القراريطي وأبي عبد الله الموسوي وثابت بن سنان بن ثابت بن قرّة
الطبيب، وأبي نصر بن محمد بن ينال الترجمان. وساروا إلى تكريت وظهر ابن
شيرزاد في بغداد، وظلم الناس وصادرهم، وبعث إلى تورون في واسط بخبر
المتّقي، فعقد ضمان واسط على ابن البريدي، وزوّجه ابنته، وسار إلى
بغداد. وجاء سيف الدولة إلى المتّقي بتكريت. ثم بعث المتّقي إلى ناصر
الدولة يستحثّه، فوصل اليه في ربيع الآخر، وركب المتّقي من تكريت إلى
الموصل، وأقام هو بتكريت. وسار تورون لحربه فتقدّم إليه أخوه سيف
الدولة فاقتتلوا أياما. ثم انهزم سيف الدولة وغنم تورون سواده وسواد
أخيه، ولحقوا بالموصل وتورون في اتّباعهم. ثم ساروا عنها مع المتّقي
إلى نصيبين، ودخل تورون الموصل ولحق المتّقي بالرقّة، وراسل تورون بأنّ
وحشته لأجل ابن البريدي، وأنّ رضاه في إصلاح بني حمدان، فصالحهما تورون
وعقد الضمان لناصر الدولة على ما بيده من البلاد لثلاث سنين بثلاثة
آلاف وستمائة ألف درهم لكل سنة، وعاد تورون إلى بغداد وأقام المتّقي
وبنو حمدان بالرقّة.
مسير ابن بويه الى واسط وعوده عنها ثم استيلاؤه عليها
كان معزّ الدولة بن بويه بالأهواز، وكان ابن البريدي يطمعه في كل وقت
في ملك العراق، وكان قد وعده أن يمدّه واسط. فلمّا أصعد تورون إلى
الموصل خالفه معزّ الدولة إلى واسط وأخلف ابن البريدي وعده في المدد.
وعاد تورون من الموصل إلى بغداد، وانحدر منها للقاء معزّ الدولة منتصف
ذي القعدة من سنة اثنتين وثلاثين، واقتتلوا بقباب حميد بضعة عشر يوما.
ثم تأخر تورون إلى نهر ديالى فعبره ومنع الديلم من عبوره بمن كان معه
من المقاتلة في الماء، وذهب ابن بويه ليصعد ويتمكن من الماء، فبعث
تورون بعض أصحابه فعبروا ديالى وكمنوا له حتى إذا صار مصعدا خرجوا عليه
على غير أهبه، فانهزم هو ووزيره الصهيري [1] وأسر منهم أربعة عشر
__________
[1] الصيمري وقد مرّ ذكره من قبل راجع ابن الأثير ج 8 ص 408.
(3/516)
قائدا واستأمن كثير من الديلم إلى تورون،
ولحق ابن بويه والصهيري بالسوس. ثم عاد إلى واسط ثانية فملكها ولحق
أصحاب بني البريدي بالبصرة.
قتل ابن البريدي أخاه ثم وفاته
كان أبو عبد الله بن البريدي قد استهلك أمواله في هذه النوائب التي
تنوبه، واستقرض من أخيه أبي يوسف مرّة بعد مرّة، وكان أثرى منه ومال
الجند إليه لثروته. وكان يعيب على أخيه تبذيره وسوء تدبيره. ثم نمي
الخبر إليه أنه يريد المكر به، والاستبداد بالأمر. وتنكّر كل واحد
منهما للآخر، ثم أكمن أبو عبد الله غلمانه في طريق أبي يوسف فقتلوه،
وشغب الجند لذلك فأراهم شلوه فافترقوا، ودخل دار أخيه وأخذ ما فيها من
الأموال، وجواهر نفيسة كان باعها له بخمسين ألف درهم، وكان أصلها ليحكم
وهبها لبنته حين زوّجها له، وأخذ يحكم من دار الخلافة، فاحتاج إليها
أبو عبد الله بعد فباعها له وبخسه أبو يوسف في قيمتها. وكان ذلك من
دواعي العداوة بينهما. ثم هلك أبو عبد الله بعد مهلك أخيه بثمانية
أشهر، وقام بالأمر بعده بالبصرة أخوهما أبو الحسن، فأساء السيرة في
الجند فثاروا به ليقتلوه، فهرب منهم إلى هجر مستجيرا بالقرامطة، وولّوا
