تاريخ ابن خلدون

 [المجلد الرابع]
بسم الله الرحمن الرحيم
[تتمة الكتاب الثاني ... ]
[تتمة القول في أجيال العرب ... ]
[تتمة الطبقة الثالثة من العرب ... ]
(أخبار الدولة العلوية المزاحمة لدولة بني العبّاس)
ونبدأ منهم بدولة الأدارسة بالمغرب الأقصى. قد تقدّم لنا ذكر شيعة أهل البيت لعليّ ابن أبي طالب وبنيه رضي الله عنهم، وما كان من شأنهم بالكوفة، وموجدتهم على الحسن في تسليم الأمر لغيره، واضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم، حتى قتل المتولون كبر [1] ذلك منهم حجر بن عديّ وأصحابه، ثم استدعوا الحسين بعد وفاة معاوية فكان من قتله بكربلاء ما هو معروف، ثم ندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، فخرجوا بعد وفاة يزيد وبيعة مروان، وخرج عبيد الله بن زياد عن الكوفة، وسمّوا أنفسهم التوّابين، وولّوا عليه سليمان بن صرد ولقيتهم جيوش ابن زياد بأطراف الشام فاستلحموهم. ثم خرج المختار بن أبي عبيد بالكوفة طالبا بدم الحسين رضي الله عنه وداعيا لمحمد بن الحنفيّة وتبعه على ذلك جموعه من الشيعة، وسمّاهم شرطة الله، وزحف إليه عبيد الله بن زياد فهزمه المختار وقتله، وبلغ محمد بن الحنفيّة من
__________
[1] الظاهر من سياق الجملة انها تعني الجزاء ولم نجد في الكتب اللغوية ما يشير الى هذا المعنى وقد جاء «الإثم الكبير» من جملة معانيها. وفي لسان العرب: وقوله تعالى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ، 24: 11 قال ثعلب: يعني معظم الإفك.

(4/5)


أحوال المختار ما نقمه عليه، فكتب إليه بالبراءة منه فصار الى الدعاء لعبد الله بن الزبير. ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن عليّ بن الحسين الى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك فقتله صاحب الكوفة يوسف بن عمر وصلبه، وخرج إليه ابنه يحيى بالجوزجان من خراسان فقتل وصلب كذلك، وطلت دماء أهل البيت في كل ناحية، وقد تقدّم ذلك كلّه في أخبار الدولتين. ثم اختلف الشيعة وافترقت مذاهبهم في مصير الإمامة إلى العلويّة وذهبوا طرائق قددا، فمنهم الإمامية القائلون بوصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ بالإمامة، ويسمّونه الوصيّ بذلك، ويتبرءون من الشيخين لما منعوه حقه بزعمهم، وخاصموا زيدا بذلك حين دعا بالكوفة. ومن لم يتبرأ من الشيخين رفضوه فسمّوا بذلك رافضة. ومنهم الزيدية القائلون بإمامة بني فاطمة لفضل عليّ وبنيه على سائر الصحابة، وعلى شروط يشترطونها، وإمامة الشيخين عندهم صحيحة وإن كان عليّ أفضل، وهذا مذهب زيد واتباعه، وهم جمهور الشيعة وأبعدهم عن الانحراف والغلو. ومنهم الكيسانية نسبة إلى كيسان يذهبون إلى إمامة محمد بن الحنفيّة وبنيه من بعد الحسن والحسين ومن هؤلاء كانت شيعة بني العبّاس القائلون بوصيّة أبي هاشم بن محمد بن الحنفيّة إلى محمد بن عليّ بن عبد الله ابن عبّاس بالإمامة. وانتشرت هذه المذاهب بين الشيعة وافترق كل مذهب منها إلى طوائف بحسب اختلافهم. وكان الكيسانية شيعة بني الحنفية أكثرهم بالعراق وخراسان. ولما صار أمر بني أمية الى اختلال، أجمع أهل البيت بالمدينة، وبايعوا بالخلافة سرّا لمحمد بن عبد الله بن حسن المثنّى بن الحسن بن عليّ وسلّم له جميعهم. وحضر هذا العقد أبو جعفر عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس وهو المنصور، وبايع فيمن بايع له من أهل البيت، وأجمعوا على ذلك لتقدّمه فيهم لما علموا له من الفضل عليهم، ولهذا كان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله يحتجّان إليه حين خرج من الحجاز، ويريدون أنّ إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لانعقاد هذه البيعة من قبل، وربّما صار إليه الأمر من عند الشيعة بانتقال الوصيّة من زيد بن عليّ. وكان أبو حنيفة يقول بفضله، ويحتج إلى حقّه فتأدّت إليهما المحنة بسبب أيام أبي جعفر المنصور، حتى ضرب مالك على الفتيا في طلاق المكره، وحبس أبو حنيفة على القضاء. (ولما انقرضت) دولة بني أميّة وجاءت دولة بني العبّاس، وصار الأمر لأبي جعفر المنصور سعى عنده ببني حسن، وأنّ محمد بن

(4/6)


عبد الله يروم الخروج وأنّ دعاته ظهروا بخراسان فحبس المنصور لذلك بني حسن وإخوته حسن وإبراهيم وجعفر، وعلي القائم وابنه موسى بن عبد الله وسليمان وعبد الله ابن أخيه داود، ومحمد وإسماعيل وإسحاق بنو عمّه إبراهيم بن الحسن في خمسة وأربعين من أكابرهم وحبسوا بقصر ابن هبيرة ظاهر الكوفة حتى هلكوا في حبسهم، وأرهبوا الطلب محمد بن عبد الله فخرج بالمدينة سنة خمس وأربعين وبعث أخاه إبراهيم إلى البصرة فغلب عليها، وعلى الأهواز وفارس، وبعث الحسن بن معاوية الى مكة فملكها، وبعث عاملا إلى اليمن، ودعا لنفسه، وخطب على منبر النبيّ صلى الله عليه وسلم وتسمّى بالمهديّ وكان يدعى النفس الزكيّة، وحبس رباح بن عثمان المرّيّ عامل المدينة، فبلغ الخبر الى أبي جعفر المنصور فأشفقوا من أمره وكتب إليه كتابه المشهور (ونصّه) بعد البسملة: من عبد الله أمير المؤمنين الى محمد بن عبد الله.
أما بعد فإنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلّا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ الله غفور رحيم. وأنّ لك ذمة الله وعهده وميثاقه، إن تبت من قبل أن نقدر عليك أن نؤمّنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن تابعك وجميع شيعتك، وأن أعطيك ألف ألف درهم، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأقضي لك ما شئت من الحاجات، وأن أطلق من سجن من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك، ثم لا أتبع أحدا منكم بمكروه. وإن شئت أن تتوثّق لنفسك فوجّه إليّ من يأخذ لك من الميثاق والعهد والأمان ما أحببت والسلام. (فأجابه) محمد بن عبد الله بكتاب نصّه بعد البسملة: من عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين ابن عبد الله محمد. أمّا بعد طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ من نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا في الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ من الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ في الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ 28: 1- 6، وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الّذي أعطيتني فقد تعلم أنّ الحقّ حقّنا وأنّكم إنّما أعطيتموه بنا، ونهضتم فيه بسعينا وحزتموه بفضلنا، وأنّ أبانا عليّا عليه السلام، كان الوصيّ والإمام فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء!

(4/7)


وقد علمتم أنه ليس أحد من بني هاشم يشدّ بمثل فضلنا، ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا ونسيبنا، وإنّا بنو بنته فاطمة في الإسلام من بينكم فإنّا أوسط بني هاشم نسبا وخيرهم أمّا وأبا، لم تلدني العجم ولم تعرف في أمّهات الأولاد، وأنّ الله عزّ وجلّ لم يزل يختار لنا، فولدني من النبيّين أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أصحابه أقدمهم إسلاما وأوسعهم علما وأكثرهم جهادا عليّ بن أبي طالب، ومن نسائه أفضلهنّ خديجة بنت خويلد أوّل من آمن باللَّه وصلى إلى القبلة، ومن بناته أفضلهن وسيدة نساء أهل الجنة، ومن المتولدين في الإسلام سيّدا شباب أهل الجنة، ثم قد علمت أن هاشما ولد عليّا مرتين من قبل جدّي الحسن والحسين فما زال الله يختار لي حتى اختار لي في معنى النار، فولدني أرفع الناس درجة في الجنّة وأهون أهل النار عذابا يوم القيامة، فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار وابن خير أهل الجنّة وابن خير أهل النار. ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمّنك على نفسك وولدك، وكل ما أصبته إلّا حدّا من حدود الله أو حقّا لمسلم أو معاهد فقد علمت ما يلزمك في ذلك فأنا أوفى بالعهد منك وأحرى بقبول الأمان منك. فأمّا أمانك الّذي عرضت عليّ فهو أيّ الأمانات هي؟ أأمان ابن هبيرة أم أمان عمّك عبد الله بن عليّ أم أمان أبي مسلم؟ والسلام. (فأجابه المنصور) بعد البسملة: من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله! فقد أتاني كتابك وبلغني كلامك، فإذا جلّ فخرك بالنساء لتضلّ به الحفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعصبة والأولياء، وقد جعل الله العمّ أبا وبدأ به على الولد فقال جلّ ثناؤه عن نبيّه عليه السلام: واتّبعت ملّة آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب. ولقد علمت أنّ الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وعمومته أربعة، فأجابه اثنان أحدهما أبي وكفر به اثنان أحدهما أبوك. وأمّا ما ذكرت من النساء وقراباتهنّ فلو أعطى على قرب الأنساب وحق الأحساب لكان الخير كلّه لآمنة بنت وهب، ولكنّ الله يختار لدينه من يشاء من خلقه. وأمّا ما ذكرت من فاطمة أمّ أبي طالب فإنّ الله لم يهد أحدا من ولدها إلى الإسلام، ولو فعل لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الآخرة والأولى، وأسعدهم بدخول الجنّة غدا. ولكن الله أبى ذلك فقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي من أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ 28: 56. وأمّا ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أمّ علي بن أبي طالب، وفاطمة أمّ الحسين وأنّ هاشما ولد عليّا

(4/8)


مرّتين، وأنّ عبد المطلب ولد الحسن مرّتين، فخير الأوّلين رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لم يلده هاشم إلّا مرّة واحدة، ولم يلده عبد المطلب إلّا مرّة واحدة. وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فإنّ الله عزّ وجلّ قد أبى ذلك فقال: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ من رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ الله وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، 33: 40 ولكنكم قرابة ابنته وأنها لقرابة قريبة، غير أنها امرأة لا تحوز الميراث، ولا يجوز أن تؤمّ فكيف تورث الإمامة من قبلها ولقد طلب بها أبوك من كل وجه، وأخرجها تخاصم، ومرضها سرا ودفنها ليلا، وأبى الناس إلا تقديم الشيخين، ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأمر بالصلاة غيره. ثم أخذ الناس رجلا رجلا فلم يأخذوا أباك فيهم. ثم كان في أصحاب الشورى، فكل دفعه عنها، بايع عبد الرحمن عثمان، وقبلها عثمان، وحارب أباك طلحة والزبير، ودعا سعدا إلى بيعته فأغلق بابه دونه. ثم بايع معاوية بعده، وأفضى أمر جدّك إلى أبيك الحسن، فسلّمه إلى معاوية بخزف ودراهم، وأسلم في يديه شيعته، وخرج إلى المدينة فدفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالا من غير حلّه، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه. فأمّا قولك إنّ الله اختار لك في الكفر فجعل أباك أهون أهل النار عذابا فليس في الشر خيار، ولا من عذاب الله هيّن، ولا ينبغي لمسلم يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يفتخر بالنار، ستردّ فتعلم، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون. وأمّا قولك لم تلدك العجم ولم تعرف فيك أمهات الأولاد، وأنك أوسط بني هاشم نسبا وخيرهم أما وأبا، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرّا وقدّمت نفسك على من هو خير منك أوّلا وآخرا وأصلا وفصلا، فخرت على إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعلى والد والده، فانظر ويحك أين تكون من الله غدا وما ولد قبلكم مولود بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أفضل من عليّ بن الحسين، وهو لأم ولد، ولقد كان خيرا من جدّك حسن بن حسن. ثم ابنه محمد خير من أبيك، وجدته أم ولد، ثم ابنه جعفر وهو خير، ولقد علمت أنّ جدّك عليّا حكّم الحكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضا بما حكما به، فأجمعا على خلعه. ثم خرج عمّك الحسين بن علي بن مرجانة فكان الناس الذين معه عليه حتى قتلوه، ثم أتوا بكم على الأقتاب كالسبي المجلوب إلى الشام، ثم خرج منكم غير واحد فقتلكم بنو أمية وحرّقوكم بالنار وصلبوكم على جذوع النخل حتى خرجنا عليهم فأدركنا يسيركم إذ لم تدركوه، ورفعنا أقداركم

(4/9)


وأورثناكم أرضهم وديارهم بعد أن كانوا يلعنون أباك في أدبار كل صلاة مكتوبة كما يلعن الكفرة، فسفّهناهم وكفّرناهم وبيّنا فضله، وأشدنا بذكره فاتخذت ذلك علينا حجة، وظننت أنّا بما ذكرنا من فضل عليّ قدّمناه على حمزة والعبّاس وجعفر، كل أولئك مضوا سالمين مسلما منهم وابتلى أبوك بالدماء. ولقد علمت أنّ مآثرنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم، وولاية زمزم، وكانت للعبّاس من دون إخوته فنازعنا فيها أبوك إلى عمر فقضى لنا عمر بها، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وليس من عمومته أحد حيّا إلّا العبّاس، وكان وارثه دون عبد المطلب، وطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم فلم ينلها إلّا ولده فاجتمع للعبّاس أنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلّم خاتم الأنبياء، وبنوه القادة الخلفاء، فقد ذهب يفضل القديم والحديث ولولا أن العبّاس أخرج إلى بدر كرها لمات عمّاك طالب وعقيل جوعا أو يلحسان جفان عتبة وشيبة، فأذهب عنهما العار والشنار. ولقد جاء الإسلام والعبّاس يمون به طالب للأزمة التي أصابتهم، ثم فدّى عقيلا يوم بدر، فعززناكم في الكفر وفديناكم من الأسر وورثناه دونكم خاتم الأنبياء وأدركنا بثأركم إذ عجزتم عنه، ووضعناكم بحيث لم تضعوا أنفسكم والسلام. (ثم عقد) أبو جعفر على حربه لعيسى ابن عمّه موسى بن علي، فزحف إليه في العساكر، وقاتله بالمدينة فهزمه وقتله في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين، ولحق ابنه عليّ بالسند إلى أن هلك هناك، واختفى ابنه الآخر عبد الله الأشتر إلى أن هلك في أخبار طويلة قد استوفيناها كلها في أخبار أبي جعفر المنصور، ورجع عيسى إلى المنصور فجهّزه لحرب إبراهيم أخي محمد بالعيرة فقاتله آخر ذي القعدة من تلك السنة فهزمه، وقتله حسبما مرّ ذكره لك، وقتل معه عيسى بن زيد بن عليّ فيمن قتل من أصحابه (وزعم ابن قتيبة) أنّ عيسى بن زيد ابن عليّ ثار على المنصور بعد قتل أبى مسلم، ولقيه. في مائة وعشرين ألفا، وقاتله أياما إلى أن همّ المنصور بالفرار، ثم أتيح له الظفر فانهزم عيسى ولحق بإبراهيم بن عبد الله بالبصرة فكان معه لك إلى أن لقيه عيسى بن موسى بن علي وقتلهما كما مر.
(ثم خرج بالمدينة أيام المهدي) سنة تسع وستين من بني حسن الحسين بن عليّ بن حسن المثلّث، وهو أخو عبد الله بن حسن المثنّى، وعمّ المهدي، وبويع للرضا من آل محمد وسار الى مكة، وكتب الهادي الى محمد بن سليمان بن علي وقد كان قدم حاجّا من البصرة فولّاه حربه يوم التروية، فقاتله بفجّة على ثلاثة أميال من مكة،

(4/10)


وهزمه وقتله، وافترق أصحابه، وكان فيهم عمّه إدريس بن عبد الله فأفلت من الهزيمة مع من أفلت منهم يومئذ، ولحق بمصر نازعا إلى المغرب، وعلى بريد مصر يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور ويعرف بالمسكين، وكان يتشيّع، فعلم بشأن إدريس وأتاه إلى المكان الّذي كان به مستخفيا، وحمله على البريد الى المغرب ومعه راشد مولاه فنزل بو ليلى سنة ست وسبعين، وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير أوربة من قبائل البربر، وكبيرهم لعهده فأجاره وأكرمه، وجمع البربر على القيام بدعوته، وخلع الطاعة العبّاسية وكشف القناع واجتمع عليه البرابرة بالمغرب فبايعوه وقاموا بأمره، وكان فيهم مجوس فقاتلهم إلى أن أسلموا. وملك المغرب الأقصى، ثم ملك تلمسان سنة ثلاث وسبعين. ودخلت ملوك زناتة أجمع في طاعته، واستفحل ملكه، وخاطب إبراهيم بن الأغلب صاحب القيروان، وخاطب الرشيد بذلك، فشدّ إليه الرشيد مولى من موالي المهدي اسمه سليمان بن حريز، ويعرف بالشمّاخ، وأنفذه بكتابه إلى ابن الأغلب فأجازه ولحق بإدريس مظهرا للنزوع إليه فيمن نزع من وحدان المغرب متبرئا من الدعوة العبّاسية ومنتحلا للطالبيين، واختصه الإمام إدريس وحلي بعينه، وكان قد تأَبَّط سمّا في سنون فناوله إياه عند شكايته من وجع أسنانه فكان فيها فيما زعموا حتفه، ودفن ببو ليلى سنة خمس وسبعين، وفرّ الشمّاخ ولحقه راشد بوادي ملوية فاختلفا بينهما ضربتين قطع فيها راشد يده، وأجاز الشمّاخ الوادي فأعجزه وبايع البرابرة بعد مهلكه ابنه إدريس سنة ثمان وثمانين، واجتمعوا على القيام فأمره ولحق به كثير من العرب من إفريقية والأندلس، وعجز بنو الأغلب أمراء إفريقية عنه فاستفحلت له ولبنيه بالمغرب الأقصى دولة إلى أن انقرضت على يد أبي العافية وقومه مكناسة أولياء العبيديّين أعوام ثلاثة عشر وثلاثمائة حسبما نذكر ذلك في أخبار البربر، ونعدّد ملوكهم هناك واحدا واحدا، وانقراض دولتهم وعودها، ونستوعب ذلك كلّه لأنه أمسّ بالبربر فإنّهم كانوا القائمين بدعوتهم. (ثم خرج يحيى) أخو محمد بن عبد الله بن حسن وإدريس في الديلم سنة ست وسبعين أيام الرشيد، واشتدّت شوكتهم وسرّح الرشيد لحربه الفضل بن يحيى فبلغ الطالقان، وتلطّف في استنزاله من بلاد الديلم على أن يشترط ما أحب ويكتب له الرشيد بذلك خطّه، فتمّ بينهما، وجاء به الفضل فوفّى له الرشيد بكل ما أحب، وأجرى له أرزاقا سنيّة، ثم حبسه بعد ذلك لسعاية كانت

(4/11)


فيه من آل الزبير، فيقال أطلقه بعدها، ووصله بمال، ويقال سمّه لشهر من اعتقاله، ويقال أطلقه جعفر بن يحيى افتياتا فكان بسببه نكبة البرامكة، وانقرض شأن بني حسن وخفيت دعوة الزيديّة حينا من الدهر حتى كان منهم بعد ذلك باليمن والديلم ما نذكره والله غالب على أمره.
(الخبر عن خروج الفاطميين بعد فتنة بغداد)
كانت الدولة العبّاسية قد تمهدت من لدن أبي جعفر المنصور منهم، وسكن أمر الخوارج والدعاة من الشيعة من كل جهة حتى إذا هلك الرشيد، ووقع بين بنيه من الفتنة ما وقع، وقتل الأمين بيد طاهر بن الحسين، ووقع في حصار بغداد من الحرب والعبث ما وقع، وبقي المأمون مقيما بخراسان تسكينا لأهلها عن ثائرة الفتن، وولي على العراق الحسن بن سهل، اتسع الخرق حينئذ بالعراق وأشيع عن المأمون أنّ الفضل بن سهل غلب عليه، وحجره فامتعض الشيعة لذلك، وتكلّموا، وطمع العلويّة في التوثّب على الأمر، فكان في العراق أعقاب إبراهيم بن محمد بن حسن المثنّى المقتول بالبصرة أيام المنصور. وكان منهم محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ولقبه أبوه طباطبا، لكنة كانت في لسانه، أيام مرباه بين داياته فلقّب بها، وكان شيعته من الزيديّة وغيرهم يدعون إلى إمامته لأنها كانت متوارثة في آبائه من إبراهيم الإمام جدّه على ما قلناه في خبره، فخرج سنة تسع وتسعين، ودعا لنفسه، ووافاه أبو السرايا السريّ بن منصور كبير بني شيبان فبايعه وقام بتدبير حربه، وملك الكوفة وكثر تابعوه من الأعراب وغيرهم، وسرّح الحسن بن سهل زهير بن المسيب لقتاله فهزمه طباطبا واستباح معسكره، ثم مات محمد في صبيحة ذلك اليوم فجأة، ويقال إنّ أبا السرايا سمّه لما منعه من الغنائم فبايع أبو السرايا يومه ذلك لمحمد بن محمد بن زيد بن عليّ زين العابدين، واستبدّ عليه، وزحفت عليه جيوش المأمون فهزمهم أبو السرايا وملك البصرة وواسط والمدائن. وسرّح الحسن بن سهل لحربه هرثمة بن أعين وكان

(4/12)


مغضبا فاسترضاه وجهّز له الجيوش، وزحف إلى أبي السرايا وأصحابه فغلبهم على المدائن، وهزمهم وقتل منهم خلقا، ووجّه أبو السرايا إلى مكّة الحسين الأفطس ابن الحسن بن عليّ زين العابدين، وإلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن حسن المثنّى ابن الحسن، وإلى البصرة زيد بن موسى بن جعفر الصادق، وكان يقال له زيد النار لكثرة من أحرق من الناس بالبصرة فملكوا مكة والمدينة والبصرة، وكان بمكّة مسرور الخادم الأكبر، وسليمان بن داود بن عيسى، فلما أحسوا بقدوم الحسين فرّوا عنها، وبقي الناس في الموقف فوضى، ودخلها الحسين من الغد فعاث في أهل الموسم ما شاء الله. واستخرج الكنز الّذي كان في الكعبة من عهد الجاهلية وأقرّه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، وقدره فيما قيل مائتا قنطار ثنتان من الذهب فأنفقه وفرّقه في أصحابه ما شاء الله. ثم إنّ هرثمة واقع أبا السرايا فهزمه، ثم بحث عن منصور ابن المهدي فكان أميرا معه، واتبع أبا السرايا فغلبه على الكوفة، وخرج الى القادسية، ثم الى واسط، ولقيه عاملها وهزمه، ولحق بجلولاء مغلولا جريحا فقبض عليه عاملها وقدمه الى الحسن بن سهل بالنهروان فضرب عنقه، وذلك سنة مائتين.
وبلغ الخبر الطالبيّين بمكة فاجتمعوا وبايعوا محمد بن جعفر الصادق، وسمّوه أمير المؤمنين، وغلب عليه ابناه عليّ وحسين فلم يكن يملك معهما من الأمر شيئا، ولحق إبراهيم ابن أخيه موسى الكاظم ابن جعفر الصادق باليمن في أهل بيته فدعا لنفسه هنالك، وتغلّب على الكثير من بلاد اليمن، وسمّي الجزار لكثرة ما قتل من الناس.
وخلص عامل اليمن وهو إسحاق بن موسى بن عيسى إلى المأمون فجهّزه لحرب هؤلاء الطالبيين فتوجّه إلى مكة وغلبهم عليها، وخرج محمد بن جعفر الصادق إلى الأعراب بالساحل فاتبعهم إسحاق وهزمهم، ثم طلبهم وطلب محمد الأمان فأمّنه، ودخل مكّة وبايع للمأمون وخطب على المنبر بدعوته، وسابقته الجيوش إلى اليمن فشرّدوا عنه الطالبيّين وأقاموا فيه الدعوة العباسية، ثم خرج الحسين الأفطس ودعا لنفسه بمكة، وقتله المأمون وقتل ابنيه عليّا ومحمدا. ثم إنّ المأمون لما رأى كثرة الشيعة واختلاف دعاتهم وكان يرى مثل رأيهم أو قريبا منه في شأن عليّ والسبطين فعهد بالعهد من بعده لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق سنة احدى ومائتين، وكتب بذلك إلى الآفاق، وتقدّم إلى الناس فنزع السواد ولبس الخضرة، فحقد بنو العبّاس ذلك من أمره وبايعوا بالعراق لعمّه إبراهيم بن المهدي سنة اثنتين ومائتين، وخطب له

(4/13)


ببغداد وعظمت الفتنة وشخص المأمون من خراسان متلافيا أمر العراق، وهلك عليّ بن موسى في طريقه فجأة، ودفن بطوس سنة ثلاث ومائتين. ووصل المأمون إلى بغداد سنة أربع، وقبض على عمّه إبراهيم وعفا عنه وسكن الفتنة. (وفي سنة تسع) بعدها خرج باليمن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب يدعو للرّضا من آل محمد، وبايعه أهل اليمن، وسرّح إليه المأمون مولاه دينارا، واستأمن له فأمّنه وراجع الطاعة. (ثم كثر خروج الزيدية) من بعد ذلك بالحجاز والعراق والجبال والديلم وهرب إلى مصر خلق، وأخذ منهم خلق، وتتابع دعاتهم. (فأوّل) من خرج منهم بعد ذلك محمد بن القاسم بن عليّ بن عمر بن زين العابدين، هرب خوفا من المعتصم سنة تسع عشرة ومائتين، وكان بمكان من العبادة والزهد فلحق بخراسان، ثم مضى إلى الطالقان ودعا بها لنفسه، واتبعته أمم الزيدية كلهم. ثم حاربه عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فغلبه وقبض عليه، وحمله إلى المعتصم فحبسه حتى مات، ويقال إنه مات مسموما (ثم خرج) من بعده بالكوفة أيضا الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين الأعرج بن علي ابن زين العابدين، واجتمع إليه الناس من بني أسد وغيرهم من جموعه وأشياعه، وذلك سنة إحدى وخمسين ومائتين، وزحف إليه ابن شيكال [1] من أمراء الدولة فهزمه، ولحق بصاحب الزنج فكان معه، وكاتبه أهل الكوفة في العود إليه، وظهر عليه صاحب الزنج فقتله. وكان خروج صاحب الزنج بالبصرة قبله بقليل، واجتمعت له جموع العبيد من زنج البصرة وأعمالها، وكان يقول في لفظة من أعلمه أنه من ولد عيسى بن زيد الشهيد وأنه عليّ بن محمد بن زيد بن عيسى. ثم انتسب إلى يحيى بن زيد الشهيد، والحق أنه دعيّ في أهل البيت كما نذكره في أخباره.
وزحف إليه الموفّق أخو المعتمد ودارت بينه وبينهم حروب إلى أن قتله، ومحا أثر تلك الدعوة كما قدّمناه في أخبار الموفّق ونذكره في أخبارهم. (ثم خرج في الديلم) من ولده الحسن بن زيد بن الحسن السبط الداعي المعروف بالعلوي، وهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن خرج لخمس وخمسين فملك طبرستان وجرجان وسائر أعمالها، وكانت له ولشيعته الزيدية دولة هناك. ثم انقرضت آخر المائة الثالثة،
__________
[1] وفي نسخة اخرى: ابن بشكال

(4/14)


وورثها من ولد الحسن السبط، ثم من ولد عمر بن عليّ بن زين العابدين الناصر الأطروش وهو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر وهو ابن عمّ صاحب الطالقان. أسلم الديلم على يد هذا الأطروش وملك بهم طبرستان وسائر أعمال الداعي، وكانت له ولبنيه هنالك دولة، وكانوا سببا لملك الديلم البلاد وتغلّبهم على الخلفاء كما نذكر ذلك في أخبار دولتهم. (ثم خرج باليمن) من الزيدية من ولد القاسم الرسيّ بن إبراهيم طباطبا أخي محمد صاحب أبي السرايا أعوام ثمانية وثمانين ومائتين يحيى بن الحسين بن القاسم الرسيّ فاستولى على صعدة وأورث عقبه فيها ملكا باقيا لهذا العهد، وهي مركز الزيدية كما نذكر في أخبارهم. (وفي خلال ذلك خرج بالمدينة) الأخوان محمد وعليّ ابنا الحسن بن جعفر بن موسى الكاظم وعاثا في المدينة عيثا شديدا وتعطلت الصلاة بمسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوا من شهر وذلك سنة إحدى وسبعين. (ثم ظهر بالمغرب) من دعاة الرافضة أبو عبد الله الشيعي في كتامة من قبائل البربر أعوام ستة وثمانين ومائتين داعيا لعبيد الله المهدي محمد بن جعفر ابن محمد بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق فظهر على الأغالبة بالقيروان، وبايع لعبيد الله المهدي سنة ست وتسعين فتم أمره وملك المغربين، واستفحلت له دولة بالمغرب ورثها بنوه. ثم استولوا بعد ذلك على مصر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة فملكها منهم المعزّ لدين الله معد بن إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله المهدي وشيّد القاهرة. ثم ملك الشام واستفحل ملكه إلى أن انقرضت دولتهم على العاضد [1] منهم على يد صلاح الدين بن أيوب سنة خمس وستين وخمسمائة. (ثم ظهر في سواد الكوفة) سنة ثمان وخمسين ومائتين من دعاة الرافضة رجل اسمه الفرج بن يحيى، ويدعى قرمط، بكتاب زعم أنه من عند أحمد بن محمد بن الحنفيّة فيه كثير من كلمات الكفر والتحليل والتحريم، وادّعى أنّ أحمد بن الحنفيّة هو المهدي المنتظر، وعاث في بلاد السواد، ثم في بلاد الشام وتلقّب وكرويه بن مهرويه، واستبدّ طائفة منهم بالبحرين ونواحيها ورئيسهم أبو سعيد الجناجيّ، وكان له هناك ملك ودولة أورثها بنيه من بعده إلى أن انقرضت أعوامهم كما يذكر في أخبار دولتهم. وكان أهل البحرين هؤلاء يرجعون إلى دعوة العبيديّين بالمغرب وطاعتهم. (ثم كان بالعراق) من دعاة
__________
[1] مقتضى السياق: في أيام

(4/15)


الإسماعيلية وهؤلاء الرافضة طوائف آخرون، واستبدوا بكثير من النواحي، ونسب إليهم فيها القلاع قلعة الموت وغيرها، وينسبون تارة إلى القرامطة، وتارة إلى العبيديّين، وكان من رجالاتهم الحسن بن الصبّاح في قلعة الموت وغيرها إلى أن انقرض أمرهم آخر الدولة السلجوقية. (وكان باليمامة ومكة والمدينة) من بعد ذلك دول للزيديّة والرّافضة فكان باليمامة دولة لبني الأخضر، وهو محمد بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله بن حسن المثنّى، خرج أخوه إسماعيل بن يوسف في بادية الحجاز سنة اثنتين وخمسين ومائتين وملك مكة. ثم مات فمضى أخوه محمد إلى اليمامة فملكها وأورثها لبنيه إلى أن غلبهم القرامطة. (وكان بمكة) دولة لبني سليمان ابن داود بن حسن المثنّى خرج محمد بن سليمان أيام المأمون وتسمّى بالناهض، وملك مكّة، واستقرّت إمارتها في بنيه إلى أن غلبهم عليها الهواشم وكبيرهم محمد بن جعفر ابن أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون فملكها من إبراهيم سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وغلب بني حسن على المدينة وداول الخطبة بمكة بين العبّاسيين والعبيديّين واستفحل ملكه في بنيه إلى أن انقرضوا آخر المائة السادسة، وغلب على مكة بنو أبي قمي أمراؤها لهذا العهد. ملك أوّلهم أبو عزيز قتادة بن إدريس مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن موسى الجون وورث دولة الهواشم وملكهم، وأورثها بنيه إلى هذا العهد كما نذكر في أخبارهم، وهؤلاء كلهم زيديّة. (وبالمدينة) دولة للرافضة لولد الهناء. قال المسبحي: اسمه الحسن بن طاهر بن مسلم، وفي كتاب العتبي مؤرّخ دولة ابن سبكتكين أنّ مسلما اسمه محمد بن طاهر وكان صديقا لكافور، ويدبّر أمره وهو من ولد الحسن بن عليّ زين العابدين. واستولى طاهر بن مسلم على المدينة أعوام ستين وثلاثمائة وأورثها بنيه لهذا العهد كما نذكر في أخبارهم والله وارث الأرض ومن عليها
الخبر عن الأدارسة ملوك المغرب الأقصى ومبدإ دولتهم وانقراضها ثم تجدّدها مفترقة في نواحي المغرب
لما خرج حسين بن عليّ بن حسن المثلّث بن حسن المثنّى بن الحسن السبط بمكة في

(4/16)


ذي القعدة سنة ست وتسعين ومائة أيام المهدي، واجتمع عليه قرابته وفيهم عمّاه إدريس ويحيى، وقاتلهم محمد بن سليمان بن علي بعجة على ثلاثة أميال بمكة فقتل الحسين في جماعة من أهل بيته وانهزموا وأسر كثير منهم، ونجا يحيى بن إدريس وسليمان، وظهر يحيى بعد ذلك في الديلم، وقد ذكرنا خبره من قبل وكيف استنزله الرشيد وحبسه. (وأمّا إدريس) ففرّ ولحق بمصر، وعلى بريدها يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور ويعرف بالمسكين، وكان واضح يتشيّع، فعلم شأن إدريس وأتاه إلى الموضع الّذي كان به مستخفيا ولم ير شيئا أخلص من أن يحمله على البريد إلى المغرب ففعل، ولحق إدريس بالمغرب الأقصى هو ومولاه راشد، ونزل بولية [1] سنة اثنتين وسبعين وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير أوربة وكبيرهم لعهده فأجاره، وأجمع البرابر على القيام بدعوته، وكشف القناع في ذلك، واجتمعت عليه زواغة ولواتة وسدراتة وغياثة ونفرة ومكناسة وغمارة وكافة البرابر بالمغرب فبايعوه، وقاموا بأمره. وخطب الناس يوم بويع فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيّه لا تمدّن الأعناق إلى غيرنا فإنّ الّذي تجدونه عندنا من الحق لا تجدونه عند غيرنا ولحق به من إخوته سليمان، ونزل بأرض زناتة من تلمسان ونواحيها، ونذكر خبره فيما بعد. (ولما استوثق) أمر إدريس وتمّت دعوته زحف إلى البرابرة الذين كانوا بالمغرب على دين المجوسيّة واليهوديّة والنصرانيّة مثل قندلاوة وبهلوانه ومديونة وما زار وفتح تامستا [2] ومدينة شاله وتادلا [3] وكان أكثرهم على دين اليهوديّة والنصرانيّة فأسلموا على يديه طوعا وكرها وهدم معاقلهم وحصونهم. ثم زحف إلى تلمسان وبها من قبائل بني يعرب ومغراوه سنة ثلاث وسبعين، ولقيه أميرها محمد بن حرز بن جزلان فأعطاه الطاعة، وبذل له إدريس الأمان ولسائر زناتة فأمكنه من قياد البلد، وبنى مسجدها وأمر بعمل منبره وكتب اسمه فيه حسبما هو مخطوط في صفح [4] المنبر لهذا العهد.
ورجع إلى مدينة وليلى ثم دسّ إليه الرشيد مولى من موالي المهدي اسمه سليمان بن حريز ويعرف بالشمّاخ أنفذه بكتابه إلى ابن الأغلب فأجازه، ولحق بإدريس مظهرا النزوع
__________
[1] هي وليلى: مدينة بالمغرب قرب طنجة (معجم البلدان)
[2] هي تامست: قرية لكتامة وزناتة قرب المسيلة وأشير بالمغرب (معجم البلدان)
[3] هي تادلة: من جبال البربر بالمغرب قرب تلمسان (معجم البلدان)
[4] جنب المنبر

(4/17)


إليه فيمن نزع من وهران المغرب متبرئا من الدعوة العبّاسية ومنتحلا للطلب. واختصه الإمام إدريس وحلا بعينه وكان قد تأَبَّط سمّا في سنون، فناوله إيّاه عند شكايته من وجع أسنانه، فكان فيه كما زعموا حتفه ودفن بوليلى سنة خمس وسبعين. وفرّ الشمّاخ ولحقه فيما زعموا راشد بوادي ملويّة فاختلفا ضربتين قطع فيها راشد يد الشمّاخ، وأجاز الوادي فأعجزه، واعتلق بالبرابر من أوربة وغيرهم فجمل من دعوته في ابنه إدريس الأصغر من جاريته كنزه بايعوه حملا ثم رضيعا ثم فصيلا إلى أن شبّ واستنم فبايعوه بجامع وليلى سنة ثمان وثمانين ابن إحدى عشرة سنة، وكان ابن الأغلب دسّ إليهم الأموال واستمالهم حتى قتلوا راشدا مولاه سنة ست وثمانين، وقام بكفالة إدريس من بعده أبو خالد بن يزيد بن الياس العبديّ، ولم يزل كذلك إلى أن بايعوا لإدريس، فقاموا بأمره وجردوا لأنفسهم رسوم الملك بتجديد طاعته، وافتتحوا بلاد المغرب كلّها واستوثق لهم الملك بها واستوزر إدريس مصعب بن عيسى الأزدي المسمّى بالملجوم من ضربة في بعض حروبهم. وسمته على الخرطوم وكأنها خطام، ونزع إليه كثير من قبائل العرب والأندلس، حتى اجتمع إليه منهم زهاء خمسمائة فاختصهم دون البربر، وكانوا له بطانة وحاشية، واستفحل بهم سلطانه.
ثم قتل كبير أوربة إسحاق بن محمود سنة اثنتين وتسعين لما أحسّ منه بموالاة إبراهيم بن الأغلب، وكثرت حاشية الدولة وأنصارها، وضاقت وليلى بهم فاعتام موضعا لبناء مدينة لهم، وكانت فاس موضعا لبني بوغش وبني الخير من وزاغة، وكان في بني بوغش مجوس ويهود ونصارى، وكان موضع شيبوبة منها بيت نار لمجوسهم، وأسلموا كلّهم على يده. وكانت بينهم فتن فبعث للإصلاح بينهم كاتبه أبا الحسن عبد الملك بن مالك الخزرجيّ. ثم جاء إلى فاس وضرب أبنيته بكزواوه، وشرع في بنائها فاختطّ عدوة الأندلس سنة اثنتين وتسعين. وفي سنة ثلاث بعدها اختطّ عدوة القرويّين وبنى مساكنه، وانتقل إليها وأسس جامع الشرفاء، وكانت عدوة القرويّين من لدن باب السلسلة إلى غدير الجوزاء والجرف، واستقام له أمر الخلافة وأمر القائمين بدعوته وأمر العزّ والملك. ثم خرج غازيا المصامدة سنة سبع وتسعين فافتتح بلادهم ودانوا بدعوته. ثم غزا تلمسان وجدّد بناء مسجدها وإصلاح منبرها، وأقام بها ثلاث سنين، وانتظمت كلمة البرابرة وزناتة ومحوا دعوة الخوارج منهم، واقتطع الغربيّين عن دعوة العبّاسيين من لدن الشموس الأقصى إلى شلف. ودافع إبراهيم بن

(4/18)


الأغلب عن حماه بعد ما ضايقه بالمكاد، واستقاد الأولياء واستمال بهلول بن عبد الواحد المظفري بمن معه من قومه عن طاعة إدريس إلى طاعة هارون الرشيد. ووفد عليه بالقيروان، واستراب إدريس بالبرابرة فصالح إبراهيم بن الأغلب وسكن من غربة. وعجز الأغالبة من بعد ذلك عن مدافعة هؤلاء الأدارسة، ودافعوا خلفاء بني العبّاس بالمعاذير بالغضّ من إدريس والقدح في نسبه إلى أبيه إدريس بما هو أوهن من خيوط العناكب. (وهلك إدريس) سنة ثلاث عشرة وقام بالأمر من بعده ابنه محمد بعهده إليه فأجمع أمره بوفاة جدّته كنزة أمّ إدريس على أن يشرك إخوته في سلطانه ويقاسم ممالك أبيه. فقسّم المغرب بينهم أعمالا اختصّ منها القاسم بطنجة وبسكرة وسبته وتيطاوين وقلعة حجر النسر وما الى ذلك من البلاد والقبائل واختصّ عمر بتيكيسان وترغة وما بينهما من قبائل صنهاجة وغمارة واختص داود ببلاد هوارة وتسول وتازي وما بينهما من القبائل: مكناسة وغياثة واختص عبد الله باغمات وبلد نفيس وجبال المصامدة وبلاد لمطة والسوس الأقصى، واختص يحيى [1] بأصيلا والعرائش وبلاد زوغة وما إلى ذلك. واختص عيسى بشالة وسلا وازمور وتامسنا وما الى ذلك من القبائل واختص حمزة بو ليلى واعمالها وأبقى الباقين في كفالتهم وكفالة جدّتهم كنزة لصغرهم وبقيت تلمسان لولد سليمان بن عبد الله وخرج عيسى بأزمور [2] على أخيه محمد طالبا الأمر لنفسه، فبعث لحربه أخاه عمر بعد أن دعا القاسم لذلك فامتنع. ولما أوقع عمر بعيسى وغلب على ما في يده استنابه إلى أعماله بإذن أخيه محمد. ثم أمره أخوه محمد بالنهوض إلى حرب القاسم لقعوده عن إجابته، في محاربة عيسى فزحف إليه، وأوقع به، واستناب عليه إلى ما في يده فصار الريف البحري كلّه من عمل عمر هذا من تيكيشاش، وبلاد غمارة إلى سبته، ثم إلى طنجة، وهذا ساحل البحر الرومي، ثم ينعطف إلى أصيلا ثم سلا، ثم أزمور وبلاد تامستا، وهذا ساحل البحر الكبير. وتزهّد القاسم وبنى رباطا بساحل أصيلا للعبادة إلى أن هلك، واتسعت ولاية عمر بعمل عيسى والقاسم، وخلصت طويته لأخيه
__________
[1] (هكذا بياض بالأصل والظاهر من النسخة المغربية المجلد السادس المختص ببلاد المغرب ان البياض ترك من قبل الناسخ وذلك دون مبرز)
[2] ربما هي أزمورة: «ثلاث ضمات متواليات، وتشديد الميم، والواو ساكنة وراء مهملة: بلد بالمغرب في جبال البربر» (معجم البلدان)

(4/19)


محمد الأمير، وهلك في إمارة أخيه محمد ببلد صنهاجة بموضع يقال له: فجّ الفرص سنة عشرين ومائتين، ودفن بفاس وعمر هذا هو جدّ المحموديّين الدائلين بالأندلس من بني أمية كما نذكره، وعقد الأمير محمد على عمله لولده عليّ بن عمر. ثم كان مهلك الأمير محمد لسبعة أشهر من مهلك أخيه عمر سنة إحدى وعشرين ومائتين بعد أن استخلف ولده عليّا في مرضه وهو ابن تسع سنين فقام بأمره الأولياء والحاشية من العرب وأوربة وسائر البربر وصنائع الدولة وبايعوه غلاما مترعرعا وقاموا بأمره وأحسنوا كفالته وطاعته فكانت أيامه خير أيام، وهلك سنة أربع وثلاثين لثلاث عشرة سنة من ولايته، وعهد لأخيه يحيى بن محمد فقام بالأمر، وامتدّ سلطانه وعظمت دولته، وحسنت آثار أيامه. واستجدّت فاس في العمران وبنيت بها الحمامات والفنادق للتجار، وبنيت الأرباض، ورحل إليها الناس من الثغور القاصية واتفق أن نزلتها امرأة من أهل القيروان تسمّى أم البنين بنت محمد الفهريّ، وقال ابن أبي ذرع اسمها فاطمة، وانها من هوّارة، وكانت مثرية بموروث أفادته من ذويها، واعتزمت على صرفه في وجوه الخير فاختطت المسجد الجامع بعدوة القرويّين أصغر ما كان سنة خمس وأربعين في أرض بيضاء كان أقطعها الإمام إدريس، وأنبطت بصحنها بئرا شرابا للناس، فكأنما نبّهت بذلك عزائم الملوك من بعدها، ونقلت إليه الخطبة من جامع إدريس لضيق محلته وجوار بيته. واختط بعد ذلك أحمد بن سعيد بن أبي بكر اليغرنيّ صومعته سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، على رأس مائة سنة من اختطاط الجامع حسبما هو منقوش في الحجارة بالركن الشرقي منها. ثم أوسع في خطته المنصور بن أبي عامر، وجلب إليه الماء وأعدّ له السقاية والسلسلة بباب الحفاة منه.
ثم أوسع في خطته آخر ملوك لمتونة من الموحدين، وبني مرين واستمرّت العمارة به، وانصرفت هممهم الى تشييده والمنافسات في الاحتفال به فبلغ الاحتفال فيه ما شاء الله حسبما هو مذكور في تواريخ المغرب وهلك يحيى هذا سنة [1] وولى ابنه يحيى بن يحيى فأساء السيرة وكثر عبثه في الحرم وثارت به العامّة لمركب شنيع أتاه وتولى كبر الثورة عبد الرحمن بن أبي سهل الحزامي، وأخرجوه من عدوة القرويّين الى عدوة الاندلسيّين فتوارى ليلتين ومات أسفا ليلته. وانقطع الملك من عقب محمد
__________
[1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد وفاة يحيى بن محمد في المراجع التي بين أيدينا.

