وأعياه أمره وصار ينتقل في البلاد ويهزم
العساكر وكان سكن بحصن شيطران من جبال بلنسية فسار إليه عبد الرحمن
سنة ست وخمسين واستخلف على قرطبة ابنه سليمان فأتاه الخبر بعصيان
أهل إشبيليّة وثورة عبد الغفّار، وحيوة بن قلاقس مع اليمانية فرجع
عن شقنا، وهاله أمر إشبيليّة. وقدم عبد الملك بن عمر لقتالهم
فساروا إليه ولقيهم مستميتا فهزمهم وأثخن فيهم. ولحق بعبد الرحمن
فشكرها له وجزاه خيرا ووصله بالصهر وولّاه الوزارة، ونجا عبد
الغفّار وحيوة بن قلاقس إلى إشبيليّة، فسار عبد الرحمن سنة سبع
وخمسين إليها فقتلهم وقتل خلقا ممن كان معهم، واستراب من يومئذ
بالعرب فرجع إلى اصطناع القبائل من سواهم واتخاذ الموالي. ولما
كانت سنة إحدى وستين غدر بشقنا رجلان من أصحابه وجاء برأسه إلى عبد
الرحمن. ثم سار عبد الرحمن بن حبيب الفهريّ المعروف بالقلعي من
إفريقية إلى الأندلس مظهرا للدعوة العبّاسيّة، ونزل بتدمير، واجتمع
إليه البربر. وكان سليمان بن يقظان عاملا على برشلونة فكتب إليه
يدعوه إلى أمره فلم يجبه فسار إليه في البربر، ولقيه سليمان فهزمهم
وعاد إلى تدمير وزحف إليه عبد الرحمن من قرطبة، فاعتصم بجبل بلنسية
فبذل عبد الرحمن فيه الأموال فاغتاله رجل من أصحابه البربر، وحمل
رأسه إلى عبد الرحمن وذلك سنة اثنتين وستين. ورجع عبد الرحمن إلى
قرطبة. ثم خرج دحية الغسّاني في بعض حصون البيرة، فبعث إليه شهيد
بن عيسر فقتله، وخالف البربر وعليهم بحرة بن البرانس، فبعث بدرا
مولاه فقتله وفرّق جموعهم. وفرّ القائد السلمي من قرطبة الى طليطلة
وعصى بها فبعث حبيب بن عبد الملك، وحاصره فهلك في الحصار. وزحف عبد
الرحمن سنة اربع وستين إلى سرقسطة وبها سليمان بن يقظان والحسين بن
عاصي، وقد حاصرهما ثعلبة بن عبيد من قوّاده فامتنعت عليه، وقبض
سليمان على ثعلبة وبعث إلى ملك الفرنج فجاء وقد تنفّس عنه الحصار
فدفع إليه ثعلبة. ثم غلب الحسين على سليمان وقتله، وانفرد فحاصره
عبد الرحمن حتى صالحه وسار إلى بلاد الفرنج والبشكنس ومن وراءهم من
الملوك، ورجع إلى وطنه وغدر الحسين بسرقسطة، فسار إليه عامله ابن
علقمة فأسر أصحابه، ثم سار إليه عبد الرحمن سنة ست وستين وملكها
عنوة وقتل الحسين وقتل أهل سرقسطة. ثم خرج سنة ثمان وستين أبو
الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن فلقيه بقسطلونة وهزمه، وأثخن في
أصحابه. ثم لقيه ثانية سنة تسع وستين فهزمه، ثم هلك سنة سبعين في
(4/158)
أعمال طليطلة وقام مكانه أخوه قاسم وغزاه
عبد الرحمن فحاصره فجاء بغير أمان فقتله. ثم توفي عبد الرحمن سنة
اثنتين وسبعين ومائة لثلاثة وثلاثين سنة من إمارته.
(وفاة عبد الرحمن الداخل وولاية ابنه
هشام)
ولما هلك عبد الرحمن كان ابنه الأكبر سليمان واليا على طليطلة،
وكان ابنه هشام على ماردة، وكان قد عهد له بالأمر. وكان ابنه عبد
الله المسكين حاضرا بقرطبة فأخذ البيعة لأخيه هشام وبعث إليه
بالخبر فسار إلى قرطبة، وقام بالدولة وغصّ بذلك أخوه سليمان فأظهر
الخلاف بطليطلة، ولحق به أخوه عبد الله وبعث هشام في أثره فلم
يلحق. وسار هشام في العساكر فحاصرهم بطليطلة وخالفه سليمان إلى
قرطبة فلم يظفر بشيء منها وبعث هشام بن عبد الملك في أثره فقصد
ماردة فحاربه عامله وهزمه الله بغير أمان ودخل في طاعته فأكرمه. ثم
بعث سنة أربع وسبعين ابنه معاوية لحصار أخيه سليمان بتدمير فدوّخ
نواحيها، وهرب سليمان الى جبال بلنسية فاعتصم بها، ورجع معاوية إلى
أبيه بقرطبة. ثم طلب سليمان العبور الى عدوة البربر بأهله وولده
فأجازه هشام وأعطاه ستين ألف دينار صلحا على تركة أبيه. وأقام
بعدوة المغرب وسار معه أخوه عبد الله. ثم خرج على هشام سعيد بن
الحسين بن يحيى الأنصاري بطرسوسة من شرق الأندلس وكان قد التجأ
إليها حين قتل أبوه. ودعي إلى اليمانية فملكها، وأخرج عاملها يوسف
العبسيّ فعارضه موسى بن فرقوق في المضريّة بدعوة هشام، وخرج أيضا
مطروح بن سليمان بن يقظان بمدينة برشلونة، وملك مدينة سرقسطة
وواشقة، وكان هشام في شغل بأمر أخويه، فلما فرغ منهما بعث أبا
عثمان عبيد الله بن عثمان بالعساكر إلى مطروح فحاصره بسرقسطة
أياما، ثم أفرج عنه ونزل بطرسوسة قريبا وأقام بتحيفة، ثم غدر
بمطروح بعض أصحابه وجاء برأسه إلى أبي عثمان، فبعث به إلى هشام
وسار إلى سرقسطة فملكها. ثم دخل إلى دار الحرب غازيا، وقصد ألبة
والقلاع فلقي العدوّ وظفر بهم، وفتح الله عليه وذلك سنة خمس
وسبعين، وبعث هشام العساكر مع يوسف بن نحية إلى جلّيقة فلقي ملكها
ابن مند وهزمه وأثخن في العدوّ. وفي هذه السنة دخل أهل طليطلة في
طاعة الأمير هشام بعد منصرف أخويه عنهم فقبلهم، وأمّنهم وبعث عليها
ابنه الحكم واليا فضبطها وأقام
(4/159)
بها. وفي سنة ست وسبعين ومائة بعث هشام
وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث لغزاة العدو فبلغ ألبة
والقلاع وأثخن في نواحيها. ثم بعثه في العساكر إلى أربونة [1]
وجرندة فأثخن فيهما ووطئ أرض سلطانية، وتوغّل في بلادهم ورجع
بالغنائم التي لا تحصى واستمدّ الطاغية بالبشكنس وجيرانه من الملوك
فهزمهم عبد الملك، ثم بعث بالعساكر مع عبد الكريم بن عبد الواحد
إلى بلاد جلّيقة فأثخنوا في بلاد العدوّ وغنموا ورجعوا. وفي هذه
السنة هاجت فتنة بتاكدنا وهي بلاد رندة من الأندلس، وخلع البربر لك
الطاعة فبعث إليهم هشام بن عبد القادر بن أبان بن عبد الله مولى
معاوية بن أبي سفيان فأبادهم، وخرّب بلادهم وفرّ من بقي منهم
فدخلوا في القبائل وبقيت تاكدنا قفراء خالية سبع سنين. وفي سنة تسع
وسبعين بعث هشام الحاجب عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث في
العساكر إلى جليقة فانتهى إلى ميورقة [2] فجمع ملك الجلالقة
واستمدّ بالملوك، ثم خام عن اللقاء ورجع أدراجه، وأتبعه عبد الملك
وتوغّل في بلادهم وكان هشام قد بعث الجيوش من ناحية أخرى فالتقوا
بعبد الملك وأثخنوا في البلاد واعترضهم عسكر الإفرنج فنالوا منهم
بعض الشيء ثم خرجوا ظافرين سالمين.
(وفاة هشام وولاية ابنه الحكم)
ثم توفي هشام بن عبد الرحمن سنة ثمانين ومائة لسبع سنين من إمارته
وقيل ثمان سنين، وكان من أهل الخير والصلاح، وكان كثير الغزو
والجهاد، وهو الّذي أكمل بناء الجامع بقرطبة الّذي كان أبوه شرع
فيه، وأخرج المصرف لآخذي الصدقة على الكتاب والسنّة. ولما مات ولي
ابنه الحكم بعده فاستكثر من المماليك وارتباط الخيل، واستفحل ملكه
وباشر الأمور بنفسه. ولأوّل ولايته أجاز ابنه عبد الله البلنسي من
__________
[1] أربونة: بفتح أوله ويضم، ثم السكون، وضم الباء الموحدة، وسكون
الواو، ونون وهاء: بلد في طرف الثغر من ارض الأندلس، بينها وبين
قرطبة على ما ذكره ابن الفقيه، ألف ميل (معجم البلدان) .
[2] ميورقة: بالفتح ثم الضم، وسكون الواو والراء يلتقي فيه ساكنان،
وقاف: جزيرة في شرقي الأندلس بالقرب منها جزيرة يقال لها منورقة.
(معجم البلدان) .
(4/160)
عدوة المغرب فملك بلنسية، ثم أخوه سليمان
من طنجة فحاربهما الحكم سنة ثم ظفر بعمّه سليمان فقتله سنة أربع
وثمانين. وأقام عبد الله ببلنسية وكفّ عن الفتنة وأرسل الحكم في
الصلح على يد يحيى بن يحيى الفقيه وغيره فصالحه سنة ست وثمانين.
وفي خلال الفتنة مع عمّيه سليمان وعبد الله اغتنم الفرنج الفرصة
واجتمعوا وقصدوا برشلونة فملكوها سنة خمس وثمانين، وتأخرت عساكر
المسلمين إلى ما دونها. وبعث الحكم العساكر إلى برشلونة مع الحاجب
عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الجلالقة فأثخن فيها وخالفهم العدو
إلى المضايق فرجع إلى التعبية وظفر بهم، ورجع إلى بلاد الإسلام
ظافرا. وفي سنة إحدى وثمانين ثار البهلول بن مرزوق بناحية الثغر،
وملك سرقسطة، وفيها جاء عبد الله البلنسيّ عمّ الحكم كما ذكرناه.
وفي هذه السنة خالف عبيدة بن عمير بطليطلة، وكان القائد عمروس بن
يوسف من قوّاد الحكم بطلبيرة فكتب إلى هشام بحصارهم فحاصرهم. ثم
استمال بني مخشي من أهل طليطلة فقتلوا عبيدة وبعثوا برأسه إلى
عمروس فبعث به إلى الحكم، وأنزل بني مخشي عنده فقتلهم البربر
بطلبيرة بثأر كاتب لهم، وقتل عمروس والباقين واستقامت تلك الناحية.
واستعمل عمروس ابنه يوسف على مدينة طليطلة ولحق بالفرنج سنة تسع
وثمانين بعض أهل الحرابة، وأطمعوا الفرنج في ملك طليطلة فزحفوا
إليها وملكوها وأسروا أميرها يوسف وحبسوه بصخرة قيسر [1] ، وسار
عمروس من فوره إلى سرقسطة ليحميها من العدوّ، وبعث العساكر مع ابن
عمّه، فلقي العدوّ وهزمهم وسار إلى صخرة قيسر وقد وهن الفرنج من
الهزيمة فافتتحها، وبعث عمروس نائبة وخلّص يوسف وعظم صيته.
(وقعة الربض)
كان الحكم في صدر ولايته قد انهمك في لذّاته، واجتمع أهل العلم
والورع بقرطبة مثل يحيى بن يحيى الليثي وطالوت الفقيه وغيرهما
فثاروا به، وامتنع فخلعوه وبايعوا
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 187: «وكان قد انهزم من الحكم
أهل بيت من الأندلس، أولوه قوة وبأس، لأنهم خرجوا عن طاعته،
فالتحقوا بالمشركين فقوي أمرهم، واشتدت شوكتهم، وتقدموا الى مدينة
تطيلة فحصروها وملكوها من المسلمين فأسروا أميرها يوسف بن عمروس
وسجنوه بصخرة قيس.
ابن خلدون م 11 ج 4
(4/161)
محمد بن القاسم من عمومة هشام. وكان بالربض
الغربي من قرطبة محلّة متصلة بقصره، وحصروه سنة تسعين ومائة
وقاتلهم فغلبهم وافترقوا، وهدم دورهم ومساجدهم ولحقوا بفاس من أرض
العدوة، ولحقوا بالإسكندريّة، ونزل بها منهم جمع وثاروا بها، فزحف
إليهم عبد الله بن طاهر صاحب مصر وافتتحها وأجازهم إلى جزيرة
أقريطش كما مرّ. وكان مقدّمهم أبا حفص عمر البلّوطي، فلم يزل رئيسا
عليهم وولده من بعده إلى أن ملكها الفرنج من أيديهم.
(وقعة الحفرة بطليطلة)
كان أهل طليطلة يكثرون الخلاف ونفوسهم قويّة لحصانة بلدهم، فكانت
طاعتهم ملتانة [1] فأعيا الحكم أمرهم واستقدم عمروس بن يوسف من
الثغر، وكان أصله من أهل مدينة وشقة من المولّدين، وكان عاملا
عليها فداخله في التدبير على أهل طليطلة، وكتب له بولايتها فأنسوا
به واطمأنوا إليه. ثم داخلهم في الخلع وأشار عليهم ببناء مدينة
يعتزل فيها مع أصحاب السلطان فوافقوه، وأمضى رأيه في ذلك. ثم بعث
صاحب الأعلى [2] إلى الحكم يستنجده على العدوّ فبعث العساكر مع
ابنه عبد الرحمن والوزراء، ومرّوا بطليطلة ولم يعرض عبد الرحمن
لدخولها. ثم رجع العدوّ وكفى الله شره، فاعتزم عبد الرحمن على
العود إلى قرطبة فأشار عمروس عند ذلك على أهل طليطلة بالخروج إلى
عبد الرحمن فخرج إليه الوجوه وأكرمهم، ودسّ خادم الحكم كتابه إلى
عمروس بالحيلة على أهل طليطلة، فأشار عليهم عمروس بأن يدخلوا عبد
الرحمن البلد، وأنزله بداره واتخذ صنيعا للناس واستعد له [3] على
موعد لذلك فكان يدخلهم من باب ويخرجهم من آخر خشية الزحام فيدخلون
إلى حفرة في القصر وتضرب رقابهم عليها إلى أن قتل معظمهم وفطن
الباقون فنفروا وحسنت طاعتهم من بعد ذلك، إلى أيام الفتنة كما
نذكر، ثم عصى أصبغ بن عبد الله
__________
[1] لعله يعني ملتوية أي غير مرضية.
[2] هو الثغر الأعلى كما في الكامل.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 200: «وأشاع عمروس ان عبد الرحمن
يريد ان يتخذ لهم وليمة عظيمة وشرع في الاستعداد لذلك، وواعدهم
يوما ذكره» .
(4/162)
بماردة وأخرج عامل الحكم فسار إليه الحكم
وحاصره وجاءه الخبر بعصيان أهل قرطبة فرجع وقتلهم. ثم استنزل أصبغ
من بعد ذلك وأنزله قرطبة. وفي سنة اثنتين وتسعين جمع لزريق بن قار
له ملك الفرنج وسار لحصار طرسوسة [1] فبعث الحكم ابنه عبد الرحمن
في العساكر فهزمه وفتح الله على المسلمين. ثم عاود أهل ماردة
الخلاف عن الحكم سنة أربع وتسعين فسار إليهم وقاتلهم ثلاث سنين.
وكثر عيث الفرنج في الثغور فسار إليهم سنة ست وتسعين فافتتح
الحصون، وخرّب النواحي وأثخن في القتل والسبي والنهب وعاد إلى
قرطبة ظافرا. وفي سنة مائتين بعث الحكم العساكر مع الحاجب عبد
الكريم بن مغيث إلى بلاد الفرنج فسار فيها وخرّبها ونهبها وهدم
عدّة من حصونها، وأقبل إليه ملك الجلالقة في جموع عظيمة وتنازلوا
على نهر واقتتلوا عليه أياما، ونال المسلمون منهم أعظم النيل،
وأقاموا على ذلك ثلاث عشرة ليلة، ثم كثرت الأمطار ومدّ النهر وقفل
المسلمون ظافرين.
(وفاة الحكم وولاية ابنه عبد الرحمن
الأوسط)
ثم توفي الحكم بن هشام آخر سنة ست ومائتين لسبع وعشرين سنة من
ولايته، وهو أوّل من جنّد بالأندلس الأجناد والمرتزقة، وجمع
الأسلحة والعدد، واستكثر من الحشم والحواشي، وارتبط الخيول على
بابه واتّخذ المماليك، وكان يسمّيهم الخرس لعجمتهم، وبلغت عدّتهم
خمسة آلاف، وكان يباشر الأمور بنفسه، وكانت له عيون يطالعونه
بأحوال الناس. وكان يقرّب الفقهاء والعلماء والصالحين، وهو الّذي
وطأ الملك لعقبه بالأندلس. ولما مات قام بأمره من بعده ابنه عبد
الرحمن فخرج عليه لأوّل إمارته عبد الله البلنسي عمّ أبيه، وسار
إلى تدمير يريد قرطبة فتجهّز له عبد الرحمن فحام عن اللقاء، ورجع
إلى بلنسية ومات أثر ذلك فنقل عبد الرحمن ولده وأهله إلى قرطبة. ثم
غزا لأوّل ولايته إلى جليقة فأبعد وأطال الغيبة وأثخن في أمم
__________
[1] لعلها طرسونة أو طرطوشة: الاولى: مدينة بالأندلس بينها وبين
تطيلة اربعة فراسخ، معدودة في أعمال تطيلة يسكنها العمال ومقاتلة
المسلمين. أما طرطوشة: مدينة بالأندلس تتصل بكورة بلنسية وهي شرقي
بلنسية وقرطبة، قريبة من البحر متقنة العمارة مبينة على ابره (معجم
البلدان) والمدينة المقصودة هنا هي طرطوشة كما في الكامل لابن
الأثير ج 6 ص 202.
(4/163)
النصرانية هنالك ورجع. وقدم عليه سنة ست
ومائتين من العراق زرآب المغنّي مولى المهدي ومعلم إبراهيم
الموصلي، واسمه علي بن نافع فركب لتلقيه وبالغ في إكرامه، وأقام
عنده بخير حال، وأورث صناعة الغناء بالأندلس وخلف ولده مخلفة
كبيرهم عبد الرحمن في صناعته وحظوته. وفي سنة سبع كانت وقعة بالثغر
كان الحكم قد قبض على عاملها ربيع، وصلبه حيّا لما بلغه من ظلمه،
وهلك الحكم أثر ذلك فتوافى المتظلّمون من ربيع إلى قرطبة يطلبون
ظلاماتهم، ومعظمهم جند البيرة ووقفوا بباب القصر وشغبوا، وبعث عبد
الرحمن من يسكتهم فلم يقبلوا فركبت العساكر إليهم وأوقعوا بهم ونجا
الفلّ منهم إلى البيرة وبالشر، وتتبعهم عبد الرحمن. وفي هذه السنة
نشأت الفتنة بين المضريّة واليمانيّة واقتتلوا، فهلك منهم نحو من
ثلاثة آلاف وبعث عبد الرحمن إليهم يحيى بن عبد الله بن خالد في جيش
كثيف ليكفّهم عن الفتنة فكفّوا عن القتال لما أحسوا بوصوله. ثم
عاودوا الحرب عند مغيبه، وأقاموا على ذلك سبع سنين. وفي سنة ثمان
ومائتين أغزا حاجبه عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى ألبة
والقلاع فخرّب كثيرا من البلاد وانتسفها، وفتح كثيرا من حصونهم
وصالح بعضا على الجزية واطلاق أسرى المسلمين، وانصرف ظافرا وفي سنة
ثلاث عشرة انتقض عليه أهل ماردة وقتلوا عامله فبعث إليهم العساكر
فافتتحوها وعاودوا الطاعة وأخذوا رهائنهم وخرّبوا سورها، ورجعوا
عنهم. ثم أمر عبد الرحمن بنقل حجارة السور إلى النهر فعاودوا
الخلاف وأسروا العامل وأصلحوا سورهم فسار إليهم عبد الرحمن سنة
أربع عشرة ومائتين وحاصرهم فامتنعوا عليه. ثم بعث العساكر سنة سبع
عشرة فحاصرها فامتنعوا ثم حاصرها سنة عشرين وافتتحها ونجا فلّهم مع
محمود ابن عبد الجبّار منهم إلى منت شلوط فاعتصم بها سنة عشرين
ومائتين، فبعث عبد الرحمن العساكر لحصاره فلحق بدار الحرب واستولى
على حصن من حصونهم أقام به خمسة أعوام حتى حاصره أدفونش ملك
الجلالقة، وافتتح الحصن وقتل محمودا وجميع أصحابه سنة خمس وعشرين.
وفي سنة خمس عشرة خرج بمدينة طليطلة هاشم الضرّاب من أهل واقعة
الربض واشتدّت شوكته واجتمعت له الخلق وأوقع بأهل شنت بريّة، فبعث
عبد الرحمن العساكر لقتاله فلم يصيبوا منه، ثم بعث عساكر أخرى
فقاتلوه بنواحي دورقة فهزموه وقتل هو وكثير من أصحابه واستمرّ أهل
طليطلة على الخلاف. وبعث عبد الرحمن ابنه أمية لحصارها فحاصرها
مدّة ثم أفرج
(4/164)
عنها ونزل قلعة رياح وبعث عسكرا للاغارة
عليها وكان أهل طليطلة قد خرجوا في اتباعه الى قلعة رياح فكمن لهم
فأوقعوا به فاغتم لذلك، وهلك لأيام قليلة. وبعث عبد الرحمن العساكر
لحصارها ثانيا فلم يظفروا، وكمن المغيرون عليها بقلعة رياح
يعاودونها بالحصار كل حين. ثم بعث عبد الرحمن أخاه الوليد في
العساكر سنة اثنتين وعشرين لحصارها، وقد أشرفوا على الهلكة، وضعفوا
عن المدافعة فاقتحمها عنوة وسكن أهلها وأقام إلى آخر ثلاث وعشرين
ورجع. وفي سنة أربع وعشرين بعث عبد الرحمن قريبه عبيد الله بن
البلنسي في العساكر لغزو بلاد ألبة والقلاع، ولقي العدوّ فهزمهم
وكثر السبي والقتل. ثم خرج لزريق ملك الجلالقة وأغار على مدينة
سالم بالثغر. فسار إليه فرنون بن موسى وقاتله فهزمه، وأكثر القتل
في العدوّ والأسر.
ثم سار إلى الحصن الّذي بناه أهل ألبة بالثغر نكاية للمسلمين
فافتتحه وهدمه. ثم سار عبد الرحمن في الجيوش إلى بلاد جليقة
فدوّخها وافتتح عدّة حصون منها، وجال في أرضهم ورجع بعد طول المقام
بالسبي والغنائم. وفي سنة ست وعشرين ومائتين بعث عبد الرحمن
العساكر إلى أرض الفرنجة، وانتهوا إلى أرض سلطانية، وكان على
مقدّمة المسلمين موسى بن موسى عامل تطيلة ولقيهم العدوّ فصبروا حتى
هزم الله عدوّهم، وكان لموسى في هذه الغزاة مقام محمود ووقعت بينه
وبين بعض قوّاد عبد الرحمن ملاحاة، وأغلظ له القائد فكان ذلك سببا
لانتقاضه، فعصى على عبد الرحمن وبعث إليه الجيوش مع الحرث بن بزيغ
فقاتله موسى وانهزم وقتل ابن عمّه، ورجع الحرث إلى سرقسطة. ثم زحف
الى تطيلة وحاصر بها موسى حتى نزل عنها على الصلح إلى أربط وأقام
الحرب بتطيلة أياما. ثم سار لحصار موسى في أربط فاستنصر موسى
بغرسية من ملوك الكفر فجاءه، وزحف الحرث وأكمنوا له فلقيهم على نهر
بلبة، فخرجت عليه الكمائن بعد أن أجاز النهر وأوقعوا به وأسروه،
وقد فقئت عينه، واستشاط عبد الرحمن لهذه الواقعة، وبعث ابنه محمدا
في العساكر سنة تسع وعشرين وحاصر موسى بتطيلة حتى صالحه، وتقدّم
إلى ينبلونة فأوقع بالمشركين عندها وقتل غرسية صاحبها الّذي أنجد
موسى على الحرث. ثم عاود موسى الخلاف، فزحفت إليه العساكر فرجع إلى
المسالمة ورهن ابنه عبد الرحمن على الطاعة، وقبله عبد الرحمن
وولّاه تطيلة، فسار إليها واستقرّت في عمالته. ثم كان في هذه السنة
خروج المجوس في أطراف بلاد الأندلس ظهروا سنة ست وعشرين بساحل
أشبونة،
(4/165)
فكانت بينهم وبين أهلها الحرب ثلاثة عشر
يوما. ثم تقدّموا إلى قادس، ثم إلى أشدونة، وكانت بينهم وبين
المسلمين بها وقعة. ثم قصدوا إشبيليّة ونزلوا قريبا منها وقاتلوا
أهلها منتصف المحرّم من سنة ثمان وعشرين فهزمهم المسلمون وغنموا.
ثم مضوا إلى باجة ثم إلى مدينة أشبونة. ثم أقلعوا من هنالك وانقطع
خبرهم وسكنت البلاد وذلك سنة ثلاثين. وتقدّم عبد الرحمن الأوسط
بإصلاح ما خرّبوه من البلاد، وأكثف الحامية بها وذكر بعض المؤرخين
حادثة المجوس هذه سنة ست وأربعين ومائتين ولعلّها غيرها والله
أعلم. وفي سنة إحدى وثلاثين بعث عبد الرحمن العساكر إلى جليقة
فدوّخوها وحاصروا مدينة ليون ورموا سوارها فلم يقدروا عليه، لأنّ
عرضه سبعة عشر ذراعا فثلموا فيه ثلمة ورجعوا. ثم أغزى عبد الرحمن
حاجبه عبد الكريم بن مغيث في العساكر إلى بلاد برشلونة فجاز في
نواحيها، وأجاز الدروب التي تسمّى السرب إلى بلاد الفرنجة فدوّخها
قتلا وأسرا وسبيا، وحاصر مدينتهم العظمى وعاث في نواحيها وقفل، وقد
كان ملك القسطنطينية توفلس بن نوفلس بن نوفيل، بعث إلى الأمير عبد
الرحمن سنة خمس وعشرين بهدية ويطلب مواصلته فكافأه عبد الرحمن عن
هديته، وبعث إليه يحيى العزال من كبار الدولة، وكان مشهورا في
الشعر والحكمة، فأحكم بينهما المواصلة وارتفع لعبد الرحمن ذكر عند
منازعيه من بني العبّاس. وفي سنة ست وثلاثين هلك نصر الحفي القائم
بدولة الأمير عبد الرحمن وكان يضغن على مولاه ويمالئ ابنه عبد
الرحمن على ابنه الآخر وليّ عهده بما كانت أم عبد الله قد اصطنعته،
وكانت حظية عند السلطان ومنحرفة عن ابنه محمد وليّ العهد، فداخلت
نصرا هذا في أمرها، وداخل هو طبيب الدار في أن يسمّ محمدا وليّ
العهد. ودسّ الطبيب بذلك إلى الأمير مع قهرمانة داره وأن نصرا
أكرهه على إذابة السمّ فيه، وباكر نصر القصر ودخل على السلطان
يستفهمه عن شرب الدواء فوجده بين يديه، وقال له إنّ نفسي قد بشعته
فاشربه أنت فوجم، فأقسم عليه فلم يسعه خلافه فشربه وركب مسرعا إلى
داره فهلك لحينه، وحسم السلطان علّة ابنه عبد الله وكان من بعدها
مهلكه.
(4/166)
(وفاة عبد الرحمن
الأوسط وولاية ابنه محمد)
ثم توفي عبد الرحمن الأوسط بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل
في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين لإحدى وثلاثين سنة من
إمارته، وكان عالما بعلوم الشريعة والفلسفة، وكانت أيامه أيام هدوّ
وسكون. وكثرت الأموال عنده واتخذ القصور والمنتزهات وجلب إليها
الماء، وجعل له مصنعا اتخذه الناس شريعة. وزاد في جامع قرطبة
رواقين، ومات قبل أن يستتمه، فأتمه ابنه محمد بعده. وبني بالأندلس
جوامع كثيرة ورتّب رسوم المملكة، واحتجب عن العامّة. ولما مات ولي
مكانه ابنه محمد، فبعث لأوّل ولايته العساكر مع أخيه الحكم إلى
قلعة رباح لإصلاح أسوارها، وكان أهل طليطلة خرّبوها فرمّها وأصلح
حالها، وتقدّم إلى طليطلة فعاث في نواحيها. ثم بعث الجيوش مع موسى
بن موسى صاحب تطيلة فعاث في نواحي ألبة والقلاع، وفتح بعض حصونها
ورجع، وبعث عساكر أخرى إلى نواحي برشلونة وما وراءها فعاثوا فيها،
وفتحوا حصون برشلونة ورجعوا. ثم سار محمد سنة أربعين في جيوشه إلى
طليطلة فاستمدّوا ملك جليقة وملك البشكنس فساروا لإنجادهم مع أهل
طليطلة فلقيهم الأمير محمد على وادي سليط وقد أكمن لهم فأوقع بهم،
وبلغ عدّة القتلى من أهل طليطلة والمشركين عشرين ألفا. ثم سار
إليهم سنة ثلاث وأربعين فأوقع بهم ثانية وأثخن فيهم وخرّب ضياعهم،
فصالحوه ثم نكثوا.
وفي سنة خمس وأربعين ظهرت مراكب المجوس، ونزلوا بأشبيليّة والجزيرة
وأحرقوا مسجدها. ثم عادوا إلى تدمير ودخلوا قصر أريولة، وساروا إلى
سواحل الفرنجة وعاثوا فيها، وانصرفوا فلقيهم مراكب الأمير محمد
فقاتلوهم وغنموا منهم مركبين، واستشهد جماعة من المسلمين. ومضت
مراكب المشركين إلى ينبلونة، وأسروا صاحبها غرسية وفدّى نفسه منهم
بسبعين ألف دينار. وفي سنة سبع وأربعين حاصر طليطلة ثلاثين يوما.
ثم بعث الأمير محمد سنة إحدى وخمسين أخاه المنذر في العساكر إلى
نواحي ألبة والقلاع فعاثوا فيها، وجمع لزريق للقائهم فلقيهم
وانهزم، وأثخن المسلمون في المشركين بالقتل والأسر، وكان فتحا لا
كفاء له. ثم غزا الأمير محمد بنفسه سنة إحدى وخمسين بلاد الجلالقة
فأثخن وخرّب، وانتقض عليه عبد الرحمن بن مروان الجليقي فيمن معه من
المولّدين، وساروا إلى التخم، ووصل يده باذفونش ملك
(4/167)
جليقة فسار إلى الوزير هاشم بن عبد الرحمن
في عساكر الأندلس سنة ثلاث وستين فهزمه عبد الرحمن وحصل هاشم في
أسره. ثم وقعت المراودة في الصلح على أن ينزل عبد الرحمن بطليوس
[1] ويطلق الوزير هاشما فتم ذلك سنة خمس وستين، ونزل عبد الرحمن
بطليوس وكانت خربة فشيّدها وأطلق هاشما بعد سنتين ونصف من أمره. ثم
تغيّر أذفونش لعبد الرحمن بن مروان وفارقه، وخرج من دار الحرب بعد
أن قاتله ونزل مدينة أنطانية بجهات ماردة وهي خراب فحصّنها، وملك
ما إليها من بلاد أليون وغيرها من بلاد الجلالقة، واستضافها إلى
بطليوس، وكان مظفر بن موسى بن ذي النون الهواري عاملا بشنت بريّة
فانتقض وأغار على أهل طليطلة فخرجوا إليه في عشرين ألفا، ولقيهم
فهزمهم وانهزم معهم مطرّف بن عبد الرحمن، وقتل من أهل طليطلة خلق،
وكان مطرّف بن موسى فردا في الشجاعة ومحلا من النسب ولقي شنجة صاحب
ينبلونة أمير البشكنس فهزمه شنجة وأسره، وفرّ من الأسر ورجع إلى
شنت بريّة فلم يزل بها قويم الطاعة إلى أن مات آخر دولة الأمير
محمد. وفي سنة إحدى وستين انتقض أسد بن الحرث بن بديع بتاكرنا [2]
وهي رندة فبعث إليهم الأمير محمد العساكر وحاصروهم حتى استقاموا
على الطاعة. وفي سنة ثلاث وستين أغزى الأمير محمد ابنه المنذر إلى
دار الحرب وجعل طريقه على ماردة، وكان بها ابن مروان الجليقي،
ومرّت طائفة من عسكر المنذر بماردة فخرج عليهم ابن مروان ومعه جمع
من المشركين استظهر بهم، فقتل تلك الطائفة عن آخرهم. وفي سنة أربع
وستين بعث ابنه المنذر ثانية إلى بلد ينبلونة، ومر بسرقسطة فقاتل
أهلها، ثم تقدّم إلى تطيلة وعاث في نواحيها وخرّب بلاد بني موسى.
ثم مضى لوجهه إلى ينبلونة فدوّخها ورجع. وفي سنة ست وستين أمر
الأمير محمد بإنشاء المراكب بنهر قرطبة ليدخل بها إلى البحر
المحيط، ويأتي جليقة من ورائها، فلما تمّ إنشاؤها وجرت في البحر،
أصابها الريح وتقطّعت فلم يسلم منها إلا القليل. وفي سنة سبع وستين
ومائتين انتقض عمر بن حفصون بحصن يشتر من جبال مالقة وزحف إليه
عساكر تلك الناحية فهزمهم، وقوى أمره وجاءت عساكر الأمير محمد
فصالحهم ابن حفصون واستقام أمر الناحية. وفي سنة ثمان وستين بعث
الأمير محمد ابنه المنذر لقتال أهل الخلاف
__________
[1] مدينة كبيرة بالأندلس من اعمال ماردة على نهر آنة غربي قرطبة.
[2] هي تاكرني: وهي كورة كبيرة بالأندلس ذات جبال حصينة، يخرج منها
عدة انهار ولا تدخلها، وفيها معقل رندة.
(4/168)
فقصد سرقسطة وحاصرها وعاث في نواحيها، وفتح
حصن ريطة. ثم تقدّم إلى دير بروجة، وفيه محمد بن لبّ بن موسى [1] .
ثم قصد مدينة لاردة وقرطاجنة، ثم دخل دار الحرب وعاث في نواحي ألبة
والقلاع وفتح منها حصونا ورجع. وفي سنة سبعين سار هاشم بن عبد
العزيز بالعساكر لحصار عمر بن حفصون بحصن يشتر واستنزله إلى قرطبة
فأقام بها، وفيها شرع إسماعيل بن موسى ببناء مدينة لاردة، فجمع
صاحب برشلونة لمنعه من ذلك، وسار إليه فهزمه إسماعيل وقتل أكثر
رجاله. وفي سنة إحدى وسبعين سار هاشم بن عبد العزيز في العساكر إلى
سرقسطة فحاصرها هاشم وافتتحها، ونزلوا جميعا على حكمه. وكان في
عسكره عمر بن حفصون واستدعاه من الثغر فحضر معه هذه الغزاة فهرب
ولحق بيشتر فامتنع به، وسار هاشم إلى عبد الرحمن بن مروان
الجلّيقيّ وحاصره بحصن منت مولن، ثم رجع عنه فأغار ابن مروان على
إشبيليّة ولقبت [2] . ثم نزل منت شلوط فامتنع فيه، وصالح عليه
الأمير محمدا، واستقام على طاعته إلى أن هلك الأمير محمد. وكان ملك
رومة والفرنجة لعهده اسمه فرلبيب بن لوزنيق.
(وفاة الأمير محمد وولاية ابنه المنذر)
ثم توفي الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن
الداخل في شهر صفر من سنة ثلاث وسبعين ومائتين لخمس وثلاثين سنة من
إمارته، وولي بعده ابنه المنذر فقتل لأوّل ولايته هاشم بن عبد
العزيز وزير أبيه، وسار في العساكر لحصار ابن حفصون فحاصره بحصن
يشتر سنة أربع وسبعين، وافتتح جميع قلاعه وحصونه وكان منها ريّة
وهم مالقة، وقبض على واليها من قبله عيشون فقتله، ولما اشتدّ
الحصار على ابن حفصون سأل الصلح فأجابه وأفرج عنه، فنكث فرجع
لحصاره وصالح ثم نكث مرتين فأقام المنذر على حصاره وهلك قريبا
فانفرج عن ابن حفصون.
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 369 بعض الاختلاف في
الأسماء «وافتتح حصن روطة، فأخذ منه عبد الواحد الروطيّ، وهو من
أشجع أهل زمانه، وتقدّم الى دير تروجة، وبلد محمد بن مركب بن موسى»
.
[2] هي لقنت: حصنان من اعمال لاردة بالأندلس، لقنت الكبرى ولقنت
الصغرى وكل واحدة تنظر الى صاحبتها. «معجم البلدان»
(4/169)
(وفاة المنذر وولاية
أخيه عبد الله ابن الأمير محمد)
ثم توفي المنذر محاصرا لابن حفصون بجبل يشتر سنة خمس وسبعين
ومائتين لسنتين من إمارته [1] فولي مكانه أخوه عبد الله ابن الأمير
محمد، وقفل بالعساكر إلى قرطبة وقد اضطربت نواحي الأندلس بالثّوار،
ولما كثر الثّوار قلّ الخراج لامتناع أهل النواحي من الأداء وكان
خراج الأندلس قبله ثلاثمائة ألف دينار، مائة ألف منها للجيوش،
ومائة ألف للنفقة في النوائب وما يعرض، ومائة ألف ذخيرة ووفرا
فأنفقوا الوفر في تلك السنين وقل الخراج.