عليهم بالبصرة أبا القاسم ابن أخيه أبي عبد الله، وأمدّ أبو طاهر
القرمطيّ أبا الحسن، وبعث معه أخويه لحصار البصرة فامتنعت عليهم،
وأصلحوا بين أبي القاسم وعمّه، ودخل البصرة وسار منها إلى تورون
ببغداد. ثم طمع يأنس مولى أبي عبد الله في الرئاسة وداخل بعض قوّاد
الديلم في الثورة بأبي القاسم، واجتمع الديلم إلى القائد وبعث أبو
القاسم وليه يأنس فهمّ به ليفرد بالأمر، فهرب يأنس واختفى وتفرّق
الديلم واختفى القائد. ثم قبض عليه ونفاه وقبض على يأنس بعد أيام
وصادره على مائة ألف دينار، وقتله. ولما قدم أبو الحسين البريدي إلى
بغداد مستأمنا إلى تورون فأمّنه وطلب الإمداد على ابن أخيه، وبذل في
ذلك أموالا. ثم بعث ابن أخيه من البصرة بالأموال فأقرّه على عمله وشعر
أبو الحسن بذلك فسعى عند ابن تورون في ابن شيرزاد إلى أن قبض عليه،
وضرب واستظهر أبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي بفتاوى الفقهاء والقضاة
بإباحة دم أبي الحسين، كانت عنده من أيام ناصر الدولة، وأحضروا بدار
المتّقي وسئلوا عن فتاويهم، فاعترفوا بأنهم أفتوا بها، فقتل وصلب ثم
أحرق ونهب داره. وكان ذلك منتصف ذي الحجة من السنة، وكان ذلك آخر أمر
البريديين.
(3/517)
الصوائف أيام المتّقي
خرج الروم سنة ثلاثين أيّام المتّقي وانتهوا إلى قرب حلب فعاثوا في
البلاد وبلغ سبيهم خمسة آلاف. وفيها دخل ثمل من ناحية طرسوس فعاث في
بلاد الروم، وامتلأت أيدي عسكره من الغنائم، وأسر عدّة من بطارقتهم.
وفي سنة إحدى وثلاثين بعث ملك الروم إلى المتّقي يطلب منه منديلا في
بيعة الرّها زعموا أنّ المسيح مسح به وجهه، فارتسمت فيه صورته، وأنه
يطلق فيه عددا كثيرا من أسرى المسلمين، واختلف الفقهاء والقضاة في
إسعافه بذلك، وفيه غضاضة أو منعه ويبقى المسلمون بحال الأسر. فأشار
عليه عليّ ابن عيسى بإسعافه لخلاص المسلمين، فأمر المتّقي بتسليمه
إليهم. وبعث إلى ملك الروم من يقوم بتسليم الأسرى. وفي سنة اثنتين
وثلاثين خرجت طوارق من الروس [1] في البحر إلى نواحي أذربيجان، ودخلوا
في نهر اللكز إلى بردعة. وبها نائب المرزبان ابن محمد بن مسافر ملك
الديلم بأذربيجان، فخرج في جموع الديلم والمطوعة فقتلوهم، وقاتلوهم
فهزموهم الروس وملكوا البلد، وجاءت العساكر الإسلامية من كل ناحية
لقتالهم فامتنعوا بها، ورماهم بعض العامّة بالحجارة فأخرجوهم من البلد
وقاتلوا من بقي، وغنموا أموالهم واستبدّوا بأولادهم ونساءهم. واستنفر
المرزبان الناس وزحف إليهم في ثلاثين ألفا، فقاتلوهم فامتنعوا عليه
فأكمن لهم بعض الأيام فهزمهم وقتل أميرهم، ونجا الباقون إلى حصن البلد،
وحاصرهم المرزبان وصابرهم. ثم جاءه الخبر بأنّ أبا عبد الله الحسين بن
سعيد بن حمدان بلغ سلماس موجها إلى أذربيجان بعثه إليها ابن عمّه ناصر
الدولة ليتملكها، فجهّز عسكرا لحصار الروس في بردعة، وسار إلى قتال ابن
حمدان. فارتحل ابن حمدان راجعا إلى ابن عمه باستدعائه بالانحدار إلى
بغداد. لما مات تورون وأقام العسكر على حصار الروس ببردعة، حتى هربوا
من البلد وحملوا ما قدروا عليه، وطهّر الله البلد منهم. وفيها ملك
الروم رأس عين واستباحوها ثلاثا وقاتلهم الأعراب ففارقوها.