(4/20)


ابن إدريس، وبلغ الخبر بشأن يحيى إلى ابن عمّه عليّ بن عمر صاحب الريف، واستدعاه أهل الدولة من العرب والبربر والموالي فجاء إلى فاس ودخلها وبايعوه، واستولى على أعمال المغرب إلى أن ثار عليه عبد الرزاق الخارجي، خرج بجبال لمتونة وكان على رأي الصفريّة فزحف إلى فاس وغلب عليها، ففرّ إلى أروبة وملك عبد الرزاق عدوة الأندلس، وامتنعت منه عدوة القرويّين، وولّوا على أنفسهم يحيى بن القاسم بن إدريس، وكان يعرف بالصرام، بعثوا إليه فجاءهم في جموعه، وكانت بينه وبين الخارجي حروب. ويقال إنه أخرجه من عدوة الأندلس، واستعمل عليها ثعلبة بن محارب بن عبد الله، كان من أهل الربض بقرطبة من ولد المهلّب بن أبي صفرة. ثم استعمل ابنه عبد الله المعروف بعبود من بعده، ثم ابنه محارب بن عبود بن ثعلبة إلى أن اغتاله الربيع بن سليمان سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وقام بالأمر مكانه يحيى بن إدريس بن عمر صاحب الريف، وهو ابن أخي عليّ بن عمر فملك جميع أعمال الأدارسة، وخطب له على سائر أعمال المغرب، وكان أعلى بني إدريس ملكا وأعظمهم سلطانا، وكان فقيها عارفا بالحديث ولم يبلغ أحد من الأدارسة مبلغه في السلطان والدولة، وفي أثناء ذلك كله خلط [1] الملك للشيعة بإفريقية، وتغلّبوا على الاسكندرية واختطوا المهديّة كما نذكره في دولة كتامة. ثم طمحوا إلى ملك المغرب وعقدوا لمضالة بن حبوس كبير مكناسة وصاحب تاهرت على محاربة ملوكه سنة خمس وثلاثمائة، فزحف إليه في عساكر مكناسة وكتامة، وبرز لمدافعته يحيى بن إدريس صاحب المغرب بجموعه من المغرب، وأولياء الدولة من أوربة وسائل البرابرة والموالي، والتقوا على مكناسة وكانت الدبرة على يحيى وقومه، ورجع إلى فاس مغلولا وأجاز له بها معاملة إلى أن صالحه على مال يؤدّيه إليه وطاعة معروفة لعبيد الله الشيعي سلطانه، يؤدّيها فقبل الشرط، وخرج عن الأمر، وخلع نفسه، وأنفذ بيعته إلى عبيد الله المهديّ وأبقى عليه مصالحه في سكنى فاس، وعقد له على عملها خاصة، وعقد لابن عمّه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة يومئذ وصاحب سنور وتازير [2] على سائر أعمال البربر كما نذكره في أخبار مكناسة ودولة موسى. وكان بين موسى بن أبي العافية وبين يحيى بن إدريس شحناء وعداوة، يضطغنها كل واحد
__________
[1] هكذا بالأصل وليس لها معنى هنا ولعلها خلص وقد حرّفها الناسخ
[2] وفي نسخة ثانية سنوره تازه

(4/21)


لصاحبه حتى إذا عاد مضالة إلى المغرب في غزاته الثانية سنة تسع أغزاه موسى بن أبي العافية بطلحة بن يحيى بن إدريس صاحب فاس، فقبض عليه مضالة واستصفى أمواله وذخائره وغرّبه إلى أصيلا والريف عمل ذي قرباه ورحمه، وولىّ على فاس ريحان الكتاميّ. ثم خرج يحيى يريد إفريقية فاعترضه ابن أبي العافية وسجنه سنتين وأطلقه ولحق بالمهدية منه إحدى وثلاثين وهلك في حصار أبي يزيد سنة [1] واستبد ابن أبي العافية بملك المغرب وثار على ريحان الكتاميّ بفاس سنة ثلاثة عشرة وثلاثمائة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس الملقب بالحجّام، ونفى ريحان عنها وملكها عامين، وزحف للقاء موسى بن أبي العافية وكانت بينهما حروب شديدة هلك فيها ابنه منهال بن موسى، وانجلت المعركة على أكثر من ألف قتيل وخلص الحسن إلى فاس منهزما وغدر به حامد بن حمدان الأوربي واعتقله. وبعث إلى موسى فوصل إلى فاس وملكها وطالبه بإحضار الحسن فدافعه عن ذلك، وأطلق الحسن متنكرا فتدلى من السور فسقط ومات من ليلته وفرّ حامد ابن حمدان إلى المهديّة، وقتل موسى بن أبي العافية عبد الله بن ثعلبة بن محارب وابنيه محمدا ويوسف وذهب ملك الأدارسة، واستولى ابن أبي العافية على جميع المغرب وأجلى بني محمد بن القاسم بن إدريس، وأخاه الحسن إلى الريف فنزلوا البصرة، واجتمعوا إلى كبيرهم إبراهيم بن محمد بن القاسم أخي الحسن وولّوه عليهم واختط لهم الحصن المعروف بهم لك وهو حجر النسر سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ونزلوه وبنو عمر بن إدريس يومئذ بغمارة من لدن تيجساس إلى سبتة وطنجة، وبقي إبراهيم كذلك. وشمّر الناصر المرواني لطلب المغرب، وملك سبتة عليّ بن إدريس سنة تسع عشرة، وكبيرهم يومئذ أبو العيش بن إدريس بن عمر فانجابوا له عنها وأنزل بها حاميته. وهلك إبراهيم بن محمد كبير بني محمد فتولّى عليهم من بعده أخوه القاسم الملقّب بكانون، وهو أخو الحسن الحجّام، واسمه القاسم بن محمد بن القاسم، وقام بدعوة الشيعة انحرافا عن أبي العافية ومذاهبه. واتصل الأمر في ولده وغمارة أولياؤهم والقائمون بأمرهم كما نذكره في أخبار غمارة. ودخلت دعوة المروانيين خلفاء قرطبة إلى المغرب، وتغلّبت زناتة على الضواحي. ثم ملك بنو يعرب فاس وبعدهم مغراوة وأقام
__________
[1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد وفاته في المراجع التي لدينا

(4/22)


الأدارسة بالريف مع غمارة وتجدّد لهم به ملك في بني محمد، وبني عمر بمدينة البصرة وقلعة حجر النسر ومدينة سبتة وأصيلا. ثم تغلّب عليهم المروانيون وأنحنوهم إلى الأندلس، ثم أجازوهم إلى الإسكندرية. وبعث العزيز العبيديّ بن كانون منهم لطلب ملكهم بالمغرب فغلبه عليه المنصور بن أبي عامر وقتله. وعليه كان انقراض أمرهم وانقراض سلطان أوربة من المغرب، وكان من أعقاب الأدارسة الذين أووا إلى غمارة فكانوا الدائلين من ملوك الأموية بالأندلس. وذلك أنّ الأدارسة لما انقرض سلطانهم وصاروا إلى بلاد غمارة واستجدّوا بها رياسة، واستمرّت في بني محمد وبني عمر من ولد إدريس بن إدريس، وكانت للبربر إليهم بسبب ذلك طاعة وخلطة.
وكان بنو حمود هؤلاء [1] من غمارة فأجازوا مع البربر حين أجازوا في مظاهرة المستعين. ثم غلبوه بعد ذلك على الأمر وصار لهم ملك الأندلس حسبما نذكر في أخبارهم. (وأما سليمان) أخو إدريس الأكبر فإنه فرّ إلى المغرب أيام العبّاسيّين فلحق بجهات تاهرت بعد مهلك أخيه إدريس، وطلب الأمر هناك فاستنكره البرابرة وطلبه ولاة الأغالبة فكان في طلبهم تصحيح نسبه. ولحق بتلمسان فملكها وأذعنت له زناتة وسائر قبائل البربر هنالك، وورث ملكه ابنه محمد بن سليمان على سننه، ثم افترق بنوه على ثغور المغرب الأوسط، واقتسموا ممالكه ونواحيه فكانت تلمسان من بعده لابنه محمد بن أحمد بن القاسم بن محمد بن أحمد، وأظنّ هذا القاسم هو الّذي يدّعي بنو عبد الواد نسبه، فإنّ هذا أشبه من القاسم بن إدريس بمثل هذه الدعوى.
وكانت أرشكول لعيسى بن محمد بن سليمان وكان منقطعا إلى الشيعة، وكانت جراوة لإدريس بن محمد بن سليمان، ثم لابنه عيسى وكنيته أبو العيش، ولم تزل إمارتها في ولده، ووليها بعده ابنه إبراهيم بن عيسى، ثم ابنه يحيى بن إبراهيم، ثم أخوه إدريس بن إبراهيم، وكان إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول منقطعا إلى عبد الرحمن الناصر وأخوه يحيى كذلك. وارتاب من قبله ميسور قائد الشيعة فقبض عليه سنة ثلاثة وعشرين وثلاثمائة، ثم انحرف عنهم فلما أخذ ابن أبي العافية بدعوة العلويّة نابذ أولياء الشيعة فحاصر صاحب جراوة الحسن بن أبي العيش، وغلبه على جراوة فلحق بابن عمه إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول. ثم حاصرها البوري بن موسى
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وبعد مراجعة نسخ اخرى تبين لنا ان الناسخ ترك الفراغ دون مبرر

(4/23)


ابن أبي العافية وغلب عليهما، وبعث بهما إلى الناصر فأسكنهما قرطبة، وكانت تنس لإبراهيم بن محمد بن سليمان ثم لابنه محمد من بعده، ثم لابنه يحيى بن محمد، ثم ابنه عليّ بن يحيى، وتغلّب عليه زيري بن مناد سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة ففرّ إلى الجبر بن محمد بن خزر، وجاز ابناه حمزة ويحيى إلى الناصر فتلقّاهما رحبا وتكرمة.
ورجع يحيى منهما إلى طلب تنس فلم يظفر بها. وكان من ولد إبراهيم هذا أحمد بن عيسى بن إبراهيم صاحب سوق إبراهيم، وسليمان بن محمد بن إبراهيم من رؤساء المغرب الأوسط. وكان من بني محمد بن سليمان هؤلاء وبطوش بن حناتش بن الحسن ابن محمد بن سليمان، قال ابن حزم: وهم بالمغرب كثير جدّا، وكان لهم بها ممالك، وقد بطل جميعها ولم يبق منهم بها رئيس بنواحي بجاية. وحمل بني حمزة هؤلاء جوهر إلى القيروان وبقيت منهم بقايا في الجبال والأطراف معروفون لك عند البربر والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن صاحب الزنج وتصاريف أمره واضمحلال دعوته)
هذه الدعوة فيها اضطراب منذ أوّلها فلم يتمّ لصاحبها دولة، وذلك أنّ دعاة العلوية منذ زمان المعتصم من الزيدية كما شرحناه، وكان من أعظمهم الذين دعا لهم شيعتهم بالنواحي عليّ بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الشهيد، ولما اشتهر أمره فرّ وقتل ابن عمه عليّ بن محمد بن الحسن بن علي بن عيسى، وبقي هو متغيبا فادّعى صاحب الزنج هذا سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهدي أنه هو، فلما ملك البصرة ظهر هذا المطلوب، ولقيه صاحب الزنج حيّا معروفا بين الناس فرجع عن دعوى نسبه وانتسب إلى يحيى بن يزيد قتيل الجون، ونسبه المسعودي إلى طاهر بن الحسين بن عليّ، وقال فيه عليّ بن محمد بن جعفر بن الحسين بن طاهر.
ويشكل [1] ذلك بأنّ الحسين بن فاطمة لم يكن له عقب إلّا من زين العابدين، قاله ابن حزم وغيره، فإن أراد بطاهر طاهر بن يحيى المحدث بن الحسن بن عبيد الله بن
__________
[1] هكذا بالأصل ولعلها يشك وهذا تحريف من الناسخ.

(4/24)


الحسن الأصغر بن زين العابدين فتطول سلسلة نسبه، وتشتمل على اثني عشر إلى الحسين بن فاطمة، ويبعد ذلك إلى العصر الّذي ظهر فيه. والّذي عليه المحقّقون الطبري وابن حزم وغيرهما أنه رجل من عبد القيس من قرية تسمّى ودريفن من قرى الري، واسمه علي بن عبد الرحيم حدّثته نفسه بالتوثّب، ورأى كثرة خروج الزيديّة من الفاطميين فانتحل هذا النسب وادّعاه، وليس من أهله. ويصدّق هذا أنه كان خارجيّا على رأي الأزارقة يلعن الطائفتين من أهل الجمل وصفين، وكيف يكون هذا من علويّ صحيح النسب؟ ولأجل انتحاله هذا النسب وبطلانه في دعاويه فسد أمره فقتل ولم تقم له دولة بعد أن فعل الأفاعيل وعاث في جهات البصرة، واستباح الأمصار وخرّبها، وهزم العساكر وقتل الأمراء الأكابر، واتخذ لنفسه حصونا قتل فيها من جاوبه لمكره سنة الله في عباده. (وسياق الخبر عنه) أنه شخص من الذين حجبوا ببغداد مع جماعة من حاشية المنتصر، ثم سار إلى البحرين سنة تسع وأربعين ومائتين فادّعى أنه علويّ من ولد الحسين بن عبيد الله بن العباس بن عليّ، ودعا الناس إلى طاعته فاتبعه كثير من أهل هجر. ثم تحوّل إلى الإحساء، ونزل على بعض بني تميم ومعه قوارة يحيى بن محمد الأزرق وسليمان بن جامع، وقاتل أهل البحرين فهزموه وافترقت العرب عنه، ولحق بالبصرة والفتنة فيها بين البلاليّة والسعديّة، وبلغ خبره محمد بن رجاء العامل فطلبه فهرب وحبس ابنه وزوجته وبعض أصحابه، ولحق هو ببغداد فانتسب إلى عيسى بن زيد الشهيد كما قلناه، وأقام بها حولا، ثم بلغه أنّ البلالية والسعدية أخرجوا محمد بن رجاء من البصرة، وأن أهله خلصوا فرجع إلى البصرة في رمضان سنة خمس وخمسين، ومعه يحيى بن محمد وسليمان بن جامع. ومن أهل بغداد الذين استمالهم جعفر بن محمد الصمد حاني وعلي بن أبان وعبدان غير من سمينا فنزل بظاهر البصرة، ووجّه دعوته إلى العبيد من الزنوج وأفسدهم على مواليهم ورغّبهم في العتق، ثم في الملك، واتخذ راية رسم فيها أنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم الآية. وجاءه موالي العبيد في طلبهم فأمرهم بضربهم وحسبهم، ثم أطلقهم. وتسايل إليه الزنوج واتبعوه وهزم عساكر البصرة والأبلّة وذهب إلى القادسية، وجاءت العساكر من بغداد فهزمهم ونهب النواحي، وجاء المدد إلى البصرة مع جعلان من قوّاد الترك وقاتلوه فهزمهم. ثم ملك الأبلّة واستباحها، وسار إلى الأهواز وبها إبراهيم بن المدير على الخوارج. فافتتحها وأسر ابن

(4/25)


المدير سنة ست وخمسين إلى أن فرّ من محبسهم، فبعث المعتمد سعيد بن صالح الحاجب لحربهم سنة سبع وخمسين، وهو يومئذ عامل البصرة وسار من واسط فهزمه علي بن أبان من قوّاد الزنج لحربهم، هزمه إلى البحرين فتحصّن بالبصرة، وزحف علي بن أبان لحصاره حتى نزل على أمانه، ودخلها وأحرق جامعها، ونكب عليه صاحب الزنج فصرفه، وولّى على البصرة مكانه يحيى بن محمد البحراني، وبعث المعتمد محمد بن المولد إلى البصرة فأخرج عنه الزنج، ثم بيتوا محمد بن المولد فهزموه. ثم ساروا إلى الأهواز وعليها منصور الخيّاط فواقع الزنج فغلبوه وكان المعتمد قد استقدم أخاه أبا أحمد الموفّق من مكة وعقد له على الكوفة والحرمين وطريق مكة واليمن، ثم عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز، وأمره أن يعقد ليارجوج على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد بن صالح.
ثم انهزم سعيد بن صالح فعقد يارجوج لمنصور بن جعفر مكانه، ثم قتله الزنج كما قلناه فأمر المعتمد أخاه الموفّق بالمسير إليهم في ربيع سنة ثمان وخمسين، وعلى مقدّمته مفلح فأجفل الزنج عن البصرة، وسار قائدهم عليّ بن أبان فلقي مفلحا فقتل مفلح وانهزم أصحابه ورجع الموفّق إلى سامرّا، وكان اصطيخور ولي الأهواز بعد منصور الخيّاط، وجاءه يحيى بن محمد البحراني من قوّاد الزنج، وبلغهم مسير الموفّق فانهزم يحيى البحراني، ورجع في السفن، فأخذ وحمل إلى سامرّا فقتل [1] . وبعث صاحب الزنج مكانه عليّ بن أبان وسليمان الشعراني [2] فملكوا الأهواز من يد اصطيخور [3] سنة تسع وخمسين، بعد أن هزموه وهرب في السفن فغرق. وسرّح المعتمد لحربهم موسى بن بغا بعد أن عقد له على تلك الأعمال فبعث إلى الأهواز عبد الرحمن بن مفلح، وإلى البصرة إسحاق بن كيداجق [4] ، وإلى باداورد إبراهيم بن سليمان [5] ، وأقاموا في حروبهم مدّة سنة ونصفها. ثم استعفى موسى بن بغا وولّى على تلك
__________
[1] قصة انهزام يحيى البحراني غير واضحة ومبتورة وفي كتاب «ثورة الزنج» للدكتور فيصل السامر ص 114: «وفي موقعة اخرى جرت في الأهواز جرح وأسر أحد قواد الزنج الكبار وهو يحيى البحراني وأخذ الى سامرّاء حيث ضرب بالسياط على مرأى من الناس وقطعت يداه، ورجلاه ثم ذبح وأحرق» .
[2] هما: علي بن أبان المهلبي وسليمان بن موسى الشعراني.
[3] اصعجور: ابن الأثير ج 7 ص 259
[4] إسحاق بن كنداجق: ابن الأثير ج 7 ص 260
[5] وإلى باذاورد إبراهيم بن سيما: المرجع السابق.

(4/26)


الأعمال مكانه مسرور البلخي، وجهّز المعتمد أخاه أبا أحمد الموفّق لحربهم بعد أن عهد له بالخلافة ولقّبه الناصر لدين الله الموفق، وولّي على أعمال المشرق كلها إلى آخر أصفهان وعلى الحجاز، فسار لذلك سنة اثنتين وستين، واعترضه يعقوب الصفّار يريد بغداد فشغل بحربة، وانهزم الصفّار وانتزع من يده ما كان ملكه من الأهواز، وكان مسرور البلخي قد سار إلى المعتمد وحضر معه حرب الصفّار، فاغتنم صاحب الزنج خلوّ تلك النواحي من العسكر وبث سراياه للنهب والتخريب في القادسيّة، وجاءت العساكر من بغداد مع أغرتمش وخشتش [1] فهزمهم الزنج وقائدهم سليمان ابن جامع، وقتل خشتش. وكان علي بن أبان من قوّادهم قد سار إلى الأهواز، وأميرها يومئذ محمد بن هزارمرد الكردي، فبعث مسرور البلخي أحمد بن الينونة [2] للقائهم فغلب أولا على الأهواز عليّ بن أبان. ثم ظاهره محمد بن هزارمرد والأكراد فرجع إلى السوس، وأقام علي بن أبان وصاحبه بتستر، وطمع أنه يخطب لصاحب الزنج فخطب هو للصفّار فاقتتلا، وانهزم علي بن أبان وخرج واضطربت فارس بالفتنة. ثم ملك الصفّار الأهواز وواعد الزنج، وسار سليمان بن جامع من قوّاد الزنج، وولّى الموفّق على مدينة واسط أحمد بن المولد، فزحف إليه الخليل بن أبان فهزمه، واقتحم واسطا واستباحها سنة أربع وستين وضربت خيولهم في نواحي السواد إلى النعمانية إلى جرجرايا فاستباحوها، وسار عليّ بن أبان إلى الأهواز فحاصرها واستعمل الموفّق عليها مسرورا البلخيّ فبعث تكيد البخاريّ [3] إلى تستر فهزمهم علي ابن أبان وجماعة الزنج، وسألوه الموادعة فوادعهم واتهمه مسرور فقبض عليه، وبعث مكانه أغرتمش فهزم الزنج أوّلا ثم هزموه ثانيا فوادعهم. ثم سار علي بن أبان الى محمد بن هزارمرد الكرديّ فغلبه على رامهرمز حتى صالحه عليها على مائتي ألف درهم، وعلى الخطبة له في أعماله. ثم سار ابن أبان لحصار بعض القلاع بالأهواز، فزحف إليه مسرور البلخيّ فهزمه واستباح معسكره. وكان الموفّق لما اقتحم الزنج مدينة واسط بعث ابنه أبا العبّاس سنة ست وستين في عشرة آلاف من المقاتلة، ومعه السفن في النهر عليها أبو حمزة نصير فكتب إليه نصير بأن سليمان بن جامع أقبل في
__________
[1] حشيش: ابن الأثير ج 7 ص 293
[2] احمد بن ليثويه: ابن الأثير ج 7 ص 294
[3] تكين البخاري: ابن الأثير ج 7 ص 329

(4/27)


المقاتلة والسفن برّا وبحرا، وعلى مقدّمته الجناني [1] ، ولحقهم سليمان بن موسى الشعراني بالعساكر، ونزلوا من الطفح إلى أسفل واسط، فسار إليهم أبو العبّاس فهزمهم، فتأخروا وراءهم وأقام على واسط يردّد عليهم الحروب والهزائم مرة بعد أخرى، ثم أمر صاحب الزنج قائده ابن أبان وابن جامع أن يجتمعا لحرب أبي العبّاس بن الموفّق، وبلغ ذلك الموفّق فسار من بغداد في ربيع سنة سبع وستين فانتهى إلى المنيعة، وقاتل الزنج فانهزموا أمامه واتبعهم أصحاب أبي العبّاس ابنه فاقتحموا عليهم المنيعة وقتلوا وأسروا، وهدم سور المنيعة وطمس خندقها وهرب الشعراني وابن جامع. وسار أبو العبّاس إلى المنصورة بطهشا [2] فنازلها وغلب عليها، وأفلت ابن جامع إلى واسط وغلب على ما فيها من الذخائر والأموال، وهدم سورها وطمّ خنادقها ورجع إلى واسط. ثم سار الموفّق إلى الزنج بالأهواز واستخلف ابنه هارون على جنده بواسط، وجاءه الخبر برجوع الزنج إلى طهشا والمنصورة، فردّ إليهم من يوقع بهم ومضى لوجهه فانتهى إلى السوس وعليّ بن أبان بالأهواز، فسار إلى صاحبه واستأمن المخلفون لك إلى الموفّق فامّنهم، وسار إلى تستر وأمّن محمد بن عبد الله الكردي، ثم وافى الأهواز وكتب إلى ابنه هارون أن يوافيه بالجند بنهر المبارك من فرات البصرة، وبعث ابنه أبا العبّاس لحرب الخبيث بنهر أبي الخصيب واستأمن إليه جماعة من قوّاده فأمّنهم وكتب إليه بالدعوة والأعذار، وزحف إليه في مدينته المختارة له، وأطلق السفن في البحر وعبّى عساكره وهي نحو من خمسين ألفا والزنج في نحو من ثلاثمائة ألف مقاتل، ونصب الآلات ورتّب المنازل للحصار، وبنى المقاعد للقتال، واختطّ مدينة الموفقية لنزوله، وكتب بحمل الأموال والميرة إليها فحملت، وقطع الميرة.
عن المختارة، وكتب إلى البلاد بإنشاء السفن والاستكثار منها، وقام يحاصرها من شعبان سنة سبع وستين إلى صفر من سنة سبعين. ثم اقتحم عليهم المختارة فملكها وفرّ الخبيث وابنه أنكلاي وابن جامع إلى معقل أعدّه واتبعه طائفة من الجند فانقطعوا عنه، وأمرهم من الغد باتباعه فانهزم وقتل من أصحابه وأسر ابن جامع. ثم قتل صاحب الزنج وجيء برأسه ولحق أنكلاي بالديناري في خمسة آلاف، ولحقهم أصحاب الموفّق فظفروا بهم وأسروهم أجمعين. وكان درمونة من قوّاده قد لحق
__________
[1] الحياتي: ابن الأثير ج 7 ص 338
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 345 طهثا.

(4/28)


بالبطيحة، واعتصم بالمغايض والآجام ليقطع الميرة عن أصحاب الموفّق، فلما علم بقتل صاحبه استأمن إلى الموفّق فأمّنه، ثم أقام الموفّق بمدينته قليلا وولّى على البصرة والأبلّة وكور دجلة، ورجع إلى بغداد فدخلها في جمادى سنة سبعين، وكان لصاحب الزنج من الولد محمد ولقبه انكلاي ومعناه بالزنجية ابن الملك، ثم يحيى وسليمان والفضل حبسوا في المطبق إلى أن هلكوا. والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن دعاة الديلم والجيل من العلويّة وما كان لهم من الدولة بطبرستان للدّاعي وأخيه أولا ثم الأطروش وبنيه وتصاريف ذلك إلى انقضائه)
(كان) أبو جعفر المنصور قد اختص من العلوية من بني الحسن السبط حافده الحسن ابن زيد بن الحسن وولّاه المدينة، وهو الّذي امتحن الإمام مالكا رحمه الله كما هو معروف. وهو الّذي أغرى المنصور من قبل ببني حسن وأخبره بدسيسة محمد المهديّ وابنه عبد الله في شأن الدعاء لهم حتى قبض عليهم وحملهم إلى العراق كما قدّمناه.
وكان له عقب بالريّ منهم: الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن والي المدينة، ولما حدث بين عامل طبرستان محمد بن أوس الكافل بها لسليمان بن عبد الله ابن طاهر نائبا عن محمد بن طاهر صاحب خراسان، وبين محمد وجعفر من بني رستم من أهل نواحي طبرستان حادث فتنة، وقد تقدّم ذكرها، أغروا به أهل تلك النواحي وبعثوا إلى الديلم ليستنجدوا بهم عليه، وكانوا على المجوسيّة يومئذ، وهم حرب لمحمد بن أوس لدخوله بلادهم، وقتله وسبيه منهم أيام المسالمة، وملكهم يومئذ وهشوذان بن حسّان فأجابوا ابني رستم إلى حربه. وبعث ابنا رستم إلى محمد بن إبراهيم بطبرستان لكون الدعوة له فامتنع، ودلّهم على الحسن بن زيد بالري فاستدعوه بكتاب محمد بن إبراهيم فشخص إليهم، وقد اتفق الديلم وابنا رستم وأهل ناحيتهم على بيعته فبايعوه، وانضم إليهم أهل جبال طبرستان. وزحف إلى آمد فقاتله ابن أوس دونه، وخالفه الحسن بن زيد في جماعة إلى آمد فملكها، ونجا ابن أوس إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر بسارية وزحف إليهم الحسن فخرجوا للقائه فناشبهم

(4/29)


الحرب، وبعث بعض قوّاده إلى سارية فملكها، وانهزم سليمان إلى جرجان، واستولى الحسن على معسكره بما فيه وعلى حرمه وأولاده فبعثهم إليه في السفن. ويقال إنّ سليمان انهزم له لدسيسة التشيّع التي كانت في بني طاهر، ثم أقبل الحسن بن زيد إلى طبرستان فملكها وهرب عنها سليمان، ثم بعث الحسن دعاته إلى النواحي وكان يعرف بالداعي العلويّ فبعث الى الري القاسم ابن عمّه علي بن إسماعيل، وبها القاسم بن علي بن زين العابدين السمري فملكها، واستخلف بها محمد بن جعفر بن أحمد بن عيسى بن حسين الصغير ابن زين العابدين. وبعث إلى قزوين الحسين المعروف بالكوكبي بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن جعفر، وهزمه وأسره فبعث الحسن بن زيد قائده دواجن إلى محمد بن ميكال فهزمه وقتله، وملك الري من يده، وذلك سنة خمسين ومائتين. ثم زحف سليمان بن عبد الله بن طاهر من جرجان في العساكر فأجفل الحسن بن زيد عن طبرستان إلى الديلم ودخلها سليمان. ثم قصد سارية وأتاه ابنا قاران بن شهرزاد من الديلم وأتاه أهل آمد وغيرهم طائعين فصفح عنهم. ثم سار محمد بن طاهر إلى لقاء الحسن فهزمه، وقتل من أعيان أصحابه ثلاثمائة وأربعين رجلا. ثم زحف موسى بن بغا لحربهم سنة ثلاث وخمسين فلقيه الحسن الكوكبي على قزوين، وانهزم إلى الديلم واستولى موسى بن بغا على قزوين. ثم رجع الكوكبيّ سنة ست وخمسين، فاستولى على الريّ واستولى القاسم بن عليّ بعدها على الكرخ سنة سبع. ثم زحف الحسن بن زيد إلى جرجان وبعث إليهما محمد بن طاهر صاحب خراسان العساكر فهزمهم الحسن، وغلبهم عليها وانتقض أمر ابن طاهر بخراسان من يومئذ واختلف المغلبون عليه، وكان ذلك داعيا إلى انتزاع يعقوب الصفّار خراسان من يده. ثم غلبه الحسن سنة تسع وخمسين على قومس.
(استيلاء الصفار على طبرستان)
كان عبد الله السخري ينازعه يعقوب بن الليث الصفّار الرئاسة بسجستان، فلما استولى يعقوب على الأمر هرب عبد الله إلى نيسابور مستجيرا بابن طاهر فأجاره. فلما هلك يعقوب الصفّار بنيسابور هرب عبد الله إلى الحسن بن زيد ونزل سارية وبعث فيه

(4/30)


يعقوب الصفّار فلم يسلّمه الحسن بن زيد، فسار إليه يعقوب سنة ستين، وهزمه فلحق بأرض الديلم ولحق عبد الله بالري، وملك يعقوب سارية وآمد وجبى خراجها، وسار في طلب الحسن فتعلّق بجبال طبرستان، واعترضه الأمطار والأوحال فلم يخلص إلّا بمشقّة. وكتب إلى الخليفة بخبر الحسن وما فعله معه، وسار إلى الريّ في طلب عبد الله السخري فأمكنه منه، وإلى الريّ فقتله. ثم رجع الحسن بن زيد إلى طبرستان سنة إحدى وستين، وغلب عليها أصحاب الصفّار وأقطعتها عنهم. ثم انتقض السجستانيّ [1] على يعقوب بن الليث بخراسان وملكها من يده كما ذكرناه، فسار وحاربه أبو طلحة بن شركب وأمره الحسن بن زيد فسار السجستاني إلى محاربته بسبب ذلك سنة خمس وستين، وانتزع جرجان من يده، ثم خرج عنها لقتال عمرو ابن الليث بعد موت أخيه يعقوب كما نذكر في أخبارهم، فملكها الحسن بن زيد. ثم أوقع السجستاني بالحسن بن زيد سنة ست وستين، كبسه بجرجان وهو غاز فهزمه ولحق بآمد وملك سارية، واستخلف عليها الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله الشيعي بن الحسين الأصغر بن زين العابدين [2] . وانصرف فأظهر الحسن بسارية قتل الحسن بن زيد، ودعا لنفسه فبايعه جماعة، ثم وافاه الحسن بن زيد فظفر به وقتله.
(وفاة الحسن بن زيد وولاية أخيه)
ثم توفي الحسن بن زيد صاحب طبرستان في رجب سنة سبعين وولي مكانه أخوه محمد، وكان قيامهم أولا على ابن طاهر كما ذكرناه. ثم غلب يعقوب الصفّار على خراسان وانتقض عليه أحمد السجستاني، وملكها من يده. ثم مات يعقوب سنة خمس وستين وولي مكانه أخوه عمرو، وزحف إلى خراسان، وقاسم السجستاني فيها وكانت بينهما حروب، وكان الحسن داعي طبرستان يقابلهما جميعا إلى أن هلك، وولي مكانه أخوه كما ذكرناه. وكانت قزوين تغلّب عليها أثناء ذلك عساكر الموفّق ووليها أذكوتكين من مواليهم فزحف إلى الري سنة اثنتين وسبعين، وزحف إليه محمد
__________
[1] الخجستاني: ابن الأثير ج 7 ص 296.
[2] الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن حسين الأصغر العقيقي: ابن الأثير ج 7 ص 335.

(4/31)


بن زيد في عالم كبير من الديلم وأهل طبرستان وخراسان فانهزم، وقتل من عسكره ستة آلاف، وأسر ألفان، وغنم أذكوتكين عسكره جميعا وملك الريّ وفرّق عمّاله في نواحيها. ثم مات السجستاني وقام بأمره في خراسان رافع بن الليث من قوّاد الظاهريّة فغلب محمد بن زيد على طبرستان وجرجان فلحق بالديلم، ثم صالحه سنة إحدى وثمانين وخطب له فيها سنة اثنتين وثمانين على أن ينجده على عمرو بن الليث. وكتب له عمرو بن الليث يعذله عن ذلك فأقصر عنه، فلمّا غلب عمرو على رافع رعى لمحمد ابن زيد خذلانه لرافع فخلّى له عن طبرستان وملكها.
(مقتل محمد بن زيد)
كان عمرو بن الليث لما ملك خراسان، وقتل رافع بن هرثمة، طلب من المعتضد ولاية ما وراء النهر فولّاه. واتصل الخبر بإسماعيل بن أحمد الساماني ملك تلك الناحية فعبر جيحون وهزم جيوش عمرو بن الليث ورجع إلى بخارى، فزحف عمرو بن الليث من نيسابور إلى بلخ وأعوزه العبور. وجاء إسماعيل فعبر النهر، وأخذ عليه الجهات بكثرة جموعه فأصبح كالمحاصر، ثم اقتتلوا فانهزم عمرو وأسره إسماعيل وبعث به إلى المعتضد سنة ثمان وثمانين فحبسه إلى أن قتل، وعقد لإسماعيل على ما كان بيد عمرو. ولما اتصل بمحمد بن زيد، واقعة عمرو وأمره سار من طبرستان لا يرى أنّ إسماعيل يقصدها، فلما انتهى إلى جرجان بعث إليه إسماعيل يصدّه عن ذلك فأبى، فسرّح إليه محمد بن هارون، وكان من قوّاد رافع بن هرثمة، وصار من قوّاد إسماعيل ابن سامان فلقي محمد بن زيد على جرجان واقتتلوا فانهزم محمد بن هارون أولا، ثم رجعت الكرّة على محمد بن زيد، وافترقت عساكره وقتل من عسكره عالم وأسر ابنه زيد، وأصابته هو جراحات هلك منها لأيام قلائل، وغنم ابن هارون عسكره بما فيه، وسار إلى طبرستان فملكها وبعث يزيد إلى إسماعيل فأنزله ببخارى، ووسع عليه الإنفاق واشتدّت عليه شوكه الديلم وحاربهم إسماعيل سنة تسع وثمانين، وملكهم يومئذ ابن حسّان فهزمهم، وصارت طبرستان وجرجان في ملك بني سامان مع خراسان، إلى أن ظهر بها الأطروش كما نذكر بعد. ويقال إنّ زيد بن محمد بن زيد ملك طبرستان من بعد ذلك إلى أن توفي وملكها من بعده ابنه الحسن بن زيد.

(4/32)


(ظهور الأطروش العلويّ وملكه طبرستان)
الأطروش هذا من ولد عمر بن زين العابدين الّذي كان منهم داعي الطالقان أيام المعتصم، وقد مرّ ذلك. واسم الأطروش الحسن بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن عمر، دخل إلى الديلم بعد مقتل محمد بن زيد وأقام فيهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام ويأخذ منهم العشر، ويدافع عنهم ملكهم ابن حسّان، فأسلم منهم خلق كثير، واجتمعوا عليه وبنى في بلادهم المساجد وحملهم على رأي الزيديّة فدانوا به.
ثم دعاهم إلى المسير معه إلى طبرستان. وكان عاملها محمد بن نوح من قبل أحمد بن إسماعيل بن سامان، وكان كثير الإحسان إليهم فلم يجيبوا الأطروش إلى البغي عليه. ثم عزل ابن سامان عن طبرستان ابن نوح وولّى عليها غيره، فأساء السيرة فأعاد إليها ابن نوح، ثم مات فاستعمل عليها أبا العبّاس محمد بن إبراهيم صعلوكا فأساء السيرة وتنكّر لرؤساء الديلم، فدعاهم الحسن الأطروش للخروج معه فأجابوه فسار إليهم صعلوك، ولقيهم بشاطئ البحر على مرحلة من سالوس فانهزم وقتل من أصحابه نحو من أربعة آلاف، وحصر الأطروش بقيتهم في سالوس حتى استأمنوا إليه فأمّنهم ونزل آمد. وجاء صهره الحسن بن قاسم بن عليّ بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد البطحاني بن القاسم بن الحسن بن زيد والي المدينة، وقد مر ذكره، فلم يحضر قتل أولئك المستأمنين، واستولى الأطروش على طبرستان وتسمّى الناصر، وذلك سنة إحدى وثلاثمائة، ولحق صعلوك بالريّ، وسار منها إلى بغداد. ثم زحف الناصر سنة اثنتين [وثلاثمائة] فخرج عن آمد ولحق بسالوس، وبث إليه صعلوك العساكر فهزمهم الحسن الداعي وهو الحسن بن زيد. ثم زحفت إليه عساكر خراسان وهي للسعيد نصر بن أحمد فقتلوه سنة أربع وثلاثمائة، وولي صهره وبنوه وكانت بينهم حروب بالديلم كما نذكره. وكان له من الولد أبو القاسم وأبو الحسن وكان قوّاده من الديلم جماعة منهم ليلى بن النعمان، وولّاه صهره الحسن بعد ذلك جرجان، وما كان بن كالي، وكانت له ولاية أستراباذ، ويقرأ من كتاب الديلم، وكان من قوّاده من الديلم جماعة أخرى منهم أسفار بن شيرويه من أصحاب ما كان ومرداويج [1] من أصحاب اسفار
__________
[1] قال المسعودي في مروج الذهب وتفسير مرداويج معلق الرجال وقد يكتب مزداويج بالزاي.
ابن خلدون م 3 ج 4

(4/33)


والسيكري من أصحابه أيضا، ومولويه من أصحاب مرداويح، ويأتي الخبر عن جميعهم. وكان الحسن بن قاسم صهر الأطروش، وكان رديفه في الأمر حتى كان يعرف بالداعي الصغير، واستعمل على جرجان سنة ثمان وثلاثمائة ليلى بن النعمان من كبار الديلم. وكان له مكان في قومه، وكان الأطروش وأولاده يلقّبونه المؤيد لدين الله، المنتصر لآل رسول الله، وكانت خراسان يومئذ لنصر بن أحمد من بني سامان.
وكان الدامغان ثغرها من ناحية طبرستان، وكان بها فراتكين من موالي ابن سامان فوقعت بينه وبين ليلى حروب وهزمه ليلى، واستفحل أمره ونزع إليه فارس مولى فراتكين فأكرمه وأصهر إليه بأخته واستأمن إليه أبو القاسم بن حفص وهو ابن أخت أحمد بن سهل قائد السامانية عند ما نكب خاله أحمد فأمّنه وأجاره. ثم حرّضه الحسن بن قاسم الداعي الصغير على المسير إلى نيسابور، فسار إليها ومعه أبو القاسم بن حفص فملكها من يفراتكين سنة ثمان وثلاثمائة، وخطب بها للداعي. وأنفذ السعيد نصر عساكره إليه من بخارى مع قائده حمويه بن عليّ، ومعه محمد بن عبيد الله البلعمي وأبو جعفر صعلوك، وخوارزم شاه وسيجور الدواني ويقراخان فلقيهم ليلى بطوس، وقاتلوه فانهزم إلى آمد ولم يقدر على الحصار، ولحقه يقراخان فقبض عليه وبعث حمويه من قتله، واستأمن الديلم إليهم فأمّنوهم، وأشار حمويه بقتلهم فاستجار بالقواد، وبعث برأس ليلى إلى بغداد، وذلك في ربيع من سنة تسع وبقي فارس مولى فراتكين بجرجان.
(امارة العلوية بطبرستان بعد الأطروش)
ولما قتل الحسن الأطروش سنة أربع وثلاثمائة، كما قدّمناه، ولّى مكانه بطبرستان صهره، وهو الحسن بن القاسم، وقد مرّ ذكره، ويسمّى بالداعي الصغير، وتلقّب بالناصر. وبعض الناس يقولون هو الحسن بن محمد أخي الأطروش، هكذا قال ابن حزم وغيره، وليس بصحيح وإنما هو صهره الحسن بن القاسم من عقب الحسين بن زيد والي المدينة. ثم من عقب حافده محمد البطحاني بن القاسم بن الحسن، وكان أبو الحسن بن الأطروش بأستراباذ فبايع له ما كان بن كالي، وقام بأمره فلما قتل ليلى بن النعمان صاحب جرجان، وعاد فراتكين إليها، ثم انصرف عنها

(4/34)


وجاءه أبو الحسن بن الأطروش بأستراباذ فبايع له فملكها، فبعث السعيد بن سامان صاحب خراسان قائده سيجور الدواني في أربعة آلاف فارس لحصاره بجرجان فحاصره شهرا، ومع الحسن صاحب جيشه سرخاب بن وهشوداب، وهو ابن عم ما كان بن كالي فلما اشتدّ بهم الحصار خرج أبو الحسن وسرخاب في ثمانية آلاف من الديلم والجند فانهزم سيجور أوّلا فأتبعوه وقد أكمن لهم الكمائن فخرجت عليهم، وقتل من الديلم والجند نحو أربعة آلاف، وخلص أبو الحسن في البحر إلى أستراباذ، ولحقه سرخاب فخلفه، وأقام سيجور بجرجان. ثم هلك سرخاب وسار أبو الحسن إلى سارية واستخلف ما كان بن كالي على أستراباذ، فاجتمع إليه الديلم وولّوه على أنفسهم، وزحف إليه عساكر السعيد بن سامان فحاصروه مدّة. ثم خرج عن أستراباذ إلى سارية فملكوها وولوا عليها يقراخان، وعادوا إلى جرجان ثم إلى نيسابور، ثم سار ما كان بن كالي إلى أستراباذ وملكها من يد يقراخان، ثم ملك جرجان وأقام بها وذلك سنة عشر وثلاثمائة. ثم استولى اسفار بن شيرويه على جرجان، واستقلّ بها، وكان سبب ذلك أنه كان من أصحاب ما كان بن كالي ونكره لبعض أحواله فطرده من عسكره، وسار إلى أبي بكر بن محمد بن اليسع من السامانية بنيسابور فخدمه، وبعثه في عسكر إلى جرجان ليفتحها له، وقد كان ما كان سار إلى طبرستان وولّى على جرجان مكانه أخاه أبا الحسن عليّا، وكان أبو الحسن بن الأطروش معتقلا عنده، وهمّ ليلة بقتله، وقصده في محبسه فظفر به أبو علي وقتله، وخرج من الدار واختفى وبعث من الغد الى القوّاد فبايعوا له وولّوا على جيشه عليّ بن خرشيد ورضوا به. واستقدموا اسفار بن شيرويه فأستأذن بكر بن محمد وقدم عليهم، وسار إليهم ما كان بن كالي فحاربوه وغلبوه على طبرستان، وأنزلوا بها أبا عليّ بن الأطروش فأقام بها أياما ومات على أثره عليّ بن خرشيد صاحب جيشه، وجاء ما كان بن كالي لحرب اسفار بطبرستان فانهزم اسفار ولحق ببكر بن محمد بجرجان وأقام إلى أن توفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة فولّاه السعيد على جرجان، وأرسل إلى مرداويح بن دينار الجبليّ، وجعله أمير جيشه، وزحفوا إلى طبرستان فملكوها. وكان الحسن بن القاسم الدّاعي قد استولى على الريّ وقزوين وزنجار وأبهر وقمّ، وقائده ما كان بن كالي الديلميّ فسار إلى طبرستان وقاتله اسفار فانهزم ما كان، والحسن بن القاسم الداعي، وقتل بخذلان أصحابه إيّاه، لأنه كان

(4/35)


يشتدّ عليهم في تغيير المنكرات فتشاوروا في أن يستقدموا هذرسيدان من رؤساء الجبل، وكان خال مرداويح ووشكين فيقدّموه عليهم ويحبسوا الحسن الداعي وينصبوا أبا الحسن بن الأطروش. ونما الخبر بذلك إلى الداعي وقدم هذرسيدان فلقيه الداعي مع القواد وأدخلهم إلى قصره بجرجان ليأكلوا من مائدته فدخلوا وقتلهم عن آخرهم، فعظمت نفرتهم عنه فخذلوه في هذا الموطن وقتل، واستولى اسفار على طبرستان والريّ وجرجان وقزوين وزنجار وأبهر وقمّ والكرج، ودعا للسعيد بن سامان صاحب خراسان، وأقام بسارية واستعمل على آمد هارون بن بهرام، وقصد بذلك استخلاصه لنفسه لأنه كان يخطب لأبي جعفر من ولد الناصر الأطروش فولاه آمد وزوّجه بإحدى نسائه الأعيان بها، وحضر عرسه أبو جعفر وغيره من العلويّين، وهجم عليه اسفار يوم عرسه بآمد، فقبض على أبي جعفر وغيره من أعيان العلويّين، وحملهم إلى بخارى فاعتقلوا بها إلى أن خلصوا من بعد ذلك. (ومن تاريخ بعض المتأخرين) أنّ الحسن بن القاسم الداعي صهر الأطروش، بويع بعد موته ولقّب الناصر، وملك جرجان. وكان الديلم قد اشتملوا على جعفر بن الأطروش، وتابعوه فصار الداعي إلى طبرستان وملكها ولحق جعفر بدنباوند [1] فقبض عليه عليّ بن أحمد بن نصر وبعث به إلى عليّ بن وهشودان بن حسّان ملك الديلم وهو عامله، فحبسه عليّ بن وهشودان بن حسّان ملك الديلم فلما قتل أطلقه من بعده حسرة فيروز، فاستجاش جعفر بالديلم وعاد إلى طبرستان فملكها وهرب الحسن. ثم مات جعفر فبويع أبو الحسن ابن أخيه الحسن، فلما ظهر ما كان بن كالي بايع للحسن الداعي وأخرجه إليه، وقبض على الحسن بن أحمد وهو ابن أخي جعفر وحبسه بجرجان عند أخيه أبي عليّ ليقتله فقتله الحسن ونجا، وبايعه القوّاد بجرجان.
ثم حاربه ما كان فانهزم الحسن إلى آمد ومات بها، وبويع أخوه أبو جعفر بن محمد ابن أحمد وقصده ما كان من الريّ فهرب من آمد إلى سارية وبها اسفار بن شيرويه.
فقاتل دونه وانهزم اسفار إلى جرجان، واستأمن إلى أبي بكر بن محمد بن الياس.
ثم بايع ما كان لابي القاسم الداعي، وخرج الحسن إلى الريّ وطلب مرداويح بثأر خاله سيداب بن بندار. وكان الداعي بجرجان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة،
__________
[1] قوله دنباوند بضم الدال المهملة وسكون النون وباء موحدة وألف وفتح الواو وسكون النون ثم دال مهملة.
وبعضهم يقول دماوند بالميم والأول أصح انتهى. من أبي الفداء.