(أخبار الثوار وأوّلهم ابن مروان ببطليوس واشبونة)
قد تقدّم لنا أن عبد الرحمن بن مروان انتقض على الأمير محمد بن عبد
الرحمن سنة خمس وخمسين في غزاته إلى بلاد الجلالقة، واجتمع إليه
المولّدون وصار إلى تخم، ووصل يده بأذفونش ملك الجلالقة فعرف لذلك
بالجلّيقي. وذكرنا كيف سار إليه هاشم بن عبد العزيز سنة ثلاث وستين
في عساكر الأندلس فهزمه ابن مروان وأسره.
ثم وقع الصلح على إطلاق هاشم وأن ينزل ابن مروان بطليوس، فتمّ ذلك
سنة خمس وثلاثمائة ونزل عبد الرحمن بطليوس فشيّدها وترّس
بالدولتين. ثم تغيّر به أذفونش وقاتله ففارق دار الحرب، ونزل مدينة
أنطانية بجهات ماردة فحصّنها وهي خراب، وملك ما إليها من بلد أليون
وغيرها من بلاد الجلالقة، واستضافها إلى بطليوس، واستعجل له الأمير
عبد الله على بطليوس، وكان معه بدار الحرب سعدون السرساقي، وكان من
الأبطال الشجعان، وكان دليلا للغزو وهو من الخارجين معه.
فلما نزل عبد الرحمن بطليوس انتزى سعدون ببعض الحصون ما بين قلنيرة
[2]
__________
[1] استمر المنذر بالحكم حوالي سنة واحدة وأحد عشر شهرا وعشرة أيام
وكان عمره نحوا من ستّ وأربعين سنة (ابن الأثير ج 7 ص 435)
[2] لعلها قلنّة: بلد في الأندلس (معجم البلدان)
(4/170)
وباجة [1] . ثم ملك قلنيرة وترس [2] بأهل
الدولتين إلى أن قتله أذفونش في بعض حروبه معه.
(ابن تاكيت بماردة)
كان محمد بن تاكيت من مصمودة، وثار بناحية الثغر أيام الأمير محمد،
وزحف إلى ماردة وبها يومئذ جند من العرب وكتامة، فأعمل الحيلة في
إخراجهم منها، ونزلها هو وقومه مصمودة.
(بقية خبر ابن مروان)
ولما ملك ابن تاكيت ماردة زحفت إليه العساكر من قرطبة، وجاء عبد
الرحمن بن مروان من بطليوس مددا له فحاصروهم أشهرا ثم أقلعوا. وكان
بماردة جموع من العرب ومصمودة وكتامة، فتحيّل محمد بن تاكيت على
العرب وكتامة وأقاربهم فأخرجهم واستقل بماردة هو وقومه، وعظمت
الفتنة بينه وبين عبد الرحمن بن مروان صاحب بطليوس بسبب مظاهرته
عليه، وحاربه فهزمه ابن مروان مرارا كانت إحداها على لقنت، استلحم
فيها مصمودة فقصّت من جناح ابن تاكيت واستجاش بسعدون السرساقي صاحب
قلنيرة فلم يغنه، وعلا كعب بن مروان عليهم وتوتّق أمره، وطلبه ابن
حفصون في الولاية فامتنع ثم هلك اثر ذلك سنة [3] أيام الأمير عبد
الله، وولي ابنه عبد الرحمن بن مروان وأثخن في البرابرة المجاورين
له وهلك لشهرين من ولايته، فعقد الأمير عبد الله على بطليوس
لأميرين من العرب، ولحق من بقي من ولد عبد الرحمن بحصن شونة، وكانا
اثنين من أعقابه، وهما مروان
__________
[1] باحة في خمسة مواضع والمقصودة هنا باجة الأندلس. (معجم
البلدان)
[2] لعلها ترّسة من قرى آليش من أعمال طليطلة بالأندلس (معجم
البلدان)
[3] هكذا بياض بالأصل، ولم نتوصل الى تحديد سنة وفاته ويعود ابن
خلدون فيذكر سنة مهلكه سنة ست وثلاثمائة لسبع وثلاثين سنة من
ثورته. وذلك تحت عنوان «ثورة الأمير ابن حفصون في يشتر ومالقة
ورندة واليس» .
(4/171)
وعبد الله ابنا ابنه محمد، وعمّهما مروان.
ثم خرجا من حصن شونة ولحقا بآخر من أصحاب جدّهما عبد الرحمن. ثم
اضطرب الأميران ببطليوس وتنازعا وقتل أحدهما الآخر، واستقل
ببطليوس، ثم تسوّر عبد الله منها سنة ست وثماني فقتله وملك بطليوس،
واستفحل أمره والمعجّل له الأمير عبد الله عليها ونازل حصون
البرابرة حتى طاعوا له، وحارب ابن تاكيت صاحب ماردة ثم اصطلحوا
وأقاموا جميعا طاعة الأمير عبد الله. ثم تحاربوا فاتصلت حروبهم إلى
آخر دولته.
(ثورة لب بن محمد بسرقسطة وتطيلة)
ثم ثار لبّ بن محمد بن لبّ بن موسى بسرقسطة سنة ثمان وخمسين
ومائتين أيام الأمير محمد فتردّدت إليه الغزوات حتى استقام وأسجل
[1] له الأمير محمد على سرقسطة وتطيلة وطرسونة فأحسن حمايتها،
واستفحلت إمارته فيها، ونازلة ملك الجلالقة أذفونش في بعض الأيام
بطرسونة، فنزل إليه وردّه على عقبه منهزما وقتل نحوا من ثلاثة آلاف
من قومه وانتقض على الأمير عبد الله وحاصر تطيلة.
(ثورة مطرف بن موسى بن ذي النون
الهواري بشنت برية)
كان لمطرف صيت من الشجاعة ومحل من النسب والعصبيّة، فثار في شنت
بريّة، وكانت بينه وبين صاحب ينبلونة سلطان البشكنس من الجلالقة
حروب أسره العدوّ في بعضها ففرّ من الأسر ورجع إلى شنت بريّة،
واستقامت طاعته إلى آخر دولة الأمير محمد.
(ثورة الأمير ابن حفصون في يشتر ومالقة
ورندة واليس)
وهو عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر بن دميان بن فرغلوش بن أذفونش
القس
__________
[1] بمعنى عقد له
(4/172)
هكذا نسبه ابن حيان أوّل ثائر كان
بالأندلس، وهو الّذي افتتح الخلاف بها وفارق الجماعة أيام محمد بن
عبد الرحمن في سني السبعين والمائتين. خرج بجبل يشتر من ناحية ريّة
ومالقة، وانضم إليه الكثير من جند الأندلس ممن في قلبه مرض في
الطاعة. وابتنى قلعته المعروفة به هنالك، واستولى على غرب الأندلس
إلى رندة وعلى السواحل من الثجة إلى البيرة، وزحف إليه هاشم بن عبد
العزيز الوزير فحاصره واستنزله إلى قرطبة سنة سبعين. ثم هرب ورجع
إلى حصن يشتر، ولما توفي الأمير محمد تغلب على حصن الحامة وريّة
ورندة والثجة، وغزاه المنذر سنة أربع وسبعين فافتتح جميع قلاعه
وقتل عامله بريّة، ثم سأل الصلح فعقد له المنذر. ثم نكث ابن حفصون
وعاد إلى الخلاف فحاصره المنذر إلى أن هلك محاصرا له فرجع عنه
الأمير عبد الله، واستفحل أمر بن حفصون والثّوار وتوالت عليه
الغزوات والحصار. وكاتب ابن الأغلب صاحب إفريقية وهاداه وأظهر دعوة
العبّاسية بالأندلس فيما إليه وتثاقل ابن الأغلب على إجابته
لاضطراب إفريقية، فأمسك وأكثر الأجلاب على قرطبة وبنى حصن بلايد
قريبا منها، وغزاه عبد الله وافتتح بلاية والثجة. ثم قصده في حصنه
فحاصره أياما وانصرف عنه فاتبعه ابن حفصون فكرّ عليه الأمير عبد
الله وهزمه وأثخن فيه، وافتتح البيرة من أعماله. ووالى عليه الحصار
في كل سنة، فلما كانت وثمانين [1] عمر بن حفصون وخالص ملك الجلالقة
فنبذ إليه أمراؤه بالحصون عهده، وسار الوزير أحمد بن أبي عبيدة
لحصاره في العساكر فاستنجد بإبراهيم بن حجّاج الثائر بأشبيليّة،
ولقياه فهزمهما وراجع ابن حجّاج الطاعة، وعقد له الأمير عبد الله
على إشبيليّة، وبعث ابن حفصون بطاعته للشيعة عند ما تغلّبوا على
القيروان من يد الأغالبة، وأظهر بالأندلس، دعوة عبيد الله. ثم راجع
طاعة بني أمية عند ما هيأ الله للناصر ما هيأه من استفحال الملك،
واستنزال الثوار، واستقام إلى أن هلك سنة ست وثلاثمائة لسبع
وثلاثين سنة من ثورته. وقام مكانه ابنه جعفر فأقرّه الناصر على
أعماله. ثم دسّ إليه أخوه سليمان بن عمر بعض
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي كتاب الاحاطة في تاريخ غرناطة ص 117:
«وموقعه بالاي الشهيرة في تاريخ الأندلس، وهي الموقعة التي هزم
فيها الأمير عبد الله صاحب الأندلس قوات الثائر ابن حفصون سنة 287
هـ (891 م) »
(4/173)
رجالاتهم فقتله لسنتين أو ثلاثة من ولايته.
وكان مع الناصر فسار إلى أهل يشتر وملكوه مكان أخيه، وذلك سنة ثمان
وثلاثمائة، وخاطب الناصر فعقد له كما كان أخوه، ثم نكث وتكرر
إنكاثه ورجوعه. ثم بعث إليه الناصر وزيره عبد الحميد بن سبيل
بالعساكر، ولقيه فهزمه وقتله وجيء برأسه إلى قرطبة. وقدّم
المولّدون أخاه حفص بن عمر فانتكث ومضى على العصيان، وغزاه الناصر
وجهّز العساكر لحصاره حتى استأمن له، ونزل إلى قرطبة بعد سنة من
ولايته. وخرج الناصر إلى يشتر فدخله وجال في أقطاره ورفع أشلاء
عمرو ابنه جعفر وسليمان فصلبهم بقرطبة، وخرّب جميع الكنائس التي
كانت في الحصون التي بنواحي ريّة وأعمال مالقة ثلاثين حصنا فأكثر،
وانقرض أمر بني حفصون وذلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة والبقاء للَّه.
(ثوّار اشبيلية المتعاقبون)
ابن أبي عبيدة وابن خلدون وابن حجاج وابن مسلمة. وأوّل الثوّار كان
بإشبيليّة أميّة ابن عبد الله المغافر بن أبي عبيدة، وكان جدّه أبو
عبدة عاملا عليها من قبل عبد الرحمن الداخل. قال ابن سعيد ونقله عن
مؤرّخي الأندلس: الحجازي ومحمد بن الأشعث، وابن حيّان قال: لما
اضطربت الأندلس بالفتن أيام الأمير عبد الله وسما رؤساء البلاد إلى
التغلّب، وكان رؤساء إشبيليّة المرشّحون لهذا الشأن أميّة بن عبد
الغافر، وكليب بن خلدون الحضرميّ، وأخوه خالد وعبد الله بن حجّاج.
وكان الأمير عبد الله قد بعث على إشبيلية ابنه محمدا، وهو أبو
الناصر والنفر المذكورون يحومون على الاستبداد، فثاروا بمحمد ابن
الأمير عبد الله، وحصروه في القصر مع أمّه وانصرف ناجيا إلى أبيه.
ثم استبد أمية بولايتها على مداراتهم ودسّ على عبد الله بن حجّاج
من قتله، فقام أخوه إبراهيم مكانه فثاروا به وحاصروه في القصر،
ولما أحيط به خرج إليهم مستميتا بعد أن قتل أهله وأتلف موجودة
فقتل، وعاثت العامّة برأسه وذلك أعوام الثمانين والثلاثمائة. وكتب
ابن خلدون وأصحابه بذلك إلى الأمير عبد الله، وأن أميّة خلع وقتل
فتقبل منهم للضرورة، وبعث عليهم عمّه هشام بن عبد
(4/174)
الرحمن، واستبدوا عليه وتولى كبر ذلك [1]
كريب بن خلدون، واستبدّ عليهم بالرياسة. قال ابن حيان: ونسبهم في
حضر موت وهم بأشبيليّة نهاية في النباهة.
مقتسمين الرئاسة السلطانية والعلمية. وقال ابن حزم: إنهم من ولد
وائل بن حجر، ونسبهم في كتاب الجمهرة، وكذلك قال ابن حيان في بني
حجّاج. قال الحجازي: ولما قتل عبد الله بن حجّاج قام أخوه إبراهيم
مقامه، وظاهر بني خلدون على قتل أمية وأنزل نفسه منهم منزلة
الخديم. واستبدّ كريب وعسف أهل إشبيلية فنفر عنه الناس وتمكن
لإبراهيم الغرض، وصار يظهر الرّفق كلما أظهر كريب الغلظة، وينزل
نفسه منزلة الشفيع والملاطف. ثم دسّ للأمير عبد الله بطلب الولاية
ليشتدّ بكتابه على كريب بن خلدون، وكتب له بذلك عهده فأظهره
للعامّة وثاروا جميعا بكريب فقتلوه. واستقام إبراهيم بن حجّاج على
الطاعة للأمير عبد الله وحصن مدينة قرمونة [2] ، وجعل فيها مرتبط
خيوله، وكان يتردّد ما بينها وبين إشبيلية. وهلك ابن حجّاج واستبد
ابن مسلمة بمكانه. ثم استقرّت إشبيلية آخرا بيد الحجّاج بن مسلمة
وقرمونة بيد محمد بن إبراهيم بن حجّاج، وعقد له الناصر. ثم انتقض
وبعث له الناصر بالعساكر، وجاء ابن حفصون لمظاهرة ابن مسلمة فهزمته
العساكر، وبعث ابنه شفيعا فلم يشفعه فبعث ابن مسلمة بعض أصحابه
سرّا، فداخل الناصر في المكر به وعقد له. وجاء بالعساكر وخرج ابن
مسلمة للحديث معه فغدروا به وملكوا عليه أمره، وحملوه إلى قرطبة.
ونزل عامل السلطان إشبيلية، وكان من الثوّار على الأمير عبد الله
قريبه، وغدر به أصحابه فقتل.
(مقتل الأمير محمد ابن الأمير عبد الله
ثم مقتل أخيه المطرف)
كان المطرّف قد أكثر السعاية في أخيه محمد عند أبيهما، حتى إذا
تمكنت سعايته وظهر سخطه على ابنه محمد لحق حينئذ ببلد ابن حفصون.
ثم استأمن ورجع وبالغ المطرّف في السعاية إلى أن حسه أبوه ببعض حجر
القصر، وخرج لبعض غزواته واستخلف
__________
[1] بمعنى تولى شرف ذلك
[2] هي قرمونية: كورة بالأندلس يتصل عمله بأعمال إشبيلية غربي
قرطبة وشرقي إشبيلية. (معجم البلدان)
(4/175)
ابنه المطرّف على قصره، فقتل أخاه في محبسه
مفتاتا [1] بذلك على أبيه، وحزن الأمير عبد الله على ابنه محمد،
وضم ابنه عبد الرحمن إلى قصره وهو ابن يوم فربي مع ولده. ثم بعث
الأمير عبد الله ابنه المطرّف بالصائفة سنة ثلاث وثمانين ومائتين،
ومعه الوزير عبد الملك بن أمية ففتك المطرّف بالوزير لعداوة
بينهما، وسطا [2] به أبوه الأمير عبد الله وقتله أشرّ قتله ثأر
فيها منه بأخيه محمد وبالوزير. وعقد مكان الوزير لابنه أميّة فسنح
على الفقراء [3] بأنفه، وترفّع على الوزراء فمقتوه وسعوا فيه عند
الأمير عبد الله بأنه بايع جماعة من سماسرة الشرّ لأخيه هشام بن
محمد، ولفّقت بذلك شهادات اعتمد القاضي حينئذ قبولها [4] للساعين
أن يجعلوا في الجماعة للمشهود عليهم بالبيعة بعض أعدائه فتمّت
الحيلة، وقتل هشام أميّة الوزير وذلك سنة أربع وثمانين.
(وفاة الأمير عبد الله بن محمد وولاية
حافده عبد الرحمن الناصر بن محمد)
ثم توفي الأمير عبد الله في شهر ربيع الأوّل من آخر المائة الثالثة
لست وعشرين سنة من إمارته، وولي حافده عبد الرحمن ابن ابنه محمد
قتيل أخيه المطرّف، وكانت ولايته من الغريب لأنه كان شابا وأعمامه
وأعمام أبيه حاضرون فتصدّى إليها وحازها دونهم، ووجد الأندلس
مضطربة فسكنها، وقاتل المخالفين حتى أذعنوا واستنزل الثّوار ومحا
أثر ابن حفصون كبيرهم، وحمل أهل طليطلة على الطاعة، وكانوا معروفين
بالخلاف والانتقاض. واستقامت الأندلس وسائر جهاتها في نيّف وعشرين
سنة من أيامه. ودامت أيامه نحوا من خمسين سنة استفحل فيها ملك بني
أمية بتلك النواحي، وهو أوّل من تسمّى بأمير المؤمنين عند ما تلاشى
أمر الخلافة بالمشرق، واستبدّ موالي الترك على بني العبّاس، وبلغه
أن المقتدر قتله مؤنس المظفّر مولاه سنة سبع
__________
[1] بمعنى مستبدا برأيه
[2] بمعنى فتك
[3] سنح على الناس: أصابهم بشرّ
[4] هكذا بالأصل ولم نهتد الى تصويب العبارة ولكن الضمير في أخيه
يعود الى الأمير عبد الله لأن هشام بن محمد هو اخوه فكيف قتل هشام
أمية بعد ذلك وهو الّذي بايع له؟.
(4/176)
وعشرين وثلاثمائة فتلقّب بألقاب الخلفاء،
وكان كثير الجهاد بنفسه والغزو إلى دار الحرب إلى أن انهزم عام
الخندق سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة ومحص الله المسلمين فقعد عن
الغزو بنفسه، وصار يردّد الصوائف في كل سنة، فأوطأ عساكر المسلمين
من بلاد الفرنج ما لم يطأه قبل في أيام سلفه، ومدّت إليه أمم
النصرانيّة من وراء الدروب يد الإذعان، وأوفدوا إليه رسلهم
وهداياهم من رومة والقسطنطينية في سبيل المهادنة والسلم والاحتمال
فيما يعنّ من مرضاته. ووصل إلى سدنة ملوك الجلالقة من أهل جزيرة
الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين، كجهات قشتالة وينبلونة وما
إليها من الثغور الجوفية، فقبّلوا يده والتمسوا رضاه، واحتقبوا
جوائزه وامتطوا مركبه. ثم سما إلى ملك العدوة فتناول سبتة من أيدي
أهلها سنة سبع عشرة، وأطاعه بنو إدريس أمراء العدوة وملوك زناتة
البربر، وأجاز إليه الكثير منهم كما نذكر في أخباره وبدء أمره
لأوّل ولايته بتخفيف المغارم عن الرعايا، واستحجب موسى بن محمد بن
يحيى، واستوزر عبد الملك بن جهور بن عبد الملك بن جوهر، وأحمد بن
عبد الملك بن سعد وأهدى له هديته المشهورة المتعددة الأصناف. ذكرها
ابن حيان وغيره، وهي مما نقل من ضخامة الدولة الأموية واتساع
أحوالها، وهي خمسمائة ألف مثقال من الذهب العين، وأربعمائة رطل من
التبر ومصارفه خمسة وأربعون ألف دينار. ومن سبائك الفضّة مائتا
بدرة واثنا عشر رطلا من العود الهندي يختم عليه كالشمع، ومائة
وثمانون رطلا من العود الصمغي المتخير، ومائة رطل من العود الشبه
المنقّى. ومائة أوقية من المسك الذكي المفضّل في جنسه، وخمسمائة
أوقية من العنبر الأشهب المفضّل في جنسه على خليقته من غير صناعة
ومنها قطعة ململمة عجيبة الشكل، وزن مائة أوقية، وثلاثمائة أوقية
من الكافور المترفّع الذكاء، ومن اللباس ثلاثون شقة من الحرير
المختم المرقوم بالذهب للباس الخلفاء، مختلفة الألوان والصنائع،
وعشرة أفرية [1] من عالي جلود الفنك الخراسانية، وستة من السرادقات
العراقية، وثمان وأربعون من الملاحف البغدادية لزينة الخيل من
الحرير والذهب، وثلاثون شقة الغريون من الملاحف لسروج الهبات،
وعشرة قناطير من السمور فيها مائة جلد، وأربعة آلاف رطل من الحرير
المغزول، وألف رطل من الحرير المنتقى للاستغزال،
__________
[1] ج فرو ابن خلدون م 12 ج 4
(4/177)
وثلاثون بساطا من الصوف، وعشر مائة منقاة
مختلفة، ومائة قطعة مصليات من وجوه الفرش المختلفة، وخمسة عشر من
نخاخ الخزّ المقطوع شطرها. ومن السلاح والعدة ثمانمائة من تخافيف
الزينة أيام البروز والمواكب، وألف ترس سلطانية، ومائة ألف سهم من
النبال البارعة الصنعة، ومن الظهر خمسة عشر فرسا من الخيل العراب
المتخيّرة لركاب السلطان فائقة النعوت، وعشرون من بغال الركاب
مسرجة ملجمة بمراكب خلافية، ولجم بغال مجالس سروجها خزّ جعفري
عراقيّ، ومائة فرس من عتاق الخيل التي تصلح للركوب في التصرف
والغزوات، ومن الرقيق أربعون وصيفا، وعشرون جارية متخيرات بكسوتهنّ
وزينتهنّ، ومن سائر الأصناف ومن الصخر سيات ما أنفق عليه في عام
واحد ثمانون ألف دينار. وعشرون ألف عود من الخشب من أجمل الخشب
وأصلبه وأقدمه، قيمته خمسون ألف دينار. وعرضت الهدية على الناصر
سنة سبع وعشرين فشكرها وحسن لديه موقعها.
(سطوة الناصر بأخيه القاضي ابن محمد)
كان محمد بن عبد الجبّار ابن الأمير محمد، وعبد الجبّار هو عمّ أبي
الناصر قد سعى عنده في أخيه القاضي ابن محمد، وأنه يريد الخلاف
والبيعة لنفسه. وسعى القاضي في محمد بن عبد الجبّار وأنه يروم
الانتقاض، واستطلع على الجليّ من أمرهما وتحقّق نقضهما فقتلهما سنة
ثمان وثلاثمائة.
(سطوة الناصر ببني إسحاق المروانيين)
وهو إسحاق بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن الوليد بن إبراهيم بن
عبد الملك بن مروان، دخل جدّهم أوّل الدولة ولن يزالوا في إكرام
وعزّ، واستقرّت الرئاسة في إسحاق، وسكن إشبيلية أيام الفتنة عند
ابن حجّاج. ثم هلك ابن حجّاج وولي ابن مسلمة فاتهمه، وقبض عليه
وعلى ولده وصهره يحيى بن حكم بن هشام بن خالد بن أبان بن خالد بن
عبد الله بن عبد الملك بن الحرث بن مروان فقتل الولد والصهر.
(4/178)
وكان عنده سفير لابن حفصون فشفع في الشيخ
إسحاق وولده أحمد. ثم ملك الناصر إشبيلية من يد ابن مسلمة، فرحل
إسحاق إلى قرطبة واستوزره الناصر واستوزر بنيه أحمد وابنه ومحمد
وعبد الله ففتحوا الفتوحات، وكفوا المهمات، وعلت مقاديرهم في
الدولة. وتوفي أبوهم إسحاق فورثوا مكانه في كل رفيعة. ثم هلك
كبيرهم عبد الله وكان مقدمهم عند الناصر، واستوزره ثم اتهمه الناصر
بالخلاف وكثرت فيهم السعايات، وصاروا في مجال الظنون فسطا بهم
الناصر وغرّبهم في النواحي، فانزوى أمية منهم في تسترين سنة خمس
وعشرين وثلاثمائة وخلع الطاعة وقصده الناصر في العساكر فدخل دار
الحرب وأجاره رزمير ملك الجلالقة. ثم تغيّر له فجاء إلى الناصر من
غير عهد وعفا عنه وبقي في غمار الناس إلى أن هلك. وأمّا أحمد فعزل
عن سرقسطة لما نكب أبوه وبقي خاملا مغضيا. ثم تكاثرت السعاية فيه
فقتل. وأمّا أحمد فبقي في جملة الناصر حتى إذا تحرّك إلى سرقسطة
نمي عنه، ففرّ ولقي في مفرّه جماعة من أهل سرقسطة فقتلوه.
(أخبار الناصر مع الثوّار)
كان أوّل فتحه أبيح له أسجه [1] بعث إليها بدرا مولاه وحاجبه
فافتتحها من يد ابن حفصون سنة ثلاثمائة، وغزا في أثرها بنفسه
فافتتح أكثر من ثلاثين حصنا من يد ابن حفصون منها البيرة، ودوّخ
سائر أقطاره وضيّق مخنقه بالحصار، واستنزل سعيد بن مزيل من حصن
المنتلون وحصن سمنان. وفي سنة إحدى وثلاثمائة ملك إشبيلية من يد
احمد بن مسلمة كما ذكرناه. ثم سار سنة اثنتين وثلاثمائة في العساكر
فنازل حصون ابن حفصون وانتهى إلى الجزيرة الخضراء، وضبط البحر ونظر
في أساطيله واستكثر منها، ومنع ابن حفصون من البحر، وسأله في الصلح
على لسان يحيى بن إسحاق المرواني فعقد له. ثم أغزى إسحاق بن محمد
القرشيّ إلى الثوار بمرسية وبلنسية فأثخن في نواحيها، وفتح أريولة
وأغزى بدرا مولاه إلى مدينة ليلة، فاستنزل منها عثمان بن نصر
الثائر بها وساقه مقيّدا إلى قرطبة، ثم أغزى إسحاق بن محمد سنة خمس
وثلاثمائة مدينة
__________
[1] لعلها استجة: اسم لكورة بالأندلس متصلة بأعمال ريّة بين القبلة
والمغرب من قرطبة (معجم البلدان) .
(4/179)
قرمونة فملكها من يد حبيب بن سواره، كان
ثائرا بها. وفتح حصن ستمرية سنة ست، وحصن طرش سنة تسع، وأطاعه أحمد
بن أضحى الهمدانيّ الثائر. بحصن الجامة، ورهن ابنه على الطاعة،
وغزا ابن حفصون سنة أربع عشرة فردته العساكر المجمّرة لحصاره، ورجع
وبعث إليه حفص يستأمنه فأمّنه، وجاء إلى قرطبة وملك الناصر يشتركما
مرّ. ثم انتقض سنة خمس وعشرين أميّة بن إسحاق في تسترين، وقد مرّ
ذكر أوّليته ومحمد بن هشام التجيبي في سرقسطة، ومطرّف بن مندف
التجيبي في قلعة أيوب فغزاهم الناصر بنفسه، وبدأ بقلعة أيوب
فحاصرها وقتل مطرّف في أوّل جولة عليها، وقتل معه يونس بن عبد
العزيز، ولجأ أخوه إلى القصبة حتى استأمن وعفا عنه، وقتل من كان
معهم من النصرانية أهل ألبة وافتتح ثلاثين من حصونهم، وبلغه انتقاض
طوطة ملكة البشكنس فغزاها في ينبلونة، ودوّخ أرضها واستباحها ورجع.
ثم غزا سنة سبع وعشرين [وثلاثمائة غزوة الخندق إلى جليّقة فانهزم،
وأصيبت فيها المسلمون وأسر محمد بن هاشم التجيبي، وحاول الناصر
إطلاقه فأطلق بعد سنتين وثلاثة أشهر. وقعد الناصر بعدها عن الغزو
بنفسه وصار يردّد البعوث والصوائف. وثار سنة ثلاث وأربعين بجهات
ماردة ثائر وتوجهت إليه العساكر فجاءوا به وبأصحابه ومثّل بهم
وقتلوا.
(أخبار طليطلة ورجوعها الى الطاعة)
قال ابن حيان اختطها دير نيقيوش الجبار، وكان قوّاد رومة ينزلونها
دار ملك، ثم ثار بها برباط من نجدانية فملكها، واختلف قوّاد رومة
على حصاره. ثم وثب به بعض أصحابه فقتله وملكها. ثم قتل ورجعت إلى
قوّاد رومة، ثم انتقض أهلها وولّوا أميرا منهم اسمه أنيش. ثم قتل
ورجعت إلى قوّاد رومة، وقام أوّلهم شنتيلة، وأطاعه أهل الأندلس،
وامتنع على ملوك رومة. ثم غزاهم وحاصر رومة وفتح كثيرا من بلادها،
ورجع إلى طليطلة، وثار عليه البشكنس فظهر عليهم وأوقع بهم، ولحقوا
بالجبال، وهلك شنتيلة بعد تسع، وملك مكانه على الغوط بسيلة ست
سنين، ولم يغن فيها.
ثم ولي منهم حندس، وغزا إفريقية، وولي بعده قتبان، وبنى الكنائس
وبلغه خبر المبعث فقال له بليان، وكان من أكابر الغوط وأعاظمهم:
وجدت في كتاب
(4/180)
مطريوس العالم عن دانيال النبيّ أنهم
يملكون الأندلس. ثم هلك فتبادر وملك ابنه ست عشرة سنة، وكان سيّئ
السيرة. وولي بعده لزريق [1] ثم لم تزل طليطلة دار فتنة وعصبية
ومنعة، أتعبت عبد الرحمن الداخل سبع سنين، وانتقضت على هشام والحكم
وعلى عبد الرحمن الأوسط، إلى أن جاء الناصر فأدخلهم في الطاعة كرها
لما أكمل فتح ماردة وبطليوس وتسترين، سار إليهم في العساكر
وحاصرهم، وجاء الطاغية يظاهرهم فدافعه الناصر، وجثم عليها فخرج
أميرهم ثعلبة بن محمد بن عبد الوارث إلى الناصر فاستقال واستأمن
فأمّنه وعفا عنه، ودخلها الناصر وجال في أقطارها ورجع عنها، فلم
يزالوا مستقيمين على الطاعة بعد.
(أخبار الناصر مع أهل العدوة)
ثم سما للناصر أمل في ملك عدوة البربر من بلاد المغرب، فافتتح أمره
بملك سبتة من بني عصام ولاتها، واستدعى أمراء البربر بالعدوة، وبلغ
الخبر إبراهيم بن محمد أمير بني إدريس فبادر إلى سبتة، وحاصرها
أنفة من عبور الناصر إليهم. ثم استقال وكاتب الناصر بالولاية.
وأمّا إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول من الأدارسة فبادر بولاية
الناصر، وكاتبه وأهدى إليه، وتقبل أثره في ذلك محمد بن خزر أمير
مغراوة، وموسى بن أبي العافية أمير مكناسة، وهو يومئذ صاحب المغرب
بعد أن ملك قواعد المغرب الأوسط، وهي تنس ووهران وشرشال والبطحاء.
وأهدوا إلى الناصر فقبل وكافأهم وأحكم ولايتهم، وبادر جماعة من
الأدارسة إلى مثل ذلك منهم: القاسم ابن إبراهيم والحسن بن عيسى،
وأهدى صاحب فاس هدية عظيمة وعقد له الناصر على أهل بيته. ولما فشت
دعوة الناصر في المغرب الأقصى بعث عبيد الله المهدي قائده أن يصل
أمير مكناسة، وعامل تاهرت فزحف في العساكر إلى المغرب سنة إحدى
وعشرين، وكتب موسى بن أبي العافية إلى الناصر يستنجده، فأخرج إليه
قاسم بن طملس في العساكر، ومعه الأسطول فوصل إلى سبتة وبلغه الخبر
بأنّ موسى بن أبي العافية هزم عساكر حميد فأقصر ورجع حسبما هو
مذكور في أخبارهم.
__________
[1] اسمه ردريق القنبيطور drigoelcompeador
وهو صاحب الاسطورة التي بنى عليها الشاعر الفرنسي كورني مسرحيته
الشهيرة «السيد (تاريخ الشعوب الإسلامية ص 321 كارل بروكلمان)
(4/181)
(أخبار الناصر مع
الفرنجة والجلالقة)
وكان في أوّل المائة الرابعة ملك على الجلالقة أردون بن رذمير بن
برمنذ بن قريولة بن اذفونش بن بيطر. وخرج سنة اثنتين وثلاثمائة إلى
الثغر الجوفي لأوّل ولاية ولاية الناصر، وعاث في جهات ماردة، وأخذ
حصن الحنش، وبعث الناصر وزيره أحمد بن عبدة في العساكر إلى بلاده
فدوّخها، ثم أغزاه ثانية سنة خمس فنكث وقتل. ثم أغزى بدرا مولاه
فدوّخ ورجع. ثم غزا بنفسه بلاد جليّقة سنة ثمان واستنصر أردون
بشانجة بن غرسية ملك البشكنس وصاحب بنبولة فهزمهم الناصر، ووطئ
بلادهم وخرّبها، وفتح حصونهم وهدمها وردّد الغزو بعد ذلك في بلد
غرسية إلى أن هلك أدفونش وولي بعده ابنه فرويلة. قال ابن حيان لما
ملك فرويلة بن أردون بن رذمير ملك الجلالقة سنة ثلاث عشرة
وثلاثمائة ملك أخوه أدفونش ونازعه أخوه شانجة واستقل غرسية بليون
من قواعد ملكهم، وظاهر أدفونش على أمره ابن أخيه وهو أدفونش بن
فرويلة، وصهره شانجة فانهزموا وافترقت كلمتهم. ثم اجتمعوا ثانية
وخلعوا شانجة وأخرجوه عن مدينة ليون ففرّ إلى قاصية جليّقة، وولّى
أخاه رذمير بن أردون على ملكه بغربي جلّيقة إلى قلنسرية. وهلك
شانجة إثر ذلك ولم يعقب.
واستقل أدفونش وخرج على أخيه رذمير وملك مدينة سنت ماذكش. ثم
أكثروا عليه العذل في نزوعه عن الرهبانية فرجع إلى رهبانيته. ثم
خرج ثانيا وملك مدينة ليون وكان رذمير أخوه غازيا إلى سمورة فرجع
إليه وحاصره بها حتى اقتحمها عليه عنوة سنة عشرين وثلاثمائة فحسبه،
ثم سمله في جماعة من ولد أبيه أردون خافهم على أمره.
وكان غرسية بن شانجة ملك البشكنس لما هلك قام بأمرهم بعده أخته
طوطة وكفلت ولده. ثم انتقضت سنة خمس وعشرين فغزا الناصر بلادها
وخرّب نواحي بليونة وردّد عليها الغزوات. وفي أثناء هذه الغزوات
نازل محمد بن هشام التجيبي سرقسطة حتى أطاع كما مرّ، وكذا أمية بن
إسحاق في تسترين، وكان الناصر سنة اثنتين وعشرين قد غزا إلى وخشمة،
واستدعى محمد بن هشام من سرقسطة فامتنع ورجع إليه، وافتتح حصونه
وأخذ أخاه يحيى من حصن روطة. ثم رحل إلى ينبلونة فجاءته طوطة بنت
أنثير بطاعتها وعقد لابنها غرسية بن شانجة على ينبلونة. ثم عدل إلى
البلة
(4/182)
وبسائطها فدوّخها وخرب حصونها. ثم اقتحم
جلّيقة وملكها يومئذ رذمير بن أردون فخام عن اللقاء ودخل هو وحشمه
فنازله الناصر فيها، وهدم برغث وكثيرا من معاقلهم، وهزمهم مرارا
ورجع. ثم كانت بعدها غزوة الخندق ولم يغز الناصر بعدها بنفسه. وكان
يردّد الصوائف وهابته أمم النصرانية ووفدت عليه سنة ست وثلاثين رسل
صاحب القسطنطينيّة وهديته وهو يومئذ قسنطين بن ليون بن شل، واحتفل
الناصر للقائهم في يوم مشهود، وكتب [1] فيه العساكر بالسلاح في
أكمل هيئة وزيّ، وزيّن القصر الخلافيّ بأنواع الزينة وأصناف
الستور، وجمّل السرير الخلافيّ بمقاعد الأبناء والإخوة والأعمام
والقرابة، ورتّب الوزراء والخدمة في مواقفهم، ودخل الرسل فهالهم ما
رأوا وقربوا حتى أدّوا رسالتهم. وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في
ذلك المحفل، ويعظّموا أمر الإسلام والخلافة، ويشكروا نعمة الله على
ظهور دينه وإعزازه، وذلّة عدوّه فاستعدّوا لذلك. ثم بهرهم هول
المجلس فرجعوا وشرعوا في الغزل [2] فارتج عليهم، وكان فيهم أبو علي
القالي وافد العراق، كان في جملة الحكم ولي العهد، وندبه لذلك
استئثارا لفخره، فلمّا وجموا كلهم قام منذر بن سعيد البلوطي من غير
استعداد ولا رويّة ولا تقدّم له أحد في ذلك بشيء فخطب واستخفر،
وجلا في ذلك القصد، وأنشد آخره شعرا طويلا ارتجله في ذلك الغرض
ففاز بفخر ذلك المجلس، وعجب الناس من شأنه أكثر من كل ما وقع.
