تاريخ ابن خلدون
فتوحات الوزير بآذربيجان وارّان
ولما تخلف الوزير عن السلطان صرف همته الى تمهيد البلاد ومدافعة صاحب
خلاط وارتجاع البلاد التي ملك من آذربيجان وارّان وفتح القلاع العاصية
فكان بينه وبين الحاجب حسام الدين صاحب خلاط ما ذكرناه وهو خلال ذلك
يستميل أصحاب القلاع ويفيض فيهم الأموال والخلع حتى أجاب أكثرهم ثم قبض
على ناصر الدين محمد من أمراء البهلوانية وكان معتزلا عند نصرة الدين
محمد بن سبكتكين فصادره على مال وتسلم من نائبة قلعة كانت بيده ثم مات
نائب السلطان بكنجة آقسنقر الاتابكي فنهض اليها وقبض على نائبة شمس
الدين كرشاسف وصادره وتسلم منه قلعة هردوجاربرد من أعمال ارّان ثم جر
العساكر لحصار قلعة زونين وبها زوجة السلطان خاموش فأطال حصارها وعرضت
عليه نكاحها فأبى ولما رجع السلطان من العراق تزوّجها وولّى خادمه سعد
الدين على القلعة فأساء اليها وانتزع أملاكها فأخرجوه وعادوا الى
الانتقاض ولما خلص الوزير من واقعته مع الحاجب نائب خلاط قصد أرّان
فجبى الأموال وجمع واحتشد وقصد قلعة مردانقين وكانت لصهر الوزير ركبة
الدين فصانعه بأربعة آلاف دينار حملها اليه ثم سار الى قلعة حاجين وبها
جلال الدولة ابن أخت أبواني أمير الكرج فصالحه على عشرين ألف دينار
وسبعمائة أسير من المسلمين ثم كانت فتنة البهلوانية فسكنها وسرح الجند
عنها وشرح الخبر عنها أنّ بعض مماليك أتابك ازبك كان قد أفحش في قتل
الخوارزمية بأذربيجان عند زحفهم اليها أيام فرارهم من التتر فلما ملك
السلطان جلال الدين أذربيجان ومحاملك البهلوانية منها لحق الأمير مقدي
هذا بالأشرف بن العادل بن أيوب صاحب الشام وأقام عنده فلما بلغه انهزام
الوزير شرف الملك أمام الحاجب حسام الدين نائب الأشرف بخلاط فرّ من
الشام الى آذربيجان ليقيم مع الاتابكية ومرّ بالحاجب في خوى فاتبعه
وعبر النهر وخاطب من عدوته معتذرا فرجع عنه ودخل مقدي بلاد قبار وفيها
قلاع استولى عليها المنتقضون والعصاة فراسلهم في اقامة الدعوة
الاتابكية والبيعة لابن خاموش بن ازبك يستدعونه من قلعة قوطور واتصل
ذلك بالوزير فأقلقه ثم جاء خبر هزيمة السلطان بأصبهان فازداد قلقا وسار
الأمير مقدي الى نصرة الدين محمد بن سبكتكين يدعوه لذلك فلاطفه في
القول وكتب للوزير بالخبر فأجابه بأن يضمن لمقدي ما أحب في مراجعة
الطاعة ففعل وجاء به الى الوزير فأكرمه وخلع عليه وعلى من جاء معه
وعاهده على العفو عن دماء الخوارزمية وجاء الخبر
(5/155)
برجوع السلطان من أصبهان فارتحل الوزير
للقائه ومعه الأمير مقدي وابن سبكتكين وأكرمهما السلطان.
أخبار الوزير بخراسان
كان صفي الدين محمد الطغرائي وزيرا بخراسان وأصل خبره انه كان قرية من
كلاجرد وأبوه رئيسها وكان هو حسن الخط ورتبة الأطوار ثم لحق بالسلطان
في الهند وخدم الوزير شرف الملك فلما عادوا الى العراق ولاه الطغرائي
ولما ملك السلطان تفليس من يد الكرج ولىّ عليها آقسنقر مملوك الاتابك
ازبك وأقام صفي الدين في وزارتها فلما حاصرها الكرج هرب آقسنقر وأقام
صفي الدين فحاصروه أياما ثم أفرجوا ووقع ذلك من السلطان أحسن المواقع
وولاه وزارة خراسان فأقام بها سنة وضجر منه أهلها فلما جاء السلطان الى
الريّ وأقام بها كثرت به الشكايات ونكبه السلطان واستصفي أمواله وقبض
على مواليه وحاشيته وقيدت خيله الى مرابط السلطان وكانت ثلاثمائة وخلص
من مواليه على الكرماني الى قلعة كان حصنها فامتنع بها واستوزر السلطان
مكانه تاج الدين البلخي المستوفي وسلم اليه الصفي ليستصفيه ويقلع
القلعة من مولاه وشدّد في امتحانه وكان عدوّه فلم يظفر منه بشيء وكان
لما نكب طالبه خاتون السلطان بإحضار الجواهر وما ساقه لخدمة الوزير
وغيره فاحضر أربعة آلاف دينار وسبعين فصا من ياقوت وبلخش واستأثر
الخازن بها الظنة أنه مقتول ثم كاتب الصفي أرباب الدولة ووعدهم
بالأموال فشفعوا فيه وخلصوه وكتب السلطان بخطه بسراحه فجاء واستخلص
ماله من الخازن الا الفصوص فأنه تعذر عليه ردها وولىّ السلطان على
وزارة نسا محمد بن مودود النسوي العارض من بيت رياسة بها ورمت به
الحادثة الى غزنة فلما جاء السلطان من الهند ولاه الإنشاء والحبس وعظم
أمره وغص به الوزير شرف الملك فلما ورد أحمد بن محمد المنشي الكاتب
رسولا عن نصرة الدين محمد بن حمزة صاحب نسا كما مرّ ولاه السلطان
الإنشاء فارتمض لذلك ضياء الدين وطلب وزارة نسا فولاه السلطان إياها
وأقطع له عشرة آلاف دينار في السنة زيادة على أرزاق الوزارة وذهب اليها
لإقامة وظيفته واستناب في ديوان العرض مجد الملك النيسابورىّ ثم قطع
الحمل فعزله السلطان ووليّ مكانه الكاتب أحمد بن محمد المنشئ وتعرض
للسعاية فيه فطرده السلطان وهلك في طرده.
خبر بلبان صاحب خلخال
كان من أتابكية ازبك ولما كانت فتنة التتر وخلاء خراسان واستيلاء
السلطان جلال الدين
(5/156)
على آذربيجان لحق بمدينة خلخال فاستولى
عليها وعلى قلاعها وشغل عنه السلطان بأمر العراق وصاحب خلاط فلما انصرف
المسلمون من واقعة التتر بالعراق حاصروه بقلعة فيروزاباذ حتى استأمن
وملكها السلطان وولىّ عليها حسام الدين بكتاش مولى سعد أتابك فارس ثم
خلف السلطان أثقاله بموقان وتجرد لخلاط وعاقه البردبار جيش فنهب بعض
قلاع وكان عز الدين الخلخالي في كفر طاب قريبا من أرجيش فلحق بخلاط
وجهزه الحاجب الى آذربيجان يشغلهم باثارة الفتنة فيها فلم يتمّ قصده من
ذلك فلحق بجبال زنجان وأقام يخيف السابلة وكتب له السلطان بالأمان ونزل
الى أصبهان فبعث نائبها شرف الدولة برأسه الى السلطان ثم رجع السلطان
من كفر طاب الى خرت برت فنهبها وخرّبها ووصله خلال ذلك الخبر بوفاة
الخليفة الظاهر منتصف ثلاث وعشرين وولاية ابنه المنتصر وجاءه كتابه
بأخذ البيعة وأن يبعث اليه بالخلع والله تعالى ولىّ التوفيق لا رب
غيره.
تنكر السلطان للوزير شرف الملك
لما رجعت العساكر الى موقان وأقام السلطان بخويّ شكا اليه أهلها بكثرة
مصادرة الوزير لهم واطلع على إساءته للملكة بنت طغرل واستصفائه مالها
مع براءتها مما نسب اليها ثم جاء الى تبريز فبلغه عنه أكثر من ذلك وهو
بقرية كورتان من أعمالها فافتقد رئيسها وكان يخدمه فقيل أن الوزير
صادره على ألف دينار لمملوكين له فلما وصل الى تبريز حبس من أخذها حتى
ردّها على صاحبها وأسقط عن أهل تبريز خراج ثلاث سنين وكتب لهم بذلك
وكثرت الشناعات على الوزير بما فعله في مغيب السلطان هذا مع ما كان منه
في محاربة الإسماعيلية بأنّ السلطان كاتبه من بغداد بأن يفتش فلول
الشام من أجل رسول من عند التتر بعثوه الى الشام وقصد بذلك معاتبة
الخليفة إن عثر على الرسول فمرّ به فلّ الإسماعيلية فقتلهم واستولى على
أموالهم فلما عاد السلطان الى آذربيجان وصله رسول علاء الدين ملك
الإسماعيلية يعاتبه على ذلك ويطلب المال فنكر السلطان على الوزير ما
فعله ووكل به أميرين حتى ردّ ما أخذ من أموالهم وكانت ثلاثين ألف دينار
وعشرة أفراس فانطوى السلطان للوزير من ذلك كله على سخط وأعرض عن خطابه
وكان يكاتب فلا يجاب وعجزت تبريز عن علوفة السلطان فأمر بفتح اهراء
الوزير والتصرف فيها ورجع السلطان الى موقان فلم يغير عليه شيئا ووقع
له بتناول عشر الخاص فكان يأخذ من عشر العراق سبعين ألف دينار في كلّ
سنة والله أعلم
.
(5/157)
وصول القفجاق لخدمة
السلطان
كان للقفجاق على قديم العهد هوى مع قوم هذا السلطان وأهل بيته وكانوا
يصهرون اليهم غالبا ببناتهم ومن أجل ذلك استأصلهم جنكزخان واشتدّ في
طلبهم فلما عاد السلطان من واقعة أصبهان وقد هاله أمر التتر رأى أن
يستظهر عليهم بقبائل قفجاق وكان في جملته سبيرجنكش منهم فبعثه اليهم
يدعوهم لذلك ويرغبهم فيه فأجابوا وجاءت قبائلهم إرسالا وركب البحر
كوركان من ملوكهم في ثلاثمائة من قرابته ووصل الى الوزير بموقان فشتى
بها ثم جاء السلطان فخلع عليه وردّه بوعد جميل في فتح دربند وهو باب
الأبواب ثم أرسل السلطان لصاحب دربند وكان طفلا وأتابكه يلقب بالأسد
يدبر أمره فقدم على السلطان فخلع عليه وأقطع له وملكه العمل على أن
يفتح له الدربند وجهز عساكر وأمراء فلما فصلوا من عنده قبضوا على الأسد
وشنوا الغارة على نواحي الباب واعمل الأسد الحيلة وتخلص من أيديهم
وتعذر عليهم ما أرادوه.
استيلاء السلطان على أعمال كستاسفى
كان علم الوزير يشكر أنّ السلطان أراد أن ينتصح له ببعض مذاهب الخدمة
فسار في العساكر وعبر نهر زاس [1] فاستولى على أعمال كستاسفي من يد
شروان شاه فلما عاد السلطان الى موقان أقطعها لجلال الدين سلطان شاه بن
شروان شاه وكان أسيرا عند الكرج أسلمه أبوه اليهم على أن يزوّجوه بنت
الملك رسودان بنت تاماد فلما فتح السلطان بلاد الكرج استخلصه من الأسر
ورباه وبقي عنده وأقطعه الآن كستاسفي وكان أيضا عند الكرج ابن صاحب
ارزن الروم وكان تنصر فزوّجوه رسودان بنت تاماد فأخرجه السلطان لما فتح
بلاد الكرج ثم رجع الى ردنّة ولحق بالكرج فوجد رسودان قد تزوّجت.
قدوم شروان شاه
كان السلطان ملك شاه بن البارسلان لما ملك ارّان أطلق الغارة على بلاد
شروان فوفد عليه ملكها أفريدون بن فرتبريز وضمن حمل مائة ألف دينار في
السنة فلما ملك السلطان جلال الدين ارّان سنة اثنتين وعشرين وستمائة
طلب شروان شاه أفريدون بالحمل فاعتل بتغلب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: نهر أذس.
(5/158)
الكرج وضعف البلاد فأسقط عنه نصف الحمل
فلما عاد الآن قدم عليه شروان شاه وأهدى له خمسمائة فرس وللوزير خمسين
فاستقلها وأشار على السلطان بحبسه فلم يقبل إشارته ورده بالخلع
والتشريف وأسقط عنه من الحمل عشرين ألفا فبقي ثلاثون قال النسائي
الكاتب وأعطاني في التوقيع ألف دينار والله تعالى أعلم.
مسير السلطان الى بلاد الكرج وحصاره قلاع بهرام
لما كان السلطان مقيما بموقان منصرفه من آذربيجان بعث عساكره مع ايلك
خان فأغار على بلاد الكرج واكتسحها ومر ببحيرة بتاج فكبسه الكرج
وأوقعوا به وفقد اريطاني وامتعض السلطان لما وقع بعسكره وارتحل لوقته
وقد جمع له الكرج فهزمت مقدّمته مقدّمتهم وجيء بالأسرى منهم فقتلهم
وسار في اتباعهم ونازل كوري وطالبهم بإطلاق أسرى البحيرة فأطلقوهم
وأخبر أنّ اريطاني خلص تلك الليلة الى آذربيجان ثم وجده السلطان في
نقجوان ثم سار الى بهران الكرجي وقد كان أغار على نواحي كنجة فعاث في
أعماله وحاصر قلعة سكان ففتحها عنوة وكذلك قلعة عليا ثم حاصر قلعة كاك
وبعث الوزير لحصار كوزاني فحاصرها ثلاثة أشهر حتى طلبوا الصلح على مال
حملوه فرحل عنهم الى خلاط والله أعلم.
مسير السلطان الى خلاط وحصارها
ولما فرغ السلطان من شأن الكرج قدّم أثقاله الى خلاط على طريق قاقروان
وسار هو الى نقجوان وصبح الكرج واستاق مواشيهم ثم أقام أياما وقضى
أشغال أهل خراسان والعراق ليفرغ لحصار خلاط قال النسائي الكاتب وحصل لي
منهم تلك الأيام ألف دينار ثم ارتحل الى خلاط ولحق بعساكره ولقيه رسول
من عز الدين أيبك نائب الأشرف بخلاط وقد كان الأشرف بعثه وأمره بالقبض
على نائبها حسام الدين علي بن حماد فقبض عليه ثم قتله غيلة وبعث الى
السلطان يستخدم اليه بذلك وانّ سلطانه الأشرف أمره بطاعة السلطان جلال
الدين وبالغ في الملاطفة فأبي السلطان الا إمضاء ما عزم عليه وقال ان
كان هذا حقا فابعث اليّ بالحاجب فلما سمع هذا الجواب قتله وسار السلطان
الى خلاط ونزل عليها بعد عيد الفطر من سنة ست وعشرين وجاءه ركن الدين
جهان بن طغرل صاحب ارزن الروم فكان معه وحاصرها ونصب عليها المجانيق
وأخذ بمخنقها حتى فرّ أهلها عنها من الجوع وتفرقوا في البلاد
(5/159)
ثم داخله بعض أهلها في أن يمكنهم من بقيتها
على أن يؤمنوه ويقطعوه في آذربيجان فأقطعه السلطان سلماس وعدة ضياع
هنالك وأصعد الرجال ليلا الى الأسوار فقاتلوا الجند بالمدينة وهزموهم
وملكوها وأسروا من كان بها وأسروا النصارى وأسد بن عبد الله وتحصن
النائب عز الدين أيبك بالقلعة فآمنه وحبسه بقلعة درقان فلما وقعت
المراسلة في الصلح قفل لئلا يشترط وقال ابن الأثير إن مولى من موالي
حسام الدين كان هرب الى السلطان فلما ملك خلاط طلب أن يثأر منه بمولاه
فدفعه اليه وقتله ونهب البلد ثلاثا وسرّح السلطان صاحب ارزن وهرب
القمهري من محبسه فقتل أسد بن عبد الله المهراني بجزيرته وأقطع السلطان
خلاط للامراء وعاد والله تعالى ولىّ التوفيق.