(4/36)


وانصرف ما كان إلى الديلم، ثم ملك طبرستان وبايع بها لأبي عليّ الناصر بن إسماعيل بن جعفر بن الأطروش، وهلك بعد مدّة. ومضى أبو جعفر محمد بن أبي الحسن أحمد بن الأطروش إلى الديلم إلى أن غلب مرداويح على الريّ، فكتب إليه وأخرجه عن الديلم وأحسن إليه. فلما غلب على طبرستان وأخرج ما كان عنها بايع لأبي جعفر هذا، وسمّي صاحب القلنسوة إلى أن مات، وبويع أخوه ولقب الثائر، وأقام مع الديلم وزحف سنة ست وثلاثين إلى جرجان، وبها ركن الدولة بن بويه، فسرّح إليه ابن العميد فانهزم الثائر، وتعلّق بالجبال، وأقام مع الديلم وملوك العجم يخطبون له إلى أن هلك سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، لثلاثين سنة من ملكه، وبايعوا لأخيه الحسين بن جعفر وتلقّب بالناصر، وتقبض عليه ليكو بن وشكس ملك الجبل وسلّمه وانقرض ملك الفاطميّين أجمع بتلك الجبال والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن دولة الإسماعيلية ونبدأ منهم بالعبيديين الخلفاء بالقيروان والقاهرة وما كان لهم من الدولة من المشرق والمغرب)
أصل هؤلاء العبيديّين من الشيعة الإمامية، وقد تقدّم لنا حكاية مذهبهم والبراءة من الشيخين ومن سائر الصحابة، لعدو لهم عن بيعة عليّ إلى غيره مع وصية النبيّ صلى الله عليه وسلم له بالإمامة بزعمهم، وبهذا امتازوا عن سائر الشيعة. وإلّا فالشيعة كلهم مطبقون على تفضيل عليّ ولم يقدح ذلك عند الزيدية في إمامة أبي بكر لقولهم بجواز إمامة المفضول مع الأفضل، ولا عند الكيسانية لأنهم لم يدّعوا هذه الوصية، فلم يكن عندهم قادح فيمن خالفها. وهذه الوصية لم تعرف لأحد من أهل النقل.
وهي من موضوعات الإمامية [1] وأكاذيبهم، وقد يسمّون رافضة، قالوا لأنه لما
__________
[1] وهي الموضوعات التي تتناول الإمامة الكبرى وهي إمامة المسلمين كافة وترى الشيعة بفرقها المتعددة ان النبي (صلى الله عليه وسلم) عهد الى الإمام علي (رضي الله عنه) بالخلافة من بعده، وشروط الإمام معروفة ومدرجة في أكثر الكتب ويضيف الشيعة الى هذه الشروط ان الإمام يجب ان يكون من بيت النبي، وعلى هذا فاختيار الإمام محصور في ذرية علي وفاطمة. وهم يذهبون الى ان عليا قد نصب اماما بنص أعلن عند غدير خمّ، والإمامة وراثية في ذريته، وينحصر الاختيار فيمن يبايع منهم بالإمامة وهي مسألة أثارت الخصومات في بيت النبي.

(4/37)


خرج زيد الشهيد بالكوفة واختلف عليه الشيعة ناظروه في أمر الشيخين وأنهم ظلموا عليّا فنكر ذلك عليهم فقالوا له: وأنت أيضا فلم يظلمك أحد، ولا حقّ لك في الأمر، وانصرفوا عنه ورفضوه فسموا رافضة، وسمّي أتباعه زيدية. ثم صارت الإمامة من عليّ إلى الحسن ثم الحسين ثم ابنه عليّ زين العابدين، ثم ابنه محمد الباقر، ثم ابنه جعفر الصادق، كل هؤلاء بالوصيّة، وهم ستة أئمة لم يخالف أحد من الرافضة في إمامتهم. ثم افترقوا من هاهنا فرقتين وهم الاثنا عشرية والإسماعيلية.
واختص الاثنا عشرية باسم الإمامية لهذا العهد، ومذهبهم أنّ الإمامة انتقلت من جعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم، وخرج دعاته بعد موت أبيه فحمله هارون من المدينة وحبسه عند عيسى بن جعفر، ثم أشخصه إلى بغداد وحبسه عند ابن شاهك.
ويقال إنّ يحيى بن خالد سمّه في رطب فقتله، وتوفي سنة ثلاث وثمانين ومائة.
وزعم شيعتهم أنّ الإمام بعده ابنه عليّ الرضا وكان عظيما في بني هاشم، وكانت له مع المأمون صحبة، وعهد له بالأمر من بعده سنة إحدى ومائتين عند ظهور الدعاة للطالبيّين وخروجهم في كل ناحية. وكان المأمون يومئذ بخراسان لم يدخل العراق بعد مقتل أخيه الأمين فنكر ذلك عليه شيعة العبّاسيّين وبايعوا لعمّه إبراهيم بن المهدي ببغداد، فارتحل المأمون إلى العراق وعليّ الرضا معه، فهلك عليّ في طريقه سنة ثلاث ومائتين ودفن بطوس، ويقال إن المأمون سمّه. (ويحكى) أنه دخل عليه يعوده في مرضه فقال له: أوصني! فقال له: عليّ إياك أن تعطي شيئا وتندم عليه، ولا يصحّ ذلك لنزاهة المأمون من اراقة الدماء بالباطل سيما دماء أهل البيت ثم زعم شيعتهم أنّ الأمر من بعد عليّ الرضا لابنه محمد التقي [1] وكان له من المأمون مكان، وأصهر إليه في ابنته، فأنكحه المأمون إياها سنة خمس ومائتين، ثم هلك سنة عشرين ومائتين ودفن بمقابر قريش. وتزعم الاثنا عشرية أنّ الإمام بعده ابنه عليّ ويلقّبونه الهادي، ويقال الجواد، ومات سنة أربع وخمسين ومائتين وقبره بقمّ، وزعم ابن سعيد أنّ المقتدر سمّه. ويزعمون أنّ الإمام بعده ابنه الحسن، ويلقّب العسكري لأنّه ولد بسرّ من رأى، وكانت تسمّى العسكر، وحبس بها بعد أبيه إلى أن هلك سنة ستين ومائتين، ودفن إلى جنب أبيه في المشهد وترك حملا ولد منه [2]
__________
[1] وهو محمد الجواد كما هو معروف في أكثر كتب التاريخ والسير.
[2] هكذا بالأصل ولعله تحريف ومقتضى السياق: «وترك حاملا ولدت منه» .

(4/38)


ابنه محمد فاعتقل، ويقال دخل مع أمّه في السرداب بدار أبيه وفقد، فزعمت شيعتهم أنه الإمام بعد أبيه، ولقّبوه المهدي والحجّة. وزعموا أنه حي لم يمت وهم الآن ينتظرونه، ووقفوا عند هذا الانتظار، وهو الثاني عشر من ولد عليّ ولذلك سمّيت شيعته الاثني عشرية. وهذا المذهب في المدينة والكرخ والشام والحلّة والعراق، وهم حتى الآن على ما بلغنا يصلّون المغرب، فإذا قضوا الصلاة قدّموا مركبا إلى دار السرداب بجهازه وحليته ونادوا بأصوات متوسطة: أيها الإمام أخرج إلينا فإن الناس منتظرون، والخلق حائرون، والظلم عام، والحق مفقود! فأخرج إلينا فتقرب الرحمة من الله في آثارك! ويكرّرون ذلك إلى أن تبدو النجوم، ثم ينصرفون إلى الليلة القابلة هكذا دأبهم. وهؤلاء من الجهل بحيث ينتظرون من يقطع بموته مع طول الأمد، لكن التعصّب حملهم على ذلك وربما يحتجّون لذلك بقصة الخضر والأخرى أيضا باطلة، والصحيح أنّ الخضر قد مات. (وأمّا الإسماعيلية) فزعموا أنّ الإمام بعد جعفر الصادق ابنه إسماعيل، وتوفي قبل أبيه. وكان أبو جعفر المنصور طلبه فشهد له عامل المدينة بأنه مات. وفائدة النصّ عندهم على إسماعيل وإن كان مات قبل أبيه بقاء الإمامة في ولده كما نصّ موسى على هارون صلوات الله عليهما ومات قبله. والنصّ عندهم لا مرجع وراءه، لأنّ البداء على الله محال. ويقولون في ابنه محمد أنه السابع التامّ من الأئمة الظاهرين، وهو أوّل الأئمة المستورين عندهم الذين يستترون ويظهرون الدعاة، وعددهم ثلاثة ولن تخلوا الأرض منهم عن إمام، إمّا ظاهر بذاته أو مستور، فلا بدّ من ظهور حجّته ودعاته. والأئمة يدور عددها عندهم على سبعة عدد الأسبوع، والسموات والكواكب، والنقباء تدور عندهم على اثني عشر. وهم يغلّطون الأئمة حيث جعلوا عدد النقباء للأئمة. وأوّل الأئمة المستورين عندهم محمد بن إسماعيل وهو محمد المكتوم، ثم ابنه جعفر المصدّق، ثم ابنه محمد الحبيب ثم ابنه عبد الله المهدي صاحب الدولة بإفريقية والمغرب التي قام بها أبو عبد الله الشيعي بكتامة. وكان من هؤلاء الإسماعيلية القرامطة، واستقرّت لهم دولة بالبحرين في أبي سعيد الجنابيّ وبنيه أبي القاسم الحسين بن فروخ بن حوشب الكوفي داعي اليمن لمحمد الحبيب، ثم ابنه عبد الله ويسمّى بالمنصور، وكان من الاثني عشرية أولا، فلمّا بطل ما في أيديهم رجع إلى رأي الإسماعيلية وبعث محمد الحبيب أبو عبد الله إلى اليمن داعية له، فلمّا بلغه عن محمد بن يعفر ملك صنعاء أنه

(4/39)


أظهر التوبة والنسك، وتخلّى عن الملك فقدم اليمن ووجد بها شيعة يعرفون ببني موسى في عدن لاعة. وكان عليّ بن الفضل من أهل اليمن ومن كبار الشيعة، وطاهر ابن حوشب على أمره، وكتب له الإمام محمد بالعهد لعبد الله ابنه، وأذن له في الحرب فقام بدعوته وبثّها في اليمن وجيّش الجيوش، وفتح المدائن وملك صنعاء، وأخرج منها بني يبعن، وفرّق الدعاة في اليمن واليمامة والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب، وكان يظهر الدعوة للرضا من آل محمد، ويبطن محمدا الحبيب تسترا إلى أن استولى على اليمن، وكان من دعاته أبو عبد الله الشيعي صاحب كتامة ومن عنده سار إلى إفريقية فوجد في كتامة من الباطنية خلقا كثيرا، وكان هذا المذهب هنالك من لدن الدعاة الذين بعثهم جعفر الصادق إلى المغرب. أقاموا بإفريقية وبثّوا فيها الدعوة، وتناقله من البرابرة أمم وكان أكثرهم من كتامة فلما جاء أبو عبد الله الشيعي داعية المهدي ووجد هذا المذهب في كتامة فقام على تعليمه وبثّه وإحيائه حتى تمّ الأمر، وبويع لعبد الله كما نذكر الآن في أخبارهم.
(ابتداء دولة العبيديين)
وأولهم عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق بن محمد المكتوم بن جعفر الصادق. ولا عبرة بمن أنكر هذا النسب من أهل القيروان وغيرهم وبالمحضر الّذي ثبت ببغداد أيام القادر بالطعن في نسبهم، وشهد فيه أعلام الأئمّة، وقد مرّ ذكرهم. فإن كتاب المعتضد إلى ابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة يغريهم بالقبض عليه لمّا سار إلى المغرب، شاهد بصحّة نسبهم. وشعر الشريف الرضيّ مسجّل بذلك. والذين شهدوا في المحضر فشهادتهم على السماع وهي ما علمت وقد كان نسبهم ببغداد منكرا عند أعدائهم شيعة بني العبّاس منذ مائة سنة، فتلوّن الناس بمذهب أهل الدولة، وجاءت شهادة عليه مع أنها شهادة على النفي، مع أنّ طبيعة الوجود في الانقياد إليهم، وظهور كلمتهم حتى في مكة والمدينة أدلّ شيء على صحة نسبهم. وأمّا من يجعل نسبهم في اليهودية والنصرانية ليعمون القدح وغيره فكفاه ذلك إثما وسفسفة. وكان شيعة هؤلاء العبيديّين بالمشرق واليمن وإفريقية. وكان أصل

(4/40)


ظهورهم بإفريقية دخول الحلواني وأبي سفيان من شيعتهم إليها أنفذهما جعفر الصادق، وقال لهما بالمغرب أرض بور فاذهبا واحرثاها حتى يجيء صاحب البذر فنزل أحدهما ببلد مراغة [1] ، والآخر ببلد سوف جمار وكلاهما من أرض كتامة ففشت هذه الدعوة في تلك النواحي، وكان محمد الحبيب ينزل سلمية [2] من أرض حمص وكان شيعتهم يتعاهدونه بالزيارة إذا زاروا قبر الحسين، فجاء محمد بن الفضل من عدن لاعة من اليمن لزيارة محمد الحبيب، فبعث معه رستم بن الحسن بن حوشب من أصحابه لإقامة دعوته باليمن، وأنّ المهدي خارج في هذا الوقت فسار وأظهر الدعوة للمهدي من آل محمد بنعوته المعروفة عندهم، واستولى على أكثر اليمن، وتسمّى بالمنصور وابتنى حصنا بجبل لاعة. وملك صنعاء من بني يعفر وفرّق الدعاة في اليمن واليمامة والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب. وكان أبو عبد الله الحسين بن محمد بن زكريا المعروف بالمحتسب، وكان محتسبا بالبصرة، وقيل إنما المحتسب أخوه أبو العبّاس المخطوم، وأبو عبد الله هذا يعرف بالمعلّم لأنه كان يعلّم مذهب الإماميّة، فاتصل أبو عبد الله بمحمد الحبيب، ورأى ما فيه من الأهليّة فأرسله الى ابن حوشب باليمن ليأخذ عنه، ثم يذهب إلى المغرب ويقصد بلد كتامة فيظهر بينهم الدعوة.
فجاء أبو عبد الله إلى ابن حوشب ولزمه وشهد مجالسه وأفاد علمه. ثم خرج مع حاج اليمن إلى مكة فلقي بالموسم رجالات كتامة ورؤساءهم، وفيهم من لقي الحلواني وابن بكّار وأخذوا عنهما فقصدهم أبو عبد الله في رحالهم، وكان منهم موسى بن حريث كبير بني سكتان من جملة أحد شعوبهم وأبو القاسم الورنجومي من أحلافهم،
__________
[1] مراغة: بالفتح، والغين المعجمة: بلدة مشهورة عظيمة أعظم وأشهر بلاد أذربيجان، قالوا وكانت المراغة تدعى أفرازهروذ فعسكر مروان بن محمد بن مروان وهو والي أرمينية وأذربيجان منصرفه من غزو موقان وجيلان بالقرب منها وكان فيها سرجين كثير فكانت دوابه ودواب أصحابه تتمرّغ فيها فجعلوا يقولوا ابنوا قرية المراغة، وهذه قرية المراغة، فحذف الناس القرية وقالوا مراغة. (معجم البلدان) .
[2] سلمية: بفتح أوّله وثانيه وسكون الميم، وياء مثناة من تحت خفيفة، كذا جاء به المتنبي في قوله: تراها في سلمية مسبطرّا!.
قيل: سلمية قرب المؤتفكة، فيقال: انه لما نزل بأهل المؤتفكة ما نزل من العذاب رحم الله منهم مائة نفس فنجاهم فنزحوا الى سلمية فعمّروها وسكنوها فسميت سلم مائة، ثم حرف الناس اسمها فقال سلميه، ثم ان صالح بن علي بن عبد الله بن عباس اتخذها منزلا وبنى هو وولده فيها الأبنية ونزلوها، وبها المحاريب السبعة، يقال تحتها قبور التابعين، وفي طريقها الى حمص قبر النعمان بن بشير: وهي بليدة في ناحية البرّيّة من اعمال حماة بينهما مسيرة يومين، وكانت تعد من اعمال حمص ولا يعرفها أهل الشام إلا بسلميّة وأكثر أهلها الى اليوم إسماعيلية (معجم البلدان) .

(4/41)


ومسعود بن عيسى بن ملال المساكتي، وموسى بن تكاد، فجلس إليهم وسمعوا منه مذاهبهم ورأوا ما هو عليه من العبادة والزهد فعلق بقلوبهم، وصار يتعهدهم في رحالهم فاغتبطوا به واغتبط بهم. ولما أرادوا الرحلة إلى بلادهم سألوه الصحبة فوافقهم طاويا وجه مذهبه عنهم، بعد أن سألهم عن قومهم وعصابتهم وبلادهم وملكة السلطان فيهم فكشفوا له علم ذلك، وأنهم إنما يعطون السلطان طاعة معروفة فاستيقن تمام أمره فيهم، وخرج معهم إلى المغرب وسلكوا طريق الصحراء، وعدلوا عن القيروان إلى أن وصلوا بلد سوماثة، وبها محمد بن حمدون بن سماك الأندلسيّ من بجاية الأندلس نزيلا عندهم، وكان قد أدرك الحلواني وأخذ عنه. فنزل أبو عبد الله الشيعيّ عليه فأكرمه، وفاوضه وتفرّس ابن حمدون فيه انه صاحب الدولة. ثم ارتحلوا وصحبهم ابن حمدون، ودخلوا بلد كتامة منتصف ربيع سنة ثمان وثمانين ومائتين فنزل على موسى بن حريث ببلده أنكجان في بلد بني سكتان من جبيلة، وعيّن له مكان منزله بفجّ الأخيار، وأنّ النص عنده من المهديّ بذلك وبهجرة المهدي وأن أنصار الأخيار من أهل زمانه وأنّ اسمهم مشتق من الكتمان. واجتمع إليه الكثير من أهل كتامة ولقي علماءهم واشتمل عليه الكثير من أهوائهم فجاهر مذهبه، وأعلن بإمامة أهل البيت، ودعا للرضا من آل محمد واتبعه أكثر كتامة، وكانوا يسمّونه بأبي عبد الله الشيعيّ والمشرقيّ. وبلغ خبره إلى أمير افريقية إبراهيم بن أحمد بن الأغلب، فبعث إليه بالتهديد والوعيد، فأساء الردّ عليه، وخاف رؤساء كتامة عادية ابن الأغلب، وأغراهم عمال بلادهم بالشيعي مثل موسى بن عياش صاحب مسيلة، وعليّ بن حفص بن عسلوجة صاحب سريف. وجاء ابن تميم صاحب يلزمة، فاجتمعوا وتفاوضوا في شأنه، وحضر يحيى المساكتي وكان يدعى بالأمير ومهديّ بن أبي كمارة رئيس لهيعة، وفرج بن حيران رئيس إجانة، وثمل بن بجل رئيس لطانة. وراسلوا بيان بن صفلان رئيس بني سكتان، وأبو عبد الله الشيعي عندهم بجبل ايكجان في أن يسلّمه إليهم أو يخرجه من بلدهم، وحذّروه عاقبة أمره فردّ أمره إلى أهل العلم، فجاءوا بالعلماء وهمّوا باغتياله فلم يتم لهم ذلك، وأطبقت بجيلة على مظاهرته فهزموا هؤلاء المثيرين عليه وردّوهم خائبين ثم رجعوا بيان بن صقلاب في أمره ولاطفوه حتى صفا إليهم، وشعر بذلك أبو عبد الله الشيعيّ وأصحابه، فبعثوا إلى الحسن ابن هارون الغسّاني يسألونه الهجرة إليهم، فأجابهم ولحق

(4/42)


ببلدة تازروت من بلادهم. واجتمعت غسّان لنصرته مع بطون كتامة الذين بايعوه من قبل، فاعتز وامتنع وعظم أمره. ثم انتقض على الحسن بن هارون أخوه محمد منافسة له في الرئاسة، وكان صديقا لمهديّ بن أبي كمارة فداخله في التثريب على أبي عبد الله، وعظمت الفتنة بين لهيعة وغسّان، وولّى أبو عبد الله الشيعي الحسن بن هارون على حروبه، وظهر بعد أن كان مختفيا. وكان لمهدي بن أبي كمارة شيخ لهيعة أخ اسمه أبو مديني، وكان من أحباب أبي عبد الله فقتل أخاه مهديّا ورأس على لهيعة مكانه، فصاروا جميعا إلى ولاية أبي عبد الله وأبي مديني شيخهم. ثم تجمّعت كتامة لحرب الشيعي وأصحابه، ونازلوه بمكانه من تازروت، وبعث الشيعي سهل ابن فوكاش إلى فحل بن نوح رئيس لطانة، وكان صهره لينجد له عن حربهم في السلم، فمشى إلى كتامة، وأبوا إلّا أن يناجزوهم الحرب، فغلبهم أبو عبد الله وأصحابه، وانهزمت كتامة وأبلى عروبة بن يوسف الملوشي في ذلك اليوم بلاء حسنا، واجتمعت إلى أبي عبد الله غسّان كلها ويلزمة ولهيعة وعامّة بجاجية ورئيسهم يومئذ ماكنون بن ضبارة وأبو زاكي تمام بن معارك. ولحق بجيلة من بجاجية فرج بن خيران، ويوسف بن محمد من لطانة، وفحل بن نوح، واستقام أمر الباقي للشيعي وجمع فتح بن يحيى من أطاعه من قومه مسالمة لحرب الشيعي، فسار إليهم وأوقع بهم، ولحق فلّهم بسطيف. ثم استأمنوا إليه فأمّنهم ودخلوا في أمره، وولّى منهم هارون بن يونس على حروبه، ولحق رئيسهم فتح بن يحيى بعجيسة، وجمع ثانية لحرب الشيعي فسار إليه ومعه جموع كتامة، وتحصّن منه فتح ببعض قلاعهم فحاصره الشيعي وفتحها، واجتمعت إليه عجيسة وزواوة وجميع قبائل كتامة، ورجع إلى تازروت وبثّ دعاته في كل ناحية فدخل الناس في أمره طوعا وكرها. ولحق فتح بن يحيى بالأمير إبراهيم ابن أحمد بتونس، واستحثه لحرب الشيعي. ثم فتح أبو عبد الله مساكتة بمداخلة بعض أهلها، وقتل صاحبها موسى بن عيّاش وولّى عليها ماكنون بن ضبارة الألجائي وهو أبو يوسف، ولحق إبراهيم بن موسى بن عيّاش بأبي العبّاس إبراهيم بن الأغلب بتونس بعد خروج أبيه إلى صقلّيّة. وكان فتح بن يحيى المساكتي قد نزع إليه من قبل ذلك، ووعده المظاهرة فجهّز العساكر، وعقد عليها لابنه أبي خوّال، وزحف من تونس سنة تسع وثمانين فدوّخ كتامة، ثم صمد إلى تازروت فلقيه ابو عبد الله الشيعي في جموعه ببلد ملوسة فهزمهم أبو خوال، وفرّ الشيعي من قصر تازروت إلى ايكجان

(4/43)


فامتنع بها، فهدم أبو خوال القصر واتبعه. وتوغل أبو خوال في بلاد كتامة فاضطرب أمره، وتوقع البيات. وسار إبراهيم بن موسى بن عيّاش من عسكر أبي خوال إلى نواحي مسيلة يتجسّس الأخبار فتواقع مع طائفة من أصحاب الشيعي فهزموه واتبعوه إلى المعسكر فاضطرب، وأجفل أبو خوال وخرج من بلاد كتامة، واستوطن أبو عبد الله إيكجان وبنى بها بلدا وسمّاها دار الهجرة، واستبصر الناس في أمره ودخلوا في دعوته. ثم هلك الحسن بن هارون، وجهّز أبو العباس العساكر ثانية مع ابنه أبي خوّال ورده لحرب الشيعي وكتامة فسار في بلادهم، ورجع منهزما وأقام قريبا منهم يدافعهم، ويمنعهم من التقدّم. وفي خلال ذلك هلك إبراهيم بن أحمد بن الأغلب وقتل ابنه أبو العبّاس، وقام بالأمر ابنه زيادة الله فاستدعى أخاه أبا خوال وقتله، وانتقل من تونس إلى وقادة، وانهمك في لذاته، وانتشرت جيوش الشيعي في البلاد، وعلا أمره وبشّرهم بأنّ المهدي قرب ظهوره فكان كما قال.
(وصول المهدي الى المغرب واعتقاله بسجلماسة ثم خروجه من الاعتقال وبيعته)
ولما توفي محمد الحبيب بن جعفر بن محمد بن إسماعيل الإمام، عهد إلى ابنه عبيد الله وقال له: أنت المهدي وتهاجر بعدي هجرة بعيدة، وتلقى محنا شديدة. واتصل خبره بسائر دعاته في إفريقية واليمن، وبعث إليه أبو عبد الله رجالا من كتامة يخبرونه بما فتح الله عليهم، وأنهم في انتظاره. وشاع خبره واتصل بالعبّاسيّين، فطلبه المكتفي ففرّ من أرض الشام الى العراق، ثم لحق بمصر ومعه ابنه أبو القاسم غلاما حدثا وخاصته ومواليه، بعد أن كان أراد قصد اليمن فبلغه ما أحدث بها عليّ بن الفضل من بعد ابن حوشب، وأنه أساء السيرة فأنثنى عن ذلك، واعتزم على اللحاق بأبي عبد الله الشيعي بالمغرب فارتحل من مصر إلى الإسكندرية، ثم خرج من الاسكندرية في زي التجّار. وجاء كتاب المكتفي إلى عامل مصر وهو يومئذ عيسى النوشري بخبرهم، والقعود لهم بالمراصد، وكتب نعته وحليته فسرّح في طلبهم حتى وقف عليهم، وامتحن أحوالهم فلم يقف على اليقين في شيء منها فخلى سبيلهم. وجدّ المهدي في السير وكان له كتب في الملاحم منقولة عن آبائه سرقت من رحله في

(4/44)


طريقه، فيقال إن ابنه أبا القاسم استردّها من برقة حين زحف إلى مصر، ولما انتهى إلى طرابلس وفارقه التجّار أهل الرفقة بعث معهم أبا العبّاس أخا أبي عبد الله الشيعي إلى أخيه بكتامة، ومرّ بالقيروان وقد سبق خبرهم إلى زيادة الله، وهو يسأل عنهم فقبض على أبي العبّاس وساء له فأنكر فحبسه. وكتب إلى عامل طرابلس بالقبض على المهدي ففاته وسار الى قسنطينة. ثم عدل عنها خشية على أبي العبّاس أخي الشيعي المعتقل بالقيروان فذهب إلى سجلماسة وبها اليسع بن مدرار فأكرمه. ثم جاء كتاب زيادة الله ويقال كتاب المكتفي بأنه المهدي الّذي داعيته في كتامة فحبسه اليسع، ثم أنّ أبا عبد الله الشيعي بعد مهلك أبي خوال الّذي كان مضايقا لهم اجتمعت اليه سائر كتامة وزحف إلى سطيف فحاصرها مدّة، وكان بها عليّ بن جعفر ابن عسكوجة صاحبها، وأخوه أبو حبيب فملكها وكان بها أيضا داود بن جاثة من كبار لهيعة، لحق بها فيمن لحق من وجوه كتامة فقام بها من بعد عليّ وأخيه.
واستأمن أهل سطيف فأمّنهم أبو عبد الله ودخلها فهدمها، وجهّز زيادة الله العساكر إلى كتامة مع قريبه إبراهيم بن حشيش، وكانوا أربعين ألفا فانتهى إلى قسنطينة فأقام بها وهم متحصّنون بجبلهم. ثم زحف إليهم وواقعهم عند مدينة يلزمة فانهزم إلى باغاية ولحق بالقيروان. وكتب الشيعي بالفتح إلى المهدي مع رجال من كتامة أخفوا أنفسهم حتى وصلوا إليه وعرّفوه بالخبر. ثم زحف الشيعي إلى طبنة فحاصرها وقتل فتح بن يحيى المساكتي، ثم افتتحها على الأمان، ثم زحف إلى يلزمة فملكها عنوة. وجهّز زيادة الله العساكر مع هارون الطبني عامل باغاية فانتهوا إلى مدينة أزمول، وكانوا في طاعة الشيعي فهدمها هارون وقتل أهلها وزحف إليه عروبة بن يوسف من أصحاب الشيعي فهزمه وقتله. ثم فتح الشيعي مدينة ينجبت كلّها على يد يوسف الغسّاني ولحق عسكرها بالقيروان وشاع عن الشيعي وفاؤه بالأمان فأمّنه الناس، وكثر الإرجاف بزيادة الله فجهز العساكر وأزاح العلل، وأنفق ما في خزائنه وذخائره، وخرج بنفسه سنة خمس وتسعين ونزل الأريس. ثم حاد عن اللقاء وأشار عليه أصحابه بالرجوع إلى القيروان ليكون ردءا للعساكر فرجع، وقدم على العساكر إبراهيم بن أبي الأغلب من قرابته وأمره بالمقام هنالك. ثم زحف الشيعي إلى باغاية فهرب عاملها وملكها صلحا وبعث إلى مدينة قرطاجنة فافتتحها عنوة، وقتل عاملها، وسرح عساكره في إفريقية فردّدوا فيها الغارات على قبائل البربر من نفزة وغيرهم. ثم استأمن إليه أهل

(4/45)


تيفاش فأمّنهم، واستعمل عليهم صواب بن أبي القاسم السكتاني، فجاء إبراهيم بن أبي الأغلب واقتحمها عليه ثم نهض الشيعي في احتفال من العساكر الى باغاية ثم إلى سكتانة ثم إلى تبسة ففتحها كلّها على الأمان. ثم إلى القصرين من قمودة فأمّن أهلها وأطاعوه، وسار يريد رقادة فخشي إبراهيم بن أبي الأغلب على زيادة الله لقلّة عسكره، فنهض إلى الشيعي واعترضه في عساكره واقتتلوا، ثم تحاجزوا، ورجع الشيعي إلى إيكجان وإبراهيم إلى الأريس. ثم سار الشيعي ثانية بعساكره إلى قسنطينة فحاصرها واقتحمها على الأمان، ثم إلى قفصة كذلك. ثم رجع إلى باغاية فأنزل بها عسكرا مع أبي مكدولة الجيلي. ثم سار إلى إيكجان وخالفه إبراهيم إلى باغاية، وبلغ الخبر إلى الشيعي فسرّح لقتاله أبا مديني بن فروخ اللهيمي، ومعه عروبة بن يوسف الملوشي ورجاء بن أبي قنّة في اثني عشر ألفا، فقاتلوا ابن أبي الأغلب ومنعوه من باغاية فرحل عنها، واتبعوه إلى فجّ العرعر ورجعوا عنه. ثم زحف أبو عبد الله الشيعي سنة ست وتسعين في مائتي ألف من العساكر إلى إبراهيم بن أبي الأغلب بالأريس. ثم اقتتلوا أياما ثم انهزم إبراهيم واستبيح معسكره، وفرّ إلى القيروان، ودخل الشيعي الأريس فاستباحها، ثم سار فنزل قمودة واتصل الخبر بزيادة الله وهو برقادة ففرّ إلى المشرق، ونهبت قصوره. وافترق أهل رقادة إلى القيروان وسوسة. ولما وصل إبراهيم بن أبي الأغلب إلى القيروان نزل قصر الإمارة وجمع الناس وأرادهم على البيعة له على أن يعينوه بالأموال فاعتدوا [1] وتصايحت به العامّة ففر عنها، ولحق بصاحبه. وبلغ أبا عبد الله الشيعي خبر فرارهم بسبيبة فقدم إلى رقادة، وقدّم بين يديه عروبة بن يوسف وحسن بن أبي خنزير فساروا وأمّنوا الناس، وجاء على أثرهم. وخرج أهل رقادة والقيروان للقائه فأمّنهم وأكرمهم، ودخل رقادة في رجب سنة ست وتسعين ونزل قصرها، وأطلق أخاه أبا العبّاس من الاعتقال ونادى بالأمان فتراجع الناس، وفر العمّال في النواحي وطلب أهل القيروان فهربوا، وقسّم دور البلد على كتامة فسكنوها، وجمع أموال زيادة الله وسلاحه فأمر بحفظها وحفظ جواريه، واستأذنه الخطباء لمن يخطبون فلم يعيّن أحدا. ونقش على السكة من أحد الوجهين بلغت حجة الله، ومن الآخر تفرّق أعداء الله، وعلى
__________
[1] مقتضى السياق فاعتدوا عليه.

(4/46)


السلاح عدّة في سبيل الله، وفي وسم الخيل الملك للَّه. ثم ارتحل إلى سجلماسة في طلب المهدي، واستخلف على إفريقية أخاه أبا العبّاس، وترك معه أبا زاكي تمام بن معارك الألجائي واهتزّ المغرب لخروجه، وفرّت زناتة من طريقه. ثم بعثوا إليه بالطاعة فقبلهم وأرسل إلى اليسع بن مدرار صاحب سجلماسة يتلطّفه فقتل الرسل، وخرج للقائه. فلمّا تراءى الجمعان انفض معسكره وهرب هو وأصحابه وخرج أهل البلد من الغد للشيعي وجاءوا معه إلى محبس المهدي وابنه فأخرجهما وبايع للمهدي، ومشي مع رؤساء القبائل بين أيديهما وهو يبكي من الفرح ويقول: هذا مولاكم حتى أنزله بالمخيّم، وبعث في طلب اليسع فأدرك، وجيء به فقتل، وأقاموا بسجلماسة أربعين يوما ثم ارتحلوا إلى إفريقية، ومرّوا بأيكجان، فسلّم الشيعي ما كان بها من الأموال للمهديّ. ثم نزلوا رقادة في ربيع سنة سبع وتسعين، وحضر أهل القيروان وبويع للمهدي البيعة العامّة، واستقام أمره وبث دعاته في الناس فأجابوا إلا قليلا عرض عليهم السيف، وقسّم الأموال والجواري في رجال كتامة، وأقطعهم الأعمال، ودوّن الدواوين وجبى الأموال وبعث العمّال على البلاد فبعث على طرابلس ماكنون بن ضبارة الألجائي، وعلى صقلّيّة الحسن بن أحمد بن أبي خنزير، فسار إليها ونزل البحر، ونزل مازر في عيد الأضحى من سنة سبع وتسعين، فاستقضى إسحاق بن المنهال، وولّى أخاه على كريت. ثم أجاز البحر سنة ثمان وتسعين إلى العدوة الشمالية، ونزل بسيط قلورية من بلاد الإفرنج فأثخن فيها، ورجع إلى صقلّيّة فأساء السيرة في أهلها فثاروا به وحبسوه، وكتبوا إلى المهدي فقبل عذرهم، وولّى عليهم مكانه عليّ بن عمر البلويّ فوصل خاتم تسع وتسعين.
(مقتل أبي عبد الله الشيعي وأخيه)
لما استقام سلطان عبيد الله المهدي بإفريقية استبدّ بأمره، وكفح أبا عبد الله الشيعي وأخاه أبا العبّاس عن الاستبداد عليه، والتحكّم في أمره فعظم ذلك عليهما، وصرّح أبو العبّاس بما في نفسه فنهاه أخوه أبو عبد الله عن ذلك، فلم يصغ إليه. ثم استماله أبو العبّاس لمثل رأيه فأجابه، وبلغ ذلك إلى المهدي فلم يصدّقه. ثم نهى أبا عبد الله عن

(4/47)


مباشرة الناس، وقال إنه مفسد للهيبة فتلطّف في ردّه ولم يجبه إليه ففسدت النيّة بينهما، واستفسدوا كتامة وأغروهم به وذكروهم بما أخذه من أموال إيكجان، واستأثر به دونهم وألقوا إليهم أن هذا ليس هو الإمام المعصوم الّذي دعونا إليه، حتى بعث إلى المهدي رجل كان في كتامة يعرف بشيخ المشايخ، وقال له: جئنا بآية على أمرك فقد شككنا فيك، فقتله المهدي. ثم عظمت استرابتهم واتفقوا على قتل المهدي، وداخلهم في ذلك أبو زاكي تمام بن معارك وغيره من قبائل كتامة. ونمي الخبر إلى المهدي فتلطف في أمرهم، وولّى من داخلهم من قوّاد كتامة على البلاد، فبعث تمام بن معارك على طرابلس، وبعث إلى عاملها ماكنون بقتله، فقتله عند وصوله. ثم اتهم المهدي ابن الغريم بمداخلتهم، وكان من أصحاب زيادة الله فأمر بقتله واستصفاء أمواله، وكان أكثرها لزيادة الله. ثم إنّ المهدي استدعى عروبة بن يوسف، وأخاه حباسة، وأمرهما بقتل الشيعي وأخيه فوقفا لهما عند القصر، وحمل عروبة على أبي عبد الله، فقال له: لا تفعل! فقال: الّذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك! ثم أجهز عليهما في نصف جمادى سنة ثمان وتسعين. ويقال إن المهدي صلّى على أبي عبد الله وترحّم عليه، وعلم أن الّذي حمله على ذلك إغراء أبي العبّاس أخيه، وثارت فتنة بسبب قتلهما من أصحابهما فركب المهدي وسكنها. ثم ثارت فتنة أخرى بين كتامة وأهل القيروان، وفشا القتل فيهم فركب المهدي وسكّنها، وكفّ الدعاة عن طلب التشيّع من العامّة وقتل جماعة من بني الأغلب برقادة لما رجعوا إليها بعد زيادة الله.
(بقية أخبار المهدي بعد الشيعي)
ولما استقام أمر المهدي بعد الشيعي، جعل ولاية عهده لابنه أبي القاسم نزار، وولّى على برقة وما إليها حباسة بن يوسف. وعلى المغرب أخاه عروبة، وأنزله باغاية فسار إلى تاهرت فاقتحمها، وولّى عليها دواس بن صولات اللهيص. ثم انتقضت عليه كتامة بقتله أبا عبد الله الشيعي، ونصّبوا طفلا لقّبوه المهدي، وزعموا أنه نبيّ وأنّ أبا عبد الله الشيعي لم يمت، فجهّز ابنه ابا القاسم لحربهم فقاتلهم وهزمهم، وقتل الطفل

(4/48)


الّذي نصّبوه وأثخن فيهم ورجع. ثم انتقض أهل طرابلس سنة ثلاثمائة، وأخرجوا عاملهم ماكنون فبعث إليهم ابنه أبا القاسم فحاصرها طويلا، ثم فتحها وأثخن فيهم وأغرمهم ثلاثمائة ألف دينار. ثم أغزى ابنه أبا القاسم وجموعه كتامة سنة إحدى وثلاثمائة إلى الإسكندرية ومصر، وبعث اسطوله في البحر في مائتين من المراكب، وشحنها بالامداد وعقد عليها لحباسة بن يوسف، وسارت العساكر فملكوا برقة، ثم الاسكندرية والفيوم. وبعث المقتدر العساكر من بغداد مع سبكتكين ومؤنس الخادم فتواقعوا مرّات، وأجلاهم عن مصر فرجعوا إلى المغرب، ثم عاد حباسة في العساكر في البحر سنة اثنتين وثلاثمائة إلى الإسكندرية فملكها، وسار يريد مصر فجاء مؤنس الخادم من بغداد لمحاربته فتواقعوا مرّات، وكان الظهور آخرا لمؤنس، وقتل من أصحابه نحو من سبعة آلاف. وانصرف إلى المغرب فقتله المهدي وانتقض لذلك أخوه عروبة بالمغرب واجتمع إليه خلق كثير من كتامة والبربر. وسرح إليهم المهدي مولاه غالبا في العساكر فهزمهم وقتل عروبة وبني عمه في أمم لا تحصى. ثم انتقض أهل صقلّيّة وتقبضوا على عاملهم عليّ بن عمرو، وولوا عليهم أحمد بن قهرب، فدعا للمقتدر العبّاسيّ، وذلك سنة أربع وثلاثمائة، وخلع طاعة المهدي وجهّز إليه الأسطول مع الحسن بن أبي خنزير فلقيه أسطول ابن قهرب فغلبه، وقتل ابن أبي خنزير. ثم راجع أهل صقلّيّة أمرهم وكاتبوا المهدي وثاروا بابن قهرب فخلعوه، وبعثوا به إلى المهدي فقتله على قبر ابن أبي خنزير، وولّى على صقلّيّة علي بن موسى ابن أحمد، وبعث معه عساكر كتامة، ثم اعتزم المهدي على بناء مدينة على ساحل البحر يتّخذها معصما لأهل بيته لما كان يتوقعه على الدولة من الخوارج. (ويحكى عنه) أنه قال بنيتها لتعتصم بها الفواطم ساعة من نهار، وأراهم موقف صاحب الحمار بساحتها فخرج بنفسه يرتاد موضعا لبنائها، ومرّ بتونس وقرطاجنة حتى وقف على مكانها جزيرة متصلة بالبر كصورة كف اتصلت بزند، فاختطّ المهديّة بها وجعلها دار ملكه، وأدار بها سورا محكما وجعل لها أبوابا من الحديد وزن كل مصراع مائة قنطار، وابتدأ ببنائها آخر سنة ثلاث. ولما ارتفع السور رمى من فوقه بسهم إلى ناحية المغرب، ونظر إلى منتهاه وقال: إلى هذا الموضع يصل صاحب الحمار يعني أبا يزيد.
ثم أمر أن يبحث في الجبل دار لإنشاء السفن تسع مائة سفين، وبحث [1] في أرضها
__________
[1] بمعنى حفر.

(4/49)


أهراء للطعام ومصانع للماء، وبنى فيها القصور والدور فكملت سنة ست، ولما فرغ منها قال: اليوم أمّنت على الفواطم. ثم جهّز ابنه أبا القاسم بالعساكر إلى مصر مرّة ثانية سنة سبع وثلاثمائة فملك الاسكندرية، ثم سار فملك الجيزة والأشمونين وكثيرا من الصعيد. وكتب إلى أهل مكّة بطلب الطاعة فلم يجيبوا إليها، وبعث المقتدر مؤنسا الخادم في العساكر وكانت بينه وبين أبي القاسم عدّة وقعات ظهر فيها مؤنس، وأصاب عسكر أبي القاسم الجهد من الغلاء والوباء فرجع إلى إفريقية، وكانت مراكبهم قد وصلت من المهديّة إلى الإسكندرية في ثمانين اسطولا [1] مددا لأبي القاسم وعليها سليمان الخادم ويعقوب الكتامي وكانا شجاعين، وسار الاسطول من طرسوس للقائهم في خمسة وعشرين مركبا والتقوا على رشيد [2] وظفرت مراكب طرسوس وأحرقوا وأسروا سليمان ويعقوب، فمات سليمان في حبس مصر، وهرب يعقوب من حبس بغداد إلى إفريقية. ثم اغزى المهدي سنة ثمان وثلاثمائة مضالة بن حبوس في رجالات مكناسة إلى بلاد المغرب فأوقع بملك فاس من الأدارسة وهو يحيى بن إدريس بن إدريس بن عمرو، واستنزله عن سلطانه إلى طاعة المهدي فأعطى بها صفقته، وعقد لموسى بن أبي العافية المكناسي من رجالات قومه على أعمال المغرب ورجع. ثم عاود غزو المغرب سنة تسع فدوّخه ومهّد جوانبه وأغراه قريبه عامل المغرب موسى بن أبي العافية بيحيى بن إدريس صاحب فاس، فتقبّض عليه وضمّ فاس إلى أعمال موسى ومحا دعوة الإدريسيّة من المغرب، وأجهضهم عن أعماله فتحيزوا إلى بلاد الريف وغمارة واستجدّوا بها ولاية كما نذكره في أخبار غمارة، ومنهم كان بنو حمّود العلويّون المستولون على قرطبة عند انقراض ملك الأمويّين في سنة ثلاث وأربعمائة كما نذكر لك. ثم صمد مضالة إلى بلاد سجلماسة فقتل أميرها من آل مدرار المكناسيين المنحرف عن طاعة الشيعة، وعقد لابن عمّه كما نذكر في أخبارهم. وسار في أتباعه زناتة في نواحي المغرب فكانت بينه وبينهم حروب هلك مضالة في بعضها على يد محمد بن خزر. واضطرب المغرب فبعث المهدي ابنه أبا القاسم غازيا إلى المغرب في عساكر كتامة وأولياء الشيعة سنة خمس عشرة وثلاثمائة، ففرّ محمد بن خزر، وأصحابه إلى الرمال. وفتح أبو القاسم بلد مزاتة ومطماطة وهوّارة
__________
[1] مقتضى السياق سفينة وليس اسطولا، لأنه من غير المعقول ان يرسل ثمانين اسطولا والاولى أصح.
[2] قرية ساحلية على الساحل المصري، يوجد فيها ميناء صغير وتعرف بقرية الرشيد.