وأعجب الناصر به وولّاه القضاء بعدها، وأصبح من رجالات العالم،
وأخباره مشهورة وخطبته في ذلك اليوم منقولة في كتب ابن حيان وغيره.
ثم انصرف هؤلاء الرسل وبعث الناصر معهم هشام بن كليب الى الجاثليق
ليجدّد الهدنة، ويؤكد المودّة، ويحسن الإجابة. ورجع بعد سنتين وقد
أحكم من ذلك ما شاء، وجاءت معه رسل قسنطين. ثم جاء رسل ملك
الصقالبة وهو يومئذ هوتو، وآخر من ملك اللمان، وآخر من ملك الفرنجة
وراء المغرب، وهو يومئذ أفوه وآخر من ملك الفرنجة بقاصية المشرق،
وهو يومئذ كلدة. واحتفل السلطان لقدومهم وبعث مع رسل الصقالبة ريفا
الأسقف إلى ملكهم هوتو ورجعوا بعد سنتين. وفي سنة أربع وأربعين جاء
رسول أردون بن رذمير وأبوه رذمير وهو الّذي سمل أخاه أدفونش وقد
مرّ ذكره، بعث
__________
[1] بمعنى جعلها كتائب
[2] بمعنى المديح
(4/183)
بخطب السلم فعقد له. ثم بعث في سنة خمس
وأربعين يطلب إدخال فردلند بن عبد شلب قومس قشتيلية فردلند وقد مرّ
ذكره، ومال إلى أردون بن رذمير كما ذكرناه.
وكان غرسية بن شانجة حافد الطوطة بنت أسنين ملكة البشكنس فامتعضت
لحل حافدها غرسية ووفدت على الناصر سنة سبع وأربعين ملقية بنفسها
في عقد السلم لها ولولدها شانجة بن رذمير الملك، وأعانه حافدها
غرسية بن شانجة على ملكه ونصره من عدوّه، وجاء ملك جلّيقة فردّ
عليه ملكه وخلع الجلالقة طاعة أردون، وبعث إلى الناصر يشكوه على
فعلته، وكتب إلى الأمم في النواحي بذلك، وبما ارتكبه فردلند قومس
قشتيلة وعظيم قوامسه في نكثه، ووثوبه، ونفر بذلك عند الأمم ولم يزل
الناصر على موالاته وإعانته إلى أن هلك. ولما وصل رسول كلدة ملك
الإفرنجة بالمشرق كما تقدّم، وصل معه رسول مغيرة بن شبير ملك
برشلونة وطركونة، راغبا في الصلح فأجابه الناصر ووصل بعده رسول
صاحب رومة يطلب المودّة فأجيب.
(سطوة الناصر بابنه عبد الله)
كان الناصر قد وشحه [1] ابنه الحكم وجعله وليّ عهده وآثره على جميع
ولده ودفع إليه كثيرا من التصرّف في دولته وكان أخوه عبد الله
يساميه في الرتبة فغص لذلك وأغراه الحسد بالنكثة فنكث وداخل من في
قلبه مرض من أهل الدولة فأجابوه، وكان منهم ياسر الفتى وغيره. ونمي
الخبر بذلك إلى الناصر فاستكشف أمرهم حتى وقف على الجليّ فيه، وقبض
على ابنه عبد الله وعلى ياسر الفتى وعلى جميع من داخلهم وقتلهم
أجمعين سنة ثلاث وتسعين.
(مباني الناصر)
ولما استفحل ملك الناصر صرف نظره إلى تشييد المباني والقصور، وكان
جده الأمير محمد وأبوه عبد الرحمن الأوسط وجده الحكم قد اختلفوا في
ذلك، وبنوا قصورهم
__________
[1] من وشاح، بمعنى قلّده
(4/184)
على أكمل الاتفاق والضخامة، وكان منها
المجلس الزاهر، والبهو الكامل والقصر المنيف فبنى هو إلى جانب
الزاهر قصره العظيم، وسمّاه دار الروضة، وجلب الماء إلى قصورهم من
الجبل واستدعى عرفاء المهندسين والبنّاءين من كل قطر، فوفدوا عليه
حتى من بغداد والقسطنطينية. ثم أخذ في بناء المنتزهات فاتخذ مينا
الناعورة خارج القصور، وساق لها الماء من أعلى الجبل على بعد
المسافة. ثم اختط مدينة الزهراء واتخذها منزله وكرسيا لملكه، فأنشأ
فيها من المباني والقصور والبساتين ما علا على مبانيهم الأولى
واتخذ فيها مجالات للوحش فسيحة الفناء، متباعدة السياح ومسارح
الطيور ومظلّلة بالشباك واتخذ فيها دارا لصناعة آلات من آلات
السلاح للحرب والحلي للزينة وغير ذلك من المهن. وأمر بعمل الظلّة
على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حرّ الشمس.
(وفاة الناصر وولاية ابنه الحكم
المستنصر)
ثم توفي الناصر سنة خمسين وثلاثمائة أعظم ما كان سلطانه، وأعز ما
كان الإسلام بملكه. وكان له قضاة أربعة: مسلم بن عبد العزيز وأحمد
بن بقي بن مخلد، ومحمد ابن عبد الله بن أبي عيسى ومنذر بن سعيد
البلوطي. ولما توفي الناصر ولي ابنه الحكم وتلقّب المستنصر
باللَّه، وولّى على حجابته جعفر المصحفي، وأهدى له يوم ولايته هدية
كان فيها من الأصناف ما ذكره ابن حيان في المقتبس وهي مائة مملوك
من الفرنج ناشئة على خيول صافنة، كاملو الشيكة والأسلحة من السيوف
والرماح والدرق والتراس والقلانس الهندويّة، وثلاثمائة ونيّف
وعشرون درعا مختلفة الأجناس، وثلاثمائة خوذة كذلك، ومائة بيضة
هندية، وخمسون خوذة حبشية من حبشيات الإفرنجة غير الحبش التي
يسمّونها الطاشانية وثلاثمائة حربة إفرنجية، ومائة ترس سلطانية
الجنس، وعشرة جواشن نقية مذهبة، وخمسة وعشرون قرنا مذهبة من قرون
الجاموس، ولأوّل وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور، فغزا الحكم
بنفسه واستباحها، وقفل فبادروا إلى عقد السلم معه وانقبضوا عما
كانوا فيه. ثم أغزى غالبا مولاه بلاد جلّيقة، وسار إلى مدينة سالم
قبل الدخول لدار الحرب فجمع له الجلالقة، ولقيهم على أشتة فهزمهم
واستباحهم، وأوطأ العساكر بلاد فردلند
(4/185)
القومس، ودوّخها وكان شانجة بن رذمير ملك
البشكنس قد انتقض، فأغزاه الحكم يحيى بن محمد التجيبي صاحب سرقسطة
في العساكر. وجاء ملك الجلالقة لنصره فهزمهم، وامتنعوا في حصونها.
وعاث في نواحيها وأغزى الهذيل بن هاشم ومولاه غالبا، فعاثا فيها
وقفلا وعظمت فتوحات الحكم وقوّاد الثغور في كل ناحية، وكان من
أعظمها فتح قلهرة من بلاد البشكنس على يد غالب، فعمّرها الحكم
واعتنى بها. ثم فتح قطريبة على يد قائد وشقة، وغنم ما فيها من
الأموال والسلاح والآلات والأقوات. وفي بسيطة من الغنم والبقر
والرمك والأطعمة والسبي ما لا يحصى. وفي سنة أربع وخمسين سار غالب
إلى بلاد ألبة ومعه يحيى بن محمد التجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي
النون، فأخذ حصن غرماج، ودوّخ بلادهم وانصرف. وظهرت في هذه السنة
مراكب المجوس في البحر الكبير، وأفسدوا بسايط أحشبونة وناشبهم
الناس القتال، فرجعوا إلى مراكبهم. وأخرج الحكم القوّاد لاحتراس
السواحل، وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماجس بتعجيل حركة
الأسطول. ثم وردت الأخبار بأنّ العساكر نالت منهم من كل جهة من
السواحل. ثم كانت وفادة أردون بن أدفونش ملك الجلالقة. وذلك أنّ
الناصر لما أعان عليه شانجة بن رذمير وهو ابن عمّه وهو الملك من
قبل أردون وحمل النصرانية. واستظهر أردون بصهره فردلند قومس
قشتيلية [1] . ثم توقع مظاهرة الحكم لشانجة كما ظاهره أبوه الناصر،
فبادر بالوفادة على الحكم مستجيرا به فاحتفل لقدومه، وكان يوما
مشهودا وصفه ابن حيان كما وصف أيام الوفادات قبله. ووصل إلى الحكم
وأجلسه ووعده بالنصر على عدوه، وخلع عليه لما جاء ملقيا بنفسه،
وعاقده على موالاة الإسلام ومقاطعة فردلند القومس، وأعطى على ذلك
صفقة يمينه، ورهن ولده غرسية، ودفعت الصلات والحملات له ولأصحابه.
وانصرف معه وجوه نصارى الذمّة بقرطبة وليد بن مغيث القاضي، وأصبغ
بن عبد الله بن نبيل الجاثليق، وعبد الله بن قاسم مطران طليطلة
ليوطئوا له الطاعة عند رسميته، ويقبضوا رهنه، وذلك سنة إحدى
وخمسين. وعند ذلك بعث ابن عمّه شانجة بن رذمير ببيعته وطاعته مع
قولب من أهل جلّيقة وسمورة وأساقفهم يرغب في قبوله، ويبقى بما فعل
أبوه الناصر معه فتقبل بيعتهم على شروط
__________
[1] وهو فردند قومس قشتالة.
(4/186)
شرطها كان منها هدم الحصون والأبراج
القريبة من ثغور المسلمين. ثم بعث قومس الفرنجة برسل ومنيرة أثناء
سير ملك برشلونة وطركونة وغيرها يسألان تجديد العهد، وإقرارهما على
ما كانا عليه، وبعثا بهدية وهي عشرون صبيا من الخصيان الصقالبة،
وعشرون قنطارا من الصوف السمور، وخمسة قناطير من الفرصدس [1] ،
وعشرة أذراع صقلبية، ومائتا سيف إفرنجية، فقبل هديتهم وعقد لهم على
أن يهدما الحصون التي بقرب الثغور، وعلى أن لا يظاهروا عليه أهل
ملّتهم وأن ينذروه بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين.
ثم وصلت رسل غرسية بن شانجة ملك البشكنس في جماعة من الأساقفة
والقواميس يسألون الصلح، بعد أن كان توقف فعقد لهم الحكم ورجعوا.
وفي سنة خمس وستين وردت أمّ لزريق بن بلاكش القومس بالقرب من
جلّيقة، وهو القومس الأكبر، فأخرج الحكم لتلقّيها، واحتفل لقدومها
في يوم مشهود فوصلها وأسعفها، وعقد السلم لابنها كما رغبت وأحبت،
ودفع لها مالا تقسّمه بين وفدها، وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام
مثقلين بالذهب وملحفة ديباج.
ثم عاودت مجلس الحكم للوداع فعاودها بالصلات لسفرها وانطلقت. ثم
أوطأ عساكره من أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط وتلقى دعوته
ملوك زناتة من مغراوة ومكناسة فبثوها في أعمالهم، وخطبوا بها على
منابرهم، وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما بينهم. ووفد عليه ملوكهم من
آل خزر وبني أبي العافية فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم وأحسن منصرفهم
واستنزل بني إدريس من ملكهم بالعدوة في ناحية الريف، وأجازهم البحر
إلى قرطبة، ثم أجلاهم إلى الإسكندريّة حسبما نشير إلى ذلك كله بعد.
وكان محبا للعلوم مكرّما لأهلها جمّاعة للكتب في أنواعها ما لم
يجمعه أحد من الملوك قبله. قال ابن حزم: أخبرني بكيّة الخصيّ وكان
على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان، أن عدد الفهارس التي فيها
تسمية الكتب أربعة وأربعون فهرسة، في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها
إلّا ذكر أسماء الدواوين لا غير. فأقام للعلم والعلماء سلطانا نفقت
فيها بضائعه من كل قطر. ووفد عليه أبو علي الغالي صاحب كتاب
الأمالي من بغداد فأكرم مثواه وحسنت منزلته عنده، وأورث أهل
الأندلس علمه، واختص بالحكم المستنصر واستفاد علمه، وكان يبعث في
الكتب
__________
[1] لعلها الفرصاد وهو التوت.
(4/187)
إلى الأقطار رجالا من التجّار ويسرّب إليهم
الأموال لشرائها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه وبعث في
كتاب الأغاني إلى مصنّفه أبي الفرج الأصفهاني، وكان نسبه في بني
أمية، وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة
منه، قبل أن يخرجه بالعراق. وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهريّ
المالكيّ في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم، وأمثال ذلك. وجمع بداره
الحذّاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد،
فأوعى من ذلك كلّه، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد
من قبله ولا من بعده، إلا ما يذكر عن الناصر العبّاسي ابن
المستضيء. ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار
البربر، أمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور ابن أبي
عامر. ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة، واقتحامهم إيّاها
عنوة كما نشير إليه بعد. واتصلت أيام الحكم المستنصر، وأوطأ
العساكر أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط، وتلقى دعوته ملوك
زناتة ومغراوة ومكناسة فبثّها في أعمالهم، وخطبوا بها على منابرهم،
وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما يليهم، ووفد عليه ملوكهم من آل خزر
وبني أبي العافية، فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم.
(وفاة الحكم المستنصر وبيعة ابنه هشام
المؤيد)
ثم أصابت الحكم العلّة، فلزم الفراش إلى أن هلك سنة ست وستين
وثلاثمائة لست عشرة سنة من خلافته، وولي من بعده ابنه هشام صغيرا
مناهز الحلم، وكان الحكم قد استوزر له محمد بن أبي عامر، نقله من
خطة القضاء إلى وزارته، وفوّض إليه في أموره فاستقل وحسنت حاله عند
الحكم، فلما توفي الحكم بويع هشام ولقب المؤيد بعد أن قتل ليلتئذ
أخو الحكم المرشّح لأمره، تناول الفتك به محمد بن أبي عامر هذا
بممالأة جعفر بن عثمان المصحفي حاجب أبيه، وغالب مولى الحكم صاحب
مدينة سالم، ومن خصيان القصر ورؤسائهم فائق وجودر، فقتل محمد بن
أبي عامر المغيرة وبايع لهشام
.
(4/188)
(أخبار المنصور بن
أبي عامر)
ثم سما محمد بن أبي عامر المتغلب على هشام لمكانه في السن، وثاب له
رأي في الاستبداد فمكر بأهل الدولة، وضرب بين رجالها، وقتل بعضها
ببعض. وكان من رجال اليمنية من مغافر واسمه محمد بن عبد الله بن
أبي عامر بن محمد بن عبد الله بن عامر بن محمد بن الوليد بن يزيد
بن عبد الملك المغافري، دخل جدّه عبد الملك مع طارق، وكان عظيما في
قومه، وكان له في الفتح أثر، فاستوزره الحكم لابنه هشام كما
ذكرناه. فلما مات الحكم حجبه محمد وغلب عليه ومنع الوزراء من
الوصول إليه إلّا في النادر من الأيام يسلّمون وينصرفون. وأرخص
للجند في العطاء وأعلى مراتب العلماء وقمع أهل البدع، وكان ذا عقل
ورأي وشجاعة وبصر بالحروب ودين متين. ثم تجرّد لرؤساء الدولة ممن
عانده وزاحمه، فمال عليهم وحطّهم عن مراتبهم، وقتل بعضها ببعض. كل
ذلك عن أمر هشام وخطه وتوقيعه حتى استأصل بهم وفرّق جموعهم. وأوّل
ما بدأ بالصقالبة الخصيان الخدّام بالقصر، فحمل الحاجب المصحفي على
نكبتهم فنكبهم وأخرجهم من القصر، وكانوا ثمانمائة أو يزيدون ثم
أصهر إلى غالب مولى الحكم، وبالغ في خدمته والتنصّح له، واستعان به
على المصحفي فنكبه ومحا أثره من الدولة. ثم استعان على غالب بجعفر
بن علي بن حمدون صاحب المسيلة الفازع إلى الحكم أوّل الدولة بمن
كان معه من زناتة والبربر. ثم قتل جعفر عمّاله ابن عبد الودود وابن
جوهر وابن ذي النون وأمثالهم من أولياء الدولة من العرب وغيرهم. ثم
لما خلا الجو من أولياء الخلافة والمرشحين للرئاسة رجع إلى الجند
فاستدعى أهل العدوة من رجال زناتة والبرابرة فرتّب منهم جندا
واصطنع أولياء، وعرّف عرفاء من صنهاجة ومغراوة، وبني يفرن وبني
برزال ومكناسة وغيرهم، فتغلّب على هشام وحجره واستولى على الدولة،
وملأ الدنيا وهو في جوف بيته مع تعظيم الخلافة والخضوع لها، وردّ
الأمور إليها وترديد الغزو والجهاد، وقدّم رجال البرابرة زناتة،
وأخّر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم فتم له ما أراد من الاستقلال
بالملك والاستبداد بالأمر، وابتنى لنفسه مدينة فنزلها وسمّاها
الزاهرة، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة، وقعد على سرير الملك
وأمر أن يحيّا بتحيّة الملوك وتسمى
(4/189)
بالحاجب المنصور، ونفذت الكتب والأوامر
والمخاطبات باسمه، وأمر بالدعاء له على المنابر، وكتب اسمه في
السكّة والطرز، وعمر ديوانه بما سوى ذلك. وجند البرابرة والمماليك
واستكثر من العبيد والعلوج للاستيلاء على تلك الرغبة، وقهر من
يطاول إليها من الغلبة فظفر من ذلك بما أراد وردّد الغزو بنفسه إلى
دار الحرب، فغزا اثنتين وخمسين غزوة في سائر أيام ملكه لم ينكسر له
فيها راية، ولا فلّ له جيش، ولا أصيب له بعث، ولا هلكت سرية، وأجاز
عساكره إلى العدوة، وضرب بين ملوك البرابرة بعضهم في بعض، فاستوثق
ملكه بالمغرب وأذعنت له ملوك زناتة، وانقادوا لحكمه وأطاعوا
لسلطانه، وأجاز ابنه عبد الملك إلى ملوك مغراوة بفاس من آل خزر لما
سخط زيري بن عطية ملكهم لما بلغه من إعلانه بالنيل منه والغض من
ملكهم، والتأنف لحجر الخليفة هشام، فأوقع به عبد الملك سنة ست
وثمانين، ونزل بفاس وملكها، وعقد لملوك زناتة على المغرب وأعماله
من سجلماسة وغيرها على ما نشير إليه بعد. وشرّد زيري بن عطية إلى
تاهرت، وأبعد المفرّ، وهلك في مفرّه. ثم قفل عبد الملك إلى قرطبة
واستعمل واضحا على المغرب، وهلك المنصور أعظم ما كان ملكا وأشد
استيلاء سنة أربع وسبعين وثلاثمائة بمدينة سالم منصرفه من بعض
غزواته، ودفن هنالك وذلك لسبع وعشرين سنة من ملكه.
(المظفر بن المنصور)
ولما هلك المظفر قام بالأمر من بعده أخوه عبد الرحمن، وتلقب
بالناصر لدين الله، وجرى على سنن أبيه وأخيه في حجر الخليفة هشام،
والاستبداد عليه والاستقلال بالملك دونه. ثم ثاب له رأي في
الاستئثار بما بقي من رسوم الخلافة، فطلب من هشام المؤيد أن يوليه
عهده فأجابه، وأحضر لذلك الملأ من أرباب الشورى وأهل الحلّ والعقد
فكان يوما مشهودا، وكتب عهده من إنشاء أبي حفص بن برد بما نصّه:
هذا ما عهد هشام المؤيد باللَّه أمير المؤمنين إلى الناس عامة،
وعاهد الّذي عليه من نفسه خاصة، وأعطى به صفقة يمينه بيعة تامة بعد
أن أمعن النظر وأطال الاستخارة، وأهمّه ما جعل الله إليه من
الإمامة ونصب إليه من أمر المؤمنين واتقى حلول القدر بما لا يؤمن،
وخاف نزول القضاء بما لا يصرف، وخشي ان هجم محتوم
(4/190)
ذلك عليه، ونزل مقدوره به ولم يرفع لهذه
الأمة علما تأوي إليه، وملجأ تنعطف إليه، أن يلقى ربّه تبارك
وتعالى مفرطا ساهيا عن أداء الحق إليها، واعتبر عند ذلك من أحياء
قريش وغيرها من يستحق أن يستند هذا الأمر إليه، ويعول في القيام به
عليه ممن يستوجبه بدينه وأمانته، وهديه وصيانته، بعد اطراح الهوى
والتحرّي للحق والتزلف إلى الله عز وجل بما يرضيه. وبعد أن قطع
الأقاصي وأسخط الأقارب فلم يجد أحدا يولّيه عهده ويفوّض إليه
الخلافة بعده غيره لفضل نسبه، وكرم خيمه، وشرف مرتبته، وعلو منصبه،
مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه وتفاوته، المأمون العيب الناصح
الحبيب أبي المظفّر عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر، وفقه الله
تعالى إذ كان أمير المؤمنين قد ابتلاه واختبره، ونظر في شأنه
واعتبره فرآه مسارعا في الخيرات، سابقا إلى الجليات، مستوليا على
الغايات، جامعا للماثرات، ومن كان المنصور أباه والمظفّر أخاه فلا
غرو أن يبلغ من سبل البر مداه، ويحوي من خلال الخير ما حواه. مع
أنّ أمير المؤمنين أيده الله بما طالع من مكنون العلم، ووعاه من
مخزون الغيب، رأى أن يكون ولي عهده القحطاني الّذي حدّث عنه عبد
الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال: لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه، فلما
استوى له الاختيار وتقابلت عنده الآثار، ولم يجد عنه مذهبا ولا إلى
غيره معدلا خرج إليه من تدبير الأمور في حياته، وفوّض إليه الخلافة
بعد وفاته، طائعا راضيا مجتهدا، وأمضى أمير المؤمنين هذا وأجازه
وأنفذه، ولم يشترط فيه ثنيا ولا خيارا، وأعطى على الوفاء به في
سرّه وجهره، وقوله وفعله، عهد الله وميثاقه وذمّة نبيه صلى الله
عليه وسلم، وذمة الخلفاء الراشدين من آبائه، وذمة نفسه أن لا يبدل
ولا يغير ولا يحول ولا يزول. وأشهد على ذلك الله والملائكة وكفى
باللَّه شهيدا، وأشهد من أوقع اسمه في هذا، وهو جائز الأمر ماضي
القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون أبي المظفر عبد الرحمن بن
المنصور، وفقه الله تعالى وقيد له ما قلده، وألزمه نفسه ما في
الذمة. وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وكتب
الوزراء والقضاة وسائر الناس شهادتهم بخطوط أيديهم. وتسمى بعدها
بولي العهد. ونقم أهل الدولة عليه ذلك فكان فيه حتفه، وانقراض
دولته ودولة قومه والله وارث الأرض ومن عليها
.
(4/191)
(ثورة المهدي ومقتل
عبد الرحمن المنصور وانقراض دولتهم)
ولما حصل عبد الرحمن المنصور على ولاية العهد، ونقم ذلك الأمويون
والقرشيون وغصّوا بأمره واتفقوا على تحويل الأمر جملة من المضرية
إلى اليمنية فاجتموا لشأنهم، وتمشّت من بعض إلى بعض رجالاتهم،
وأجمعوا أمرهم في غيبة من الحاجب الناصر ببلاد الجلالقة في غزاه من
صوائف، ووثبوا بصاحب الشرطة ففتكوا به بمقعده من باب قصر الخلافة
بقرطبة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وخلعوا هشاما المؤيد، وبايعوا
محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله من
أعياص الملك، وأعقاب الخلفاء، ولقّبوه المهدي وطار الخبر إلى
الحاجب بمكانه من الثغر فانفضّ جمعه، وقفل إلى الحضرة مدلا بمكانه
زعيما بنفسه، حتى إذا قرب من الحضرة تسلل عنه الجند ووجوه البربر،
ولحقوا بقرطبة وبايعوا المهدي القائم بالأمر، وأغروه بالناصر
واعترضه منهم من تقبض عليه، واحتزّ رأسه وحمله إلى المهدي وإلى
الجماعة وذهبت دولة العامريين.
(ثورة البربر وبيعة المستعين وفرار
المهدي)
كان الجند من البرابرة وزناتة قد ظاهروا المنصور على أمره وأصبحوا
شيعة لبنيه من بعده، ورؤساؤهم يومئذ زاوي بن مناد الصنهاجي وبنو
ماكير ابن أخيه زيري، ومحمد ابن عبد الله البرزالي، ونصيل بن حميد
المكناسي الفازع أبوه عن العبيديين إلى الناصر، وزيري بن غزانة
المتيطي، وأبو زيد بن دوناس اليفرني، وعبد الرحمن بن عطاف اليفرني
وأبو نور بن أبي قرّة اليفرني، وأبو الفتوح بن ناصر وحزرون بن محصن
المغراوي، وبكساس بن سيد الناس، ومحمد بن ليلى المغراوي فيمن إليهم
من عشائرهم، فلحقوا بمحمد بن هشام لما رأوا من انتقاض أمر عبد
الرحمن وسوء تدبيره. وكانت الأموية تعتد عليهم ما كان من مظاهرتهم
العامريّين، وتنسب إليهم تغلب المنصور وبنيه على أمرهم فسخطتهم
القلوب، وخزرتهم العيون، وتنفست
(4/192)
بذلك صدور الغوغاء من أذيال الدولة، ولفظت
به ألسنة الدهماء من المدينة. وأمر محمد بن هشام أن لا يركبوا ولا
يتسلحوا وردوا في بعض الأيام من باب القصر، وانتهب العامّة يومئذ
دورهم، ودخل زاوي وابن أخيه حساسة وأبو الفتوح بن الناصر على
المهدي شاكين بما أصابهم، فاعتذر إليهم وقتل من آذاهم من العامّة
في أمرهم، وكان مع ذلك مظهرا لبغضهم مجاهرا بسوء الثناء عليهم.
وبلغهم انه سرّه الفتك بهم فتمشت رجالاتهم، وأسروا نجواهم. واتفقوا
على بيعة هشام بن سليمان ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، وفشا
في الخاصّة حديثهم، فعوجلوا عن أمرهم ذلك، وأغرى بهم السواد
الأعظم، فثاروا بهم وأزعجوهم [1] عن المدينة، وتقبض على هشام وأخيه
أبي بكر، وأحضرا بين يدي المهدي فضرب أعناقهما، ولحق سليمان ابن
أخيهما الحكم بجنود البربر وزناتة وقد اجتمعوا بظاهر قرطبة وتآمروا
فبايعوه ولقّبوه المستعين باللَّه، ونهضوا به إلى ثغر طليطلة
فاستجاش بابن أدفونش. ثم نهض في جموع البرابرة والنصرانية إلى
قرطبة، وبرز إليهم المهدي في كافة أهل البلد وخاصة الدولة، وكانت
الدبرة عليهم، واستلحم منهم ما يزيد على عشرين ألفا، وهلك من خيار
الناس وأئمة المساجد وسدنتها ومؤذنيها عالم. ودخل المستعين قرطبة
خاتم المائة الرابعة ولحق ابن عبد الجبّار بطليطلة.
(رجوع المهدي إلى ملكه بقرطبة)
ولما استولى المستعين على قرطبة خالفه محمد بن هشام المهدي إلى
طليطلة واستجاش بابن أدفونش ثانية، فنهض معه إلى قرطبة وهزم
المستعين والبرابرة بعقبة البقر من ظاهرها في آخر باب سبتة، ودخل
المهدي قرطبة وملكها.
(هزيمة المهدي وبيعته للمؤيد هشام
ومقتله)
ولما دخل المهدي إلى قرطبة خرج المستعين إلى البرابرة، وتفرّقوا في
البسائط والقرى
__________
[1] بمعنى أخرجوهم وأجلوهم ابن خلدون م 13 ج 4
(4/193)
فينهبون ويقتلون ولا يبقون على أحد. ثم
ارتحلوا إلى الجزيرة الخضراء، فخرج المهديّ وابن أدفونش واتبعهم
المستعين والبرابرة أثناء ذلك يحاصرونهم، حتى خشي الناس من اقتحام
البرابرة عليهم فأغروا أهل القصر وحاجبه المدبّر بالمهديّ، وأن
الفتنة إنما جاءت من قبله، وتولّى كبر ذلك واضح العامري فقتلوا
المهدي محمد بن هشام، واجتمعت الكافة على تجديد البيعة لهشام
المؤيد ليعتصموا به من معرّة البرابرة، وما يسومونهم به ملوكهم من
سوء العذاب، وعاد هشام إلى خلافته وأقام واضح العامري لحجابته، وهو
من موالي المنصور بن أبي عامر.
(حصار قرطبة واقتحامها عنوة ومقتل
هشام)
واستمرّ البرابرة على حصار قرطبة والمستعين بينهم، ولم يفرّ عن أهل
قرطبة، تبعه هشام المؤيد والبرابرة يتردّدون إليها ذاهبين وجائين
بأنواع النهب والفتك، إلى أن هلكت القرى والبسائط، وعدمت المرافق
وصافت أحوال أهل قرطبة وجهدهم الحصار. وبعث المستعين والبرابرة إلى
ابن أدفونش يستقدمونه لمظاهرتهم، فبعث إليه هشام المؤيد وحاجبه
واضحا يكفونه عن ذلك، بأن نزلوا له عن ثغور قشتالة التي كان
المنصور اقتحمها فسكن عزمه، وسكن عن مظاهرتهم، ثم اتصل الحصار
بمخنق البلد، وصدق البرابرة القتال فاقتحموها عنوة سنة ثلاث
وأربعمائة، وفتكوا بهشام المؤيد، ودخل المستعين ولحق بأهل قرطبة من
البرابرة في نسائهم ورجالهم وبناتهم وأبنائهم ومنازلهم. وظن
المستعين أن قد استحكم أمره، وتوثّبت البرابرة والعبيد على الأعمال
فولوا المدن العظيمة، وتقلدوا الأعمال الواسعة مثل باديس بن حبوس
في غرناطة ومحمد بن عبد الله البرزالي في قرمونة وأبو ثور بن أبي
شبل [1] بالأندلس، وصار الملك طوائف في آخرين من أهل الدولة مثل
ابن عباد بإشبيليّة، وابن الأفطس ببطليوس وابن ذي النون بطليطلة،
وابن أبي عامر ببلنسية ومرسية، وابن هود بسرقسطة ومجاهد العامري
بدانية والجزائر منذ عهد هذه الفتنة، كما نذكر في أخبارهم.
__________
[1] هكذا بياض بالأصل. ولم نعثر على اسم الولاية التي اختص بها ابو
ثور بن أبي شبل في المراجع التي بين أيدينا.
(4/194)
(ثورة ابن حمود
واستيلاؤه وقومه على ملك قرطبة)
ولما افترق شمل جماعة قرطبة وتغلّب البرابرة على الأمر، وكان عليّ
بن حمود وأخوه قاسم من عقب إدريس قد أجازوا معهم من العدوة فدعوا
لأنفسهم وتعصب معهم الكثير من البربر، وملكوا قرطبة سنة سبع
وأربعمائة، وقتلوا المستعين ومحوا ملك بني أمية، واتصل ذلك في خلق
منهم سبع سنين. ثم رجع الملك في بني أمية وفي ولد الناصر نحوا من
سبع سنين. ثم خرج عنهم وافترق الأمر في رؤساء الدولة من العرب
والموالي والبربر، واقتسموا الأندلس ممالك ودولا وتلقبوا بألقاب
الخلفاء كما نذكر ذلك كله مستوفى في أخبارهم.
(عود الملك إلى بني أمية وأولاد
المستظهر)
لما قطع أهل قرطبة دعوة المحموديّين بعد سبع من ملكهم، وزحف إليهم
قاسم بن حمود في جموع من البربر فهزمهم أهل قرطبة، ثم اجتمعوا
واتفقوا على ردّ الأمر إلى بني أمية، واختاروا لذلك عبد الرحمن بن
هشام بن عبد الجبار أخا المهدي، وبايعوه في رمضان سنة أربع عشرة
وأربعمائة، ولقبوه المستظهر. وقام بأمره المستكفي ثم ثار على
المستظهر لشهرين من خلافته محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن
الناصر أمير المؤمنين. كان المنصور بن أبي عامر قتل أباه عبد
الرحمن لسعيه في الخلاف، فثار الآن محمد هذا وتبعه الغوغاء، وفتك
بالمستظهر واستقلّ بأمر قرطبة وتلقب بالمستكفي.
(عود الأمر الى بني حمود)
وبعد ستة عشر شهرا من بيعة المستكفي رجع الأمر إلى يحيى بن علي بن
حمود، وهو المعتلي كما يذكر في أخبارهم، وفرّ المستكفي إلى ناحية
الثغر ومات في مفرّه
.
(4/195)
(المعتمد من بني
أمية)
ثم خلع أهل قرطبة المعتلي بن حمود ثانيا سنة سبع عشرة، وبايع
الوزير أبو محمد جهور ابن محمد بن جهور عميد الجماعة، وكبير قرطبة
لهشام بن محمد أخي المرتضى، وكان بالثغر في لاردة عند ابن هود.
ولما بلغه خبر البيعة له انتقل إلى البرنث، واستقرّ عند التغلب
عليها محمد بن عبد الله بن قاسم، وكانت البيعة له انتقل سنة ثمان
عشرة وأربعمائة، وتلقب المعتمد باللَّه، وأقام مترددا في الثغر
ثلاثة أعوام، واشتدت الفتن بين رؤساء الطوائف واتفقوا على أن ينزل
دار الخلافة بقرطبة فاستقدمه ابن جهور والجماعة، ونزلها آخر سنة
عشرين، وأقام يسيرا. ثم خلعه الجند سنة اثنتين وعشرين، وفرّ إلى
لاردة فهلك بها سنة ثمان وعشرين وانقطعت دولة الأموية والله غالب
على أمره.
(الخبر عن دولة بني حمود التي ادالت من دولة بني أمية بالأندلس
وأولية ملكهم وتصاريف أمورهم الى آخرها)
كان في جملة المستعين مع البربر والمغاربة أخوان من ولد عمر بن
إدريس، وهما القاسم وعلي ابنا حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن
عبيد الله بن عمر، كانوا في لفيف البرابرة في بلاد غمارة واستجدوا
بها رياسة استمرت في بني محمد وبني عمر من ولد إدريس فكانت للبربر
إليهم صاغية بسبب ذلك، وخلطة وبقي الفخر منهم بتازغدره من غمارة
فأجازوا مع البربر، وصاروا في جملة المستعين مع أمراء العدوة من
البربر فعقد لهما المستعين فيمن عقد له من المغاربة عقد لعليّ
منهما على طنجة وعملها، وللقاسم وكان الأسنّ على الجزيرة الخضراء.
وكان في نفوس المغاربة والبرابرة تشيّع لأولاد إدريس متوارث من
دولتهم بالعدوة كما ذكرناه. واستقام أمر عليّ بن حمود وتمكن
سلطانه، واتصلت دولته عامين إلى أن قتله صقالبته بالحمام سنة ثمان
(4/196)
وأربعمائة، فولي مكانه أخوه القاسم بن حمود
وتلقب بالمأمون. ونازعه في الأمر بعد أربع سنين من خلافته يحيى ابن
أخيه عليّ بسبتة، وكان أمير الغرب ووليّ عهد أبيه، فبعث إليه
أشياعهم من البربر مالا مع جند الأندلس سنة عشر واحتل بمالقة، وكان
أخوه إدريس بها منذ عهد أبيهما، فبعث إلى سبتة ووصل إلى يحيى بن
علي زاوي بن زيري من غرناطة، وهو عميد البرابرة ثانية يومئذ، فزحف
إلى قرطبة فملكها سنة اثنتي عشرة، وتلقب المعتلي واستوزر أبا بكر
بن ذكوان، وفرّ المأمون إلى إشبيلية وبايع له القاضي محمد بن
إسماعيل بن عباد. واستمال بعضا من البرابرة ثانية، واستجاشهم على
ابن أخيه ورجع إلى قرطبة سنة ثلاث عشرة. ولحق المعتلي بمكانه من
مالقة وتغلب على الجزيرة الخضراء عمل المأمون من لدن عهد المستعين،
وتغلب أخوه إدريس على طنجة من وراء البحر، وكان المأمون يعتدها
حصنا لنفسه وبنيه، ويستودع بها ذخيرته، وبلغ الخبر إلى قرطبة
بتغلبه على قواعده وحصونه مع ما كان يتشدد على بني أمية، فاضطرب
أمر المأمون وثار عليه أهل قرطبة ونقضوا طاعته، وبايعوا للمستظهر،
ثم للمستكفي من بني أمية كما ذكرناه. وتحيّز المأمون وبرابرته إلى
الأرباض فاعتصموا به، وقاتلوا دونه وحاصروا المدينة خمسين يوما. ثم
صمّم أهل قرطبة لمدافعتهم فأفرجوا عن الأرباض وانفضت جموعهم سنة
أربع عشرة. ولحق المأمون بإشبيليّة وبها ابنه محمد، ومحمد بن زيري
من رجالات البربر فأطمعه القاضي محمد بن إسماعيل بن عبّاد في الملك
وأن يمتنعوا من القاسم فمنعوه وأخرجوا إليه ابنه وضبطوا بلدهم. ثم
اشتدّ ابن عبّاد وأخرج محمد بن زيري، ولحق المأمون بشريش [1] ،
ورجع عنه البربر إلى يحيى المعتلي ابن أخيه فبايعوه سنة خمس عشرة.