واقعة السلطان جلال الدين مع الأشرف
وكيقباد وانهزامه أمامهما
ولما استولى السلطان جلال الدين على خلاط تجهز الأشرف من دمشق وقد كان
ملكها وسار لقتال السلطان جلال الدين في عساكر الجزيرة والشام وذلك في
سنة تسع وعشرين ولقيه علاء الدين كيقباد صاحب بلاد الروم على سيراس
وكان كيقباد قد خشي من اتصال جهان شاه ابن عمه طغرل صاحب ارزن الروم
بالسلطان جلال الدين لما بينهما من العداوة فسار الأشرف وكيقباد من
سيراس وفي مقدّمة الأشرف عز الدين عمر بن علي من أمراء حلب من الأكراد
الهكارية وله صيت في الشجاعة وجاء السلطان علاء الدين للقائهم فلما
تراءى الجمعان حمل عز الدين صاحب المقدّمة عليهم فهزمهم وعاد السلطان
الى خلاط وكان الوزير على ملازكرد يحاصرها فلحق به وارتحلوا جميعا الى
آذربيجان وأسر ركن الدين جهان شاه بن طغرل وجيء به الى ابن عمه علاء
الدين كيقباد فجاء به الى ارزن فسلمها وسائر أعمالها ووصل الأشرف الى
خلاط فوجدها خاوية ولما رجع السلطان الى آذربيجان ترك العساكر مع
الوزير سكمان وأقام بخوي وخلص الترك في الهزيمة الى موقان وتردّد شمس
الدين التكريتي رسول الأشرف بينه وبين السلطان جلال الدين في الصلح
بينهم ودخل فيه علاء الدين صاحب الروم وانعقد بينهم جميعا وسلم لهم
السلطان سرمن رأى مع خلاط والله تعالى أعلم
.
(5/160)
الحوادث أيام حصار
خلاط
منها وفادة نصر الدين اصبهبد صاحب الجبل مع ارخا من أمراء السلطان
يصهره على أخيه فقبض السلطان عليه الى أن عاد من بلاد الروم منهزما
فأقطعه وأعاده الى بلاده ومنها رسالة أخت السلطان وكانت عند دوشي خان
أخذها من العيال الذين جاءوا معه وتركمان خاتون من خوارزم وأولدها
وكانت تكاتب أخاها بالاخبار فبعثت اليه الآن في الصلح مع خاقان
والمصاهرة وأن يسلم له فيما وراء جيحون فلم يجبها ومنها وفادة ركن
الدين شاه بن طغرل صاحب ارزن الروم وكان في طاعة الأشرف ومظاهرا للحاجب
نائب خلاط على عداوة السلطان منافرة لابن عمه علاء الدين كيقباد بن
كنخسرو صاحب الروم وكان قتل رسول السلطان منقلبا من الروم ومنع الميرة
عن العسكر فلما طال حصار السلطان بخلاط استأمن وقدم عليه السلطان
فاحتفل لقدومه واركب الوزير للقائه ثم خلع عليه وردّه الى بلاده
واستدعى منه آلات الحصار فبعث بها ثم حضر بعد ذلك واقعة الأشرف مع
السلطان كما مرّ ومنها وصول سعد الدين الحاجب برسالة الخليفة الى
السلطان بالخطبة في أعمالها وان لا يتعرض لمظفر الدين كوكبرون صاحب
اربل ولا للمولد صاحب الموصل ولا لشهاب الدين سليمان شاه ملك [1] ولا
لعماد الدين بهلوان بن هراست ملك الجبال ويعدهم في أولياء الديوان
فامتثل مراسله وبعث نائب العراق شرف الدين على بأنّ ملك العراق لا يتمّ
إلا بطاعة ملك الجبال عماد الدين بهلوان وملك [1] سليمان شاه فبعث
اليهما السلطان من لاطفهما حتى كانت طاعتهما اختيارا منهما وبعث
السلطان الحاجب بدر الدين طوطو بن ابنايخ خان فأحسن في تأدية رسالته
وجاء بهدية حافلة من عند الخليفة خلعتان للسلطان إحداهما جبة وعمامة
وسيف هندي مرصع الحلية والأخرى قنع وكمة وفرجية وسيف محلى بالذهب
وقلادة مرصعة ثمينة وفرسان رائعان بعدّتين كاملتين ونعال لكلّ واحدة من
أربعمائة دينار وترس ذهب مرصع بالجوهر وفيه أحد وأربعون فصا من الياقوت
وبندخستاني في وسطه فيروزجة كبيرة وثلاثون فرسا عربية مجللة بالاطلس
الرومي المبطن بالاطلس البغدادي بمقاود الحرير ونعال الذهب لكلّ واحدة
منها ستون دينارا وعشرون مملوكا بالعدة والمركوب وعشرة فهود بجلال
الأطلس وقلائد الذهب وعشرة صقور بالأكمام
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 267 يظهر بوضوح ان سليمان شاه
كان ملك همذان وانه قتل بها سنة ست وخمسين وخمسمائة.
(5/161)
الملكة ومائة وخمسون بقجة في كلّ واحدة
عشرة ثياب وخمس أكر من العنبر مضلعة بالذهب وشجرة من العود الهندي
طولها خمسة أذرع وأربع عشرة خلعة نسوانية للخانات من خوالص الذهب
وكنائس للخيل تفليسية وللامراء ثلاثمائة خلعة لكلّ أمير خلعة قباء وكمة
وللوزير عمامة سوداء وقباء وفرجية وسيف هندي واكرتان من العنبر وخمسون
ثوبا وبغلة ولأصحاب الديوان عشرون خلعة في كلّ خلعة جبة وعمامة وعشرون
ثوبا أكثرها اطلس رومي وبغدادي وعشرون بغلة شهباء ورفعت للسلطان خباء
فدخلها ولبس الخلعتين وشفع الرسول في أهل خلاط فاعتذر له السلطان ومنها
وصول هدية من صاحب الروم ثلاثون بغلا مجللة بثياب الأطلس الخطائي وفرو
القندسي والسمور وثلاثون مملوكا بالخيل والعدة ومائة فرس وخمسون بغلا
ولما مروا بآذربيجان اعترضهم ركن الدين جهان شاه بن طغرل صاحب ارزن
وكان في طاعة الأشرف فأمسك الهدية عنده الى أن وفد على السلطان بطاعته
فأحضرها ومنها اسار وزير المورخا جاء الى الجبل المطلّ على قزوين لحصاد
الحشيش على عادته وكان السلطان قد تغير على علاء الدين صاحبهم بسبب
أخيه غياث الدين ولحاقه بهم في الموت فسار مقطع ساوة الى ذلك الجبل
وأكمن لهم وأسر الوزير وبعث به الى السلطان وهو يحاصر خلاط فحبسه بقلعة
رزمان وهلك لاشهر قلائل ثم بعث السلطان كاتبه محمد بن أحمد النسائي الى
علاء الدين صاحب قلعة الموت بطلب الخوارج وطلب الخطبة فامتنع منها
أوّلا واحتج عليه بأنّ أباه جلال الدين الحسن خطب لخوارزم شاه علاء
الدين محمد بن تكش والد السلطان فأنكر والتزم أن يبعث الى الديوان مائة
ألف في كل سنة.
وصول جهان بهلوان ازبك من الهند
كان السلطان لما فصل من الهند بقصد العراق واستخلف على البلاد التي
ملكها هنالك جهان بهلوان ازبك فأقام هنالك الى أن قصده عسكر شمس الدين
ايتماش صاحب لهاوون ففارق مكانه وسار الى بلاد قشمير فزاحموه وطردوه عن
البلاد فقصد العراق وتخلف عنه أصحابه وعادوا الى ايتماش وفيهم الحسن
برلق الملقب رجا ملك وكاتب جهان عليها ملك العراق بوصوله في سبعمائة
فارس فأجاب الحسن رأي السلطان فيه وبعث اليه بعشرة آلاف دينار للنفقة
ووصل توقيع السلطان بأن تحمل اليه عشرون ألفا وأن يشتى بالعراق يستريح
بها من التعب فصادف عود السلطان من بلاد الروم وزحف السلطان الى
آذربيجان فحال قدر الله بينه وبين مرامه وقتل هناك سنة ثمان وعشرين
.
(5/162)
وصول التتر الى آذربيجان
كان التتر عند ما ملكوا ما وراء النهر وزحفوا الى خراسان فضعضعوا ملك
بني خوارزم شاه وانتهوا الى قاصية البلاد وخربوا ما مرّوا عليه
واكتسحوا ونهبوا وقتلوا ثم استقر ملكهم بما وراء النهر وعمروا تلك
البلاد واختطوا قرب خوارزم مدينة عظيمة تعوّض منها وبقيت خراسان خالية
واستبدّ بالمدن فيها أمراء شبه الملوك يعطون الطاعة للسلطان جلال الدين
لما جاء من الهند وانفرد جلال الدين بملك العراق وفارس وكرمان
وآذربيجان وارّان وما وراء ذلك وبقيت خراسان مجالات لغارات التتر
وحروبهم ثم سارت طائفة منهم سنة خمس وعشرين فكان بينهم وبين جلال الدين
لما جاء من الهند المواقعة على أصبهان كما مرّ ثم كان بين جلال الدين
وبين الأشرف صاحب الشام وعلاء الدين كيقباد صاحب الروم المواقعة سنة
سبع وعشرين كما مرّ وأوهنت من جلال الدين وحلت عرى ملكه وكان علاء
الدين مقدّم الإسماعيلية في قلعة الموت فعادى جلال الدين لما أثخن في
بلاده وقرر عليه وظائف الأموال فبعث الى التتر يخبرهم بالهزيمة الكائنة
عليه وانها أوهنته ويحثهم على قصده فساروا الى أذربيجان أوّل سنة ثمان
وعشرين وبلغ الخبر الى السلطان بمسيرهم فبعث بوغر من أمرائه طليعة
لاستكشاف خبرهم فلقي مقدّمتهم فانهزم ولم ينج من أصحابه غيره وجاء
بالخبر فرحل من تبريز الى موقان وخلف عياله بتبريز لنظر الوزير وأعجله
الحال عن أن يبعثهم الى بعض الحصون ثم ورد كتاب من حدود زنجان بأن
المقدّمة التي لقيها بوغر باهر أقاموا بمرج الخان وانهم سبعمائة فارس
فظنّ السلطان أنهم لا يجاوزونهما فسرى عنه ورحل الى موقان فأقام بها
وبعث في احشاد العساكر الأميرين بغان شحنة خراسان وأوسمان بهلوان شحنة
مازندان وشغل بالصيد وبينما هو كذلك كبسه التتر بمكانه ونهبوا معسكره
وخلص الى نهر أوس ثم وري بقصد كنجة وعطف الى أذربيجان فتنكر لماهان
وكان عز الدين صاحب قلعة شاهن غاضبا منذ سنين لاغارة الوزير على بلده
فلما نزل السلطان ماهان كان يخدمه بالميرة وباخبار التتر ثم أنذره آخر
الشتاء بمسير التتر اليه من أرجان وأشار عليه بالعود الى ارّان لكثرة
ما فيها من العساكر وأجناد التركمان متحصنين بها فلما فارقها وكان
الوزير فوق بيوت السلطان وخزائنه في قلاع حسام الدين منهم ارسلان كبير
أمراء التركمان بارّان وكان قد عمر هنالك قلعة سنك سراخ من أحصن القلاع
فأنزل عياله بها وكان مستوحشا من السلطان فجاهر بالعصيان وكانت وحشته
من السلطان لأمور منها تبذير أمواله في العطاء والنفقة ومنها أنه ظنّ
(5/163)
أنّ السلطان مجفل الى الهند فكاتب الأشرف
صاحب الشام وكيقباد صاحب الروم فوعدهم من نفسه الطاعة وهما عدوّا
السلطان ومنها أنه كاتب قلج ارسلان التركماني فأمره بحفظ حرم السلطان
وخزائنه ولا يسلمها اليه وبعث في الكتاب له والكباس قبله ليغزو الروم
فلما مرّ السلطان بقلعته بعث اليه يستدعيه فوصل وحمل كفنه في يده
فلاطفه السلطان وكايده فظنها مخالصة فاطمأنّ والله تعالى ولىّ التوفيق.
استيلاء التتر على تبريز وكنجة
ولما اجفل السلطان بعد الكبسة من موقان الى ارّان بلغ الخبر الى أهل
تبريز فثاروا بالخوارزمية وأرادوا قتلهم ووافقهم بهاء الدين محمد بن
بشير فاربك الوزير بعد الطغرياني وكان الطغرياني رئيس البلد كما مرّ
فمنعهم من ذلك وعدوا على واحد من الخوارزمية وقتلوه فقتل به اثنين من
العامة واجتهد في تحصين تبريز وحراستها وشحنها بالرجال ولم تنقطع كتبه
عن السلطان ثم هلك فسلمها العوام الى التتر ثم ثار أهل كنجة وسلموا
بلدهم للتتر وكذا أهل ببلغازة والله أعلم.
نكبة الوزير ومقتله
لما وصل السلطان الى قلعة جاربرد بلغه استيحاش الوزير وخشي أن يفرّ الى
بعض الجهات فركب الى القلعة موريا بالنظر في أحوالها والوزير معه وأسرّ
الى والي القلعة أن يمسك الوزير ويقيده هنالك ففعل ونزل السلطان فجمع
مماليك الوزير وكبيرهم الناصر قشتمر وضمهم الى أوترخان ثم نمي الى والي
القلعة أنّ السلطان مستبدل منه فاستوحش وبعث بخاتم الوزير الى قشتمر
كبير المماليك يقول نحن وصاحبكم متوازرون فمن أحب خدمته فليأت القلعة
فسقط في يد السلطان وكان ابن الوالي في جملته وحاشيته فأمره السلطان أن
يكاتب أباه ويعاتبه ففعل وأجابه بالتنصل من ذلك فقال له السلطان فليبعث
اليّ برأس الوزير فبعث به وكان الوزير مكرما للعلماء والأدباء مواصلا
لهم كثير الخشية والبكاء متواضعا منبسطا في العطاء حتى استغرق أموال
الديوان لولا أنّ السلطان جذب من عنانه وكان فصيحا في لغة الترك وكانت
عمالته على التواقيع السلطانية الحمد للَّه العظيم وعلى التواقيع
الديوانية يعتمد ذلك وعلى تواقيعه الى بلاده أبو المكارم على بن أبي
القاسم خالصة أمير المؤمنين
.
(5/164)
ارتجاع السلطان كنجة
لما ثار أهل كنجة بالخوارزمية كان القائم بأمرهم رجل منهم اسمه بندار
وبعث السلطان اليهم رسوله يدعوهم الى الطاعة فوصلوا قريبا منه وأقاموا
وخرج اليهم الرئيس جمال الدين القمي بأولاده وامتنع الباقون ثم وصل
السلطان وردّد اليهم فلم تغن وبرزوا بعض الأيام للقتال ورموا على خيمته
فركب وحمل عليهم فانهزموا وازدحموا في الباب فمنعهم الزحام من اغلاقه
فاقتحم السلطان المدينة وقبض على ثلاثين من أهل الفتنة فقتلهم وجيء
ببندار وكان بالغا في الفساد وكسر سرير الملك الّذي نصبه بها محمد بن
ملك شاه فمثل به وفصل أعضاءه بين يديه وأقام السلطان بكنجة نحوا من شهر
ثم سار الى خلاط مستمدا للأشرف فارتحل الأشرف الى مصر وعلل بالمواعيد
ووصل السلطان في وجهته الى قلعة شمس وبها أراك بن ايوان الكرجي فخرج
وقبل الأرض على البعد ثم بعث الى السلطان ما أمري وبعث السلطان الى
جيرانه من الملوك مثل صاحب حلب وآمد وماردين يستنجدهم بعد يأسه من
الأشرف وجرّد عسكرا الى خرت برت وملطية وآذربيجان فأغاروا في تلك
النواحي واستاقوا نعمها لما بين ملكها كيقباد وبين الأشرف من الموالاة
فاستوحش جميعهم من ذلك وقعدوا عن نصرته والله تعالى ولىّ التوفيق.
واقعة التتر على السلطان بآمد ومهلكه
كان السلطان بلغه وهو بخلاط أن التتر ساروا اليه فبعث السلطان الأمير
أوترخان في أربعة آلاف فارس طليعة فرجع وأخبر أن التتر رجعوا من حدود
ملازكرد وكان الأمراء أشاروا على السلطان [1] الانتقال بديار بكر
وينجرون الى أصبهان ثم جاءه رسول صاحب آمد وزين له له قصد بلاد الروم
وأطعمه في الاستيلاء عليها ليتصل بالقفجاق ويستظهر بهم على التتر وأنه
يمدّه بنفسه في أربعة آلاف فارس وكان صاحب آمد يروم الانتقام من صاحب
الروم بما ملك من قلاعه فجنح السلطان الى كلامه وعدل عن أصبهان الى آمد
__________
[1] كذا بياض بالأصل ويذكر ابن الأثير هذه الواقعة باختلاف كثير عما هي
هنا في حوادث 628 في ج 12 ص 498: وما بعدها وتصويب العبارة: وكان
الأمراء أشاروا على السلطان بترك خلاط والانتقال بديار بكر، الى ان يصل
الى أصفهان.