(4/50)


وسائر الإباضيّة والصفريّة ونواحي تاهرت قاعدة المغرب الأوسط إلى ما وراءها، ثم عاج إلى الريف فافتتح بلد لكور من ساحل المغرب الأوسط، ونازل صاحب جراوة من آل إدريس وهو الحسن بن أبي العيش وضيّق عليه ودوّخ أقطار المغرب، ورجع ولم يلق كيدا. ومرّ بمكان بلد المسيلة وبها بنو كملان من هوّارة، وكان يتوقع منهم الفتنة فنقلهم الى فجّ القيروان، وقضى الله أن يكونوا أولياء لصاحب الحمار عند خروجه. ولما نقلهم أمر ببناء المسيلة في بلدهم وسمّاها المحمّديّة، ودفع علي بن حمدون الأندلسي من صنائع دولتهم إلى بنائها، وعقد له عليها وعلى الزاب بعد اختطاطها فبناها وحصّنها وشحنها بالأقوات، فكانت مددا للمنصور في حصار صاحب الحمار كما يذكر. ثم انتقض موسى بن أبي العافية عامل فاس والمغرب، وخلع طاعة الشيعة، وانحرف الى الأمويّة من وراء البحر وبثّ دعوتهم في أقطار المغرب فنهض إليه أحمد بن بصلين المكناسيّ قائد المهدي وسار في العساكر فلقيه ميسور وهزمه، وأوقع به وبقومه بمكناسة، وأزعجه [1] عن الغرب إلى الصحاري وأطراف البلاد ودوّخ المغرب وثقف أطرافه ورجع ظافرا.
(وفاة عبيد الله المهدي وولاية ابنه أبي القاسم)
ثم توفي عبيد الله المهدي في ربيع سنة اثنتين وعشرين لأربع وعشرين سنة من خلافته، وولّى ابنه أبو القاسم محمد، ويقال نزار بعده، ولقّب القائم بأمر الله فعظم حزنه على أبيه حتى يقال إنه لم يركب سائر أيامه إلّا مرتين، وكثر عليه الثّوار.
وثار بجهات طرابلس ابن طالوت القرشيّ، وزعم أنه ابن المهدي وحاصر طرابلس.
ثم ظهر للبربر كذبه فقتلوه. ثم أغزى المغرب وملكه، وولّى على فاس أحمد بن بكر ابن أبي سهل الجذابي، وحاصر الأدارسة ملوك الريف وغوارة فنهض ميسور الخصيّ من القيروان في العساكر، ودخل المغرب وحاصر فاس، واستنزل عاملها أحمد بن بكر. ثم نهض في اتباع موسى فكانت بينهما حروب، وأخذ الثوري بن موسى في بعضها أسيرا وأجلاه ميسور عن المغرب، وظاهره عليه الأدارسة الذين
__________
[1] بمعنى أخرجه وهي من التعابير التي يستعملها ابن خلدون

(4/51)


بالريف، وانقلب ميسور إلى القيروان سنة أربع وعشرين، وعقد للقاسم بن محمد كبير أدارسة الريف من ولد محمد بن إدريس على أعمال ابن أبي العافية وما يفتحه من البلاد، فملك المغرب كلّها ما عدا فاس، وأقام دعوة الشيعة بسائر أعماله. ثم جهّز أبو القاسم اسطولا ضخما لغزو ساحل الإفرنجة وعقد عليه ليقرب ابن إسحاق فأثخن في بلاد الافرنجة، وسبى ونازل بلد جنوة وافتتحها، وعظم صنع الله في شأنها، ومروا بسردانية من جزر الفرنج فأثخنوا فيها. ثم مروا بقرقيسياء من سواحل الشام فأحرقوا مراكبها. ثم بعث عسكرا إلى مصر مع خادمه زيران فملكوا الإسكندرية، وجاءت عساكر الإخشيد من مصر فأزعجوهم عنها ورجعوا إلى المغرب.
(أخبار أبي يزيد الخارجي)
وهو أبو يزيد مخلد بن كيراد، وكان أبوه كيراد من أهل قسطيلة من مدائن بلد توزر، وكان يختلف إلى بلاد السودان بالتجارة وبها ولد ولده أبو يزيد ونشأ بتوزر، وتعلم القرآن وخالط النكاريّة من الخوارج وهم الصفريّة، فمال إلى مذهبهم وأخذ به ثم سافر إلى تاهرت وأقام بها يعلّم الصبيان، ولم صار الشيعي إلى سجلماسة في طلب المهدي انتقل هو إلى تقيوس، وأقام يعلّم فيها. وكان يذهب إلى تكبير أهل ملّته، واستباحة الأموال والدماء والخروج على السلطان. ثم أخذ نفسه بالحسبة على الناس وتغيير المنكر سنة ست عشرة وثلاثمائة فكثر أتباعه، ولمّا مات المهدي خرج بناحية جبل أوراس، وركب الحمار وتلقّب بشيخ المؤمنين، ودعا للناصر صاحب الأندلس من بني أميّة فاتبعه أمم من البربر. وزحف إليه عامل باغاية فلقيه في جموع البربر وهزمه، وزحف إلى باغاية فحاصرها، ثم انهزم عنها، وكتب إلى بني واسى من قبائل زناتة بضواحي قسنطينة يأمرهم بحصارها فحاصروها سنة ثلاث وثلاثين. ثم فتح تبسة صلحا، ومجانة كذلك، وأهدى له رجل من أهل مرماجنة حمارا أشهب فكان يركبه وبه لقّب. وكان يلبس جبّة صوف قصيرة ضيّقة الكمّين. وكان عسكر الكتاميين على الأريس فانفضوا، وملكها أبو يزيد وأحرقها ونهبها وقتل في الجامع من لجأ إليه، وبعث عسكرا إلى سبيبة ففتحها وقتل عاملها. وبلغ الخبر إلى القاسم فقال لا بدّ أن

(4/52)


يبلغ المصلي من المهديّة، ثم جهّز العساكر وبعثها إلى رقادة والقيروان، وبعث خادمه ميسورا الخصيّ لحربه. وبعث عسكرا مع خادمه بشري إلى باجة فنهض إليه أبو يزيد وهزمه إلى تونس، ودخل أبو يزيد باجة فنهبها وأحرقها، وقتل الأطفال وسبى النساء، واجتمع إليه قبائل البربر، واتخذ الأبنية والبيوت وآلات الحرب، وبعث إليه بشري عسكرا من تونس، وبعث أبو يزيد للقائهم عسكرا آخر فانهزم أصحاب أبي يزيد وظفر أصحاب بشري. ثم ثار أهل تونس ببشري فهرب فاستأمنوا لأبي يزيد فأمّنهم وولّى عليهم، وسار إلى القيروان وبعث القائم خديمه بشري للقائه. وأمره أن يبعث من يتجسّس عن أخباره فبعث طائفة، وبعث أبو يزيد طائفة أخرى فانهزم عسكر أبي يزيد وقتل منهم أربعة آلاف، وجيء بأسراهم إلى المهديّة فقتلوا، فسار أبو يزيد إلى قتال الكتاميّين فهزم طلائعهم وأتبعهم إلى القيروان، ونزل على رقادة في مائتي ألف مقاتل، وعاملها يومئذ خليل بن إسحاق وهو ينتظر وصول ميسور بالعساكر، ثم ضايقه أبو يزيد وأغراه الناس بالخروج فخرج، وهزمه أبو يزيد فمضى إلى القيروان. ودخل أبو يزيد رقادة فعاث فيها وبعث أيوب الزويلي في عسكر إلى القيروان فملكها في صفر سنة ثلاث وثلاثين، ونهبها وأمّن خليلا فقتله أبو يزيد، وخرج إليه شيوخ أهل القيروان فأمّنهم ورفع النهب عنهم، وزحف ميسور إلى أبي يزيد، وكان معه أبو كملان فكاتبوا أبا يزيد وداخلوه في الغدر بميسور، وكتب إليه القائم بذلك فحذّرهم فطردهم عنه، ولحقوا بأبي يزيد وساروا معه إلى ميسور فانهزم ميسور، وقتله بنو كملان وجاءوا برأسه فأطافه بالقيروان، وبعث بالبشرى إلى البلاد. وبلغت هزيمة ميسور إلى القائم بالمهدية فاستعدّ للحصار، وأمر بحفر الخنادق، وأقام أبو يزيد سبعين يوما في مخيم ميسور وبث السرايا في كل ناحية يغنمون ويعودون، وأرسل سرية إلى سوسة ففتحوها عنوة واستباحوها، وخرّب عمران إفريقية من سائر الضواحي ولحق فلّهم بالقيروان حفاة عراة. ومات أكثرهم جوعا وعطشا. ثم بعث القائم إلى رؤساء كتامة والقبائل وإلى زيري بن مناد ملك صنهاجة بالمسير إلى المهدية فتأهّبوا لذلك، وسمع أبو يزيد بخبرهم فنزل على خمسة فراسخ من المهدية، وبثّ السرايا في جهاتها، وسمع كتامة بافتراق عسكره في الغارة فخرجوا لبياته آخر جمادى الأولى، وكان ابنه فضل قد جاء بالمدد من القيروان فبعثه للقاء كتامة، وركب في أثرهم ولقي أصحابه منهزمين. ولما رآه الكتاميون انهزموا بغير قتال

(4/53)


وأتبعهم أبو يزيد إلى باب المهدية ورجع. ثم جاء بعد أيام لقتالهم فوقف على الخندق المحدث، وعليه جماعة من العبيد فقاتلهم ساعة وهزمهم، وجاوز السور إلى البحر ووصل المصلى على رمية سهم من البلد، والبربر يقاتلون من الجانب الآخر. ثم حمل الكتاميون عليهم فهزموهم وبلغ ذلك أبا يزيد، وسمع بوصول زيري بن مناد فاعتزم أن يمرّ بباب المهديّة ويأتي زيري وكتامة من ورائهم فقاتلوا أهل الأرباض، ومالوا عليه لما عرفوه ليقتلوه، وتخلّص بعد الجهد ووصل إلى منزله فوجدهم يقاتلون العبيد كما تركهم فقوي أصحابه وانهزم العبيد. ثم رحل وتأخّر قليلا وحفر على معسكره خندقا واجتمع عليه خلق عظيم من البربر ونفوسة والزاب وأقاصى المغرب، وضيّق على أهل المرية ثم زحف إليها آخر جمادى فقاتلهم وتورّط في قتالها يومه ذلك. ثم خلص وكتب إلى عامل القيروان أن يبعث إليه مقاتلتها، فجاءوا وزحف بهم آخر رجب فانهزم، وقتل من أصحابه. ثم زحف الزحف الرابع آخر شوّال ولم يظفر، ورجع إلى معسكره واشتدّ الحصار على أهل المهديّة حتى أكلوا الميتات والدواب، وافترق أهلها في النواحي، ولم يبق بها إلّا الجند وفتح القائم أهراء [1] الزرع التي أعدّها المهدي وفرّقها فيهم. ثم اجتمعت كتامة وعسكروا بقسنطينة فبعث إليهم أبو يزيد بعثا من وربجومة وغيرهم فهزموا كتامة، ووافت أبا يزيد حشود البربر من كل ناحية وأحاط بسوسة وضيّق عليها. ثم انتقض البربر عليه بما كان منه من المجاهرة بالمحرّمات والمنافسة بينهم فانفضّوا عنه، ورجع إلى القيروان سنة أربع وثلاثين، وغنم أهل المهديّة معسكره، وكثر عبث البربر في أمصار إفريقية وضواحيها، وثار أهل القيروان بهم، وراجعوا طاعة القائم، وجاء عليّ بن حمدون من المسيلة بالعساكر فبيته أيوب بن أبي يزيد وهزمه، وسار إلى تونس وجاءت عساكر القائم فواقعوه مرّات وانهزم إلى القيروان في ربيع سنة أربع وثلاثين. فبعث أيوب ثانية لقتال عليّ بن حمدون ببلطة، وكانت حروبه معه سجالا إلى أن اقتحم عليه البلد بمداخلة بعض أهلها. ولحق ابن حمدون ببلاد كتامة واجتمعت قبائل كتامة ونفزة ومزاتة وعسكروا بقسنطينة. وبعث ابن حمدون العساكر إلى هوارة فأوقعوا بهم، وجاءهم مدد أبي يزيد فلم يغن عنهم. وملك ابن حمدون مدينة يتجست وباغاية. ثم زحف أبو يزيد
__________
[1] قوله: أهراء قال المجد: والهري بالضم بيت كبير يجمع فيه طعام السلطان، الجمع اهراء. انتهى

(4/54)


إلى سوسة في جمادى الآخرة من سنته وبها عسكر القائم، وتوفي القائم وهو بمكانه من حصارها.
(وفاة القائم وولاية ابنه المنصور)
ثم توفي القائم أبو القاسم محمد بن عبيد الله المهدي صاحب إفريقية، بعد أن عهد إلى ولده إسماعيل بعده وتلقّب بالمنصور، وكتم موت أبيه حذرا أن يطلع عليه أبو يزيد وهو بمكانه من حصار سوسة، فلم يسمّ بالخليفة ولا غيّر السكة ولا الخطبة ولا البنود إلى أن فرغ من أمر أبي يزيد كما يذكر.
(بقية أخبار أبي يزيد ومقتله)
ولمّا مات القائم كان أبو يزيد محاصرا لسوسة كما تقدّم، وقد جهد أهلها الحصار، فلمّا وليّ إسماعيل المنصور وكان أول عمله أن بعث الأساطيل من المهديّة إلى سوسة مشحونة بالمدد من المقاتلة والأمتعة والميرة مع رشيق الكاتب ويعقوب بن إسحاق، وخرج بنفسه في أثرهم، وأشار أصحابه بالرجوع فرجع ووصل الأسطول إلى سوسة، وخرجوا لقتال أبي يزيد وعساكر سوسة معهم فانهزم أبو يزيد، واستبيح معسكره نهبا وإحراقا، ولحق بالقيروان فمنعه أهلها من الدخول وثاروا بعامله فخرج إليه، ورحل إلى سبيبة وذلك أواخر شوّال سنة أربع. وجاء المنصور إلى القيروان وأمّن أهلها وأبقى على حرم أبي يزيد وأولاده، وأجرى عليهم الرزق، وخرجت سرية من عسكر المنصور لاستكشاف خبر أبي يزيد وجاءت أخرى من عسكر أبي يزيد لمثل ذلك فالتقوا وانهزمت سرية المنصور، فقوي أبو يزيد بذلك وكثر جمعه، وعاد فقاتل القيروان وخندق المنصور على عسكره، وقاتلهم أبو يزيد فكان الظفر أول يوم للمنصور، ثم قاتلهم ثانيا فانهزموا وثبت المنصور وراجع أصحابه من طريق المهديّة وسوسة. ولما رأى أبو يزيد امتناعهم عليه رحل أواخر ذي القعدة، ثم رجع فقاتلهم وكانت الحرب سجالا، وبعث السرايا إلى طريق المهديّة وسوسة نكاية فيهم، وبعث إلى المنصور في حرمه وأولاده فبعثهم إليه بعد أن وصلهم. وقد كان

(4/55)


أقسم على الرحيل، فلمّا وصلوا إليه نكث وقاتلهم خامس المحرّم سنة خمس وثلاثين فهزمهم. ثم عبّى المنصور عساكره منتصف المحرّم وجعل البرابر في الميمنة وكتامة في الميسرة، وهو وأصحابه في القلب. وحمل أبو يزيد على الميمنة فهزمها ثم على القلب فلقيه المنصور واشتدّ القتال. ثم حملوا عليه حملة رجل واحد فانهزم وأسلم أثقاله وعسكره وقتل خلق من أصحابه وبلغت رءوس القتلى الّذي في أيدي صبيان القيروان عشرة آلاف، ومضى أبو يزيد لوجهه، ومرّ بباغاية فمنعه أهلها من الدخول فأقام يحاصرها، ورحل المنصور في ربيع الأول لاتباعه، واستخلف على المهديّة مراما الصقليّ وأدركه على باغاية فأجفل المنصور في إتباعه. وكلّما قصد حصنا سبقه المنصور إليه إلى أن نزل المنصور طبنة فجاءته رسل محمد بن خزر أمير مغراوة من أصحاب أبي يزيد ومواطئه بالغرب الأوسط فاستأمن للمنصور فأمنه، وأمره بطلب أبي يزيد. ووصل أبو يزيد إلى بني برزال وكانوا نكاريّة، وبلغه خبر المنصور في اتباعه فسلك الرملة. ثم عاد إلى نواحي غمرت فصادف المنصور وقاتله فانهزم أبو يزيد إلى جبل سالات، والمنصور في أثره في جبال وأوعار ومضايق تفضي إلى القفر، وأصابهم الجهد وعلم أنه ليس أمامه إلّا المفازة إلى بلاد السودان فرجع إلى غمرت من بلاد صنهاجة. ووفد عليه هنالك زيري بن مناد أمير صنهاجة فأكرمه ووصله كما يجب له.
وجاء كتاب محمد بن خزر بالمكان الّذي فيه أبو يزيد من المفازة، وأقام المنصور هنالك لمرض أصابه فرجع أبو يزيد الى المسيلة وحاصرها. فلما عوفي المنصور رحل أوّل رجب سنة خمس وثلاثين وقصده فأفرج عن المسيلة، وقصد المفازة يريد بلاد السودان فأبى عليه بنو كملان أصحابه فرجعوا إلى جبال كتامة وعجيسة فتحصّنوا بها. وجاء المنصور فنزل بساحتهم عاشر شعبان ونزل أبو يزيد فقاتلهم فانهزم وأسلم عسكره وأولاده، وطعنه بعض الفرسان فأكبّه وحامي عنه أصحابه فقتل في الحومة ما يزيد على عشرة آلاف، وتخلّص. ثم سار المنصور في أثره أوّل رمضان ولم يقدر أحد من الفريقين على الهزيمة لضيق المكان وصعوبته. ثم انهزم أبو يزيد لما ضرسه الحرب، وترك أثقاله وساروا إلى رءوس الجبال يرمون بالصخر، وتزاحفوا حتى تعانقوا بالأيدي وكثر القتل. ثم تحاجزوا وتحصّن أبو يزيد بقلعة كتامة واستأمن الذين معه من هوارة فأمّنهم المنصور، وحصر أبا يزيد في القلعة وقاتلها غير مرّة حتى افتتحها عنوة وأضرمها نارا، وقتل أصحاب أبي يزيد في كل ناحية وجمع أهله وأولاده في

(4/56)


القصر، وأظلم الليل فأمر المنصور بإشعال النيران في الشعراء [1] المحيطة بالقصر حتى أضاء الليل لتكون أحواله بمرأى منهم حذرا من فراره، حتى خرج الليل وحمل في أصحاب المنصور حملة منكرة فأفرجوا له، وأمر المنصور بطلبه فألفوه وقد حمله ثلاثة من أصحابه لأنه كان جريحا فسقط من الوعر وارتث [2] فحملوه إلى المنصور فسجد سجدة الشكر، وأقام عنده إلى سلخ المحرم من سنة ست وثلاثين. ثم هلك من الجراحة التي به فأمر بسلخ جلده وحشوه تبنا واتخذ له قفصا فأدخل فيه مع قردين يلاعبانه بعثاله [3] . ورحل إلى القيروان والمهديّة ولحق ابنه فضل بمعبد بن خزر، وزحف به الى طبنة وبسكرة. وقصد المنصور فانهزم معبد وصعد إلى كتامة، فبعث إليه العساكر مع مولييه شفيع وقيصر، ومعهما زيري بن مناد في صنهاجة، فانهزم فضل ومعبد وافترق جمعهم ورجع المنصور إلى القيروان فدخلها.
(بقية أخبار المنصور)
ثم انتقض حميد بن يضلبتن عامل المغرب وانحرف عن طاعة الشيعة، ودعا للأموية من وراء البحر، وزحف إلى تاهرت فحاصرها فنهض إليه المنصور في صفر سنة ست وثلاثين، وجاء إلى سوق حمزة فأقام به. وحشد زيري بن مناد جموع صنهاجة من كل ناحية، ورحل مع المنصور فأفرج حميد عن تاهرت، وعقد عليها ليعلى بن محمد اليفرني، وعقد لزيري بن مناد على قومه وعلى سائر بلادهم. ثم رحل لقتال لواتة فهربوا إلى الرمال، وأقام هو على واد ميناس، وكان هنالك ثلاثة جبال كل منهم عليه قصر مبني بالحجر المنحوت، فوجد في وجه أحد هذه القصور كتابة على حجر فسيح، فأمر المنصور التراجمة بقراءته، وإذا فيه أنا سليمان السردغوس خالف أهل هذا البلد على الملك، فبعثني إليهم ففتح الله عليهم وبنيت هذا البناء لأذكر به.
ذكر هذه الغريبة ابن الرقيق في تاريخه. ثم رحل المنصور إلى القيروان بعد أن خلع
__________
[1] الشجر الكثير.
[2] وارتث: اي حمل من المعركة جريحا (القاموس) .
[3] اي بلحيته الكبيرة.

(4/57)


على زيري بن مناد وحمله ودخل المنصورية في جمادى سنة ست وثلاثين، فبلغه أن فضل بن أبي يزيد جاء إلى جبل أوراس، وداخل البربر في الثورة فخرج إليه المنصور فدخل الرمل، ورجع المنصور إلى القيروان ثم إلى المهدية، ورجع فضل بن أبي يزيد إلى باغاية وأقام يحاصرها فغدر به باطيط، وبعث برأسه الى المنصور. ثم عقد سنة تسع وثلاثين للحسين بن عليّ بن أبي الحسين الكلبيّ على صقلّيّة وأعمالها، وكانت لخليل بن إسحاق فصرفه الحسين واستقلّ بولايتها، فكان له فيها ولبنيه ملك سنذكره. وبلغ المنصور أنّ ملك إفرنجة يريد غزو المسلمين فأخرج أسطوله، وشحنه بالعساكر لنظر مولاه فرج الصقليّ، وأمر الحسين بن عليّ عامل صقلّيّة بالخروج معه فأجازوا البحر إلى عدوة الإفرنجة، ونزلوا قلورية ولقيهم رجاء ملك الفرنجة فهزموه.
وكان فتحا لا كفاء له، وذلك سنة أربعين وثلاثمائة، ورجع فرج بالغنائم إلى المهديّة سنة اثنتين وأربعين، وكان معبد بن خزر بعد مظاهرته لفضل بن أبي يزيد لم يزل منتقضا وأولياء المنصور في طلبه حتى أخذ في بعض الوقائع، وسيق مع ابنه إلى المنصور فطيف بهما في أسواق المنصوريّة، ثم قتلا سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة.
(وفاة المنصور وولاية ابنه المعز)
ثم توفي المنصور إسماعيل بن القاسم سلخ رمضان سنة إحدى وأربعين لسبع سنين من خلافته، أصابه الجهد من مطر وثلج تجلّد على ملاقاته، ودخل على أثره الحمّام فعيت [1] حرارته ولازمه السهر فمات. وكان طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي قد نهاه عن الحمّام فلم يقبل وولي الأمر بعده ابنه معدّ، ولقب المعز لدين الله فاستقام أمره، وخرج لجبل أوراس سنة اثنتين وأربعين، وجالت فيه عساكره واستأمن إليه بنو كملان ومليلة من هوارة، ودخلوا في طاعته فأمّنهم وأحسن إليهم. واستأمن إليه محمد بن خزر بعد قتل أخيه معبد فأمّنه ورجع إلى القيروان وترك مولاه قيصر في العساكر، وعقد له على باغاية فدوّخ البلاد وأحسن إلى الناس، وألف من كان شاردا من البربر. ورجع بهم إلى القيروان فأكرمهم المعز ووصلهم. ثم وفد بعدهم محمد
__________
[1] ربما تكون علت حرارته اي ارتفعت.

(4/58)


بن خزر أمير مغراوة فلقّاه مبرّة وتكريما. وأقام عنده بالقيروان إلى أن هلك سنة ثمان وأربعين. واستقدم المعزّ زيري بن مناد سنة ثلاث وأربعين أمير صنهاجة، فقدم من أشير فأجزل صلته وردّه إلى عمله. وبعث إلى الحسين بن علي عامل صقلّيّة سنة أربع وأربعين أن يخرجه بأسطوله إلى ساحل المرية من بلاد الأندلس، فعاث فيه وغنم وسبى، ورجع فأخرج الناصر صاحب الأندلس أسطوله إلى سواحل إفريقية مع غالب مولاه فمنعتهم العساكر، وأقلعوا. ثم عاودوا سنة خمس وأربعين في سبعين مركبا فأحرقوا مرسى الخزر وعاثوا في جهات سوسة، ثم في نواحي طبرنة ورجعوا.
واستقام أمر المعزّ في بلاد إفريقية والمغرب واتسعت إيالته، وكانت أعماله من ايفكان خلف تاهرت بثلاثة مراحل إلى زناتة التي دون مصر وعلى تاهرت وايفكان يعلى بن محمد اليفرني، وعلى أشير وأعمالها زيري بن مناد الصنهاجي وعلى المسيلة وأعمالها جعفر ابن علي الأندلسي وعلى باغاية وأعمالها قيصر الصقليّ. وكان على فاس أحمد بن بكر ابن أبي سهل الجذامي، وعلى سجلماسة محمد بن واسول المكناسي. ثم بلغه سنة سبع وأربعين أن يعلى بن محمد اليفرني داخل الأموية من وراء البحر، وأنّ أهل المغرب الأقصى نقضوا طاعة الشيعة، فأغزى جوهر الصقلّيّ الكاتب إلى المغرب بالعساكر، وكان على وزارته، وخرج معه جعفر بن عليّ صاحب المسيلة، وزيري بن مناد صاحب أشير وتلقّاهم يعلى بن محمد صاحب المغرب الأوسط. ولما ارتحل عن ايفكان وقعت هيعة في أصحاب صيلة وقيل له إنّ بني يعرب أوقعوها فتقبض على يعلى وناشته سيوف كتامة لحينه، وخرب ايفكان وأسر ابنه يدو بن يعلى، وتمادوا إلى فاس ثم تجاوزوها إلى سجلماسة فأخذها، وتقبّض على الشاكر للَّه محمد بن الفتح الّذي تلقّب بأمير المؤمنين من بني واسول، وولّى ابن المعتز من بني عمه مكانه ودوّخ المغرب إلى البحر. ثم رجع الى فاس وحاصرها وواليها يومئذ أحمد بن بكر بن أبي سهل الجذامي، وقاتلها مدّة فامتنعت عليه وجاءته هدايا الأمراء الأدكرنية من السوس.
ثم رحل الى سجلماسة، وبها محمد بن واسول من مكناسة وقد تلقّب بأمير المؤمنين الشاكر للَّه، وضرب السكة باسمه تقدّست عزة الله، فلما سمع بجوهر هرب، ثم أخذ أسيرا وجيء به إلى جوهر، وسار عن سجلماسة وافتتح البلاد في طريقه. ثم عاد إلى فاس وأقام في حصارها إلى أن افتتحها عنوة على يد زيري بن مناد تسنّم أسوارها ليلا ودخلها وتقبّض على أحمد بن بكر، وذلك سنة ثمان وأربعين، وولّى عليها من

(4/59)


قبله، وطرد عمّال بني أمية من سائر المغرب. وانقلب الى القيروان ظافرا عزيزا، وضم تاهرت إلى زيري بن مناد. وقدم بالفاطميين وبأحمد بن بكر وبمحمد بن واسول أسيرين في قفصين، ودخل بهما إلى المنصورية في يوم مشهود. وكانت ولاية المغرب والمشرق منقسمة بين مولييه قيصر ومظفّر، وكانا متغلبين على دولته فقبض عليهما سنة تسع وأربعين وقتلهما. وفي سنة خمسين كان تغلّب النصارى على جزيرة اقريطش، وكان بها أهل الأندلس من جالية الحكم بن هشام بسبب ثورة الرفض، ففر بهم إلى الإسكندريّة فثاروا بها، وعبد الله بن طاهر يومئذ عامل مصر فحاصرهم بالإسكندرية حتى نزلوا على الأمان، وأن يجيزوا البحر إلى جزيرة أقريطش فعمّروها ونزلوها منذ تلك الأيام، وأميرها أبو حفص البلّوطي منهم، واستبدّ بها وورث بنوه رياسة فيها إلى أن نازلهم النصارى في هذه السنة في سبعمائة مركب، واقتحموها عليهم عنوة، وقتلوا منهم وأسروا، وبقيت في ايدي النصارى لهذا العهد والله غالب على أمره. وافتتح صاحب صقلّيّة سنة إحدى وخمسين قلعة طرمين، من حصون صقلّيّة بعد حصار طويل أجهدهم فنزلوا على حكم صاحب صقلّيّة بعد تسعة أشهر ونصف للحصار، وأسكن المسلمين بالقلعة وسمّاها المعزيّة نسبة إلى المعزّ صاحب إفريقية. ثم سار صاحب صقلّيّة بعدها وهو أحمد بن الحسن ابن علي بن أبي الحسن إلى حصار رمطة من قلاع صقلّيّة فاستمدوا ملكهم صاحب القسطنطينيّة، فجهّز لهم العساكر برا وبحرا، واستمد صاحب صقلّيّة المعزّ فامدّه بالعساكر مع ابنه الحسن، ووصل مدده إلى مدينة ميسنى، وساروا بجموعهم إلى رمطة، وكان على حصارها الحسن بن عمار فحمل عسكرا على رمطة وزحف إلى عسكر الروم مستميتا فقاتلهم فقتل أمير الروم وجماعة من البطارقة وهزموا أقبح هزيمة، واعترضهم خندق فسقطوا فيه، وأثخن المسلمون. فيهم وغنموا عسكرهم. واشتدّ الحصار على أهل رمطة وعدموا الأقوات فاقتحمها المسلمون عنوة، وركب فلّ الروم البحر يطلبون النجاة، فأتبعهم الأمير أحمد بن الحسن في أسطوله فأدركهم وسبح بعض المسلمين في الماء فخرّق مراكبهم وانهزموا، وبث أحمد سرايا المسلمين في مدائن الروم فغنموا منها وعاثوا فيها حتى صالحوهم على الجزية، وكانت هذه الواقعة سنة أربع وخمسين وتسمّى وقعة المجاز.

(4/60)


(فتح مصر)
ثم إنّ المعز لدين الله بلغه اضطراب أحوال مصر بعد موت كافور الإخشيدي وعظم فيها الغلاء وكثرت الفتن وشغل بغداد عنهم بما كان من الفتن بين بختيار بن معزّ الدولة، وعضد الدولة ابن عمه، فاعتزم المعزّ على المسير إلى مصر، وأخرج جوهرا الكاتب إلى المغرب لحشد كتامة، وأوعز إلى عمّال برقة لحفر الآبار في طريقها، وذلك سنة خمس وخمسين، فسيّره إلى مصر وخرج لتوديعه، وأقام أياما في معسكره، وسار جوهر وبلغ خبره إلى عساكر الإخشيدية بمصر فافترقوا، وكان ما يذكر في أخبارهم، وقدم جوهر منتصف شعبان من سنة ثمان وخمسين فدخلها وخطب في الجامع العتيق منه باسم المعزّ، وأقيمت الدعوة العلويّة وفي جمادى من سنة تسع وخمسين دخل جوهر جامع ابن طولون فصلّى فيه، وأمر بزيادة حيّ على خير العمل في الأذان، فكان أوّل أذان أذّن به في مصر. ثم بعث إلى المعزّ بالهدايا وبأعيان دولة الإخشيدية فحبسهم المعز بالمهديّة، وأحسن إلى القضاة والعلماء من وفدهم، وردّهم إلى مصر، وشرع جوهر في بناء القاهرة واستحث المعزّ للقدوم على مصر.
(فتح دمشق)
ولما فتحت مصر، وأخذ بنو طفج، هرب منهم الحسن بن عبد الله بن طفج إلى مكّة ومعه جماعة من قوّادهم، فلمّا استشعر جوهر به بعث جعفر بن فلاح الكتامي في العساكر إليه فقاتله مرارا ثم أسره ومن كان معه من القوّاد، وبعث بهم إلى جوهر فبعث بهم جوهر إلى المعزّ بإفريقية، ودخل جعفر الرملة عنوة فاستباحها، ثم أمّن من بقي وجبى الخراج وسار إلى طبرية وبها ابن ملهم وقد أقام الدعوة للمعز فتجافى عنه، وسار إلى دمشق فافتتحها عنوة وأقام بها الخطبة للمعز لأيام من المحرّم سنة تسع وخمسين، وكان بدمشق الشريف أبو القاسم بن أبي يعلى الهاشميّ وكان مطاعا فيهم، فجمع الأوباش والذعّار وثار بهم في الجمعة الثانية، ولبس السواد وأعاد الخطبة

(4/61)


للمطيع فقاتلهم جعفر بن فلاح أياما ووالى عليهم الهزائم. وعاثت جيوش المغاربة في أهل دمشق فهرب ابن أبي يعلى ليلا من البلد وأصبحوا حيارى، وكانوا قد بعثوا الشريف الجعفري إلى جعفر في الصلح فأعاده إليهم بتسكين الناس والوعد الجميل، وأن يدخل البلد فيطوف فيه ويرجع إلى معسكره فدخل، وعاث المغاربة في البلد بالنهب فثار الناس بهم وحملوا عليهم، وقتلوا منهم وشرعوا في حفر الخنادق وتحصين البلد. ومشى الشريف أبو القاسم في الصلح بينهم وبين جعفر بن فلاح، فتم ذلك منتصف ذي الحجة من سنة تسع وخمسين، ودخل صاحب شرطة جعفر فسكن الناس وقبض على جماعة من الأحداث وقتل منهم وحبس. ثم قبض على الشريف أبي القاسم بن أبي يعلى في المحرّم من سنة ستين، وبعث به إلى مصر، واستقام ملك دمشق لجعفر بن فلاح، وكان خرج بإفريقية في سنة ثمان وخمسين أبو جعفر الزناتي واجتمعت إليه جموع من البربر والنكاريّة، وخرج إليه المعزّ بنفسه، وانتهى إلى باغاية وافترقت جموع أبي خزر [1] ، وسلك الأوعار فعاد المعزّ وأمر بلكين بن زيري بالمسير في طلبه فسار لذلك حتى انقطع عنه خبره، ثم جاء أبو جعفر مستأمنا سنة تسع وخمسين فقبله، وأجرى عليه الرزق، وعلى أثر ذلك وصلت كتب جوهر بإقامة دعوته بمصر والشام، وباستدعائه إليها فاشتدّ سرور المعز بذلك، وأظهره في الناس ونطق الشعراء بامتداحه. ثم زحف القرامطة إلى دمشق وعليهم ملكهم الأعصم.
ولقيهم جعفر بن فلاح فظفر بهم وقتلهم. ثم رجعوا إليه سنة إحدى وستين وبرز إليهم جعفر فهزموه وقتلوه، وملك الأعصم دمشق وسار إلى مصر وكاتب جوهر بذلك للمعزّ فاعتزم على الرحلة إليها.
(مسير المعز الى مصر ونزوله بالقاهرة)
ولما انتهت هذه الأخبار إلى المعزّ اعتزم على المسير إلى مصر، وبدأ بالنظر في تمهيد المغرب وقطع شواغله، وكان محمد بن الحسن بن خزر المغراوي مخالفا عليه بالمغرب الأوسط، وقد كثرت جموعه من زنانة والبربر، وكان جبّارا طاغيا فأهمّ المعزّ أمره وخشي على إفريقية عائلته، فأمر بلكين بن زيري بن مناد بغزوه فغزاه في بلاده،
__________
[1] الصحيح أبي جعفر.

(4/62)


وكانت بينهما حروب عظيمة. ثم انهزم محمد بن خزر وجموعه، ولما أحسّ بالهزيمة تحامل على سيفه فقتل نفسه، وقتل في المعركة سبعة عشر من أمراء زناتة وأسر منهم كثير وذلك سنة ستين. وسرّ المعزّ ذلك وقعد للهناء به. واستقدم بلكين بن زيري فاستخلفه على إفريقية والمغرب، وأنزله القيروان وسمّاه يوسف، وكنّاه أبا الفتوح، وولّى على طرابلس عبد الله بن يخلف الكتامي، ولم يجعل لبلكين ولاية عليه، ولا على صاحب صقلّيّة. وجعل على جباية الأموال زيادة الله بن الغريم، وعلى الخراج عبد الجبّار الخراسانيّ، وحسين بن خلف المرصدي بنظر بلكين، وعسكر ظاهر المنصوريّة آخر شوّال من سنة إحدى وستين، وأقام على سردانية قريبا من القيروان حتى فرغ من أعماله، ولحقته عساكره وأهل بيته وعمّاله، وحمل له ما كان في قصره من الأموال والأمتعة. وارتحل بعد أربعة أشهر من مقامه وسار معه بلكين قليلا، ثم ودّعه وردّه إلى عمله، وسار هو إلى طرابلس في عساكره، وهرب بعضهم إلى جبل نفوسة فامتنعوا بها، وسار إلى برقة فقتل بها شاعره محمد بن هانئ الأندلسي، وجد قتيلا بجانب البحر في آخر رجب من سنة اثنتين وستين. ثم سار إلى الاسكندريّة وبلغها في شعبان من هذه السنة، ولقيه بها أعيان مصر فأكرمهم ووصلهم، وسار فدخل القاهرة لخمس من رمضان من هذه السنة فكانت منزله ومنزل الخلفاء بعده الى آخر دولتهم.
(حروب المعز مع القرامطة واستيلاؤه على دمشق)
كان للقرامطة على بني طفج بدمشق ضريبة يؤدّونها إليهم، فلمّا ملك ابن فلاح بدعوة المعزّ قطع تلك الضريبة، وآسفهم بذلك فرجعوا إلى دمشق وعليهم الأعصم ملكهم، فبرز إليهم جعفر بن فلاح فهزموه وقتلوه، وملكوا دمشق وما بعدها، إلى الرملة، وهرب من كان بالرملة وتحصّنوا بيافا. وملك القرامطة الرملة وجهّزوا العساكر على يافا، وساروا إلى مصر ونزلوا عين شمس وهي المعروفة لهذا العهد بالمطرية. واجتمع إليهم خلق كثير من العرب وأولياء بني طفج، وحاصروا المغاربة بالقاهرة وقاتلوهم أياما فكان الظفر بهم. ثم خرج المغاربة واستماتوا وهزمهم فرحلوا

(4/63)


إلى الرملة وضيّقوا حصار يافا، وبعث إليهم جعفر بالمدد في البحر فأخذه القرامطة وانتهى الخبر إلى المعزّ بالقيروان. وجاء إلى مصر ودخلها كما ذكرناه. وسمع أنهم يريدون المسير إلى مصر فكتب إلى الأعصم يذكّره فضل بنيه وأنهم إنما دعوا له ولآبائه وبالغ في وعظه وتهدّده فأساء في جوابه، وكتب إليه: وصل كتابك الّذي قلّ تحصيله وكثر تفصيله، ونحن سائرون إليك والسلام. وسار من الأحساء إلى مصر ونزل عين شمس في عساكره، واجتمع إليه الناس من العرب وغيرهم. وجاء حسان بن الجرّاح في جموع عظيمة من طيِّئ، وبثّ سراياه في البلاد فعاثوا فيها وأهمّ المعز شأنه، فراسل ابن الجرّاح واستماله بمائة ألف دينار على أن ينهزم على القرامطة واستحلفوه على ذلك. وخرج المعز ليوم عيّنوه لذلك فانهزم ابن الجرّاح بالعرب، وثبت القرامطة قليلا ثم انهزموا وأخذ منهم نحو ألف وخمسمائة أسير. وقتلوا صبرا ونهب معسكرهم. وجرّد المعز القائد أبا محمود في عشرة آلاف فارس، وساروا في اتباعهم ولحق القرامطة بأذرعات وساروا منها إلى الأحساء، وبعث المعز القائد ظالم بن موهوب العقيليّ واليا على دمشق فدخلها، وكان العامل بها من قبل القرامطة أبو اللجاء وابنه في جماعة منهم فحبسهم ظالم وأخذ أموالهم، ورجع القائد أبو محمود من اتباع القرامطة إلى دمشق فتلقّاه ظالم وسرّ بقدومه وسأله المقام بظاهر دمشق حذرا من القرامطة ففعل ودفع أبا اللجاء وابنه فبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها. وعاث أصحاب أبي محمود في دمشق، فاضطرب الناس وقتل صاحب الشرطة بعضهم فثاروا به وقتلوا أصحابه. وركب ظالم بذراريهم وأجفل أهل الضواحي إلى البلد من عيث المغاربة، ثم وقعت في منتصف شوّال من سنة ثلاث وستين فتنة بين العامّة وبين عسكر أبي محمود وقاتلوه أياما، ثم هزمهم وتبعهم إلى البلد. وكان ظالم بن موهوب يداري العامّة فأشفق في هذا اليوم على نفسه، وخرج من دار الإمارة وأحرق المغاربة ناحية باب الفراديس، ومات فيها خلق، واتصلت الفتنة إلى ربيع الآخر من سنة أربع وستين. ثم وقع الصلح بينهم على إخراج ظالم من البلد وولاية جيش بن الصمصامة ابن أخت أبي محمود فسكن الناس إليه. ثم رجع المغاربة إلى العيث وعاد العامّة إلى الثورة، وقصدوا القصر الّذي فيه جيش فهرب ولحق بالعسكر، وزحف إلى البلد فقاتلهم وأحرق ما كان بقي وقطع الماء عن البلد فضاقت الأحوال وبطلت

(4/64)


الأسواق، وبلغ الخبر إلى المعزّ فنكر ذلك على أبي محمود واستعظمه، وبعث إلى زياد الخادم في طرابلس يأمره بالمسير إلى دمشق لاستكشاف حالها، وأن يصرف القائد أبا محمود عنها، فصرفه إلى الرملة، وبعث إلى المعز بالخبر، وأقام بدمشق إلى أن وصل أفتكين واليا على دمشق. وكان أفتكين هذا من موالي عزّ الدولة بن بويه، ولما ثار الأتراك على ابنه بختيار مع سبكتكين، ومات سبكتكين، قدّمه الأتراك عليهم، وحاصروا بختيار بواسط، وجاء عضد الدولة لإنجاده فاجفلوا عن واسط فتركوه ببغداد. وسار أفتكين في طائفة من الجند إلى حمص فنزل قريبا منها، وقصده ظالم بن موهوب العقيليّ ليقبضه فعجز عنه، وسار أفتكين فنزل بظاهر دمشق وبها زياد خادم المعز، وقد غلب عليه، وعلى أعيان البلد الأحداث والذّعار، فلم يملكوا معهم أمر أنفسهم فخرج الأعيان إلى أفتكين، وسألوا منه الدخول إليهم ليولّوه، وشكوا إليه حال المغاربة وما يحملونهم عليه من عقائد بعض الرفض، وما أنزل بهم عمّالهم من الظلم والعسف، فأجابهم واستحلفهم وحلف لهم، وملك البلد وخرج منها زياد الخادم، وقطع خطبة المعزّ العلويّ وخطب للطائع العبّاسيّ، وقمع أهل الفساد ودفع العرب عمّا كانوا استولوا عليه من الضواحي. واستقل ملك دمشق وكاتب المعزّ بطلب طاعته وولايتها من قبله. فلم يثق إليه وردّه، وتجهّز لقصده، وجهّز العساكر فتوفي بعسكره ببلبيس كما يذكر.
(وفاة المعز وولاية ابنه العزيز)
ثم توفي المعزّ بمصر في منتصف ربيع الآخر سنة خمس وستين لثلاث وعشرين سنة من خلافته، وولي ابنه نزار بعهده إليه ووصيّته، ولقّب العزيز باللَّه، وكتم موت أبيه إلى عيد النحر من السنة فصلّى بالناس وخطبهم، ودعا لنفسه وعزّى بأبيه، وأقرّ يعقوب ابن كلس على الوزارة كما كان أيام أبيه، وأقرّ بلكين بن زيري على ولاية إفريقية وأضاف إليه ولاية عبد الله بن يخلف الكتامي، وهي طرابلس وسرت وجرابيه.
وكان أهل مكة والمدينة قد خطبوا للمعز أبيه في الموسم فتركوا الخطبة للعزيز، فبعث جيوشه إلى الحجاز فحاصروا مكة والمدينة وضيّقوا عليهم حتى رجعوا إلى دعوتهم، ابن خلدون م 5 ج 4

(4/65)


وخطب للعزيز بمكة وكان أمير مكة عيسى بن جعفر والمدينة طاهر بن مسلم، ومات في هذه السنة فولي ابنه الحسن وابن أخيه مكانه.
(بقية أخبار أفتكين)
ولما توفي المعز وولي العزيز، قام أفتكين وقصد البلاد التي لهم بساحل الشام فبدأ بصيداء فحاصرها، وبها ابن الشيخ في رءوس المغاربة وظالم بن موهوب العقيليّ فبرزوا إليه وقاتلوه فاستنجد لهم، ثم كرّ عليهم وأوقع بهم وقتل منهم أربعة آلاف، وسار إلى عكة فحاصرها وقصد طبرية وفعل فيها مثل صيدا. ورجع واستشار العزيز وزيره يعقوب بن كلس فأشار بإرسال جوهر الكاتب إليه، فجهّزه العزيز وبعثه، وأقبل أفتكين على أهل دمشق يريهم التحوّل عنهم ويذكرهم بذلك ليختبرهم فتطارحوا إليه، واستماتوا واستحلفهم على ذلك. ووصل جوهر في ذي القعدة سنة خمس وستين فحاصر دمشق شهرين، وضيّق حصارها وكتب افتكين إلى الأعصم ملك القرامطة يستنجده، فسار إليه من الأحساء واجتمع إليهم من رجال الشام والعرب نحو من خمسين ألفا، وأدركوا جوهرا بالرملة وقطعوا عنه الماء فارتحل إلى عسقلان فحاصروه بها حتى بلغ الجهد، وأرسل جوهر إلى أفتكين بالمغاربة والوعد. والقرمطيّ يمنعه، ثم سأله في الاجتماع فجاءه أفتكين، ولم يزل جوهر يعتل له في الذروة والغارب، وأفتكين يعتذر بالقرمطيّ ويقول أنت حملتني على مداراته. فلما أيس منه كشف لهم عمّاهم فيه من الضيق، وسأله الصنيعة وأنها يتّخذها عند العزيز فحلف له على ذلك، وعزله القرمطيّ. وأراه جوهر أن يحمل العزيز على المسير بنفسه فصمّ من عزله وأبى إلّا الوفاء، وانطلق جوهر إلى مصر وأغرى العزيز بالمسير إليهم، فتجهّز في العساكر، وسار وجوهر في مقدّمته، ورجع أفتكين والقرمطيّ إلى الرملة، واحتشدوا ووصل العزيز فاصطفوا للحرب بظاهر الرملة في محرّم سنة سبع وستين. وبعث العزيز إلى أفتكين يدعوه إلى الطاعة ويرغّبه ويعده بالتقدّم في دولته ويدعوه إلى الحضور عنده، فتقدّم بين الصفّين وترجّل وقبّل الأرض وقال: قل لأمير المؤمنين لو كان قبل هذه لسارعت، وأما الآن فلا يمكنني. وحمل على الميسرة فهزمهم وقتل الكثير منهم، فامتعض العزيز وحمل هو والميمنة جميعا فهزمهم، ووضع المغاربة السيف فقتلوا نحوا من

(4/66)


عشرين ألفا، ثم نزل في خيامه وجيء بالأسرى فخلع على من جاء بهم وبذل لمن جاء بأفتكين مائة ألف دينار، فلقيه المفرّج بن دغفل الطائي، وقد جهده العطش فاستسقاه فسقاه وتركه بعرشه مكرّما. وجاء إلى العزيز فأخبره بمكانه، وأخذ المائة ألف التي بذلها فيه، وأمكنه من قياده. ولما حضر عند العزيز وهو لا يشك أنه مقتول أكرمه العزيز ووصله، ونصب له الخيام وأعاد إليه ما نهب له، ورجع به إلى مصر فجعله أخص خدمه وحجّابه، وبعث إلى الأعصم القرمطيّ من يردّه إليه ليصله، كما فعل بأفتكين فأدرك بطبرية، وامتنع من الرجوع فبعث إليه بعشرين ألف دينار وفرضها له ضريبة، وسار القرمطيّ إلى الأحساء، وعاد العزيز إلى مصر ورقى رتبة أفتكين وخصّ به الوزير يعقوب بن كلس فسمّه، وسمع العزيز بأنه سمّه فحبسه أربعين يوما وصادره على خمسمائة ألف دينار، ثم خلع عليه وأعاده إلى وزارته.
وتوفي جوهر الكاتب في ذي القعدة من سنة إحدى وثمانين، وقام ابنه الحسن مقامه، ولقّب قائد القوّاد. وكان أفتكين قد استخلص أيام وزارته بدمشق رجلا اسمه قسّام، فعلا صيته وكثر تابعه، واستولى على البلد. ولما انهزم أفتكين والقرامطة، بعث العزيز القائد أبا محمود بن إبراهيم واليا على دمشق كما كان لأبيه المعزّ فوجد فيها قسّاما قد ضبط البلد، وهو يدعو للعزيز فلم يتم له معه ولاية. وبقي قسّام مستبدا عليه إلى أن مات أبو محمود سنة سبعين. ثم جاء أبو ثعلب بن حمدان صاحب الموصل إلى دمشق، عند انهزامه أمام عضد الدولة، فمنعه قسّام من الدخول وخاف أن يغلبه على البلد بنفسه أو بأمر العزيز، واستوحش أبو ثعلب لذلك فقاتله قليلا، ثم رحل إلى طبريّة، وجاءت عساكر العزيز مع قائده الفضل فحاصروا قسّاما بدمشق، ولم يظفروا به ورجعوا. ثم بعث العزيز سنة تسع وستين سليمان بن جعفر بن فلاح فنزل بظاهرها، ولم يمكّنه قسّام من دخولها، ودسّ إلى النّاس فقاتلوه وأزعجوه [1] عن مكانه. وكان مفرج بن الجرّاح أمير بني طيِّئ وسائر العرب بأرض فلسطين قد كثرت جموعه وقويت شوكته، وعاث في البلاد وخرّبها، فجهّز العزيز العساكر لحربه مع قائدة بلتكين التركيّ، فسار إلى الرملة، واجتمع إليه العرب من قيس وغيرهم، ولقي ابن الجرّاح وقد أكمن لهم بلتكين من ورائهم، فانهزم ومضى الى أنطاكية، فأجاره
__________
[1] اي أزاحوه وهي من معاني ابن خلدون.