__________
[1] الروس وهم المسمون الآن بالموسقو وهم عدد كثير (أهـ-) من خط الشيخ
العطار.
(3/518)
الولايات أيام
المتقى
قد تقدّم لنا أنه لم يكن بقي في تصريف الخليفة إلّا أعمال الأهواز
والبصرة وواسط والجزيرة والموصل لبني حمدان. واستولى معزّ الدولة على
الأهواز ثم على واسط، وبقيت البصرة بيد أبي عبد الله بن البريدي
واستولى على بغداد مع المتّقى يحكم، ثم ابن البريدي، ثم تورتكين
الديلميّ، ثم ابن رائق ثانية، ثم ابن البريدي ثانية، ثم حمدان، ثم
تورون. يختلفون على المتّقى واحدا بعد واحد، وهو مغلب لهم والحلّ
والعقد والإبرام والنقض بأيديهم، ووزير الخليفة عامل من عمّالهم متصرّف
تحت أحكامهم، وآخر من دبّر الأمور أبو عبد الله الكوفي كاتب تورون،
وكان قبله كاتب ابن رائق، وكان على الحجبة بدر بن الجرسيّ، فعزل عنها
سنة ثلاثين وجعل مكانه سلامة الطولوني وولي بدر طريق الفرات ففزع إلى
الإخشيد واستأمن إليه فولّاه دمشق. وكان من المستبدّين في النواحي يوسف
بن وجيه، وكان صاحب الشرطة ببغداد أبا العبّاس الديلميّ.
خلع المتّقي وولاية المستكفي
لم يزل المتّقي عند بني حمدان من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين
إلى آخر السنة، ثم آنس منهم الضجر واضطرّ لمراجعة تورون، فأرسل إليه
الحسن بن هارون وأبا عبد الله بن أبي موسى الهاشميّ في الصلح، وكتب إلى
الإخشيد محمد بن طغج صاحب مصر يستقدمه، فجاءه وانتهى إلى حلب وبها أبو
عبد الله بن سعيد بن حمدان من قبل ابن عمّه ناصر الدولة، فارتحل عنها
وتخلّف عنه ابن مقاتل، وقد كان صادره ناصر الدولة على خمسين ألف دينار،
فاستقدم الإخشيد وولّاه خراج مصر. وسار الإخشيد من حلب ولقي المتّقي
بالرقّة، وأهدى إليه والي الوزير بن الحسين بن مقلة وسائر الحاشية،
واجتهد به أن يسير معه إلى مصر ليقيم خلافته هنالك فأبى، فخوّفه من
تورون فلم يقبل. وأشار على ابن مقلة أن يسير معه إلى مصر فيحكّمه في
البلاد فأبى، وكانوا ينتظرون عود رسلهم من تورون، فبعثوا إليهم بيمين
تورون والوزير ابن شيرزاد بمحضر القضاة والعدول والعبّاسيّين
والعلويّين وغيرهم من طبقات الناس. وجاء الكتاب بخطوطهم بذلك وتأكيد
اليمين، ففارق المتّقي
(3/519)
الإخشيد وانحدر من الوقت في الفرات آخر
المحرّم سنة ثلاث وثلاثين، ولقيه تورون بالسندية فقبّل الأرض وقال: قد
وفّيت بيميني! ووكّل به وبأصحابه وأنزله في خيمته. ثم سمله لثلاث سنين
ونصف من خلافته، وأحضر أبا القاسم عبد الله بن المكتفي فبايعه الناس
على طبقاتهم، ولقّب المستكفي، وجيء بالمتّقي فبايعه وأخذت منه البردة
والقضيب واستوزر أبا الفرج محمد بن علي السامريّ، فكان له اسم الوزارة
على سنن من قبله، والأمور راجعة لابن شيرزاد كاتب تورون. ثم خلع
المستكفي على تورون وتوجه وحبس المتّقي. وطلب أبا القاسم الفضل بن
المقتدر الّذي لقّب فيما بعد بالمطيع، فاختفى سائر أيامه وهدمت داره.