(5/165)
فنزل بها وبعث اليه التركمان بالنذير وانهم
رأوا نيران التتر بالمنزل الّذي كانوا به أمس فاتهم خبرهم وصبحه التتر
على آمد وأحاطوا بخيمته قبل أن يركب فحمل عليهم اوترخان حتى كشفهم عن
الحركات وركب السلطان وركض وأسلم زوجته بنت الاتابك سعد الى أميرين
يحملانها الى حيث تنتهي الجفلة ثم ردّ أو ترخان العساكر عنه ليتوارى
بانفراده عن عين العدوّ وسار أو ترخان في أربعة آلاف فارس فخلص الى
أصبهان واستولى عليها الى أن ملكها التتر عليه سنة تسع وثلاثين وذهب
السلطان مستخفيا الى باشورة آمد والناس يظنون أن عسكره غدروا به فوقفوا
يردّونهم فذهب الى حدود الدربندات وقد ملئت المضايق بالمفسدين فأشار
عليه أوترخان بالرجوع فرجع وانتهى الى قرية من قرى ميافارقين فنزل في
بيدرها وفارقه أوترخان الى شهاب الدين غازي صاحب حلب لمكاتبات كانت
بينهما فحبسه ثم طلبه الكامل فبعث به اليه محبوسا ثم سقط من سطح فمات
وهجم التتر على السلطان بالبيدر فهرب وقتل الذين كانوا معه وأخبر التتر
أنه السلطان فاتبعوه وأدركه اثنان منهم فقتلهما ويئس منه الباقون
فرجعوا عنه وصعد جبل الأكراد فوجدهم مترصدين في الطرق للنهب فسلبوه
وهموا بقتله وأسرّ الى بعضهم أنه السلطان فمضى به الى بيته ليخلصه الى
بعض النواحي ودخل البيت في غيبه بعض سفلتهم وبيده حربة وهو يطلب الثأر
من الخوارزمية بأخ له قتل بخلاط فقتله ولم يغن عنه البيت وكانت الوقعة
منتصف شوّال سنة ثمان وعشرين هذه سياقة الخبر من كتاب النسائي كاتب
السلطان جلال الدين وأمّا ابن الأثير فذكر الواقعة وأنه فقد فيها وبقوا
أياما في انتظار خبره ولم يذكر مقتله وانتهى به التأليف ولم يزد على
ذلك قال النسائي وكان السلطان جلال الدين أسمر قصيرا تركيا شجاعا حليما
وقورا لا يضحك الا تبسما ولا يكثر الكلام مؤثرا للعدل الا أنه مغلوب من
أجل الفتنة وكان يكتب للخليفة والوحشة قائمة بينهما كما كان أبوه يكتب
خادمه المطواع فلان فلما بعث اليه بالخلع عن خلاط كما مر كتب اليه عبده
فلان والخطاب بعد ذلك سيدنا ومولانا أمير المؤمنين وأمام المسلمين
وخليفة رب العالمين قدوة المشارق والمغارب المنيف على الذروة العليا
ابن لؤيّ بن غالب ويكتب لملوك الروم ومصر والشام السلطان فلان بن فلان
ليس معها أخوه ولا محبه وعلامته على تواقيعه النصرة من الله وحده
وعلامته لصاحب الموصل بأحسن خط وشق القلم شقين ليغلظ ولما وصل من الهند
كاتبه الخليفة الجناب الرفيع الخاقاني فطلب الخطاب بالسلطان فأجيب بأنه
لم تجر به عادة مع أكابر الملوك فألح في ذلك حين حملت له الخلع فخوطب
بالجناب العالي الشاهستاني ثم انتشر التتر بعد هذه الواقعة في سواد آمد
وأرزن وميافارقين
(5/166)
وسائر ديار بكر فاكتسحوها وخربوها وملكوا
مدينة اسعرد عنوة فاستباحوها بعد حصار خمسة أيام ومروا بماردين فامتنعت
ثم وصلوا الى نصيبين فاكتسحوا نواحيها ثم الى سنجار وجبالها والخابور
ثم ساروا الى تدليس فأحرقوها ثم الى أعمال خلاط فاستباحوا أباكري
وارتجيس وجاءت طائفة أخرى من أذربيجان الى أعمال اربل ومروا في طريقهم
بالتركمان الاموامية والأكراد الجوزقان فنهبوا وقتلوا وخرج مظفر الدين
صاحب اربل بعد ان استمدّ صاحب الموصل فلم يدركهم وعادوا وبقيت البلاد
قاعا صفصفا والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وافترق عسكر
جلال الدين منكبرس وساروا الى كيقباد ملك الروم
(5/167)
فأثبتهم في ديوانه واستخدمهم ثم هلك سنة
أربع وثلاثين وولى ابنه غياث الدين كنخسرو فارتاب بهم وقبض على كبيرهم
وفر الباقون واكتسحوا ما مروا به وأقاموا مستبدين بأطراف البلاد ثم
استمالهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل وكان نائبا لأبيه بالبلاد
الشرقية حران وكيفا وآمد واستأذن أباه في استخدامهم فأذن له كما يأتي
في أخباره والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وفضله.
الخبر عن دولة بني تتش بن البارسلان ببلاد الشام دمشق وحلب وأعمالهما
وكيف تناوبوا فيها القيام بالدعوة العباسية والدعوة العلوية الى حين
انقراض أمرهم
قد تقدّم لنا استيلاء السلجوقية على الشام لأوّل دولتهم وكيف سار أتسز
بن ارتق الخوارزمي من أمراء السلطان ملك شاه الى فلسطين ففتح الرملة
وبيت المقدس وأقام فيهما الدعوة العباسية ومحا الدعوة العلوية ثم حاصر
دمشق وذلك سنة ثلاث وستين وأربعمائة ثم أقام يردّد الحصار على دمشق حتى
ملكها سنة ثمان وستين وسار الى مصر سنة تسع وستين وحاصرها وعاد منها
وولى السلطان ملك شاه بعد أبيه البارسلان سنة خمس وستين فأقطع أخاه تتش
بلاد الشام وما يفتحه من تلك النواحي سنة سبعين وأربعمائة فسار الى حلب
وحاصرها وكان أمير الجيوش بدر الجمالي قد بعث العساكر لحصار دمشق وبها
أتسز فبعث بالصريخ الى تاج الدولة تتش فسار لنصرته وأجفلت عساكر مصر
وخرج أتسز لتلقيه فتعلل عليه ببطئه عن تلقيه وقتله واستولى على دمشق
وقد تقدّم ذلك كله ثم استولى سليمان بن قطلمش على انطاكية وقتل مسلم بن
قريش وسار الى حلب فملكها وسمع بذلك تتش فسار اليها واقتتلا سنة تسع
وسبعين وقتل سليمان بن قطلمش في الحرب وسار السلطان ملك شاه الى حلب
فملكها وولى عليها قسيم الدولة آقسنقر جدّ نور الدين العادل ثم جاء
السلطان الى بغداد سنة أربع وثمانين وسار اليه أخوه تاج الدين تتش من
دمشق وقسيم الدولة آقسنقر صاحب حلب وبوزان صاحب الرها وحضروا معه صنيع
المولد النبوي ببغداد فلما وعدوه العود الى بلادهم أمر قسيم الدولة
وبوزان بأن يسيرا بعسكرهما مع تاج الدولة تتش لفتح البلاد بساحل الشام
وفتح مصر من يد المستنصر العلويّ ومحو الدولة العلوية منها فساروا لذلك
وملك تتش حمص من يد ابن ملاعب وغزة عنوة وأماسية من يد خادم العلويّ
بالأمان وحاصر طرابلس وبها جلال الدين بن عمار فداخل قسيم الدولة
آقسنقر وصانعه بالمال في أن يشفع له عند تتش فلم
(5/168)
يشفعه فرحل مغاضبا وأجفلوا الى جبلة وانتقض
أمرهم وهلك السلطان ملك شاه سنة خمس وثمانين ببغداد وقد كان سار الى
بغداد وسار تتش أخوه من دمشق للقائه وبلغه في طريقه خبر وفاته وتنازع
ولده محمود وبركيارق الملك فاعتزم على طلب الأمر لنفسه ورجع الى دمشق
فجمع العساكر وقسم العطاء وسار الى حلب فأعطاه آقسنقر الطاعة لصغر
أولاد ملك شاه والتنازع الّذي بينهم وحمل صاحب انطاكية وبوزان صاحب
الرها وحران على طاعته وساروا جميعا في محرّم سنة ست وثمانين فحاصروا
الرحبة وملكوها وخطب فيها تتش لنفسه ثم ملك نصيبين عنوة واستباحها
وأقطعها لمحمد بن مسلم بن قريش ثم سار الى الموصل وبها إبراهيم بن قريش
بن بدران وبعث اليه في الخطبة على منابرة فامتنع وبرز للقائه في ثلاثين
ألفا وكان تتش في عشرة آلاف والتقوا بالمضيع من نواحي الموصل فانهزم
إبراهيم وقتل واستبيحت أحياء العرب وقتل أمراؤهم وأرسل الى بغداد في
طلب الخطبة فلم يسعف الا بالوعد ثم سار الى ديار بكر فملكها في ربيع
الآخر وسار منها الى أذربيجان وكان بركيارق بن ملك شاه قد استولى على
الريّ وهمذان وكثير من بلاد الجبل فسار في العساكر لمدافعته فلما
تقاربا نزع آقسنقر وبوزان الى بركيارق وعاد تتش منهزما الى الشام وجمع
العساكر واستوعب في الحشد وسارا الى آقسنقر في حلب فبرز اليه ومعه
بوزان صاحب الرها وكربوقا الّذي ملك الموصل فيما بعد ولقيهم تتش على
ستة فراسخ من حلب فانهزموا وجيء بأقسنقر أسيرا فقتله صبرا ولحق كربوقا
وبوزان بحلب فحاصرها تتش وملكها وأخذهما أسيرين وبعث الى حران والرها
في الطاعة فامتنعوا فقتل بوزان وملكهما وحبس كربوقا بحمص ثم سار الى
الجزيرة فملكها جميعا ثم الى ديار بكر وخلاط ثم آذربيجان ثم همذان وبعث
الى بغداد في الخطبة وكان بركيارق يومئذ بنصيبين فعبر دجلة الى اربل ثم
منها الى بلد سرحاب بن بدر وسار الأمير يعقوب بن ارتق من عسكر تتش
فكبسه وهزمه ونجا الى أصبهان فكان من خبره ما تقدّم وبعث تتش يوسف ابن
ارتق التركماني شحنة الى بغداد فمنع منها فعاث في نواحيها ثم بلغه مهلك
تتش فعاد الى حلب وهذه الاخبار كلها قد تقدّمت في أوّل دولة السلجوقية
وانما ذكرناها هنا توطئة لدولة بني تتش بدمشق وحلب والله أعلم.
مقتل تتش
ولما انهزم بركيارق أمام عمه تتش لحق بأصبهان وبها محمود وأهل دولته
فأدخلوه وتشاوروا في قتله ثم أبقوه الى إبلال محمود من مرضه فقدر هلاك
محمود وبايعوا لبركيارق فبادر الى
(5/169)
أصبهان وقدم أميرا آخر بين يديه لاعداد
الزاد والعلوفة وسار هو الى أصبهان ورجع تتش الى الريّ وأرسل الى
الأمراء بأصبهان يدعوهم ويرغبهم فأجابوه باستبراء أمر بركيارق ثم إبل
بركيارق من مرضه وسار في العساكر الى الريّ فانهزم تتش وانهزم عسكره
وثبت هو فقتله بعض أصحاب آقسنقر بثأر صاحبه واستقام الأمر لبركيارق
والله تعالى أعلم.
استيلاء رضوان بن تتش على حلب
كان تتش لما انفصل من حلب استخلف عليها أبا القاسم الحسن بن علي
الخوارزمي وأمكنه من القلعة ثم أوصى أصحابه قبل المصاف بطاعة ابنه
رضوان وكتب اليه بالمسير الى بغداد ونزول دار السلطنة فسار لذلك وسار
معه أبو الغازي بن ارتق وكان أبوه تتش تركه عنده وسار معه و [1] معه
محمد بن صالح بن مرداس وغيرهما وبلغه مقتل أبيه عند هيت فعاد الى حلب
ومعه الأميران الصغيران أبو طالب وبهرام وأمّه وزوجها جناح الدولة
الحسن بن افتكين لحق بهم من المعركة فلما انتهوا الى حلب امتنع أبو
القاسم بالقلعة ومعه جماعة من المغاربة وهم أكثر جندها فاستمالهم جناح
الدولة فثاروا بالقلعة من الليل ونادوا بشعار الملك رضوان واحتاطوا على
أبي القاسم فبعث اليه رضوان بالأمان وخطب له على منابر حلب وأعمالها
وأقام بتدبير دولته جناح الدولة وأحسن السيرة وخالف عليهم الأمير
باغيسيان بن محمد بن ابه التركماني صاحب انطاكية ثم أطاع وأشار على
رضوان بقصد ديار بكر وسار معه لذلك وجاءهم أمراء الاطراف الذين كان تتش
رأسهم فيها وقصدوا سروح فسبقهم اليها سلمان بن ارتق وملكها فساروا الى
الرها وبها الفارقليط من الروم كان يضمن البلاد من بوزان فتحصن بالقلعة
ودافعهم ثم غلبوه عليها وملكها رضوان وطلبها منه باغيسيان وخشي جناح
الدولة على نفسه فلحق بحلب ورجع رضوان والأمراء على أثره فسار باغيسيان
فأقطعها له ثم سار الى حران وأميرها قراجا فدسّ اليهم بعض أهلها
بالطاعة واتهم قراجا بذلك ابن المعني من أعيانها كان تتش يعتمد عليه في
حفظ البلد فقتله وقتل بني أخيه ثم فسد ما بين جناح الدولة وباغيسيان
وخشي جناح الدولة على نفسه فلحق بحلب ورجع رضوان والأمراء على أثره
فسار باغيسيان الى بلده انطاكية وسار معه أبو القاسم الخوارزمي ودخل
رضوان الى حلب دار ملكه وكان من أهل دولته
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 115: الأمير وثاب بن محمود بن
صالح بن مرداس.
(5/170)
يوسف ابن ارتق الخوارزمي الّذي بعثه تتش
الى بغداد شحنة وكان [1] من الفتيان بحلب وكان قنوعا وكان يعادي يوسف
بن اتق فجاء الى جناح الدولة القائم بأمر من رضوان ورمى يوسف بن ارتق
عنده بأنه يكاتب باغيسيان ويداخله في الثورة واستأذنه في قتله فأذن له
وأمدّه بجماعة من الجند وكبس يوسف في داره فقتله ونهب فيها واستطال على
الدولة وطمع في الاستبداد على رضوان ودس لجناح الدولة أنّ رضوان أمره
بقتله فهرب الى حمص وكانت اقطاعا له واستبدّ على رضوان ثم تنكر له
رضوان سنة تسع وثماني وأمر بالقبض عليه فاختفى ونهبت دوره وأمواله
ودوابه ثم قبض عليه فامتحن وقتل هو وأولاده.
استيلاء دقاق بن تتش على دمشق
كان تتش قد بعث ابنه دقاقا الى أخيه السلطان ملك شاه ببغداد فأقام
هنالك الى أن توفي ملك شاه فسار معه ابنه محمود وأمه خاتون الجلالية
الى أصبهان ثم ذهب عنهم سرّا الى بركيارق ثم لحق بأبيه وحضر معه
الواقعة التي قتل فيها ولما قتل تتش أبوه سار به مولاه تكين الى حلب
فأقام عند أخيه رضوان وكان بقلعة من قلاعها ساوتكين الخادم من موالي
تتش ولاه عليها قبل موته فبعث الى دقاق يستدعيه للملك فسار اليه وبعث
رضوان في طلبه فلم يدركه ووصل دمشق وكتب اليه باغيسيان صاحب انطاكية
يشير عليه بالاستبداد بدمشق على أخيه رضوان ووصل معتمد الدولة طغتكين
مع جماعة من خواص تتش وكان قد حضر المعركة وأسر فخلص الآن من الاسار
وجاء الى دمشق فلقيه دقاق ومال اليه وحكمه في أمره وداخله في مثل
ساوتكين الخادم فقتلوه ووفد عليهم باغيسيان من انطاكية ومعه أبو القاسم
الخوارزمي فأكرمهما واستوزر الخوارزمي وحكمه في دولته.
الفتنة بين دقاق وأخيه رضوان
ثم سار رضوان الى دمشق سنة تسعين وأربعمائة قاصدا انتزاعها من يد دقاق
فامتنعت عليه فعاد الى مالس وقصد الورس فامتنعت عليه فعاد الى حلب
وفارقه باغيسيان صاحب انطاكية الى أخيه دقاق وحض على المسير الى أخيه
بحلب فسار لذلك واستنجد رضوان
__________
[1] كذا بياض بالأصل: وفي الكامل ج 10 ص 255: وكان بحلب إنسان يقال له:
«المجن» وهو رئيس الاحداث بها، وله اتباع كثر.
(5/171)
سكمان من سروج في أمم من التركمان ثم كان
اللقاء بقنسرين فانهزمت عساكر دقاق ونهب سوادهم وعاد رضوان الى حلب ثم
سعى بينهما في الصلح على أن يخطب لرضوان بدمشق وانطاكية قبل دقاق
فانعقد ذلك بينهما ثم لحق جناح الدولة بحمص عند ما عظمت فيه سعاية
المجن كما ذكرناه وكان باغيسيان منافرا له فلما فصل من حلب جاء
باغيسيان الى رضوان وصالحه ثم بعث الى رضوان المستعلي خليفة العلويين
بمصر يعده بالامداد على أخيه على أن يخطب له على منابره وزين له بعض
أصحابه صحة مذهبهم فخطب له في جميع أعماله سوى انطاكية والمعرّة وقلعة
حلب ثم وفد عليه بعد شهرين من هذه الخطبة سكمان بن ارتق صاحب سروج
وباغيسيان صاحب انطاكية فلم يقم بها غير ثلاث حتى وصل الفرنج فحاصروه
وغلبوه على انطاكية وقتلوه كما مرّ في خبره.