(4/67)


صاحبها، وصادف خروج ملك الروم من القسطنطينية إلى بلاد الشام فخاف ابن الجرّاح وكاتب بكجور مولى سيف الدولة وعامله على حمص، ولجأ إليه فأجاره. ثم زحف بلتكين إلى دمشق وأظهر لقسّام أنه جاء لإصلاح البلد. وكان مع قسّام جيش ابن الصمصامة ابن أخت أبي محمود قد قام بعده في ولايته، فخرج إلى بلتكين فأمره بالنزول معه بظاهر البلد هو وأصحابه. واستوحش قسّام وتجهّز للحرب. ثم قاتل وانهزم أصحابه، ودخل بلتكين أطراف البلد فنهبوا وأحرقوا. واعتزم أهل البلد على الاستئمان إلى بلتكين، وشافهوه بذلك فأذن لهم، وسمع قسّام فاضطرب وألقى ما بيده واستأمن الناس إلى بلتكين لأنفسهم ولقسّام، فأمّن الجميع وولّى على البلد أميرا اسمه خطلج، فدخل البلد وذلك في المحرم سنة اثنتين وسبعين، ثم اختفى قسّام بعد يومين فنهبت دوره ودور أصحابه، وجاء ملقيا بنفسه على بلتكين فقبله وحمله إلى مصر فأمّنه العزيز. وكان بكجور في غويّة من غلمان سيف الدولة وعامله على حمص. وكان يمدّ دمشق أيام هذه الفتنة والغلاء، ويحمل الأقوات من حمص إليها ويكاتب العزيز بهذه الخدم، ثم استوحش سنة ثلاث وسبعين من مولاه أبي المعالي فاستنجز من العزيز وعده إياه بولاية دمشق، وصادف ذلك أنّ المغاربة بمصر أجمعوا على التوثّب بالوزير ابن كلس، ودعت الضرورة إلى استقدام بلتكين من دمشق فأمره العزيز بالقدوم، وولاية بكجور على دمشق ففعل. ودخلها بكجور في رجب من سنة ثلاث وسبعين، وعاث في أصحاب ابن كلس وحاشيته بدمشق لما كان يبلغه عنه من صدّ العزيز عن ولايته. ثم أساء السيرة في أهل دمشق فسعى ابن كلس في عزله عند العزيز، وجهّز العساكر سنة ثمان وسبعين مع منير الخادم، وكتب إلى نزال عامل طرابلس بمظاهرته، وجمع بكجور العرب وخرج للقائه فانهزم. ثم خاف من وصول نزال فاستأمن لهم وتوجّه إلى الرقّة فاستولى عليها، ودخل منير دمشق واستقّر في ولايتها، وارتفعت منزلته عند العزيز وجهزه لحصار سعد الدولة بحلب. وكان بكجور بعد انصرافه من دمشق إلى الرقّة سأل من سعد الدولة العود إلى ولاية حمص فمنعه فأجلب عليه، واستنجد العزيز لحربه، وبعث إلى نزال عامل طرابلس بمظاهرته فسار إليه بالعساكر، وخرج سعد الدولة من حلب للقائهم وقد أضمر نزال الغدر ببكجور، وتقدّم إليه بذلك عيسى بن نسطورس وزير العزيز بعد ابن كلس. وجاء سعد الدولة للقائهم وقد استمدّ عامل أنطاكية للروم فامدّه بجيش

(4/68)


كثير وداخل العرب الذين مع بكجور في الانهزام عنه، ووعدوه بذلك من أنفسهم، فلما تراءى الجمعان وشعر بكجور بخديعة العرب فاستمات وحمل على الصفّ بقصد سعد الدولة، فقتل لؤلؤ الكبير مولاه بطعنه إياه. ثم حمل عليه سعد الدولة فهزمه، فسار إلى بعض العرب وحمل إلى سعد الدولة فقتله، وسار إلى الرقّة فملكها وقبض جميع أمواله، وكانت شيئا لا يعبّر عنه، وكتب أولاده إلى العزيز يستشفعون به، فشفع إلى سعد الدولة فيهم أن يبعثهم إلى مصر، ويتهدّده على ذلك، فأساء سعد الدولة الردّ وجهّز لحصار حلب الجيوش مع منجوتكين، فنزل عليها وحاصرها وبها أبو الفضائل بن سعد الدولة ومولاه لؤلؤ الصغير. وأرسلا إلى بسيل ملك الروم يستنجدانه وهو في قتال بلغار، فبعث إلى عامل أنطاكية أن يمدّهما، فسار في خمسين ألفا حتى نزل حبس العاصي، وبلغ خبره إلى منجوتكين فارتحل عن حلب، ولقي الروم فهزمهم وأثخن فيهم قتلا وأسرا. وسار إلى أنطاكية وعاث في نواحيها، وخرج أبو الفضائل في مغيب منجوتكين إلى ضواحي حلب، فنقل ما فيها من الغلال وأحرق بقيتها لتفقد عساكر منجوتكين الأقوات. فلما عاد منجوتكين إلى الحصار، جهّز عسكره وأرسل لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربيّ في الصلح، فعقد له ذلك، ورحل منجوتكين، إلى دمشق، وبلغ الخبر إلى العزيز فغضب، وكتب إلى منجوتكين بالعود إلى حصار حلب وإبعاد الوزير المغربيّ، وأنفذ الأقوات للعسكر في البحر الى طرابلس. وأقام منجوتكين في حصار حلب وأعادوا مراسلة ملك الروم فاستنجدوه وأغروه، وكان قد توسّط بلاد البلغار فعاد مجدّا في السير. وبعث لؤلؤ إلى منجوتكين بالخبر حذرا على المسلمين، وجاءته جواسيسه بذلك، فأجفل بعد أن خرّب ما كان اتخذه في الحصار من الأسواق والقصور والحمّامات. ووصل ملك الروم إلى حلب ولقي أبا الفضائل ولؤلؤا، ثم سار في الشام وافتتح حمص وشيزر ونهبهما، وحاصر طرابلس أربعين يوما فامتنعت عليه، وعاد إلى بلاده. وبلغ الخبر إلى العزيز فعظم عليه، واستنفر الناس للجهاد، وبرز من القاهرة ذلك سنة إحدى وثمانين، ثم انتقض منير في دمشق، فزحف إليه منجوتكين إلى دمشق.

(4/69)


(أخبار الوزراء)
كان وزير المعز لدين الله يعقوب بن يوسف بن كلس أصله من اليهود وأسلم، وكان يدبّر الأحوال الإخشيدية بمصر، وعزله أبو الفضائل بن الفرات سنة سبع وخمسين، وصادره فاستتر بمصر، ثم فرّ إلى المغرب ولقي المعز لدين الله، وجاء في ركابه إلى مصر فاستوزره وعظم مقامه عنده، واستوزره بعده ابنه العزيز إلى أن توفي سنة ثمانين وصلى عليه العزيز وحضر دفنه، وقضى عنه دينه، وقسّم عمله فردّ النظر في الظلامات الى الحسن بن عمّار كبير كتامة، وردّ النظر في الأموال إلى عيسى بن نسطورس، ولم تزل الوزارة سائر دولتهم في أرباب الأقلام، وكانوا بمكان، وكان منهم البارزي. وكان مع الوزارة قاضي القضاة وداعي الدعاة، وسأل أن يرسم اسمه على السكّة فغرب ومنع، ومات قتيلا بتنيس. وأبو سعيد النسري، وكان يهوديا وأسلم قبل وزارته، والجرجاني وقطع الجرجاني في أمر منع من الكتب فيه فكتب وحلف الحاكم بيمين لا تكفّر ليقطعنّه. ثم ردّه بعد ثلاث وخلع عليه وابن أبي كدينة ثلاثة عشر شهرا. ثم صرف وقتل وأبو الطاهر بن ياشاد، وكان من أهل الدين واستعفى فأعفي، وأقام معتكفا في جامع مصر وسقط ليلة من السطح فمات. وكان آخرهم الوزير أبو القاسم بن المغربيّ وكان بعده بدر الجيالي أيام المستنصر وزير سيف الدولة، واستبدّ له على الدولة ومن بعده منهم كما يأتي في أخبارهم.
(أخبار القضاة)
كان النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حيّون في خطة القضاء للمعزّ بالقيروان.
ولما جاء إلى مصر أقام بها في خطة القضاء إلى أن توفي وولي ابنه عليّ، ثم توفي سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، فولّى العزيز أخاه أبا عبد الله محمدا، خلع عليه وقلّده سيفا.
وكان المعز قد وعد أباه بقضاء ابنه محمد هذا بمصر، وتمّ في سنة تسع وثمانين أيام الحاكم، وكان كبير الصيت، كثير الإحسان شديد الاحتياط في العدالة، فكانت أيامه شريفة. وولي بعده ابن عمه أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن النعمان أيام الحاكم،

(4/70)


ثم عزل سنة أربع وتسعين، وقتل وأحرق بالنار، وولي مكانه ملكة بن سعيد الفارقيّ إلى أن قتله الحاكم سنة خمس وأربعمائة بنواحي القصور، وكان عالي المنزلة عند الحاكم ومداخلا له في أمور الدولة، وخالصة له في خلواته. وولّى بعده أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي العوّام. واتصل في آخرين إلى آخر دولتهم، كان كثيرا ما يجمعون للقاضي المظالم والدعوة، فيكون داعي الدعاة، وربما يفردون كلّا منهما.
وكان القاضي عندهم يصعد مع الخليفة المنبر مع من يصعده من أهل دولته عند ما يخطب الخلفاء في الجمع والأعياد.
(وفاة المعز وولاية ابنه الحاكم)
قد تقدّم لنا أنّ العزيز استنفر الناس للجهاد سنة إحدى وثمانين، وبرز في العساكر لغزو الروم، ونزل بلبيس فاعتورته الأمراض، واتصلت به إلى أن هلك آخر رمضان سنة ست وثمانين لإحدى عشرة سنة ونصف من خلافته، ولقّب الحاكم بأمر الله، واستولى برجوان الخادم على دولته كما كان لأبيه العزيز بوصيته بذلك، وكان مدبّر دولته، وكان رديفه في ذلك أبو محمد الحسن بن عمّار ويلقّب بأمين الدولة، وتغلّب على ابن عمّار وانبسطت أيدي كتامة في أموال الناس وحرمهم، ونكر منجوتكين تقديم ابن عمّار في الدولة، وكاتب برجوان بالموافقة على ذلك فأظهر الانتقاض، وجهّز العساكر لقتاله مع سليمان بن جعفر بن فلاح فلقيهم بعسقلان، وانهزم منجوتكين وأصحابه، وقتل منهم ألفين وسيق أسيرا إلى مصر، فأبقى عليه ابن عمّار واستماله للمشارقة، وعقد على الشام لسليمان بن فلاح، ويكنّى أبا تميم، فبعث من طبريّة أخاه عليا إلى دمشق، فامتنع أهلها، فكاتبهم أبو تميم وتهدّدهم وأذعنوا، ودخل على البلد ففتك فيهم. ثم قدّم أبو تميم فأمّن وأحسن وبعث أخاه عليا إلى طرابلس وعزل عنها جيش بن الصمصامة فسار إلى مصر، وداخل برجوان في الفتك بالحسن بن عمّار وأعيان كتامة، وكان معهما في ذلك شكر خادم عضد الدولة نزع إلى مصر بعد مهلك عضد الدولة، ونكبة أخيه شرف الدولة إياه، فخلص إلى العزيز فقرّبه وحظي عنده، فكان مع برجوان وجيش بن الصمصامة. وثارت الفتنة واقتتل المشارقة والمغاربة فانهزمت المغاربة، واختفى ابن عمّار وأظهر برجوان الحاكم وجدّد

(4/71)


له البيعة، وكتب إلى دمشق بالقبض على أبي تميم بن فلاح فنهب، ونهبت خزائنه، واستمرّ القتل في كتامة واضطربت الفتنة بدمشق، واستولى الأحداث. ثم أذن برجوان لابن عمّار في الخروج من أستاره وأجرى له أرزاقه على أن يقيم بداره.
واضطرب الشام فانتقض أهل صور، وقام بها رجل ملّاح اسمه العلّاقة وانتقض مفرّج بن دغفل بن الجرّاح، ونزل على الرملة، وعاث في البلاد وزحف الدوقس ملك الروم إلى حصن أفامية محاصرا لها. وجهّز برجوان العساكر مع جيش بن الصمصامة، فسار إلى عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدون، وأسطولا في البحر، واستنجد العلّاقة ملك الروم فأنجده بالمقاتلة في المراكب، فظفر بهم أسطول المسلمين. واضطرب أهل صور وملكها ابن حمدان، وأسر العلّاقة، وبعث به إلى مصر فسلخ وصلب وسار جيش بن الصمصامة إلى المفرج بن دغفل فهرب أمامه، ووصل إلى دمشق، وتلقّاه أهلها مذعنين، وأحسن إليهم وسكّنهم ورفع أيدي العدوان عنهم. ثم سار إلى أفامية وصافّ الروم عندها فانهزم أولا هو وأصحابه، وثبت بشارة إخشيدي بن قرارة في خمس عشرة [1] فارسا، ووقف الدوقس ملك الروم على رابية في ولده وعدّة من غلمانه ينظر فعل الروم في المسلمين، فقصد كردي من مصاف الإخشيدي وبيده عصا من حديد يسمّى الخشت، وظنّه الملك مستأمنا، فلما دنا منه ضربه بالخشت فقتله، وانهزم الروم وأتبعهم جيش بن الصمصامة إلى أنطاكية يغنم ويسبي ويحرق. ثم عاد مظفّرا إلى دمشق فنزل بظاهرها ولم يدخل. واستخلص رؤساء الأحداث واستحجبهم وأقيم له الطعام في كل يوم، وأقام على ذلك برهة. ثم أمر أصحابه إذا دخلوا للطعام أن يغلق باب الحجرة عليهم، ويوضع السيف في سائرهم، فقتل منهم ثلاثة آلاف، ودخل دمشق وطاف بها وأحضر الأشراف فقتل رؤساء الأحداث بين أيديهم، وبعث بهم إلى مصر وأمّن الناس. ثم إنه توفي ووليّ محمود بن جيش وبعث برجوان إلى بسيل ملك الروم فصالحه لعشر سنين، وبعث جيشا إلى برقة وطرابلس المغرب ففتحها، وولّى عليها يانسا الصقليّ. ثم ثقل مكان برجوان على الحاكم فقتله سنة تسع وثمانين، وكان خصيّا أبيض، وكان له وزير نصراني استوزره الحاكم من بعده. ثم قتل الحسين بن عمّار، ثم الحسين بن جوهر القائد. ثم جهّز العساكر مع يارخنكين إلى حلب،
__________
[1] وفي نسخة ثانية خمسمائة فارس وهو الأصح لأنه من غير المعقول ان يغيّر خمسة عشر فارسا سير المعركة.

(4/72)


وقصد حسّان بن فرج الطائي، لما بلغ من عيثه وفساده، فلما رحل من غزوة إلى عسقلان لقيه حسّان وأبوه مفرج فانهزم وقتل، ونهبت النواحي وكثرت جموع بني الجرّاح وملكوا الرملة، واستقدموا الشريف أبا الفتوح الحسن بن جعفر أمير مكة فبايعوه بالخلافة. ثم استمالهما الحاكم ورغّبهما فردّاه إلى مكة وراجعا طاعة الحاكم، وراجع هو كذلك، وخطب له بمكة. ثم جهّز الحاكم العساكر إلى الشام مع عليّ ابن جعفر بن فلاح، وقصد الرملة، فانهزم حسّان بن مفرج وقومه، وغلبهم على تلك البلاد واستولى على أموالهم وذخائرهم، وأخذ ما كان لهم من الحصون بجبل السراة، ووصل إلى دمشق في شوّال سنة تسعين، فملكها واستولى عليها، وأقام مفرج وابنه حسّان شريدين بالقفر نحوا من سنتين. ثم هلك مفرّج وبعث حسّان ابنه إلى الحاكم فأمّنه وأقطعه ثم وفد عليه بمصر فأكرمه ووصله.
(خروج أبي ركوة ببرقة والظفر به)
كان أبو ركوة هذا يزعم أنه الوليد بن هشام بن عبد الملك بن عبد الرحمن الداخل، وأنه هرب من المنصور بن أبي عامر حين تتّبعهم بالقتل وهو ابن عشرين سنة، وقصد القيروان فأقام بها يعلّم الصبيان. ثم قصد مصر وكتب الحديث، ثم سار إلى مكة واليمن والشام وكان يدعو للقائم من ولد أبيه هشام، واسمه الوليد وإنما لقبه أبا ركوة لأنه كان يحملها لوضوئه على عادة الصوفيّة. ثم عاد إلى نواحي مصر ونزل على بني قرّة من بادية هلال بن عامر، وأقام يعلّم الصبيان ويؤمهم في صلاتهم. ثم أظهر ما في نفسه ودعا للقائم. وكان الحاكم قد أسرف في القتل في أصناف الناس وطبقاتهم، والناس معه على خطر، وكان قتل جماعة من بني قرّة وأحرقهم بالنار لفسادهم، فبادر بنو قرّة وكانوا في أعمال برقة فأجابوه وانقادوا له وبايعوا. وكان بينهم وبين لواتة ومزاتة وزناتة جيرانهم في الأصل حروب ودماء فوضعوها. واتّفقوا على بيعته. وكتب عامل برقة أنيال الطويل بخبرهم إلى الحاكم فأمره بالكفّ عنهم. ثم اجتمعوا وساروا إلى برقة فهزموا العامل برمادة، وملكوا برقة وغنموا الأموال والسلاح وقتلوه. وأظهر أبو ركوة العدل، وبلغ الخبر إلى الحاكم فاطمأنت نفسه، وكفّ عن

(4/73)


الأذى والقتل، وجهّز خمسة آلاف فارس مع القائد أبي الفتوح الفضل بن صالح فبلغ ذات الحمّام، وبينها وبين برقة مفازة صعبة معطشة، وأمر أبو ركوة من غور المياه التي فيها على قلبها. ثم سار للقائهم بعد خروجهم من المفازة على جهد العطش فقاتلهم، ونال منهم وثبت أبو ركوة واستأمن إليه جماعة من كتامة لما نالهم من أذى الحاكم وقتله فأمّنهم، ولحقوا به، وانهزمت عساكر الحاكم وقتل خلق كثير منهم.
ورجع أبو ركوة إلى برقة ظافرا وردّد البعوث والسرايا إلى الصعيد وأرض مصر. وأهمّ الحاكم أمره وندم على ما فرّط. وجهّز عليّ بن فلاح العساكر لحربهم، وكاتب الناس أبا ركوة يستدعونه، وممن كتب إليه الحسن بن جوهر قائد القوّاد، وبعثهم في ستة عشر ألف مقاتل سوى العرب، وبعث أخاه في سرية فواقع بني قرّة وهزمهم، وقتل من شيوخهم عبد العزيز بن مصعب ورافع بن طراد ومحمد بن أبي بكر، واستمال الفضل بني قرّة فأجابه ماضي بن مقرب من أمرائهم، وكان يطالعه بأخبارهم. وبعث عليّ بن فلاح عسكرا إلى الفيّوم فكبسه بنو قرّة وهزموه، ونزل أبو ركوة بالهرمين، ورجع من يومه ثم رحل الفضل إلى الفيّوم لقتالهم فواقعهم برأس البركة وهزمهم، واستأمن بنو كلاب وغيرهم، ورجع عليّ بن فلاح، وتقدّم الفضل لطلب أبي ركوة وخذل ماضي بن مقرب بني قرّة عن أبي ركوة فقالوا له أنج بنفسك إلى بلد النوبة، ووصل إلى تخومهم وقال: أنا رسول الحاكم فقالوا لا بدّ من استئذان الملك، فوكّلوا به وطالعوا الملك بحقيقة الحال. وكان صغيرا قد ولي بعد سرقة أبيه، وبعث إليه الفضل بشأنه وطلبه فكتب إلى شجرة بن منيا قائد الخيل بالثغر بأن يسلّمه إلى نائب الحاكم، فجاء به رسول الفضل وأنزله الفضل في خيمة وحمله إلى مصر فطيف به على جمل لابسا طرطورا [1] وخلفه قرد يصفعه. ثم حمل إلى ظاهر القاهرة ليقتل، فمات قبل وصوله، وقطع رأسه وصلب. وبالغ الحاكم في إكرام الفضل ورفع مرتبته، ثم قتله بعد ذلك، وكان ظفر الحاكم بأبي ركوة سنة سبع وتسعين.
__________
[1] قلنسوة طويلة يلبسها عادة المهرّجون.

(4/74)


(بقية أخبار الحاكم)
كان الحسن بن عمّار زعيم كتامة مدبّر دولته كما ذكرناه، وكان برجوان خادمه وكافله، وكان بين الموالي والكتاميين في الدولة منافسة. وكان كثيرا ما يفضي إلى القتال، واقتتلوا سنة سبع وثمانين، وأركب المغاربة ابن عمّار والموالي برجوان، وكانت بينهم حروب شديدة. ثم تحاجزوا واعتزل ابن عمّار الأمور وتخلّى بداره عن رسومه وجراياته، وتقدّم برجوان بتدبير الدولة. وكان كاتب بن فهر بن إبراهيم يربع [1] وينظر في الظلامات ويطالعه. وولّى على برقة يأنس صاحب الشرطة مكان صندل. ثم قتل برجوان سنة تسع وثمانين ورجع التدبير إلى القائد أبي عبد الله الحسين بن جوهر، وبقي ابن فهر على حاله. وفي سنة تسعين انقطعت طرابلس عن منصور بن بلكين بن زيري صاحب إفريقية، وولّى عليها يأنس العزيزي من موالي العزيز، فوصل إليها وأمكنه عامل المنصور منها، وهو عصولة بن بكّار. وجاء إلى الحاكم بأهله وولده وماله وأطلق يد يأنس على مخلّفه بطرابلس، يقال كان له من الولد نيف وستون بين ذكر وأنثى، ومن السراري خمس وثلاثون فتلقّى بالمبرّة وهيّئ له القصور ورتّب له الجراية وقلّده دمشق وأعمالها، فهلك بها لسنة من ولايته. وفي سنة اثنتين وتسعين وصل الصريخ من جهة فلفول بن خزرون المغراوي في ارتجاع طرابلس إلى منصور بن بلكين، فجهّزت العساكر مع يحيى بن علي الأندلسي الّذي كان جعفر أخوه عامل الزاب للعبيديين، ونزع إلى بني أمية وراء البحر. ولم يزل هو وأخوه في تصريفهم إلى أن قتل المنصور بن أبي عامر جعفرا منهما، ونزع أخوه يحيى إلى العزيز بمصر فنزل عليه وتصرّف في خدمته وبعثه الآن الحاكم في العساكر لما قدّمناه، فاعترضه بنو قرّة ببرقة ففضّوا جموعه، ورجع إلى مصر وسار يأنس من برقة إلى طرابلس، فكان من شأنه مع عصولة ما ذكرناه. وبعد وفاة عصولة ولي على دمشق مفلح الخادم، وبعده عليّ بن فلاح سنة ثمان وتسعين. وبعد مسير يأنس ولي على برقة صندل الأسود. وفي سنة ثمان وتسعين عزل الحسين بن جوهر القائد وقام
__________
[1] ربّع الحبل اي فتّله من اربع طاقات ولا معنى لها في سياق الجملة ولعلها تعني الجلوس على الركبتين وهي كلمة عامية.

(4/75)


بتدبير الدولة صالح بن علي بن صالح الروباذيّ. ثم نكب حسين القائد بعد ذلك وقتل، ثم قتل صالح بعد ذلك وقام بتدبير الدولة الكافي بن نصر بن عبدون، وبعده زرعة بن عيسى بن نسطورس، ثم أبو عبد الله الحسن بن طاهر الوزّان. وكثر عيث الحاكم في أهل دولته وقتله إيّاهم مثل الجرجرائي [1] وقطعه أيديهم، حتى أنّ كثيرا منهم كانوا يهربون من سطوته، وآخرون يطلبون الأمان فيكتب لهم به السجلّات.
وكان حاله مضطربا في الجور والعدل والإخافة والأمن والنسك والبدعة. وأمّا ما يرمي به من الكفر وصدور السجلات بإسقاط الصلوات فغير صحيح، ولا يقوله ذو عقل، ولو صدر من الحاكم بعض ذلك لقتل لوقته. وأمّا مذهبه في الرافضة فمعروف. ولقد كان مضطربا فيه مع ذلك، فكان يأذّن في صلاة التراويح ثم ينهي عنها، وكان يرى بعلم النجوم ويؤثره، وينقل عنه أنه منع النساء من التصرّف في الأسواق، ومنع من أكل الملوخيّا. ورفع إليه أنّ جماعة من الروافض تعرّضوا لأهل السنّة في التراويح بالرجم، وفي الجنائز، فكتب في ذلك سجلا قرئ على المنبر بمصر كان فيه: أمّا بعد فإنّ أمير المؤمنين يتلوا عليكم آية من كتاب الله المبين، لا إِكْراهَ في الدِّينِ 2: 256 (الآية) . مضى أمس بما فيه، وأتى اليوم بما يقتضيه. معاشر المسلمين نحن الأئمة، وأنتم الأمّة. لا يحلّ قتل من شهد الشهادتين [2] ولا يحلّ عروة بين اثنين تجمعها هذه الأخوّة، عصم الله بها من عصم، وحرّم لها ما حرّم، من كل محرّم من دم ومال ومنكح، الصلاح والأصلح بين الناس أصلح، والفساد والإفساد من العبّاد يستقبح. يطوى ما كان فيما مضى فلا ينشر، ويعرض عما انقضى فلا يذكر. ولا يقبل على ما مرّ وأدبر من إجراء الأمور على ما كانت عليه في الأيام الخالية أيام آبائنا الأئمة المهتدين سلام الله عليهم أجمعين، مهديهم باللَّه وقائمهم بأمر الله، ومنصور هم باللَّه ومعزّهم لدين الله، وهو إذ ذاك بالمهديّة والمنصوريّة، وأحوال القيروان تجري فيها ظاهرة غير خفيّة ليست بمستورة عنهم ولا مطويّة. يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون، ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون، صلاة الخمس للدين بها جاءهم فيها يصلون وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون. يخمّس في التكبير على الجنائز
__________
[1] وهو أحد وزراء الحاكم.
[2] بياض بالأصل وبعد مراجعة النص تبين ان الكلام تام.

(4/76)


المخمّسون، ولا يمنع من التكبير عليها المربّعون. يؤذّن بحيّ على خير العمل المؤذّنون، ولا يؤذى من بها لا يؤذّنون. لا يسبّ أحد من السلف ولا يحتسب على الواصف فيهم بما يوصف، والخالف فيهم بما خلف. لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاده وإلى الله ربّه ميعاده، عنده كتابه وعليه حسابه. ليكن عباد الله على مثل هذا عملكم منذ اليوم، لا يستعلى مسلم على مسلم بما أعتقده، ولا يعترض معترض على صاحبه فيما أعتمده من جميع ما نصّه أمير المؤمنين في سجلّه هذا، وبعده قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتب في رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة.
(وفاة الحاكم وولاية الظاهر)
ثم توفي الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز نزار قتيلا ببركة الحبش بمصر، وكان يركب الحمار ويطوف بالليل ويخلو بدار في جبل المقطم للعبادة، ويقال لاستنزال روحانية الكواكب. فصعد ليلة من ليالي [1] لثلاث بقين من شوّال سنة إحدى عشرة ركب على عادته ومشى معه راكبان فردّهما واحدا بعد آخر في تصاريف أموره. ثم افتقد ولم يرجع، وأقاموا أياما في انتظاره. ثم خرج مظفّر الصقليّ [2] والقاضي وبعض الخواصّ إلى الجبل فوجدوا حماره مقطوع اليدين، واتبعوا أثره إلى بركة الحبش فوجدوا ثيابه مزرّرة وفيها عدّة ضربات بالسكاكين فأيقنوا بقتله. ويقال إنّ أخته بلغه أنّ الرجال يتناوبون بها فتوعّدها فأرسلت الى ابن دواس من قوّاد كتامة، وكان يخاف الحاكم فأغرته بقتله، وهوّنته عليه لما يرميه به الناس من سوء العقيدة، فقد يهلك الناس ونهلك معه. ووعدته بالمنزلة والاقطاع، فبعث إليه
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لا بن الأثير ج 9 ص 314: «وكان سبب فقده انه خرج يطوف ليلة على رسمه، وأصح عند قبر الفقّاعيّ، وتوجّه إلى شرقي حلوان ومعه ركابيان، فأعاد أحدهما مع جماعة من العرب الى بيت المال، وأمر لهم بجائزة، ثم عاد الركابيّ الآخر، وذكر انه خلّفه عند العين والمقصبة.
[2] مظفر الصقلبيّ: المرجع السابق.

(4/77)


رجلين فقتلاه في خلوته. ولما أيقنوا بقتله اجتمعوا إلى أخته ست الملك فأحضرت عليّ بن دواس، وأجلس عليّ بن الحاكم صبيا لم يناهز الحلم وبايع له الناس، ولقّب الظاهر لإعزاز دين الله، ونفذت الكتب إلى البلاد بأخذ البيعة له. ثم حضر ابن دواس من الغد وحضر معه القوّاد فأمرت ست الملك خادمها فعلاه بالسيف أمامهم حتى قتله وهو ينادي بثأر الحاكم فلم يختلف فيه اثنان، وقامت بتدبير الدولة أربع سنين ثم ماتت. وقام بتدبير الدولة الخادم معضاد وتافر بن الوزّان، وولي وزارته أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي [1] وكان متغلبا على دولته، وانتقض الشام خلال ذلك، وتغلّب صالح بن مرداس من بني كلاب على حلب، وعاث بنو الجرّاح في نواحيه، فبعث الظاهر سنة عشرين قائده الزريري [2] والي فلسطين في العساكر، وأوقع بصالح بن الجرّاح، وقتل صالح وابنه وملك دمشق. وملك حلب من يد شبل الدولة نصر بن صالح وقتله، وكان بينه وبين بني الجرّاح قبل ذلك وهو بفلسطين حروب، حتى هرب من الرملة إلى قيسارية فاعتصم بها وأخرب ابن الجرّاح الرملة وأحرقها. وبعث السرايا فانتهت إلى العريش وخشي أهل بلبيس وأهل القرافة على أنفسهم، فانتقلوا إلى مصر، وزحف صالح بن مرداس في جموع العرب لحصار دمشق وعليها يومئذ ذو القرنين ناصر الدولة بن الحسين. وبعث حسّان بن الجرّاح إليهم بالمدد، ثم صالحوا صالح بن مرداس وانتقل إلى حصار حلب وملكها من يد شعبان الكتامي، وجرّدت العساكر من الشام مع الوزيري [2] وكان ما تقدّم وملك دمشق وأقام بها.
(وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصر)
ثم توفي الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن عليّ بن الحاكم منتصف شعبان سنة سبع وعشرين لست عشرة سنة من خلافته، فولي ابنه أبو تميم معدّ ولقّب المستنصر بأمر الله، وقام بأمره وزير أبيه أبو القاسم عليّ بن أحمد الجرجرائي، وكان بدمشق
__________
[1] الجرجرائي: ابن الأثير ج 9 ص 447.
[2] اسمه انوشتكين الوزيري وهو نائب المستنصر باللَّه صاحب مصر بالشام المرجع السابق. ص 500.

(4/78)


الوزيري واسمه أقوش تكين [1] وكانت البلاد صلحت على يديه لعدله ورفقه وضبطه، وكان الوزير الجرجرائي يحسده ويبغضه، وكتب إليه بإبعاد كاتبه أبي سعيد، فأنفذ إليه أنه يحمل الوزيري على الانتقاض، فلم يجب الوزيري إلى ذلك واستوحش، وجاء جماعة من الجند إلى مصر في بعض حاجاتهم فداخلهم الجرجرائي في التوثّب به، ودسّ معهم بذلك إلى بقية الجند بدمشق فتعلّلوا عليه [2] فخرج إلى بعلبكّ سنة ثلاث وثلاثين فمنعه عاملها من الدخول، فسار إلى حماة فمنع أيضا فقوتل، وهو خلال ذلك ينهب فاستدعى بعض أوليائه من كفرطاب فوصل إليه في ألفي رجل، وسار إلى حلب فدخلها وتوفي بها في جمادى الآخرة من السنة، وفسد بعده أمر الشام وطمع العرب في نواحيه، وولّى الجرجرائي على دمشق الحسين بن حمدان فكان قصارى أمره منع الشام، وملك حسّان بن مفرّج فلسطين وزحف معزّ الدولة بن صالح الكلابي إلى حلب فملك المدينة، وامتنع عليه أصحاب القلعة وبعثوا إلى مصر للنجدة فلم ينجدهم، فسلّموا القلعة لمعزّ الدولة بن صالح فملكها.
(مسير العرب إلى إفريقية)
كان المعز بن باديس قد انتقض دعوة العبيديين بإفريقية وخطب للقائم العباسيّ، وقطع الخطبة للمستنصر العلويّ سنة أربعين وأربعمائة، فكتب إليه المستنصر يتهدّده.
ثم إنه استوزر الحسين بن عليّ التازوري [3] بعد الجرجرائي ولم يكن في رتبته فخاطبه المعز دون ما كان يخاطب من قبله، كان يقول في كتابه إليهم عبده، ويقول في كتاب التازوري صنيعته فحقد ذلك، وأغرى به المستنصر، وأصلح بين زغبة ورياح من بطون هلال وبعثهم إلى إفريقية وملّكهم كل ما يفتحونه، وبعث إلى المعز: أما بعد فقد أرسلنا إليك خيولا وحملنا عليها رجالا فحولا ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
__________
[1] ورد اسمه انوشتكين الوزيري وقد مر معنا سابقا. ج 9 ص 500.
[2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 501: فأظهروا الشغب عليه وقصدوا قصره وهو بظاهر البلد وتبعهم من العامة من يريد النهب، فاقتتلوا فعلم الوزيري ضعفه وعجزه عنهم، ففارق مكانه، واستصحب أربعين غلاما له وما امكنه من الدواب والأثاث والأموال، ونهب الباقي وسار الى دمشق.
[3] البازوري: ابن الأثير ج 9 ص 566.

(4/79)


فساروا إلى برقة فوجدوها خالية لأنّ المعز كان أباد أهلها من زناتة، فاستوطن العرب برقة، واحتقر المعزّ شأنهم واشترى العبيد واستكثر منهم حتى اجتمع له منهم ثلاثون ألفا. وزحف بنو زغبة إلى طرابلس فملكوها سنة ست وأربعين، وجازت رياح الأثبج وبنو عدي إلى إفريقية، فاضرموها نارا. ثم سار أمراؤهم إلى المعزّ وكبيرهم مؤنس بن يحيى من بني مرداس من زياد فأكرمهم المعزّ وأجزل لهم عطاياه فلم يغن شيئا، وخرجوا إلى ما كانوا عليه من الفساد، ونزل بإفريقية بلاء لم ينزل بها مثله، فخرج إليهم المعزّ في جموعه من صنهاجة والسودان نحوا من ثلاثين ألفا، والعرب في ثلاثة آلاف فهزموه وأثخنوا في صنهاجة بالقتل واستباحوهم، ودخل المعزّ القيروان مهزوما.
ثم بيتهم يوم النحر وهم في الصلاة فهزموه أعظم من الأولى. ثم سار إليهم بعد أن احتشد زناتة معه فانهزم ثالثة وقتل من عسكره نحو من ثلاثة آلاف، ونزل العرب بمصلّى القيروان ووالوا عليهم الهزائم، وقتلت منهم أمم. ثم أباح لهم المعزّ دخول القيروان للميرة فاستطالت عليهم العامّة فقتلوا منهم خلقا وأدار المعزّ السور على القيروان سنة ست وأربعين. ثم ملك مؤنس بن يحيى مدينة باجة سنة ست وأربعين وأمر المعز أهل القيروان بالانتقال إلى المهديّة للتحصّن بها، وولّى عليها ابنه تيما [1] سنة خمس وأربعين. ثم انتقل إليها سنة تسع وأربعين، وانطلقت أيدي العرب على القيروان بالنهب والتخريب، وعلى سائر الحصون والقرى كما يذكر في أخبارهم. ثم كانت الخطبة للمستنصر ببغداد على يد البساسيري من مماليك بني بويه عند انقراض دولتهم واستيلاء السلجوقيّة كما نذكره في أخبارهم.
(مقتل ناصر الدولة بن حمدان بمصر)
كانت أمّ المستنصر متغلّبة على دولته وكانت تصطنع الوزراء وتولّيهم، وكانوا يتخذون الموالي من الأتراك للتغلّب على الدولة. فمن استوحشت منه أغرت به المستنصر فقتله.
فاستوزرت أولا أبا الفتح الفلاحي، ثم استوحشت منه فقبض عليه المستنصر وقتله، ووزر بعده أبا البركات حسن بن محمد وعزله. ثم ولّى الوزارة أبا محمد التازوري من
__________
[1] ابنه يدعى تميم كما في الكامل ج 9 ص 569 ولعل الناسخ حذف الميم الثانية.

(4/80)


قرية بالرملة تسمى تازور، فقام بالدولة إلى أن قتل، ووزر بعده أبو عبد الله الحسين ابن البابلي، وكان في الدولة من موالي السودان ناصر الدولة بن حمدان، واستمالوا معهم كتامة والمصامدة، وخرج العبيد إلى الضياع واجتمعوا في خمسين ألف مقاتل، وكان الأتراك ستة آلاف، وشكوا إلى المستنصر فلم يشكهم، فخرجوا إلى غرمائهم والتقوا بكوم الريش، وأكمن الأتراك للعبيد ولقوهم فانهزموا، وخرج كمينهم على العبيد وضربوا البوقات والكاسات فارتاب العبيد وظنّوه المستنصر فانهزموا، وقتل منهم وغرق نحو أربعين ألفا. وفدى الأتراك وتغلّبوا، وعظم الافتراء فيهم فخلت الخزائن، واضطربت الأمور وتجمّع باقي العسكر من الشام وغيره إلى الصعيد، واجتمعوا مع العبيد وكانوا خمسة عشر ألفا وساروا إلى الجيزة فلقيهم الأتراك وعليهم ناصر الدولة بن حمدان فهزموهم إلى الصعيد، وعاد ناصر الدولة والأتراك ظافرين. واجتمع العبيد في الصعيد وحضر الأتراك بدار المستنصر فأمرت أمه العبيد بالدار أن يفتكوا بمقدّمي الأتراك ففعلوا وهربوا إلى ظاهر البلد ومعهم ناصر الدولة، وقاتل أولياء المستنصر فهزمهم، وملك الاسكندرية ودمياط وقطع الخطبة منهما ومن سائر الريف للمستنصر. وراسل الخليفة العبّاسيّ ببغداد وافترق الناس من القاهرة.
ثم صالح المستنصر ودخل القاهرة واستبدّ عليه وصادر أمه على خمسين ألف دينار، وافترق عنه أولاده وكثير من أهله في البلاد. ودسّ المستنصر لقوّاد الأتراك بأنه يحوّل الدعوة فامتعضوا لذلك وقصدوه في بيته، وهو آمن منهم، فلما خرج إليهم تناولوه بسيوفهم حتى قتلوه وجاءوا برأسه، ومرّوا على أخيه في بيته فقطعوا رأسه، وأتوا بهما جميعا إلى المستنصر وذلك سنة خمس وستين، وولّى عليهم الذكر منهم وقام بأمر الدولة.
(استيلاء بدر الجمالي على الدولة)
أصل بدر هذا من الأرمن من صنائع الدولة بمصر ومواليها، وكان حاجبا لصاحب دمشق، واستكفاه فيما وراء بابه. ثم مات صاحب دمشق فقام بالأمور إلى أن وصل الأمير على دمشق، وهو ابن منير فسار هو إلى مصر وترقّى في الولايات إلى أن ولي عكّا وظهر منه كفاية واضطلاع. ولما وقع بالمستنصر ما وقع من استيلاء الترك عليه ابن خلدون م 6 ج 4

(4/81)


والفساد والتضييق، استقدم بدر الجمالي لولاية الأمور بالحضرة، فاستأذن في الاستكثار من الجند لقهر من تغلّب من جند مصر فأذن له في ذلك، وركب البحر من عكا في عشرة مراكب، ومعه جند كثيف من الأرمن وغيرهم، فوصل الى مصر، وحضر عند الخليفة فولّاه ما وراء بابه، وخلع عليه بالعقد المنظوم بالجوهر مكان الطوق، ولقّبه بالسيد الأجلّ أمير الجيوش، مثل والي دمشق. وأضيف إلى ذلك كافل قضاة المسلمين، وداعي دعاة المؤمنين، ورتّب الوزارة وزاده سيفه [1] وردّ الأمور كلّها إليه، ومنه إلى الخليفة. وعاهده الخليفة على ذلك، وجعل إليه ولاية الدعاة والقضاء، وكان مبالغا في مذهب الإمامية، فقام بالأمور واستردّ ما كان تغلّب عليه أهل النواحي مثل ابن عمّار بطرابلس وابن معرف بعسقلان وبني عقيل بصور. ثم استرد من القوّاد والأمراء بمصر جميع ما أخذوه أيام الفتنة من المستنصر من الأموال والأمتعة. وسار إلى دمياط وقد تغلّب عليها جماعة من المفسدين من العرب وغيرهم، فأثخن في لواتة بالقتل والنهب في الرجال والنساء وسبى نساءهم وغنم خيولهم. ثم سار إلى جهينة وقد ثاروا ومعهم قوم من بني جعفر فلقيهم على طرخ العليا سنة تسع وستين فهزمهم وأثخن فيهم وغنم أموالهم. ثم سار إلى أسوان وقد تغلّب عليها كنز الدولة محمد فقتله وملكها، وأحسن إلى الرعايا ونظّم حالهم وأسقط عنهم الخراج ثلاث سنين، وعادت الدولة إلى أحسن ما كانت عليه.
(وصول الغز الى الشام واستيلاؤهم عليه وحصارهم مصر)
كان السلجوقية وعساكرهم من الغزّ قد استولوا في هذا العصر على خراسان والعراقين وبغداد، وملكهم طغرلبك، وانتشرت عساكرهم في سائر الأقطار، وزحف اتسز
__________
[1] اي زاده على الوزارة حمل السيف.

(4/82)


بن أفق [1] من أمراء السلطان ملك شاه وسموه [2] الشاميون أفسفس والصحيح هذا، وهو اسم تركي هكذا قال ابن الأثير، فزحف سنة ثلاث وثلاثين بل وستين ففتح الرملة، ثم بيت المقدس وحصر دمشق وعاث في نواحيها وبها المعلّى بن حيدرة، ولم يزل يوالي عليها البعوث إلى سنة ثمان وستين، وكثر عسف المعلّى بأهلها مع ما هم فيه من شدّة الحصار فثاروا به، وهرب إلى بلسيس، ثم لحق بمصر فحبس إلى أن مات. ولما هرب من دمشق اجتمعت المصامدة وولوا عليهم انتصار بن يحيى منهم ولقّبوه وزير الدولة، ثم اضطربوا مما هم فيه من الغلاء، وجاء أمير من القدس فحاصرهم حتى نزلوا على أمانه. وأنزل وزير الدولة بقلعة بانياس ودخل دمشق في ذي القعدة، وخطب فيها للمقتدي العبّاسيّ. ثم سار إلى مصر سنة تسع وستين فحاصرها، وجمع بدر الجمالي العساكر من العرب وغيرهم، وقاتله فهزمه وقتل أكثر أصحابه، ورجع أتسز منهزما إلى الشام فأتى دمشق، وقد صانوا مخلّفه فشكرهم ورفع عنهم خراج سنة تسع وستين، وجاء إلى بيت المقدس فوجدهم قد عاثوا في مخلّفه وحصروا أهله وأصحابه في مسجد داود عليه السلام، فحاصرهم ودخل البلد عنوة، وقتل أكثر أهله حتى قتل كثيرا في المسجد الأقصى. ثم جهّز أمير الجيوش بدر الجمالي العساكر من مصر مع قائده نصير الدولة، فحاصر دمشق وضيّق عليها، وكان ملك السلجوقيّة السلطان ملك شاه قد أقطع أخاه تتش سنة سبعين وأربعمائة بلاد الشام، وما يفتحه منها فزحف إلى حلب وحاصرها وضيّق عليها، ومعه جموع كثيرة من التركمان فبعث إليه أتسز من دمشق يستصرخه، فسار إليه، وأجفلت عساكر مصر عن دمشق، وخرج أتسز من دمشق للقائه فقتله وملك البلد، وذلك سنة إحدى وسبعين. وملك ملك شاه بعد ذلك حلب واستولى السلجوقية على الشام أجمع، وزحف أمير الجيوش بدر الجمالي من مصر في العساكر، إلى دمشق وبها تاج الدولة تتش فحاصره وضيّق عليه، وامتنع عليه ورجع، وزحفت عساكر مصر سنة اثنتين وثمانين إلى الشام فاسترجعوا مدينة صور من يد أولاد القاضي عين الدولة بن أبي عقيل، كان أبوهم قد انتزى عليها، ثم فتحوا مدينة صيدا ثم مدينة جميل [3]
__________
[1] وفي نسخة اخرى: اتسز بن أنسز.
[2] الأصح سمّاه الشاميون.
[3] هي مدينة جبيل على الساحل اللبناني.