وزحف إلى عمه المأمون بشريش فتغلب عليه، ولم يزل عنده أسيرا وعند
أخيه إدريس من بعده بمالقة إلى أن هلك في محبسه سنة سبع وعشرين
وأربعمائة، واستقل يحيى المعتلي بالأمور، واعتقل محمدا والحسن ابني
عمه القاسم المأمون بالجزيرة، ووكل بهما أبا الحجاج من المغاربة،
وأقاما كذلك. ثم خلع أهل قرطبة المستكفي، وصاروا إلى طاعة المعتلي
واستعمل عليهم عبد الرحمن بن عطاف اليفرني من رجالات البربر، وفرّ
المستكفي إلى ناحية الثغر فهلك بمدينة سالم. ثم نقض أهل قرطبة طاعة
المعتلي سنة
__________
[1] مدينة كبيرة من كورة شذونة- بالأندلس- وهي قاعدة هذه الكورة
واليوم يسمّونها شرش (معجم البلدان) .
(4/197)
سبع عشرة واربعمائة وصرفوا عامله عليهم ابن
عطاف وبايعوا للمعتمد أخي المرتضى. ثم خلعوه كما ذكرنا في خبره،
واستبدّ بأمر قرطبة الوزير ابن جهور بن محمد كما نذكره في أخبار
ملوك الطوائف. وأقام يحيى بن المعتلي يتخيفهم [1] ويردّد العساكر
لحصارهم إلى أن اتفقت الكافة على إسلام المدائن والحصون له، فعلا
سلطانه، واشتد أمره، وظاهره محمد بن عبد الله البرزالي على أمره
فنزل عنده بقرمونة يحاصر فيها ابن عباد بإشبيليّة إلى أن هلك سنة
ست وعشرين بمداخلة ابن عباد للبرزالي في اغتياله، فركب المعتلي
لخيل أغارت على معسكره بقرمونة من جند ابن عباد، وقد أكمنوا له،
فكبا به فرسه وقتل. وتولى قتله محمد بن عبد الله البرزالي وانقطعت
دولة بني حمود بقرطبة. وكان أحمد بن موسى بن بقية والخادم نجى
الصقلي وزيري دولة الحموديين عند أولها، فرجعا إلى مالقة دار
ملكهم، واستدعوا أخاه إدريس بن علي بن حمود من سبتة وطنجة، وبايعوه
على أن يولي سبتة حسن ابن أخيه يحيى فتم أمره بمالقة، وتلقب
المتأيد باللَّه، وبايعه المرية وأعمالها ورندة والجزيرة، وعقد
لحسن ابن أخيه يحيى على سبتة، ونهض معه نجى الخادم. وكان له ظهور
على ملوك الطوائف، وكان أبوه القاسم بن عباد قد استفحل ملكه لذلك
العهد، ومدّ يده إلى انتزاع البلاد من أيدي الثوار، وملك أشبونة
[2] واستجة [3] من يد محمد بن عبد الله البرزالي، وبعث العساكر مع
ابنه إسماعيل لحصار قرمونة فاستصرخ محمد بن عبد الله بالقائد هذا
وبزاوي فجاء زاوي بنفسه، وبعث القائد هذا عساكره مع ابن بقية فكانت
بينهم وبين ابن عباد حروب شديدة، هزم فيها ابن عباد وقتل وحمل رأسه
إلى إدريس المتأيد، وهلك ليومين بعدها سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة.
واعتزم ابن بقية على بيعة ابنه يحيى الملقب حبون فأعجله عن ذلك نجى
الخادم، وبادر إليه من سبتة ومعه حسن بن يحيى المعتلي فبايعه
البربر، ولقب المستنصر، وقتل ابن بقية وفرّ يحيى بن إدريس إلى
قمارش فهلك بها سنة أربع
__________
[1] خيف القوم: نزلوا منزلا، وخيف عن القتال: نكص.
[2] أشبونة: مدينة بالأندلس يقال لها لشبونة وهي متصلة بشنترين
قريبة من البحر المحيط يوجد على ساحلها العنبر الفائق (معجم
البلدان) .
[3] إستجة: اسم لكورة بالأندلس متصلة باعمال ريّة بين القبلة
والمغرب من قرطبة، وهي كورة قديمة واسعة الرساتيق والاراضي على نهر
سنجل وهو نهر غرناطة بينها وبين قرطبة عشرة فراسخ واعمالها متصلة
باعمال قرطبة (معجم البلدان) .
(4/198)
وثلاثين. ويقال بل قتله نجى، ورجع نجى إلى
سبتة ليحفظ ثغرها، ومعه ولد حسن ابن يحيى صبيا وترك السطيفي على
وزارة حسن لثقته به، وبايعته غرناطة وجملة من بلاد الأندلس. وهلك
حسن مسموما بيد ابنة عمه إدريس، ثأرت بأخيها حسن سنة ثمان وثلاثين،
فاعتقل السطيفي أخاه إدريس بن يحيى، وكتب إلى نجى وابن حسن
المستنصر الّذي كان عنده بسبتة ليعقد له. واغتاله نجى وأجاز إلى
مالقة، ودعي لنفسه. ووافقه البربر والجند. ثم نهض إلى الجزيرة
ليستأصل حسنا ومحمدا ابني قاسم بن حمود، ورجع خاسئا فاغتاله في
طريقه بعض عبيد القاسم وقتلوه. وبلغ الخبر إلى مالقة فثارت العامة
بالسطيفي، وقتل وأخرج إدريس بن يحيى المعتلي من معتقله، وبويع له
سنة أربع وثلاثين، وأطاعته غرناطة وقرمونة وما بينهما ولقب العالي،
وولى على سبتة سكوت ورزق الله من عبيد أبيه. ثم قتل محمدا وحسنا
ابني عمه إدريس، فثار السودان بدعوة أخيهما محمد بمالقة، وامتنعوا
بالقصبة، وكانت العامة مع إدريس، ثم أسلموه. وبويع محمد بمالقة سنة
ثمان وثلاثين وتلقب المهدي، وولى أخاه عهده ولقبه الساني. ثم نكر
منه بعض النزعات ونفاه إلى العدوة فأقام بين غمارة، ولحق العالي
بقمارش فامتنع بها وأقام يحاصر مالقة وزحف باديس من غرناطة منكرا
على المهدي فعله فامتنع عليه، فبايع له وانصرف وأقام المهدي في
ملكه بمالقة، وأطاعته غرناطة وحيان وأعمالها إلى أن مات بمالقة سنة
أربع وأربعين.
وبويع إدريس المخلوع ابن يحيى المعتلي من مكانه بقمارش، وبويع له
بمالقة وأطلق أيدي عبيده عليها لحقده عليهم، ففرّ كثير منهم إلى أن
هلك سنة سبع وأربعين، وبويع محمد الأصغر ابن إدريس المتأيد وتلقبه،
وخطب له بمالقة والمرية ورندة. ثم سار إليه باديس فتغلب على مالقة
سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وسار محمد المستعلي إلى المرية مخلوعا،
واستدعاه أهل مليلة فأجاز إليهم وبايعوه سنة تسع وخمسين، وبايعه
بنو ورقدى وقلوع جارة ونواحيها وهلك سنة [1] وأربعمائة. وأما محمد
بن القاسم المعتقل بمالقة ففرّ هو من ذلك الاعتقال سنة أربع عشرة،
ولحق بالجزيرة الخضراء فملكها وتلقب المعتصم إلى أن مات سنة
أربعين. ثم ملكها بعده ابنه القاسم الواثق إلى أن هلك سنة خمسين،
وصارت الجزيرة للمعتضد بن عباد
__________
[1] رغم البحث الدقيق لم نستطع تحديد سنة وفاته في المراجع التي
بين أيدينا.
(4/199)
وكان سكوت البرغواطي الحاجب مولى القاسم
الواثق محمد بن المعتصم، ويقال مولى يحيى المعتلي واليا على سبتة
من قبلهم، فلما غلب ابن عباد على الجزيرة طلبه في الطاعة، وطلب هو
ملك الجزيرة فامتنعت عليه واتصلت الفتنة بينهما الى أن كان من أمر
المرابطين وتغلبهم على سبتة على الأندلس ما سنذكره، والبقاء للَّه
وحده سبحانه وتعالى.
(الخبر عن ملوك الطوائف بالأندلس بعد
الدولة الاموية)
كان ابتداء أمرهم وتصاريف أحوالهم لما انتثر ملك الخلافة العربية
بالأندلس، وافترق الجماعة بالجهات، وصار ملكها في طوائف من الموالي
والوزراء وأعياص الخلافة وكبار العرب والبربر، واقتسموا خططها وقام
كل واحد بأمر ناحية منها.
وتغلب بعض على بعض استقل أخيرا بأمرها ملوك منهم استفحل شأنهم،
ولاذوا بالجزيرة للطاغية أو يظاهرون عليهم أو ينتزعونهم ملكهم، حتى
أجاز إليهم يوسف بن تاشفين أمير المرابطين، وغلبهم جميعا على أمرهم
فلنذكر أخبارهم واحدا بعد واحد.
(الخبر عن بني عباد ملوك اشبيلية وغربيّ الأندلس وعمن تغلبوا عليه
من أمراء الطوائف)
كان أوّلهم القاضي أبو القاسم محمد بن ذي الوزارتين أبي الوليد
إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عباد بن عمر بن أسلم بن عمر
بن عطاف بن نعيم اللخمي، وعطاف هو الداخل إلى الأندلس في طوالع لخم
وأصلهم من جند حمص ونزل عطاف قرية طشانة بشرق إشبيلية ونسل بنيه
بها. وكان محمد بن إسماعيل بن قريش صاحب الصلاة بطشانة ثم ولي ابنه
إسماعيل الوزارة بإشبيليّة سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وولي ابنه أبو
القاسم القضاء بها والوزارة من سنة أربع عشرة وأربعمائة إلى أن هلك
سنة ثلاث وثلاثين. وكان أصل رياسته أنه كان له اختصاص بالقاسم بن
حمود، وهو الّذي أحكم عقد ولايته، وكان محمد بن زيري من أقيال
البرابرة واليا
(4/200)
على إشبيلية، فلما فرّ القاسم من قرطبة
وقصده داخل ابن عباد محمد بن زيري في غرناطة ففعل وطردوا القاسم،
وطردوا بعده ابن زيري وصار الأمر شورى بينه وبين أبي بكر الزبيدي
معلم هشام، وصاحب مختصر العين في اللغة، ومحمد بن برمخ الألهاني.
ثم استبد عليهم وجند الجند ولم يزل على القضاء. ولما منع القاسم من
إشبيلية عدل عنها إلى قرمونة ونزل على محمد بن عبد الله البرزالي،
وكان ولي قرمونة أيام هشام والمهدي من بعده. ثم استبدّ بها سنة
أربع وأربعمائة أزمان الفتنة فداخله ابن عبّاد في خلع القاسم
والاستبداد بها. ثم تنصح للقاسم فتحول إلى شريش واستبد محمد بن
البرزالي بقرمونة واستبد أبو القاسم إلى أن هلك سنة ثلاث وثلاثين
كما قلناه، وقام بأمره ابنه عباد وتلقب المعتضد، واستولى على
سلطانه، واشتدت حروبه وأيامه. وتناول طائفة من الممالك بعد
بالأندلس، وانفسح أمده وأول ما افتتح أمره بمداخلة محمد بن عبد
الله البرزالي صاحب قرمونة في إفساد ما بينه وبين القاسم بن حمود
حتى تحوّل عنه إلى شريش. ثم تحارب مع عبد الله بن الأفطس صاحب
بطليوس وغزاه ابنه إسماعيل في عساكره، ومعه محمد بن عبد الله
البرزالي فلقيه المظفر ابن الأفطس فهزمهما وأسر المظفر بن البرزالي
إلى أن أطلقه بعد حين. ثم فسد ما بينه وبين البرزالي واتصلت الفتنة
بينهما إلى أن قتله ابنه إسماعيل خرج إليه في سرية فأغار على
قرمونة، وأكمن الكمائن، فركب محمد البرزالي في أصحابه، واستطرد له
إسماعيل إلى أن بلغ به الكمين فخرجوا عليه فقتلوه، وذلك سنة أربع
وثلاثين. ثم خالف عليه ابنه إسماعيل وأغراه العبيد والبرابرة
بالملك، فأخذ ما قدر عليه من المال والذخيرة، وفرّ إلى جهة الجزيرة
للتوثب بها، وكان أبوه ليلتئذ بحصن الفرج، فأنفذ الخيالة في طلبه،
فمال إلى قلعة الورد فتقبض واليها عليه، وأنفذه إلى أبيه فقتله
وقتل كاتبه، وكل من كان معه. ثم رجع إلى مطالبة البربر المنتزين
بالثغور وأوّل من نذكر منهم صاحب قرمونة وكان بها المستظهر العزيز
بن محمد بن عبد الله البرزالي، وليها بعد أبيه كما ذكرناه. وكانت
له معها استجة والمروز، وكان نموز ورواركش للوزير نوح الرموي من
برابرة العدوة شيعة المنصور، واستبدّ بها سنة أربع، ومات سنة ثلاث
وثلاثين. وولي ابنه عز الدولة الحاجب أبو مياد محمد بن نوح ومات
سنة [1]
__________
[1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد سنة وفاته من المراجع التي
بين أيدينا.
(4/201)
وكان يزيد أبو ثور بن أبي قرّة اليفرني
استبدّ بها أيام الفتنة سنة خمسين من يد عامر بن فتوح من صنائع
العلويين، ولم يزل المعتضد يضايقه، واستدعاه بعض الأيام لولاية
فحبسه، وكاده في ابنه بكتاب على لسان جاريته برندة، أنه ارتكب منها
محرّما، ثم أطلقه فقتل ابنه وشعر بالمكيدة فمات أسفا سنة خمسين،
وولي ابنه أبو نصر إلى أن غدر به في الحصن بعض أجناده فسقط من
السور، ومات سنة تسع وخمسين. وكان بشريش خزرون بن عبدون ثار بها
سنة اثنتين وأربعمائة فتقبض عليه ابن عباد وطالبهم وطاف على حصونهم
وصار يهاديهم، وأسجل لهم بالبلاد التي بأيديهم، فأسجل لابن نوح
بأركش، ولابن خزرون بشريش، ولابن أبي قرّة برندة، وصاروا في حزبه
ووثقوا به. ثم استدعاهم لوليمة وغدر بهم في حمام استعمله لهم على
سبيل الكرامة وأطبقه عليهم فهلكوا جميعا إلّا ابن نوح فإنه سالمه
من بينهم لليد التي كانت له عنده في مثلها. ثم بعث من تسلّم
معاقلهم وصارت في أعماله.
وخرج باديس لطلب ثأرهم منه، واجتمعت إليه عشائرهم فنازلوه مدّة ثم
انصرفوا، وأجازوا إلى العدوة فاحتلّوا بسبتة وطردهم سكوت فهلكوا في
المجاعة التي صادفوا، وأحلوا بالمغرب لذلك العهد. واستقل ابن عباد
وكان بأونية وشلطليش عبد العزيز البكري، وكانت عساكر المعتضد ابن
عباد تحاصره فشفع فيه ابن جهور للمعتضد فسالمه مدّة. ثم هلك ابن
جهور فعاد إلى مطالبته إلى أن تخلى له عنها سنة ثلاث وأربعين، فولى
عليها ابنه المعتمد. ثم سار إلى شلب وبها المظفر أبو الأصبغ عيسى
بن القاضي أبي بكر محمد بن سعد بن مزين ثار بها سنة تسع عشرة، ومات
سنة اثنتين وأربعين فسار إليها المعتضد وملكها من يد ابنه، ونقل
إليها المعتمد فنزلها واتخذها دار إمارة. ثم سار إلى شنت بريّة
وبها المعتصم محمد بن سعيد بن هارون، فانخلع له عنها سنة تسع
وثلاثين، وأضافها للمعتمد. وكان بلبلة تاج الدين أبو العباس أحمد
بن يحيى التحصيني، ثار بها سنة أربع عشرة، وخطب له بأونية وشلطليش،
ومات سنة ثلاث وثلاثين، وأوصى إلى أخيه محمد وضايقه المعتضد فهرب
إلى قرطبة واستبد بها ابن أخيه فتح بن خلف بن يحيى، وانخلع للمعتضد
سنة خمس وأربعين وصارت هذه كلها من ممالك بني عباد. وتملك المعتضد
أيضا مرسية وثار بها عليه ابن رشيق البناء، وتسمى خاصة الدولة،
وبقي ثمان سنين. ثم ثاروا عليه سنة خمس وخمسين ورجعوا لابن عباد.
وتملك المعتضد مرثلة من يد ابن طيفور سنة ست وثلاثين وكان
(4/202)
تملكها من يد عيسى بن نسب الجيش الثائر
بها، وصارت هذه الممالك كلها في ملك ابن عباد وكانت بينه وبين
باديس بن حبوس [1] صاحب غرناطة حروب إلى أن هلك سنة إحدى وستين،
وولى من بعده ابنه المعتمد بن المعتضد بن إسماعيل أبو القاسم بن
عباد وجرى على سنن أبيه، واستولى على دار الخلافة قرطبة من يد ابن
جهور، وفرّق أبناءه على قواعد الملك وأنزلهم بها، واستفحل ملكه
بغرب الأندلس وعلت يده على من كان هنالك من ملوك الطوائف، مثل ابن
باديس ابن حبوس بغرناطة وابن الأفطس ببطليوس وابن صمادح بالمرية
وغيرهم. وكانوا يطلبون سلمه ويعملون في مرضاته وكلهم يدارون
الطاغية ويتقونه بالجزى إلى أن ظهر بالعدوة ملك المرابطين، واستفحل
أمر يوسف بن تاشفين، وتعلقت آمال المسلمين في الأندلس بإعانته،
وضايقهم الطاغية في طلب الجزية فقتل ابن عباد ثقته اليهودي الّذي
كان يتردّد إليه لأخذ الجزية بسبب كلمة أسف بها. ثم أجاز البحر
صريخا إلى يوسف بن تاشفين، وكان من إجازته إليه ومظاهرته إياه ما
يأتي ذكره في أخباره، ثم طلب الفقهاء بالأندلس من يوسف بن تاشفين
رفع المكوس والظلامات عنهم، فتقدم بذلك إلى ملوك الطوائف فأجازوه
بالامتساك حتى إذا رجع من بلادهم رجعوا إلى حالهم، وهو خلال ذلك
يردّد العساكر للجهاد. ثم أجاز إليهم وخلع جميعهم ونقلهم إلى
العدوة، واستولى على الأندلس كما يأتي ذكره في أخباره. وصار ابن
عباد في قبضة حكمه بعد حروب نذكرها. ونقله إلى أغمات قرية مراكش
سنة أربع وثمانين وأربعمائة، واعتقله هنالك إلى أن هلك سنة ثمان
وثمانين. وكانت بالأندلس ثغور أخرى دون هذه، ولم يستول عليها ابن
عباد فمنها بلد السهلة، استبد بها هذيل بن خلف بن رزين أوّل المائة
الخامسة بدعوة هشام، وتسمى مؤيد الدولة. وهلك شهيدا سنة خمسين
واربعمائة وملك بعده أخوه حسام الدولة عبد الملك بن خلف، ولم يزل
أميرا عليها إلى أن ملكها المرابطون من يده عند تغلبهم على
الأندلس. ومنها بلد البونت واللج تغلب عليها عبد الله بن قاسم
الفهري أزمان الفتنة، وتسمى نظام الدولة وهو الّذي كان المعتمد
عنده عند ما ولاه الجماعة بقرطبة ومن عنده جاء إليها، وهلك سنة
إحدى وعشرين وولي ابنه محمد يمين الدولة،
__________
[1] هكذا بالأصل وكذلك في كتاب الاحاطة في اخبار غرناطة ص 485، أما
في كتاب الحلل السندسية للأمير شكيب أرسلان م ص 129 حيوس بالياء
المشددة.
(4/203)
وكانت بينه وبين مجاهد حروب، وملك بعده
ابنه أحمد عقد الدولة، وهلك سنة أربعين. وملك أخوه عبد الله جناح
الدولة إلى أن خلعه المرابطون سنة خمس وثمانين.
ولنرجع إلى ذكر بقية الملوك الأكابر من الطوائف والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب.
(أخبار ابن جهور)
كان رئيس الجماعة أيام الفتنة بقرطبة أبو الحزم جهور بن محمد بن
جهور بن عبد الله ابن محمد بن المعمر بن يحيى بن أبي المغافر بن
أبي عبيدة الكلبيّ، هكذا نسبه ابن بشكوال وأبو عبيدة هو الداخل إلى
الأندلس، وكانت لهم وزارة الدولة العامرية بقرطبة واستبد جهور هذا
سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، لما خلع الجند المعتز آخر خلفاء بني
أمية، ولم يدخل في أمور الفتنة، فاستولى على المملكة ورتب الأمور،
ولم يتحول عن داره إلى قصر الخلافة. وكان على سنن أهل الفضل يعود
المرضى، ويشهد الجنائز ويؤذن عند مسجدهم بالربض الشرقي، ويصلي
التراويح ولا يحتجب عن الناس فأسندوا أمرهم إليه إلى أن يوجد خليفة
إلى أن خاطبهم محمد بن إسماعيل ابن عباد يعرّفهم أن هشاما المؤيد
عنده بإشبيليّة، وأكثر في ذلك فخطب له بقرطبة بعد مراوضات [1] ، ثم
أتي به إلى قرطبة فمنعوه الدخول وأضربوا عن ذكره في الخطبة وانفرد
ابن جهور بأمرهم إلى أن هلك في محرم سنة خمس وثلاثين واربعمائة
ودفن بداره وولي ابنه أبو الوليد محمد بن جهور باتفاق من الكافة
فجرى على سنن أبيه.
وكان قد قرأ على مكي بن أبي طالب المكيّ وغيره فكان مكرما لأهله.
واستوزر ثقته إبراهيم بن يحيى فكفاه، وهلك كما هو معروف، ففوّض
التدبير إلى ابنه عبد الملك فأساء السيرة، وتكرّه إلى الناس وحاصره
ابن ذي النون بقرطبة، فاستغاث بمحمد ابن عباد فأمده بالجيش، ووصى
عسكره بذلك فداخلوا أهل قرطبة وخلعوه سنة إحدى وستين وأخرجوه عن
قرطبة. واعتقل بشلطليش إلى أن هلك سنة اثنتين وسبعين. وولى ابن
عباد على قرطبة ابنه سراج الدولة، وقدمها من بلنسية ودخلها إلى
__________
[1] المراوضات: هو ما يجري بين المتبايعين من الزيادة والنقصان،
كأن كل واحد منهما يروض صاحبه، من رياضة الدابة. (لسان العرب) .
(4/204)
أن قتل بها مسموما، وحمل إلى طليطلة فدفن
بها، وزحف المعتمد بن عباد بعد مهلكه إلى قرطبة فملكها سنة تسع
وستين وقتل ابن عكاشة واستخلف ابنه المأمون الفتح بن محمد، وصار
غرب الأندلس كلّه في ملكه إلى أن دخل المرابطون الأندلس، وغلبوا
عليهم سنة أربع وثمانين واربعمائة فقتل الفتح وحمل أباه المعتمد
إلى أغمات كما ذكرناه ونذكره. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير
الوارثين.
(أخبار ابن الأفطس صاحب بطليوس من غرب
الأندلس ومصاير أمره)
ملك بطليوس من غرب الأندلس عند الفتنة واهتياجها أبو محمد عبد الله
بن مسلمة التجيبي المعروف بابن الأفطس، واستبدّ بها سنة إحدى وستين
وأربعمائة فهلك، وولي من بعده ابنه المظفر أبو بكر، واستفحل ملكه،
وكان من أعاظم ملوك الطوائف. وكانت بينه وبين ابن ذي النون حروب
مذكورة، وكذا مع ابن عباد بسبب ابن يحيى صاحب مليلة، أعانه ابن
عباد عليه فاستولى بسبب ذلك على كثير من ثغوره ومعاقلة. واعتصم
المظفر ببطليوس بعد هزيمتين هلك فيهما خلق كثير وذلك سنة ثلاث
وأربعين. ثم أصلح بينهما ابن جهور وهلك المظفر سنة ستين وأربعمائة،
وتولى بعده ابنه المتوكل أبو حفص عمر بن محمد المعروف بساجة ولم
يزل سلطانا بها إلى أن قتله يوسف بن تاشفين أمير المرابطين سنة تسع
وثمانين وأربعمائة. وقتل معه أولاده، أغراه به ابن عباد فلما تمكنت
الاسترابة من المتوكل خاطب الطاغية واستراح إليه مما دهمه. وشعر به
ابن عباد فكاتب يوسف بن تاشفين واستحثه لمعاجلته قبل أن يتصل
بالطاغية، ويتصل بالثغر فاغذ إليه السير ووافاه سنة [1] فقبض عليه
وعلى بنيه وقتلهم يوم الأضحى حسبما فذكر في أخبارهم. ورثاه ابن
عبدون بقصيدته المشهورة وهي:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور
__________
[1] رغم التدقيق في المراجع التي بين أيدينا لم نستطع تحديد هذه
السنة.
(4/205)
عدد فيها أهل النكبات ومن عثر به الزمان
بما يبكي الجماد، وسنذكر قصتهم في أخبار لمتونة وفتحهم الأندلس،
والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
(أخبار باديس بن حسون ملك غرناطة
والبيرة)
كان عميد صنهاجة في الفتنة البربرية زاوي بن زيري بن مناد أجاز إلى
الأندلس على عهد المنصور، فلما هاجت الفتنة البربرية، وانحل نظام
الخلافة، كان فحل ذلك الشول وكبش تلك الكتائب، وعمد إلى البيرة،
ونزل غرناطة واتخذها دارا لملكه، ولما بايع الموالي العامريّون
للمرتضى المرواني وتولّى كبر ذلك مجاهد العامريّ ومنذر بن يحيى بن
هاشم التجيبي وعمد إلى غرناطة فلقيهم زاوي بن زيري في جموع صنهاجة
وهزمهم سنة عشرين وأربعمائة وقتل المرتضى. وأصاب زاوي من ذخائرهم
وأموالهم وعددهم ما لم يقتنه ملك. ثم وقع في نفسه سوء آثار البربر
بالأندلس أيام هذه الفتنة وحذّر مغبة ذلك فارتحل إلى سلطان قومه
بالقيروان، واستخلف على غرناطة ابنه فدبّر القبض على ابن رصين
ومشيخة غرناطة إذا رجعوا عن أبيه، وشعروا بذلك فبعثوا إلى ابن أخيه
ماكس بن زيري من بعض الحصون فوصل وملك غرناطة، واستبدّ بها إلى أن
هلك سنة تسع وعشرين واربعمائة وولي ابنه باديس، وكانت بينه وبين ذي
النون وابن عبّاد حروب. واستولى على سلطانه كاتبه وكاتب أبيه
إسماعيل بن نغزلة الذمّي، ثم نكبه وقتله سنة تسع وخمسين، وقتل معه
خلقا من اليهود، وتوفي سنة سبع وستين واربعمائة وولي حافده المظفّر
أبو محمد عبد الله بن بلكّين بن باديس، وولّى أخاه تميما بمالقة
بعهد جده. وخلعهما المرابطون سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة وحملا إلى
أغمات ووريكة، واستقرّا هنالك حسبما يذكر بعد في أخبارهم مع يوسف
ابن تاشفين والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
الخبر عن بني ذي النون ملوك طليطلة من
الثغر الجوفي وتصاريف أمورهم ومصاير أحوالهم
جدّهم إسماعيل الظافر بن عبد الرحمن بن سليمان بن ذي النون أصله من
قبائل هوارة
(4/206)
ورأس سلفه في الدولة المروانية وكانت لهم
رياسة في شنترية ثم تغلب على حصن أفلنتين أزمان الفتنة سنة تسع
وأربعمائة. وكانت طليطلة ليعيش بن محمد بن يعيش، واليها منذ أوّل
الفتنة، فلما هلك سنة سبع وعشرين استدعاه إسماعيل الظافر من حصن
أفلنتين بعض أجناد طليطلة فمضى إليها وملكها. وامتدّ ملكه إلى
جنجالة من عمل مرسية ولم يزل أميرا بها إلى أن هلك سنة تسع وعشرين.
وولي ابنه المأمون أبو الحسن يحيى، واستفحل ملكه وعظم بين ملوك
الطوائف سلطانه، وكانت بينه وبين الطاغية مواقف مشهورة. وفي سنة
خمس وثلاثين غزي بلنسية وغلب على صاحبها المظفّر ذي السابقين من
ولد المنصور بن أبي عامر. ثم غلب على قرطبة وملكها من يد ابن عبّاد
وقتل ابنه أبا عمر بعد أن كان ملكها، وهلك الظافر بها مسموما سنة
سبع وستين كما ذكرناه. وولي بعده على طليطلة حافده القادر يحيى بن
إسماعيل بن المأمون يحيى بن ذي النون، وكان الطاغية بن أدفونش قد
استفحل أمره لمّا خلا الجو من مكان الدولة الخلافية، وخفّ ما كان
على كاهله من أمر العرب، فآلتهم البسائط وضايق ابن ذي النون حتى
غلب على طليطلة فخرج له القادر عنها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة،
وشرط عليه أن يظاهره على أخذ بلنسية، وعليها عثمان القاضي ابن أبي
بكر بن عبد العزيز من وزراء ابن أبي عامر فخلعه أهلها خوفا من
القادر أن يمكن منهم ألفنش فدخلها القادر وأقام بها سنتين، وقتل
سنة إحدى وثمانين على ما نذكر بعد إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن ابن أبي عامر صاحب شرق الأندلس من بني ملوك الطوائف
وأخبار الموالي العامريّين الذين كانوا قبله وابن صمادح قائده
بالمريّة وتصاريف أحوالهم ومصايرها)
بويع للمنصور عبد العزيز بن عبد الرحمن الناصر بن أبي عامر بشاطبة
سنة إحدى عشرة وأربعمائة، أقامه الموالي العامريّون عند الفتنة
البربرية فاستبدّ بها. ثم ثار عليه أهل شاطبة فأفلت ولحق ببلنسية
فملكها وفوّض أمره للموالي. وكان من وزرائه ابن
(4/207)
عبد العزيز وكان خيران العامريّ من
مواليهم، تغلّب من قبل ذلك على أربولة سنة أربع. ثم ملك مرسية سنة
سبع، ثم حيّان ثم المريّة سنة تسع، وبايعوا جميعا للمنصور عبد
العزيز. ثم انتقض خيران على المنصور وسار من المريّة إلى مرسية
وأقام بها ابن عمّه أبا عامر محمد بن المظفّر بن المنصور بن أبي
عامر، خرج إليه من قرطبة من حجر القاسم بن حمّود، وخلص إلى خيران
بأموال جليلة، فجمع الموالي فأخذوا ماله وطردوه. ثم ولّاه خيران
وسمّاه المؤتمن ثم المعتصم. ثم تنكّر عليه وأخرجه من مرسية ولحق
بالمريّة وأغرى به الموالي فأخذوا ماله وطردوه، ولحق بغرب الأندلس
إلى أن مات. ثم هلك خيران بالمريّة سنة تسع عشرة، وقام بالأمر بعده
الأمير عميد الدولة أبو القاسم زهير العامريّ، وزحف إلى غرناطة
فبرز إليه باديس بن حبّوس وهزمه، وقتل بظاهرها سنة تسع وعشرين فصار
ملكه للمنصور عبد العزيز صاحب بلنسية، وملكها من يده سنة سبع
وخمسين. ولما هلك المأمون بن ذي النون وولي حافده القادر ولّى على
بلنسية أبا بكر بن عبد العزيز بقية وزراء ابن أبي عامر، فداخله ابن
هود في الانتقاض على القدر ففعل واستبدّ بها، وضبطها سنة ثمان
وستين حين تغلّب المقتدر على دانية. ثم هلك سنة ثمان وسبعين لعشر
سنين من ولايته. وولي ابنه القاضي عثمان، فلما سلم القادر بن ذي
النون طليطلة زحف إلى بلنسية ومعه ألفنش كما قلناه، وخلع أهل
بلنسية عثمان بن أبي بكر وأمكنوا منها القادر خوفا من استيلاء
النصرانيّ وذلك سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. ثم ثار على القادر سنة
ثلاث وثمانين القاضي جعفر بن عبد الله بن حجاب وقتله واستبدّ بها.
ثم تغلّب النصارى عليها سنة تسع وثمانين وقتلوه. ثم تغلّب
المرابطون على الأندلس وزحف ابن ذي النون قائدهم الى بلنسية
فاسترجعها من أيديهم سنة خمس وتسعين وأربعمائة. وأمّا معن بن صالح
قائد الوزير ابن أبي عامر فأقام بالمريّة لما ولّاه المنصور سنة
ثمان وثمانين، وتسمّى ذا الوزارتين. ثم خلعه وولّى ابنه المعتصم
أبو يحيى محمد بن معن بن صمادح، واستبدّ بها أربعا وأربعين سنة،
وثار عليه صاحب لورقة ابن شبيب، وكان أبوه معزولا عليها، فجهّز
إليه المعتصم جيشا واستمد ابن شبيب المنصور بن أبي عامر صاحب
بلنسية ومرسية بالعدوّ، واستمدّ المعتصم بباديس، ونهض عمّه صمادح
بن باديس ابن صمادح فقاتلوا حصونا من حصون لورقة واستولوا عليها،
ورجعوا ولم يزل المعتصم أميرا بالمريّة إلى أن هلك سنة ثمانين.
وولي ابنه وخلعه يوسف بن تاشفين أمير
(4/208)
المرابطين سنة أربع وثمانين، وأجاز إلى
العدوة ونزل على آل حمّاد بالقلعة، وبها مات ولده والله وارث الأرض
ومن عليها.
الخبر عن بني هود ملوك سرقسطة من
الطوائف صارت اليهم من بني هاشم وما كان من أوليتهم ومصاير أمورهم
كان منذر بن مطرف بن يحيى بن عبد الرحمن بن محمد بن هاشم التجيبي
صاحب الثغر الأعلى، وكان بين المنصور وعبد الرحمن منافسة على
الإمارة والرئاسة، وكانت دار إمارته سرقسطة، ولما بويع المهدي بن
عبد الجبّار وانقرض أمر العامريّين، وجاءت فتنة البربر كان مع
المستعين حتى قتل هشام مولاه، فامتعض لذلك وفارقه وبايع المرواني
للمرتضى مع مجاهد ومن اجتمع إليه من الموالي والعامريّين، وزحفوا
الى غرناطة فلقيهم زاوي بن زيري وهزمهم. ثم ارتابوا بالمرتضى
ووضعوا عليه من قتله مع خيران بالمريّة، واستبدّ منذر هذا بسرقسطة
والثغر وتلقّب بالمنصور، وعقد ما بين طاغية جليقة وبرشلونة وبنيه،
وهلك سنة أربع عشرة، وولي ابنه وتلقّب المظفّر وكان أبو أيوب
سليمان بن محمد بن هود الجذامي من أهل نسبهم مستبدا بمدينة تطيلة،
ولّاها منذ أوّل الفتنة، وجدّهم هود هو الداخل للأندلس ونسبه الأزد
إلى سالم مولى أبي حذيفة. قال هود بن عبد الله بن موسى بن سالم:
وقيل هود من ولد روح بن زنباع، فتغلّب سليمان على المظفّر يحيى بن
المنذر وقتله سنة إحدى وثلاثين، وملك سرقسطة والثغر الأعلى، وابنه
يوسف المظفّر لاردة. ثم نشأت الفتنة بينهما وانتصر المقتدر
بالإفرنج والبشكنس فجاءوا لميعاده فوقعت الفتنة بين المسلمين
وبينهم ثائره، وانصرفوا إلى يوسف صاحب لاردة فحاصرهم بسرقسطة، وذلك
سنة ثلاث وأربعين. وهلك أحمد المقتدر سنة أربع وسبعين لتسع وثلاثين
سنة من ملكه، فولي بعده ابنه يوسف المؤتمن، وكان قائما على العلوم
الرياضيّة، وله فيها تآليف مثل الاستهلال والمناظر ومات سنة ثمان
وسبعين، وهي السنة التي استولى فيها النصارى على طليطلة من يد
القادر بن ذي النون. وولي بعده المستعين وعلى يده كانت وقعة وشقه،
زحف سنة تسع وثمانين في آلاف لا تحصى من المسلمين، وهلك فيها خلق
نحو عشرة آلاف، ولم يزل أميرا بسرقسطة إلى أن هلك شهيدا سنة ثلاث
وخمسمائة ابن خبدون م 14 ج 4
(4/209)
بظاهر سرقسطة في زحف الطاغية إليها. وولي
بعده ابنه عبد الملك وتلقّب عماد الدولة، وأخرجه الطاغية من سرقسطة
سنة اثنتي عشرة فنزل روطة من حصونها وأقام بها إلى أن هلك سنة ثلاث
عشرة. وولي ابنه أحمد وتلقّب سيف الدولة والمستنصر، وبالغ النكاية
في الطاغية، ثم سلّم له روطة [1] على أن يملّكه بلاد الأندلس،
فانتقل معه إلى طليطلة بحشمه وآلته، وهنالك هلك سنة ست وثلاثين
وخمسمائة. وكان من ممالك بني هود هؤلاء مدينة طرطوشة [2] ، وقد كان
بقايا من الموالي العامريّين فملكها سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
ثم هلك سنة خمس وأربعين وملكها بعده يعلى العامريّ ولم تطل مدّته.
وملكها بعده شبيل إلى أن نزل عنها لعماد الدولة أحمد بن المستعين
سنة ثلاث وخمسين، فلم تزل في يده وفي يد بنيه من بعده إلى أن غلب
عليها العدوّ فيما غلب عليه من شرق الأندلس. والله وارث الأرض ومن
عليها وهو خير الوارثين.