استيلاء دقاق على الرحبة
كانت الرحبة بيد كربوقا صاحب الموصل فلما قتل كما مرّ في خبره استولى
عليها قانمار من موالي السلطان البارسلان فسار دقاق بن تتش ملك دمشق
وأتابكه طغركين اليها سنة خمس وتسعين وحاصروها فامتنعت عليهم فعادوا
عنها وتوفى قانمار صاحبها في صفر سنة ست وتسعين وقام بأمرها حسن من
موالي الأتراك فطمع في الاستبداد وقتل جماعة من أعيان البلد وحبس آخرين
واستخدم جماعة من الجند وطرد آخرين وخطب لنفسه فسار دقاق اليه وحاصره
في القلعة حتى استأمن وخرج اليه وأقطعه بالشام اقطاعات كثيرة وملك
الرحبة وأحسن الى أهلها وولى عليهم ورجع الى دمشق والله سبحانه وتعالى
وليّ التوفيق لا ربّ غيره.
وفاة دقاق وولاية أخيه تلتاش ثم خلعه
ثم توفي دقاق صاحب دمشق سنة سبع وتسعين واستقلّ أتابكه طغركين بالملك
وخطب لنفسه سنة ثم قطع خطبته وخطب لتلتاش أخي دقاق صبيا مراهقا وخوّفته
أمه من طغركين بزواجه أم دقاق وأنه يميل الى ابن دقاق من أجل جدّته
فاستوحش وفارق دمشق الى بعلبكّ في صفر سنة ثمان وتسعين ولحقه ايتكين
الحلبي صاحب بصرى وكان ممن حسن له لذلك فعاث في نواحي خوارزم ولحق به
أهل الفساد وراسلا هدويل ملك الفرنج فأجابهما بالوعد ولم يوف لهما فسار
الى الرحبة واستولى عليها تلتاش وقيل انّ تلتاش لما استوحش منه طغركين
(5/172)
من دخول البلد مضى الى حصون له وأقام بها
ونصب طغركين الطفل ابن دقاق وخطب له واستبدّ عليه وأحسن الى الناس
واستقام أمره والله تعالى وليّ التوفيق وهو نعم الرفيق.
الحرب بين طغركين والفرنج أشهرا
كان قمص من قمامصة الفرنج على مرحلتين من دمشق فلج بالغارات على دمشق
فجمع طغركين العساكر وسار اليه وجاء معرون ملك القدس وعكا من الفرنج
بانجاد القمص فأظهر الغنية [1] عليه وعاد الى عكا وقاتل طغركين [2]
القمص فهزمه وأحجزه بحصنه ثم حاصره حتى ملك الحصن عنوة وقتل أهله وأسر
جماعته وعاد الى دمشق ظافرا غانما ثم سار الى حصن رمسة من حصون الشام
وقد ملكه الفرنج وبه ابن أخت سميل المقيم على طرابلس يحاصرها فحاصر
طغركين حصن رمسة حتى ملكه وقتل أهله من الفرنج وخرّبه والله أعلم.
مسير رضوان صاحب حلب لحصار نصيبين
ثم ان رضوان صاحب حلب اعتزم غزو الفرنج واستدعى الأمراء من النواحي
لذلك فجاءه أبو الغازي بن ارتق الّذي كان شحنة ببغداد وأصبهان وصباوو
والبي بن ارسلان ماش صاحب سنجار وهو صهر جكرمش صاحب الموصل وأشار أبو
الغازي بالمسير الى بلاد جكرمش للاستكثار بعسكرها وأموالها ووافقه البي
وساروا الى نصيبين في رمضان سنة تسع وتسعين وأربعمائة فحاصروها وفيها
أميران من قبل جكرمش واشتدّ الحصار وجرح البي بن ارسلان بسهم أصابه
فعاد الى سنجار وأجفل أهل السواد الى الموصل وعسكر جكرمش بظاهرها
معتزما على الحرب ثم كاتب أعيان العسكر وحثهم على رضوان وأمر أصحابه
بنصيبين بإظهار طاعته وطلب الصلح معه وبعث الى رضوان بذلك والامداد بما
يشاؤه على أن يقبض على أبي الغازي فمال الى ذلك واستدعى أبا الغازي
فخبره أنّ المصلحة في صلح
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 399: فسار بغدوين ملك القدس
وعكا وغيرها الى هذا القمص ليعاضده ويساعده على المسلمين، فعرّفه القمص
غناه عنه وانه قادر على مقارعة المسلمين ان قاتلوه فعاد بغدوين الى
عكا.
[2] كذا وفي الكامل: طغتكين بدلا من طغركين. ج 10 ص 399.
(5/173)
جكرمش ليستعينوا به في غزو الفرنج وجمع شمل
المسلمين فجاوبه أبو الغازي بالمنع من ذلك ثم قبض عليه وقيده فانتقض
التركمان ولجئوا الى سور المدينة وقاتلوا رضوان وبعث رضوان بأبي الغازي
الى نصيبين فخرجت منها العساكر لإمداده فافترق منها التركمان ونهبوا ما
قدروا عليه ورحل رضوان من وقته الى حلب وانتهى الخبر الى جكرمش بتلّ
أعفر وهو قاصد حرب القوم فرحل عند ذلك الى سنجار وبعث اليه رضوان في
الوفاء بما وعده من النجدة فلم يف له ونازل صهره البي بن ارسلان بسنجار
وهو جريح من السهم الّذي أصابه على نصيبين فخرج اليه البي محمولا
واعتذر اليه فأعتبه وأعاده الى بلده فمات وامتنع أصحابه بسنجار رمضان
وشوّالا ثم خرج اليه [1] عمّ البي وصالح جكرمش وعاد الى الموصل والله
سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه.
استيلاء الفرنج على افامية
كان خلف بن ملاعب الكلابي في حمص وملكها منه تاج الدولة تتش فسار الى
مصر وأقام بها ثم بعث صاحب افامية من جهة رضوان بن تتش بطاعته الى صاحب
مصر العلويّ فبعث اليها ابن ملاعب وملكها وخلع طاعة العلوية وأقام يخيف
السبيل كما كان في حمص فلما ملك الافرنج سرمين لحق به قاضيها وكان على
مذهب الرافضة فكتب الى ابن الطاهر الصانع من أكابر الغلاة ومن أصحاب
رضوان وداخلهم في الفتك بابن ملاعب ونمى الخبر إليه من أولاده فحلف له
القاضي بما اطمأن اليه وتحيل مع ابن الصانع في جند من قبلهم يستأمنون
الى ابن ملاعب ويعطونه خيلهم وسلاحهم ويقيمون للجهاد معه ففعلوا
وأنزلهم بربض افامية ثم بيته القاضي ليلا بمن معه من أهل سرمين ورفع
أولئك الجند من الربض بالحبال وقتلوا ابن ملاعب في بيته وقتلوا معه
ابنه وفرّ الآخر الى أبي الحسن بن منقذ صاحب شيزر وجاء الصانع من حلب
الى القاضي فطرده واستبدّ بأفامية وكان بعض أولاد ابن ملاعب عند طغركين
وولاه حماية بعض الحصون فعظم ضرره فطلب طغركين فهرب الى الافرنج
وأغراهم بأفامية ودلهم على عورتها وعدم الأقوات فيها فحاصروها شهرا
وملكوها عنوة وقتلوا القاضي والصانع وذلك سنة تسع وتسعين وقد ذكرنا قبل
أنّ الصانع قتله ابن بديع أيام تتش صاحب حلب إثر مهلك رضوان فاللَّه
أعلم أيهما الصحيح ثم ملك صاحب
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 407: فجاء تميرك أخو ارسلان
تاش عم البي فأصلح حاله مع جكرمش.
(5/174)
انطاكية من الافرنج حصن الامارة بعد حصار
طويل فملكه عنوة واستلحم أهله وفعل في ذرّيته مثل ذلك ورحل أهل منبج
وبالس وتركوهما خاويين وملكوا حيد بالأمان وطلب الفرنج من أهل الحصون
الإسلامية الجزية فأعطوهم ذلك على ضريبة فرضوها عليهم فكان على رضوان
في حلب وأعمالها ثلاثون ألف دينار وعلى صور سبعة آلاف وعلى ابن منقذ في
شيزر أربعة آلاف وعلى حماة ألفا دينار وذلك سنة خمس وخمسمائة.
استيلاء طغركين على بصرى
قد تقدّم لنا سنة سبع وتسعين حال تلتاش بن تتش والخطبة له بعد أخيه
دقاق وخروجه من دمشق واستنجاده الفرنج وانّ الّذي تولى كبر ذلك كله
اسكين الحملي صاحب بصرى فسار طغركين سنة المائة الخامسة الى بصرى
وحاصرها حتى أذعنوا وضربوا له أجلا للفرنج فعاد الى دمشق حتى انقضى
الأجل فآتوه طاعتهم وملك البلد وأحسن اليهم والله تعالى وليّ التوفيق
لا ربّ غيره.
غزو طغركين وهزيمته
ثم سار طغركين سنة اثنتين وخمسمائة الى طبرية ووصل اليها ابن أخت
بغدوين ملك القدس [1] من الفرنج فاقتتلوا فانهزم المسلمون أوّلا فنزل
طغركين ونادى بالمسلمين فكرّوا وانهزم الفرنج وأسر ابن أخت بغدوين وعرض
طغركين عليه الإسلام فامتنع فقتله بيده وبعث بالأسرى الى بغداد ثم
انعقد الصلح بين طغركين [2] وبغدوين بعد أربع سنين وسار بعدها طغركين
الى حصن غزة في شعبان من السنة وكان ليد مولى القاضي فخر الملك بن علي
ابن عمار صاحب طرابلس فعصى عليه وحاصره الافرنج وانقطعت عنه الميرة
فأرسل طغركين صاحب دمشق أن يمكنه من الحصن فأرسل اليه إسرائيل من
أصحابه فملك الحصن وقتل صاحبه مولى بن عمار غيلة ليستأثر بمخلفه فانتظر
طغركين دخول الشتاء وسار الى الحصن لينظر في أمره وكان السرداني من
الافرنج يحاصر طرابلس فلما سمع بوصول طغركين حصن الاكمة أغذ السير اليه
فهزمه وغنم سواده ولحق طغركين بحمص ونازل السرداني غرّة فاستأمنوا اليه
وملكها وقبض على إسرائيل فادى به أسيرا كان لهم بدمشق منذ سبع سنين
ووصل طغركين
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وهو بغدوين الأول، امبراطور اللاتين على
القسطنطينية قائد الحملة الصليبية الرابعة.
[2] وفي نسخة ثانية: نيدغ.
(5/175)
الى دمشق ثم قصد ملك الافرنج رمسة من
أعماله دمشق فملكها وشحنها بالأقوات والحامية فقصدها طغركين بعد أن نمى
اليه الخبر بضعف الحامية الذين بها فكبسها عنوة وأسر الافرنج الذين بها
والله سبحانه وتعالى أعلم.
انتقاض طغركين على السلطان محمد
كان السلطان محمد بن ملك شاه قد أمر مودود بن بوشكين صاحب الموصل
بالمسير لغزو الافرنج لأن ملك القدس تابع الغارات على دمشق سنة ست
وخمسمائة واستصرخ طغركين بمودود فجمع العساكر وسار سنة تسع ولقيه
طغركين بسهلة وقصدوا القدس وانتهوا الى الانحوانة على الأردن وجاء
بغدوين فنزل قبالتهما على النهر ومعه جوسكين صاحب جيشه واقتتلوا منتصف
محرّم سنة عشر على بحيرة طبرية فانهزم الافرنج وقتل منهم كثير وغرق
كثير في بحيرة طبرية ونهر الأردن ولقيتهم عساكر طرابلس وانطاكية
فاشتدّوا وأقاموا بجبل قرب طبرية وحاصرهم المسلمون فيه ثم يئسوا من
الظفر به فساحوا في بلادهم واكتسحوها وخربوها ونزلوا مرج الصفر وأذن
مودود للعساكر في العود والراحة ليتهيأوا للغزو. وسلخ الشتاء ودخل دمشق
آخر ربيع من سنة [1] ليقيم عند طغركين تلك المدّة وصلى معه أوّل جمعة
ووثب عليه باطني بعد الصلاة فطعنه ومات آخر يومه واتهم طغركين بقتله
وولى السلطان مكانه على الموصل آقسنقر البرسقي فقبض على أياز بن أبي
الغازي وأبيه صاحب حصن كيفا فسار بنو أرتق الى البرسقي وهزموه وتخلص
أياز من أسره فلحق أبو الغازي أبوه بطغركين صاحب دمشق وأقام عنده وكان
مستوحشا من السلطان محمد لاتهامه بقتل مودود فبعث الى صاحب انطاكية من
الفرنج وتحالفوا على المظاهرة وقصد أبو الغازي ديار بكر فظفر به قيرجان
بن قراجا صاحب حمص وأسره وجاء طغركين لاستنفاذه فحلف قيرجان ليقتلنه ان
لم يرجع طغركين الى بلاده وانتظر وصول العساكر من بغداد تحمله فأبطأت
فأجاب طغركين الى إطلاقه ثم بعث السلطان محمد العساكر لجهاد الافرنج
والبداءة بقتال طغركين وأبي الغازي فساروا في رمضان سنة ثمان وخمسمائة
ومقدّمهم برسق بن برسق صاحب همذان وانتهوا الى حلب وبعثوا الى متوليها
لؤلؤ الخادم ومقدّم عسكرها شمس الخواص يأمرونهما بالنزول عنها وعرضوا
عليهما كتب السلطان بذلك فدافعا بالوعد واستحثا طغركين
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وذكر ابن الأثير هذه الحادثة في حوادث سنة سبع
وخمسمائة، وحادث الاقتتال على بحيرة طبرية المذكور هنا في منتصف محرم
سنة عشر، ذكره ابن الأثير في حوادث سنة ست وخمسمائة.
(5/176)
وابا الغازي في الوصول فوصلا في العساكر
وامتنعت حلب على العساكر وأظهروا العصيان فسار برسق الى حماة وهي
لطغركين فملكها عنوة ونهبها ثلاثا وسألهما الأمير قيرجان صاحب حمص وكان
جميع ما يفتحه من البلاد له بأمر السلطان فانتقض الأمراء من ذلك وكسلوا
عن الغزو وسار أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص الى انطاكية يستنجدون
صاحبها دجيل من الافرنج ثم توادعوا الى انصرام الشتاء ورجع أبو الغازي
الى ماردين وطغركين الى دمشق ثم كان في اثر ذلك هزيمة المسلمين واستشهد
برسق وأخوه زنكي وقد تقدّم خبر هذه الهزيمة في أخبار البرسقي ثم قدم
السلطان محمد بغداد فوفد عليه أتابك طغركين صاحب دمشق في ذي القعدة من
سنة تسع مستعينا فأعانه وأعاده الى بلده والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة رضوان بن تتش صاحب حلب وولاية ابنه
البارسلان
ثم توفي رضوان بن تتش صاحب حلب سنة تسع وخمسمائة وقد كان قتل أخويه أبا
طالب وبهرام وكان يستعين بالباطنية في أموره ويداخلهم ولما توفي بايع
مولاه لؤلؤ الخادم لابنه البارسلان صبيا مغتلما وكانت في لسانه حبسة
فكان يلقب الأخرس وكان لؤلؤ مستبدّا عليه لأوّل ملكه قتل أخويه وكل ملك
شاه منهما شقيقه وكانت الباطنية كثيرا في حلب في أيام رضوان حتى خافهم
ابن بديع وأعيانها فلما توفي أذن لهم البارسلان في الإيقاع بهم فقبضوا
على مقدّمهم ابن طاهر الصابغ وجماعة من أصحابهم فقتلوهم وافترق
الباقون.
مهلك لؤلؤ الخادم واستيلاء أبي الغازي ثم
مقتل البارسلان وولاية أخيه السلطان شاه
كان لؤلؤ الخادم قد استولى على قلعة حلب وولىّ أتابكية البارسلان ابن
مولاه رضوان ثم تنكر له فقتله لؤلؤ ونصب في الملك أخاه سلطان شاه
واستبدّ عليه فلما كان سنة احدى عشرة سار الى قلعة جعفر للاجتماع
بصاحبها سالم بن مالك فغدر به مماليكه الأتراك وقتلوه عند خرتبرت
وأخذوا خزائنه واعترضهم أهل حلب فاستعادوا منهم ما أخذوه وولىّ أتابكية
سلطان شاه بن رضوان شمس الخواص بارقياس وعزل لشهر وولىّ بعده أبو
المعالي بن
(5/177)
الملحي الدمشقيّ ثم عزل وصدور واضطربت
الدولة وخاف أهل حلب من الافرنج فاستدعوا أبا الغازي بن ارتق وحكموه
على أنفسهم ولم يجد فيها مالا فصادر جماعة الخدم وصانع بمالهم الافرنج
حتى صار الى ماردين بنية العود الى حمايتها واستخلف عليها ابنه حسام
الدين تمرتاش وانقرض ملك رضوان بن تتش من حلب والله سبحانه وتعالى
أعلم.