(4/83)


وضبط أمير الجيوش البلاد وولّى عليها العمّال. وفي سنة أربع وثمانين استولى الفرنج على جزيرة صقلّيّة، وكان أمير الجيوش قد ولّى على مدينة صور منير الدولة الجيوشي من طائفته، فانتقض سنة ست وثمانين، وبعث إليه أمير الجيوش العساكر فثار به أهل المدينة، واقتحمت عليهم العساكر وبعث منير الدولة إلى مصر في جماعة من أصحابه فقتلوا كلهم. ثم توفي أمير الجيوش بدر الجمالي سنة سبع وثمانين في ربيع الأوّل لثمانين سنة من عمره. وكان له موليان أمين الدولة لاويز ونصير الدولة أفتكين فحذّرهم [1] بأنه يروم الاستبداد ورغّبه في ولد مولاه بدر، فلما قضى بدر نحبه استدعى المستنصر لاويز ليقلّده فأنكر ذلك أفتكين وركب في الجند وشغبوا على المستنصر، واقتحموا القصر وأسمعوه خشن الكلام فرجع إلى ولاية ولد بدر، وقدّم للوزارة ابنه محمد الملك أبا القاسم شاه، ولقّبه بالأفضل مثل لقب أبيه. وكان أبو القاسم بن المقري رديفا لبدر في وزارته بما كان اختصّه لذلك، فولّى بعد موته الوزارة المقري وكانت عندهم عبارة عن التوقيع بالقلم الغليظ. وقام الأفضل أبو القاسم بالدولة وجرى على سنن أبيه في الاستبداد، وكانت وفاة المستنصر قريبا من ولايته.
(وفاة المستنصر وولاية ابنه المستعلي)
ثم توفي المستنصر معدّ بن الظاهر [2] يوم التروية سنة سبع وثمانين لستين سنة من خلافته ويقال لخمس وستين بعد أن لقي أهوالا وشدائد، وانفتقت عليه فتوق استهلك فيها أمواله وذخائره حتى لم يكن له إلّا بساطه الّذي يجلس عليه، وصار إلى حد العزل والخلع، حتى تدارك أمره باستقدام بدر الجمالي من عكا فتقوّم أمره، ومكّنه في خلافته. ولمّا مات خلف من الولد أحمد ونزارا وأبا القاسم، وكان المستنصر فيما يقال قد عهد لنزار، وكانت بينه وبين أبي القاسم الأفضل عداوة، فخشي بادرته وداخل عمّته في ولاية أبي القاسم، على أن تكون لها كفالة الدولة، فشهدت بأنّ المستنصر عهد له بمحضر القاضي والداعي فبويع ابن ست، ولقّب المستعلي باللَّه،
__________
[1] هكذا بياض بالأصل ومقتضى السياق ان المستنصر حذّر أمين الدولة لاويز ونصير الدولة (ناصر الدولة:
أفتكين بان بدر الجمالي يروم الاستبداد.. ابن الأثير ج 10 ص 238)
[2] هو المستنصر باللَّه ابو تميم معدّ بن أبي الحسن عليّ الظاهر لإعزاز دين الله العلويّ.

(4/84)


وأكره أخوه الأكبر على بيعته، ففرّ إلى الإسكندريّة بعد ثلاث، وبها نصير الدولة أفتكين مولى بدر الجمالي الّذي سعى للأفضل، فانتقض وبايع لنزار بعهده ولقّب المصطفى لدين الله. وسار الأفضل بالعساكر وحاصرهم بالإسكندرية واستنزلهم على الأمان، وأعطاهم اليمين على ذلك، وأركب نزارا السفن إلى القاهرة وقتل بالقصر.
وجاء الأفضل ومعه أفتكين أسيرا فأحضره يوما ووبّخه، فهمّ بالردّ عليه فقتل بالضرب بالعصي، وقال: لا يتناول اليمين هذه للقتلة، ويقال إنّ الحسين بن الصبّاح رئيس الإسماعيلية بالعراق قصد المستنصر في زيّ تاجر، وسأله إقامة الدعوة له ببلاد العجم فأذن له في ذلك، وقال له الحسين من إمامي بعدك؟ فقال: ابني نزار! فسار ابن الصبّاح ودعا الناس ببلاد العجم إليه سرّا. ثم أظهر أمره وملك القلاع لك مثل قلعة الموت وغيرها كما نذكره في أخبار الإسماعيلية، وهم من أجل هذا الخبر يقولون بإمامة نزار. ولما ولي المستعلي خرج ثغر عن طاعته وولي عليه واليه كشيلة وبعث المستعلي العساكر فحاصره، ثم اقتحموا عليه وحملوه إلى مصر فقتل بها سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. وكان تتش صاحب الشام قد مات واختلف بعده ابناه رضوان ودقاق، وكان دقاق بدمشق ورضوان بحلب فخطب رضوان في أعماله للمستعلي باللَّه أياما قلائل ثم عاود الخطبة للعباسيين.
(استيلاء الفرنج على بيت المقدس)
كان بيت المقدس قد أقطعه تاج الدولة تتش للأمير سليمان بن أرتق التركمانيّ، وقارن ذلك استفحال الفرنج واستطالتهم على الشام، وخروجهم سنة تسعين وأربعمائة، ومرّوا بالقسطنطينية وعبروا خليجها، وخلّى صاحب القسطنطينية سبيلهم ليحولوا بينه وبين صاحب الشام من السلجوقيّة والغزّ فنازلوا أوّلا أنطاكية فأخذوها من يد باغيسيان، من قوّاد السلجوقيّة، وخرج منها هاربا فقتله بعض الأرمن في طريقه، وجاء برأسه إلى الفرنج بأنطاكيّة. وعظم الخطب على عساكر الشام وسار كربوقا صاحب الموصل فنزل مرج دابق واجتمع إليه دقاق بن تتش، وسليمان بن أرتق، وطفتكين أتابك صاحب حمص وصاحب سنجار، وجمعوا من كان لك

(4/85)


من الترك والعرب، وبادروا إلى أنطاكية لثلاثة عشر يوما من حلول الفرنج بها. وقد اجتمع ملوك الفرنج ومقدمهم بنميد، وخرج الفرنج وتصادموا مع المسلمين فانهزم المسلمون، وقتل الفرنج منهم ألوفا، واستولوا على معسكرهم، وساروا إلى معرّة النعمان وحاصروها أياما، وهربت حاميتها، وقتلوا منها نحوا من مائة ألف، وصالحهم ابن منقذ على بلده شيزر، وحاصروا حمص فصالحهم عليها جناح الدولة، ثم حاصروا عكّة فامتنعت عليهم، وأدرك عساكر الغزّ من الوهن ما لا يعبّر عنه فطمع أهل مصر فيهم، وسار الأفضل بن بدر بالعساكر لاسترجاع بيت المقدس فحاصرها، وبها سقمان وأبو الغازي ابنا أرتق وابن أخيهما ياقوتي وابن عمّهما سونج، ونصبوا عليها نيّفا وأربعين منجنيقا، وأقاموا عليها نيّفا وأربعين يوما، ثم ملكوها بالأمان في سنة تسعين. وأحسن الأفضل إلى سقمان وأبي الغازي ومن معهما، وخلّى سبيلهم، فسار سقمان إلى بلد الرّها وأبو الغازي إلى بلد العراق، وولّى الأفضل على بيت المقدس ورجع إلى مصر. ثم سارت الفرنج إلى بيت المقدس وحاصروه نيّفا وأربعين يوما، ونصبوا عليه برجين ثم اقتحموها من الجانب الشماليّ لسبع بقين من شعبان، واستباحوها أسبوعا، ولجأ المسلمون إلى محراب داود عليه السلام واعتصموا به إلى أن استنزلهم الفرنج بالأمان، وخرجوا إلى عسقلان وقتل بالمسجد عند الشجرة سبعون ألفا، وأخذوا من المسجد نيّفا وأربعين قنديلا من الفضّة يزن كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة، وتنّورا من الفضّة يزن أربعين رطلا بالشامي، ومائة وخمسين قنديلا من الصفر وغير ذلك مما لا يحصى. وأجفل أهل بيت المقدس وغيرهم من أهل الشام إلى بغداد باكين على ما أصاب الإسلام ببيت المقدس من القتل والسبي والنهب. وبعث الخليفة أعيان العلماء إلى السلطان بركيارق وإخوته محمد وسنجر بالمسير إلى الجهاد فلم يتمكنوا من ذلك، للخلاف الّذي كان بينهم. ورجع الوفد مؤيسين [1] من نصرهم. وجمع الأفضل أمير الجيوش بمصر العساكر وسار إلى الفرنج، فساروا إليهم وكبسوهم على غير أهبة فهزموهم، وافترق عسكر مصر وقد لاذوا بخمّ الشعراء هناك فاضرموها عليهم نارا فاحترقوا وقتل من ظهر، ورجع الفرنج إلى عسقلان فحاصروها حتى أنزلوا لهم عشرين ألف دينار فارتحلوا.
__________
[1] الأصح ان يقول آيسين من نصرهم.

(4/86)


(وفاة المستعلي وولاية ابنه الآمر)
ثم توفي المستعلي أبو القاسم أحمد بن المستنصر منتصف صفر سنة خمس وتسعين لسبع سنين من خلافته، فبويع ابنه أبو عليّ ابن خمس سنين ولقّب الآمر بأحكام الله، ولم يل الخلافة فيهم أصغر منه ومن المستنصر، فكان هذا لا يقدر على ركوب الفرس وحده.
(هزيمة الفرنج لعساكر مصر)
ثم بعث الأفضل أمير الجيوش بمصر العساكر لقتال الفرنج مع سعد الدولة الفراسي أميرا مملوك أبيه، فلقي الفرنج بين الرملة ويافا ومقدمهم بغدوين [1] فقاتلهم، وانهزم وقتل واستولى الفرنج على معسكره فبعث الأفضل ابنه شرف المعالي في العساكر فبارزوهم قرب الرملة وهزمهم، واختفى بغدوين في الشجر ونجا إلى الرملة مع جماعة من زعماء الفرنج، فحاصرهم شرف المعالي خمسة عشر يوما حتى أخذهم فقتل منهم أربعمائة صبرا، وبعث ثلاثمائة إلى مصر ونجى بغدوين إلى يافا ووصل في البحر جموع من الفرنج للزيارة فندبهم بغدوين للغزو، وساربهم إلى عسقلان فهرب شرف المعالي وعاد إلى أبيه. وملك الفرنج عسقلان وبعث العساكر في البر مع تاج العجم مولى أبيه إلى عسقلان، وبعث الأسطول في البحر إلى يافا مع القاضي ابن قادوس فبلغ إلى يافا واستدعى تاج العجم وحبسه. وبعث جمال الملك من مواليه إلى عسقلان مقدّم العساكر الشاميّة. ثم بعث الأفضل سنة ثمان وتسعين ابنه سنا الملك حسين وأمر جمال الملك بالسير معه لقتال الفرنج، فساروا في خمسة آلاف واستمدّوا طفتكين أتابك دمشق، فأمدّهم بألف وثلاثمائة، ولقوا الفرنج بين عسقلان ويافا فتفانوا بالقتل وتحاجزوا، وافترق المسلمون إلى عسقلان ودمشق، وكان مع الفرنج بكتاش بن
__________
[1] هو بدوان الأول وهو قائد الحملة الصليبية الرابعة.

(4/87)


تتش عدل عنه طفتكين بالملك إلى ابن أخيه دقاق بن تتش، فلحق بالإفرنج مغاضبا.
(استيلاء الفرنج على طرابلس وبيروت)
كانت طرابلس رجعت إلى صاحب مصر وكان يحاصرها من الفرنج ابن المرداني صاحب صيحيل، والمدد يأتيهم من مصر. فلما كانت سنة ثلاث وخمسين وصل أسطول من الفرنج مع ويمتدين إلى صيحيل من قمامصتهم فنزل على طرابلس، وتشاجر مع المرداني فبادر بغذوين صاحب القدس وأصلح بينهم، ونزلوا جميعا على طرابلس وألصقوا أبراجهم بسورها، وتأخّرت الميرة عنهم من مصر في البحر لركود البحر فاقتحمها الفرنج عنوة ثاني الأضحى من سنة ثلاث وخمسين، وقتلوا ونهبوا وأسروا وغنموا. وكان واليها قد استأمن قبل فتحها في جماعة من الجند فلحقوا بدمشق، ووصل الأسطول بالمدد وكفاية سنة من الأقوات بعد فتحها ففرقوه في صور وصيدا وبيروت، واستولى الفرنج على معظم سواحل الشام. وإنما خصّصنا هذه بالذكر في الدولة العلويّة لأنها كانت من أعمالهم. وسنذكر البقية في أخبار الفرنج إن شاء الله تعالى.
(استرجاع أهل مصر بعسقلان)
كان الآمر قد استولى على عسقلان من قوّاد شمس الخلافة، فداخل بغدوين صاحب بيت المقدس من الفرنج وهاداه ليمتنع به على أهل مصر، وجهّز أمير الجيوش عسكرا من مصر للقبض عليه إذا حضر وشعر بذلك، وانتقض وأخرج من عنده من أهل مصر، وخاف الأفضل أن يسلّم عسقلان إلى الفرنج فأقرّه على عمله، وارتاب شمس الخلافة بأهل عسقلان واتخذ بطانة من الأرمن فاستوحش أهل البلد فثاروا به وقتلوه، وبعثوا إلى الآمر والأفضل بذلك، فأرسل إليهم الوالي من مصر وأحسن إليهم واستقامت أحوالهم. وحاصر بغدوين بعد ذلك مدينة صور وفيها عساكر الأرمن واشتدّ في حصارها بكل نوع، وكان بها عزّ الملك الأعز من أولياء

(4/88)


الأمر فاستمد طفتكين أتابك دمشق فأمدّه بنفسه وطال الحصار، وحضر أوان الغلال فخشي الفرنج أن يفسد طفتكين غلال بلدهم فأفرجوا عنها إلى عكا وكفى الله شرّهم. ثم زحف بغدوين ملك الفرنج من القدس إلى مصر وبلغ سنتين وسبح في النيل فانتقض عليه جرح كان به، وعاد إلى القدس ومات، وعهد بملك القدس للقمص صاحب الرّها، ولولا ما نزل بملوك السلجوقيّة من الفتنة لكانوا قد استرجعوا من الفرنج جميع ما ملكوه من الشام، ولكنّ الله خبّأ ذلك لصلاح الدين بن أيوب حتى فاز بذكره.
(مقتل الأفضل)
قد قدّمنا أنّ الآمر ولّاه الأفضل صغيرا ابن خمس، فلما استجمع واشتدّ تنكّر للأفضل وثقلت وطأته عليه فانتقل الأفضل إلى مصر وبنى بها دارا ونزلها، وخطب منه الأفضل ابنته فزوّجها على كره منه وشاور الآمر أصحابه في قتله، فقال له ابن عمه عبد المجيد وكان وليّ عهده: لا تفعل وحذّره سوء الأحدوثة لما اشتهر بين الناس من نصحه ونصح أبيه وحسن ولايتهما للدولة، ولا بدّ من إقامة غيره والاعتماد عليه فيتعرّض للحذر من مثلها إلى الامتناع منه. ثم أشار عليه من مداخلة ثقته أبي عبد الله ابن البطائحي في مثل ذلك فإنه يحسن تدبيره ويضع عليه من يغتاله، ويقتل به فيسلم عرضك. وكان ابن البطائحي فرّاشا بالقصر، واستخلصه الأفضل ورقّاه واستحجبه، فاستدعاه الآمر وداخله في ذلك، ووعده بمكانه فوضع عليه رجلان فقتلاه بمصر وهو سائر في موكبه من القاهرة منقلبا من خزانة السلاح في سنة خمس عشرة وخمسمائة، كان يفرّق السلاح على العادة في الأعياد وثار الغبار في طريقه فانفرد عن الموكب فبدره الرجلان وطعناه فسقط، وقتلا، وحمل إلى داره وبه رمق فجاءه الآمر متوجّعا وسأله عن ماله فقال أمّا الظاهر فأبو الحسن بن أبي أسامة يعرفه، وكان أبوه قاضيا بالقاهرة وأصله من حلب. وأمّا الباطن فإنّ البطائحي يعرفه. ثم قضى الأفضل نحبه لثمان وعشرين سنة من وزارته، واحتاط الآمر على داره فوجد له ستة آلاف كيس من الذهب العين، وخمسين أردبا من الورق، ومن الديباج الملوّن والمتاع البغدادي والإسكندريّ وظرف الهند وأنواع الطيوب والعنبر

(4/89)


والمسك ما لا يحصى. حتى لقد كان من ذخائره دكة عاج وأبنوس محلّاة بالفضة عليها عرم [1] مثمن من العنبر زنته ألف رطل، وعلى العرم مثل طائر من الذهب برجلين مرجانا ومنقار زمرذا [2] وعينان ياقوتتان كان ينصبها في بيته ويضوع عرفها فيعم القصر وصارت إلى صلاح الدين.
(ولاية ابن البطائحي)
قال ابن الأثير كان أبوه من جواسيس الأفضل بالعراق، ومات لم يخلّف شيئا. ثم ماتت أمه وتركته معلّقا، فتعلّم البناء أوّلا ثم صار يحمل الأمتعة بالأسواق، ويدخل بها على الأفضل فخفّ عليه واستخدمه مع الفرّاشين، وتقدّم عنده واستحجبه، ولما قتل الأفضل ولّاه الآمر مكانه وكان يعرف بابن فاتت وابن القائد فدعاه الآمر جلال الإسلام، ثم خلع عليه بعد سنتين من ولايته للوزارة ولقّبه المأمون، فجرى على سنن الأفضل في الاستبداد ونكر ذلك الآمر وتنكّر له، واستوحش المأمون وكان له أخ يلقّب المؤتمن فاستأذن الآمر في بعثه إلى الإسكندريّة لحمايتها ليكون له ردءا لك فأذن له، وسار معه القوّاد وفيهم عليّ بن السلار وتاج الملوك قائمين، وسنا الملك الجمل ودريّ الحروب وأمثالهم، وأقام المأمون على استيحاش من الآمر وكثرت السعاية فيه وأنه يدّعي أنه ولد نزار من جارية خرجت من القصر حاملا به، وأنه بعث ابن نجيب الدولة إلى اليمن يدعو له، فبعث الآمر إلى اليمن في استكشاف ذلك.
(مقتل البطائحي)
ولما كثرت السعاية فيه عند الآمر وتوغّر صدره عليه، كتب إلى القوّاد الذين كانوا مع أخيه بثغر الإسكندرية بالوصول إلى دار الخلافة [3] فهمّ لذلك علي بن
__________
[1] مكان عرم: مكان مرتفع.
[2] وهو الزمرد وهنا وردت الكلمة بالعامية.
[3] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 10 ص 629 «وأما سبب قتله- المأمون البطائحي- فإنه كان قد أرسل الأمير جعفرا أخا الآمر ليقتل الآمر ويجعله خليفة، وتقررت القاعدة بينهما على ذلك،-

(4/90)


سلار فحضروا، واستأذن المؤتمن بعدهم في الوصول فأذن له. وحضر رمضان من سنة تسع عشرة فجاءوا إلى القصر للإفطار على العادة، ودخل المأمون والمؤتمن فقبض عليهما وحبسهما داخل القصر، وجلس الآمر من الغد في إيوانه وقرأ عليه وعلى الناس كتابا بتعديد ذنوبهم، وترك الآمر رتبة الوزارة خلوا، وأقام رجلين من أصحاب الدواوين يستخرجان الأموال من الخراج والزكاة والمكس، ثم عزلهما لظلمهما. ثم حضر الرسول الّذي بعثه إلى اليمن ليكشف خبر المأمون، وحضر ابن نجيب وداعيته فقتل وقتل المأمون وأخوه المؤتمن.
(مقتل الآمر وخلافة الحافظ)
كان الآمر مؤثرا للذّاته طموحا إلى المعالي وقاعدا عنها، وكان يحدّث نفسه بالنهوض إلى العراق في كلّ وقت، ثم يقصر عنه وكان يقرض الشعر قليلا ومن قوله:
أصبحت لا أرجو ولا ألقى ... إلّا إلهي وله الفضل
جدّي نبي وإمامي أبي ... ومذهبي التوحيد والعدل
وكانت الفداويّة تحاول قتله فيتحرّز منهم، واتفق أنّ عشرة منهم اجتمعوا في بيت، وركب بعض الأيام إلى الروضة، ومرّ على الجسر بين الجزيرة ومصر فسبقوه فوقفوا في طريقه، فلما توسط الجسر انفرد عن الموكب لضيقه، فوثبوا عليه وطعنوه وقتلوا لحينهم، ومات هو قبل الوصول إلى منزله سنة أربع وعشرين وخمسمائة، لتسع وعشرين سنة ونصف من خلافته. وكان قد استخلص مملوكين وهما برغش العادل وبرعوارد هزير الملوك، وكان يؤثّر العادل منهما، فلما مات الآمر تحيّلوا في قيام المأمون عبد الحميد [1] بالأمر وكان أقرب القرابة سنا وأبوه أبو القاسم بن المستضيء معه،
__________
[ () ] فسمع بذلك أبو الحسن بن أبي أسامة وكان خصيصا بالآمر، قريبا منه، وقد ناله من الوزير أذى وأطراح، فحضر عند الآمر وأعمله الحال فقبض عليه وصلبه» .
[1] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 10 ص 664 يذكر ابن الأثير في احداث سنة 524: «وفي هذه السنة (524) ثاني ذي القعدة قتل الآمر بأحكام الله ابو علي بن المستعلي العلويّ صاحب مصر، خرج الى منتزه له، فلما عاد وثب عليه الباطنية فقتلوه لأنه كان سيّئ السيرة في رعيته، وكانت ولايته تسعا

(4/91)


وقالوا إنّ الآمر أوصى بأنّ فلانة حامل فدلّته الرؤيا بأنها تلد ذكرا فهو الخليفة بعدي، وكفالته لعبد الحميد فأقاموه كافلا ولقّبوه الحافظ لدين الله، وذكروا من الوصية أن يكون هزير الملوك وزيرا والسعيد باس من موالي الأفضل صاحب الباب، وقرءوا السجل بذلك في دار الخلافة.
(ولاية أبي عليّ بن الأفضل الوزارة ومقتله)
ولما تقرّر الأمر على وزارة هزير الملوك، وخلع عليه أنكر ذلك الجند وتولّى كبر ذلك رضوان بن ونحش كبيرهم. وكان أبو عليّ بن الأفضل حاضرا بالقصر فحثّه برغش العادل على الخروج حسدا لصاحبه، وأوجد له السبيل إلى ذلك فخرج، وتعلّق به الجند وقالوا: هذا الوزير ابن الوزير، وتنصّل فلم يقبلوا، وضربوا له خيمة بين القصرين وأحدقوا به، وأغلقت أبواب القصر فتسوّروه وولجوا من طيقانه. واضطر الحافظ إلى عزل هزير الملوك، ثم قتله وولى أبو عليّ أحمد بن الأفضل الوزارة، وجلس بدست أبيه وردّ الناس أموال الوزارة المقضية. واستبدّ على الحافظ ومنعه من التصرّف، ونقل الأموال من الذخائر والقصر إلى داره، وكان إماميّا متشدّدا فأشار عليه الإمامية بإقامة الدعوة للقائم المنتظر. وضرب الدراهم باسمه دون الدنانير ونقش عليها: الله الصَّمَدُ 112: 2 الإمام محمد، وهو الإمام المنتظر. وأسقط ذكر إسماعيل من الدعاء على المنابر، وذكر الحافظ وأسقط من الآذان حيّ على خير العمل. ونعت نفسه بنعوت أمر الخطباء بذكرها على المنابر. وأراد قتل الحافظ بمن قتله الآمر من إخوته. فإنّ الآمر أجحفهم عند نكبة الأفضل وقتلهم، فلم يقدر أبو عليّ على قتله فخلعه واعتقله. وركب بنفسه في المواسم وخطب للقائم مموّها فتنكّر له أولياء الشيعة
__________
[ () ] وعشرين سنة وخمسة أشهر، وعمره أربعا وثلاثين سنة، وهو العاشر من ولد المهدي عبيد الله الّذي ظهر بسجلماسة وبنى المهدية بإفريقية. وهو أيضا العاشر من الخلفاء العلويين من أولاد المهدي أيضا. ولما قتل لم يكن له ولد بعده، فولي ابن عمه الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر باللَّه، وانما بويع له لينظر في الأمر نيابة حتى يكشف عن حمل ان كان للآمر فتكون الخلافة فيه ويكون هو نائبا عنه. ومولد الحافظ بعسقلان لأن أباه خرج من مصر اليها في الشدة فأقام بها فولد ابنه عبد المجيد هناك» .

(4/92)


ومماليك الخلفاء. وداخل يأنس الجند من كتامة وغيرهم في شأنه، واتفقوا على قتله. وترصّد له قوم من الجند فاعترضوه خارج البلد، وهو في موكبه وهم يتلاعبون على الخيل. ثم اعتمدوه فطعنوه وقتلوه، وأخرجوا الحافظ من معتقله وجدّدوا له البيعة بالخلافة، ونهب دار أبي عليّ. وركب الحافظ وحمل ما بقي فيها إلى القصر واستوزر أبا الفتح يانسا الحافظي، ولقّبه أمير الجيوش، وكان عظيم الهيبة بعيد الغور، واستبدّ عليه فاستوحش كل منهما بصاحبه. ويقال إنّ الحاكم وضع له سمّا في المستراح هلك به وذلك آخر ذي الحجة سنة ست وعشرين.
(قيام حسن بن الحافظ بأمر الدولة ومكره بأبيه ومهلكه)
ولما هلك يأنس أراد الحافظ أن يخلى دست الوزارة ليستريح من التعب الّذي عرض منهم للدولة، وأجمع أن يفوّض الأمور إلى ولده، وفوّض إلى ابنه سليمان. ومات لشهرين، فأقام ابنه الآخر حسنا فحدّثته نفسه بالخلافة، وعزم على اعتقال أبيه، وداخل الأجناد في ذلك فأطاعوه، وأطلع أبوه على أمره ففتك بهم يقال: إنه قتل منهم في ليلة أربعين، وبعث أبوه خادما من القصر لقتله فهزمه حسن وبقي الحافظ محجورا، وفسد أمره وبعث حسن بهرام الأرمني لحشد الأرمن ليستظهر بهم على الجند، وثاروا بحسن وطلبوه من أبيه، ووقفوا بين القصرين وجمعوا الحطب لإحراق القصر. واستبشع الحافظ قتله بالحديد فأمر طبيبه ابن فرقة عنه [1] في ذلك سنة تسع وعشرين.
(وزارة بهرام ورضوان بعده)
ولما مات حسن بن الحافظ ورحل بهرام لحشد الأرمن اجتمع الجند وكان بهرام
__________
[1] هكذا بالأصل والمعنى مبتور وغير واضح وفي «الكامل لابن الأثير ج 11 ص 23 «فاحضر طبيبين كانا له، أحدهما مسلم والآخر يهودي، فقال لليهودي: نريد سمّا نسقيه لهذا الولد ليموت، ونخلص من هذه الحادثة! فقال: انا لا اعرف غير النقوع وماء الشعير وما شاكل هذا من الأدوية، فقال: أنا أريد ما أخلص به من هذه المصيبة، فقال له: لا أعرف شيئا. فأحضر المسلم وأمره بذلك فصنع له شيئا فسقاه الولد فمات لوقته» .

(4/93)


كبيرهم وراودوا الحافظ على وزارته فوافقهم وخلع عليه وفوّض إليه الأمور السلطانيّة، واستثنى عليه الشرعيّة، وتبعه تاج الدولة أفتكين في الدولة، واستعمل الأرمن وأهانوا المسلمين. وكان رضوان بن ولحيس صاحب الباب، وهو الشجاع الكاتب من أولياء الدولة، وكان ينكر على بهرام ويهزأ به، فولّاه بهرام الغربيّة، ثم جمع رضوان وأتى إلى القاهرة ففرّ بهرام وقصد قوص في ألفين من الأرمن، ووجد أخاه قتيلا فلم يعرض لأهل قوص، وباء بحق الخلافة، وصعد إلى أسوان فامتنعت عليه بكنز الدولة. ثم بعث رضوان العساكر في طلبه مع أخيه الأكبر وهو إبراهيم الأوحد فاستنزله على الأمان له وللأرمن الذين معه. وجاء به فأنزله الحافظ في القصر إلى أن مات على دينه. واستقرّ رضوان في الوزارة ولقّب بالأفضل وكان سنيّا، وكان أخوه إبراهيم إماميّا، فأراد الاستبداد وأخذ في تقديم معارفه سيفا وقلما. وأسقط المكوس وعاقب من تصدّى لها، فتغيّر له الخليفة فأراد خلعه، وشاور في ذلك داعي الدعاة وفقهاء الإمامية فلم يعينوه في ذلك بشيء. وفطن له الحافظ فدسّ خمسين فارسا ينادون في الطرقات بالثورة عليه، وينهضون باسم الحافظ فركب لوقته هاربا منتصف شوّال سنة ثلاث وثلاثين، ونهبت داره، وركب الحافظ وسكن الناس، ونقل ما فيها إلى قصره. وسار رضوان يريد الشام ليستنجد الترك، وكان في جملته شاور وهو من مصطفيه، وأرسل الحافظ الأمير بن مضيال [1] ليردّه على الأمان فرجع، وحبس في القصر، وقيل وصل إلى سرخد فأكرمه صاحبها أمين الدولة كمستكين، وأقام عنده ثم رجع إلى مصر سنة أربع وثلاثين فقاتلهم عند باب القصر وهزمهم. ثم افترق عنه أصحابه وأرادوا العود إلى الشام فبعث عنه الحافظ بن مضيال وحبسه بالقصر إلى سنة ثلاث وأربعين فنقب الحبس وهرب إلى الجيزة، وجمع المغاربة وغيرهم ورجع إلى القاهرة فقاتلهم عند جامع ابن طيلون [2] وهزمهم. ثم دخل القاهرة ونزل عند جامع الأقمر، وأرسل إلى الحافظ في المال ليفرّقه فبعث عشرين ألفا على عادتهم مع الوزير، ثم استزاد عشرين وعشرين.
وفي خلال ذلك وضع الحافظ عليه جمعا كثيرا من السودان فحملوا عليه وقتلوه وجاءوا
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الأمير بن مصّال، وكذلك عند ابن الأثير.
[2] هو جامع ابن طولون.

(4/94)


برأسه إلى الحافظ. واستمرّ الحافظ في دولته مباشرا لأموره وأخلى رتبة الوزارة فلم يولّ أحدا بعده.
(وفاة الحافظ وولاية ابنه الظافر)
ثم توفي الحافظ لدين الله عبد الحميد بن الأمير أبي القاسم أحمد بن المستنصر سنة أربع وأربعين لتسع عشرة سنة ونصف من خلافته، وعن أبي العالية يقال بلغ عمره سبعا وسبعين سنة، ولم يزل في خلافته محجور الوزارة، ولما مات ولي بعده ابنه أبو منصور إسماعيل بعهده إليه بذلك ولقّب الظافر بأمر الله.
(وزارة ابن مضيال ثم ابن السلار)
كان الحافظ لما عهد لابنه الظافر أوصاه بوزارة ابن مضيال فاستوزره أربعين يوما وكان علي بن السلار واليا على الإسكندريّة ومعه بلارة بنت عمّه القاسم وابنه منها عبّاس وتزوّجت بعده بابن السلار [1] ، وشبّ عبّاس وتقدّم عند الحافظ حتى ولي الغربية فلم يرض ابن السلار وزارة ابن مضيال واتفق مع عبّاس على عزله، وبلغ الخبر إلى
__________
[1] العبارة غير واضحة ومبتورة وفي الكامل ج 11 ص 142: واستوزر ابن مصّال فبقي أربعين يوما يدبّر الأمور، فقصده العادل بن السلار من ثغر الإسكندرية ونازعه في الوزارة، وكان ابن مصّال قد خرج من القاهرة في طلب بعض المفسدين من السودان، فخلفه العادل بالقاهرة وصار وزيرا.
وسيّر عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعزّ بن باديس الصّنهاجيّ في عسكر وهو ربيب العادل، إلى ابن مصّال، فظفر به وقتله، وعاد الى القاهرة واستقرّ العادل وتمكّن، ولم يكن للخليفة معه حكم. واما سبب وصول عباس الى مصر فإن جدّه يحيى أخرج أباه أبا الفتوح من المهدية، فلمّا توفي يحيى وولي بعده بلاد إفريقية ابنه عليّ بن يحيى بن تميم بن يحيى صاحب إفريقية، أخرج أخاه ابا الفتوح بن يحيى والد عبّاس من افريقية سنة تسع وخمسمائة، فسار إلى الديار المصريّة ومعه زوجته بلّارة ابنة القاسم بن تميم بن المعزّ بن باديس، وولده عبّاس هذا وهو صغير يرضع، ونزل ابو الفتوح بالإسكندرية فأكرم وأقام بها مدة يسيرة، وتوفي وتزوّجته بعده امرأته بلّارة بالعادل بن السلار. وشبّ العباس وتقدّم عند الحافظ حتى ولي الوزارة بعد العادل، فإن العادل قتل في المحرّم سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. قيل: وضع عليه عبّاس من قتله، فلما قتل ولي الوزارة بعده وتمكّن فيها، وكان جلدا حازما» . من المقارنة بين ما ورد عند ابن الأثير وما ورد في تاريخ ابن خلدون نرى انه سقطت بعض السطور ربما أثناء النسخ أو ان الناسخ نسيها سهوا.

(4/95)


ابن مضيال فشكا إلى الظافر فلم يشكه فقال ذوو الحروب: ليس هنا من يقاتل ابن السلار فغضب الظافر ودسّ عليه من بني عليّ مصلحيه فخرج إلى الصّعيد، وقدم ابن السلار إلى القاهرة فاستوزره الظافر، وهو منكر له ولقّبه العادل. وبعث العساكر مع العبّاس ربيبه في اتباع ابن مضيال فخرج في طلبه. وكان جماعة من لواتة السودان فتحصّنوا من عبّاس في جامع دولام فأحرقه عليهم، وقتل ابن مضيال وجاء برأسه.
وقام ابن سلار بالدولة وحفظ النواميس وشدّ من مذاهبه أهله. وكان الخليفة مستوحشا منه منكرا له وهو مبالغ في النصيحة والخدمة. واستخدم الرجّالة لحراسته، فارتاب له صبيان الخاص من حاشية الخليفة فاعتزموا على قتله، ونمي ذلك إليه فقبض على رءوسهم فحبسهم، وقتل جماعة منهم وافترقوا، ولم يقدر الظافر على إنكار ذلك. واحتفل ابن السلار بأمر عسقلان، ومنعها من الفرنج وبعث إليها بالمدد كل حين من الأقوات والأسلحة فلم يغن ذلك عنها، وملكها الفرنج وكان لذلك من الوهن على الدولة ما تحدّث به الناس.
ولما قتل العادل بن السلار صبيان الخاص تأكّد نكر الخليفة له، واشتدّ قلقه. وكان عبّاس بن أبي الفتوح صديقا ملاطفا له فكان يسكّنه ويهدّيه، وكان لعبّاس ولد اسمه نصير، استخصه الظافر واستدناه، ويقال كان يهواه، ففاوض العادل عبّاسا في شأن ابنه عن مخالطة ابنه للظافر فلم ينته ابنه، فنهى العادل جدّته أن يدخل إلى بيته فشقّ ذلك على نصير وعلى أبيه، وتنكّر للعادل. وزحف الفرنج إلى عسقلان فجهّز العادل الجيوش والعساكر إليها مددا مع ما كان يمدّها به، وبعثهم مع عبّاس بن أبي الفتوح فارتاب لذلك، وفاوض الظافر في قتل العادل وحضر معهم مؤيدا لدولة الأمير أسامة بن منقذ أحد أمراء شيزر، وكان مقرّبا عند الظافر وصديقا لعبّاس، فاستصوب ذلك وحثّ عليه، وخرج عبّاس بالعساكر إلى بلبيس، وأوصى ابنه نصير بقتله، فجاء في جماعة إلى بيت جدّته، والعادل نائم فدخل إليه وضربه فلم يجهز عليه، وخرج إلى أصحابه. ثم دخلوا جميعا فقتلوه وجاءوا برأسه إلى الظافر، ورجع عبّاس من بلبيس بالعساكر فاستوزره الظافر، وقام بالدولة وأحسن الى الناس، وأيس أهل عسقلان من المدد فأسلموا أنفسهم وبلدهم بعد حصار طويل وكان ذلك كله سنة ثمان وأربعين
.

(4/96)


(مقتل الظافر وأخويه وولاية ابنه الفائز)
ولما وزر عبّاس للظافر، وقام بالدولة، كان ولده نصير من ندمان الظافر، وكان يهواه كما تقدّم. وكان أسامة بن منقذ من خلصاء عبّاس وأصدقائه فقبّح عليه سوء المقالة في ابنه، وأشار عليه بقتل الظافر فاستدعى ابنه نصيرا وقبّح عليه في شناعة الأحدوثة فيه بين الناس، وأغراه باغتيال الظافر ليمحو عنه ما يتحدّث به الناس، فسأل نصير من الظافر أن يأتي إلى بيته في دعوة فركب من القصر إليه فقتله نصير ومن جاء معه، ودفنهم في داره، وذلك في محرّم سنة تسع وأربعين وباكر إلى القصر ولم ير الظافر، وسأل خدّام القصر فأحسن العذر ورجع إلى أخوي الظافر يوسف وجبريل فخبّرهما بركوب الظافر إلى دار نصير فقالا له: خبّر الوزير. فلما جاء عبّاس من الغد أخبره بأنه ركب إلى بيت نصير ابنه ولم يعد فاستشاط غيظا عليه، ورماه بأنه داخل أخويه في قتله. ثم استدعاهما فقتلهما وقتل معهما ابنا لك لحسن بن الحافظ. ثم أخرج ابنه أبا القاسم عيسى ابن خمس سنين وحمله على كتفه وأجلسه على سرير الملك وبايع له بالخلافة، ولقّبه الفائز باللَّه ونقل عبّاس بسبب ذلك ما في القصر من الأموال والذخائر ما لا حدّ له. وعند خروجه بأخويه رأى القتلى فاضطرب وفزع وبقي سائر أيامه يعتاده الصرع.
(وزارة الصالح بن رزيك)
ولما قتل الظافر وأخواه كما ذكرناه كتب النساء من القصر إلى طلائع بن رزّيك [1] وكان واليا على الأشمونين والبهنّسة. وجاء الخبر بأنّ الناس اختلفوا على عبّاس بسبب ذلك، فجمع وقصد القاهرة ولبس السواد حزنا ورفع على الرماح الشعور التي بعث بها النساء حزنا. ولمّا عبر البحر خرج عبّاس وولده ودفعوا ما قدروا عليه من مال وسلاح من حاصل الدولة، ومعهما صديقهما أسامة بن منقذ فاعترضهم الفرنج،
__________
[1] رزّيك بضم الراء وتشديد الزاي المكسورة وسكون المثناة التحتية بعدها كاف. قاله ابن خلكان. انتهى.
ابن خلدون م 7 ج 4

(4/97)


وقاتلوا فقتل عبّاس وأسر ولده ونجا أسامة إلى الشام. ودخل طلائع القاهرة في ربيع سنة تسع وخمسين، وجاء إلى القصر راجلا. ثم مضى إلى دار عبّاس ومعه الخادم الّذي حضر لقتله فاستخرجه من التراب ودفنه عند آبائه، وخلع الفائز عليه الوزارة ولقّبه الصالح. وكان إماميا كاتبا أديبا فقام بأمر الدولة، وشرع في جمع الأموال والنظر في الولايات. وكان الأوحد بن تميم من قرابة عبّاس واليا على تنيس، وكان لما سمع بفعلة قريبه عبّاس جمع وقصد القاهرة فسبقه طلائع، فلما استقل بالوزارة أعاده إلى عمله بدمياط وتنيس. ثم بعث في فداء نصير بن عبّاس من الفرنج فجيء به وقتله وصلبه بباب زويلة. ثم نظر في المزاحمين من أهل الدولة، ولم يكن أرفع رتبة من تاج الملوك قايماز وابن غالب، فوضع عليهما الجند فطلبوهما فهربا ونهب دورهما، وتتّبع كبراء الأمراء بمثل ذلك حتى خلا الجو، ووضع الرقباء والحجّاب على القصر، وثقلت وطأته على الحرم، ودبّرت عمّة الفائز في قتل الصالح، وفرّقت الأموال في ذلك، ونمي الخبر إليه فجاء إلى القصر، وأمر الاستاذين والصقالبة بقتلها فقتلوها سرا، وصار الفائز في كفالة عمّته الصغرى، وعظم اشتداد الفائز واستفحل أمره، وأعطى الولايات للأمراء واتّخذ مجلسا لأهل الأدب يسامرون فيه، وكان يقرض الشعر ولا يجيده. وولّى شاور السعدي على قرضه، وأشار عليه حجّابه بصرفه، واستقدمه فامتنع وقال: إن عزلني دخلت بلاد النوبة. وعلى عهده كان استيلاء نور الدين محمود الملك العادل على دمشق من يد بني طغتكين أتابك تتش سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
(وفاة الفائز وولاية العاضد)
ثم توفي الفائر بنصر الله أبو القاسم عيسى بن الظافر إسماعيل سنة خمس وخمسين، لست سنين من خلافته، فجاء الصالح بن رزّيك إلى القصر وطلب الخدّام بإحضار أبناء الخلفاء ليختار منهم، وعدل عن كبرائهم إلى صغرائهم لمكان استبداده، فوقع اختياره على أبي محمد عبد الله بن يوسف قتيل عبّاس فبايع له بالخلافة وهو غلام، ولقّبه العاضد لدين الله وزوّجه ابنته وجهّزها بما لم يسمع بمثله.