(الخبر عن مجاهد العامري صاحب دانية
والجزائر الشرقية وأخبار بنيه ومواليهم من بعدهم ومصاير أمورهم)
كان فتح ميورقة سنة تسعين ومائتين على يد عصام الخولانيّ، وذلك أنه
خرج حاجّا في سفينة اتخذها لنفسه فعصفت بهم الريح فأرسوا بجزيرة
ميورقة، وطال مقامهم هنالك واختبروا من أحوالهم ما أطمعهم في
فتحها، فلما رجع بعد فرضه أخبر الأمير بما رأى فيها، وكان من أهل
الغناء عنده في مثلها، فبعث معه القطائع في البحر، ونفر الناس معه
إلى الجهاد، فحاصرها أياما وفتحوها حصنا حصنا إلى أن كمل فتحها.
وكتب عصام بالفتح إلى الأمير عبد الله، فكتب له بولايتها فوليها
عشر سنين، وبنى فيها المساجد والفنادق والحمامات. ولما هلك قدّم
أهل الجزيرة عليهم ابنه عبد الله، وكتب له الأمير بالولاية. ثم زهد
وترهّب وركب إلى الشرق حاجّا وانقطع خبره، وذلك سنة خمسين
وثلاثمائة. وبعث الناصر المرواني إليها الموفّق من
__________
[1] روطة: بضم اوله، وسكون ثانيه، وطاء مهملة: حصن من اعمال سرقسطة
بالأندلس وهو حصين جدا على وادي شلون. (معجم البلدان) .
[2] طرطوشة: بالفتح ثم السكون ثم طاء أخرى ومضمومة، واو ساكنة وشين
معجمة: مدينة بالأندلس تتصل بكورة بلنسية وهي شرقي بلنسية وقرطبة،
قريبة من البحر متقنة العمارة مبنية على نهر أبره ولها ولاية واسعة
وبلاد كثيرة تعد في جملتها. (معجم البلدان) .
(4/210)
الموالي فأنشأ الأساطيل وغزا بلاد الإفرنج،
وهلك سنة تسع وخمسين أيام الحكم المستنصر، وولي بعده كوثر من
مواليه فجرى على سنن الموفّق في جهاده. وهلك سنة تسع وثمانين أيام
المنصور فولّى عليها مقاتل من مواليه، وكان كثير الغزو والجهاد.
وكان المنصور وابنه المؤيد يمدّانه في جهاده. وهلك سنة ثلاث
وأربعمائة أزمان الفتنة.
وكان مجاهد بن يوسف بن عليّ من فحول الموالي العامريّين. وكان
المنصور قد ربّاه وعلّمه مع مواليه القراءات والحديث والعربية فكان
مجيدا في ذلك. وخرج من قرطبة يوم قتل المهدي سنة أربعمائة، وبايع
هو والموالي العامريّين وكثير من جند الأندلس للمرتضى كما قدّمناه.
ولقيهم زاوي بفحص غرناطة فهزمهم وبدّد شملهم. ثم قتل المرتضى كما
تقدّم وسار مجاهد إلى طرطوشة فملكها. ثم تركها وانتقل إلى دانية
واستقلّ بها. وملك ميورقة ومنورقة ويابسة واستبدّ سنة ثلاث عشرة.
ونصّب العيطي كما مرّ فأراد الاستبداد، ومنع طاعة مجاهد ومنعه أهل
ميورقة من ذلك، فبعث عنه مجاهد، وقدّم على ميورقة عبد الله ابن
أخيه فولي خمس عشرة سنة. ثم هلك، وكان غزا سردانية في الأساطيل
فاقتحمها، وأخرج النصارى منها وتقبضوا على ابنه أسيرا ففدّاه بعد
حين، وولّى مجاهد على ميورقة بعد ابن أخيه مولاه الأغلب سنة ثمان
وعشرين، وكان بين مجاهد صاحب دانية وبين خيران صاحب مرسية وابن أبي
عامر صاحب بلنسية حروب إلى أن هلك مجاهد سنة ست وثلاثين. وولي ابنه
عليّ وتسمى إقبال الدولة، وأصهر إلى المقتدر بن هود وأخرجه من
دانية سنة ثمان وستين ونقله إلى سرقسطة، ولحق ابنه سراج الدولة
بالإفرنجة، وأمدّوه على شروط شرطها لهم، فتغلّب على بعض حصونه. ثم
مات فيما زعموا مسموما بحيلة من المقتدر سنة تسع. ومات عليّ قريبا
من وفاة المقتدر سنة أربع وسبعين. ويقال بل فرّ أمام المقتدر إلى
بجاية، ونزل على صاحبها يحيى بن حمّاد، ومات هنالك، وأمّا الأغلب
مولى مجاهد صاحب ميورقة فكان صاحب غزو وجهاد في البحر. ولما هلك
مجاهد استأذن ابنه عليّا في الزيارة فأذن له، وقدّم على الجزيرة
صهره ابن سليمان بن مشكيان نائبا عنه، وبعث على آل الأغلب فاستعفاه
وأقام سليمان خمس سنين. ثم مات فولّى عليّ مكانه مبشرا وتسمى ناصر
الدولة، وكان أصله من شرق الأندلس أسر صغيرا وجبّه العدوّ وأقام
بدانية محبوبا يجاهد في أسرى دانية وسردانية، واصطفاه فولّاه بعد
مهلك سليمان فولي خمس سنين، وانقرض ملك عليّ وتغلّب عليه المقتدر
بن هود
(4/211)
فاستبد مبشر بميورقة، والفتنة يومئذ تموج
بين ملوك الطوائف. وبعث إلى دانية في تسليم أهل سيده، فبعثوا إليه
بهم وأولاهم جميلا. ولم يزل يردّد الغزو إلى أرض العدوّ إلى أن جمع
طاغية برشلونة الجموع ونازلة بميورقة عشرة أشهر. ثم افتتحها
واستباحها [1] سنة من ولايته. وكان بعث بالصريخ إلى عليّ بن يوسف
صاحب المغرب من لمتونة فلم يوافهم الأسطول بالمدد إلا بعد استيلاء
العدوّ. فلما وصل الأسطول دفعوا العدوّ عنها وولّى علي بن يوسف من
قبله أنور بن أبي بكر اللمتوني فعسف بهم وأرادهم على بناء مدينة
أخرى بعيدة من البحر فثاروا به وصفدوه، وبعثوا إلى عليّ بن يوسف
فردّهم إلى ولاية محمد بن علي بن إسحاق بن غانية المستولي صاحب غرب
الأندلس، فبعث إليها أخاه محمد بن علي من قرطبة، كان واليا عليها
فوصل إلى ميورقة فصغد أنور وبعث به إلى مراكش، وأقام في ولايتها
عشر سنين إلى أن هلك أخوه يحيى وسلطانهم عليّ بن يوسف. واستقرّت
ميورقة في ملك بني غانية هؤلاء وسلطانهم. وكانت لهم في زمن علي بن
يوسف بها دولة، وخرج منها علي ويحيى إلى بجاية وملكوها من
الموحّدين، وكانت لهم معهم حروب بإفريقية كما نذكر في أخبارهم بعد
أخبار لمتونة. وملك الإفرنج ميورقة من أيدي الموحّدين آخر دولتهم.
والبقاء للَّه والملك يؤتيه من يشاء وهو العزيز الحكيم.
(الخبر عن ثوّار الأندلس آخر الدولة اللمتونية واستبداد بني مردنيش
ببلنسية ومزاحمتهم لدولة بني عبد المؤمن من أوّلها إلى آخرها
ومصاير أحوالهم وتصاريفها)
لما شغل لمتونة بالعدوّ، وبحرب الموحّدين بعد عليهم الأندلس، وعادت
إلى الفرقة بعض الشيء فثار ببلنسية سنة سبع وثلاثين وخمسمائة
القاضي مروان بن عبد الله بن مروان بن حضاب، وخلعوه لثلاثة أشهر من
ملكه، ونزل بالمريّة. ثم حمل إلى ابن غانية بميورقة فسجن بها، وثار
بمرسية أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن بن ظاهر.
__________
[1] كذا بياض بالأصل والواقع ان مكان البياض مدة الزمن التي سبقت
افتتاح المدينة. ولم نستطع تحديد مقدار السنين من المراجع التي بين
أيدينا.
(4/212)
ثم خلع وقتل لأربعة أشهر من ولايته، وولي
حافد المستعين بن هود شهرين. ثم ولي ابن عياض وبايع أهل بلنسية بعد
ابن حضاب للأمير أبي محمد عبد الله بن سعيد بن مردنيش الجذاميّ.
وأقام مجاهدا إلى أن استشهد في بعض أيامه مع النصارى سنة أربعين
وخمسمائة، فبويع لعبد الله بن عياض كان ثائرا بمرسية كما قدمناه.
وهلك سنة اثنتين وأربعين فبويع إلى ابن أخيه محمد بن أحمد بن سعيد
بن مردنيش، وملك شاطبة [1] ومدينة شقر [2] ومرسية. وكان إبراهيم بن
همشك من قوّاده فعبث في أقطار الأندلس وأغار على قرطبة وتملّك بها.
ثم استرجعت منه ثم غدر بغرناطة وملكها من أيدي الموحّدين وحصرهم
بالقصبة هو وابن مردنيش. ثم استخلصها عبد المؤمن من أيديهم بعد
حروب شديدة دارت بينهم بفحص غرناطة، لقيه فيها ابن همشك وابن
مردنيش، وجيوش من أمم النصرانية استعانوا بهم في المدافعة عن
غرناطة، فهزمهم عبد المؤمن وقتلهم أبرح قتل، وحاصر يوسف بلنسية
فخطب للخليفة العبّاسيّ المستنجد، وكاتبه فكتب له بالعهد والولاية.
ثم بايع للموحّدين سنة ست وستين. وكان المظفّر عيسى بن المنصور بن
عبد العزيز الناصر بن أبي عامر عند ما انصرف إلى ملك شاطبة ومرسية
تغلّب على بلنسية مدّة، ثم هلك سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ورجعت إلى
ابن مردنيش. وكان أحمد بن عيسى تغلّب على حصن مزيلة ثائرا
بالمرابطين من أتباعه فغلب منذر بن أبي وزير عليه، فأجاز سنة
أربعين وخمسمائة إلى عبد المؤمن، ورغّبه في ملك الأندلس فبعث معه
البعوث وتغلّبوا على بني غانية أمراء المرابطين بالأندلس. وكان
بميورقة أيضا منذ اضطراب أمر لمتونة محمد بن علي بن غانية
المستوفي، وليها سنة عشرين وخمسمائة، واستشهد بها. ورحل عنها سنة
سبع وثلاثين إلى زيارة أخيه يحيى ببلنسية واستخلف على ميورقة عبد
الله بن تيما فلما مكث ثار عليه ثوّار فرجع محمد بن غانية وأصلح
شأنها إلى أن هلك سنة سبع وستين. وولي ابنه إبراهيم أبو إسحاق
وتوفي سنة ثمانين وخمسمائة.
وولي بعده أخوه طلحة وبايع للموحّدين سنة إحدى وثمانين، وأوفد
عليهم أهل
__________
[1] شاطبة: بالطاء المهملة، والباء الموحدة: مدينة شرقي الأندلس
وشرقي قرطبة، وهي مدينة كبيرة قديمة، يعمل الكاغد الجيّد فيها
ويحمل منها إلى سائر بلاد الأندلس. (معجم البلدان) .
[2] شقر: بفتح أوله وسكون ثانيه، جزيرة شقر: في شرقي الأندلس، وهي
انزه بلاد الله وأكثرها روضة وشجرا وماء (معجم البلدان) .
(4/213)
ميورقة، فبعثوا معهم علي بن الربرتبر، فلما
وصل إلى ميورقة ثار على طلحة بنو أخيه أبي إسحاق وهم عليّ ويحيى
ويعفر بن الربرتبر وخلعوا طلحة. ثم بلغهم موت يوسف بن عبد المؤمن
فخرجوا إلى إفريقية حسبما نذكر في أخبار دولتهم، فانقرضت دولة
المرابطين بالمغرب والأندلس وأدال الله منهم بالموحّدين وقتلوهم في
كل وجه، واستفحل أمرهم بالأندلس واستعملوا فيها القرابة من بني عبد
المؤمن وكانوا يسمّونهم السادة، واقتسموا ولايتها بينهم. وأجاز
يعقوب المنصور منهم غازيا بعد أن استقرّ أهل العدوة كافة من زناتة،
فأوقع العرب بابن أدفونش ملك الجلالقة بالأركه من نواحي بطليوس
الوقعة المذكورة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وأجاز ابنه الناصر من
بعده سنة تسع فمحص الله المسلمين واستشهد منهم عدة. ثم تلاشت أمراء
الموحّدين من بعده وانتزى بالسادة بنواحي الأندلس في كلّ عمله،
وضعف بمراكش فصاروا إلى الاستجاشة بالطاغية بقص، واستسلام حصون
المسلمين إليه في ذلك فسمت رجالات الأندلس وأعقاب العرب من دولة
الأموية، وأجمعوا إخراجهم فثاروا بهم لحين وأخرجوهم. وتولى كبر ذلك
محمد بن يوسف بن هود الجذامي الثائر بالأندلس. وقام ببلنسية زيّان
بن أبي الحملات مدافع بن يوسف بن سعد، من أعقاب دولة بني مردنيش
وثوار آخرون. ثم خرج عليّ بن هود في دولته من أعقاب دولة العرب
أيضا، وأهل نسبهم محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر، وتلقّب
محمد هذا بالشيخ فحاربه أهل الجبل، وكانت لكل منهما دولة أورثها
بنيه. فأمّا زيد بن مردنيش فكان مع عشرة من بني مردنيش رؤساء
بلنسية، واستظهر الموحّدون على إمارتها. ولما وليها السيد أبو زيد
بن محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن بعد مهلك المستنصر كما نذكر في
أخبارهم، وذلك سنة عشرين وستمائة، كان زيّان هذا بطانته وصاحب
أمره. ثم انتقض عليه سنة ست وعشرين عند ما بويع ابن هود بمرسية
وخرج إلى أبدة فخشيه السيد أبو زيد، وبعث إليه يلاطفه في الرجوع
فامتنع، ولحق السيد أبو زيد بطاغية برشلونة ودخل في دين النصرانية
أعاذنا الله من ذلك. وملك زيّان بلنسية واتصلت الفتنة بينه وبين
ابن هود، وخالف عليه بنو عمّه عزيز بن يوسف بن سعد في جزيرة شقر،
وصاروا إلى طاعة ابن هود وزحف زيّان للقائه على شريش فانهزم وتبعه
ابن هود ونازلة في بلنسية أياما وامتنعت عليه فأقلع، وتكالب
الطاغية على ثغور المسلمين، ونازل صاحب برشلونة أنيشة وملكها،
(4/214)
وزحف زيّان إليها بجميع من معه من المسلمين
سنة أربع وثلاثين ونفر معه أهل شاطبة وجزيرة شقر فكانت عليهم
الواقعة العظيمة التي استشهد فيها أبو الربيع سليمان، وأخذ الناس
في الانتقال عن بلنسية، فبعث إليهم يحيى بن أبي زكريا صاحب إفريقية
بالمدد من الأموال والأسلحة والطعام مع قريبه يحيى عند ما نبذ دعوة
بني عبد المؤمن وأوفد عليه أعيان بلنسية وهي محصورة فرجع إلى
دانية. ثم أخذ الطاغية بلنسية سنة ست وثلاثين، وخرج زيّان إلى
جزيرة شقر وأقام بدعوة الأمير أبي زكريا، وبعث إليه بيعتها مع
كاتبه الحافظ أبي عبد الله محمد بن الأنباري فوصل إلى تونس، وأنشده
قصيدته المشهورة على رويّ السين بلغ فيها من الإجادة حيث شاء، وهي
معروفة وسيأتي ذكرها في دولة بني حفص بإفريقية من الموحدين.
ثم هلك ابن هود وانتقض أهل مرسية على ابنه أبي بكر الواثق، وكان
واليه بها أبو بكر بن خطّاب، فبعثوا إلى زيّان واستدعوه فدخلها
وانتهب قصرها وحملهم على البيعة للأمير أبي زكريا على ولاية شرق
الأندلس كله، وذلك سنة سبع وثلاثين. ثم انتقض عليه ابن عصام
بأريولة ولحق به قرابة زيّان بمدينة لقنت فلم يزل بها إلى أن أخذها
منه طاغية برشلونة سنة أربع وأربعين فأجاز إلى تونس، وبها مات سنة
ثمان وستين. وأمّا ابن هود فسيأتي الخبر عن دولته، وأما ابن الأحمر
فلم تزل الدولة في أعقابه لهذا العهد. ونحن ذاكرون أخبارهم لأنهم
من بقايا دولة العرب والله خير الوارثين.
(الخبر عن ثورة ابن هود على الموحدين
بالأندلس ودولته وأولية أمره وتصاريف أحواله)
هو محمد بن يوسف بن محمد بن عبد العظيم بن أحمد بن سليمان المستعين
بن محمد بن هود ثار بالصخيرات من عمل مرسية مما يلي رقوط [1] عند
فشل دولة الموحّدين، واختلاف السادة الذين كانوا أمراء ببلنسية،
وذلك عند ما هلك المستنصر سنة عشرين. وبايع الموحدون بمراكش لعمّه
المخلوع عبد الواحد بن أمير المؤمنين
__________
[1] رقوط: لعلها رقوبل- ولم نجد لرقوط اي اسم: وهي مدينة بين شنت
بريّة ومدينة سرتّة بالأندلس، قديمة البناء (معجم البلدان) .
(4/215)
يوسف. ثار العادل ابن أخيه المنصور بمرسية
ودخل في طاعة صاحب حيّان أبو محمد عبد الله بن أبي حفص بن عبد
المؤمن، وخالفهما في ذلك السيد أبو زيد أخوه ابن محمد بن أبي حفص.
وتفاقمت الفتنة واستظهر كل على أمره بالطاغية، ونزلوا له عن كثير
من الثغور وقلقت من ذلك ضمائر أهل الأندلس، فتصدّر ابن هود هذا
للثورة، وهو من أعقاب بني هود من ملوك الطوائف، وكان يؤمّل لها
وربما امتحنه الموحّدون لذلك مرّات، فخرج في نفر من الأجناد سنة
خمس وعشرين، وجهّز إليه والي مرسية يومئذ السيد أبو العبّاس بن أبي
عمران موسى بن أمير المؤمنين يوسف ابن عبد المؤمن عسكرا فهزمهم.
وزحف إلى مرسية فدخلها واعتقل السيد، وخطب للمستنصر صاحب بغداد
لذلك العهد من بني العبّاس. وزحف إليه السيد أبو زيد ابن محمد بن
أبي حفص بن عبد المؤمن من شاطبة، وكان واليه بها فهزمه ابن هود
ورجع إلى شاطبة. واستجاش بالمأمون وهو يومئذ بإشبيليّة بعد أخيه
العادل فخرج في العساكر، ولقيه ابن هود فانهزم واتبعه إلى مرسية
فحاصره مدّة، وامتنعت عليه فأقلع عنه ورجع إلى إشبيلية. ثم انتقض
على السيد أبي زيد ببلنسية زيّان بن أبي الحملات مدافع بن حجّاج بن
سعد بن مردنيش، وخرج عنه إلى أبّدة [1] وذلك سنة ست وعشرين. وكان
بنو مردنيش هؤلاء أهل عصابة وأولي بأس وقوة، فتوقّع أبو زيد اختلال
أمره، وبعث إليه ولاطفه في الرجوع فامتنع فخرج أبو زيد من بلنسية.
ولحق بطاغية برشلونة ودخل في دين النصرانية، نعوذ باللَّه. وبايعت
أهل شاطبة لابن هود، ثم تابعه أهل جزيرة شقر حملهم عليها ولاتهم
بنو عزيز بن يوسف عم زيّان بن مردنيش، ثم بايعه أهل خبيان [2] وأهل
قرطبة، وتسمّى بأمير المسلمين، وبايعه أهل إشبيلية عند رحيل
المأمون عنها إلى مراكش، وولّى عليهم أخاه. ونازعه زيّان بن
مردنيش، وكانت بينهما ملاقاة انهزم فيها زيّان سنة تسع وعشرين،
وحاصره ابن هود ببلنسية. ثم أقلع ولقي الطاغية على ماردة فانهزم
ومحص الله المسلمين، وانهزم بعدها أخرى على الكوس. ولم تزل غزواته
متردّدة في بلاد العدوّ
__________
[1] أبدة: بالضم ثم الفتح والتشديد: اسم مدينة بالأندلس من كورة
جيّان، تعرف بأبدة العرب (معجم البلدان) .
[2] لعلها جيّان وقد حصل بعض التحريف من الناسخ لأننا لم نعثر على
خبيان في المراجع التي بين أيدينا.
وجيّان: مدينة لها كورة واسعة بالأندلس تتصل بكورة البيرة مائلة
عنها الى ناحية الجوف في شرقي قرطبة، بينها وبين قرطبة سبعة عشر
فرسخا (معجم البلدان) .
(4/216)
كل سنة وحربه معهم سجالا، والطاغية يلتقم
الثغور والقواعد. ثم استولى ابن هود على الجزيرة الخضراء وجبل
الفتح فرضتي المجاز على سبتة من يد السيد أبي عمران موسى لما انتقض
على أخيه المأمون، ونازلة بسبتة فبايع هو لابن هود وأمكنه منها. ثم
ثار بها اليناشتّي على ما يذكر. ثم بويع للسلطان محمد بن يوسف بن
نصر سنة تسع وعشرين بأرجونة ودخلت قرطبة في طاعته، ثم قرمونة ثم
انتقض أهل إشبيلية وأخرجوا سالم بن هود وبايعوا لابن مروان أحمد بن
محمد الباجي وجهّز عسكرا للقاء ابن الأحمر فانهزموا وأسر قائده. ثم
أصفق الباجي مع ابن الأحمر على فتنة ابن هود وصالح ابن هود ألفنش
على فعلتهم على ألف دينار كل يوم. ثم صارت قرطبة إلى ابن هود وزحف
إلى الباجي وابن الأحمر فانهزم، ونزل ابن الأحمر ظاهر إشبيلية. ثم
غدر الباجي فقتله وتولّى ذلك صهره أشقيلولة، وزحف سالم بن هود إلى
إشبيلية فنازلها وامتنعت عليه. ووصل خطاب الخليفة المستنصر
العبّاسي إلى ابن هود من بغداد سنة إحدى وثلاثين، وفد به أبو علي
حسن بن علي بن حسن بن الحسين الكرديّ الملقّب بالكمال. وجاء
بالراية والخلع والعهد ولقبه المتوكل. وقدم عليه بذلك في غرناطة في
يوم مشهود، وبايع له ابن الأحمر، وعند ما غدر ابن الأحمر بالباجي
فرّ من إشبيلية شعيب بن محمد إلى البلد فاعتصم بها، وتسمّى المعتصم
فحاصره ابن هود وأخذها من يده. ثم خرج العدوّ من كل جهة ونازلوا
ثغور المسلمين وأحاطوا بهم، وانتهت محلاتهم على الثغور إلى سبع. ثم
حاصر الطاغية مدينة قرطبة وغلب عليها سنة ثلاث وثلاثين وبايع أهل
إشبيلية للرشيد من بني عبد المؤمن، ثم زحف ابن الأحمر إلى غرناطة
وملكها كما يذكر، وبويع للرشيد سنة سبع وثلاثين.
وكان عبد الله أبو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الملك الأموي
الرميمي وزير ابن هود، وكان يدعوه ذا الوزارتين ولّاه المريّة من
عمله، فلم يزل بها وقدم عليه المتوكل سنة خمس وثلاثين وستمائة فهلك
بالحمام ودفن بمرسية. ويقال إنه قتله ثم استبدّ من بعده المؤيّد،
واستنزله عنها ابن الأحمر سنة ثلاث وأربعين. ولما هلك المتوكّل ولي
من بعده بمرسية ابنه أبو بكر محمد بعهده إليه وتلقّب بالواثق، وثار
عليه عزيز بن عبد الملك بن خطاب سنة ست وثلاثين لأشهر من ولايته
فاعتقله، وكان يلقّب ضياء الدولة. ثم تغلّب زيّان بن مردنيش على
مرسية وقتل ابن خطاب لأشهر من ولايته.
وأطلق الواثق بن هود من اعتقاله. ثم ثار عليه بمدينة مرسية محمد بن
هود عمّ
(4/217)
المتوكّل سنة ثمان وثلاثين، وأخرج منها
زيّان بن مردنيش، وتلقّب بهاء الدولة، وهلك سنة سبع وخمسين
وستمائة. وولي ابنه الأمير أبو جعفر، ثم ثار عليه سنة اثنتين وستين
أبو بكر الواثق الّذي كان ابن خطّاب خلعه، وهو المتوكل أمير
المسلمين، وبقي بها أميرا إلى أن ضايقه الفنش والبرشلونيّ، فبعث
إليه عبد الله بن علي بن أشقيلولة، وتسلّم مرسية منه. وخطب بها
لابن الأحمر. ثم خرج منها راجعا إلى ابن الأحمر فأوقع به البصريّ
في طريقه، ورجع الواثق إلى مرسية ثالثة فلم يزل بها إلى أن ملكها
العدوّ من يده سنة ثمان وستين، وعوّضه منها حصنا من عملها يسمّى
يسّ إلى أن هلك، والله خير الوارثين.
(الخبر عن دولة بني الأحمر ملوك
الأندلس لهذا العهد ومبدإ أمورهم وتصاريف أحوالهم)
أصلهم من أرجونة من حصون قرطبة ولهم فيها سلف في أبناء الجند
ويعرفون ببني نصر، وينسبون إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج، وكان
كبيرهم لآخر دولة الموحّدين محمد ابن يوسف بن نصر، ويعرف بالشيخ
وأخوه إسماعيل. وكانت لهم وجاهة في ناحيتهم. ولما فشل ريح
الموحّدين وضعف أمرهم وكثر الثوّار بالأندلس، وأعطى حصونها
للطاغية، واستقل بأمر الجماعة محمد بن يوسف بن هود الثائر بمرسية،
فأقام بدعوته العبّاسيّة، وتغلّب على شرق الأندلس أجمع فتصدّى محمد
بن يوسف هذا للثورة على ابن هود وبويع له سنة تسع وعشرين وستمائة
على الدعاء للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية، وأطاعته حيّان [1]
وشريش سنة ثلاثين بعدها، وكان يعرف بالشيخ ويلقّب بأبي دبوس.
واستظهر على أمره أوّلا بقرابته من بني نصر وأصهاره بني أشقيلولة
عبد الله وعلي. ثم بايع لابن هود سنة إحدى وثلاثين عند ما وصله
خطاب الخليفة من بغداد. ثم ثار بإشبيليّة أبو مروان الباجي عند
خروج ابن هود عنها، ورجوعه إلى مرسية فداخله محمد بن الأحمر في
الصلح على أن يزوّجه ابنته فأطاعه، ودخل إشبيلية سنة اثنتين
وثلاثين. ثم فتك بابن الباجي وقتله، وتناول
__________
[1] هي جيّان. وقد مرّ ذكرها من قبل.
(4/218)
الفتك به علي بن أشقيلولة. ثم راجع أهل
إشبيلية بعدها لشهر دعوة ابن هود، وأخرجوا ابن الأحمر. ثم تغلّب
على غرناطة سنة خمس وثلاثين بمداخلة أهلها ثم ثار ابن أبي خالد
بدعوته في لحيان ووصلته بيعتها، فقدّم إليها أبا الحسن بن
أشقيلولة. ثم جاء على أثره ونزلها واستقرّ بها بعد مهلك ابن هود،
وبايع للرشيد سنة تسع وثلاثين ثم تناول المؤيد من يد محمد بن
الرميمي فخلعه أهل البلد سنة ثلاث وستين وبايعوا لابن الأحمر. ثم
ثار أبو عمرو بن الجدّ واسمه يحيى بن عبد الملك بن محمد الحافظ أبي
بكر وملك إشبيلية، وبايع للأمير أبي زكريا بن حفص صاحب إفريقية سنة
ثلاث وأربعين، وولي عليهم أبو زكريا أميرا، وقام بأمرهم القائد
شغاف، والعدوّ أثناء ذلك يلتقم بلاد المسلمين وحصونهم من لدن عام
عشرين أو قبله، وصاحب برشلونة من ولد البطريق الّذي استعمله
الإفرنجة عليها الأوّل استرجاعهم لها من أيدي العرب فتغلّب عليها،
وبعد عن الفرنجة، وضعف لعهده سلطانهم. ووصلوا وراء الدروب وعجزوا
فكانوا عن برشلونة وجماعتها أعجز، فسما أهل طاغيتها منهم لذلك
العهد، واسمه حاقمة إلى التغلّب على ثغور المسلمين.
واستولى على ماردة سنة ست وعشرين وستمائة. ثم ميورقة سنة سبع
وعشرين وستمائة، ثم أجاز إلى سرقسطة وشاطبة كان تملكها منذ مائة
وخمسين من السنين قبلها. ثم بلنسية سنة ست وثلاثين وستمائة بعد
حصار طويل وطوى ما بين ذلك من الحصون والقرى حتى انتهى إلى المريّة
وحصونها، وابن أدفونش أيضا ملك الجلالقة هو ابن الادفونش- الملقب
بالحكيم- وآباؤه من قبله يتقرّى الفرستيرة حصنا حصنا، ومدينة مدينة
إلى أن طواها واستعبد ابن الأحمر هذا لأوّل أمره بما كان بينه وبين
الثوّار بالأندلس من المنازعة فوصل يده بالطاغية في سبيل الاستظهار
على أمره فوصله وشدّ عضده، وصار ابن الأحمر في جملته وأعطاه ابن
هود ثلاثين من الحصون أو نحوها في كفّ غربة عن ابن الأحمر، وأن
يعيّنه على ملك قرطبة فتسلّمها. ثم تغلّب على قرطبة سنة ثلاث
وثلاثين وأعاد إليها خيرة الله كلمة الكفر. ثم نازل إشبيلية سنة ست
وأربعين وابن الأحمر معه مظهر الامتعاض لابن الجدّ وحاصرها سنتين
ثم دخلها صلحا. وانتظم معها حصونها وثغورها وأخذ طليطلة من يد ابن
كماشة، وغلب بعد ذلك ابن محفوظ على شلب وطليبرة سنة تسع وخمسين.
ثم ملك مرسية سنة خمس وستين ولم يزل الطاغية يقتطع ممالك الأندلس
كورة كورة
(4/219)
وثغرا ثغرا إلى أن ألجأ المسلمين إلى سيف
البحر ما بين رندة من الغرب والبيرة من شرق الأندلس. نحو عشر مراحل
من الغرب الى الشرق وفي مقدار مرحلة أو ما دونها في العرض ما بين
البحر والجوف ثم سخط بعد ذلك الشيخ ابن الأحمر وطمع في الاستيلاء
على كافة الجزيرة فامتنعت عليه وتلاحق بالأندلس غزاة من زناتة
الثائرين يومئذ من بني عبد الواد وتوجين ومغراوة وبني مرين. وكان
أعلاهم كعبا في ذلك وأكثرهم غزي بنو مرين، فأجاز أوّلا أولاد إدريس
بن عبد الحق وأولاد رحو بن عبد الله بن عبد الحق أعياص الملك منهم
سنة ستين أو نحوها، فتقبل ابن الأحمر إجازتهم ودفع بهم في نحر
عدوّه، ورجعوا ثم تهايلوا إليه من بعد ذلك من كل بيت من بيوت بني
مرين ومعظمهم الأعياص من بني عبد الحق لما تزاحمهم مناكب السلطان
في قومهم وتغص بهم الدولة فينزعون إلى الأندلس مغنين بها من بأسهم
وشوكتهم في المدافعة عن المسلمين، ويخلصون من ذلك على حظ من الدولة
بمكان. ولم يزل الشأن هذا إلى أن هلك محمد بن يوسف بن الأحمر سنة
إحدى وسبعين وستمائة، وقام بأمره من بعده ابنه محمد وكان يعرف
بالفقيه لما كان يقرأ الكتاب من بين أهل بيته، ويطالع كتب العلم.
وكان أبوه الشيخ أوصاه باستصراخ ملوك زناتة من بني مرين الدائلين
بالمغرب من الموحّدين وأن يوثق عهده بهم ويحكم أراضي سلطانه
بمداخلتهم، فأجاز محمد الفقيه ابن الأحمر إلى يعقوب بن عبد الحق
سلطان بني مرين سنة اثنتين وسبعين وستمائة عند ما تم استيلاؤه على
بلاد المغرب، وتغلّبه على مراكش، وافتقاده سرير ملك الموحّدين بها
فأجاب صريخه، وأجاز عساكر المسلمين من بني مرين وغيرهم إلى الجهاد
مع ابنه منديل. ثم جاء على أثرهم وأمكنه ابن هشام من الجزيرة
الخضراء، كان ثائرا بها فتسلّمها منه ونزل بها، وجعلها ركابا
لجهاده وينزل بها جيش الغزو. ولما أجاز سنة اثنتين وسبعين كما
قلناه هزم زعيم النصرانية، ثم حذره ابن الأحمر على ملكه فداخل
الطاغية. ثم حذّر الطاغية فراجعه وهو مع ذلك يده في نحره بشوكة
الأعياص الذين نزعوا إليه من بني مرين بما شاركوا صاحب المغرب من
نسب ملكه وقاسموه في يعسوبية قبيلته، فكان له بذلك مدفع عن نفسه
ومرض في طاعة قرابته من بني أشقيلولة، كان عبد الله منهم بمالقة
وعلي بوادي آش وإبراهيم بحصن قمارش فالتاثوا عليه، وداخلوا يعقوب
بن عبد الحق سلطان بني مرين في المظاهرة عليه فكان له معهم فتنة،
وأمكنوا يعقوب من الثغور التي
(4/220)
بأيديهم مالقة ووادي آش حتى استخلصها هذا
السلطان الفقيه من بعد ذلك، كما نذكره في أخبار بني مرين مع بني
الأحمر. وصار بنو أشقيلولة آخرا وقرابتهم بني الزرقاء إلى المغرب،
ونزلوا على يعقوب بن عبد الحق وأكرم مثواهم وأقطعهم واستعملهم في
كبير الخطط للدولة حسبما يذكر. واستبدّ السلطان الفقيه ابن الأحمر
بملك ما بقي من الأندلس وأورثه عقبه من غير قبيل ولا كثير عصبة،
ولا استكثار من الحامية إلا من يأخذه الجلاء من فحول زناتة وأعياص
الملك فينزلون بهم غزي، ولهم عليهم عزّة وتغلّب وسبب ذلك ما
قدّمناه في الكتاب الأوّل من إفقاد القبائل والعصائب بأرض الأندلس
جملة فلا تحتاج الدولة هنالك إلى كبير عصبية، وكان للسلطان ابن
الأحمر في أوّل أمره عصبية من قرابته بني نصر وأصهارهم بني
أشقيلولة وبني المولى ومن تبعهم من الموالي والمصطنعين كانت كافية
في الأمر من أوّله مع معاضدة الطاغية على ابن هود وثوّار الأندلس
ومعاضدة ملك المغرب على الطاغية والاستظهار بالأعياص على ملك
المغرب، فكان لهم بذلك كله اقتدار على بلوغ أمرهم وتمهيده، وربما
يفهم في مدافعة الطاغية اجتماع الخاصّة والعامّة في عداوته، والرهب
منه بما هو عدوّ للدين فتستوي القلوب في مدافعته ومخافته فينزل ذلك
بعض الشيء منزلة العصبية. وكانت إجازة السلطان يعقوب بن عبد الحق
إليه أربع مرات، وأجاز ابنه يوسف إليهم بعد أبيه. ثم شغلته الفتنة
مع بني يغمر أسن إلى أن هلك السلطان الفقيه سنة إحدى وسبعمائة، وهو
الّذي أعان الطاغية على منازلة طريف وأخذها، وكان يمير عسكره مدّة
حصاره إياها إلى أن فتحها سنة [1] لما كانت ركابا لصاحب المغرب،
متى همّ بالجواز لقرب مسافة الزقاق. فلما ملكها الطاغية صارت عينا
على من يروم الجواز من الغزاة فغضب أمره عليهم، وولي من بعده ابنه
محمد المخلوع، واستبدّ عليه وزيره محمد بن محمد بن الحكم اللخميّ،
من مشيخة رندة ووزرائها فحجره واستولى على أمره، إلى أن ثار به
أخوه أبو الجيّوش نصر بن محمد فقتل الوزير، واعتقل أخاه سنة ثمان
وسبعمائة وكان أبوهما السلطان الفقيه استعمل على مالقة الرئيس أبا
سعيد ابن عمه إسماعيل بن نصر، وطالت فيها إمارته، وهو الّذي تملّك
سبتة وغدر بني الغرفي بها على عهد المخلوع
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي نسخة اخرى سنة اربع وسبعمائة.
(4/221)
وبدعوته كما يذكر في أخبار سبتة ودولة بني
مرين. وكان أصهر إليه في ابنته وكان له منها ابنه أبو الوليد
إسماعيل، فلما تملّك الجيوش نصر غرناطة واستولى على سلطانهم بها
ساءت سيرته وسيرة وزيره ابن الحاج وأحقد الأعياص من بني مرين،
واستظهر الرعية بالقهر والعسف. وكان بنو إدريس بن عبد الله بن عبد
الحق أمراء على الغزاة بمالقة، وكان كبيرهم عثمان بن أبي المعلّى،
فداخل أبا الوليد في الخروج على السلطان نصر، وتناول الأمر من يده
لضعفه وسعفه بطانته وأقربائه فاعتزموا على ذلك، ولم يتم لهم إلا
باعتقال أبيه أبي الجيوش فاعتقلوه، وبايعوا أبا الوليد. وثار
بمالقة سنة سبع عشرة الرئيس أبو سعيد وزحفوا إلى غرناطة فهزموا
عساكر أبي الجيّوش وثارت به الدهماء من أهل المدينة، وأحيط به.