هزيمة طغركين أمام الافرنج
كان ملك الافرنج بغدوين صاحب القدس قد توفي سنة اثنتي عشرة وقام بملكهم
بعده القمص صاحب الرها الّذي كان أسره جكرمس وأطلقه جاولى كما تقدّم في
أخبارهم وبعث الى طغركين في المهادنة وكان قد سار من دمشق لغزوهم فأبى
من اجابته وسار الى طبرية فنهبها واجتمع بقواد المصريين في عسقلان وقد
أمرهم صاحبهم بالرجوع الى رأي طغركين ثم عاد الى دمشق وقصد الافرنج
حصنا من أعماله فاستأمن اليهم أهله وملكوه ثم قصدوا أذرعات فبعث طغركين
ابنه بوري لمدافعتهم فتنحوا عن أذرعات الى جبل هناك وحاصرهم بوري وجاء
اليه أبو طغركين فراسلوه ليفرج عنهم فأبى طمعا في أخذهم فاستماتوا
وحملوا على المسلمين حملة صادقة فهزموهم ونالوا منهم ورجع الفل الى
دمشق وسار طغركين الى أبي الغازي بحلب يستنجده فوعده بالنجدة وسار الى
ماردين للحشد ورجع طغركين الى دمشق كذلك وتواعدوا للجبال وسبق الافرنج
الى حلب وكان بينه وبين أبي الغازي ما نذكره في موضعه من دولة بني ارتق
والله سبحانه وتعالى ولىّ التوفيق لا ربّ غيره.
منازلة الافرنج دمشق
ثم اجتمع الافرنج سنة عشرين وخمسمائة ملوكهم وقمامصتهم وساروا الى دمشق
ونزلوا مرج الصفر وبعث أتابك طغركين بالصريخ الى تركمان بديار بكر
وغيرها وخيم قبالة الافرنج واستخلف ابنه بوري على دمشق ثم ناجزهم الحرب
آخر السنة فاشتدّ القتال وصرع طغركين عن فرسه فانهزم المسلمون وركب
طغركين واتبعهم ومضت خيالة الافرنج في اتباعهم وبقي رجالة التركمان في
المعركة فلما خلص اليهم رجالة الافرنج اجتمعوا واستماتوا وحملوا على
رجالة الافرنج فقتلوهم ونهبوا معسكرهم وعادوا غانمين ظافرين الى دمشق
ورجعت خيالة الافرنج من اتباعهم منهزمين فوجدوا معسكرهم منهوبا
ورجالتهم قتلى وكان ذلك من الصنع الغريب
.
(5/178)
وفاة طغركين وولاية
ابنه بوري
ثم توفي أتابك طغركين صاحب دمشق في صفر سنة اثنتين وعشرين وكان من
موالي تاج الدولة تتش وكان حسن السيرة مؤثرا للعدل محبا في الجهاد
ولقبه ظهير الدين ولما توفي ملك بعده ابنه تاج الدولة بوري أكبر أولاده
بعهده اليه بذلك وأقر وزير أبيه أبي علي طاهر بن سعد المزدغاني على
وزارته وكان المزدغاني يرى رأي الرافضية الإسماعيلية وكان بهرام ابن
أخي إبراهيم الأستراباذيّ لما قتل عمه إبراهيم ببغداد على هذا المذهب
لحق بالشام وملك قلعة بانياس ثم سار الى دمشق وأقام بها خليفة يدعو الى
مذهبه ثم فارقها وملك القدموس وغيره من حصون الجبال وقابل البصرية
والدرزة بوادي اليتيم [1] من أعمال بعلبكّ سنة اثنتين وعشرين وغلبهم
الضحاك وقتل بهرام وكان المزدغاني قد أقام له خليفة بدمشق يسمى أبا
الوفاء فكثر اتباعه وتحكم في البلد وجاء الخبر الى بوري بأنّ وزيره
المزدغاني والإسماعيلية قد راسلوا الافرنج بأن يملكوهم دمشق فجاء اليها
وقتل المزدغاني ونادى بقتل الإسماعيلية وبلغ الخبر الى الافرنج فاجتمع
صاحب القدس وصاحب انطاكية وصاحب طرابلس وسائر ملوك الافرنج وساروا
لحصار دمشق واستصرخ تاج الملك بالعرب والتركمان وجاء الافرنج في ذي
الحجة من السنة وبثوا سراياهم للنهب والاغارة ومضت منها سرية الى
خوارزم فبعث تاج الدولة بوري سرية من المسلمين مع شمس الخواص من أمرائه
لمدافعتهم فلقوهم وظفروا بهم واستلحموهم وبلغ الخبر الى الافرنج
فأجفلوا منهزمين وأحرقوا مخلفه واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون والله
تعالى ولىّ التوفيق.
أسر تاج الملك لدبيس بن صدقة وتمكين عماد
الدين زنكي منه
كان بصرخد من أرض الشام [2] أميرا عليها فتوفي سنة خمس وعشرين وخلف
سريته واستولت على القلعة وعملت أنه لا يتمّ لها استيلاؤها الا بتزويج
رجل من أهل العصابة فوصف لها دبيس فكتبت اليه تستدعيه وهو على البصرة
منابذا للسلطان عند ما
__________
[1] كذا بالأصل والصحيح: وقابل النصيرية والدروز بوادي التيم
[2] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذا
الأمير
(5/179)
رجع من عند سنجر فاتخذ الأدلاء وسار الى
صرخد فضل به الدليل بنواحي دمشق ونزل على قوم من بني كلاب شرقي الغوطة
فحملوه الى تاج الملك فحبسه وبعث به الى عماد الدين زنكي يستدعيه
ويتهدّده على منعه وأطلق سريج بن تاج الملك الملوك والأمراء الذين
كانوا مأسورين معه فبعث تاج الملك بدبيس اليه وأشفق على نفسه فلما وصل
الى زنكي خالف ظنه وأحسن اليه وسدّ خلته وبسط أمله وبعث فيه المسترشد
أيضا يطلبه وجاء فيه الانباري وسمع في طريقه بإحسان زنكي اليه فرجع ثم
أرسل المسترشد يشفع فيه فأطلق.
وفاة تاج الملوك بوري صاحب دمشق وولاية
ابنه شمس الملوك إسماعيل
كان تاج الملوك بوري قد ثار به جماعة من الباطنية سنة خمس وعشرين
وطعنوه فأصابته جراحة واندملت ثم انتقضت عليه في رجب من سنة ست وعشرين
لأربع سنين ونصف من إمارته وولىّ بعده ابنه شمس الملوك إسماعيل بعهده
اليه بذلك وكان عهد بمدينة بعلبكّ وأعمالها لابنه الآخر شمس الدولة
وقام بتدبير أمره الحاجب يوسف بن فيروز شحنة دمشق وأحسن الى الرعية
وبسط العدل فيهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء شمس الملوك على الحصون
ولما تولّى شمس الملوك إسماعيل وسار أخوه محمد الى بعلبكّ خرج اليها
وحاصر أخاه محمدا بها وملك البلد واعتصم محمد بالحصن وسأل الإبقاء
فأبقى عليه ورجع الى دمشق ثم سار الى باشاش وقد كان الافرنج الذين بها
نقضوا الصلح وأخذوا جماعة من تجار دمشق في بيروت فسار اليها طاويا وجه
مذهبه حتى وصلها في صفر سنة سبع وعشرين وقاتلها ونقب أسوارها وملكها
عنوة ومثل بالافرنج الذين بها واعتصم فلهم بالقلعة حتى استأمنوا وملكها
ورجع الى دمشق ثم بلغه انّ المسترشد زحف الى الموصل فطمع هو في حماة
وسار آخر رمضان وملكها يوم الفطر من غده فاستأمنوا اليه وملكها واستولى
على ما فيها ثم سار الى قلعة شيرز وبها صاحبها من بني منقذ فحاصرها
وصانعه صاحبها بمال حمله اليه فأفرج عنه وسار الى دمشق في ذي القعدة من
السنة ثم سار في محرّم سنة ثمان وعشرين الى حصن شقيق [1] في
__________
[1] هي قلعة الشقيف
(5/180)
الجبل المطل على بيروت وصيدا وبه الضحاك بن
جندل رئيس وادي التيم قد تغلب عليه وامتنع به وتحاماه المسلمون
والافرنج يحتمي من كل طائفة بالأخرى فسار اليه وملكه من وقته وعظم ذلك
على الافرنج فساروا الى جوران وعاثوا في نواحيها فاحتشد هو واستنجد
بالتركمان وسار حتى نزل قبالتهم وجهز العسكر هنالك وخرج في البرّ وأناخ
على طبرية وعكا فاكتسح نواحيها وامتلأت أيدي عسكره بالغنائم والسبي
وانتهى الخبر الى الافرنج بمكانهم من بلاد حوران فأجفلوا الى بلادهم
وعاد هو الى دمشق وراسله الافرنج في تجديد الهدنة فهادنهم.
مقتل شمس الملوك وولاية أخيه شهاب الدين
محمود
كان شمس الملوك سيّئ السيرة كثير الظلم والعدوان على رعيته مرهف الحدّ
لأهله وأصحابه حتى انه وثب عليه بعض مماليك جدّه سنة سبع وعشرين وعلاه
بالسيف ليقتله فأخذ وضرب فأقرّ على جماعة داخلوه فقتلهم وقتل معهم أخاه
سونج فتنكر الناس له وأشيع عنه بأنه كاتب عماد الدين زنكي ليملكه دمشق
واستحثه في الوصول لئلا يسلم البلد الى الافرنج فسار زنكي فصدق الناس
الاشاعة وانتقض أصحاب أبيه لذلك وشكو الأمّة فأشفقت ثم تقدّمت الى
غلمانه بقتله فقتلوه في ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وقيل انه اتهم أمّه
بالحاجب يوسف بن فيروز فاعتزم على قتلها فهرب يوسف وقتلته أمّه ولما
قتل ولىّ أخوه شهاب الدين محمود من بعده ووصل أتابك زنكي بعد مقتله
فحاصر دمشق من ميدان الحصار وجدّوا في مدافعته والامتناع عليه وقام في
ذلك معين الدين أنز مملوك جدّه طغراكين مقاما محمودا وجلا في المدافعة
والحصار ثم وصل رسول المسترشد أبو بكر بن بهثر الجزري الى أتابك زنكي
يأمره بمسالمة صاحب دمشق الملك البارسلان شهاب الدين محمود وصلحه معه
فرحل عن دمشق منتصف السنة.
استيلاء شهاب الدين محمود على حمص
كانت حمص لقيرجان بن قراجا ولولده من بعده والموالي بها من قبلهما
وطالبهم عماد الدين زنكي في تسليمها وضايقهم في نواحيها فراسلوا شهاب
الدين صاحب دمشق في أن يملكها ويعوّضهم عنها بتدمر فأجاب واستولى على
حمص وسار اليها سنة ثلاثين وأقطعها لمملوك جدّه معين الدين أنز وأنزل
معه حامية من عسكره ورجع الى دمشق واستأذنه الحاجب يوسف بن
(5/181)
فيروز في العود من تدمر الى دمشق وقد كان
هرب اليها كما قدّمناه وكان جماعة من الموالي منحرفين عنه بسبب ما
تقدّم في مقتل سونج فنكروا ذلك فلاطفهم ابن فيروز واسترضاهم وحلف لهم
انه لا يتولى شيئا من الأمور ولما دخل رجع الى حاله فوثبوا عليه وقتلوه
وخيموا بظاهر دمشق واشتطوا في الطلب فلم يسعفوا بكلمة فلحقوا بشمس
الدولة محمد بن تاج الملوك في بعلبكّ وبثوا السرايا الى دمشق فعاثت في
نواحيها حتى أسعفهم شهاب الدين بكل ما طلبوه فرجعوا الى ظاهر دمشق وخرج
لهم شهاب الدين وتحالفوا ودخلوا الى البلد وولىّ مرواش كبيرهم على
العساكر وجعل اليه الحلّ والعقد في دولته والله أعلم.
استيلاء عماد الدين زنكي على حمص وغيرها من
أعمال دمشق
ثم سار أتابك زنكي إلى حمص في شعبان سنة إحدى وثلاثين وقدم إليه حاجبه
صلاح الدين الباغيسياني وهو أكبر أمرائه مخاطبا واليها معين الدين انز
في تسليمها فلم يفعل وحاصرها فامتنعت عليه فرحل عنها آخر شوّال من
السنة ثم سار سنة اثنتين وثلاثين إلى نواحي بعلبكّ فملك حصن المحولي
على الأمان وهو لصاحب دمشق ثم سار إلى حمص وحاصرها وعاد ملك الروم إلى
حلب فاستدعى الفرنج وملك كثيرا من الحصون مثل عين زربة وتل حمدون وحصر
أنطاكية ثم رجع وأفرج أتابك زنكي خلال ذلك عن حمص ثم عاود منازلتها بعد
مسير الروم وبعث إلى شهاب الدين صاحب دمشق يخطب إليه أمّه مرد خاتون
ابنة جاولي طمعا في الاستيلاء على دمشق فزوّجها له ولم يظفر بما أمله
من دمشق وسلموا له حمص وقلعتها وحملت إليه خاتون في رمضان من السنة
والله أعلم.
مقتل شهاب الدين محمود وولاية أخيه محمد
لما قتل شهاب الدين محمود في شوّال سنة ثلاث وثلاثين اغتاله ثلاثة من
مواليه في مضجعه بخلوته وهربوا فنجا واحد منهم وأصيب الآخران كتب معين
الدين أنز إلى أخيه شمس الدين محمد بن بوري صاحب بعلبكّ بالخبر فسارع
ودخل دمشق وتبعه الجند والأعيان وفوّض أمر دولته إلى معين الدين أنز
مملوك جدّه وأقطعه بعلبكّ واستقامت أموره
.
(5/182)
استيلاء زنكي على بعلبكّ وحصاره دمشق
ولما قتل شهاب الدين محمود وبلغ خبره إلى أمّه خاتون زوجة أتابك زنكي
بحلب عظم جزعها عليه وأرسلت إلى زنكي بالخبر وكان بالجزيرة وسألت منه
الطلب بثأر ابنها فسار الى دمشق واستعدّوا للحصار فعدل الى بعلبكّ
وكانت لمعين الدين أنز كما قلناه وكان أتابك زنكي دسّ إليه الأموال
ليمكنه من دمشق فلم يفعل فسار الى بلده بعلبكّ وجدّ في حربها ونصب
عليها المجانيق حتى استأمنوا إليه وملكها في ذي الحجة آخر سنة ثلاث
وثلاثين واعتصم جماعة من الجند بقلعتها ثم استأمنوا فقتلهم وأرهب الناس
بهم ثم سار إلى دمشق وبعث إلى صاحبها في تسليمها والنزول عنها على أن
يعوّضه عنها فلم يجب إلى ذلك فزحف إليها ونزل دار يا منتصف ربيع الأول
سنة اربع وثلاثين وبرزت إليه عساكر دمشق فظفر بهم وهزمهم ونزل المصلي
وقاتلهم فهزمهم ثانيا ثم أمسك عن قتالهم عشرة أيام وتابع الرسل إليه
بأن يعوّضه عن دمشق ببعلبكّ أو حمص أو ما يختاره فمنعه أصحابه فعاد
زنكي الى القتال واشتدّ في الحصار والله سبحانه وتعالى أعلم وبه
التوفيق.
وفاة جمال الدين محمد بن بوري وولاية ابنه
مجير الدين أنز
ثم توفي جمال الدين محمد بن بوري صاحب دمشق رابع شعبان سنة أربع
وثلاثين وزنكي محاصر به وهو معه في مراوضة الصلح وجمع زنكي فيما عساه
أن يقع بين الأمراء من الخلاف فاشتدّ في الزحف فما وهنوا لذلك وولوا من
بعد جمال الدين محمدا ابنه مجير الدين أنز وقام بتربيته وتدبير دولته
معين الدين أنز مدبر دولته وأرسل إلى الإفرنج يستنجدهم على مدافعة زنكي
على أن يحاصر قاشاش فإذا فتحها أعطاهم إياها فأجابوا إلى ذلك حذرا من
استطالة زنكي بملك دمشق فسار زنكي للقائهم قبل اتصالهم بعسكر دمشق ونزل
حوران في رمضان من السنة فخام الإفرنج عن لقائه وأقاموا ببلادهم فعاد
زنكي إلى حصار دمشق في شوّال من السنة ثم أحرق قرى المرج والغوطة ورحل
عائدا إلى بلده ثم وصل الإفرنج إلى دمشق بعد رحيله فسار معهم معين
الدين أنز إلى قاشاش من ولاية زنكي ليفتحها ويعطيها للافرنج كما عاهدهم
عليه وقد كان واليها أغار على مدينة صور ولقيه في طريقه صاحب
(5/183)
أنطاكية وهو قاصد إلى دمشق لإنجاد صاحبها
علي زنكي فقتل الوالي ومن معه من العسكر ولجأ الباقون إلى قاشاش وجاء
معين الدين أنز أثر ذلك في العساكر فملكها وسلمها للافرنج وبلغ الخبر
إلى أتابك زنكي فسار إلى دمشق بعد أن فرّق سراياه وبعوثه على حوران
وأعمال دمشق وسار هو متجرّدا إليها فصبحها وخرج العسكر لقتاله فقاتلهم
عامّة يومه ثم تأخر إلى مرج راهط وانتظر بعثوه حتى وصلوا إليه وقد
امتلأت أيديهم بالغنائم ورحل عائدا إلى بلده.