(4/98)


(مقتل الصالح بن رزيك وولاية ابنه رزيك)
ولما استفحل أمر الصالح وعظم استبداده بجباية الأموال والتصرّف، وحجر العاضد تنكر له الحرم ودس إلى الأمراء بقتله. وتولّت كبر ذلك عمّة العاضد الصغرى التي كانت كافلة الفائز بعد أختها. واجتمع قوم من القواد والسودان منهم الريفي الخادم وابن الداعي والأمير بن قوّام الدولة، وكان صاحب الباب وتواطئوا على قتله، ووقفوا في دهليز القصر، وأخرج ابن قوّام الدولة الناس أمامه وهو خارج من القصر، واستوقفه عنبر الريفي يحادثه، وتقدّم ابنه رزّيك فوثب عليه جماعة منهم وجرحوه، وضرب ابن الداعي الصالح فأثبته، وحمل إلى داره فبقي يجود بنفسه يومه ذلك.
وإذا أفاق يقول رحمك الله يا عبّاس ومات من الغد. وبعث إلى العاضد يعاتبه على ذلك فحلف على البراءة من ذلك، ونسبه إلى العمّة، وأحضر ابنه رزّيك وولّاه الوزارة مكان أبيه، ولقّبه العادل فأذن له في الأخذ بثأره، فقتل العمّة وابن قوّام الدولة والأستاذ عنبر الريفي وقام بحمل الدولة، وأشير عليه بصرف شاور من قوص، وقد كان أبوه أوصاه ببقائه وقال له: قد ندمت على ولايته، ولم يمكني عزله، فصرفه وولّى مكانه الأمير بن الرفعة فاضطرب شاور وخرج إلى طريق الواحات وجمع وقصد القاهرة، وجاء الخبر إلى رزّيك فعجز عن لقائه، وخرج في جماعة من غلمانه بعدة أحمال من المال والثياب والجوهر، وانتهى إلى طفيحة، واعترضه ابن النضر وقبض عليه، وجاء به إلى شاور فاعتقله واعتقل معه أخاه، فأراد الهرب من محبسه فوشى به أخوه فقتل لسنة من ولايته ولتسع سنين من ولاية أبيه.
(وزارة شاور ثم الضرغام من بعده)
ودخل شاور القاهرة سنة ثمان وخمسين، ونزل بدار سعيد السعداء ومعه ولده طين وشجاع والطازي، وولّاه العاضد الوزارة ولقّبه أمير الجيوش، وأمكنه من أموال بني رزّيك فاستصفى معظمها، وزاد أهل الرواتب والجرايات عشرة أمثالها، واحتجب

(4/99)


عن الناس، وكان الصالح بن رزّيك قد أنشأ في لواته أمراء يسمّون البرقية، وكان مقدّمهم الضرغام، وكان صاحب الباب فنازع شاور في الوزارة لتسعة أشهر من ولايته، وثار عليه وأخرجه من القاهرة، فلحق بالشام وقتل ولده عليّا وكثيرا من أمراء المصريّين حتى ضعفت الدولة وخلت من الأعيان وأدى ذلك الى خرابها.
(مسير شيركوه وعساكر نور الدين إلى مصر مع شاور)
ولما لحق شاور إلى الشام نزل على الملك العادل نور الدين بدمشق صريخا، وشرط له ثلث الجباية على أن يقيم له العساكر. وجهّز نور الدين شيركوه وكان مقدّما في دولته ويذكر سبب اتصاله به في موضعه، فساروا في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين، وقد تقدّم نور الدين إلى أسد الدين شير كوه بأن يعيد شاور إلى وزارته وينتقم له ممن نازعه وسار نور الدين بعساكره إلى طرف بلاد الفرنج ليمنعهم من اعتراض أسد الدين إن همّوا به، ولما وصل أسد الدين وشاور إلى بلبيس لقيهم ناصر الدين همّام وفخر الدين همّام أخو الضرغام في عساكر مصر فهزموه، ورجع إلى القاهرة وقتل رفقاؤه الأمراء البرقية الذين أغروه بشاور. ودخل أسد الدين القاهرة ومعه أخو الضرغام أسيرا وفرّ الضرغام فقتل بالجسر عند مشهد السيدة نفيسة، وقتل أخواه وعاد شاور إلى وزارته وتمكّن منها، ثم نكث عهده مع أسد الدين وسلطانه وصرفه إلى الشام.
(فتنة أسد الدين مع شاور وحصاره)
ولما رجع أسد الدين من مصر إلى الشام أقام بها في خدمة نور الدين. ثم استأذن نور الدين العادل سنة اثنتين وستين في العود إلى مصر فأذن له، وجهّزه في العساكر وسار إلى مصر ونازل بلاد الفرنج في طريقه. ثم وصل إلى أطفيح من ديار مصر، وعبر النيل الى الجانب الغربي ونزل الجيزة، وتصرّف في البلاد الغربية نيّفا وخمسين، واستمدّ شاور الفرنج، وجاء بهم إلى مصر وخرج معهم للقاء أسد الدين شير كوه فأدركوه بالصعيد، فرجع للقائهم على رهب لكثرة عددهم وصدقهم القتال فهزمهم

(4/100)


على قلّة من معه، فإنّهم لم يبلغوا ألفي فارس. ثم سار إلى الإسكندرية وهو يجبي الأموال في طريقه إلى أن وصلها، فاستأمن أهلها وملّكها، وولّى عليها صلاح الدين يوسف بن أخيه نجم الدين أيّوب، ورجع إلى جباية الصعيد. واجتمعت عساكر مصر والفرنج على القاهرة وأزاحوا عللهم وساروا إلى الإسكندرية وحاصروا بها صلاح الدين فسار أسد الدين إليهم من الصعيد، ثم خذله بعض من معه من التركمان بمداخلة شاور، وبعثوا له إثر ذلك في الصلح فصالحهم وردّ إليهم الإسكندريّة، ورجع إلى دمشق فدخلها آخر ذي القعدة من سنة اثنتين وستين. واستطال الفرنج على أهل مصر وشرطوا عليهم أن ينزلوا بالقاهرة وشحنة، وأن تكون أبوابها بأيديهم لئلّا تدخل عساكر نور الدين، وقرّر ضريبة يحملها كل سنة فأجابه إلى ذلك [1]
(رجوع أسد الدين إلى مصر ومقتل شاور ووزارته)
ثم طمع الإفرنج في مصر، واستطالوا على أهلها وملكوا بلبيس، واعتزموا على قصد القاهرة. وأمر شاور بتخريب مصر خشية عليها منهم فحرقت ونهب أهلها، ونزل الفرنج على القاهرة، وأرسل العاضد إلى نور الدين يستنجده، وخشي شاور من اتفاق العاضد ونور الدين، فداخل الفرنج في الصلح على ألفي ألف دينار مصريّة معجّلة وعشرة آلاف أردب [2] من الزرع، وحذّرهم أمر القهر إلى ذلك وكان فيه السفير الجليس بن عبد القوي وكان الشيخ الموفّق كاتب السر وكان العاضد قد أمرهم بالرجوع إلى رأيه [3] وقال: هو ربّ الحرمة علينا وعلى آبائنا، وأهل
__________
[1] العبارة غير واضحة ومشوشة وفي الكامل ج 11 ص 327: «وأما فإنهم استقر بينهم وبين المصريين ان يكون لهم بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين من إنفاذ عسكر عليهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار. هذا كله استقرّ مع شاور، فإن العاضد لم يكن له معه حكم لأنه قد حجر عليه وحجبه عن الأمور كلها، وعاد الفرنج الى بلادهم بالساحل الشامي، وتركوا بمصر جماعة من مشاهير فرسانهم، وكان الكامل شجاع بن شاور قد أرسل الى نور الدين مع بعض الأمراء ينهي محبّته وولاءه، ويسأله الدخول في طاعته، وضمن على نفسه أنه يفعل هذا ويجمع الكلمة بمصر على طاعته، وبذل مالا يحمله كلّ سنة، فأجابه إلى ذلك. وحمل إليه مالا جزيلا»
[2] اردب ج أرادب: مكيال ضخم في مصر يساوي 24 صاعا (قاموس) .
[3] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 11 ص 337: «وأمّا القاهرة فالأغلب على أهلها الجند

(4/101)


النصيحة لنا. فأمر الكامل شجاع بن شاور القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني أن يأتيه ويشاوره، فقال له: قل لمولانا يعني العاضد إنّ تقرير الجزية للفرنج خير من دخول الغزّ للبلاد واطلاعهم على الأحوال. ثم بعث نور الدين العساكر مع أسد الدين شيركوه مددا للعاضد، كما سأل وبعث معه صلاح الدين ابن أخيه وجماعة الأمراء. فلما سمع الفرنج بوصولهم أفرجوا عن القاهرة ورجعوا إلى بلادهم. وقال ابن الطويل مؤرخ دولة العبيديّين: إنه هزمهم على القاهرة ونهب معسكرهم ودخل أسد الدين إلى القاهرة في جمادى سنة أربع وستين وخلع عليه العاضد ورجع إلى معسكره، وفرضت له الجرايات. وبقي شاور على ريبة وخوف وهو يماطله فيما يعين له من الأموال، ودسّ العاضد إلى أسد الدين بقتل شاور وقال: هذا غلامنا، ولا خير لك في بقائه ولا لنا، فبعث عليه صلاح الدين ابن أخيه، وعزّ الدين خرديك.
وجاء شاور إلى أسد الدين على عادته فوجده عند قبر الإمام الشافعيّ فسار إليه هنالك فاعترضه صلاح الدين وخرديك فقتلاه، وبعثا برأسه إلى العاضد، ونهبت العامة دوره، واعتقل ابناه شجاع والطازي وجماعة من أصحابه بالقصر، وخلع عليه للوزارة، ولقّب المنصور أمير الجيوش، وجلس في دست الوزارة واستقرّ في الأمر، وغلب على الدولة، وأقطع البلاد لعساكره. واستعدّ أصحابه في ولايتها وردّ أهل مصر إلى بلدهم، وأنكر ما فعلوه في تخريبها. ثم اجتمع بالعاضد مرّة أخرى وقال له جوهر الأستاذ: يقول لك مولانا لقد تيقنّا أنّ الله ادّخرك نصرة لنا على أعدائنا، فحلف له أسد الدين على النصيحة فقال له: الأمل فيك أعظم، وخلع عليه وحسن عنده موقع الجليس بن عبد القوي، وكان داعي الدعاة وقاضي القضاة فأبقاه على مراتبه.
__________
[ () ] وغلمانهم، فلهذا تعذّرت عليهم الأموال، وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر وان يكون أسد الدين مقيما عندهم في عسكر، وأقطاعهم من البلاد المصرية أيضا خارجا عن الثّلث الّذي لهم. وكان نور الدين لما وصله كتب العاضد بحلب أرسل الى أسد الدين يستدعيه إليه فخرج القاصد في طلبه فلقيه على باب حلب، وقد قدمها من حمص وكانت إقطاعه وكان سبب وصوله ان كتب المصريين وصلته أيضا في المعنى، فسار أيضا الى نور الدين واجتمع به، وحجب نور الدين من حضوره في الحال وسرّه ذلك وتفاءل به وأمر بالتجهز الى مصر» .

(4/102)


(وفاة أسد الدين وولاية صلاح الدين الوزارة)
ثم توفي أسد الدين رحمه الله تعالى لشهرين في أيام قلائل من وزارته وقيل لأحد عشر شهرا وأوصى أصحابه أن لا يفارقوا القاهرة. ولما توفي كان معه جماعة من الأمراء النورية، منهم عين الدولة الفاروقي وقطب الدين يسأل [1] وعين الدين المشطوب الهكاوي [2] ، وشهاب الدين محمود الحازميّ، فتنازعوا في طلب الرئاسة وفي الوزارة، وجمع كل أصحابه للمغالبة. ومال العاضد إلى صلاح الدين لصغره وضعفه عنهم، ووافقه أهل دولته على ذلك بعد أن ذهب كثير منهم إلى دفع الغزّ وعساكرهم إلى الشرقية، ويولّي عليهم قراقوش. ومال آخرون إلى وزارة صلاح الدين، ومال العاضد إلى ذلك لمكافأته عن خدمته السالفة، فاستدعاه وولّاه الوزارة، واضطرب أصحابه وكان الفقيه عيسى الهكاريّ من خلصاء صلاح الدين فاستمالهم إليه إلّا عين الدولة الفاروقي، فإنه سار إلى الشام وقام صلاح الدين بوزارة مصر نائبا عن نور الدين يكاتبه بالأمير الأصفهان ويشركه في الكتاب مع كافة الأمراء بالديار المصرية. ثم استبد صلاح الدين بالأمور وضعف أمر العاضد وهدم دار المعرفة بمصر، وكانت حبسا. وبناها مدرسة للشافعيّة وبني دار الغزل كذلك للمالكيّة وعزل قضاة الشيعة وأقام قاضيا شافعيا في مصر، واستناب في جميع البلاد.
(حصار الفرنج دمياط)
ولما جاء أسد الدين وأصحابه إلى مصر وملكوها ودفعوهم عنها، ندموا على ما فرّطوا فيها، وانقطع عنهم ما كان يصل إليهم وخشوا غائلة الغز على بيت المقدس، وكاتبوا الفرنج بصقلية والأندلس واستنجدوهم، وجاءهم المدد من كل ناحية فنازلوا دمياط سنة خمس وستين وبها شمس الخواص منكوريين فأمدّها صلاح الدين بالعساكر
__________
[1] وفي نسخة اخرى: قطب الدين نسأل.
[2] سيف الدين المشطوب الهكّاريّ: ابن الأثير ج 11 ص 343.

(4/103)


والأموال مع بهاء الدين قراقوش وأمراء الغزّ، واستمدّ نور الدين واعتذر عن المسير إليها بشأن مصر والشيعة فبعث نور الدين العساكر إليها شيئا فشيئا، وسار بنفسه إلى بلاد الفرنج بسواحل الشام فضيّق عليها، فأقلع الفرنج عن دمياط لخمسين يوما من نزولها فوجدوا بلادهم خرابا، وأثنى العاضد على صلاح الدين في ذلك. ثم بعث صلاح الدين غرابيه [1] نجم الدين وأصحابه إلى مصر وركب العاضد للقائه تكرمة له.
(واقعة الخصيان وعمارة)
ولما استقام الأمر لصلاح الدين بمصر غصّ به الشيعة وأولياؤهم، واجتمع منهم العوريش، وقاضي القضاة ابن كامل والأمير المعروف والكاتب عبد الصمد، وكان فصيحا، وعمارة اليمني الشاعر الزبيدي، وكان متولي كبرها فاتفقوا على استدعاء الفرنج لإخراج الغزّ من مصر، وجعلوا لهم نصيبا وافرا من ارتفاعها، وعمدوا إلى شيعي من خصيان القصر اسمه نجاح ولقبه مؤتمن الدولة، وكان قد ربى العاضد وصهره فأغروه بذلك، ورغبوا على أن يجمع رسول الفرنج بالعاضد فجمعه معه في بيته ملبسا بذلك، ولم يكن العاضد الّذي حضر وأوهموه أنه عقد معه. ثم اتصل الخبر بنجم الدين بن مضيال من أولياء الشيعة، وكان نجم الدين قد اختصّه صلاح الدين وولّاه الإسكندرية، واستغضبه بهاء الدين قراقوش ببعض النزغات فظنوا أنه غضب فأطلعوه على شأنهم، وأن يكون وزيرا وعمارة كاتب الدست وصاحب ديوان الإنشاء والمكاتبات مكان الفاضل بن كامل قاضي القضاة داعي الدعاة، وعبد الصمد جابي الأموال والعوريش ناظرا عليه، فوافقهم ابن مضيال ووشى بهم إلى صلاح الدين، فقبض عليهم وعلى رسول الفرنج، وقرّرهم في عدّة مجالس. وأحضر زمام القصر وهو مختص بالغزّ ونكر عليه خروج العاضد إلى بيت نجاح فحلف على نفسه وعلى العاضد أنّ هذا لم يقع، وأخبر العاضد بطلب حضور نجاح مع مختص، فحضر واعترف بالحق أنّ العاضد لم يحضر، فتحقّق صلاح الدين براءته. وكان عمارة
__________
[1] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 11 ص 353: واما نجم الدين أيّوب فإنه وصل الى مصر سالما هو ومن معه، وخرج العاضد الخليفة فالتقاه إكراما له.

(4/104)


يجالس شمس الدولة توران شاه فنقل لأخيه صلاح الدين أنه امتدحه بقصيدة يغريه فيها بالمضيّ إلى اليمن، ويحمله على الاستبداد وأنه تعرّض فيها للجانب النبوي، يوجب استباحة دمه وهو قوله:
فاخلق لنفسك ملكا لا تضاف به ... إلى سواك وأور النار في العلم
هذا ابن تومرت قد كانت ولايته ... كما يقول الورى لحما على وضم
وكان أوّل هذا الدين من رجل ... سعى إلى أن دعوه سيّد الأمم
فجمعهم صلاح الدين وشنقهم في يوم واحد بين القصرين، وأخّر ابن كامل عنهم عشرين يوما ثم شنقه. ومرّ عمارة بباب القاضي الفاضل، فطلب لقاءه فمنع فقال وهو سائر إلى المشنقة:
عبد الرحيم قد احتجب ... إنّ الخلاص هو العجب
وفي كتاب ابن الأثير أنّ صلاح الدين إنما اطّلع على أمرهم من كتابهم الّذي كتبوه إلى الفرنجة، عثر على حامله وقرئ الكتاب، وجيء به إلى صلاح الدين فقتل مؤتمن الخلافة لقرينة، وعزل جميع الخدّام واستعمل على القصر بهاء الدين قراقوش، وكان خصيّا أبيض، وغضب السودان لقتل مؤتمن الخلافة واجتمعوا في خمسين ألفا وقاتلوا أجناد صلاح الدين بين القصرين، وخالفهم إلى بيوتهم فأضرمها نارا، وأحرق أموالهم وأولادهم فانهزموا، وركبهم السيف. ثم استأمنوا ونزلوا الجيزة وعبر إليهم شمس الدولة توران شاه فاستلحمهم.
(قطع الخطبة للعاضد وانقراض الدولة العلوية بمصر)
كان نور الدين العادل يوم استقل صلاح الدين بملك مصر وضعف أمر العاضد بها، وتحكم في قصره يخاطبه في قطع دعوتهم من مصر والخطبة بها للمستضيء العبّاسيّ، وهو يماطل بذلك حذرا من استيلاء نور الدين عليه، ويعتذر بتوقع المخالفة من أهل مصر في ذلك فلا يقبل. ثم ألزمه ذلك فاستأذن فيه أصحابه فأشاروا به، وأنه لا يمكن مخالفة نور الدين. ووفد عليه من علماء العجم الفقيه الخبشاني، وكان يدعى بالأمير العالم، فلما رأى إحجامهم عن هذه الخطبة قال: أنا أخطبها! فلما كان أوّل جمعة من المحرّم سنة سبع وستين وخمسمائة صعد المنبر قبل

(4/105)


الخطيب ودعا للمستنصر فلم ينكر أحد عليه، فأمر صلاح الدين في الجمعة الثانية الخطباء بمصر والقاهرة أن يقطعوا خطبة العاضد ويخطبوا للمستضيء ففعلوا، وكتب بذلك إلى سائر أعمال مصر. وكان العاضد في شدّة من المرض فلم يعلمه أحد بذلك، وتوفي في عاشوراء من السنة، وجلس صلاح الدين للعزاء فيه واحتوى على قصر الخلافة بما فيه فحمله بهاء الدين قراقوش إليه، وكان في خزائنهم من الذخيرة ما لم يسمع بمثله من أصناف الجواهر واليواقيت والزمرّد وحليّ الذهب وآنية الفضّة والذهب، ووجد ماعون القصر [1] من الموائد والطسوت والأباريق والقدور والصحاف والخوان والبواقيل والمناير والطيافر والقباقب والأسورة، كل ذلك من الذهب. ووجد من أنواع الطيوب واللباس والمذهبات والقرقبيات المعلّقات والوشي ما لا تقله الأوقار، ومن الكتب ما يناهز مائة وعشرين ألف سفر أعطاها للفاضل عبد الرحيم البيساني كاتبه وقاضيه، ومن الظهر والكراع والسلاح، ومن الخدم والوصائف خمسين ألفا، ومن المال ما يملأ مائة بيت. ثم حبس رجالهم ونساءهم حتى ماتوا، وكانت بالدولة عند عهد العزيز والحاكم قد خلا جوّها من رجالات كتامة وتفرّقوا في المشرق في سبيل ذلك الملك، وانقرضوا بانقراض أمر الشيعة وموت العاضد آخر خلفائهم، وأكلتهم الأقطار والوقائع شأن الدول كما ذكرناه من قبل. ولما هلك العاضد وحوّل صلاح الدين الدعوة إلى العبّاسيّة، اجتمع قوم من الشيعة بمصر
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 11 ص 369: «وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله، وأصحابه بقطع الخطبة وقالوا: ان عوفي فهو يعلم، وان توفي فلا ينبغي ان نفجعه بمثل هذه الحادثة قبل موته، فتوفي يوم عاشوراء، ولم يعلم بقطع الخطبة.
ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصر الخلافة وعلى جميع ما فيه، فحفظه بهاء الدين قراقوش الّذي كان قد رتبه قبل موت العاضد، فحمل الجميع الى صلاح الدين، وكان من كثرته يخرج عن الإحصاء، وفيه من الاعلاق النفيسة والأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا عن مثله، ومن الجواهر التي لم توجد عند غيرهم، فمنه الحبل الياقوت وزنه سبعة عشر درهما أو سبعة عشر مثقالا، انا لا أشك، فانني رأيته ووزنته. واللؤلؤ الّذي لم يوجد مثله، ومنه النصاب الزمرّد الّذي طوله اربع أصابع في عرض عقد كبير. ووجد فيه طبل كان بالقرب من موضع العاضد وقد احتاطوا بالحفظ، فلما رأوه ظنوه عمل لأجل اللعب فيه، فسخروا من العاضد فأخذه إنسان فضرب به فضرط، فتضاحكوا منه ثم آخر كذلك، وكان كل من ضرب به ضرط، فألقاه أحدهم فكسره فإذا الطبل لأجل قولنج فندموا على كسره لما قيل لهم ذلك. وكان فيه من الكتب النفيسة المعدومة المثل ما لا يعد، فباع جميع ما فيه. ونقل أهل العاضد الى موضع من القصر، ووكل بهم من يحفظهم، وأخرج جميع من فيه من أمة وعبد، فباع البعض وأعتق البعض ووهب البعض، وخلا القصر من سكانه» .

(4/106)


وبايعوا لداود بن العاضد، ونمي خبرهم إلى صلاح الدين فقبض عليهم وقتلهم، وأخرج داود من القصر وذلك سنة تسع وستين وخمسمائة. ثم خرج بعد حين ابنه سليمان بن داود رضي الله تعالى عنه بالصّعيد وحبس إلى أن هلك. وظهر بعد حين بجهة فاس بالمغرب محمد بن عبد الله بن العاضد، ودعا لك وتسمى بالمهديّ فقتل وصلب. ولم يبق للعبيديّين ذكر إلّا في بلاد الحثيثية من العراق وهم دعاة الفداوية.
وفي بلاد الإسماعيلية التي كانت فيها دعوتهم بالعراق. وقام بها ابن الصبّاح في قلعة الموت وغيرها كما يذكر في أخبارهم، إلى أن انقرضت تلك الدعوة أجمع بانقطاع دعوة العبّاسيّين ببغداد على يد هولاكو من ولد جنكزخان ملوك التتر سنة خمس وخمسين وستمائة، والأمر للَّه وحده. هذه أخبار الفاطميّين ملخّصة من كتاب ابن الأثير ومن تاريخ دولتهم لابن الطوير وقليل من ابن المسبحي جمعت ما أمكنني منها ملخصا والله ولي العون.
(الخبر عن بني حمدون ملوك المسيلة والزاب بدعوة العبيديّين ومآل أمرهم)
كان علي بن حمدون أبوهم من أهل الأندلس وهو علي بن حمدون بن سمّاك بن مسعود بن منصور والجذامي يعرف بابن الأندلسي واتصل بعبيد الله وأبي القاسم بالمشرق قبل شأن الدعوة، وبعثوه من طرابلس إلى عبد الله الشيعي فأحسن اللقاء والانصراف، ولزمهم أيام اعتقالهم بسجلماسة، فلما استفحل ملكهم جذبوا أبا ضبيعة ورقّوه إلى الرتب. ولما رجع أبو القاسم من حركته إلى المغرب سنة خمس عشرة وثلاثمائة، واختطّ مدينة المسيلة، استعمل علي بن حمدون على بنائها وسمّاها المحمدية ولما تم بناؤها عقد له على الزاب وأنزله بها وشحنها بالأقوات التي كانت ميرة للعساكر عند محاصرة المنصور لأبي يزيد صاحب الحمار بجبل كتامة. ولم يزل واليا على الزاب وربى ابنيه جعفرا ويحيى بدار أبي القاسم وكان جعفر سار إلى المعز. ولما كانت فتنة أبي يزيد وأضرمت إفريقية نارا وفتنة، وأهاب القائم بالأولياء من كل ناحية، كتب إلى ابن حمدون أن يجنّد قبائل البربر ويوافيه، فنهض إلى المهدية في عسكر ضخم بقسنطينة وهو يحتشد كل من مرّ به في طريقه حتى وصل إلى شق

(4/107)


بنارية. ثم قارب باجة وكان بها أيوب بن أبي يزيد في عسكر كبير من النكارية والبربر، فزحف إليهم وتناور الفريقان، ثم بيّته أيوب فاستباح معسكره وتردى علي ابن حمدون من بعض الشواهق فهلك سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. ولما انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور على المسيلة والزاب لجعفر بن علي بن حمدون، وأنزله بها وأخاه يحيى، واستجدوا بها سلطانا ودولة، وبنوا القصور والمنتزهات، واستفحل بها ملكهم وقصدهم بها العلماء والشعراء، وكان فيمن قصدهم ابن هانئ شاعر الأندلس وأمداحه فيهم معروفة مذكورة. وكان بين جعفر هذا وبين زيري بن مناد عداوة جرّتها المنافسة والمساماة في الدولة، فساء أثر زيري فيه عند صدمته للمغرب وفتكه بزناتة، وسعوا به إلى الخليفة وألقح له في جوانحه العداوة فكانت داعيته إلى زناتة. وتولّى محمد بن خزر أمير مغراوة. ثم إن المعزّ لما اعتزم على الرحيل إلى القاهرة سنة اثنتين وثلاثمائة استقدم جعفرا فاستراب جعفر ومال بعسكره إلى زناتة قبل قدومه، وانقطعت الرسائل بينه وبين صنهاجة والخليفة المعزّ، وشملت عليه زناتة قبل قدومه واجتمعوا عليه، ودعا إلى نقض طاعة المعزّ والدعاء للحاكم المستنصر، فوجدهم أقدم إجابة لها، وناهضهم زيري الحرب قبل استكمال التعبية، فكانت عليه من أمراء زناتة فكبا بزيري فرسه فطاح، فقصّوا رأسه وبعثوا به مع جماعة من زناتة إلى الحاكم المستنصر، فكرّم الحاكم وفادتهم ونصب رأس زيري بسوق قرطبة، وأسنى جوائز الوفد ورفع منزلة يحيى بن علي وأذن لجعفر في اللحاق بسدّته. ولما علمت زناتة أن يوسف بن زيري يطالبهم بدم أبيه أظهروا العذر به، ورأى أن يتجنّب مجابهتهم لضيق ذات يده. وعجز رؤساؤهم عن الذبّ والدفاع عنها [1] ، وقبض الأيدي عن تناوله لدنو الفتنة ومراس العصبيّة، فأوجس الخيفة في نفسه وألطف الحيلة في الفرار رغبة بحيلته، وشحن السفن بما معه من المال والمتاع والرقيق، والحشم وذخيرة السلطان، وأجاز البحر ولحق بسدّة الخلافة من قرطبة وأجاز معه عظماء الزناتيّين معطين الصفقة على القيام بدعوته، والاحتطاب في جبل طاعته فكرّم مثواه وأجمل وفادتهم وأحسن منصرفهم وانقلبوا لمحبته والتشيّع له، ومناغاة الادارسة للقيام في خدمته بالمغرب الأقصى، وبثّ دعوته. وتخلّف عنهم أولاد علي بن حمدون بالحضرة وأقاموا بسدّة الخلافة، ونظّموا في طبقات الوزارة وأجريت عليهم
__________
[1] الضمير يعود الى قبيلة زناتة، وقد اعتاد ابن خلدون ان يعيد الضمير الى ما قبل فقرات.

(4/108)


سنيات الأرزاق والتحقوا على حديث عهدهم بالقوم من أولياء الدولة. ثم كان بعد ذلك شأن اعتقالهم على طريق التأديب لمرتكب من نازعهم خرقوا به حدود الآداب مع الخلافة، فاستدعوا إلى القصر واعتقلوا، ثم أطلقوا لأيام قلائل لما انغمس الحكم في علّة الفالج، وركدت ريح المروانية بالمغرب، واحتاجت الدولة إلى رجالهم لسد الثغور ودفع العدو، واستدعي يحيى بن هاشم من العدوة، وكان واليا على فاس والمغرب، وأدا له الحاجب المصحفي لجعفر بن على بن حمدون، وجمعوا بين الانتفاع في مقارعة زناتة بالعدوة والراحة مما يتوقع منه على الدولة عند من ولي الخلافة، لما كانوا صاروا إليه من النكبة وطروق المحنة فعقدوا له ولأخيه يحيى على المغرب، وخلعوا عليهما وأمكنوهما من مال وكسا فاخرة للخلع على ملوك العدوة، فنهض جعفر إلى المغرب سنة خمس وستين وضبطه، واجتمع إليه ملوك زناتة من بني يفرن ومغراوة وسجلماسة. ولما هلك الحكم وولي هشام، وقام بأمره المنصور بن أبي عامر، اقتصر لأوّل قيامه على سبتة من بلاد العدوة فضبطها جند السلطان ورجال الدولة، وقلّدها أرباب السيوف والأقلام من الأولياء والحاشية وعدل في ضبطه على ما وراء ذلك على ملوك زناتة ونقدهم بالجوائز والخلع وصار إلى إكرام وفودهم وإثبات من رغب الإثبات في ديوان السلطان منهم، فجدّوا في ولاية الدولة وبثّ الدعوة، وفسد ما بين هذين الأميرين جعفر وأخيه، واقتطع يحيى مدينة البصرة لنفسه وذهب بأكثر الرجال. ثم كانت على جعفر النكبة التي نكبته بنو غواطة في غزاته إياهم. ثم استدعاه محمد بن أبي عامر لأوّل أمره لما رأى من الاستكانة إليه وشد أزره به ونقم عليه كراهته لما لقيه بالأندلس من الحكم، ثم أصحبه وتخلّى لأخيه عن عمل المغرب، وأجاز البحر إلى ابن أبي عامر فحلّ منه بالمكان الأثير. ولما زحف بلكّين إلى المغرب سنة تسع وستين زحفته المشهورة خرج محمد بن أبي عامر من قرطبة إلى الجزيرة لمدافعته بنفسه، وأجاز جعفر بن علي إلى سبتة وعقد له على حرب بلكين وأمدّه بمائة حمل من المال، وانضمت إليه ملوك زناتة ورجع عنهم بلكّين كما نذكره. ولما رجع إلى ابن أبي عامر فاغتاله في بعض ليالي معاقرتهم وأعدّ له رجالا في طريقه من سمره إلى داره فقتلوه سنة [1] ولحق يحيى بن عليّ
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي وفيات الأعيان لابن خلّكان ج 1 ص 286: «توفي يوم الأحد لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين» .

(4/109)


بمصر ونزل بدار العزيز وتلقّاه بالمبرّة والتكريم، وطال به ثواؤه واستكفى به العظائم، ولما استصرخ فلفول بن خزرون بالحاكم في استرجاع طرابلس من يد صنهاجة المتغلّبين عليه، دفع إليه العساكر وعقد عليها ليحيى بن عليّ، واعترضه بنو قرّة من الهلاليّين ببرقة ففلّوه وفضّوا جموعه ورجع إلى مصر ولم يزل بمصر إلى أن هلك هنالك، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
الخبر عن القرامطة واستبداد أمرهم وما استقرّ لهم من الدولة بالبحرين وأخبارها إلى حين انقراضها
هذه الدعوة لم يظهرها أحد من أهل نسب العلويّة ولا الطالبيّين، وإنما قام بها دعاة المهدي من أهل البيت على اختلاف منهم في تعيين هذا المهدي كما نذكره. وكان مدار دعوتهم على رجلين أحدهما يسمّى الفرج بن عثمان القاشاني من دعاة المهدي ويسمى أيضا كرويه بن مهدويه وهو الّذي انتهى إليه دعاتهم بسواد الكوفة، ثم بالعراق والشام، ولم يتم لهؤلاء دولة، والآخر يسمّى أبا سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، كانت دعوته بالبحرين واستقرّت له هنالك دولة ولبنيه. وانتسب بعض مزاعمهم إلى دعاة الإسماعيليّة الذين كانوا بالقيروان كما نذكره. ودعوى هؤلاء القرامطة في غاية الاضطراب مختلّة العقائد والقواعد، منافية للشرائع والإسلام في الكثير من مزاعمهم، وأوّل من قام بها بسواد الكوفة سنة ثمان وسبعين ومائتين رجل أظهر الزهد والتقشّف، وزعم أنه يدعو إلى المهدي وأن الصلوات المفروضة خمسون كل يوم، واستجاب له جمع كثير ولقّب قرمط وأصلها بالكاف. وكان يأخذ من كل من يجيب دعوته دينارا للإمام. وجعل عليهم نقباء وسمّاهم الحواريّين، وشغل الناس بذلك عن شئونهم وحبسه عامل الناحية ففرّ من محبسه ولم يوقف له على خبر، فازداد أتباعه فتنة فيه ثم زعم أنه الّذي بشّر به أحمد بن محمد بن الحنفيّة. وأن أحمد نبيّ وفشا هذا المذهب في السواد وقرئ بينهم كتاب زعموا أنه جاءهم من داعيه المهدي نصّه بعد البسملة، يقول الفرج بن عثمان: الحمد للَّه بكلمته وتعالى باسمه المنجد لأوليائه بأوليائه قل إن الأهلّة مواقيت للناس، ظاهرها لتعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام، وباطنها أوليائي الذين عرّفوا عبادي سبيلي اتّقوني يا أولي

(4/110)


الألباب، وأنا الّذي لا أسأل عمّا أفعل، وأنا العليم الحكيم، وأنا الّذي أبلو عبادي وأستخبر خلقي، فمن صبر على بلائي ومحنتي واختباري ألقيته في جنتي وأخلدته في نعمتي، ومن زال عن أمري وكذّب رسلي أخلدته مهانا في عذابي وأتممت أجلي وأظهرت على ألسنة رسلي، فأنا الّذي لا يتكبّر عليّ جبار إلا وضعته، ولا عزيز إلا ذللته، فليس الّذي أصرّ على أمره ودام على جهالته. وقال لن نبرح عليه عاكفين وبه مؤمنين، أولئك هم الكافرون. ثم يركع ويقول في ركوعه مرّتين سبحان ربّي وربّ العزة تعالى عما يصف الظالمون، وفي سجوده الله أعلى مرّتين الله أعظم مرّة، والصوم مشروع يوم المهرجان والنيروز والنبيذ حرام والخمر حلال، والغسل من الجنابة كالوضوء، ولا يؤكل ذو ناب ولا ذو مخلب. ومن خالف وحارب وجب قتله ومن لم يحارب أخذت منه الجزية انتهى إلى غير ذلك من دعاوي شنيعة متعارضة يهدم بعضها بعضا. وشاهد عليهم بالكذب. والّذي حملهم على ذلك إنما هو ما اشتهر بين الشيعة من أمر المهدي مستندين فيه إلى الأحاديث التي خرجها بعضهم وقد أريناك عللها في مقدّمة الكتاب في باب الفاطمي فلهجوا به، وبالدعوة إليه فمن الصادق فيمن يعينه وان كان كاذبا في استحقاقه، ومنهم من بنى أمره على الكذب والانتحال، عساه يستولي بذلك على حظ من الدنيا ينال بها صفقة. وقد يقال إنّ ظهور هذا الرجل كان قبل مقتل صاحب الزنج وإنه سار على الأمان. وقال له: إنّ ورائي مائة ألف سيف فناظرني لعلّنا نتفق ونتعاون. ثم اختلفا وانصرف قرمط عنه، وكان يسمّي نفسه القائم بالحق. وزعم بعض الناس أنه كان يرى رأي الأزارقة من الخوارج. ثم زحف إليه أحمد بن محمد الطائيّ صاحب الكوفة في العساكر فأوقع بهم وفتك بهم، وتتابعت العساكر في السواد في طلبهم وأبادوهم، وفرّ هو إلى أحياء العرب فلم يجبه أحد منهم، فاختفى في القفر في جبّ بناه واتخذه لذلك، وجعل عليه باب حديد واتخذ بجانبه تنورا سحرا إن أرهقه الطلب فلا يفطن له. ولما اختفى في الجب بعث أولاده في كاب بن دبرة بأنهم من ولد إسماعيل الإمام مستجيرون بهم.
ثم دعوا إلى دعوتهم أثناء ذلك وكانوا ثلاثة يحيى وحسين وعلي فلم يجبهم أحد الى ذلك إلّا بنو القليص بن ضمضم بن عليّ بن جناب، فبايعوا ليحيى على أنه يحيى ابن عبد الله بن محمد بن إسماعيل الإمام وكنّوه أبا القاسم ولقّبوه الشيخ. ثم حوّل اسمه وادّعى أنه محمد بن عبد الله وأنه كان يكتم هذا الاسم، وأنّ ناقته التي يركبها

(4/111)


مأمورة ومن تبعها منصور، فزحف إليه سبك مولى المعتضد في العساكر فهزمها، وقتل فسار إليه محمد بن أحمد الطائي في العساكر فانهزمت القرامطة وجيء ببعضهم أسيرا فاحتضره المعتضد وقال: هل تزعمون أن روح الله وأنبيائه تحلّ فيكم فتعصمكم من الزلل، وتوفقكم لصالح العمل، فقال له: يا هذا أرأيت لو حلّت روح إبليس فما ينفعك فاترك ما لا يعنيك إلى ما يعنيك. فقال له: قل فيما يعنيني! فقال له: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوكم العبّاس حي فلم يطلب هذا الأمر ولا بايعه أحد، ثم قبض أبو بكر واستخلف عمر وهو يرى العبّاس ولم يعهد إليه عمر ولا جعله من أهل الشورى، وكانوا ستة وفيهم الأقرب والأبعد، وهذا إجماع منهم على دفع جدّك عنها، فبماذا تستحقّون أنتم الخلافة؟ فأمر المعتضد به فعذّب وخلعت عظامه ثم قطع مرّتين ثم قتل. ثم زحف القرامطة إلى دمشق وعليها طفج مولى ابن طولون سنة تسعين، واستصرخ بابن سيّده بمصر، فجاءت العساكر لإمداده فقاتلهم مرارا وقتل يحيى بن ذكرويه المسمّى بالشيخ في خلق من أصحابه، واجتمع فلّهم على أخيه الحسين وتسمّى أحمد أبا العبّاس وكانت في وجهه شامة يزعم أنها مقدسة، فلقّب صاحب الشامة المهدي أمير المؤمنين، وأتاه ابن عمّه عيسى بن مهدي وهو عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل الإمام ولقبه المدّثر، وعهد إليه، وزعم أنه المذكور في القرآن ولقّب غلاما من أهله المطوّق. ثم دعا الناس فأجابه كثير من أهل البوادي وسار إلى دمشق فحاصرها حتى صالحوه على مال ودفعوه له. ثم سارا إلى حمص وحماة والمعرّة وبعلبكّ، فخطب له بها واستباحها جميعا. ثم إلى سلميّة وبها جماعة من بني هاشم فاستلحمهم حتى الصبيان بالمكاتب والبهائم. ثم خرج المكتفي إليه وقدّم عساكره، فكبسهم ونجا فلّهم إلى حلب، وانتهى المكتفي إلى الرقّة، وقد سار بدر مولى ابن طولون في اتباع القرامطة فهزمهم وأثخن فيهم وبعث المكتفي العساكر مع يحيى بن سليمان الكاتب، وفيهم الحسين بن حمدان من بني تغلب ومعهم بنو شيبان فواقعوا القرامطة سنة إحدى وتسعين فهزموهم، وقتل منهم خلق من أصحاب القرمطيّ ونجا ابنه أبو القاسم ببعض ذخيرته، وسار هو مستخفيا إلى ناحية الكوفة ومعه المدّثر والمطوّق وغلام له، وانتهوا إلى الرّحبة فوشى بهم إلى العامل فقبض عليهم، وبعث بهم إلى المكتفي بالرقّة ورجع إلى بغداد فقطعهم بعد أن ضرب صاحب الشامة مائتي سوط. وأمّا عليّ بن ذكرويه ففرّ بعد مقتل أخيه يحيى على

(4/112)


دمشق إلى ناحية الفرات، واجتمع إليه فلّ من القرامطة فاستباح طبرية. ثم لما اتّبعهم الحسين بن حمدان فرّ إلى اليمن، واجتمع إليه دعاتهم لك وتغلّب على كثير من مدنه، وقصد صنعاء فهرب عنها ابن يعفر فاستباحها وتجافى عن صعدة لذمّة العلويّة بينه وبين بني الرسي، ونازل بني زياد بن بيد، ومات في نواحي اليمن، وفي خلال ذلك بعث أبوه ذكرويه إلى بني القليص بعد أن كانوا استكانوا وأقاموا بالسماوة، فبعث إليهم من أصحابه عبد الله بن سعيد ويسمّى أبا غانم فجاءهم بكتابه سنة ثلاث وتسعين بأنه أوحى إليه بأن صاحب الشامة وأخاه الشيخ مقبلان، وأن إمامه يظهر من بعدهما ويملأ الأرض عدلا، ويظهر وطاب أبو غانم على إحياء كلب فاجتمع إليه جماعة منهم، وقصد الشام فاستباح بصرى وأذرعات، ونازل دمشق وعاملها يومئذ أحمد بن كيغلغ وهو غائب بمصر في محاربة الجليجي الثائر من شيعة بني طولون على عساكر المكتفي، وقابله خلفاؤه فهزمهم وقتل بعضهم وسار إلى الأردن فقتل عاملها، ونهب طبريّة وبعث المكتفي الحسين بن حمدان في العساكر ففرّ أبو غانم إلى السماوة وغوّر مياهها، واتبعته العساكر إلى أن جهدهم العطش. ثم رجع الحسين بهم إلى الرحبة، وقيل إنهم تقبّضوا على أبي غانم وقتلوه، وافترق جمعهم وذلك سنة ثلاث وتسعين.
(ظهور ذكرويه ومقتله)
ثم اجتمع القرامطة إلى ذكرويه وأخرجوه من الجب الّذي كان مختفيا فيه منذ عشرين سنة، وحضر عنده دعاتهم فاستخلف عليهم أحمد بن القاسم بن أحمد، وعرّفهم بما له عليهم من المنّة، وأن رشادهم في امتثال أمره، ورمز لهم في ذلك بآيات من القرآن حرّف تأويلها، وسار وهو محتجب يدعونه السيّد ولا يرونه، والقاسم يباشر الأمور ويتولّاها، وبعث المكتفي عساكره فهزمهم القرامطة بالسواد، وغنموا معسكرهم، وساروا لاعتراض الحاج ومرّوا بالصوان، وحاصروا الواقصة فامتنعت عليهم، وطمّوا الآبار والمياه في تلك النواحي وبعث المكتفي محمد بن إسحاق بن كنداج الصهّال ورجعوا. ونهب القرامطة الحاج وقتلوهم بعد أن قاتلوهم ثلاثا على غير ماء فاستسلموا، وغنم أموالهم وأموال التجّار وأموال بني طولون كانوا نقلوها من ابن خلدون م 8 ج 4

(4/113)


مصر إلى مكّة. ثم من مكّة إلى بغداد عند ما أجمعوا النقل إليها. ثم حاصر القرامطة بقية الحاج في حمص، قيل فامتنعوا، وجهّز المكتفي العساكر مع وصيف بن صوارتكين وجماعة من القوّاد، فساروا على طريق خفان، وأدركوا القرامطة فقاتلوهم يومين، ثم هزموهم وضرب ذكرويه على رأسه فانهشم وجيء به أسيرا وبخليفة القاسم وابنه وكاتبه وزوجته، ومات لخمس ليال فسيق شلوه إلى بغداد، وصلب وبعث برأسه إلى خراسان من أجل الحاج الذين نهبهم من أهلها. ونجا الفلّ من أصحابه إلى الشام، فأوقع بهم الحسين بن حمدان واستلحمهم، وتتبعوا بالقتل في نواحي الشام والعراق، وذلك سنة أربع وتسعين وثلاثمائة.
(خبر قرامطة البحرين ودولة بني الجنابي منها)
وفي سنة إحدى وثمانين ومائتين جاء إلى القطيعي [1] من البحرين رجل تسمى بيحيى بن المهدي وزعم أنه رسول من المهدي، وأنه قد قرب خروجه وقصد من أهل القطيف علي بن المعلّى بن أحمد الدباديّ، وكان متغاليا في التشيّع فجمع الشيعة وأقرأهم كتاب المهدي، وشنّع الخبر في سائر قرى البحرين فأجابوا كلّهم، وفيهم أبو سعيد الجنابي واسمه الحسن بن بهرام وكان من عظمائهم. ثم غاب عنهم يحيى بن المهدي مدّة ورجع بكتاب المهدي يشكرهم على إجابتهم ويأمرهم أن يدفعوا ليحيى ستة دنانير وثلاثين [2] عن كل رجل فدفعوها. ثم غاب وجاء بكتاب آخر يدفعوا إليه خمس أموالهم فدفعوا، وقام يتردّد في قبائل قيس. ثم أظهر أبو سعيد الجنابي الدعوة بالبحرين سنة ثلاث وثمانين، واجتمع إليه القرامطة والأعراب، وسار إلى القطيف طالبا البصرة وكان عليها أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي فأدار السور على البصرة، وبعث المعتمد عليّ بن عمر الغنويّ، وكان على فارس فاقطعه اليمامة والبحرين، وضمّ إليه ألفين من المقاتلة وسيّره إلى البصرة فاحتشد وخرج للقاء الجنابيّ ومن معه، ورجع عنه عند اللقاء بنو ضبّة فانهزم وأسره الجنابيّ واحتوى على
__________
[1] لم نجد لها اسم في معجم البلدان ولعلها القطيف كما في الكامل ج 7 ص 493.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 494: «فليدفع إليه كل رجل منكم ستة دنانير وثلاثين» .

(4/114)


معسكره وحرق الأسرى بالنار. ثم من عليه وأطلقه فسار إلى الأبلّة ومنها إلى بغداد، وسار أبو سعيد إلى هجر فملكها وأمّنها، واضطربت البصرة للهزيمة وهمّ أهلها بالارتحال، فمنعهم الواثقي. ومن كتاب ابن سعيد في خبر قرامطة البحرين ملخّصا من كلام الطبري فلعله كما ذكره قال: كان ابتداء أمر القرامطة سنة ثمان وثلاثمائة فنقل الكلام وكان أبو سعيد يمهد لابنه الأكبر سعيد فلم [1] به وثار به أخوه الأصغر الظاهر سليمان فقتله، وقام بأمرهم وبايعه العقدانية وجاءه كتاب عبيد الله المهدي بالولاية. وفي سنة ست وثمانين وصل أبو القاسم القائم إلى مصر، واستدعى أبا طاهر القرمطي وانتظره فأعجله مؤنس الخادم عن انتظاره وسار من قبل المقتدر فهزمه ورجع إلى المهديّة. ثم سار أبو الطاهر سنة سبع إلى البصرة فاستباحها ورجع واضطربت بغداد، وأمر المقتدر بإصلاح ما تثلّم من سورها. ثم زحف إليها أبو الطاهر سنة إحدى عشرة فاستباحها وخرّب الجامع وتركها خربة. ثم خرج سنة اثنتي عشرة لاعتراض الحاج فأوقع بهم وهزم قوّاد السلطان الذين كانوا معهم، وأسر أميرهم أبا النجاء بن حمدون واستصفى النساء والصبيان وترك الباقي بالبريّة فهلكوا.
ثم خرج سنة أربع عشرة إلى العراق فعاث في السواد، ودخل الكوفة وفعل فيها أشدّ من البصرة. وفي سنة أربع عشرة وقع بين العقدانية وأهل البحرين خلاف فخرج أبو الطاهر وبنى مدينة الأحساء وسمّاها المؤمنيّة فلم تعرف إلّا به، وبنى قصره وأصحابه حوله. وفي سنة خمس عشرة استولى على عمان وهرب واليها في البحر الى فارس.
وزحف سنة ست عشرة إلى الفرات، وعاث في بلاده. وبعث المقتدر عن يوسف بن أبي الساج من أذربيجان وولّاه واسط، وبعثه لحربه فالتقوا بظاهر الكوفة وهزمه أبو طاهر وأسره. وأرجف أهل بغداد، وسار أبو طاهر إلى الأنبار وخرجت العساكر من بغداد لدفاعه مع مؤنس المظفّر وهارون بن غريب الحال فلم يطيقوا دفاعه، وتوافقوا ثم تحاجزوا، وعاد مؤنس إلى بغداد وسار هو إلى الرحبة واستباحها ودوّخ بلاد الجزيرة بسراياه. وسار إلى هشت والكوفة، وقاتل الرقّة فامتنعت عليه، وفرض الإتاوة على أعراب الجزيرة يحملونها إلى هجر، ودخل في دعوته جماعة من بني سليم بن منصور وبني عامر بن صعصعة. وخرج إليه هارون بن غريب الحال فانصرف أبو طاهر إلى
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 84: «وكان ابو سعيد قد عهد إلى ابنه سعيد وهو الأكبر، فعجز عن الأمر، فغلبه اخوه الأصغر ابو طاهر سليمان وكان شهما شجاعا....» .