وصالحهم على الخروج إلى وادي آش فلحق بها، وجدّد بها ملكا إلى أن
مات سنة اثنتين وعشرين، ودخل أبو الوليد إلى غرناطة فاضل بها لنفسه
وبنيه ملكا جديدا، وسلطانا فسيحا. ونازلة ملك النصارى ألفنش
بغرناطة سنة ثمان عشرة وأبلى فيها بني أبي العلا. ثم كان من تكييف
الله تعالى في قتله وقتل رديفه، واستلحام جيوش النصرانية بظاهر
غرناطة ما ظهرت فيه معجزة من معجزات الله. وتردّد إلى أرض
النصرانية بنفسه، غازيا مرّات مع عساكر المسلمين من زناتة
والأندلس، وكانت زناتة أعظم غناء في ذلك لقرب عهدهم بالتقشّف
والبداوة التي ليست للناس. وبلغ أبو الوليد من العزّ والشوكة إلى
أن غدر به بعض قرابته من بني نصر سنة سبع وعشرين وسبعمائة، طعنه
غدرا عند ما انفض مجلسه بباب داره فأنفذه وحمل إلى فراشه، ولحق
القادر بدار عثمان بن أبي العلى فقتله لحينه وقتل الموالي
المجاهدين، فخرج عليهم ولحق بانديس فتملّكها واستدعى محمد ابن
الرئيس أبي سعيد في معتقله بسلوباشة، ونصّبه للملك فلم يتمّ له
مراده من ذلك. ورجعوا آخرا للمهادنة، وقتل السلطان محمد وزيره ابن
المحروق بداره غدرا سنة تسع وعشرين، واستدعاه للحديث على لسان
عمّته المتغلّبة عليه مع ابن المحروق، وتناوله مع علوجه طعنا
بالخناجر إلى أن مات. وقام السلطان بأعباء ملكه، ورجع عثمان ابن
أبي العلى إلى مكانه من يعسوبية الغزاة وزناتة، حتى إذا هلك قدّم
عليهم مكانه ابنه أبا ثابت، وأجاز السلطان محمد إلى المغرب صريخا
للسلطان أبي الحسن على الطاغية فوجده مشغولا بفتنة أخيه محمد. ومع
ذلك جهّز له العساكر وعقد عليها سنة ثلاث وثلاثين. واستراب بنو أبي
العلى بمداخلة
(4/222)
السلطان أبي الحسن، فتشاوروا في أمره
وغدروا به يوم رحيله عن الجبل إلى غرناطة، فتقاصفوه بالرماح،
وقدّموا أخاه أبا الحجّاج يوسف، فقام بالأمر وشمّر عن ساعده في
الأخذ بثأر أخيه، فنكب بني العلى وغرّبهم إلى تونس، وقدّم على
الغزاة مكان أبي ثابت بن عثمان قرثية من بني رحو بن عبد الله بن
عبد الحق، وهو يحيى بن عمر بن رحو، فقام بأمرهم وطال أمر رياسته.
واستدعى السلطان أبو الحجّاج السلطان أبا الحسن صاحب المغرب فأجاز
ابنه عند ما تمّ له الفتح بتلمسان، وعقد له على عساكر جمّة من
زناتة والمطوّعة فغزاهم، وغنم وقفل راجعا. وتلاحقت به جموع النصارى
وبيّتوه على حدود أرضهم، فاستشهد كثير من الغزاة، وأجاز السلطان
أبو الحسن سنة إحدى وأربعين بكافة أهل المغرب من زناتة ومغراوة
والمرتزقة والمتطوّعة فنازل طريف، وزحف إليه الطاغية فلقيه بظاهرها
فانكشف المسلمون، واستشهد الكثير منهم، وهلك فيها نساء السلطان
وحريمه وفسطاطه من معسكره، وكان يوم ابتلاء وتمحيص. وتغلّب الطاغية
أثرها على القلعة ثغر غرناطة، ونازل الجزيرة الخضراء وأخذها صلحا
سنة ثلاث وأربعين، ولم يزل أبو الحجّاج في سلطانه إلى أن هلك يوم
الفطر سنة خمس وخمسين، طعنه في سجوده من صلاة العيد وغد من صفاعفة
البلد كان مجتمعا. وتولّى ابنه واستبدّ عليه مولاهم رضوان حاجب
أبيه وعمّه فقام بأمره وغلبه عليه وحجبه. وكان إسماعيل أخوه ببعض
قصور الحمراء قلعة الملك، وكانت له ذمّة وصهر من محمد بن عبد الله
بن إسماعيل بن محمد ابن الرئيس أبي سعيد، بما كان أبوه أنكحه شقيقة
إسماعيل هذا. وكان أبو يحيى هذا يدعى بالرئيس وجدّه محمد هذا هو
الّذي قدّمنا أنّ عثمان بن أبي العلى دعاه من مكان اعتقاله للملك
فداخل محمد هذا الرئيس بعض الزعالقة من الغوغاء، وبيت حصن الحمراء،
وتسوّره وولج على الحاجب رضوان في داره فقتله، وأخرج صهره إسماعيل
ونصّبه للملك ليلة سبع وعشرين من رمضان سنة ستين وسبعمائة.
وكان السلطان محمد هذا المخلوع بروضة خارج الحمراء، فلحق بوادي آش
وأجاز منها إلى العدوة، ونزل على ملك المغرب السلطان أبي سالم ابن
السلطان أبي الحسن فرعى له ذمّته، وأحمد نزوله وارتاب شيخ الغزاة
يحيى بن عمرو بالدولة ففرّ إلى دار الحرب ولحق منها بالمغرب ونزل
على السلطان أبي سالم فأحمد نزوله، وولي مكانه على الغزاة بغرناطة
من جهة إدريس بن عثمان بن أبي العلى. وقام الرئيس بأمر
(4/223)
إسماعيل أخيه ودبّر ملكه. ثم تردّدت
السعايات ونذر الرئيس بالنكبة فغدر بإسماعيل، وقتله وإخوته جميعا
سنة إحدى وستين. وقام بملك الأندلس ونبذ إلى الطاغية عهده ومنعه ما
كان سلفه يعطونه من الجزية على بلاد المسلمين، فشمّر الطاغية
لحربه، وجهّز العساكر إليه فأوقع المسلمون بهم بوادي آش وعليهم بعض
الرؤساء من قرابة السلطان فعظمت النكاية. وأرسل ملك المغرب إلى
الطاغية في شأن محمد المخلوع وردّه إلى ملكه، فأركب الأساطيل
وأجازه إلى الطاغية فلقيه ووعده المظاهرة على أمره، وشرط له
الاستئثار بما يفتح من حصون المسلمين. ثم نقض فيما افتتح منها
ففارقه السلطان وأوى إلى الثغر المغربي في ملكة بني مرين، وأمكن من
ثغور رندة، فزحف منها إلى مالقة سنة خمس وستين فافتتحها، وفرّ
الرئيس محمد بن إسماعيل من غرناطة ولحق بالطاغية. وكان معه إدريس
بن عثمان شيخ الغزاة بحبسه إلى أن فرّ من محبسه بعد حين، كما يذكر
في أخبارهم. وزحف السلطان محمد فيمن معه وأتوه بحاجب الرئيس وقتله،
واستلحم معه الرجال من الزعالقة الذين قتلوا الحاجب وتسوّروا قصور
الملك. ودخل السلطان محمد غرناطة واستولى على ملكه، وقدّم على
الغزاة شيخهم يحيى بن عمر، واختصّ ابنه عثمان، ثم نكبهما لسنة
وحبسهما بالمطبق بالمرية، ثم غرّبهما بعد أعوام وقدّم على الغزاة
قريبهما علي بن بدر الدين بن محمد بن رحو. ثم مات فقدّم مكانه عبد
الرحمن بن أبي يفلوسن وترفّع على السلطان أبي علي ابن محمد ملك
المغرب، وتملأ هذا السلطان محمد المخلوع أريكة ملكه بالحمراء
ممتنعا بالظهور والترف والعزّة على الطاغية والجلالقة، وعلى ملوك
المغرب بالعدوة بما نال دولتهم جميعا من الهرم الّذي يلحق الدول.
وأمّا الجلالقة فانتقضوا على ملكهم بطرة ابن أدفونش سنة ثمان وستين
من لدن مهلك أبيهما، ووقعت بين بطرة وبين ملك برشلونة بسبب إجارته
عليه فتن وحروب حجر منها الجلالقة، وكانت سببا لانتقاضهم على بطرة
واستدعائهم لأخيه ألفنش فجاء وبايعوه. وانحرفوا إليه جميعا عن
بطرة، فتحيّز إلى ناحية بلاد المسلمين واستدعى هذا السلطان محمدا
صاحب غرناطة لنصره من عدوّه، وأغزاه ببلاد ألفنش ففتح كثيرا من
معاقلها وخرّبها مثل حيّان [1] وأبدّة وأثر وغيرها. وعاث في
بسائطها ونزل قرطبة وخرّب نواحيها ورجع ظافرا غانما. ولحق
__________
[1] هي جيّان وقد مرت معنا من قبل.
(4/224)
ببطرة سلطان الإفرنجة الأعظم في ناحية
الشمال من وراء جزيرة الأندلس، وهو صاحب جزيرة أركبلطرة وتسمّى
بنسر غالس، وفد عليه صريخا وزوّجه بنته، فبعث ابنه لنصره في أمم
الإفرنج. وانهزم ألفنش أمامهم، وارتجع بطرة البلاد حتى إذا رجعت
عساكر الإفرنجة، رجع ألفنش فارتجع [1] البلاد ثانيا وحاصر أخاه
بطرة في بعض حصون جلّيقة حتى أخذه وقتله واستولى على ملكهم. واغتنم
السلطان صاحب غرناطة شغلهم بهذه الفتنة فاعتزّ عليهم، ومنع الجزية
التي كانوا يأخذونها من المسلمين منذ عهد سلفه فأقاموا من لدن سنة
اثنتين وسبعين لا يعطونهم شيئا.
واستمرّ على ذلك وسما إلى مطالبتهم بنسر غالس ملك الفرنجة من
ورائهم الّذي جاء لنصر بطرة، وأنكحه بطرة ابنته، وولدت له ولدا
فزعم أبوه هذا الملك أنه أحق بالملك من ألفنش وغيره على عادة العجم
في تمليك الأسباط من ولد البطن. وطالت الحرب بينهما ونزل بالجلالقة
من ذلك شغل شاغل، واقتطع الكثير من ثغورهم وبلادهم، فمنعهم ابن
الأحمر الجزية واعتزّ عليهم كما ذكرناه، والحال على ذلك لهذا
العهد. وأمّا ملوك المغرب فإن السلطان عبد العزيز بن السلطان أبي
الحسن لما استبدّ بملكه واستفحل أمره، وكان عبد الرحمن بن أبي
يغلوسن مقدّما على الغزاة بالأندلس كما قلناه، وهو قسيمه في النسب
ومرادفه في الترشيح للملك، فعثر السلطان عبد العزيز على مكاتبة
بينه وبين أهل دولته، فارتاب وبعث إلى ابن الأحمر في حبسه فحبسه،
وحبس معه الأمير مسعود بن ماسي لكثرة خوضه في الفتنة، ومكاتبته
لأهل الدولة. فلما توفي السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وبويع
ابنه محمد السعيد يافعا وكفله وزير أبيه أبو بكر بن غازي الثائر
أطلق ابن الأحمر عبد الرحمن بن أبي يغلوسن من محبسه فنقم ذلك عليه
الوزير أبو بكر كافل الدولة بالمغرب، واعتزم على بعث الرؤساء من
قرابة ابن الأحمر إلى الأندلس لمنازعته، ومدّه بالمال والجيش. وبلغ
ذلك ابن الأحمر فعاجله عنه وسار في العساكر إلى فرضة المجاز، ونازل
جبل الفتح، ومعه ابن يغلوسن وابن ماسي، وأركبهما السفن فنزلوا
ببلاد بطرة فاضطرب المغرب، واشتدّ الحصار على أهل جبل الفتح،
واستأمنوا لابن الأحمر وأطاعوه. وكان بسبتة محمد بن عثمان بن الكاس
صهر أبي بكر بن غازي وقريبه بعثه
__________
[1] بمعنى استعاد والأصح أن يقول واسترجع البلاد ثانيا.
ابن خلدون م 15 ج 4
(4/225)
لضبط المراسي عند ما نزل ابن الأحمر على
الجبل، وبطنجة يومئذ جماعة من ولد السلطان أبي الحسن المرشحين
محبوسون منذ عهد عبد العزيز، فوقعت المراسلة من السلطان ابن الأحمر
ومحمد بن عثمان، ونكر عليه مبايعتهم لولد صغير لم يراهق.
وأشار ببيعة واحد من أولئك المرشّحين المحبوسين بطنجة، ووعده
بالمظاهرة والمدد بالمال والجيش، ووقع اختيار محمد بن عثمان على
السلطان أبي العبّاس أحمد، فأخرجه وبايع له. وقد كان أولئك الفتية
تعاهدوا في محبسهم أنّ من استولى منهم على الملك أطلق الباقين
منهم، فوفّى لهم السلطان أبو العبّاس لأوّل بيعته، وأطلقهم من
المحبس، وبعثهم إلى الأندلس، ونزلوا على السلطان ابن الأحمر
فأكرمهم وجعلهم لنظره. وبعث بالأموال والعساكر للسلطان أبي العبّاس
ولوزيره محمد بن عثمان، وكتب إلى عبد الرحمن بن أبي يغلوسن
بموافقتهما واجتماعهما على الأمر، فساروا جميعا ونازلوا دار الملك
بفاس حتى استأمن ابو بكر بن غازي للسلطان أبي العبّاس، وأمكنه من
البلد الجديد دار الملك فدخلها في محرّم سنة ست وسبعين. وشيّع عبد
الرحمن بن أبي يغلوسن إلى مراكش وأعمالها وسوّغ له ملكها كما كان
الوفاق بينهما من قبل. وبعث بالسعيد بن عبد العزيز المنصوب، واتصلت
الموالاة والمهاداة بينه وبين ابن الأحمر، وانتقض ما بينه وبين عبد
الرحمن صاحب مراكش، ونهض مرارا، وحاصره وابن الأحمر يمدّه تارة
ويسعى بينهما في الصلح أخرى، إلى أن نهض إليه سنة أربع وثمانين
وحاصره شهرا، واقتحم عليه حصنه عنوة وقتله ورجع إلى فاس.
ثم نهض. الى تلمسان، وهرب صاحبها أبو أحمد سلطان بني عبد الواد،
ودخل السلطان أبو العبّاس تلمسان. وكان جماعة من سماسرة الفتن قد
سعوا ما بينه وبين السلطان ابن الأحمر بالفساد حتى أوغروا صدره،
وحملوه على نقض دولة السلطان أبي العبّاس ببعض الأعياص الذين عنده،
فاختار من أولئك الفتية الذين نزلوا عليه من طنجة موسى ابن السلطان
أبي عنّان، واستوزر له مسعود بن ماسي، وركب السفن معه إلى سبتة
فبادر أهلها بطاعة موسى، وأتوه ببيعتهم، وارتحل عنهم إلى فاس وملك
السلطان ابن الأحمر سبتة، وصارت في دعوته، وعمد السلطان موسى إلى
دار الملك بفاس فوقف عليها يوما، واستأمنوا له آخر النهار فدخلها
سنة ست وثمانين، وأصبح جالسا على سرير ملكه. وطار الخبر إلى
السلطان أبي العبّاس، وقد ارتحل من تلمسان لقصد أبي حبو وبني عبد
الواد بمكانهم من دار الملك فكرّ راجعا،
(4/226)
وأغذّ السير إلى فاس، فلما تجاوز تازي
وتوسّط ما بينهما وبين فاس، افترق عنه بنو مرين وسائر عساكره،
وساروا على راياتهم إلى السلطان موسى، ونهب معسكره، ورجع هو إلى
تازي فتوثّق منه عاملها حتى جاء يريد السلطان من فاس فتقبض عليه،
وحمله إلى فاس وأزعجه السلطان موسى إلى الأندلس ونزل على ابن
الأحمر كما كان هو. واستولى السلطان موسى على المغرب واستبد عليه
وزيره مسعود، وطالب ابن الأحمر بالنزول على سبتة فامتنع، ونشأت
بينهما الفتنة، ودسّ ابن ماسي لأهل بيته بالثورة على حامية السلطان
ابن الأحمر عندهم فثاروا عليهم، وامتنعوا بالقصبة حتى جاءهم المدد
في أساطيل ابن الأحمر، فسكن أهل بيته واطمأنت الحال، ونزع إلى
السلطان ابن الأحمر جماعة من أهل الدولة، وسألوه أن يبعث لهم ملكا
من الأعياص الذين عنده، فبعث إليهم الواثق محمد بن الأمير أبي
الفضل ابن السلطان أبي الحسن وشيّعه في الاسطول إلى سبتة، وخرج إلى
غمارة وبلغ الخبر إلى مسعود بن ماسي، فخرج إليه في العسكر وحاصره
بتلك الجبال. ثم جاءه الخبر بموت سلطانه موسى ابن السلطان أبي
عنّان بفاس فارتحل راجعا. ولما وصل إلى دار الملك نصّب على الكرسي
صبيا من ولد السلطان أبي العبّاس كان تركه بفاس. وجاء السلطان أبو
عنّان ابن الأمير أبي الفضل، ونزل بجبل زرهون قبالة فاس. وخرج ابن
ماسي في العساكر فنزل قبالته. وكان متولي أمره أحمد بن يعقوب
الصبيحي، وقد غصّ به أصحابه فذبوا [1] عليه وقتلوه أمام خيمة
السلطان. وامتعض السلطان لذلك ووقعت المراسلة بينه وبين ابن ماسي
على أن يبايع بشرط الاستبداد عليه، واتفقا على ذلك.
ولحق السلطان بابن ماسي ورجع به إلى دار الملك فبايع له وأخذ له
البيعة من الناس.
وكانت معه حصة من جند السلطان ابن الأحمر مع مولى من مواليه فحبسهم
جميعا.
وامتعض لذلك السلطان فاركب ابا العبّاس البحر وجاء معه بنفسه إلى
سبتة فدخلها وعساكر ابن ماسي عليها يحاصرونها، فبايعوا جميعا
للسلطان أبي العبّاس. ورجع ابن الأحمر إلى غرناطة، وسار السلطان
أبو العباس إلى فاس واعترضه ابن ماسي في العساكر فحاصره بالصفيحة
من جبل غمارة، وتحدّث أهل عسكره في اللحاق بالسلطان أبي العبّاس
ففزعوا إليه، وهرب ابن ماسي وحاصره السلطان شهرا حتى
__________
[1] فذبوا: ذبّ: دافع وحامي، ولم نجد لها معنى هنا ومقتضى السياق
هجم. اما مقتضى سياق الجملة:
ذبّ عنه أصحابه، وقتله جماعة السلطان.
(4/227)
نزلوا على حكمه فقطع ابن ماسي بعد أن قتله
ومثّل به. وقتل سلطانه، واستلحم سائر بني ماسي بالنكيل والقتل
والعذاب. واستولى على المغرب واستبدّ بملكه وأفرج السلطان ابن
الأحمر على سبتة وأعادها إليه. واتصلت الموالاة بينهما. وأقام ابن
الأحمر في اعتزازه ولم تطرقه نكبة ولا حادثة سائر أيامه إلا ما
بلغنا أنه نمي له عن ابنه وليّ عهده أبي الحجّاج يوسف أنه يروم
التوثّب به، وكان على سفر في بعض نواحي الأندلس فقبض على ولده
لحينه، ورجع إلى غرناطة. ثم استكشف حاله فظهرت براءته فأطلقه
وأعاده إلى أحسن أحواله. وإلا ما بلغنا أيضا أنه لمّا سار من
غرناطة إلى جبل الفتح شاربا [1] لأحوال السلطان أبي العبّاس وهو
بالصفيحة من جبال غمارة، وابن ماسي يحاصره، فنمي إليه أن بعض
حاشيته من أولاد الوزراء وهو ابن مسعود البلنسي [2] ابن الوزير أبي
القاسم بن حكيم قد اتفقوا على اغتياله، وأن ابن ماسي دسّ إليهم
بذلك ونصبت له على ذلك العلامات التي عرفها فقبض عليهم لحينه، ولم
يمهلهم وقتلهم وجميع من داخلهم في ذلك، ورجع إلى غرناطة وأقام
ممتنعا بملكه إلى أن هلك سنة ثلاث وتسعين، فولي مكانه ابنه أبو
الحجّاج وبايعه الناس، وقام بأمره خالد مولى أبيه وتقبّض على إخوته
سعد ومحمد ونصر فهلكوا في محبسهم، ولم يوقف لهم على خبر. ثم سعى
عنده في خالد القائم بدولته أنه أعد السمّ لقتله، وأن يحيى بن
الصائغ اليهودي طبيب دارهم داخله في ذلك ففتك بخالد، وقتل بين يديه
صبرا بالسيوف لسنة أو نحوها من ملكه. وحبس الطبيب فذبح في محبسه.
ثم هلك سنة أربع وتسعين لسنتين أو نحوها من ملكه. وبويع ابنه محمد
وقام بأمره محمد الخصاصي القائد من صنائع أبيه، والحال على ذلك
لهذا العهد والله غالب على أمره. وقد انقضى ذكر الدولة الأموية
المنازعين لبني العبّاس ومن تبعهم من الملوك بالأندلس، فلنذكر الآن
شيئا من أخبار ملوك النصرانية الذين يجاورون المسلمين بجزيرة
الأندلس من سائر نواحيهم، ونلمّ بطرف من أنسابهم ودولهم.
__________
[1] بمعنى مستضعفا.
[2] كذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد الأسماء الناقصة من المراجع
التي بين أيدينا.
(4/228)
(الخبر عن ملوك بني
أدفونش من الجلالقة ملوك الأندلس بعد الغوط ولعهد المسلمين وأخبار
من جاورهم من الفرنجة والبشكنس والبرتغال والإلمام ببعض أخبارهم)
والملوك لهذا العهد من النصرانية أربعة في أربعة من العمالات محيطة
بعمالة المسلمين، قد ظهر اعجاز الملة في مقامهم معهم وراء البحر
بعد ما استرجعوا من أيديهم ما نظمه الفتح الإسلامي أوّل الأمر.
وأعظم هؤلاء الملوك الأربعة: قشتالة وعمالاته عظيمة متسعة مشتملة
على أعمال جليقية كلها، مثل قشتالة وغليسية. والقرنتيرة وهي بسيط
قرطبة وإشبيلية وطليطلة وجيان، آخذة في جوف الجزيرة من المغرب إلى
المشرق. ويليه من جانب الغرب ملك البرتغال وعمالته صغيرة وهي
أشبونة [1] ، ولا أدري نسبه فيمن هو من الأمم. ويغلب على الظنّ أنه
من أعقاب القواميس الذين تغلبوا على عمالات بني أدفونش في العصور
الماضية كما نذكر بعد، ولعله من أسباطهم وأولي نسبهم والله أعلم.
ويلي ملك قشتالة هذا من جهة الشرق ملك نبرة [2] ، وهو ملك البشكنس
وعمالته صغيرة فاصلة بين عمالات قشتالة وعمالة ملك برشلونة. وقاعدة
ملك نبرة وهي مدينة ينبلونة. وملك برشلونة وما وراءها. ونحن الآن
نذكر أخبار هذه الأمم من عهد الفتح بما يظهر لك منه تفصيل أخبارهم،
وذلك أن النصرانية لما تغلّب عليهم المسلمون عند الفتح سنة تسعين
من الهجرة، وقتلوا لزريق ملك الغوط [3] وانساحوا في نواحي جزيرة
الأندلس، وأجفلت أمم النصرانية كلها أمامهم إلى سيف البحر من
الجوف، وتجاوزوا الدروب وراء قشتالة، واجتمعوا بجليقية وملكوا
عليهم ثلاثة: ابن ناقله فأقام ملكا تسع عشرة سنة، وهلك سنة ثلاث
وثلاثين ومائة، وولي ابنه قافلة سنتين، ثم هلك فولوا عليهم بعدهما
أدفونش بن بطرة، وهو الّذي اتصل ملكه في عقبه لهذا العهد. ونسبهم
في الجلالقة من العجم كما تقدّم. ويزعم ابن حيان أنهم من أعقاب
الغوط، وعندي أنّ ذلك ليس بصحيح فإنّ أمة الغوط قد دثرت وغبرت
__________
[1] أشبونة وتدعى أيضا لشبونة، وقد مرت معنا من قبل.
[2] نبرة: من أعمال ماردة. (معجم البلدان) .
[3] هم القوط.
(4/229)
وهلكت، وقل أن يرجع أمر بعد إدباره. وإنما
هو ملك مستجد في أمة أخرى والله أعلم. فجمعهم أدفونش بن بطرة على
حماية ما بقي من أرضهم بعد أن ملك المسلمون عامتها، وانتهوا إلى
جليقية وأقصروا عن الفتح بعدها حتى فشلت الدولة الإسلامية
بالأندلس، وارتجع النصارى الكثير مما غلبوا عليه. وكان مهلك أدفونش
بن بطرة سنة اثنتين وأربعين ومائة لثمان عشرة سنة من ملكه، وولي
بعده ابنه فرويلة إحدى عشرة سنة قوى فيها سلطانه، وقارنه فيها شغل
عبد الرحمن الداخل بتمهيد أمره فاسترجع مدينة بك، وبرتغال وسمورة،
وسلمنقة، وشقرنية، وقشتالة بعد أن كانت انتظمت للمسلمين في الفتح
وهلك سنة ثمان وخمسين، وولي ابنه شيلون عشر سنين. وهلك سنة ثمان
وستين، فولوا مكانه أدفونش منهم، ووثب عليه سمول ماط فقتله وملك
مكانه سبع سنين، وعلى عقب ذلك استفحل ملك عبد الرحمن بالأندلس،
وأغزى جيوشه أرض جليقية ففتح وغنم وأسر. ثم ولي منهم أدفونش آخر
سنة اثنتين وخمسين، وهلك سنة ثمان وستين فولوا مكانه أدفونش منهم،
ووثب أحد ملوكهم المستبدين بأمرهم. قال ابن حيان كانت ولاية رذمير
هذا عند ترهب أخيه أدفونش الملك قبله، وذلك سنة تسع عشرة وثلاثمائة
على عهد الناصر، وتهيأ للناصر الظهور عليه إلى أن كان التمحيص على
المسلمين في غزوة الخندق، وذلك سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وكانت
الواقعة بالخندق وقريبا من مدينة شنت ماكس كما ذكر في أخباره.
ثم هلك رذمير سنة تسع وثلاثين، وولي أخوه شانجة وكان تياها معجبا
بطالا فانتقض سلطانه، ووهن ملك قومه، وانتزى عليه قوامس دولته فلم
يتم لبني أدفونش بعدها ملك مستبد في الجلالقة إلّا من بعد أزمان
الطوائف وملوكهم كما ذكرناه. وكان اضطراب ملكهم كما نقل ابن حيان
على يد فردلند بن عبد شلب قومس ألبة والقلاع، فكان أعظم القوامس،
وهم ولاة الأعمال من قبل الملك الأعظم فانتقض على شانجة ألبة
وظاهرهم ملك البشكنس على شانجة، وورد شانجة على الناصر بقرطبة
صريخا فأمده، واستولى بذلك الإمداد على سمورة فملكها، وأنزل
المسلمين بها واتصلت الحرب بين شانجة وبين فردلند إلى أن أسر
فردلند في بعض أيام حروبهم، وحصل في أسر ملك البشكنس على أن ينفذ
إليه أسيره فردلند بن عبد شلب قومس ألبة والقلاع فأبى من ذلك،
وأطلقه. ووفد على المستنصر أرذون [1] بن أدفونش
__________
[1] وفي نسمة أخرى: أردون.
(4/230)
المقارع لشانجة صريخا إحدى وخمسين فأجابه،
وأنفذ غالبا مولاه في مدده. ثم هلك شانجة ملك بني أدفونش ببطليوس،
وقام بأمرهم بعده ابنه رذمير، وهلك أيضا فردلند بن عبد شلب قومس
ألبة، وولي بعده ابنه غرسية، ولقي رذمير المسلمين بالثغر في بعض
صوائفهم وعظمت نكايته بعد مهلك الحكم المستنصر إلى أن قيض الله لهم
المنصور بن أبي عامر حاجب ابنه هشام، فأثخن في عمل رذمير، وغزاه
مرارا وحاصره في سمورة. ثم في ليون بعد أن زحف إلى غرسية بن فردلند
صاحب ألبة، وظاهر معه ملك البشكنس فغلبهما. ثم ظاهروا مع رذمير
وزحفوا جميعا للقائه بشنت ماكس فهزمهم، واقتحمها عليهم وخرّبها.
وتشاءم الجلالقة برذمير وخرج عليهم عمه بزمند بن أرذون، وافترق
أمرهم ثم رجع رذمير إلى طاعة المنصور سنة أربع وسبعين. وهلك على
أثرها فأطاعت أمه، واتفقت الجلالقة على بزمند بن أرذون، وعقد له
المنصور على سمورة والعيون وما اتصل بهما من أعمال غليسية إلى
البحر الأخضر واشترط عليه فقبل. ثم امتعض بزمند لما نزل بالجلالقة
عيث المنصور سنة ثمان وسبعين فافتتح حيون وحاصره في سمورة ففرّ
عنها وأسلمها أهلها إلى المنصور فاستباحها ولم يبق لملك الجلالقة
إلا حصون يسيرة بالجبل الحاجز بين بلدهم وبين البحر الأخضر. ثم
اختلف حال بزمند في الطاعة والانتقاض والمنصور يردّد إليه الغزو
حتى أذعن وأخفر ذمته [1] الخارج على المنصور فأسلمه إليه سنة خمس
وثمانين، وضرب عليه الجزية وأوطن المسلمين مدينة سمورة سنة تسع
وثمانين، وولى عليها أبا الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبي. ثم سار
إلى غرسية بن فردلند صاحب ألبة، وكان أعان المخالفين على المنصور
وكان فيمن أعان عليه حين خرج عليه فنازل المنصور مدينة أشبونة،
قاعدة غليسية فملكها وخرّبها. وهلك غرسية هذا فولي ابنه شانجة،
وضرب المنصور عليهم الجزية وصار أهل جليقية جميعا في طاعته، وكانوا
كالعمال له إلا بزمند بن أرذون ومسد بن عبد شلب قومس غليسية
فإنّهما كانا أملك لأمرهما. على أنّ مسدا بعث بنته للمنصور سنة
ثلاث وثمانين وصيّرها جارية له فأعتقها وتزوّجها. ثم انتقض بزمند
وغزاه المنصور فبلغ شنت ياقب موضع حجّ النصرانية ومدفن يعقوب
الحواري من أقصى غليسية، وأصابها خالية فهدمها ونقل
__________
[1] كذا بياض بالأصل ولم نستطع تصويب العبارة.
(4/231)
أبوابها إلى قرطبة فجعلها في سمت الزيادة
التي أضافها إلى المسجد الأعظم. ثم تطارح بزمند بن أرذون في السلم
وأنفذ ابنه يلانة مع معن بن عبد العزيز صاحب جليقية فوصل به إلى
قرطبة وعقد له السلم وانصرف إلى أبيه. وألح المنصور على أرغومس من
القوامس وكانوا في طرف جليقية بين سمورة وقشتالة، وقاعدتهم شنت
بريّة فافتتحها سنة خمس وثمانين. ثم هلك بزمند بن أرذون ملك بني
أدفونش وولي ابنه أدفونش، وهو صاحب بسيط غرسية واحتكما إلى عبد
الملك بن المنصور، فخرج أصبغ بن سلمة قاضي النصارى للفصل بينهما،
فقضى به لمسد بن عبد شلب. فلم يزل أدفونش بزمند في كفالته إلى أن
قتل غيلة سنة ثمان. فاستبد أدفونش بأمره وطلب القواميس المقتدرين
على أبيه وعلى من سلف من قومه برسوم الملك فحاز ذلك منهم لنفسه
وبعث على نواحيهم من عنده، وأذعنوا له وسقط ذكرهم في وقته مثل بني
أرغومس وبني فردلند الذين قدّمنا ذكرهم، وقد كان قيامهم أيام شانجة
بن رذمير من بني أدفونش كما قدّمناه. جمعهم أدفونش للقاء عبد الملك
المظفر بن المنصور فظاهرهم ملك البشكنس ولقيهم بظاهر فلونية فهزمهم
وافتتح الحصن صلحا. ثم انقرض أمر المنصور وبنيه وجاءت الفتنة
البربرية على رأس المائة الرابعة فانتهز الفرصة في المسلمين صاحب
ألبة، وهو شانجة بن غرسية وصار يظاهر الفرقة الخارجة على الأخرى
إلى أن أدرك بعض الأمل، وقتله ملك البشكنس سنة ست وأربعمائة وتغلّب
النصارى على ما كان غلب عليه بقشتالة وجليقية، ولم يزل أدفونش ملكا
على جليقية وأعمالها. واتصل الملك في عقبه إلى أن كان شأن الطوائف.
وتغلب المرابطون ملوك المغرب من لمتونة على ملوك الطوائف، واستولوا
على الأندلس وانقرض منها ملك العرب أجمع. وفي تواريخ لمتونة
وأخبارهم أن ملك قشتالة الّذي ضرب الجزية على ملوك الطوائف سنة
خمسين وأربعمائة هو البيطبيين، ويظهر أنه كان متغلبا على شانجة ابن
أبرك الملك يومئذ من بني أدفونش، وهو مذكور في أخبارهم، وأنه لما
هلك قام بأمره بنوه فردلند وغرسية ورذمير، وولى أمرهم فردلند
واحتوى على شنت بريّة وعلى كثير من عمل ابن الأفطس. ثم هلك وخلف
شانجة وغرسية وألفنش فتنازعوا ثم خلص الملك لألفنش وعلى عهده مات
الظاهر إسماعيل بن ذي النون سنة سبع وستين وأربعمائة، وهو المستولي
على طليطلة سنة ثمان وسبعين وهو يومئذ اعتزاز النصرانية بجزيرة
الأندلس، وكان من بطارقته وقواميس دولته البرهانس فكان يلقب
(4/232)
الأنبنذور، ومعناه ملك الملوك. وهو الّذي
لقي يوسف بن تاشفين بالزلاقة، وكانت الدائرة عليه، وذلك سنة إحدى
وثمانين. وحاصر ابن هود في سرقسطة، وكان ابن عمه رذمير منازعا له
فزحف إلى طليطلة وحاصرها فامتنعت عليه، وحاصر القسريلية وغرسية
والمرية والبرهانس مرسية وقسطون شاطبة وسرقسطة. ثم استولى على
بلنسية سنة تسع وثمانين، وارتجعها المرابطون من يده بعد أن غلبوا
ملوك الطوائف على أمرهم. ثم مات ألفنش سنة إحدى وخمسمائة، وقام
بأمر الجلالقة زوجته، وتزوجت رذمير ثم فارقته وتزوجت بعده قمطا من
أقماطها، وجاءت منه بولد كانوا يسمونه السليطين، وأوقع ابن رذمير
بابن هود سنة ثلاث وخمسمائة الواقعة المشهورة التي استشهد فيها.
وملك ابن رذمير سرقسطة، وفرّ عماد الدولة وابنه إلى روطة فأقام إلى
أن استنزله السليطين، ونقله إلى قشتالة. ثم كانت بين رذمير وأهل
قشتالة حرب هلك فيها البرهانس سنة سبع وخمسمائة وذلك لآخر أيام
المرابطين بلمتونة. ثم انقرض أمرهم على يد الموحّدين وكان أمر
النصارى لعهد المنصور يعقوب ابن أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن،
كان دائرا بين ثلاثة من ملوكهم ألفنش والبيبوح وابن الرند وكبيرهم
ألفنش وهو أميرهم يوم الأرك الّذي كان للمنصور عليهم سنة إحدى
وتسعين وخمسمائة، والبيبوح صاحب ليون هو الّذي مكر بالناصر عام
العقاب فداخله وقدم عليه وأظهر له التنصيح فبذل له أموالا. ثم غدر
به وكرّ عليه الهزيمة يوم العقاب. ثم هلك الناصر وولي ابنه
المستنصر وفشل ريح بني عبد المؤمن واستولى ألفنش على جميع ما
افتتحه المسلمون من معاقل الأندلس وارتجعها. ثم هلك ألفنش وولي
ابنه هراندة وكان أحول، وكان يلقب بذلك، وهو الّذي ارتجع قرطبة
وإشبيلية من أيدي بني هود، وعلى عهده زحف ملك أرغون فارتجع شرق
الأندلس كله شاطبة ودانية وبلنسية وسرقسطة، وسائر الثغور والقواعد
الشرقية. وانحاز المسلمون إلى سيف البحر وملكوا عليهم ابن الأحمر
بعد ولاية ابن هود. ثم هلك هراندة وولي ابنه ثم هلك ابنه وولي ابنه
هراندة، وأجاز بنو مرين إلى الأندلس صريخا لابن الأحمر وسلطانهم
يومئذ يعقوب بن عبد الحق، فلقيته جموع النصرانية بوادلك وعليهم
ذنبة من أقماط بني أدفونش وزعمائهم فهزمهم يعقوب بن عبد الحق،
وبقيت فتن متصلة، ولم يلقه يعقوب، وإنما كان يغزو بلادهم ويكثر
فيها العبث إلى أن ألقوه بالسلم، وخالف على هراندة ملك قشتالة هذا
ابنه شانجة فوفد هراندة على يعقوب بن عبد الحق صريخا،
(4/233)
وقبل يده فقبل وفادته وأمده بالمال والجيش،
ورهن في المال التاج المعروف من ذخائر سلفهم فلم يزل بدار بني عبد
الحق من بني مرين لهذا العهد. ثم هلك هراندة سنة ثلاث وثمانين
واستقل ابنه شانجة بالملك ووفد على يوسف بن يعقوب بالجزيرة الخضراء
بعد مهلك أبيه يعقوب، وعقد معه السلم. ثم انتقض وحاصر طريف وملكها
وهلك سنة ثلاث وتسعين فولي ابنه هراندة. ثم هلك سنة اثنتي عشرة
وسبعمائة، فولي ابنه بطرة صغيرا، وكفله عمه جران وكان نزلهما جميعا
على غرناطة عند زحفهما إليها سنة ثمان عشرة وسبعمائة، فولي ابنه
الهنشة بن بطرة صغيرا، وكفله زعماء دولتهم. ثم استبد بأمره وزحف
إلى السلطان أبي الحسن، وهو محاصر لطريف سنة إحدى وخمسين وسبعمائة
فهلك في الطاعون الجارف، وملك ابنه بطرة وقرابته القمط برشلونة
فأجاره ملكها، وزحف إليه بطرة مرارا وتغلّب على كثير من أعماله،
وحاصر بلنسية مرارا. ثم أتيح الغلب للقمط سنة ثمان وسبعين
وسبعمائة، فاستولى على بلاد قشتالة وزحف إليه أمم النصرانية لما
كانوا سئموا من عنف بطرة وسوء ملكته، ولحق بطرة بأمم الفرنجة الذين
وراء قشتالة في الجوف بجهات الليمانية وفرطانية إلى سيف البحر
الأخضر، وجزيرة قدوج شنت مزين ملكهم الأعظم، وهو البلنس غالس وجاء
معه مددا بأمم لا تحصى حتى ملك قشتالة والقرنتيرة ورجعوا عنه إلى
بلادهم بعد أن أصابهم وباء هلك الكثير منهم. ثم اتصلت الحرب بين
بطرة وأخيه القمط إلى أن غلبه القمط، واعتصم منه بطرة ببعض الحصون
ونازلة القمط حتى إذا أشرف على أخذه، بعث بطرة إلى بعض الزعماء سرا
لنيل النزول في جواره فأجابه، ووشى به لأخيه القمط فكبسه في بيت
ذلك الزعيم وقتله سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة. واستولى القمط على
ملك بني أدفونش أجمع واستنزل ابن أخيه بطرة من قرمونة وقد كان
اعتصم بها بعد مهلك أبيه مع وزيره مرتين لبس هو. واستقام له ملك
قشتالة ونازعه البلنس غالس ملك الإفرنجة بالابن الّذي هو من بنت
بطرة على عادة العجم في تمليك ابن البنت محتجا بأن القمط لم يكن
لرشدة. واتصلت الحرب بينهما وشغله ذلك عن المسلمين فامتنعوا من
الجزية التي كانت عليهم لمن قبله. وهلك هذا القمط سنة إحدى وثمانين
وسبعمائة، فملك ابنه شانجة وفرّ ابنه الآخر غرمس إلى غرناطة، ثم
رجع إلى نواحي قشتالة والأمر على ذلك لهذا العهد، وفتنتهم مع ألفنش
ملك الفرنج موصولة وعاديتهم لذلك عن المسلمين مرفوعة، والله من
ورائهم محيط. وأمّا ملك
(4/234)
البرتغال بجهة أشبونة غرب الأندلس ومملكته
صغيرة، وهي من أعمال جليقية، وصاحبها لهذا العهد متميز بسمته.