مسير الإفرنج لحصار دمشق
كان الإفرنج منذ ملكوا سواحل الشام ومدنه تسير إليهم أمم الإفرنج من كل
ناحية من بلادهم مددا لهم على المسلمين لما يرونه من تفرّد هؤلاء
بالشام بين عدوّهم وسار في سنة ثلاث وأربعين ملك الالمان من أمراء
الإفرنج من بلاده في جموع عظيمة قاصدا بلاد الإسلام لا يشك في الغلب
والاستيلاء لكثرة عساكره وتوفر عدده وأمواله فلما وصل الشام اجتمع عليه
عساكر الإفرنج الذين له ممتثلين أمره فأمرهم بالمسير معه إلى دمشق
فساروا لذلك سنة ثلاث وأربعين وحاصروها فقام معين الدين أنز في
مدافعتهم المقام المحمود ثم قاتلهم الإفرنج سادس ربيع الأوّل من السنة
فنالوا من المسلمين بعد الشدّة والمصابرة واستشهد ذلك اليوم الفقيه حجة
الدين يوسف العندلاوي المغربي وكان عالما زاهدا وسأله معين الدين يومئذ
في الرجوع لضعفه وسنه فقال له قد بعت واشترى مني فلا أقيل ولا أستقيل
يشير إلى آية الجهاد وتقدّم حتى استشهد عند أسرت على نصف فرسخ من دمشق
واستشهد معه خلق وقوي الإفرنج ونزل ملك الألمان الميدان الأخضر وكان
عماد الدين زنكي صاحب الموصل قد توفي سنة إحدى وأربعين وولي ابنه سيف
الدين غازي الموصل وابنه نور الدين محمود حلب فبعث معين الدين أنز إلى
سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده فجاء لإنجاده ومعه أخوه نور الدين
وانتهوا إلى مدينة حمص وبعث إلى الإفرنج يتهدّدهم فاضطرّوا إلى قتاله
وانقسمت مؤنتهم بين الفريقين وأرسل معين الدين إلى الألمان يتهدّدهم
بتسليم البلد إلى ملك المشرق يعني صاحب الموصل وأرسل إلى فرنج الشام
يحذرهم من استيلاء ملك الألمان على دمشق فإنه لا يبقى لكم معه مقام في
الشام ووعدهم يحصن قاشاش فاجتمعوا إلى ملك الألمان وخوفوه من صاحب
الموصل أن يملك دمشق فرحل عن البلد وأعطاهم معين الدين قلعة قاشاش وعاد
ملك الألمان إلى بلاده على البحر المحيط في
(5/184)
أقصى الشمال والمغرب ثم توفي معين الدين
أنز مدبر دولة أرتق والمتغلب عليه سنة أربع وأربعين لسنة من حصار ملك
الألمان والله أعلم.
استيلاء نور الدين محمود العادل على دمشق
وانقراض دولة بني تتش من الشام
كان سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل قد توفي سنة أربع وأربعين وملك
أخوه قطب الدين وانفرد أخوه الآخر نور الدين محمود بحلب وما يليها
وتجرّد لطلب دمشق ولجهاد الإفرنج واتفق أنّ الإفرنج سنة ثمان وأربعين
ملكوا عسقلان من يد خلفاء العلوية لضعفهم كما مرّ في أخبار دولتهم ولم
يجد نور الدين سبيلا إلى ارتجاعها منهم لاعتراض دمشق بينه وبينهم ثم
طمعوا في ملك دمشق بعد عسقلان وكان أهل دمشق يؤدّون إليهم الضريبة
فيدخلون لقبضها ويتحكمون فيهم ويطلقون من أسرى الإفرنج الذين بها كل من
أراد الرجوع إلى أهله فخشي نور الدين عليها من الافرنج ورأى أنه أن
قصدها استنصر صاحبها عليه بالإفرنج فراسل صاحبها مجير الدين واستماله
بالهدايا حتى وثق به فكان يغريه بأمرائه الذين يجد بهم القوّة على
المدافعة واحدا واحدا ويقول له أنّ فلانا كاتبني بتسليم دمشق فيقتله
مجير الدين حتى كان آخرهم عطاء بن حافظ السلمي الخادم وكان شديدا في
مدافعة نور الدين فأرسل إلى مجير الدين بمثلها فيه فقبض عليه وقتله
فسار حينئذ نور الدين الى دمشق بعد أن كاتب الأحداث الذين بها
واستمالهم فوعدوه وأرسل مجير الدين الى الإفرنج يستنجده من نور الدين
على أن يعطيهم بعلبكّ فأجابوه وشرعوا في الحشد وسبقهم نور الدين الى
دمشق فثار الأحداث الذين كاتبهم وفتحوا له الباب الشرقي فدخل منه
وملكها واعتصم مجير الدين بالقلعة فراسله في النزول عنها وعوّضه مدينة
حمص فسار إليها ثم عوّضه عن حمص بالس فلم يرضها وسار إلى بغداد واختط
بها دارا قرب النظامية وتوفي بها واستولى نور الدين على دمشق وأعمالها
واستضافها إلى ملكه فجلب وانقرض ملك بني تتش من الشام والبلاد الفارسية
أجمع والبقاء للَّه وحده والله مالك الملك لا رب غيره سبحانه وتعالى
.
(5/185)
الخبر عن دولة قطلمش
وبنيه ملوك قونية وبلاد الروم من السلجوقية ومبادئ أمورهم وتصاريف
أحوالهم
كان قطلمش هذا من عظماء أهل هذا البيت ونسبه فيهم مختلف فقيل قطلمش بن
بيقو وابن الأثير تارة يقول قطلمش ابن عم طغرلبك وتارة يقول قطلمش بن
إسرائيل من سلجوق ولعله بيان ذلك الاجمال ولما انتشر السلجوقية في
البلاد طالبين للملك دخل قطلمش هذا إلى بلاد الروم وملك قونية وأقصرا
ونواحيها وبعثه السلطان طغرلبك بالعساكر مع قريش بن
(5/186)
بدران صاحب الموصل في طلب دبيس بن مزيد عند
ما أظهر الدولة العلوية في الحلة وأعمالها فهزمهم دبيس والبساسيري كما
تقدّم في أخبارهم ثم عصى على السلطان البارسلان بعد طغرلبك وقصد الريّ
ليملكه وقاتله البارسلان سنة ست وخمسين فانهزم عسكر قطلمش ووجد بين
القتلى فتجمع له البارسلان وقعد للعزاء فيه كما تقدّم في أخبارهم وقام
بأمره ابنه سليمان وملك قونية وأقصرا وغيرهما من الولاية التي كانت بيد
أبيه وافتتح أنطاكية من يد الروم سنة سبع وسبعين وأربعمائة وقد كانوا
ملكوها منذ خمس وخمسين وأربعمائة فأخذها منهم وأضافها إلى ملكه وقد
تقدّم خبر ملكه إياها في دولتهم وكان لمسلم بن قريش صاحب الموصل ضريبة
على الروم بأنطاكية فطالب بها سليمان بن قطلمش فامتعض لذلك وأنف منه
فجمع مسلم العرب والتركمان لحصار أنطاكية ومعه جق أمير التركمان
والتقيا سنة ثمان وسبعين وانحاز جق إلى سليمان فانهزم العرب وسار
سليمان بن قطلمش لحصار حلب فامتنعت عليه وسألوه الإمهال حتى يكاتب
السلطان ملك شاه ودسوا إلى تاج الدولة تتش صاحب دمشق يستدعونه فأغذ
السير واعترضه سليمان بن قطلمش على تعبية فانهزم وطعن نفسه بخنجر فمات
وغنم تتش معسكره وملك بعده ابنه قلج أرسلان وأقام في سلطانه ولما زحف
الإفرنج إلى سواحل الشام سنة تسعين وأربعمائة جعلوا طريقهم على
القسطنطينية فمنعهم من ذلك ملك الروم حتى شرط عليهم أن يعطوه أنطاكية
إذا ملكوها فأجابوا لذلك وعبروا خليج القسطنطينية ومروا ببلاد قلج
أرسلان بن سليمان بن قطلمش فلقيهم في جموعه قريبا من قونية فهزموه
وانتهوا الى بلاد ابن ليون الارمني فمروا منها الى أنطاكية وبها
باغيسيان من أمراء السلجوقية فاستعدّ للحصار وأمر بحفر الخندق فعمل فيه
المسلمون يوما ثم عمل فيه النصارى الذين كانوا بالبلد من الغد فلما
جاءوا للدخول منعهم وقال أنا لكم في مخلفكم حتى ينصرف هؤلاء الإفرنج
وزحفوا إليه فحاصروه تسعة أشهر ثم عدا بعض الحامية من سور البلد عليهم
فادخلوهم من بعض مسارب الوادي وأصبحوا في البلد فاستباحوه وركب بغيسيان
للصلح فهرب ولقيه حطاب من الأرمن فجاء برأسه إلى الإفرنج وولي عليها
بمشد من زعماء الإفرنج وكان صاحب حلب وصاحب دمشق قد عزما على النفير
إلى أنطاكية لمدافعتهم فكاتبهم بالمسالمة وأنهم لا يعرضون لغير أنطاكية
فأوهن ذلك من عزائمهم وأقصروا عن انجاد باغيسيان وكان التركمان قد
انتشروا في نواحي العراق وكان كمشتكين بن طبلق المعروف أبوه بالدانشمند
ومعناه المعلم عندهم قد ملك سيواس من بلاد الروم مما يلي أنطاكية وكان
بملطية مما يجاورها متغلب آخر من التركمان وبينه وبين الوانشمند حروب
(5/187)
فاستنجد صاحب ملطية عليه الإفرنج وجاء بيضل
من أنطاكية سنة ثلاث وتسعين في خمسة آلاف فلقيه ابن الوانشمند وهزمه
وأخذه أسيرا وجاء الإفرنج لتخليصه فنازلوا قلعة أنكوريّة وهي أنقرة
فأخذوها عنوة ثم ساروا إلى أخرى فيها إسماعيل بن الوانشمند وحاصروها
فجمع ابن الوانشمند وقاتلهم وأكمن لهم وكانوا في عدد كثير فلما قاتلهم
استطرد لهم حتى خرج عليهم الكمين وكرّ عليهم فلم يفلت منهم أحد وسار
إلى ملطية فملكها وأسر صاحبها وجاءه الإفرنج من أنطاكية فهزمهم.
استيلاء قليج أرسلان على الموصل
كانت الموصل وديار بكر والجزيرة بيد جكرمش من قواد السلجوقية فمنع
الحمل وهم بالانتقاض فأقطع السلطان الموصل وما معها لجاولي سقاوو والكل
من قوادهم وأمرهم بالمسير لقتال الإفرنج فسار جاولي وبلغ الخبر لجكرمش
فسار من الموصل إلى أربل وتعاقد مع أبي الهيجاء بن موشك الكردي الهدباي
صاحب أربل وانتهى إلى البوازيج فعبر إليه جكرمش دجلة وقاتله فانهزمت
عساكر جكرمش وبقي جكرمش واقفا لفالج كان به فأسره جاولي ولحق الفل
بالموصل فنصبوا مكانه ابنه زنكي صبيا صغيرا وأقام بأمره غزغلي مولى
أبيه وكانت القلعة بيده وفرّق الأموال والخيول واستعدّ لمدافعة جاولي
وكاتب صدقة بن مزيد والبرسقي شحنة بغداد وقلج أرسلان صاحب بلاد الروم
يستنجدهم ويعد كلا منهم بملك الموصل إذا دافعوا عنه جاولي فأعرض صدقة
عنه ولم يحتفل بذلك ثم سار جاولي إلى الموصل وحاصرها وعرض جكرمش للقتل
أو يسلموا إليه البلد فامتنعوا وأصبح جكرمش في بعض أيام حصارها [1]
وسمع جاولي بأن قلج أرسلان سار في عساكره إلى نصيبين فأفرج عن الموصل
وسار إلى سنجار وسبق البرسقي إليها بعد رحيل جاولي وأرسل إلى أهلها فلم
يجيبوه بشيء وعاد إلى بغداد واستدعى رضوان صاحب دمشق جاولي سقاوو
لمدافعة الإفرنج عنه فساروا إليه وخرج من الموصل عسكر جكرمش إلى قلج
أرسلان بنصيبين فتحالفوا معه وجاءوا به إلى الموصل فملكها آخر رجب من
سنة خمسمائة وخرج إليه ابن جكرمش وأصحابه وملك القلعة من غزغلي وجلس
على التخت وخطب لنفسه بعد الخليفة وأحسن الى العسكر وسار في الناس
بالعدل وكان في جملته إبراهيم بن نيال التركماني صاحب آمد
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 458: فلما اصطفوا للحرب حمل
جاولي من القلب على قلب جكرمش فانهزم من فيه، وبقي جكرمش وحده لا يقدر
على الهزيمة لفالج كان فيه.
(5/188)
ومحمد بن جق التركماني صاحب حصن زياد وهو
خرت برت وكان إبراهيم بن نيال قد ولى تتش على آمد حين ولي ديار بكر
وكانت بيده وأمّا خرت برت فكانت بيد القلادروس ترجمان الروم والرها
وأنطاكية من أعماله فملك سليمان بن قطلمش أنطاكية وملك فخر الدولة بن
جهير ديار بكر فضعف القلادروس وملك جق خرت برت من يده وأسلم القلادروس
على يد السلطان ملك شاه وأمره على الرها فأقام بها حتى مات وملكها جق
هي وما جاورها من الحصون وأورثها ابنه محمدا بعد موته والله تعالى وليّ
التوفيق.
الحرب بين قليج أرسلان وبين الإفرنج
كان سمند صاحب أنطاكية من الإفرنج قد وقعت بينه وبين ملك الروم
بالقسطنطينية وحشة واستحكمت وسار سمند فنهب بلاد الروم وعزم على قصد
أنطاكية فاستنجد ملك الروم بقليج أرسلان فأمدّه بعساكره وسار مع ذلك
الروم فهزموا الإفرنج وأسروهم ورجع الفلّ إلى بلادهم بالشام فاعتزموا
على قصد قليج أرسلان بالجزيرة فأتاهم خبر مقتله فاقصروا والله تعالى
ولي التوفيق.
مقتل قليج أرسلان وولاية ابنه مسعود
قد تقدم لنا استيلاء قليج أرسلان على الموصل وديار بكر وأعمالها وجلوسه
على التخت وإن جاولي سكاوو سار إلى سنجار ثم سار منها إلى الرحبة وكان
قلج أرسلان خطب له بها صاحبها محمد بن السباق من بني شيبان بعد مهلك
دقاق وانتفاضة على أبيه فلما حاصرها جاولي بعث إليه رضوان بن تتش صاحب
حلب في النجدة على الإفرنج لما ساروا إلى بلاده فوعده لانقضاء الحصار
وجاء رضوان فحضر عنده واشتدّ الحصار على أهل الرحبة وغدر بعضهم فأدخل
أصحاب جاولي ليلا ونهبوها إلى الظهر وخرج إليه صاحبها محمد الشيبانيّ
فأطاعه ورجع عنه وبلغ الخبر إلى قلج أرسلان فسار من الموصل لحرب جاولي
واستخلف عليها ابنه ملك شاه صبيا صغيرا مع أمير يدبره فلما انتهى إلى
الخابور هرب عنه إبراهيم بن نيال صاحب آمد ولحق ببلده واعتزم قلج
أرسلان على المطاولة واستدعى عسكره الذين أنجدهم ملك الروم على الإفرنج
فجاءوا إليه واغتنم جاولي قلة عسكره فلقيه آخر ذي القعدة من السنة
واشتدّت الحرب وحمل قليج أرسلان على جاولي بنفسه وصرع صاحب الراية وضرب
جاولي بسيفه ثم حمل أصحاب جاولي عليه فهزموه وألقى نفسه في الخابور
فغرق
(5/189)
وسار جاولي إلى الموصل فملكها وأعاد خطبة
السلطان محمد وبعث إليه ملك شاه بن قلج [1] أرسلان وولي مكان قليج
أرسلان في قونية وأقصرا وسائر بلاد الروم ابنه مسعود واستقام له ملكها.
استيلاء مسعود بن قليج أرسلان على ملطية
وأعمالها
كانت ملطية وأعمالها وسيواس لابن الوانشمند من التركمان كما مرّ وكانت
بينه وبينهم حروب وهلك كمستكين بن الوانشمند وولي مكانه ابنه محمد
واتصلت حروبه مع الإفرنج كما كان أبوه معهم ثم هلك سنة سبع وثلاثين
فاستولى مسعود بن قليج أرسلان على الكثير منها وبقي الباقي بيد أخيه
باغي أرسلان بن محمد.