(4/115)


البرّية وظفر هارون بفريق منهم فقتلهم وعاد إلى بغداد. وفي سنة سبع عشرة هجم على مكّة وقتل كثيرا من الحاج ومن أهلها ونهب أموالهم جميعا وقلع باب البيت والميزاب، وقسّم كسوة البيت في أصحابه، واقتلع الحجر الأسود وانصرف به وأراد أن يجعل الحج عنده، وكتب إليه عبيد الله المهدي من القيروان يوبّخه على ذلك، ويتهدّده، فكتب إليه بالعجز عن ردّه من الناس ووعد بردّ الحجر، فردّه سنة تسع وثلاثين بعد أن خاطبه منصور إسماعيل من القيروان في ردّه فردّوه، وقد كان الحكم المتغلّب على الدولة ببغداد أيام المستكفي بذل لهم خمسين ألفا من الذهب على أن يردّوه فأبوا، وزعموا أنهم إنما حملوه بأمر إمامهم عبيد الله، وإنما يردّونه بأمره وأمر خليفته. وأقام ابو طاهر بالبحرين وهو يتعاهد العراق والشام بالغزو حتى ضربت له الإتاوة ببغداد وبدمشق على بني طفج. ثم هلك أبو طاهر سنة اثنتين وثلاثين لإحدى وثلاثين سنة من ملكه، ومات عن عشرة من الولد كبيرهم سابور، وولّى أخوه الأكبر أحمد بن الحسن، واختلف بعض العقدانية عليه ومالوا إلى ولاية سابور بن أبي طاهر، وكاتبو القائم في ذلك فجاء جوابه بولاية الأخ أحمد، وأن يكون الولد سابور وليّ عهده، فاستقرّ أحمد في الولاية عليهم وكنّوه أبا منصور، وهو الّذي ردّ الحجر الأسود إلى مكانه كما قلناه. ثم قبض سابور على عمّه أبي منصور فاعتقله بموافقة إخوته له على ذلك وذلك سنة ثمان وخمسين. ثم ثار بهم أخوه فأخرجه من الاعتقال وقتل سابور ونفى إخوته وأشياعهم إلى جزيرة أوال. ثم هلك أبو منصور سنة تسع وخمسين يقال مسموما على يد شيعة سابور، وولي ابنه أبو عليّ الحسن بن أحمد ويلقّب الأعصم، وقيل الأغنم فطالت مدّته وعظمت وقائعه ونفى جمعا كثيرا من ولد أبي طاهر، يقال اجتمع منهم بجزيرة أوال نحو من ثلاثمائة، وحجّ هذا الأعصم بنفسه ولم يتعرّض للحاج ولا أنكر الخطبة للمطيع.
(فتنة القرامطة مع المعز العلويّ)
ولما استولى جوهر قائد المعز لدين الله على مصر وجعفر بن فلاح الكتامي على دمشق طالب الحسن بالضريبة التي كانت له على دمشق فمنعوه ونابذوه، وكتب له المعز وأغلظ عليه ودسّ لشيعة أبي طاهر وبنيه أنّ الأمر لولده، وأطلع الحسن على ذلك

(4/116)


فخلع المعز سنة اثنتين وثلاثمائة وخطب للمطيع العباسيّ في منابره ولبس السواد. ثم زحف إلى دمشق وخرج جعفر بن فلاح لحربه، فهزمه الأعصم وقتله، وملك دمشق وسار إلى مصر فحاصر جوهرا بها وضيّق عليه. ثم غدر به العرب واجفلوا فأجفل معهم وعاد إلى الشام ونزل الرملة، وكتب إليه المعزّ سنة إحدى وستين بالنفي والتوبيخ، وعزله عن القرامطة وولّى بني أبي طاهر فخرجوا من أوال ونهبوا الأحساء في غيبته، وكتب إليهم الطائع العبّاسيّ بالتزام الطاعة، وأن يصالحوا ابن عمّهم ويقيموا بجزيرة أوال وبعث من أحكم بينهم الصلح. ثم سار الأعصم إلى الشام وتخطّاها دون صور فقاتلوه وراء الخنادق، وبذل جوهر المال للعرب فافترقوا عنه، وانهزم ونهب معسكره. وجاء المعزّ من إفريقية ودخل القاهرة سنة ثلاث وستين وسرّح العساكر إلى الشام فاستولوا عليه، فنهض الأعصم إليهم فأوقع بهم، وأثخن فيهم، وانتزع ما ملكوه من الشام، وسار إلى مصر وبعث المعزّ لدين الله ابنه عبد الله فلقيهم على بلبيس وانهزم الأعصم وفشا القتل والأسر في أصحابه فكانوا نحوا من ثلاثة آلاف، ورجع الأعصم إلى الأحساء واستخلص المعزّ بني الجرّاح أمراء الشام من طيِّئ حتى استرجع بهم ما غلب عليه القرامطة من الشام بعد حروب وحصار. ثم مات المعزّ سنة خمس وستين، وطمع الأعصم في بلاد الشام، وكان أفتكين التركي مولى معزّ الدولة بن بويه لما انتقض على أبيه بختيار وهزمه ببغداد، سار أفتكين منهزما إلى دمشق، وكانوا مضطرين فخرجوا إليه وولّوه عليهم، وصالح المعزّ إلى أن توفّي فنابذ العزيز وبعث إليه جوهر في العساكر فحاصره، فكتب أفتكين إلى الأعصم واستدعاه فجاء إلى الشام سنة ست وستين. وخرج معه أفتكين، ونازلوا الرملة فملكوها من يد جوهر، وزحف إليهم العزيز وهزمهم، وتقبض على أفتكين، ولحق الأعصم بطبريّة منهزما. ثم ارتحل منها إلى الأحساء وأنكروا ما فعله الأعصم من البيعة لبني العبّاس، واتفقوا على إخراج الأمر عن ولد أبي سعيد الجنابي، وقدّموا رجلين منهم وهما جعفر وإسحاق وسار بنو أبي سعيد إلى جزيرة أوال. وكان بنو أبي طاهر قبلهم فقتلوا كل من دخل إليهم من ولد أحمد بن أبي سعيد وأشياعه. ثم قام بأمر القرامطة جعفر وإسحاق هذان ورجعوا إلى دعوة العلويّة ومحاربة بني بويه، ورجعوا سنة أربع وستين إلى الكوفة فملكوها. وبعث صمصام الدولة بن بويه العساكر إليهم فهزمهم على الفرات وقتل منهم خلق واتبعوهم إلى القادسية. ثم اختلف جعفر

(4/117)


وإسحاق وطمع كل منهما في الرئاسة على صاحبه، وافترق أمرهم وتلاشت دعوتهم إلى أن استولى الأصغر بن أبي الحسن الثعلبي سنة ثمان وتسعين عليهم، وملك الأحساء من أيديهم وأذهب دولتهم وخطب للطائع واستقرت الدولة له ولبنيه.
(ذكر المتغلّبين بالبحرين من العرب بعد القرامطة)
كان بأعمال البحرين خلق من العرب، وكان القرامطة يستنجدونهم على أعدائهم ويستعينون بهم في حروبهم، وربّما يحاربونهم ويقاطعونهم في بعض الأوقات، وكان أعظم قبائلهم هنالك بنو ثعلب وبنو عقيل وبنو سليم، وأظهرهم في الكثرة والعزّة بنو ثعلب. ولما فشلت دولة القرامطة بالبحرين واستحكمت العداوة بينهم وبين بني بويه بعد انقراض ملك بني الجنابي، وعظم اختلافهم عند القائم بدعوة العبّاسية وكان خالصة [1] للقرامطة ودعاه إلى إذهاب دولتهم فأجابه، وداخل بني مكرم رؤساء عمان في مثل ذلك فأجابوه، واستولى الأصغر على البحرين وأورثها بنيه، واستولى بنو مكرم على عمان ثم غصّ بنو ثعلب بسليم واستعانوا عليهم ببني عقيل وطردوهم من البحرين، فساروا إلى مصر ومنها كان دخولهم إلى إفريقية كما يأتي. ثم اختلف بنو ثعلب وبنو عقيل بعد مدّة وطردهم بنو ثعلب إلى العراق فملكوا الكوفة والبلاد العراقيّة، وامتدّ ملك الأصغر وطالت أيامه، وتغلّب على الجزيرة والموصل وحارب بني عقيل سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة برأس عين من بلاد الجزيرة، وغصّ بشأنه نصير الدولة بن مروان صاحب ميافارقين وديار بكر فقام له، وجمع له الملوك من كل ناحية فهزمه واعتقله، ثم أطلقه ومات وبقي الملك متوارثا في بنيه بالبحرين إلى أن ضعفوا وتلاشوا، وانقرضت دولة بني عقيل بالجزيرة، وغلبهم عليها وعلى تلك البلاد أولياء الدولة السلجوقيّة، فتحوّلوا عنها إلى البحرين مواطنهم الأولى، ووجدوا بني ثعلب قد أدركهم الهرم، فغلبوا عليهم. قال ابن سعيد: سألت أهل البحرين حين لقيتهم بالمدينة النبويّة سنة إحدى وخمسين وستمائة عن البحرين، فقالوا: الملك فيها لبني
__________
[1] هو خالصيّ وخلصاني. وفلان خلصني كما تقول خدني، وخلصاني أي خالصي إذا خلصت مودتهما (لسان العرب) .

(4/118)


عامر بن عوف بن عامر بن عقيل وبنو ثعلب من جملة رعاياهم وبنو عصفور منهم أصحاب الأحساء. (ولنذكر) هنا نبذة في التعريف بكاتب القرامطة وأمصار البحرين وعمان لما أنّ ذلك من توابع أخبارهم.
(الكاتب) : كان كاتبهم أبو الفتح الحسين بن محمود ويعرف بكشاجم، كان من أعلام الشعراء، وذكره الثعالبي في اليتيمة والحصريّ في زهر الآداب، وهو بغدادي المولد واشتهر بخدمة القرامطة فيما ذكره البيهقي وكتب لهم بعده ابنه أبو الفتح نصر، ولقبه كشاجم مثل أبيه وكان كاتبا للأعصم.
(البحرين) : إقليم يسمّى باسم مدينته، ويقال هجر باسم مدينة أخرى منه كان حضريّة، فخرّبها القرامطة وبنو الأحساء وصارت حاضرة، وهذا الإقليم مسافة شهر على بحر فارس بين البصرة وعمان، شرقيّها نجر فارس، وغربيّها متصل باليمامة، وشماليها البصرة وجنوبها بعمان، كثيرة المياه ببطونها على القامة والقامتين، كثيرة البقل والفواكه، مفرطة الحرّ منهالة الكثبان، يغلب الرمل عليهم في منازلهم وهي من الإقليم الثاني، وبعضها في الثالث، كانت في الجاهلية لعبد القيس وبكر بن وائل من ربيعة، وملكها للفرس، وعاملها من قبلهم المنذر بن ساوي التميميّ. ثم صارت رياستها صدر الإسلام لبني الجارودي ولم يكن ولاة بني العبّاس ينزلون هجر إلى أن ملكها أبو سعيد القرمطيّ بعد حصار ثلاث سنين، واستباحها قتلا وإحراقا وتخريبا.
ثم بنى أبو طاهر مدينة الأحساء، وتوالت دولة القرامطة وغلب على البحرين بنو أبي الحسن بن ثعلب، وبعدهم بنو عامر بن عقيل. قال ابن سعيد والملك الآن فيهم في بني عصفور.
(الأحساء) بناها أبو طاهر القرمطيّ في المائة الثالثة، وسمّيت بذلك لما فيها من أحساء المياه في الرمال، ومراعي الإبل، وكانت للقرامطة بها دولة، وجالوا في أقطار الشام والعراق ومصر والحجاز وملكوا الشام وعمان.
(دارين) هي من بلاد البحرين ينسب إليها الطيب كما تنسب الرماح إلى الخطّ بجانبها فيقال مسك دارين والرماح الخطّيّة.
(عمان) وهي من ممالك جزيرة العرب المشتملة على اليمن والحجاز والشحر وحضر موت وعمان وهي خامسها، إقليم سلطاني منفرد على بحر فارس من غربيه مسافة شهر، شرقيها بحر فارس وجنوبيها بحر الهند، وغربيها بلاد حضر موت،

(4/119)


وشماليها البحرين، كثيرة النخل والفواكه وبها مغاص اللؤلؤ، سمّيت بعمان بن قحطان، أوّل من نزلها بولاية أخيه يعرب، وصارت بعد سيل العرم للأزد. وجاء الإسلام وملوكها بنو الجلندي، والخوارج بها كثيرة. وكانت لهم حروب مع عمّال بني بويه وقاعدتهم تروى، وملك عمان من البحر ملوك فارس غير مرّة، وهي في الإقليم الثاني، وبها مياه وبساتين وأسواق، وشجرها النخل. وكانت بها في الإسلام دولة لبني شامة بن لؤيّ بن غالب. وكثير من نسّابة قريش يدفعونهم عن هذا النسب، أوّلهم بها محمد بن القاسم الشامي، بعثه المعتضد أعانه ففتحها وطرد الخوارج إلى تروى قاعدة الجبال، وأقام الخطبة لبني العبّاس وتوارث ذلك بنوه، وأظهروا شعار السنّة. ثم اختلفوا سنة خمس وثلاثمائة وتحاربوا، ولحق بعضهم بالقرامطة، وأقاموا في فتنة إلى أن تغلّب عليهم أبو طاهر القرمطيّ سنة سبع عشرة عند اقتلاعه الحجر وخطب بها لعبيد الله المهدي وتردّدت ولاة القرامطة عليها من سنة سبع عشرة الى سنة خمس وسبعين. فترهّب واليها منهم، وزهد وملكها أهل تروى الخوارج وقتلوا من كان بها من القرامطة والروافض، وبقيت في أيديهم ورياستها للأزد منهم. ثم سار بنو مكرم من وجوه عمان إلى بغداد، واستخدموا لبني بويه وأعانوهم بالمراكب من فارس، فملكوا مدينة عمان وطردوا الخوارج إلى جبالهم، وخطبوا لبني العبّاس. ثم ضعفت دولة بني بويه ببغداد فاستبدّ بنو مكرم بعمان وتوارثوا ملكها، وكان منهم مؤيد الدولة أبو القاسم عليّ بن ناصر الدولة الحسين بن مكرم، وكان ملكا جوادا ممدوحا. قاله البيهقي ومدحه مهيار الديلميّ وغيره، ومات سنة ثمان وعشرين وأربعمائة بعد مدّة طويلة في الملك. وفي سنة اثنتين وأربعين ضعف ملك بني مكرم وتغلّب عليهم النساء والعبيد، فزحف إليها الخوارج وملكوها، وقتلوا بقيتهم وانقطع منها رسم الملك، وصار في حجار من مدر هذا الإقليم قلهات هي عرصة عمان على بحر فارس من الإقليم الثاني ومما يلي الشحر وحجاز في شماليها إلى البحرين بينهما سبع مراحل، وهي في جبال منيعة، فلم تحتج إلى سور، وكان ملكها سنة ثمان وأربعين زكريا بن عبد الملك الأزدي من ذريّة رياسة. وكان الخوارج بتروى مدينة الشراة يدينون لهم، ويرون أنهم من ولد الجلندي.

(4/120)


الخبر عن الإسماعيلية أهل الحصون بالعراق وفارس والشام وسائر أمورهم ومصايرها
هذا المذهب هو مذهب القرامطة وهم غلاة الرافضة، وهو على ما رأيته من الاضطراب والاختلاف. ولم يزل متناقلا في أهله بأنحاء العراق وخراسان وفارس والشام.
واختلف بعضهم باختلاف الأعصار والأمصار، وكانوا يدعون أوّلا قرامطة. ثم قيل لهم بالعراق باطنيّة، ثم الإسماعيلية، ثم النزاريّة لما حدث من عهد المستضيء العلويّ لابنه نزار، وقتله شيعتهم بمصر، ولم يبايعوا له، وكان عنده ابن الصبّاح من هؤلاء الإسماعيلية، ونفى الإمامة بعده عن أئمتهم بمصر فسمّوا أصحابه لذلك نزاريّة. وكان هذا المذهب بعد موت ذكرويه وانحلال عقدتهم، بقي منبثّا في الأقطار ويتناوله أهله، ويدعون إليه ويكتمونه، ولذلك سمّوا الباطنيّة، وفشت أذيتهم بالأمصار بما كانوا يعتقدونه من استباحة الدماء، فكانوا يقاتلون الناس ويجتمع لذلك جموع منهم يكمنون في البيوت ويتوصّلون إلى مقاصدهم من ذلك. ثم عظمت أمورهم أيام السلطان ملك شاه عند ما استمر الملك للعجم من الديلم والسلجوقيّة وعقل الخلفاء وعجزوا عن النظر في تحصين إمامتهم، وكفّ الغوائل عنها، فانتشروا في هذه العصور وربما اجتمع منهم جماعة بساوة بانحاء همذان، فصلّوا صلاة العيد بأنحائهم فحبسهم الشحنة، ثم أطلقهم. ثم استولوا بعد ذلك على الحصون والقلاع فأوّل قلعة غلبوا عليها قلعة عند فارس كان صاحبها على مذهبهم، فأووا إليه واجتمعوا عنده، وصاروا يخطفون الناس من السابلة وعظم ضررهم بتلك النواحي. ثم استولوا على قلعة أصفهان واسمها شاه در، كان السلطان شاه بناها وأنزل بها عامله، فاتصل به أحمد بن غطاش، كان أبوه من مقدّمي الباطنيّة وعنه أخذ ابن الصبّاح وغيره منهم، وكان أحمد هذا عظيما فيهم لمكان أبيه ورسوخه في العلم بينهم، فعظّموه لذلك وتوّجوه وجمعوا له مالا وقدّموه عليهم، واتصل بصاحب القلعة فآثر مكانه وقلّده الأمور حتى إذا توفي استولى أحمد بن غطاش على قلعة شاه در، وأطلق أيدي أصحابه في نواحيها يخيفون السابلة من كل ناحية. ثم استولوا على قلعة الموت من نواحي قزوين وهي من بنيان الديلم، ومعنى هذا الاسم عندهم تميل العقاب،

(4/121)


ويقال لتلك الناحية طالقان، وكانت في ضمان الجعفري، فاستناب بها علويا وكان بالري أبو مسلم صهر نظام الملك، واتصل به الحسن بن الصبّاح، وكان بينهم عالما بالتعاليم والنجوم والسحر، وكان من جملة تلامذة ابن غطاش صاحب قلعة أصفهان، ثم اتهمه أبو مسلم بجماعة من دعاة المصريّين عنده فهرب منه وجال في البلاد وانتهى إلى مصر فأكرمه المستنصر وأمره بدعاء الناس إلى إمامته، وقال له الحسن من الإمام بعدك فأشار إلى ابنه نزار، وعاد من مصر إلى الشام والجزيرة وديار بكر وبلاد الروم، ورجع إلى خراسان بقلعة الموت فنزل على العلويّ، فأكرمه واعتقد البركة فيه، وأقام بها وهو يحاول إحكام أمره في تملّكها، فلما تمّ له من ذلك ما أراد أخرج العلويّ منها وملكها. واتصل الخبر بنظام الملك فبعث العسكر لحصارها فجهده الحصار، وبعث جماعة من الباطنيّة فقتلوا نظام الملك، ورجعت العساكر واستولوا أيضا على قلعة طبس وما جاورها من قلاع قوهستان وهي زرون وقائد.
وكان رئيس قوهستان المنوّر من أعقاب بني سيجور أمراء خراسان للسامانية، فطلبه عامل قوهستان وأراد اغتصاب أخته، فاستدعى الإسماعيلية وملّكهم هذه القلاع، واستولوا على قلعة خالنجان على خمسة فراسخ من أصفهان كانت لمؤيد الملك بن نظام الملك، وانتقلت إلى جاولي سقاور من أمراء الغزّ، وولّى عليها بعض الترك فاتصل به بعض الباطنيّة وخدمه، وأهدى له حتى صارت مفاتيح القلعة في يده، فدسّ لابن غطاش في قلعة شاه در فجاء في جمع من أصحابه ليلا، وهرب التركي فملكها وقتل من كان بها وقوي بها على أهل أصفهان، وفرض عليهم القطائع. ومن قلاعهم أسويا وندبين الرمل وآمد، ملكوها بعد ملك شاه غدرا، ومنها أزدهر ملكها ابو الفتوح ابن أخت الحسن بن الصبّاح. ومنها كردكوه ومنها قلعة الناظر بخوزستان وقلعة الطنبور قرب أرّجان ملكها أبو حمزة الإسكاف من أهل ارّجان، وقد كان سافر إلى مصر فأخذ بمذهبهم ورجع داعية لهم. ومنها قلعة ملاوخان بين فارس وخوزستان امتنع بها المفسدون نحوا من مائتي سنة لقطع الطريق، حتى فتحها عضد الدولة بن بويه، وقتل من بها. فلما ملك ملك شاه أقطعها للأمير أنز، فولّى عليها من قبله وداخله الباطنيّة الذين من أرّجان في بيعها منهم فأبى، فقالوا نرسل إليك من يناظرك حتى نرى الحق في مذهبنا، وبعثوا إليهم رجالا منهم فاعتقلوا مملوكه حتى سلّم لهم مفاتيح القلعة، وقبضوا على صاحبها وقويت شوكتهم. وامتدّت أيدي

(4/122)


الناس إلى قتلهم واعتقدوا جهادهم وثاروا بهم في كل وجهة فقتلوهم وقتلتهم العامة بأصفهان، وكانوا قد ظهروا بها عند محاصرة السلطان بركيارق أصفهان وبها أخوه محمد وأمّه خاتون الجلاليّة، وفشت فيها دعوتهم وكثر فيها الاغتيال من أتباعهم فثاروا بهم، وقتلوهم وحفروا الأخاديد وأوقدوها بالنيران، وجعلوا يأتون بالباطنية فيلقونهم فيها، وتجرّد جاولي سقاور، وكان واليا بفارس للجهاد فيهم، وتحيّل عليهم بجماعة من أصحابه أظهروا الهروب إليهم فأوثقوا [1] بهم وسار هو من بعد ذلك إلى همذان فأغزاهم. ثم صار الباطنيّة من بعد ذلك إلى همذان لقتل أمراء السلجوقيّة غدرا فكان يقصد أحدهم أميرا من هؤلاء وقد استبطن خنجرا واستمات. حملهم على ذلك السلطان بركيارق، واستعان بهم على أمر أخيه فكان أحدهم يعرض نفسه بين يدي الأمير حتى يتمكّن من طعنه فيطعنه، ويهلك غالبا ويقتل الباطني لوقته، فقتلوا منهم كذلك جماعة، ولما ظهر بركيارق على أخيه محمد انتشروا في عسكره واستعانوا بطائفة منهم، وتهدّدوا بالقتل على ذلك حتى ارتاب أمراء العسكر بأنفسهم، وخافوا عاديتهم ولازموا حمل السلاح، وشكوا إلى بركيارق بذلك وبما يلقونه منهم ومن عسكر أخيه فيما يرمونهم به من الاتحاد بهؤلاء الباطنية فأذن في قتلهم، وركب والعسكر معه فتتبعوهم بالقتل، حتى أن الأمير محمدا من أعقاب علاء الدولة بن كاكويه، وكان صاحب مدينة يزد أتّهم برأيهم فهرب وقتل. وكتب إلى بغداد في أبي إبراهيم الأستراباذيّ وكان بركيارق بعثه رسولا فأخذ هنالك وقتل، واستلحموا في كلّ جهة واستلحم المتّهمون وانطلقت عليهم الأيدي في كل ناحية وذلك سنة ست وثمانين. ولما استفحل أمر السلطان محمد بعد أخيه بركيارق زحف إلى قلعة شاه در التي بها أحمد ابن غطاش لقربها من أصفهان سرير ملكه، فجمع العساكر والأمم وخرج في رجب من أول المائة السادسة، وأحاط بجبل القلعة ودوره أربعة فراسخ، ورتّب الأمراء لقتالها نوبا. ولما اشتدّ الأمر بهم سألوا فتوى الفقهاء في أمرهم وكتبوا ما نصّه: ما يقول السادة الفقهاء أئمة الدين في قوم يؤمنون باللَّه واليوم الآخر وكتبه ورسله، وأنّ ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم حق وصدق، وإنما يخالفون في الإمام هل يجوز للسلطان مساعدتهم ومراعاتهم وأن يقبل طاعتهم وبحرسهم من كل أذى أم لا؟
__________
[1] الصحيح ان يقول: ووثقوا بهم.

(4/123)


فأجاب أكثر الفقهاء بجواز ذلك، وتوقّف بعضهم وجمعوا للمناظرة، فقال السمنجاني من كبار الشافعيّة: يجب قتالهم ولا يجوز إقرارهم بمكانهم ولا ينفعهم التلفّظ بالشهادتين، فإنّهم لا يرون مخالفة إمامهم إذا خالف أحكام الشرع، وبذلك تباح دماؤهم إجماعا، وطالت المناظرة في ذلك. ثم سألوا أن يأتيهم من العلماء من يناظرهم وعيّنوا أعيانا من أصفهان، وقصدوا بذلك المطاولة والتعلّل، فبعثهم السلطان إليهم فعادوا من غير شيء، فاشتدّ السلطان إليهم في حصارهم واستأمنوا على أن يعوّضوا عن قلعتهم بقلعة خالنجان على سبعة فراسخ من أصفهان، وأن يؤجّلوا في الرحيل شهرا فأجابهم، وأقاموا في تلك المدّة يجمعون ما يقدرون عليه من الأطعمة ووثبوا على بعض الأمراء وسلم منهم فجدّد السلطان حصارهم وطلبوا أن ينتقلوا إلى قلعة الناظر وطبس، ويبعث السلطان معهم من يوصلهم ويقيم الباقون بضرس من القلعة إلى أن يصل الأوّلون، ثم يبعث مع الآخرين من يوصلهم إلى ابن الصبّاح بقلعة الموت فأجابهم إلى ذلك، وخرج الأوّلون إلى الناظر وطبس، وخرّب السلطان القلعة، وتمسّك ابن غطاش بالضرس الّذي هو فيه، وعزم على الاعتصام به، وزحف إليه الناس عامّة وهرب بعضهم إلى السلطان، فدلّه على عورة المكان، فصعدوا إليه وقتلوا من وجدوا فيه، وكانوا ثمانين، وأخذا ابن غطاش أسيرا فسلخ وحشي جلده تبنا، وقتل ابنه وبعث برأسهما إلى بغداد، وألقت زوجه نفسها من الشاهق فهلكت.
(خبر الإسماعيلية بالشام)
لما قتل أبو إبراهيم الأستراباذيّ ببغداد كما تقدّم هرب بهرام ابن أخيه إلى الشام وأقام هنالك داعية متخفيا، واستجاب له من الشام خلق. وكان الناس يتبعونهم لكثرة ما اتصفوا به من القتل غدرا. وكان أبو الغازي بن أرتق بحلب يتوصل بهم إلى غرضه في أعدائه، وأشار أبو الغازي على ابن طغتكين الأتابك بدمشق بمثل ذلك فقبل رأيه، ونقل إليه فأظهر حينئذ شخصه، وأعلن بدعوته وأعانه الوزير أبو علي ظاهر بن سعد المزدغاني، لمصلحتهم فيه فاستفحل أمره، وكثر تابعوه، وخاف من عامّة دمشق فطلب من ابن طغتكين ووزيره أبي علي حصنا يأوي إليه، فأعطوه قلعة

(4/124)


بانياس سنة عشرين وخمسمائة، وترك بدمشق خليفة له يدعو الناس إلى مذهبة فكثروا وانتشروا، وملك هو عدّة حصون في الجبال منها القدموس وغيره. وكان بوادي التيم من أعمال بعلبكّ طوائف من المجوس والنصرانيّة والدرزيّة وأميرهم يسمّى الضحّاك، فسار بهرام لقتالهم سنة اثنتين وعشرين، واستخلف على بانياس إسماعيل من أصحابه، ولقيهم الضحّاك في ألف رجل وكبس عسكره فهزمهم وقتله [1] وعاد فلّهم إلى بانياس، فأقام بأمرهم إسماعيل وجمع شملهم وبثّ دعاته في البلاد، وعاضده المزدغاني وزير دمشق وانتصر لهذه الطائفة، وأقام بدمشق خليفة لبهرام اسمه أبو الوفاء فقوي أمره، وكثر أتباعه. واستبدّ على صاحبها تاج الملوك بن طغتكين. ثم ان المزدغاني راسل الفرنج أن يملكهم دمشق على أن يعطوه صور، وتواعدوا ليوم عينوه، ودسّ للإسماعيليّة أن يكونوا ذلك اليوم على أهبة، ونمي الخبر إلى إسماعيل فخاف أن يثور به الناس فأعطى بانياس للفرنج، وانتقل إليهم ومات سنة أربع وعشرين، وكان للإسماعيلية قلاع في تلك الجهات تتصل بعضها ببعض أعظمها قلعة مصيات [2] فسار صلاح الدين لما ملك الشام سنة اثنتين وسبعين إليها وحاصر مصيات وضيّق حصارها، وبعث سنان مقدّم الإسماعيلية إلى خال صلاح الدين بحماة، وهو شهاب الدين الحمادي أن يسأل صلاح الدين في الصلح معهم ويتهدّدونه على ذلك سرا، فسار إلى صلاح الدين وأصلح أمرهم عنده ورحل عنهم.
(بقية الخبر عن قلاع الإسماعيلية بالعراق)
ولم تزل قلاع هؤلاء الإسماعيلية بالعراق عشّا لهذه الغواية، وسفطا لهؤلاء الخباث، منذ ثار بها أحمد بن غطاش والحسن بن الصبّاح، وكان لهذا الحسن مقالات في مذاهب الرافضة غريقة في الغلوّ داخلة من باب الكفر وتسميها الرافضة المقالات الجديدة، ولا يدين بقبولها إلا الغلاة منهم. وقد ذكرها الشهرستاني في كتاب الملل
__________
[1] الضمير يعود الى بهرام
[2] وفي نسخة اخرى مصياف وقد ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان مصياب وهو حصن حصين للإسماعيلية بالساحل الشامي قرب طرابلس، وبعض الناس يقول مصياف.

(4/125)


والنحل فعليك به إن أردت معرفتها. وبقي الملوك يقصدونهم بالجهاد لما اشتهر عنهم من الضّرر بالاغتيال. ولما افترق أمر السلجوقيّة واستبد ايتغمش بالريّ وهمذان، سار إليهم سنة ثلاث وستمائة إلى قلاعهم المجاورة لقزوين فحاصرها، وفتح منها خمس قلاع، واعتزم على حصار قلعة الموت فعرض له ما شغله عن ذلك، ثم زحف إليهم جلال الدين منكبرتي بن علاء الدين خوارزم شاه عند ما رجع من الهند، وملك بلاد أذربيجان وأرمينية، فقتلوا بعض أمرائه بمثل قتلهم فسار إلى بلادهم ودوّخ نواحي الموت وقد مرّ ذكره. وقلاعهم التي بخراسان خرّبها واستباحها قتلا ونهبا وكانوا منذ ظهر التتر قد شرهوا على الجهات فأوقع بهم جلال الدين هذه الواقعة سنة أربع وعشرين وستمائة، وكفحهم عما سموا إليه من ذلك. ولما استفحل أمر التتر سار هولاكو أعوام الخمسين والستمائة من بغداد وخرّب قلاعهم، وزحف الظاهر بعد ذلك إلى قلاعهم التي بالشام فخرّب كثيرا منها وطوّع ما بقي منها، وصارت مصيات وغيرها في طاعته وانقرض أمرهم إلّا مغتالين يستعملهم الملوك في قتل أعدائهم على البعد غدرا، ويسمون الفداويّة أي الذين يأخذون فدية أنفسهم على الاستماتة في مقاصد من يستعملهم. والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن دولة بني الأخيضر باليمامة من بني حسن)
كان موسى الجون بن عبد الله بن حسن المثنّى بن الحسن السبط لما اختفى أخواه محمد وإبراهيم، طالبه أبو جعفر المنصور بإحضارهما فضمن له ذلك. ثم اختفى وعثر عليه المنصور فضربه ألف سوط، فلما قتل أخوه محمد المهدي بالمدينة اختفى موسى الجون إلى أن هلك. وكان من عقبه إسماعيل وأخوه محمد الأخيضر ابنا يوسف بن إبراهيم بن موسى، فخرج إسماعيل في أعراب الحجاز وتسمّى السفّاك سنة إحدى وخمسين ومائتين. ثم قصد مكّة فهرب عاملها جعفر بسباسات، وانتهب منزله ومنازل أصحاب السلطان، وقتل جماعة من الجند وأهل مكّة وأخذ ما كان حمل للإصلاح من المال، وما في الكعبة وخزائنها من الذهب والفضّة، وأخذ كسوة الكعبة وأخذ من الناس نحوا من مائتي ألف دينار. ثم نهبها وأخرق بعضها بعضا، وأقام في ذلك

(4/126)


خمسين يوما. ثم سار إلى المدينة فتوارى عاملها وحاصرها حتى مات أهلها جوعا، ولم يصلّ أحد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصل عساكر المعتزّ إلى المدينة فأفرج عنها ورجع إلى مكّة وحاصرها حتى جهدها الحصار، ورحل بعد مقامة شهرين إلى جدة فأخذ أموال التجّار ونهب ما في مراكبهم ورجع إلى مكّة، وقد وصل إليها محمد بن عيسى بن المنصور وعيسى بن محمد المخزومي بعثهما المعتز لقتاله فتواقعوا بعرفة، واقتتلوا وقتل من الحاج نحو ألف، وسلبوا الناس وهربوا إلى مكّة، وبطل الموقف إلا إسماعيل وأصحابه وخطب لنفسه. ثم رجع إلى جدّة واستباحوها [1] ثانية. ثم هلك لسنة من خروجه بالجدري آخر سنة اثنتين وخمسين أيام حرب المستعين والمعتز. وكان يتردّد بالحجاز منذ اثنتين وعشرين سنة، ومات ولم يعقب، وولي مكانه أخوه محمد الأخيضر وكان أسنّ منه بعشرين سنة، ونهض إلى اليمامة فملكها، واتخذ قلعة الحصرميّة، وكان له من الولد محمد وإبراهيم وعبد الله ويوسف. وهلك فولي بعده ابنه يوسف، وأشرك ابنه إسماعيل معه في الأمر مدّة حياته. ثم هلك وانفرد إسماعيل بملك اليمامة وكان له من الإخوة الحسن وصالح ومحمد بنو يوسف. فلما هلك إسماعيل ولي من بعده أخوه الحسن، وبعده ابنه أحمد بن الحسن. ولم يزل ملكها فيهم إلى أن غلب عليهم القرامطة، وانقرض أمرهم والبقاء للَّه. وكان بمدينة غانة من بلاد السودان بالمغرب مما يلي البحر المحيط ملك بني صالح، ذكرهم صاحب كتاب زجار في الجغرافيا. ولم نقف على نسب صالح هذا من خبر يعوّل عليه. وقال بعض المؤرخين أنه صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله الملقّب أبا الكرام بن موسى الجون، وأنه خرج أيام المأمون بخراسان، وحمل إليه وحبسه وابنه محمد من بعده، ولحق بنوه بالمغرب فكان لهم ملك في بلد غانة. ولم يذكر ابن حزم في أعقاب موسى الجون صالحا هذا بهذا النسب، ولعلّه صالح الّذي ذكرناه آنفا في ولد يوسف بن محمد الأخيضر والله أعلم.
__________
[1] الأصح ان يقول: ثم رجعوا واستباحوها، أو ثم رجع- ويعني إسماعيل- واستباحها.

(4/127)


(الخبر عن دولة السليمانيين من بني الحسن بمكة ثم بعدها باليمن ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم)
مكّة هذه أشهر من أن نعرّف بها أو نصفها، إلا أنه لمّا انقرض سكانها من قريش بعد المائة الثانية بالفتن الواقعة بالحجاز من العلويّة مرّة بعد أخرى، فأقفرت من قريش ولم يبق بها إلا أتباع بني حسن أخلاط من الناس، ومعظمهم موال سود من الحبشة والديلم. ولم يزل العمّال عليها من قبل بني العبّاس وشيعتهم والخطبة لهم إلى أن اشتغلوا بالفتن أيام المستعين والمعتز وما بعدهما، فحدثت الرئاسة فيها لبني سليمان ابن داود بن حسن المثنّى بن الحسن السبط. وكان كبيرهم آخر المائة الثانية محمد بن سليمان وليس هو سليمان بن داود لأنّ ذلك ذكره ابن حزم أنه قام بالمدينة أيام المأمون، وبين العصرين نحو من مائة سنة، سنة إحدى وثلاثمائة أيام المقتدر، وخلع طاعة العبّاسية، وخطب في الموسم فقال: الحمد للَّه الّذي أعاد الحق إلى نظامه، وأبرز زهر الإيمان من أكمامه، وكمّل دعوة خير الرسل بأسباطه لا بني أعمامه صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وكفّ عنّا ببركته أسباب المعتدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم الدين، ثم أنشد:
لأطلبن بسيفي ... ما كان للحقّ دينا
وأسطونّ بقوم ... بغوا وجاروا علينا
يعدون كل بلاد ... من العراق علينا
وكان يلقّب بالزبيدي نسبة إلى نحلته من مذاهب الإمامية، وبقي ركب العراق يتعاهد مكة إلى أن اعترضه أبو طاهر القرمطيّ سنة اثنتي عشرة، وأسر أبا الهيجاء بن حمدان والد سيف الدولة وجماعة معه، وقتل الحجّاج وترك النساء والصبيان بالقفر فهلكوا، وانقطع الحاج من العراق بسبب القرامطة. ثم أنفذ المقتدر سنة سبع عشرة منصور الديليّ من مواليه فوافاه يوم التروية بمكّة أبو طاهر القرمطي فنهب الحاج، وقتلهم حتى في الكعبة والحرم، وامتلأ زمزم بالقتل، والحجّاج يصيحون: كيف يقتل جيران الله؟ فيقول: ليس بجار من خالف أوامر الله ونواهيه. ويتلو: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية. وكان يخطب لعبيد الله المهدي صاحب إفريقية. ثم قلع الحجر الأسود وحمله إلى الأحساء وقلع باب البيت وحمله، وطلع رجل يقلع

(4/128)


الميزاب فسقط ومات، فقال: اتركوه فإنه محروس حتى يأتي صاحبه يعني المهدي، فكتب إليه ما نصّه: والعجب من كتبك إلينا ممتنا علينا بما ارتكبته واجترمته باسمنا من حرم الله وجيرانه بالأماكن التي لم تزل الجاهلية تحرّم إراقة الدماء فيها، وإهانة أهلها. ثم تعدّيت ذلك وقلعت الحجر الّذي هو يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، وحملته إلى أرضك، ورجوت أن نشكرك فلعنك الله ثم لعنك والسلام على من سلم المسلمون من لسانه ويده، وفعل في يومه ما عمل فيه حساب غده انتهى.
فانحرفت القرامطة عن طاعة العبيديّين لذلك. ثم قتل المقتدر على يد مؤنس سنة عشرين وثلاثمائة وولي أخوه القاهر، وحجّ بالناس أميره تلك السنة. وانقطع الحج من العراق بعدها إلى أن كاتب أبو علي يحيى الفاطمي سنة سبع وعشرين من العراق أبا طاهر القرمطي أن يطلق السبيل للحجّاج على مكس [1] يأخذه منهم. وكان أبو طاهر يعظّمه لدينه ويؤمّله فأجابه إلى ذلك، وأخذ المكس من الحجّاج ولم يعهد مثله في الإسلام. وخطب في هذه السنة بمكة للراضي بن المقتدر. وفي سنة تسع وعشرين لأخيه المقتفي من بعده. ولم يصل ركب العراق في هذه السنين من القرامطة. ثم ولي المستكفي بن المكتفي سنة ثلاث وثلاثين على يد توروز أمير الأمراء ببغداد فخرج الحاج في هذه السنة لمهادنة القرامطة بعد أبي طاهر. ثم خطب للمطيع بن المقتدر بمكّة مع معزّ الدولة سنة أربع وثلاثين عند ما استولى معزّ الدولة ببغداد وقلع عين المستكفي واعتقله. ثم تعطّل الحاج بسبب القرامطة وردّوا الحجر الأسود سنة تسع وثلاثين بأمر المنصور العلويّ صاحب إفريقية وخطابه في ذلك لأميرهم أحمد بن أبي سعيد. ثم جاء الحاج إلى مكّة سنة اثنتين وأربعين مع أمير من العراق، وأمير من مصر، فوقعت الحرب بينهما على الخطبة لابن بويه ملك العراق، أو ابن الإخشيد صاحب مصر، فانهزم المصريون وخطب لابن بويه، واتصل ورود الحاج من يومئذ. فلما كانت سنة ثمان وأربعين وجاء الحاج من بغداد ومصر كان أمير الحاج من العراق ومحمد بن عبيد الله [2] فأجابه إلى ذلك. ثم جاء إلى المنبر مستعدا وأمر بالخطبة لابن
__________
[1] مكس: ج مكوس وهي الضريبة.
[2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 509: «وفيها- 343- وقعت الحرب بمكة بين أصحاب معزّ الدولة وأصحاب ابن طغج من المصريين فكانت الغلبة لأصحاب معز الدولة، فخطب بمكة والحجاز لركن الدولة ومعز الدولة وولده عز الدولة بختيار وبعدهم لابن طغج.» ابن خلدون م 9 ج 4

(4/129)


بويه فوجم الآخر، وتمت عليه الحيلة وعاقبه أميره كافور. ويقال قتله ووقع ابن بويه لمحمد بن عبيد الله باتصال إمارته على الحاج. ولما كانت سنة ست وخمسين وصل بركب العراق أبو أحمد الموسوي نقيب الطالبيّين، وهو والد الشريف الرضي ليحجّ بالناس، ونهب بنو سليم حاج مصر وقتل أميرهم. وفي سنة ست وخمسين حجّ بالناس أبو أحمد المذكور وخطب بمكة لبختيار بعد موت أبيه معزّ الدولة والخليفة يومئذ المطيع. واتصل حجّ [1] أبي أحمد بركب العراق. وفي سنة ثلاث وخمسين خطب للقرمطي بمكّة، فلما قتل أحمد وقعت الفتنة بين أبي الحسن القرمطي [2] وخلغ طاعة العبيديّين وخطب للمطيع. وبعث إليه بالرايات السود، ونهض إلى دمشق فقتل جعفر بن فلاح قائد العلويّين، وخطب للمطيع. ثم وقعت الفتنة بين أبي الحسن وبين جعفر، وحصلت بينهم دماء، وبعث المعز العلويّ من أصلح بينهم، وجعل دية القتلى الفاضلة في مال المعز، وهلك بمصر أبو الحسن فولي أخوه عيسى. ثم ولي بعده أبو الفتوح الحسن بن جعفر سنة أربع وثمانين. ثم جاءت عساكر عضد الدولة ففرّ الحسن بن جعفر إلى المدينة. ولما مات العزيز بالرملة وعاد بنو أبي طاهر وبنو أحمد بن أبي سعيد إلى الفتنة فجاء من قبل الطائع أمير علويّ إلى مكة، وأقام له بها خطبة. وفي سنة سبع وستين بعث العزيز من مصر باديس بن زيري الصنهاجي وهو أخو بلّكين صاحب إفريقية أميرا على الحاج، فاستولى على الحرمين وأقام له الخطبة، وشغل عضد الدولة في العراق بفتنة بختيار ابن عمّه فبطل ركب العراق. ثم عاد في السنة بعدها وخطب لعضد الدولة أبو أحمد الموسوي، وانقطعت بعدها خطبة العبّاسيين عن مكة، وعادت لخلفاء مصر العبيديّين إلى حين من الدهر. وعظم شأن أبي الفتوح واتصلت إمارته في مكة، وكتب إليه القادر سنة ست وتسعين في الإذن لحاج العراق فأجابه على أنّ الخطبة للحاكم صاحب مصر.
وبعث الحاكم إلى ابن الجرّاح أمير طيِّئ باعتراضهم، وكان على الحاج الشريف الرضي وأخوه المرتضى، فلاطفهم ابن الجرّاح وخلّى سبيلهم على أن لا يعودوا. ثم
__________
[1] مقتضى السياق: ركب
[2] العبارة مبتورة وغير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 612 وفي حوادث 359 هـ: «وفيها كانت الخطبة بمكة للمطيع للَّه والقرامطة الهجريّين، وخطب بالمدينة للمعز لدين الله العلويّ، وخطب ابو أحمد الموسوي والد الشريف الرضي خارج المدينة للمطيع للَّه» .

(4/130)


اعترض حاج العراق سنة أربع وتسعين الأصيغر الثعلبيّ عند ما ملك الجزيرة فوعظه قارئان كانا في الركب. ثم اعترضهم في السنة بعدها أعراب خفاجة ونهبوهم. وسار في طلبهم عليّ بن يزيد أمير بني أسد فأوقع بهم سنة اثنتين وأربعمائة. ثم عادوا إلى مثل ذلك من السنة بعدها فعاد عليّ بن يزيد وأوقع بهم، وسما له بذلك ذكر، وكان سببا لملكه وملك قومه. ثم كتب الحاكم سنة اثنتين وأربعين إلى عمّاله بالبراءة من أبي بكر وعمر، ونكر ذلك أبو الفتوح أمير مكّة، وانتقض له وحمل الوزير أبو القاسم المغربي على طلب الأمر لنفسه. وكان الحاكم قتل أباه وأعمامه فخطب أبو الفتوح لنفسه، وتلقّب الراشد باللَّه، وسار الى مدينة الرملة لاستدعاء ابن الجرّاح أمير طيِّئ لمغاضبة بينه وبين الحاكم. ثم سرّب الحاكم أمواله في بني الجرّاح فانتقضوا على أبي الفتوح وأسلموه، وفرّ الوزير المغربي إلى ديار بكر من أرض الموصل ومعه ابن سبابة.
وفرّ التهامي إلى الري وكان معه. وقطع الحاكم الميرة عن الحرمين، ثم راجع أبو الفتوح الطاعة فعفا عنه الحاكم وأعاده إلى إمارته بمكّة. ولم يحج من العراق في هذه السنين أحد. وفي سنة اثنتي عشرة حجّ بأهل العراق أبو الحسن محمد بن الحسن الأفساسي فقيه الطالبيّين، واعترضهم بنو نبهان من طيِّئ، وأميرهم حسّان بن عديّ، وقاتلوهم فهزموهم وقتل أميرهم حسّان. وخطب في هذه السنة للظاهر بن الحاكم بمكّة ولما كان الموسم سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ضرب رجل من قوم مصر الحجر الأسود بدبوس فصدعه وثلمه، وهو يقول: كم تعبد كم تقبل [1] فتبادر إليه الناس فقتلوه، وثار أهل العراق بأهل مصر فنهبوهم وفتكوا فيهم. ثم حجّ بركب العراق سنة أربع عشرة النقيب بن الأفساسي وخشي من العرب، فعاد إلى دمشق الشام، وحجّ في السنة التي بعدها وبطل حجّ العراق. ولمّا بويع القائم العبّاسي سنة اثنتين وعشرين رام أن يجهّز الحاج فلم يقدر لاستيلاء العرب وانحلال أمر بني بويه. ثم خطب بمكة للمستنصر بن الظاهر. ثم توفي الأمير أبو الفتوح الحسن بن جعفر بن محمد ابن سليمان رئيس مكّة وبني سليمان، سنة ثلاثين وأربعمائة لأربعين سنة من إمارته وولي، بعده إمارة مكّة ابنه شكر، وجرت له مع أهل المدينة خطوب ملك في أثنائها المدينة وجمع بين الحرمين وعليه انقرض دولة بني سليمان سنة ثلاثين بمكة،
__________
[1] هكذا الأصل وفي الكامل ج 9 ص 332: «إلى متى يعبد الحجر الأسود، ومحمد وعلي؟ فليمنعني مانع من هذا، فاني أريد ان أهدم البيت!»

(4/131)


وجاءت دولة الهواشم كما يذكر. وشكر هذا هو الّذي يزعم بنو هلال بن عامر أنه تزوّج الجازية بنت سرحان من أمراء الأثبج منهم، وهو خبر مشهور بينهم في أقاصيصهم، وحكايات يتناقلونها ويطرّزونها بأشعار من جنس لغتهم ويسمونه الشريف بن هاشم. وقال ابن حزم غلب جعفر بن أبي هاشم على مكة أيام الإخشيديّين وولي بنوه من بعده عيسى بن جعفر، وأبو الفتوح وابنه شكر بن أبي الفتوح. وقد انقرض لأنّ شكرا لم يولد له، وصار أمر مكة إلى عبد كان له. انتهى كلام ابن حزم وليس أبو هاشم الّذي نسب جعفر إليه أبا الهواشم الّذي يأتي ذكرهم لأن هذا كان أيام الإخشيديّين وذلك أيام المستضيء العبيدي وبينهما نحو من مائة سنة.