وفاة توزون وامارة ابن شيرزاد
وفي المحرّم من سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة مات توزون ببغداد لست سنين
وخمسة أشهر من إمارته، وكان ابن شيرزاد كاتبه أيامه كلّها، وبعثه قبل
موته لاستخلاص الأموال من هيت. فلما بلغه خبر الوفاة عزم على عقد
الإمارة لناصر الدولة بن حمدان، فأبى الجند من ذلك واضطربوا وعقدوا له
الرئاسة عليهم، واجتمعوا عليه وحلفوا، وبعث إلى المستكفي ليحلف له،
فأجابه وجلف له بحضرة القضاة والعدول، ودخل إليه ابن شيرزاد فولّاه
أمير الأمراء، وزاد في الأرزاق زيادة متّسعة فضاقت عليه الأموال، فبعث
أبا عبد الله بن أبي موسى الهاشميّ إلى ابن حمدان يطالبه بالمال ويعده
بإمارة الأمراء، فأنفذ إليه خمسمائة ألف درهم وطعاما. وفرّقها في الجند
فلم تكف ففرض الأموال على العمّال والكتّاب والتجّار لأرزاق الجند،
ومدّت الأيدي إلى أموال الناس، وفشا الظلم وظهرت اللصوص وكبسوا
المنازل، وأخذ الناس في الخلاص من بغداد. ثم استعمل على واسط ينال
كوشه، وعلى تكريت الفتح السيكري، فسار إلى ابن حمدان ودعا له شكرا
فولّاه عليها من قبله.
استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد
واندراج أحكام الخلافة في سلطانهم
قد تقدّم لنا استبداد أهل النواحي على الخلافة منذ أيام المتوكّل، ولم
يزل نطاق الدولة العبّاسية يتضايق شيئا فشيئا، وأهل الدولة يستبدّون
واحدا بعد واحد إلى أن
(3/520)
أحاطوا ببغداد وصاروا ولاة متعدّدة يفرد كل واحد منهم بالذكر وسياقة
الخبر إلى آخرها. وكان من أقرب المستبدّين إلى مقر الخلافة بنو بويه
بأصبهان وفارس، ومعزّ الدولة منهم بالأهواز. وقد تغلّب على واسط، ثم
انتزعت منه. وبنو حمدان بالموصل والجزيرة، وقد تغلب على هيت وصارت تحت
ملكهم، ولم يبق للخلفاء إلّا بغداد ونواحيها ما بين دجلة والفرات
وأمراؤهم مع ذلك مستبدّون عليهم، ويسمّون القائم بدولتهم أمير الأمراء
كما مرّ في أخبارهم إلى أن انتهى ذلك إلى دولة المتّقي والقائم بها ابن
شيرزاد. وولي على واسط ينال كوشه كما قلنا فانحرف عن ابن شيرزاد وكاتب
معزّ الدولة، وقام بدعوته في واسط واستدعاه لملك بغداد. فزحف في عساكر
الديلم إليها ولقيه ابن شيرزاد والأتراك وهربوا إلى ابن حمدان بالموصل،
واختفى المستكفي وقدّم معزّ الدولة كاتبه الحسن بن محمد المهلّبيّ إلى
بغداد، فدخلها وظهر الخليفة، فظهر عنده المهلبيّ وجدّد له البيعة عن
معزّ الدولة أحمد بن بويه، وعن أخويه عماد الدولة عليّ وركن الدولة
الحسن. وولّاهم المستكفي على أعمالهم ولقبهم بهذه الألقاب ورسمها على
سكّته. ثم جاءه معزّ الدولة إلى بغداد وملكها، وصرف الخليفة في حكمه،
واختصّ باسم السلطان. فبقيت أخبار الدولة إنما تؤثر عنهم، وإن كان منها
ما يختص بالخليفة فقليل. فلذلك صارت أخبار هؤلاء الخلفاء منذ المستكفي
إلى المتّقي مندرجة في أخبار بني بويه والسلجوقيّة من بعدهم لعطلهم من
التصرّف إلا قليلا يختصّ بالخلفاء نحن ذاكروه ونرجئ بقية أخبارهم إلى
أخبار الديلم والسلجوقيّة الغالبين على الدولة عند ما نفرد دولتهم كما
شرطناه. |