وفاة مسعود بن قليج وولاية ابنه قليج
أرسلان
ثم توفي مسعود بن قليج أرسلان سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وملك مكانه
ابنه قليج أرسلان فكانت بينه وبين باغي أرسلان ابن الوانشمند وصاحب
ملطية وما جاورها من ملك الروم وحروب بسبب أنّ قليج تزوّج بنت الملك
طليق بن علي بن أبي القاسم فزوّجها إليه بجهاز عظيم وأغار عليه باغي
أرسلان صاحب ملطية فأخذها بما معها وزوّجها بابن أخيه ذي النون بن محمد
بن الوانشمند بعد أن أشار عليها بالردّة لينفسخ النكاح ثم عادت إلى
الإسلام وزوّجها بابن أخيه فجمع قليج أرسلان عساكره وسار إلى باغي
أرسلان بن الوانشمند فهزمه باغي أرسلان واستنجد ملك الروم فأمده بعسكر
وسار باغي أرسلان خلال ذلك وولي إبراهيم ابن أخيه محمد وملك قليج
أرسلان بعض بلاده واستولى أخوه ذو النون بن محمد الوانشمند على قيسارية
وانفرد شاه بن مسعود أخو قليج أرسلان بمدينة أنكوريّة وهي انقرة
واستقرت الحال على ذلك ثم وقعت الفتنة بين قليج أرسلان وبين نور الدين
محمود بن زنكي وتراجعوا للحرب وكتب الصالح بن زربك المتغلب على العلويّ
بمصر إلى قليج أرسلان ينهاه عن ذلك ثم هلك إبراهيم بن محمد بن
الوانشمند وملك مكانه أخوه ذو النون وانتقض قليج أرسلان عليه وملك
ملطية من يده والله تعالى أعلم.
مسير نور الدين العادل إلى بلاد قليج
أرسلان
ثم سار نور الدين محمود بن زنكي سنة ثمان وستين إلى ولاية أرسلان بن
قليج أرسلان بن مسعود
__________
[1] هكذا في الأصل في هذه النسخة وهو قلج أرسلان كما في الكامل لابن
الأثير.
(5/190)
ببلاد الروم وهي ملطية وسيواس وأقصرا فجاءه
قليج أرسلان متنصلا معتذرا فأكرمه وثني عزمه عن قصد بلاده ثم أرسل إليه
شفيعا في ذي النون بن الوانشمند [1] يرد عليه بلاده فلم يشفعه فسار
إليه وملك مرعش ونهسنا [2] وما بينهما في ذي القعدة من السنة وبعث
عسكرا إلى سيواس فملكوها فمال قليج أرسلان إلى الصلح وبعث إلى نور
الدين يستعطفه وقد بلغه عن الفرنج ما أزعجه فأجابه على أن يمدّه
بالعساكر للغزو وعلى أن يبقى سيواس بيد نواب نور الدين وهي لذي النون
بن الوانشمند ثم جاءه كتاب الخليفة باقطاع البلاد ومن جملتها بلاد قليج
أرسلان وخلاط وديار بكر ولما مات نور الدين عادت سيواس لقليج أرسلان
وطرد عنها نواب ذي النون.
مسير صلاح الدين لحرب قليج أرسلان
كان قليج أرسلان بن مسعود صاحب بلاد الروم قد زوّج بنته من نور الدين
محمود بن قليج أرسلان بن داود بن سقمان صاحب حصن كيفا وغيره من ديار
بكر وأعطاه عدّة حصون فلم يحسن عشرتها وتزوّج عليها وهجر مضجعها وامتعض
أبوها قليج أرسلان لذلك واعتزم على غزو نور الدين في ديار بكر وأخذ
بلاده فاستجار نور الدين بصلاح الدين بن أيوب واستشفع به فلم يشفعه
وتعلل بطلب البلاد التي أعطاه عند المصاهرة فامتعض صلاح الدين لذلك
وكان يحارب الإفرنج بالشام فصالحهم وسار في عساكره إلى بلاد الروم وكان
الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بالشام فعدل عنه ومرّ على تل ناشر
إلى زغبان ولقي بها نور الدين محمود صاحب كيفا وبعث إليه قليج أرسلان
رسولا يقرر غدره بابنته فاغتاظ على الرسول وتوعده بأخذ بلادهم فتلطف له
الرسول وخلص معه نجيا فقبح له ما ارتكبه من أجل هذه المرأة من ترك
الغزو ومصالحة العدوّ وجمع العساكر وخسارة وأن بنت قليج أرسلان لو بعث
إليه بعد وفاة أبيها تسأل منه النصفة بينها وبين زوجها لكان أحق ما
تقصده فامتنعت وعلم أن على نفسه الحق فأمر الرسول أن يصلح بينهم ويكون
هو عونا له على ذلك فداخلهم ذلك الرسول في الصلح على أن يطلق هذه
المرأة بعد سنة ويعقد بينهم ذلك ورجع كل الى بلده ووفى نور الدين بما
عقد على نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] في الكامل ج 11 ص 391: ذي النون ابن دانشمند صاحب ملطية وسيواس.
[2] في الكامل: فسار نور الدين إليه فابتدأ بكيّسون وبهنسى ومرعش
ومرزبان فملكها وما بينها. ج 11 ص 391.
(5/191)
قسمة قليج أرسلان
أعماله بين ولده وتغلبهم عليه
ثم قسم قليج أرسلان سنة سبع وثمانين أعماله بين ولده فأعطى قونية
بأعمالها لغياث الدين كسنجر وأقصرا وسيواس لقطب الدين ودوقاط لركن
الدين سليمان وأنقرة وهي أنكوريّة لمحيي الدين وملطية لعز الدين قيصر
شاه و [1] لغيث الدين وقيسارية لنور الدين محمود وأعطى تكسار وأماسا
لابني أخيه وتغلب عليه ابنه قطب الدين وحمله على انتزاع ملطية من يد
قيصر شاه فانتزعها ولحق قيصر شاه بصلاح الدين بن أيوب مستشفعا به
فأكرمه وزوّجه ابنة أخيه العادل وشفع له عند أبيه وأخيه فشفعوه وردوا
عليه ملطية ثم زاد تغلب ركن الدين وحجر عليه وقتل دائبة في مدينته [2]
وهو اختيار الدين حسن فخرج سائر بنيه عن طاعته وأخذ قطب الدين أباه
وسار به إلى قيسارية ليملكها من أخيه فهرب قليج أرسلان ودخل قيسارية
وعاد قطب الدين إلى قونية وأقصرا فملكها وبقي أرسلان ينتقل بين ولده من
واحد إلى آخر وهم معرضون عنه حتى استنجد بغياث الدين كسنجر صاحب [3]
منهم فأنجده وسار معه إلى قونية فملكها ثم سار إلى أقصرا وحاصرها ثم
مرض قليج أرسلان وعاد إلى قونية فتوفي فيها وقبل إنما اختلف ولده عليه
لأنه ندم على قسمة أعماله بينهم وأراد إيثار ابنه قطب الدين بجميعها
وانتقضوا عليه لذلك وخرجوا عن طاعته وبقي يتردّد بينهم وقصد كسنجر
وصاحب قونية فأطاعه وخرج معه بالعساكر لحصار محمود أخيه في قيسارية
وتوفي قليج أرسلان وهو محاصر لقيسارية ورجع غياث الدين إلى قونية.
وفاة قليج أرسلان وولاية ابنه غياث الدين
ثم توفي قليج أرسلان بمدينة قونية أو على قيسارية كما مرّ من الخلاف
منتصف ثمان وثمانين لسبع وعشرين سنة من ملكه وكان مهيبا عادلا حسن
السياسة كثير الجهاد ولما توفي واستقلّ ابنه غياث الدين كسنجر بقونية
وما إليها وكان قطب الدين أخوه صاحب أقصرا وسيواس وكان كلما سار من
إحداهما إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية وبها أخوه نور الدين محمود
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 88. وسلم أبلستين إلى ولده مغيث
الدين.
[2] كذا بالأصل وهي عبارة محرفة، وفي الكامل: وحجر عليه قطب الدين وكان
قليج أرسلان قد استناب في مدينة ملكه رجلا يعرف باختيار الدين حسن،
فلما غلب قطب الدين على الأمر قتل حسنا.
[3] كذا بياض بالأصل وفي الكامل: ولم يذل قليج أرسلان يتحول من ولد إلى
ولد وكل منهم يتبرم به حتى مضى إلى ولده غياث الدين كسنجر وصاحب مدينة
برغلوا فلما رآه خرج به وخدمه. ج 12 ج 89.
(5/192)
يتلقاه بظاهرها حتى استنام إليه مدّة فغدر
به وقتله وامتنع أصحابه بقيسارية كبيرهم حسن فقتله مع أخيه ثم أطاعوه
وأمكنوه من البلد ومات قطب الدين أثر ذلك.
استيلاء ركن الدين سليمان على قونية وأكثر
بلاد الروم وفرار غياث الدين
ولما توفي قليج أرسلان وولي بعده في قونية ابنه غياث الدين كسنجر وبنوه
يومئذ على حالتهم في ولايتهم التي قسمها بينهم أبوهم وملك قطب الدين
منهم قيسارية بعد أن غدر بأخيه محمود صاحبها ومات قطب الدين أثر ذلك
فسار ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى التغلب على أعمال سلفه ببلاد
الروم فسار إلى سيواس وأقصرا وقيسارية أعمال قطب الدين فملكها ثم سار
إلى قونية فحاصر بها غياث الدين وملكها ولحق غياث الدين بالشام كما
يأتي خبره ثم سار إلى نكسار وأماسا فملكهما وسار إلى ملطية سنة سبع
وتسعين فملكها من يد معز الدين قيصر شاه ولحق معز الدين بالعادل أبي
بكر بن أيوب ثم سار إلى أرزن الروم وكانت لولد الملك محمد بن حليق من
بيت قديم وخرج إليه صاحبها ليقرر معه صلحا فقبض عليه وملك البلد فاجتمع
لركن الدين سائر أعمال إخوته ما عدا أنقرة لحصانتها فجمر عليها الكتائب
وحاصرها ثلاثا ثم دس من قتل أخاه وملك البلد سنة إحدى وستمائة وتوفي هو
عقب ذلك والله تعالى أعلم.
وفاة ركن الدين وولاية ابنه قليج أرسلان
ثم توفي ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان أوائل ذي القعدة من تمام سنة
إحدى وستمائة وولي بعده ابنه قليج أرسلان فلم تطل مدّته وكان ركن الدين
ملكا حازما شديدا على الأعداء إلا أنه ينسب إلى التزين بالفلسفة والله
تعالى أعلم.
استيلاء غياث الدين كسنجر على بلاد الروم
من أخيه ركن الدين
كان غياث الدين كسنجر بن قليج أرسلان لما ملك أخوه ركن الدين قونية من
يده لحق بحلب وفيها الظاهر غازي بن صلاح الدين فلم يجد عنده قبولا فسار
إلى القسطنطينية وأكرمه
(5/193)
ملك الروم وأصهر إليه بعض البطارقة في
ابنته وكانت له قرية حصينة في أعمال قسطنطينية فلما استولى الإفرنج على
القسطنطينية سنة ستمائة لحق غياث الدين بقلعة صهره البطريق وبلغ إليه
خبر أخيه تلك السنة وبعث بعض الأمراء من قونيّة يستدعيه فسار إليه
واجتمعوا على حصار قونية وخرجت إليهم العساكر منها فهزموه ولحق ببعض
البلاد فتحصن بها ثم قام أهل اقصرا بدعوته وطردوا واليهم وبلغ الخبر
إلى أهل قونية فثاروا بقليج أرسلان بن ركن الدين وقبضوا عليه واستدعوا
غياث الدين فملكوه وأمكنوه من ابن أخيه وكان أخوه قيصر شاه قد لحق
بصهره العادل أبي بكر بن أيوب فاستنصر به على أخيه ركن الدين عند ما
ملك ملطية من يده فأمر له بالرها واستفحل ملك غياث الدين وقصده عليّ بن
يوسف صاحب شميشاط ونظام الدين بن أرسلان صاحب خرت برت وغيرهما وعظم
شأنه إلى أن قتله أشكر صاحب قسطنطينية سنة سبع وستمائة والله تعالى
وليّ التوفيق.
مقتل غياث الدين كسنجر وولاية ابنه كيكاوس
ولما قتل غياث الدين كسنجر وولي بعده ابنه كيكاوس ولقبوه الغالب
باللَّه وكان عمه طغرك شاه بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم طلب الأمر
لنفسه وسار إلى قتال كيكاوس ابن أخيه وحاصره في سيواس وقصد أخوه كيغباد
بن كسنجر بلد انكوريه من اعماله فاستولى عليها وبعث كيكاوس صريخه إلى
الملك العادل صاحب دمشق فأنفذ إليه العساكر وأفرج طغرك عن سيواس قبل
وصولهم فسار كيكاوس إلى أنكوريّة وملكها من يد أخيه كيغباد وحبسه وقتل
أمراءه وسار إلى عمه طغرك في أرزن الروم فظفر به سنة عشر وقتله وملك
بلاده.
مسير كيكاوس إلى حلب واستيلاؤه على بعض
أعمالها ثم هزيمته وارتجاع البلد من يده
كان الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب قد توفي وملك بعده ابنه طفلا صغيرا
وكان بعض أهل حلب قد لحق بكيكاوس فرارا من الظاهر وأغراه بملك حلب
وهوّن عليه أمرها وملك ما بعدها ولما مات الظاهر قوي عزمه وطمعه في ذلك
واستدعى الأفضل بن صلاح الدين بن شميشاط للمسير معه على أن تكون الخطبة
لكيكاوس والولاية للأفضل في جميع ما يفتحونه من حلب وأعمالها فإذا
افتحوا بلاد الجزيرة مثل حران والرها من يد الأشرف تكون ولايتها
لكيكاوس وتعاقدوا على ذلك وساروا سنة خمس عشرة فملكوا قلعة
(5/194)
رغبان وتسلمها الأفضل على الشرط ثم ملكوا
قلعة تل ناشر فاستأثر بها كيكاوس وارتاب الأفضل ثم بعث ابن الظاهر صاحب
حلب إلى الأشرف بن العادل صاحب الجزيرة وخلاط يستنجده على أن يخطب له
بحلب وينقش اسمه على السكة فسار لإنجاده ومعه أحياء طيِّئ من العرب
فنزل بظاهر حلب وسار كيكاوس والأفضل إلى منبج ولقيت طليعتهم طليعة
الظاهر فاقتتلوا وعاد عسكر كيكاوس منهزمين إليه فأجفل وسار الأشرف إلى
رغبان وتل ناشر وبهما أصحاب كيكاوس فغلبهم عليهما وأطلقهم إلى صاحبهم
فأحرقهم بالنار وسلم الأشرف الحصنين إلى شهاب الدين بن الظاهر صاحب حلب
وبلغه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل بمصر فرجع عن قصد بلاد الروم.
وفاة كيكاوس وملك أخيه كيغباد
كان كيكاوس بعد الواقعة بينه وبين الأشرف قد اعتزم على قصد بلاد الأشرف
بالجزيرة واتفق مع صاحب آمد وصاحب أربل على ذلك وكانا يخطبان له ثم سار
إلى ملطية يشغل الأشرف عن الموصل حتى ينال منها صاحب أربل ومرض في
طريقه فعاد ومات سنة ست عشرة وخلف بنيه صغارا وكان أخوه كيغباد محبوسا
منذ أخذه من أنكوريّة فأخرجه الجند من محبسه وملكوه وقيل بل أخرجه هو
من محبسه وعهد إليه ولما ملك خالف عليه عمه صاحب أرزن الروم فوصل يده
بالأشرف وعقد معه صلحا.
الفتنة بين كيغباد وصاحب آمد من بني أرتق
وفتح عدة من حصونه
كانت الفتنة قد حدثت بين الأشرف صاحب الجزيرة والمعظم صاحب دمشق وجاء
جلال الدين خوارزم من الهند سنة ثلاث وعشرين بعد هروبه أمام التتر فملك
أذربيجان واعتضد به المعظم صاحب دمشق على الأشرف وظاهرهما الملك مسعود
صاحب آمد من بني أرتق فأرسل الأشرف إلى كيغباد ملك الروم يستنجده على
صاحب آمد والأشرف يومئذ محاصر لماردين فسار كيغباد وأقام على ملطية
وجهز العساكر من هناك إلى آمد ففتح حصونا عدّة وعاد صاحب آمد إلى
موافقة الأشرف فكتب إلى كيغباد أن يرد عليه ما أخذه فامتنع فبعث عساكره
إلى صاحب آمد مددا على كيغباد وكان محاصرا لقلعة الكحنا فلقيهم وهزمهم
وأثخن فيهم وعاد ففتح القلعة والله أعلم
.