وملكه مشارك لابن أدفونش في نسبه ولا أدري كيف يتصل نسبه معهم.
وأمّا ملك برشلونة بجهة شرق الأندلس فعمالتهم واسعة، ومملكتهم
كبيرة تشتمل على برشلونة بجهة وارغون وشاطبة وسرقسطة وبلنسية
وجزيرة دانية وميورقة وبنورقة، ونسبهم في الفرنج، وسياق الخبر عن
ملكهم ما نقل، ابن حيان أن الغوط الذين كانوا بالأندلس كانوا قديما
في ملك الفرنج، ثم اعتزوا عليهم وامتنعوا ونبذوا إليهم عهدهم.
وكانت برشلونة من ممالك الفرنج وعمالاتهم، فلما جاء الله بالإسلام
وكان الفتح، قعد الفرنج عن نصر الغوط لتلك العداوة، فلما انقضى أمر
الغوط زحف المسلمون إلى الفرنج فأزعجوهم [1] عن برشلونة وملكوها.
ثم تجاوزوا الدروب من ورائها إلى البسائط بالبر الكبير فملكوا من
قواعدها جزيرة أربونة وما إليها من تلك البسائط. ثم كانت فترة عند
انقراض الدولة الأموية بالمشرق وبداية الدولة العباسية افتتن فيها
العرب بالأندلس، وانتهز الفرنج فرصتهم فارتجعوا بلادهم إلى برشلونة
فملكوها لهذا العهد مائتين من الهجرة، وولّوا عليهم من قبلهم، وصار
أمرها راجعا إلى ملك رومة من الفرنجة، وهو قارله الأكبر، وكان من
الجبابرة. ثم ركبهم من الخلاف والمنافسة في أوقات ضعفهم واختلاف
ملوكهم كالذي ركبه المسلمون من ضعفت يده من الملوك، فاقتطع الأمراء
نواحيهم بكل جهة، فكان ملوك برشلونة هؤلاء ممن اقتطع عمله، وكان
ملوك بني أمية لأوّل دولتهم يتراضون بمهادنة هؤلاء الملوك أهل
برشلونة حذرا من مدد صاحب رومة. ثم صاحب القسطنطينية من ورائه.
فلما كانت دولة المنصور بن أبي عامر بين اقطاع برشلونة عن ملك
الفرنج، شمر المنصور لغزوهم واستباح بلادهم وأثخن في أعمالهم،
وافتتح برشلونة وخرّبها، وأنزل بهم النقمات وملكهم لعهده بردويل بن
سير وكانت حالة الظهور عليه كحاله مع سائر الملوك النصارى. ولما
هلك بردويل ترك من الولد فلبة وريند وأومنقود. ثم انتقض أومنقود
على عبد الملك بن المنصور فغزاه وأخذه في بعض ثغوره صلحا. ثم كانت
الفتنة البربرية وحضرها أومنقود فهلك في الوقعة مع البربر سنة
أربعمائة، وانفرد بيمند بملك برشلونة إلى أن هلك بعد عشر
وأربعمائة، وملك ابنه يلتنفير وكفلته أمه وحاربت
__________
[1] بمعنى أخرجوهم.
(4/235)
يحيى بن منذر من ملوك الطوائف وهي التي
تغلبت على ثغر طرشوشة، واتصل الملك في عقب بيمند. وكان الملك منهم
لآخر دولة الموحدين جامعة بن بطرة بن أدفونش ابن ريند، وهو الّذي
ارتجع بلنسية وملكهم بهذا العهد اسمه بطرة. ولم يبلغني كيف اتصال
نسبه بقومه. وملك بعد العشرين من هذه المائة وهو حيّ لهذا العهد،
وابنه غالب عليه لكبر سنه. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير
الوارثين.
(أخبار القائمين بالدولة العباسية من
العرب المستبدين بالنواحي ونبدأ منهم ببني الأغلب ولاة افريقية
وأولية أمرهم ومصاير أحوالهم)
قد ذكرنا في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه شأن فتح إفريقية على
يد عبد الله ابن أبي سرح، وكيف زحف إليها في عشرين ألفا من الصحابة
وكبار العرب، ففض جموع النصرانية الذين كانوا بها من الفرنجة
والروم والبربر، وهدم سبيطلة قاعدة ملكهم وخرّبها، واستبيحت
أموالهم وسبيت نساؤهم وبناتهم، وافترق أمرهم وساخت خيول العرب في
جهات إفريقية، وأثخنوا بها في أهل الكفر قتلا وأسرا حتى لقد طلب
أهل إفريقية من ابن أبي سرح أن يرحل عنهم بالعرب إلى بلادهم،
ويعطوه ثلاثمائة قنطار من الذهب ففعل وقفل إلى مصر سنة سبع وعشرين.
(معاوية بن خديج)
ثم اغزى معاوية بن أبي سفيان معاوية بن خديج السكونيّ. إفريقية سنة
أربع وثلاثين، وكان عاملا على مصر فغزاها ونازل جلولاء، وقاتل مدد
الروم الّذي جاءها من قسطنطينية لقيهم بقصر الأحمر فغلبهم، وأقلعوا
إلى بلادهم، وافتتح جلولاء وغنم وأثخن وقفل
.
(4/236)
(عقبة بن نافع)
ثم ولى معاوية سنة خمس وأربعين عقبة بن نافع بن عبد الله بن قيس
الفهري على إفريقية واقتطعها عن معاوية بن خديج، فبنى القيروان
وقاتل البربر وتوغّل في أرضهم.
(أبو المهاجر)
ثم استعمل معاوية على مصر وإفريقية مسلمة بن مخلد، فعزل عقبة عن
إفريقية، وولى مولاه أبا المهاجر دينارا سنة خمس وخمسين فغزا
المغرب، وبلغ إلى تلمسان، وخرب قيروان عقبة وأساء عزله، وأسلم على
يديه كسيلة الأوربي بعد حرب ظفر به فيها.
(عقبة بن نافع ثانيا)
ولما استقل يزيد بن معاوية بالخلافة، رجع عقبة بن نافع الى إفريقية
سنة اثنتين وستين فدخل إفريقية، وقد نشأت الردّة في البرابرة فزحف
إليهم، وجعل مقدمته زهير بن قيس البلوي وفرّ منه الروم والفرنجة
فقاتلهم، وفتح حصونهم مثل لميس وباغاية، وفتح أذنه قاعدة الزاب بعد
أن قاتله ملوكها من البربر فهزمهم، وأصاب من غنائمهم وحبس أبا
المهاجر فلم يزل في اعتقاله. ثم رحل إلى طنجة فأطاعه بلبان ملك
غمارة، وصاحب طنجة وهاداه وأتحفه، ودله على بلاد البربر وراءه
بالمغرب، مثل وليلى [1] عند زرهون وبلاد المصامدة وبلاد السوس،
وكانوا على دين المجوسية، ولم يدينوا بالنصرانية، فسار عقبة وفتح
وغنم وسبى وأثخن فيهم وانتهى إلى السوس.
وقاتل مسوفة من أهل اللثام وراء السوس، ووقف على البحر المحيط وقفل
راجعا،
__________
[1] اسم مدينة وقد مرّت معنا في مكان سابق.
(4/237)
وأذن لجيوشه في اللحاق بالقيروان. وكان
كسيلة ملك أروبة والبرانس من البربر قد اضطغن عليه بما كان يعامله
به من الاحتصار، يقال: إنه كان يحاصره في كل يوم ويأمره بسلخ الغنم
إذا ذبحت لمطبخه فانتهز فيه الفرصة، وأرسل البربر فاعترضوا له في
تهودا [1] وقتلوه في ثلاثمائة من كبار الصحابة والتابعين،
واستشهدوا كلهم وأسر في تلك الوقعة محمد بن أوس الأنصاري في نفر
فخلصهم صاحب قفصة، وبعث بهم إلى القيروان مع من كان بها من
المخلفين والذراري. ورجع زهير بن قيس إلى القيروان واعتزم على
القتال وخالفه حنش بن عبد الله الصنعاني وارتحل إلى مصر واتبعه
الناس فاضطر زهير إلى الخروج معهم، وانتهى إلى برقة فأقام بها
مرابطا، واستأمن من كان بالقيروان إلى كسيلة فأمنهم ودخل القيروان
وأقاموا في عهده.
(زهير بن قيس البلوي)
ولما ولي عبد الملك بن مروان بعث إلى زهير بن قيس بمكانه من برقة
بالمدد، وولّاه حرب البرابرة فزحف سنة سبع وستين ودخل إفريقية
ولقيه كسيلة على ميس من نواحي القيروان فهزمه زهير بعد حروب صعبة،
وقتله واستلحم في الوقعة كثير من أشراف البربر ورجالاتهم. ثم قفل
زهير إلى المشرق زاهدا في الملك، وقال: إنما جئت للجهاد وأخاف أن
نفسي تميل إلى الدنيا، وسار إلى مصر واعترضه بسواحل برقة أسطول
صاحب قسطنطينية، جاءوا لقتاله فقاتلهم واستشهد رحمه الله تعالى.
(حسان بن النعمان الغساني)
ثم إن عبد الملك بن مروان بعد أن قتل عبد الله بن الزبير وصفا له
الأمر، أمر حسان ابن النعمان الغساني بغزو إفريقية، وأمده
بالعساكر، ودخل القيروان وافتتح قرطاجنة عنوة وخربها، وفر من كان
بها من الروم والفرنجة إلى صقلّيّة والأندلس. ثم اجتمعوا
__________
[1] تهوذة: بالفتح ثم الضم وسكون الواو والذال معجمة: اسم لقبيلة
من البربر بناحية افريقية، لهم ارض تعرف بهم (معجم البلدان) .
(4/238)
في صطفورة وبنزرت وهزمهم ثانية. وانحاز
الفل إلى باجة وبونة فتحصنوا بها. ثم سار حسان إلى الكاهنة ملكة
جرارة بجبل أوراس، وهي يومئذ أعظم ملوك البربر، فحاربها، وانهزم
المسلمون وأسر منهم جماعة، وأطلقتهم الكاهنة سوى خالد بن يزيد
القيسي فإنّها أمسكته وأرضعته مع ولديها وصيرته أخا لهما. وأخرجت
العرب من إفريقية وانتهى حسان إلى برقة، وجاءه كتاب عبد الملك
بالمقام حتى يأتيه المدد. ثم بعث إليه المدد سنة أربع وسبعين فسار
إلى إفريقية ودس إلى خالد بن يزيد يستعمله فأطلعه على خبرهم،
واستحثه فلقي الكاهنة وقتلها وملك جبل أوراس وما إليه، ودوّخ
نواحيه وانصرف إلى القيروان وأمن البربر. وكتب الخراج عليهم وعلى
من معهم من الروم والفرنج على أن يكون معه اثنا عشر ألفا من البربر
لا يفارقونه في مواطن جهاده ورجع إلى عبد الملك، واستخلف على
إفريقية رجلا اسمه صالح من جنده.
(موسى بن نصير)
ولما ولي الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمه عبد الله، وهو على مصر
ويقال عبد العزيز، أن يبعث بموسى بن نصير إلى إفريقية، وكان أبوه
نصير من حرس معاوية فبعثه عبد الله، وقدم القيروان وبها صالح خليفة
حسان فعقد له، ورأى البربر قد طمعوا في البلاد فوجه البعوث في
النواحي، وبعث ابنه عبد الله في البحر إلى جزيرة ميورقة فغنم منها
وسبى وعاد. ثم بعثه إلى ناحية أخرى وابنه مروان كذلك، وتوجه هو إلى
ناحية فغنم منها وسبى وعاد. وبلغ الخمس من المغنم سبعين ألف رأس من
السبي. ثم غزا طنجة وافتتح درعه وصحراء تافيلالت. وأرسل ابنه إلى
السوس وأذعن البربر لسلطانه ودولته وأخذ رهائن المصامدة وأنزلهم
بطنجة، وذلك سنة ثمان وثمانين، وولى عليها طارق بن زياد الليثي. ثم
أجاز طارق إلى الأندلس دعاه إليها بلبان ملك غمارة فكان فتح
الأندلس سنة تسعين. وأجاز موسى بن نصير على أثره فكمل فتحها كما
ذكرناه. ثم قفل موسى إلى الشرق واستخلف على إفريقية ابنه عبد الله
وعلى الأندلس عبد العزيز. وهلك الوليد وولي سليمان سنة ست وتسعين
فسخط موسى وحبسه
.
(4/239)
(محمد بن يزيد)
ولما ولي سليمان وحبس موسى بن نصير عن [1] ابنه عبد الله عن
إفريقية ولّى مكانه محمد بن يزيد مولى قريش فلم يزل عليها حتى مات
سليمان.
(إسماعيل بن أبي المهاجر)
ولما مات سليمان استعمل عمر بن عبد العزيز على إفريقية إسماعيل بن
عبد الله بن أبي المهاجر وكان حسن السيرة وأسلم جميع البربر في
أيامه.
(يزيد بن أبي مسلم)
ولما تولى يزيد بن عبد الملك، ولى على إفريقية يزيد بن أبي مسلم
مولى الحجاج وكاتبه فقدم سنة إحدى ومائة، وأساء السيرة في البربر،
ووضع الجزية على من أسلم من أهل الذمة منهم تأسيا بما فعله الحجاج
بالعراق فقتله البربر لشهر من ولايته. ورجعوا إلى محمد بن يزيد
مولى من الأنصار الذين كان عليهم قبل إسماعيل، وكتبوا إلى يزيد
بالطاعة والعذر عن قتل ابن أبي مسلم فأجابهم بالرضا وأقرّ محمد بن
يزيد على عمله.
(بشر بن صفوان الكلبي)
ثم ولى يزيد على إفريقية بشر بن صفوان الكلبي فقدمها سنة ثلاث
ومائة، فمهدها وسكن أرجاءها، وغزا بنفسه صقلّيّة سنة تسع ومائة
وهلك مرجعه عنها.
__________
[1] مقتضى السياق: وعزل ابنه عبد الله عن إفريقية.
(4/240)
(عبيدة بن عبد
الرحمن)
ثم عزل هشام بن عبد الملك بشر بن صفوان عن إفريقية وولى مكانه
عبيدة بن عبد الرحمن السلمي وهو ابن أخي أبي الأعور فقدمها سنة عشر
ومائة
(عبيد الله بن الحجاب)
ثم عزل هشام عبيدة بن عبد الرحمن وولى مكانه عبيد الله بن الحجاب
مولى بني سلول وكان واليا على مصر، فأمره أن يمضي إلى إفريقية،
واستخلف على مصر ابنه أبا القاسم، وسار إلى إفريقية فقدمها سنة
أربع عشرة، وبنى جامع تونس، واتخذ لها دار الصناعة لإنشاء المراكب
البحرية. وبعث إلى طنجة ابنه إسماعيل وجعل معه عمر ابن عبيد الله
المرادي وبعث على الأندلس عقبة بن حجاج القيسي. وبعث حبيب بن أبي
عبيدة بن عقبة بن نافع غازيا إلى المغرب فبلغ السوس الأقصى وأرض
السودان، وأصاب من مغانم الذهب والفضة والسبي كثيرا ودوخ بلاد
المغرب وقبائل البربر ورجع. ثم أغزاه ثانية في البحر إلى صقلّيّة
سنة اثنتين وعشرين، ومعه عبد الرحمن ابن حبيب فنازل سرقوسة أعظم
مدائن صقلّيّة، وضرب عليهم الجزية وأثخن في سائر الجزيرة. وكان
محمد بن عبيد الله بطنجة قد أساء السيرة في البربر، وأراد أن يخمس
[1] من أسلم منهم، وزعم أنه الفيء، فاجمعوا الانتقاض، وبلغهم مسير
العساكر مع حبيب بن أبي عبيدة إلى صقلّيّة فسار ميسرة المظفري
بدعوة الصفرية من الخوارج، وزحف إلى طنجة فقتل عمر بن عبيد الله
وملكها، واتبعه البربر وبايعوه بالخلافة، وخاطبوه بأمير المؤمنين،
وفشت مقالته في سائر القبائل بإفريقية وبعث ابن الحجاب إليه خالد
بن حبيب الفهري فيمن بقي معه من العساكر.
واستقدم حبيب بن أبي عبيدة من صقلّيّة ومن معه من العساكر، وبعثه
في أثر خالد، ولقيهم ميسرة والبربر بناحية طنجة فاقتتلا قتالا
شديدا. ثم تحاجزوا ورجع
__________
[1] اي ان يأخذ منهم الخمس.
ابن خلدون م 16 ج 4
(4/241)
ميسرة إلى طنجة فكره البربر سوء سيرته
فقتلوه، وولّوا عليهم مكانه خالد بن حبيب الزناتي، واجتمع إليه
البربر، ولقيه خالد بن حبيب في العرب وعساكر هشام فانهزموا، وقتل
خالد بن حبيب وجماعة من العرب وسميت بهم غزوة الأشراف، وانتقضت
إفريقية على ابن الحجاب وبلغ الخبر إلى الأندلس فعزلوا عامله عقبة
بن الحجاج، وولوا عبد الملك بن قطن كما مرّ.
(كلثوم بن عياض)
ولما انتهى الخبر إلى هشام بن عبد الملك بهزيمة العساكر بالمغرب
استنقص ابن الحجاب وكتب إليه يستقدمه، وولّى على إفريقية سنة ثلاث
وعشرين ومائة كلثوم بن عيّاض، وعلى مقدّمته بلخ بن بشر القشيريّ،
فأساء إلى أهل القيروان، فشكوا إلى حبيب بن أبي عبيدة وهو بتلمسان
موافق للبربر، فكتب إلى كلثوم بن عيّاض ينهاه ويتهدّده، فاعتذر
واغضى له عنها، ثم سار واستخلف على القيروان عبد الرحمن بن عقبة،
ومرّ على طريق سبيبة، وانتهى إلى تلمسان ولقي حبيب بن أبي عبيدة
واقتتلا، ثم اتفقا ورجعا جميعا. وزحف البرابرة إليهم على وادي
طنجة، وهو وادي سوا فانهزم بلخ في الطلائع وانتهوا إلى كلثوم،
فانكشف واشتد القتال وقتل كلثوم وحبيب بن أبي عبيدة وكثير من
الجند، وتحيّز أهل الشام إلى سبتة مع بلخ بن بشر، فحاصرهم البرابرة
وأرسلوا إلى عبد الملك بن قطن أمير الأندلس في أن يجيزوا إليه،
فأجابهم إلى ذلك بشرط أن يقيموا سنة واحدة، وأخذ رهنهم على ذلك،
وانقضت السنة وطالبهم بالشرط فقتلوه وملك بلخ الأندلس. وكان عبد
الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ابن عقبة بن نافع لما قتل أبوه حبيب
مع كلثوم بن عيّاض، وأجاز بلخ إلى الأندلس فملكها، فأجاز عبد
الرحمن إلى الأندلس يحاول ملكها. فلما جاء أبو الخطّار إلى الأندلس
من قبل حنظلة أيس عبد الرحمن من أمرها، ورجع إلى تونس سنة ست
وعشرين ومائة وقد توفي هشام وولي الوليد بن يزيد فدعا لنفسه، وسار
إلى القيروان ومنع حنظلة من قتاله، وبعث إليه وجوه الجند فانتهز
عبد الرحمن الفرصة فيهم وأوثقهم لئلا يقاتله أصحابهم، وأغذ السير
إلى القيروان فرحل حنظلة من إفريقية وقفل إلى المشرق سنة سبع
وعشرين، واستقل عبد الرحمن بملك إفريقية وولّى مروان
(4/242)
ابن محمد، فكتب له بولايتها، ثم ثارت عليه
الخوارج في كلّ جهة فكان عمر بن عطاب الأزديّ بطبنياش، وعروة بن
الوليد الصغريّ بتونس، وثابت الصّنهاجيّ بباجة، وعبد الجبّار بن
الحرث بطرابلس على رأي الإباضيّة، فزحف عبد الرحمن إليهما سنة إحدى
وثلاثين فظفر بهما، وقتلهما، وسرّح أخاه الياس لابن عطاب فهزمه
وقتله، ثم زحف إلى عروة بتونس فقتله، وانقطع أمر الخوارج، وزحف سنة
خمس وثلاثين إلى جموع من البربر بنواحي تلمسان فظفر بهم وقفل. ثم
بعث جيشا في البحر إلى صقلّيّة وآخر إلى سردانية فاثخنوا في أمم
الفرنج حتى استقرّوا بالجزاء. ثم دالت دولة بني العبّاس وبعث عبد
الرحمن بطاعته إلى السفّاح. ثم إلى أبي جعفر من بعده.
ولحق كثير من بني أمية إلى إفريقية. وكان ممن قدم عليه القاضي،
وعبد المؤمن ابنا الوليد بن يزيد ومعهما ابنة عمّ لهما، فزوّجها
عبد الرحمن من أخيه الياس. ثم بلغ عبد الرحمن عنهما السعي في
الخلافة فقتلهما، وامتعضت لذلك ابنة عمهما، فأغرت زوجها بأخيه عبد
الرحمن واستفسدته. وكان عبد الرحمن قد أرسل إلى أبي جعفر بهدية
قليلة، وذهب يعتذر عنها فلم يحسن العذر، وأفحش في الخطاب فكتب إليه
المنصور يتهدّده، وبعث إليه بالخلعة فانتقض هو ومزّق خلعته على
المنبر فوجد أخوه الياس بذلك السبيل إلى ما كان يحاول عليه، وداخل
وجوها من الجند في الفتك بعبد الرحمن وإعادة الدعوة للمنصور،
ومالأه في ذلك أخوه عبد الوارث، وفطن عبد الرحمن لهما فأمر الياس
بالمسير إلى تونس، وجاء ليودّعه ومعه أخوه عبد الوارث فقتلاه في
آخر سبع وثلاثين لعشر سنين من إمارته.
(حبيب بن عبد الرحمن)
ولما قتل عبد الرحمن نجا ابنه حبيب إلى تونس فلحق به بعد أن طلبوه
وضبطوا أبواب القصر ليأخذوه فلم يظفروا به. وكان عمّه عمران بن
حبيب بتونس فلحق به، واتبعه الياس فاقتتلوا مليا ثم اصطلحوا على أن
يكون لحبيب قفصة وقصطيلة ونفزاوة، ولعمران تونس وصطفورة، وهي تبرزو
والجزيرة، ولإلياس سائر إفريقية. وتمّ هذا الصلح سنة ثمان وثلاثين.
وسار حبيب إلى عمله ببلاد الجريد، وسار الياس مع أخيه
(4/243)
عمران الى تونس فغدر بعمران وقتله وجماعة
من الأشراف معه، وعاد الى القيروان.
وبعث بطاعته إلى أبي جعفر المنصور مع عبد الرحمن بن زياد بن أنعم
قاضي إفريقية. ثم سار حبيب إلى تونس فملكها وجاءه عمّه الياس
فقاتله، وخالفه حبيب إلى القيروان فدخلها وفتق السجون فرجع الياس
في طلبه، وفارقه أكثر أصحابه إلى حبيب، فلما تواقفا دعاه حبيب إلى
البراز فتبارزا وقتله حبيب ودخل القيروان وملكها آخر سنة ثمان
وثلاثين، ونجا عمه الآخر عبد الوارث إلى وربجومة من قبائل البربر،
وكبيرهم يومئذ عاصم بن جميل، وكان كاهنا ويدّعي النبوّة فأجار عبد
الوارث، وقاتلهم حبيب فهزموه إلى قابس واستفحل أمرهم وكتب من كان
بالقيروان من العرب إلى عاصم بن جميل يدعونه للولاية عليهم،
واستخلفوه على الحماية والدعاء للمنصور فلم يجب إلى ذلك. وقاتلهم
فهزمهم، واستباح القيروان وخرّب المساجد واستهانها. ثم سار إلى
حبيب بن عبد الرحمن بقابس فقاتله وهزمه، ولحق حبيب بجبل أوراس
فأجاره أهله، وجاء عاصم فقاتلهم فهزموه، وقتل جماعة من أصحابه.
وقام بأمر وربجومة والقيروان من بعده عبد الملك، وقتله سنة أربعين
ومائة. وكانت إمارة الياس على إفريقية سنة ونصفا، وإمارة حبيب ثلاث
سنين.
(عبد الملك بن أبي الجعد الوربجومي)
ولما قتل عبد الملك بن أبي الجعد حبيب بن عبد الرحمن رجع في قبائل
وربجومة إلى القيروان وملكها، واستولت وربجومة على إفريقية، وساروا
في أهل القيروان بالعسف والظلم كما كان عاصم واسوأ منه. وافترق أهل
القيروان بالنواحي فرارا بأنفسهم، وشاع خبرهم في الآفاق فخرج
بنواحي طرابلس عبد الأعلى بن السمح المغافري الإباضيّ منكرا لذلك
وقصد طرابلس وملكها.
(عبد الأعلى بن السمح المغافري)
ولما ملك عبد الأعلى مدينة طرابلس بعث عبد الملك بن أبي الجعد
العساكر لقتاله
(4/244)
سنة إحدى وأربعين، فلقيهم أبو الخطّاب
وهزمهم وأثخن فيهم، واتبعهم إلى القيروان فملكها وأخرج وربجومة
منها واستخلف عليها عبد الرحمن بن رستم، وسار إلى طرابلس للقاء
العساكر القادمة من ناحية أبي جعفر.
(محمد بن الأشعث الخزاعي)
كان أبو جعفر المنصور لما وقع بإفريقية ما وقع من الفتنة وملك
قبائل وربجومة القيروان، وفد عليه رجالات من جند إفريقية يشكون ما
نزل بهم من وربجومة، ويستصرخونه فولّى على مصر وإفريقية محمد بن
الأشعث الخزاعي فنزل مصر وبعث على إفريقية أبا الأحوص عمرو بن
الأحوص العجليّ. وسار في مقدّمته فلقيه أبو الخطّاب عبد الأعلى
بسرت، ودهمه بالعساكر ومعهم الأغلب بن سالم بن عقال ابن خفاجة بن
سوادة التميمي فسار لذلك، ولقي أبا الخطاب بسرت ثانية، فانهزم أبو
الخطّاب وقتل عامّة أصحابه وذلك سنة أربع وأربعين. وبلغ الخبر إلى
عبد الرحمن بن رستم بالقيروان ففرّ عنها إلى تاهرت وبنى هنالك
مدينة ونزلها، وقام ابن الأشعث فافتتح طرابلس واستعمل عليها
المخارق غفارا الطائي، وقام بأمر إفريقية وضبطها. وولّى على طبنة
والزاب الأغلب بن سالم. ثم ثارت عليه المضريّة وأخرجوه سنة ثمان
وأربعين فقفل إلى المشرق الأغلب بن سالم. ولما قفل ابن الأشعث إلى
المشرق ولّى على المضريّة عيسى بن موسى الخراساني، فبعث أبو جعفر
المنصور الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي بعده على
إفريقية، وكان من أصحاب أبي مسلم بخراسان. وقدم مع ابن الأشعث
فولّاه على الزاب وطبنة، فقدم القيروان وسكن الناس. ثم خرج عليه
أبو قرة اليفرني في جموع البربر فهرب وسكن أبو قرّة اليفرني، فأبى
عليه الجند وخلعوه، وكان الحسن بن حرب الكندي بقابس فكاتب الجند
وثبطهم عن الأغلب فلحقوا به وأقبل بهم إلى القيروان فملكها ولحق
الأغلب بقابس. ثم رجع إلى إقبال الحسن بن حرب سنة خمسين فهزمه،
وسار إلى القيروان فكرّ عليه الحسن دونها واقتتلوا، وأصاب الأغلب
سهم فقتله، وقدّم أصحابه عليهم المغافر بن غفار الطائي الّذي كان
على طرابلس، وحملوا على الحسن فانهزم أمامهم إلى تونس. ثم لحق
بكتامة وخيل المخارق في اتباعه. ثم رجع إلى تونس بعد شهرين
(4/245)
فقتله الجند، وقيل أصحاب الأغلب قتلوه في
الموقف الّذي قتل فيه الأغلب. وقام بأمر إفريقية المخارق بن غفار
إلى أن كان ما نذكره.
(عمر بن حفص هزارمرد)
ولما بلغ أبا جعفر المنصور قتل الأغلب بن سالم بعث على إفريقية
مكانه عمر بن حفص هزارمرد من ولد قبيصة بن أبي هفرة أخي المهلّب،
فقدمها سنة إحدى وخمسين فاستقامت أموره ثلاث سنين. ثم سار لبناء
السور على مدينة طبنة واستخلف على القيروان أبا حازم حبيب بن حبيب
المهلّبيّ، فلمّا توجه لذلك ثار البربر بإفريقية وغلبوا على من كان
بها وزحفوا إلى القيروان وقاتلوا أبا حازم فقتلوه واجتمع البربر
الإباضيّة بطرابلس، وولّوا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب الإباضيّ
مولى كندة، وكان على طرابلس الجنيد بن بشّار الأسديّ من قبل عمر بن
حفص فأمدّه بالعساكر، وقاتلوا أبا حازم فهزمهم وحصرهم بقابس،
وانقضّت إفريقية من كل ناحية. ثم ساروا في عسكر إلى طبنة وحاصروا
بها عمر بن حفص، فيهم أبو قرّة اليعقوبي في أربعين ألفا من
الصفريّة وعبد الرحمن بن رستم في خمسة عشر ألفا من الإباضية جاءوا
معه، والمسور الزناتي في عشرة آلاف من الإباضية وأمم من الخوارج من
صنهاجة وزناتة وهوّارة ما لا يحصى، فدافعهم عمر بن حفص بالأموال،
وفرّق كلمتهم، وبذل لأصحاب أبي قرّة مالا فانصرفوا. واضطر أبو قرّة
لاتباعهم، فبعث عمر جيشا إلى ابن رستم وهو بتهودا فانهزم إلى تاهرت
وضعف الإباضية عن حصار طبنة فأفرجوا عنها، وسار أبو حاتم إلى
القيروان وحاصرها ثمانية أشهر، واشتدّ حصارها وسار عمر بن حفص
وجهّز العساكر لطبنة فخالفه أبو قرّة إلى طبنة فهزموه.
وبلغ أبا حاتم وأصحابه وهو على القيروان مسير عمر بن حفص إليهم
فساروا للقائه، فمال هو من الأربس إلى تونس. ثم جاء إلى القيروان
فدخلها واستعدّ للحصار واتبعه أبو حاتم والبربر فحاصروه إلى أن
جهده الحصار، وحرج لقتالهم مستميتا فقتل آخر سنة أربع وخمسين،
وولىّ مكانه أخوه لأمّه حميد بن صخر فوادع أبا حاتم على أن يقيم
دعوة العبّاسيّة بالقيروان وخرج أكثر الجند إلى طبنة وأحرق أبو
حاتم أبواب القيروان وثلم سورها
.
(4/246)
(يزيد بن حاتم بن
قبيصة بن المهلب)
ولما بلغ المنصور انتقاض إفريقية على عمر بن حفص وحصاره بطبنة ثم
بالقيروان، بعث إليه يزيد بن أبي حاتم بن قبيصة بن المهلّب بن أبي
صفرة في ستين ألف مقاتل. وبلغ خبره عمر بن حفص فحمله ذلك على
الاستماتة حتى قتل، وسار يزيد ابن حاتم فقدم عليها وأبو حاتم يعقوب
بن حبيب مستول عليها، فسار إلى طرابلس للقائه، واستخلف على
القيروان عمر بن عثمان الفهريّ فانتقض وقتل أصحابه.
وخرج المخارق بن غفار، فرجع إليهما أبو حاتم ففرّا من القيروان
ولحقا بجيجل من سواحل كتامة فتركهما، واستخلف على القيروان عبد
العزيز بن السبع المغافري، وسار للقاء يزيد. وسار يزيد إلى طرابلس
فلحق أبو حاتم بجبال نفوسة، واتبعته عساكر يزيد فهزمهم فسار إليه
يزيد بنفسه، وقاتله قتالا شديدا فانهزم البربر، وقتل أبو حاتم في
ثلاثين ألفا من أصحابه، وتتبعهم يزيد بالقتل بثأر عمر بن حفص. ثم
ارتحل إلى القيروان فدخلها منتصف سنة خمس وخمسين. وكان عبد الرحمن
بن حبيب بن عبد الرحمن الفهرّي مع أبي حاتم فلحق بكتامة، وبعث يزيد
في طلبه فحاصروهم ثم ظفروا بهم. وهرب عبد الرحمن وقتل جميع من كان
معه وبعث يزيد المخارق ابن غفار على الزاب، ونزل طبنة وأثخن في
البربر في وقائع كثيرة مع وربجومة وغيرهم الى ان هلك يزيد سنة
سبعين ومائة في خلافة هارون الرشيد. وقام بأمره ابنه داود فخرج
عليه البربر، وأوقع بهم ورجع إلى القيروان إلى أن كان من أمره ما
نذكره.
(أخوه روح بن حاتم)
ولما بلغ الرشيد وفاة يزيد بن حاتم، وكان أخوه روح على فلسطين
استقدمه وعزّاه في أخيه وولّاه على إفريقية فقدمها منتصف إحدى
وسبعين. وسار داود ابن أخيه يزيد إلى الرشيد. وكان يزيد قد أذلّ
الخوارج ومهّد البلاد فكانت ساكنة أيام روح، ورغب في موادعة عبد
الوهاب بن رستم وكان من الوهبيّة فوادعه، ثم هلك روح في
(4/247)
رمضان سنة أربع وسبعين، وكان الرشيد قد بعث
بعهده سرا إلى نصر بن حبيب من قرابتهم، فقام بالأمر بعد روح إلى أن
ولي الفضل.
(ابنه الفضل بن روح)
ولما توفي روح بن حاتم قام حبيب بن نصر مكانه، وسار ابنه الفضل إلى
الرشيد فولّاه على إفريقية مكان أبيه فعاد إلى القيروان في محرّم
سنة سبع وسبعين، واستعمل على تونس المغيرة ابن أخيه بشر بن روح،
وكان غلاما غرّا فاستخف بالجند، واستوحشوا من الفضل لما أساء فيهم
السيرة، وأخذهم بموالاة حبيب بن نصر فاستعفى أهل تونس من المغيرة
فلم يعفهم، فانتقضوا وقدّموا عليهم عبد الله بن الجارود، ويعرف
بعبد ربّه الأنباري، وبايعوه على الطاعة، وأخرجوا المغيرة، وكتبوا
إلى الفضل أن يولّي عليهم من أراد فولّى عليهم ابن عمّه عبد الله
بن يزيد بن أبي حاتم، وسار إلى تونس. ولما قاربها بعث ابن الجارود
جماعة لتلقّيه، واستفهامه في أيّ شيء جاء فعدوا عليه وقتلوه
افتئاتا بذلك على ابن الجارود، واضطر إلى إظهار الخلاف، وتولّى كبر
ذلك محمد بن الفارسيّ من قوّاد الخراسانية، وكتب إلى القوّاد
والعمّال في النواحي، واستفسدهم على الفضل. وكثر جموع ابن الجارود،
وخرج الفضل فانهزم واتبعه ابن الجارود، واقتحم عليه القيروان.
ووكّل به وبأهله من يوصلهم إلى قابس. ثم ردّه من طريقه وقتله منتصف
ثمان وسبعين. ورجع ابن الجارود إلى تونس، وامتعض لقتل الفضل جماعة
من الجند وفي مقدّمهم مالك بن المنذر ووثبوا بالقيروان فملكوها،
وسار إليهم ابن الجارود من تونس فقتلهم، وقتل مالك بن المنذر
وجماعة من أعيانهم، ولحق فلّهم بالأندلس، فقدّموا عليهم الصّلت بن
سعيد، وعادوا إلى القيروان واضطربات إفريقية.
(خزيمة بن أعين)
ولما بلغ الرشيد مقتل الفضل بن روح، وما وقع بإفريقية من الاضطراب،
ولّى
(4/248)
مكانه خزيمة بن أعين، وبعث إلى ابن الجارود
يحيى بن موسى لمحلّه عند أهل خراسان. ويقال يقطين يرغبه في الطاعة،
فأجابه بشرط الفراغ من العلاء بن سعيد. وعلم يقطين أنه يغالطه
فداخل صاحبه محمد بن الفارسيّ، واستماله فنزع عن ابن الجارود. وخرج
ابن الجارود من القيروان فرارا من العلاء في محرّم سنة تسع وسبعين
لسبعة أشهر من ولايته، وسار للقاء ابن الفارسيّ من القيروان،
وتزاحفا للقتال فدعا ابن الجارود ابن الفارسيّ إلى خلوة، وقد دسّ
رجلا من أصحابه يغتاله في خلوتهما فقتله، وانهزم أصحابه وسابق
العلاء بن سعيد ويقطين إلى القيروان فسبق إليها العلاء وملكها وفتك
في أصحابه ابن الجارود ولحق ابن الجارود بهرثمة فبعث به إلى
الرشيد، وكتب إليه أن العلاء بن سعيد هو الّذي أخرجه من القيروان
فأمره بأن يبعث بالعلاء فبعث به مع يقطين، فاعتقل ابن الجارود
وأحسن إلى العلاء إلى أن توفي بمصر. وسار هرثمة إلى القيروان
فقدمها سنة سبع وسبعين فأمّن الناس وسكّنهم، وبني القصر الكبير
بالمنستير لسنة من قدومه، وبنى السور على طرابلس مما يلي البحر.
وكان إبراهيم بن الأغلب عاملا على الزاب وطبنة فهاداه، ولاطفه فعقد
له على عمله فقام بأمره وحسن أثره. ثم خرج عليه عياض بن وهب
الهوّاري وكليب ابن جميع الكلبيّ، وجمعا الجموع فسرّح هرثمة إليهما
يحيى بن موسى من قوّاد الخراسانيّة ففرّق جموعهما، وقتل كثيرا من
أصحابهما، ورجع إلى القيروان. ولما رأى هرثمة كثرة الثّوار والخلاف
بإفريقية استعفى الرشيد من ولايتها فأعفاه، ورجع إلى العراق لسنتين
ونصف من ولايته.
(محمد بن مقاتل الكعبي)
ثم بعث الرشيد على إفريقية محمد بن مقاتل الكعبيّ، وكان صنيعه،
فقدم القيروان في رمضان سنة إحدى وثمانين، فكان مسيء السيرة،
فاختلف عليه الجند وقدّموا مخلّد بن مرّة الأزديّ، فبعث إليه
العساكر فهزم وقتل. ثم خرج عليه بتونس تمام ابن تميم التميميّ سنة
ثلاث وثمانين، واجتمع إليه الناس، وسار إلى القيروان فخرج إليه
محمد بن مقاتل ولقيه فانهزم أمامه ورجع إلى القيروان، وتمام في
اتباعه إلى أن
(4/249)
دخل عليه القيروان، وأمّنه تمام على أن
يخرج عن إفريقية، فسار محمد إلى طرابلس، وبلغ الخبر إلى إبراهيم بن
الأغلب بمكانه من الزاب فانتقض لمحمد، وسار بجموعه إلى القيروان
وهرب تمام بين يديه إلى تونس، وملك القيروان واستقدم محمد بن مقاتل
من طرابلس، وأعاده إلى إمارته بالقيروان آخر ثلاث وثمانين، وزحف
تمام لقتالهم فخرج إليه إبراهيم بن الأغلب بأصحابه فهزمه، وسار في
اتباعه إلى تونس. واستأمن له تمام فأمّنه وجاء به إلى القيروان
وبعث به إلى بغداد فاعتقله الرشيد.
(إبراهيم بن الأغلب)
ولما استوثق الأمر لمحمد بن مقاتل كره أهل البلاد ولايته، وداخلوا
إبراهيم بن الأغلب في أن يطلب من الرشيد الولاية عليهم، فكتب
إبراهيم إلى الرشيد في ذلك على أن يترك المائة ألف دينار التي كانت
من مصر إلى إفريقية، وعلى أن يحمل هو من إفريقية أربعين ألفا. وبلغ
الرشيد غناؤه في ذلك واستشار فيه أصحابه فأشار هرثمة بولايته، فكتب
له بالعهد إلى إفريقية منتصف أربع وثمانين فقام إبراهيم بالولاية،
وضبط الأمور وقفل ابن مقاتل إلى المشرق، وسكنت البلاد بولاية ابن
الأغلب، وابتنى مدينة العبّاسيّة قرب القيروان، وانتقل إليها
بجملته. وخرج عليه سنة ست وثمانين بتونس حمديس من رجالات العرب،
ونزع السواد، فسرّح إليه ابن الأغلب عمران بن مجالد في العساكر
فقاتله وانهزم حمديس، وقتل من أصحابه نحو عشرة آلاف. ثم صرف همّه
إلى تمهيد المغرب الأقصى، وقد ظهر فيه دعوة العلويّة بإدريس بن عبد
الله. وتوفي ونصّب البرابرة ابنه الأصغر، وقام مولاه راشد بكفالته.
وكبر إدريس واستفحل أمره براشد، فلم يزل إبراهيم يدسّ إلى البربر
ويسرّب فيهم الأموال حتى قتل راشد وسيق رأسه إليه. ثم قام بأمر
إدريس بعده بهلول بن عبد الرحمن المظفّر من رءوس البربر فاستفحل
أمره، فلم يزل إبراهيم يتلطّفه ويستميله بالكتب والهدايا، الى أن
انحرف عن دعوة الأدارسة إلى دعوة العبّاسيّة فصالحه إدريس، وكتب
إليه يستعطفه بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكفّ عنه.
ثم خالف أهل طرابلس على إبراهيم بن الأغلب سنة تسع وثمانين، وثاروا
(4/250)
بعاملهم سفيان بن المهاجر، وأخرجوه من داره
إلى المسجد وقتلوا عامة أصحابه. ثم أمّنوه على أن يخرج من طرابلس
فخرج سفيان لشهر من ولايته، واستعملوا عليهم إبراهيم بن سفيان
التميمي، فبعث إليهم إبراهيم بن الأغلب العساكر وهزمهم، ودخل
طرابلس عسكره. ثم استحضر إبراهيم الذين تولّوا كبر ذلك، فحضروا في
ذي الحجّة آخر السنة، وعفا عنهم وأعادهم إلى بلدهم. ثم انتقض عمران
بن مجالد الربعيّ سنة خمس وتسعين على ابن الأغلب، وكان بتونس،
واجتمع معه على ذلك قريش بن التونسي، وكثرت جموعهما، وسار عمران
إلى القيروان فملكها، وقدم عليه قريش من تونس، وخندق إبراهيم على
نفسه بالعبّاسيّة فحاصروه سنة كاملة، كانت بينه وبينهم حروب كان
الظفر في آخرها لابن الأغلب. وكان عمران يبعث إلى أسد بن الفرات
القاضي في الخروج إليهم وامتنع. ثم بعث الرشيد إلى إبراهيم بالمال
فنادى في الناس بالعطاء، ولحق به أصحاب عمران، وانتقض أمره ولحق
بالزاب، فأقام به إلى أن توفي ابن الأغلب. ثم بعث إبراهيم على
طرابلس ابنه عبد الله سنة ست وتسعين، فثار عليه الجند وحاصروه
بداره. ثم أمّنوه على أن يخرج عنهم فخرج، واجتمع إليه الناس وبذل
العطاء وأتاه البربر من كل ناحية. وزحف إلى طرابلس فهزم جندها ودخل
المدينة. ثم عزله أبوه وولّى سفيان بن المضاء فثارت هوّارة
بطرابلس، وهجموا الجند فلحقوا بإبراهيم بن الأغلب وأعاد معهم ابنه
عبد الله في ثلاثة عشر ألفا من العساكر ففتك بهوّارة وأثخن فيهم،
وجدّد سور طرابلس. وبلغ الخبر إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن
رستم فجمع البربر وجاء إلى طرابلس فحاصرها وسدّ عبد الوهاب باب
زناتة، وكان يقاتل من باب هوّارة. ثم جاءه الخبر بوفاة أبيه
فصالحهم على أن يكون البلد والبحر لعبد الله، وأعمالها لعبد
الوهاب، وسار إلى القيروان، وكانت وفاة إبراهيم في شوّال سنة ست
وتسعين.
(ابنه أبو العباس عبد الله)
ولما توفي إبراهيم بن الأغلب عهد لابنه عبد الله، وكان غائبا
بطرابلس والبربر يحاصرونه كما ذكرناه، وأوصى ابنه الآخر زيادة الله
أن يبايع له بالإمارة ففعل، وأخذ له البيعة
(4/251)
على الناس بالقيروان. وكتب إليه بذلك فقدم
أبو العبّاس عبد الله في صفر سنة سبع وتسعين، ولم يرع حق أخيه فيما
فعله. وكان ينتقصه ولم يكن في أيامه فتنة بما مهّد له أبوه الأمر.
وكان جائرا حتى قيل: إن مهلكه كان بدعوة حفص بن حميد من الأولياء
الصالحين من أهل حمّود ومهريك، وفد عليه في جماعة من الصالحين يشكو
ظلامة. فلم يصغ إليهم فخرج حفص يدعو عليه، وهم يؤمنون فأصابته قرحة
في أذنه عن قريب هلك منها في ذي الحجّة سنة إحدى ومائتين لخمس سنين
من ولايته.
(أخوه زيادة الله)
ولما توفي أبو العباس ولي مكانه أخوه زيادة الله، وجاءه التقليد من
قبل المأمون، وكتب إليه يأمره بالدعاء لعبد الله بن طاهر على
منابره فغضب من ذلك، وبعث مع الرسول بدنانير من سكة الأدارسة يعرض
له بتحويل الدعوة. ثم استأذنه قرابته في الحج وهم أخوه الأغلب
وأبناء أخيه أبي العباس محمد وأبو محمد بهر وإبراهيم أبو الأغلب،
فأذن لهم وانطلقوا لقضاء فرضهم فقضوه، وأقاموا بمصر حتى وقعت بين
زيادة الله وبين الجند الحروب فاستقدمهم، واستوزر أخاه الأغلب
وهاجت الفتن.
واستولى كل رئيس بناحية فملكوها عليه كلها وزحفوا إلى القيروان
فحصروه، وكان فاتحة الخلاف زياد بن سهل بن الصقلية، خرج سنة سبع
ومائتين وجمع وحاصر مدينة باجة فسرح إليه العساكر فهزموه وقتلوا
أصحابه. ثم انتقض منصور الترمذي بطبنة، وسار إلى تونس فملكها وكان
العامل عليها إسماعيل بن سفيان، وسفيان أخو الأغلب فقتله لتستخلص
له طاعة الجند. وسرح زيادة الله العساكر من القيروان مع غلبون ابن
عمه ووزيره اسمه الأغلب بن عبد الله بن الأغلب وتهددهم بالقتل إن
انهزموا فهزمهم منصور، وخشوا على أنفسهم ففارقوا الوزير غلبون،
وافترقوا على إفريقية، واستولوا على باجة والجزيرة وصطفورة والأربس
وغيرها. واضطربت إفريقية، ثم اجتمعوا إلى منصور، وسار بهم إلى
القيروان فملكها، وحاصره في العباسية أربعين يوما، وعمروا سور
القيروان الّذي خربه إبراهيم بن الأغلب. ثم خرج إليه زيادة الله
فقاتله فهزمه، ولحق بتونس وخرب زيادة الله سور القيروان.
(4/252)
ولحق قواد الجند بالبلاد التي تغلبوا
عليها، فلحق منهم عامر بن نافع الأزرق بسبيبة [1] . وسرح زيادة
الله سنة تسع ومائتين عسكرا مع محمد بن عبد الله بن الأغلب فهزمهم
عامر وعادوا، ورجع منصور إلى تونس ولم يبق على طاعة زيادة الله من
إفريقية إلا تونس والساحل وطرابلس ونفزاوة [2] . وبعث الجند إلى
زيادة الله بالأمان وأن يرتحل عن إفريقية، وبلغه أن عامر بن نافع
يريد نفزاوة وأن برابرتها دعوه، فسرح إليهم مائتي مقاتل لمنع عامر
بن نافع فرجع [3] عامرا عنها، وهزمه إلى قسطيلة ورجع. ثم هرب عنها
واستولى سفيان على قسطيلة وضبطها. وذلك سنة تسع ومائتين، واسترجع
زيادة الله قسطيلة والزاب وطرابلس واستقام أمره. ثم وقعت الفتنة
بين منصور الطبندي وبين عامر بن نافع، لأن منصورا كان يحسده ويضغن
عليه فاستمال عامر الجند وحاصره بقصره بطبندة حتى استأمن إليه على
أن يركب إلى الشرق. وأجابه إلى ذلك وخرج منصور من طبندة منهزما. ثم
رجع فحاصره عامر حتى استأمن إليه ثانيا على يد عبد السلام بن
المفرّج من قوّاد الجند، وأخذ له الأمان من عامر على أن يركب البحر
إلى المشرق فأجابه عامر وبعثه مع ثقاته إلى تونس وأوصى ابنه. وكان
يغريه أن يقتله إذا مرّ به فقتله، وبعث برأسه ورأس ابنه. وأقام
عامر بن نافع بمدينة تونس إلى أن توفي سنة أربع عشرة. ورجع عبد
السلام بن المفرج إلى باجة فأقام بها إلى أن انتقض فضل بن أبي
العين بجزيرة شريك سنة ثمان عشرة ومائتين، فسار إليه عبد السلام بن
المفرج الربعي، وجاءت عساكر زيادة الله فقاتلوهما، وقتل عبد
السلام، وانهزم فضل إلى مدينة تونس وامتنع بها، وحاصرته العساكر
حتى اقتحموها عليه، وقتلوا كثيرا من أهلها وهرب آخرون حتى أمنهم
زيادة الله وعادوا، وفي سنة تسع عشرة ومائتين فتح أسد بن الفرات
صقلّيّة، كانت صقلّيّة من عمالات الروم وأمرها راجع الى صاحب
قسطنطينية، وولى عليها سنة إحدى عشرة ومائتين بطريقا اسمه قسنطيل،
واستعمل على الأسطول قائدا من الروم حازما شجاعا فغزا سواحل
إفريقية وانتهبها. ثم بعد مدّة كتب ملك الروم إلى قسنطيل يأمره
بالقبض
__________
[1] سبيبة: ناحية من أعمال افريقية ثم من أعمال القيروان (معجم
البلدان) .
[2] نفزاوة: مدينة من أعمال افريقية، قال البكري: وتسير من
القيروان الى نفزاوة ستة أيام نحو المغرب، وبمدينة نفزاوة عين تسمى
بالبربرية تاورغي، وهي عين كبيرة لا يدرك قعرها، ولها سور صخر وطوب
ولها ستة أبواب وفيها جامع وحمام وأسواق حافلة ... (معجم البلدان)
[3] بمعنى منع عامر بن نافع عنها.
(4/253)
على مقدم الأسطول وقتله. ونمي الخبر إليه
بذلك فانتقض، وتعصب له أصحابه، وسار إلى مدينة سرقوسة من بلاد
صقلّيّة فملكها، وقاتله قسنطيل فهزمه القائد ودخل مدينة تطانية
فأتبعه جيشا أخذوه وقتلوه، واستولى القائد على صقلّيّة فملكها
وخوطب بالملك. وولى على ناحية من الجزيرة رجلا اسمه بلاطة، وكان
ميخاييل ابن عم بلاطة على مدينة بليرم، فانتقض هو وابن عمه على
القائد، واستولى بلاطة على مدينة سرقوسة، وركب القائد في أساطيله
إلى إفريقية مستنجدا بزيادة الله، فبعث معهم العساكر واستعمل عليهم
أسد بن الفرات قاضي القيروان فخرجوا في ربيع سنة اثنتي عشرة فنزلوا
بمدينة مأزر، وساروا إلى بلاطة ولقيهم القائد وجميع الروم الذين
بها استمدّهم فهزموا بلاطة والروم الذين معه، وغنموا أموالهم. وهرب
بلاطة إلى فلونرة فقتل، واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة
ووصلوا إلى قلعة الكرات، وقد اجتمع بها خلق كثير فخادعوا القاضي
أسد بن الفرات في المراودة على الصلح وأداء الجزية، حتى استعدّوا
للحصار، ثم امتنعوا عليه فحاصرهم وبعث السرايا في كل ناحية، وكثرت
الغنائم وحاصروا سرقوسة برا وبحرا، وجاءه المدد من إفريقية وحاصروا
بليرم. وزحف الروم إلى المسلمين وهم يحاصرون سرقوسة قد بعثوهم،
واشتدّ حصار المسلمين بسرقوسة، ثم أصاب معسكرهم الفناء وهلك كثير
منهم، ومات أسد بن الفرات أميرهم ودفن بمدينة قصريانة، ومعهم
القائد الّذي جاء يستنجدهم فخادعه أهل قصريانة وقتلوه. وجاء المدد
من القسطنطينية فتصافوا مع المسلمين، وهزموهم، ودخل فلهم إلى
قصريانة. ثم توفي محمد بن الحواري أمير المسلمين، وولي بعده زهير
بن عوف. ثم محص [1] الله المسلمين فهزمهم الروم مرات وحصروهم في
معسكرهم حتى جهدهم الحصار، وخرج من كان في كبركيت من المسلمين بعد
أن هدموها وساروا إلى مأزر. وتعذر عليهم الوصول إلى إخوانهم
وأقاموا كذلك إلى سنة أربع عشرة إلى أن أشرفوا على الهلاك، فوصلت
مراكب افريقية مددا وأسطول من الأندلس خرجوا للجهاد. واجتمع منهم
ثلاثمائة مركب فنزلوا الجزيرة، وأفرج الروم عن حصار المسلمين وفتح
المسلمون مدينة بليرم بالأمان سنة سبع عشرة ومائتين. ثم ساروا سنة
تسع عشرة إلى مدينة قصريانة وهزموا الروم
__________
[1] بمعنى امتحن.
(4/254)
عليها سنة عشرين ومائتين. ثم بعثوا إلى
طرميس. ثم بعث زيادة الله الفضل بن يعقوب في سرية إلى سرقوسة
فغنموا. ثم سارت سرية أخرى واعترضها بطريق صقلّيّة فامتنعوا منه في
وعر وخمل من الشعراء، حتى يئس منهم وانصرف على غير طائل فحمل عليهم
أهل السرية وانهزموا، وسقط البطريق عن فرسه فطعن وجرح، وغنم
المسلمون ما معهم من سلاح ودواب ومتاع. ثم جهز زيادة الله إلى
صقلّيّة إبراهيم بن عبد الله بن الأغلب في العساكر، وولاه أميرا
عليها فخرج منتصف رمضان، وبعث اسطولا فلقي أسطولا للروم فغنمه،
وقتل من كان فيه. وبعث أسطولا آخر إلى قصوره فلقي أسطولا فغنمه
وسارت سرية إلى جبل النار والحصون التي في نواحيها، وكثر السبي
بأيدي المسلمين. وبعث الأغلب سنة إحدى وعشرين أسطولا نحو الجزائر
فغنموا وعادوا. وبعث سرية إلى قطلبانة وأخرى إلى قصريانة كان فيهما
التمحيص على المسلمين. ثم كانت وقعة أخرى كان فيها الظفر للمسلمين.
وغنم المسلمون من أسطولهم تسع مراكب، ثم عثر بعض المسلمين على عورة
من قصريانة فدل المسلمين عليها، ودخلوا منها البلد، وتحصن المشركون
بحصنه حتى استأمنوا وفتحه الله، وغنم المسلمون غنائمه، وعادوا إلى
بليرم إلى أن وصلهم الخبر بوفاة زيادة الله فوهنوا أولا.
ثم انشطوا وعادوا إلى الصبر والجهاد وكانت وفاة زيادة الله منتصف
سنة ثلاث وعشرين ومائتين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ولايته.
(أخوهما أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن
الأغلب)
ولما توفي زيادة الله بن إبراهيم، تولى أخوه الأغلب ويكنى أبا عقال
فأحسن إلى الجند، وأزال المظالم وزاد العمال في أرزاقهم وكفهم عن
الرعية! وخرج عليه بقسطيلة خوارج زواغة ولواتة وبسكاسة [1] وقتلوا
عاملها بها، وبعث إليهم العساكر فقتلهم واستأصلهم. وبعث سنة أربع
وعشرين سرية إلى صقلّيّة فغنموا وعادوا ظافرين. وفي سنة خمس وعشرين
استأمن للمسلمين عدة حصون من صقلّيّة فأمنوهم، وفتحوها صلحا وسار
أسطول المسلمين إلى قلورية ففتحوها، ولقوا أسطول
__________
[1] بسكاس: من قرى بخارى وليست هي المقصودة ولعلها مكناسة.
(4/255)
القسطنطينية فهزموهم. وفي سنة ست وعشرين
سارت سرايا المسلمين بصقلية إلى قصريانة، ثم حصن القيروان وأثخنوا
في نواحيها كما نذكره. ثم توفي الأغلب بن إبراهيم في ربيع من سنة
ست وعشرين ومائتين لسنتين وسبعة أشهر من إمارته.
(ابنه أبو العباس محمد بن الأغلب بن
إبراهيم)
ولما توفي أبو عقال الأغلب ولي بعده ابنه أبو العباس ودانت له
إفريقية، وشيد مدينة بقرب تاهرت وسماها العباسية وذلك سنة سبع
وعشرين، وأحرقها أفلح بن عبد الوهاب بن رستم. وكتب إلى صاحب
الأندلس يتقرّب إليه بذلك فبعث إليه بمائة ألف درهم. وفي أيامه ولي
سحنون القضاء سنة أربع وثلاثين ومائتين بعد عزل ابن الجواد، وضربه
سحنون فمات. ومات سحنون سنة أربعين ومائتين، وثار عليه أخوه أبو
جعفر وغلبه. ثم اتفقا على أن يستوزره فاستبد عليه، وقتل وزراءه
ومكث على ذلك. ثم أقام أبو العباس محمد بأمره واستبد سنة ثلاث
وأربعين بعد أن استعد لذلك رجالا، وحارب أخوه أبو جعفر فغلبه محمد
وانتقض عليه وأخرجه من إفريقية إلى مصر سنة ست وأربعين ومائتين
لستة عشر شهرا من ولايته.
(ابنه أبو إبراهيم أحمد بن أبي العباس
محمد)
لما توفي أبو العباس محمد بن أبي عقال سنة اثنتين وأربعين، ولي
مكانه ابنه أبو إبراهيم أحمد فأحسن السيرة وأكثر العطاء للجند،
وكان مولعا بالعمارة فبنى بإفريقية نحوا من عشرة آلاف حصن بالحجارة
والكلس وأبواب الحديد. واتخذ العبيد جندا وخرج عليه بناحية طرابلس
خوارج من البربر فغلبهم عاملها، وهو يومئذ أخوه عبد الله بن محمد
بن الأغلب، سرّح إليهم أخاهما زيادة الله يحاربهم، واستلحمهم وكتب
إلى أخيه أبي إبراهيم بالفتح. وفي أيامه افتتحت قصريانة من مدن
صقلّيّة في شوّال سنة أربع وأربعين، وبعث بفتحها إلى المتوكل،
وأهدى له من سبيها. ثم توفي إبراهيم هذا سنة تسع وأربعين لثمان
سنين من ولايته.
(4/256)
(ابنه زيادة الله
الأصغر بن أبي إبراهيم بن أحمد)
ولما توفي أبو إبراهيم ولي مكانه ابنه زيادة الله، ويعرف بزيادة
الله الأصغر فجرى على سنن سلفه، ولم تطل أيامه. وتوفي سنة خمسين
لحول من ولايته.
(أخوه أبو الغرانيق بن أبي إبراهيم بن
أحمد)
ولما توفي زيادة الله كما قدّمناه ولي مكانه أخوه محمد ويلقب بأبي
الغرانيق فغلب عليه اللهو والشراب. وكانت في أيامه حروب وفتن. وفتح
جزيرة مالطة سنة خمس وخمسين. وتغلب الروم على مواضع من جزيرة
صقلّيّة، وبنى محمد حصونا ومحارس على ساحل البحر بالمغرب على مسيرة
خمسة عشر يوما من برقة إلى جهة المغرب وهي الآن معروفة. ثم توفي
أبو الغرانيق منتصف إحدى وستين لإحدى عشرة سنة من ولايته.
(بقية أخبار صقلّيّة)
وفي سنة ثمان وعشرين سار الفضل بن جعفر الهمدانيّ في البحر ونزل
مرسى مسينة وحاصرها فامتنعت عليه، وبث السرايا في نواحيها فغنموا.
ثم بعث طائفة من عسكره وجاءوا إلى البلد من وراء جبل مطل عليه، وهم
مشغولون بقتاله فانهزموا، وأعطوا باليد ففتحها. ثم حاصر سنة اثنتين
وثلاثين مدينة لسى، وكاتب أهلها بطريق صقلّيّة يستمدونه فأجابهم
وأعطاهم العلامة بإيقاد النار على الجبل. وبلغ ذلك الفضل بن جعفر
فأوقد النار على الجبل، وأكمن لهم من ناحيته فخرجوا واستطرد لهم
حتى جاوزوا الكمين، فخرجوا عليهم، فلم ينج منهم إلا القليل، وسلموا
البلد على الأمان. وفي سنة ثلاث وثلاثين أجاز المسلمون إلى أرض
أنكبردة من البرّ الكبير، وملكوا منها مدينة وسكنوها، وفي سنة أربع
وثلاثين صالح أهل رغوس، ابن خلدون م 17 ج 4
(4/257)
وسلموا المدينة للمسلمين فهدموها بعد أن
حملوا جميع ما فيها. وفي سنة ثلاث وثلاثين توفي أمير صقلّيّة محمد
بن عبد الله بن الأغلب، واجتمع المسلمون بعده على ولاية العباس بن
الفضل بن يعقوب بعد موت أميرهم. وكتب له محمد بن الأغلب بعهده على
صقلّيّة، وكان من قبل يغزو ويبعث السرايا، وتأتيه الغنائم. ولما
جاءه كتاب الولاية خرج بنفسه، وعلى مقدمته عمه رياح فعاث في نواحي
صقلّيّة، وردد البعوث والسرايا إلى قطانية وسرقوسة وبوطيف ورغوس
فغنموا وخربوا وحرقوا، وافتتح حصونا جمة، وهزم أهل قصريانة، وهي
مدينة ملك صقلّيّة. وكان الملك قبله يسكن سرقوسة فلما فتحها
المسلمون كما ذكرناه انتقل الملك إلى قصريانة. وخبر فتحها أن
العباس كان يردد الغزو إلى نواحي سرقوسة وقصريانة شاتية وصائفة
فيصيب منهم، ويرجع بالغنائم والأسارى. فلما كان في شاتية منها أصاب
منهم أسارى، وقدمهم للقتل فقال له بعضهم: وكان له قدر وهيبة
استبقني وأنا أملكك قصريانة، ودلهم على عورة البلد فجاءوها ليلا،
ووقفهم على باب صغير فدخلوا منه، فلما توسطوا البلد وضعوا السيف،
وفتحوا الأبواب ودخل العباس في العسكر فقتل المقاتلة وسبى بنات
البطارقة، وأصاب فيها ما يعجز الوصف عنه، وذل الروم بصقلية من
يومئذ.
وبعث ملك الروم عسكرا عظيما مع بعض بطارقته، وركبوا البحر إلى مرسى
سرقوسة فجاءهم العباس من بليرم فقاتلهم وهزمهم، وأقلع فلهم إلى
بلادهم بعد أن غنم المسلمون من أسطولهم ثلاثة أو أكثر، وذلك سنة
سبع وثلاثين. وافتتح بعدها كثيرا من قلاع صقلّيّة، وجاء مدد الروم
من القسطنطينية وهو يحاصر قلعة الروم فنزلوا سرقوسة، وزحف إليهم
العباس من مكانه وهزمهم، ورجع إلى قصريانة فحصنها وأنزل بها
الحامية. ثم سار سنة سبع وأربعين إلى سرقوسة فغنم ورجع، واعتل في
طريقه فهلك منتصف سنته. ودفن في نواحي سرقوسة، وأحرق النصارى شلوه
وذلك لإحدى عشرة سنة من إمارته. واتصل الجهاد بصقلية والفتح، وأجاز
المسلمون إلى عدوة الروم في الشمال وغزوا أرض قلورية وانكبرده،
وفتحوا فيها حصونا وسكن بها المسلمون. ولما توفي العباس اجتمع
الناس على ابنه عبد الله وكتبوا إلى صاحب إفريقية، وبعث عبد الله
السرايا ففتح القلاع، وبعد خمسة أشهر من ولايته وصل خفاجة بن سفيان
من إفريقية على صقلّيّة في منتصف ثمان وأربعين، وأخرج ابنه محمودا
في سرية إلى سرقوسة فعاث في نواحيها، وخرج إليهم الروم فقاتلهم
وظفر
(4/258)
ورجع. ثم فتح مدينة نوطوس سنة خمس وخمسين
إلى سرقوسة، وجبل النار، واستأمن إليه أهل طرميس، ثم غدروا فسرّح
ابنه محمدا في العساكر وسبى أهلها. ثم سار خفاجة إلى رغوس
وافتتحها، وأصابه المرض فعاد إلى بليرم. ثم سار سنة ثلاث وخمسين
إلى سرقوسة وقطانية فخرّب نواحيها، وأفسد زرعها، وبعث سراياه في
أرض صقلّيّة فامتلأت أيديهم من الغنائم. وفي سنة أربع وخمسين وصل
بطريق من القسطنطينية لأهل صقلّيّة فقاتله جمع من المسلمين وهزموه،
وعاث خفاجة في نواحي سرقوسة ورجع إلى بليرم. وبعث سنة خمس وخمسين
ابنه محمدا في العساكر الى طرميس وقد دله بعض العيون على بعض
عوراتها فدخلوها وشرعوا في النهب.
وجاء محمد بن خفاجة من ناحية أخرى فظنوه مددا للعدو فأجفلوا، ورآهم
محمد مجفلين فرجع. ثم سار خفاجة إلى سرقوسة فحاصرها وعاث في
نواحيها، ورجع فاغتاله بعض عسكره في طريقه وقتله، وذلك سنة خمس
وخمسين، وولى الناس عليهم ابنه محمدا وكتبوا إلى محمد بن أحمد أمير
إفريقية فأقرّه على الولاية وبعث إليه بعهده.
(إبراهيم بن أحمد أخو أبي الغرانيق)
ولما توفي أبو الغرانيق ولي أخوه إبراهيم، وقد كان عهد لابنه أبي
عقال، واستحلف أخاه إبراهيم أن لا ينازعه ولا يعرض له، بل يكون
نائبا عنه إلى أن يكبر، فلما مات عدا عليه أهل القيروان وحملوه على
الولاية عليهم، لحسن سيرته وعد له فامتنع ثم أجاب وترك وصية أبي
الغرانيق في ولده أبي عقال، وانتقل إلى قصر الإمارة وقام بالأمر
أحسن قيام. وكان عادلا حازما فقطع البغي والفساد وجلس لسماع شكوى
المتظلمين، فأمنت البلاد وبنى الحصون والمحارس بسواحل البحر حتى
كانت النار توقد في ساحل سبتة للنذير بالعدو فيتصل إيقادها
بالإسكندرية في الليلة الواحدة وبنى سور سوسة. وفي أيامه كان مسير
العباس بن أحمد بن طولون مخالفا على أبيه صاحب مصر سنة خمس وستين
ومائتين فملك برقة من يد محمد بن قهرب قائد ابن الأغلب ثم ملك
لبدة، ثم حاصر طرابلس واستمدّ ابن قهرب بقوسة فأمدوه ولقي العباس
بن طولون بقصر حاتم سنة سبع وستين فهزمه، ورجع إلى مصر. ثم خالفت
(4/259)
وزداجة ومنعوا الرهن، وفعلت مثل ذلك هوارة،
ثم لواتة، وقتل ابن قهرب في حروبهم فسرح إبراهيم ابنه أبا العباس
عبد الله إليهم في العساكر سنة تسع وستين فأثخن فيهم. وفي سنة
ثمانين كثر الخوارج وفرّق العساكر إليهم فاستقاموا، واستركب العبيد
السودان واستكثر منهم فبلغوا ثلاثة آلاف. وفي سنة إحدى وثمانين
انتقل إلى سكنى تونس واتخذ بها القصور، ثم تحرك إلى مصر سنة ثلاث
وثمانين لمحاربة ابن طولون، واعترضته نفوسة فهزمهم وأثخن فيهم. ثم
انتهى إلى سرت فانفضت عنه الحشود فرجع، وبعث ابنه أبا العباس عبد
الله على صقلّيّة سنة سبع وثمانين فوصل إليها في مائة وستين مركبا.
وحصر طرابة وانتقض عليه بليرم وأهل كبركيت، وكانت بينهم فتنة
فأغراه كل واحد منهم بالآخرين. ثم اجتمعوا لحربه وزحف إليه أهل
بليرم [1] في البحر فهزمهم واستباحهم، وبعث جماعة من وجوهها إلى
أبيه، وفرّ آخرون من أعيانهم إلى القسطنطينية وآخرون إلى طرميس
فاتبعهم وعاث في نواحيها. ثم حاصر أهل قطانية فامتنعوا عليه فأعرض
عن قتال المسلمين. وتجهز سنة ثمان وثمانين للغزو فغزا دمقش [2] ثم
مسيني [3] . ثم جاء في البحر إلى ربو [4] ففتحها عنوة وشحن مراكبه
بغنائمها، ورجع إلى مسيني فهدم سورها، وجاء مدد القسطنطينية في
المراكب فهزمهم وأخذ لهم ثلاثين مركبا. ثم أجاز إلى عدوة الروم
وأوقع بأمم الفرنجة من وراء البحر. ورجع إلى صقلّيّة. وجاء في هذه
السنة رسول المعتضد بعزل الأمير إبراهيم لشكوى أهل تونس به،
فاستقدم ابنه أبا العباس من صقلّيّة وارتحل هو إليها مظهرا لغربة
الانتجاع. هكذا قال ابن الرقيق. وذكر أنه كان جائرا ظلوما سفّاكا
للدماء، وأنه أصابه آخر عمره ماليخوليا أسرف بسببها في القتل، فقتل
من خدمه ونسائه وبناته ما لا يحصى. وقتل ابنه أبا الأغلب لظن ظنه
به. وافتقد ذات يوم منديلا لشرابه، فقتل بسببه ثلاثمائة خادم.
وأمّا ابن الأثير فأثنى عليه بالعقل والعدل
__________
[1] بليرم: هي بلرم: وهي أعظم مدينة في جزيرة صقلّيّة في بحر
المغرب على شاطئ البحر (معجم البلدان) وهي اليوم عاصمة صقلّيّة.
[2] دمقش: من قرى مصر في الغربية.
[3] مسيني: بليدة على ساحل جزيرة صقلّيّة مما يلي الروم مقابل ريو،
وهو بلد في بر القسطنطينية، الواقف في مسيني يرى من في ريو (معجم
البلدان) .
[4] هي ريو وليس ربو- هي مدينة للروم مقابل جزيرة صقلّيّة من ناحية
الشرق على بر القسطنطينية.
(معجم البلدان) .
(4/260)
وحسن السيرة، وذكر أن فتح سرقوسة كان في أيامه على يد جعفر بن محمد
أمير صقلّيّة، وأنه حاصرها تسعة أشهر، وجاءهم المدد من قسطنطينية
في البحر فهزمهم. ثم فتح البلد واستباحها. واتفقوا كلهم على أنه
ركب البحر من إفريقية إلى صقلّيّة فنزل طرابنة. ثم تحول عنها إلى
بليرم ونزل على دمقش وحاصرها سبعة عشر يوما. ثم فتح مسيني وهدم
سورها. ثم فتح طرميس آخر شعبان من سنة تسع وثمانين، ووصل ملك الروم
بالقسطنطينية ففتحها. ثم بعث حافده زيادة الله ابن ابنه أبي العباس
عبد الله إلى قلعة بيقش فافتتحها، وابنه أبو محرز إلى رمطة [1]
فأعطوه الجزية. ثم عبر إلى عدوة البحر وسار في برّ الفرنج ودخل
قلورية عنوة فقتل وسبى، ورهب منه الفرنجة. ثم رجع إلى صقلّيّة ورغب
منه النصارى في قبول الجزية فلم يجب إلى ذلك. ثم سار إلى كنسة
فحاصرها واستأمنوا إليه فلم يقبل. ثم هلك وهو محاصر لها آخر تسع
وثمانين لثمان وعشرين سنة من إمارته، فولى أهل العسكر عليهم حافده
أبا مضر ليحفظ العساكر والأمور، إلى أن يصل ابنه أبو العباس، وهو
يومئذ بإفريقية، فأمن أهل كنسة قبل أن يعملوا بموت جدّه، وقبل منهم
الجزية، وأقام قليلا حتى تلاحقت به السرايا من النواحي. ثم ارتحل
وحمل جدّه إبراهيم فدفنه في بليرم، وقال ابن الأثير: حمله إلى
القيروان فدفنه بها.