(5/195)
استيلاء كيغباد على
مدينة أرزنكان
كان صاحب ارزنكان هذه بهرام شاه من بني الأحدب بيت قديم في الملك
وملكها ستين سنة ولم يزل في طاعة قليج أرسلان وولده وتوفي بعده ابنه
علاء الدين داود شاه وأرسل عنه كيغباد سنة خمس وعشرين ليعسكر معه إليه
وقبض عليه وملك مدينة ارزنكان وكان من حصونه كماح فامتنع نائبة فيه
وتهدّد داود شاه فبعث إلى نائبة فسلم له الحصن ثم قصد ارزن الروم وبها
ابن عمر طغرك شاه بن قليج أرسلان فبعث ابن طغرك شاه بطاعته إلى الأشرف
واستنجد نائبة بخلاط حسام الدين علي فسار إليه فخام كيغباد عن لقائه
وعاد من ارزنكان إلى بلاده فوجد العدوّ من الإفرنج قد ملك قلعة منها
تسمى صنوبا مطلة على بحر الخزر فحاصرها برا وبحرا وارتجعها المسلمون
والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق.
فتنة كيغباد مع جلال الدين
كان صاحب أرزن الروم وهو ابن عمّ كيغباد صار إلى طاعة جلال الدين
خوارزم شاه وحاصر معه خلاط وفيها أيبك مولى فملكها جلال الدين وقتل
أيبك كما يأتي في أخباره فخافهما كيغباد صاحب الروم فاستنجد الملك
الكامل وهو بحران فأمدّه بأخيه الأشرف من دمشق فجمع عساكر الجزيرة
والشام وسار إلى كيغباد فلقيه بسيواس واجتمعوا في خمسة وعشرين ألفا
وساروا من سيواس إلى خلاط فلقيهم جلال الدين في نواحي ارزنكان فهاله
منظرهم ومضى منهزما إلى خلاط ثم سار منها إلى أذربيجان فنزلوا عند خوي
وسار الأشرف إلى خلاط فوجد جلال الدين قد خربها فعادوا إلى بلادهم
وتردّدت الرسل إلى الصلح فاصطلحوا.
مسير بني أيوب إلى كيغباد وهزيمتهم
كان علاء الدين كيغباد قد استفحل ملكه ببلاد الروم ومد يده إلى ما
يجاوره من البلاد فملك خلاط بعد أن دافع عنها مع الأشرف بن العادل جلال
الدين خوارزم شاه فنازعه الأشرف في ذلك واستصرخ بأخيه الكامل فسار في
العساكر من مصر سنة إحدى وثلاثين وسار معه الملوك من أهل بيته وانتهى
إلى النهر الأزرق من تخوم الروم وبعث في مقدّمته المظفر صاحب حماة من
أهل بيته فلقيه كيغباد وهزمه وحصره في خرت برت وكانت لبني أرتق ورجع
(5/196)
الكامل بالعساكر إلى مصر سنة اثنتين
وثلاثين وكيغباد في أتباعهم ثم سار إلى حران والرها فملكهما من يد نواب
الكامل وولى عليهما من قبله وسار الكامل سنة ثلاث وثلاثين فارتجعهما.
وفاة كيغباد وملك ابنه كنجسرو [1]
ثم توفي علاء الدين كيغباد سنة أربع وثلاثين وستمائة وملك بعده ابنه
غياث الدين كنجسرو وقارن ذلك انقراض الدولة السلجوقية من ممالك الإسلام
واختلال دولة بني خوارزم شاه وخروج التتر من مفازة الترك وراء النهر
واستيلاء جنكزخان سلطانهم على الممالك وانتزاعها من يد بني خوارزم شاه
وفر جلال الدين آخرهم إلى الهند ثم رجع واستولى على أذربيجان وعراق
العجم وكان بنو أيوب يومئذ بممالك الشام وأرمينية كما نذكر ذلك كله في
أماكنه إن شاء الله تعالى وانتشر التتر في سائر النواحي وعاثوا فيها
وتغلبوا عليها واستفحل ملكهم فسارت منهم طوائف إلى بلاد الروم سنة إحدى
وأربعين فبعث غياث الدين كنجسرو بالصريخ إلى بني أيوب وغيرهم من الترك
في جواره وجاء المدد من كلّ جانب فسار للقائهم ولقيتهم المقدّمة على
قشمير زنجان فانهزمت المقدّمة ووصلوا إليه فانهزم ونجا بعياله وذخيرته
الى مدينة على مسيرة شهر من المعترك ونهبوا سواده ومخلفه وانتشروا في
نواحي بلاد الروم وعاثوا فيها وتحصن غياث الدين بهذه المدينة واستولى
التتر على خلاط وآمد ثم استأمن لهم غياث الدين ودخل في طاعتهم واستقامت
أموره معهم إلى أن مات قريبا من رجوعه وملك التتر قيسارية والله أعلم.
وفاة غياث الدين وولاية ابنه كيغباد
ثم توفي غياث الدين كنجسرو سنة أربع وخمسين وترك ثلاثا من الولد أكبرهم
علاء الدين كيغباد وعز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان وولى علاء
الدين كيغباد بعهده إليه وكان يخطب لهم جميعا وأمرهم واحد وكان جنكزخان
ملك التتر قد ملك وكان كرسي سلطانهم بقراقرم وولي مكانه ابنه طلو خان
وجلس على كرسيه وهو الخان الأعظم عندهم وحكمه ماض في ملوك الشمال
والعراق من أهل بيته وسائر عشيرته ثم هلك طلو خان وولي مكانه في كرسيه
ابنه منكوفان فبعث أخاه هلاكو لفتح العراق وبلاد الإسماعيلية سنة
__________
[1] وفي بعض النسخ: كنخسرو وفي الكامل كنجسرو.
(5/197)
خمسين وستمائة فسار لذلك وملك العراقين
وبغداد ثم جرد الخان الأعظم منكوفان إلى بلاد الروم سنة أربع وخمسين
أميرا من أمراء المغل اسمه بيكوفي العساكر فسار الى أرزن الروم وبها
سنان الدين ياقوت موسى السلطان علاء الدين فحاصرها شهرين ونصب عليها
المجانيق ثم ملكها عنوة وأسر ياقوت واستلحم الجند بأسرهم واستبقى
الباعة والصناع ثم سار الى بلاد الروم فملك قيسارية ومسيرة شهر معها
ورجع ثم عاد سنة خمس وخمسين وعاث في البلاد واستولى على أكثر من الأولى
والله تعالى أعلم.
وفاة كيغباد وملك أخيه كيكاوس
ولما كثر عيث التتر الذين مع بيكوفي مملكة علاء الدين كيغباد واعتزم
على المسير إلى الخان الأعظم منكوفان يؤكد الدخول في طاعته ويقتضي
مراسمه الى بيكو ومن معه من المغل بالكف عن البلاد سار من قونية سنة
خمس وخمسين ومعه سيف الدين طرنطاي من موالي أبيه واحتمل معه الأموال
والهدايا وسار ووثب أخوه عز الدين كيكاوس على أخيه الآخر قليج أرسلان
فاعتقله بقونية واستولى على الملك وكتب في أثر أخيه إلى سيف الدين
طرنطاي مع بعض الأكابر من أصحابه أن يمكنوه من الهدايا التي معهم يتوجه
بها إلى الخان ويردوا علاء الدين فلم يدركوه حتى دخل بلاد الخان ونزل
على بعض أمرائه فسعى ذلك الرسول في علاء الدين وطرنطاي بأنّ معهم سما
فكبسهم الأمير فوجد شيئا من المحمودة فعرض عليهم أكلها فامتنعوا فتخيل
تحقيق السعاية فسألوه احضار الأطباء فأزالوا عنه الشك وبعث بهم إلى
الخان ومات علاء الدين أثناء طريقه ولما اجتمعوا عند الخان اتفقوا على
ولاية عز الدين كيكاوس وأنه أكبر وعقدوا له الصلح مع الخان فكتب له
وخلع عليهم ثم كتب بيكو إلى الخان بأن أهل بلاد الروم قاتلوه ومنعوه
العبور فأحضر الرسل وعرّفهم الخبر فقالوا إذا بلغناهم كتاب السلطان
أذعنوا فكتب الخان بتشريك الأميرين عز الدين كيكاوس وأخيه ركن الدين
قليج أرسلان على أن تكون البلاد قسمة بينهما فمن سيواس إلى القسطنطينية
غربا لعز الدين ومن سيواس إلى أرزن الروم شرقا المتصلة ببلاد التتر ركن
الدين وعلى الطاعة وحمل الإتاوة لمنكو خان ملكهم صاحب الكرسي بقراقرم
ورجعوا إلى بلاد الروم وحملوا معه شاه وكيغباد إلى أن دفنوه
.
(5/198)
استيلاء التتر على
قونية
ثم سار في عساكر المغل إلى بلاد الروم ثالثة فبعث عز الدين كيكاوس
العساكر للقائه مع أرسلان آيدغمش من أمرائه فهزمه بيكو وجاء في إتباعه
إلى قونية فهرب عز الدين كيكاوس إلى العلايا بساحل البحر فنزل بيكو على
قونية وحاصرها حتى استأمنوا إليه على يد خطيبهم ولما حضر إليه أكرمه
ورفع منزلته وأسلمت امرأته على يده وأمّن أهل البلد ثم سار هلاكو إلى
بغداد سنة خمس وستين وبعث عن بيكو وعساكره من بلاد الروم بالحضور معه
فاعتذر بالأكراد الذين في طريقه من الفراسلية والياروقية فبعث إليهم
هلاكو العساكر فأجفلوا وانتهت العساكر إلى أذربيجان وقد أجفل أهلها
أمام الأكراد فاستولوا عليها ورجعوا صحبة بيكو إلى هلاكو فحضر معه فتح
بغداد وقد مرّ خبرها في أخبار الخلفاء ويأتي في أخبار هلاكو ونيال أن
بيكو لما بعث عنه هلاكو لم يحضر معه فتح بغداد واستمرّ على غدره فلما
انقضى أمر بغداد بعث إليه هلاكو من سقاه السمّ فمات لأنه اتهمه
بالاستبداد ثم سار هلاكو بعد فتح بغداد إلى الشام سنة ثمان وخمسين
وحاصر حلب وبعث عن عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان وعن معين
الدين سليمان البر نواه صاحب دولتهم وكان من خبره أنّ أباه مهذب الدين
علي كان من الديلم وطلب العلم ونبغ فيه ثم تعرّض للوزير سعد الدين
المستوفي أيام علاء الدين كيغباد يسأله إجراء رزقه وكان وصافا فاستحسنه
وزوجه ابنته فولدت سليمان ونشأ في الدولة ومات سعد الدين المستوفي فرقي
السلطان مهذب الدين إلى الوزارة وألقى إليه بالمقاليد وتوفي مهذب الدين
وترقي ابنه سليمان مهذب الدولة وكان يلقب معين الدين وترقي في الرتب
إلى أن ولي الحجابة وكان يدعي البرنواه ومعناه الحاجب بلغتهم وكان
مختصا بركن الدين فلما حضر معهما عند هلاكو كما قلناه حلا بعينه وقال
لركن الدين لا يأتني في أموركم إلا هذا فرقت حاله الى أن ملك بلاد
الروم أجمع.
الفتنة بين عز الدين كيكاوس وأخيه قليج
أرسلان واستيلاء قليج أرسلان على الملك
ثم وقعت الفتنة سنة تسع وخمسين بين عز الدين كيكاوس وأخيه ركن الدين
قليج أرسلان وسار ركن الدين ومعه البرنواه إلى هلاكو يستمدّه على أخيه
فأمدّه بالعساكر وحارب أخاه فهزمه عز الدين أوّلا ثم أمدّه هلاكو
فانهزم عز الدين ولحق بالقسطنطينية واستولى ركن الدين
(5/199)
على سائر الأعمال وهرب التركمان إلى أطراف
الجبال والثغور والسواحل وبعثوا إلى هلاكو يطلبون الولاية منه على
أحيائهم فولاهم وأذن لهم في اتخاذ الآلة فصاروا ملوكا من حينئذ وكان
محمد بك أميرهم وأخوه علي بك رديفه فاستدعى علي هلاكو محمدا بك فلم
يأته فأمر قليج أرسلان وعساكر التتر الذين معه بقتاله فساروا وقاتلوه
فانهزم ثم استأمن إلى السلطان ركن الدين فأمنه وجاء به إلى قونية فقتله
واستقرّ علي بك أميرا على التركمان وأورثها بنيه واستولى التتر على
البلاد إلى.
خبر عز الدين كيكاوس
ولما انهزم عز الدين كيكاوس ولحق بالقسطنطينية أحسن إليه مخاييل الشكري
صاحب قسطنطينية وأجرى عليه الرزق وكان معه جماعة من الروم أخواله
فحدّثتهم أنفسهم بالثورة وتملك القسطنطينية ونمى ذلك عنهم فقبض الشكري
عليه وعلى من معه واعتقله ببعض القلاع ثم وقعت بين الشكري وبين منكوتمر
بن طغان ملك الشمال من بني دوشي خان بن جنكزخان فتنة وغزا منكوتمر
القسطنطينية وعاث في نواحيها فهرب إليه كيكاوس من محبسه فمضى معه إلى
كرسيه بصراي فمات هنالك سنة سبع وسبعين وخلف ابنه مسعودا وخطب منكوتمر
ملك صراي أمّه فمنعها وهرب عنه ولحق بابق بن هلاكو ملك العراق فأحسن
إليه وأقطعه سيواس وارزن الروم وارزنكان فاستقرّ بها.
مقتل ركن الدين قليج أرسلان وولاية ابنه
كنجسرو
كان معين الدين سليمان البرنواه قد استبدّ على ركن الدين قليج أرسلان
ثم تنكر له ركن الدين فخاف سليمان البرنواه على مكان أخيه عز الدين
كيكاوس بالقسطنطينية أن يحدث فيه أمرا فلما بلغه خبر كيكاوس واعتقاله
بالقسطنطينية أحكم تدبيره في ركن الدولة فقتله غيلة ونصب للملك ابنه
غياث الدين في كفالته وتحت حجره واستقلّ بملك بلاد الروم واستقامت
أموره والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء الظاهر ملك مصر على قيسارية ومقتل
البرنواه
كان هلاكو قد زحف إلى الشام سنة ثمان وخمسين مرارا وزحف ابنه إبقا كذلك
وقاتلهم الملك الظاهر صاحب مصر والشام وكان كثيرا ما يخالفهم إلى
بلادهم فدخل سنة خمس
(5/200)
وسبعين إلى بلاد الروم وأميرها يومئذ من
التتر طغا وأمده إبقا بأميرين من التتر وهما كداون وترقو لحماية بلاد
الروم من الظاهر فزحفوا إلى الشام وسار إليهم الظاهر من مصر في مقدّمته
سقر الأسقر فلقيت مقدّمته مقدّمتهم على كوكصو فانهزم التتر وتبعهم
الظاهر والتقى الجمعان على إبليش فانهزموا ثانية وأثخن فيهم الظاهر
بالقتل والأسر إلى قيسارية فملكها وكان البرنواه قد دس إليه واستحثه
للوصول إلى بلاده فأقام الظاهر على قيسارية ينتظره وبلغ ملك التتر إبقا
خبر الواقعة فزحف في جموع المغل إلى قيسارية بعد منصرف الظاهر إلى
بلاده فلما وقف على مصارع قومه وجد على البرنواه وصدقت عنه السعاية فيه
وأنه الّذي استحث الظاهر لأنه لم ير في المعركة مصرع أحد من بلاد الروم
ورجع إلى معسكره ومعه سليمان البرنواه واستبدّ بملكه والله تعالى وليّ
التوفيق وهو نعم الرفيق لا ربّ سواه ولا معبود إلا إياه سبحانه.
خلع كنجسرو ثم مقتله وولاية مسعود ابن عمه
كيكاوس
كان قنطغرطاي بن هلاكو مقيما ببلاد الروم مع غياث الدين كنجسرو ملك
بلاد الروم وصار أمير المغل بها منذ عهد أبقا ولما ولي أحمد تكرار بن
هلاكو بعد أخيه أبقا بعث عن أخيه قنطغرطاي فامتنع من الوصول إليه خشية
على نفسه ثم حمله غياث الدين على إجابة أخيه وسار معه فقتل تكرار أخاه
قنطغرطاي واتهم المغل غياث الدين بأنه علم برأي تكرار فيه واعتمد فلما
ولي أرغون بن إبقا بعد تكرار عزل غياث الدين عن بلاد الروم وحبسه
بارزنكاي وولي مكانه على المغل ببلاد الروم أولاكو وذلك سنة اثنتين
وثمانين وأقام مسعود ملكا ببلاد الروم سنة ثمان عشرة وسبعمائة وأصابه
الفقر وانحل أمره وبقي الملك بها للتتر ثم فشل أمرهم واضمحلت دولتهم لا
بقايا بسيواس من بني أرثا مملوك دمرداش بن جومان واستولى التركمان على
تلك البلاد أجمع وأصبح ملكها لهم والله غالب على أمره يؤتي الملك من
يشاء وهو العزيز الحكيم
.
(5/201)
ملوك قونية من بلاد الروم وملكها من أيديهم
التتر
(5/202)
الخبر عن بني سكمان موالي السلجوقية ملوك
خلاط وبلاد أرمينية ومصير الملك الى مواليهم من بعدهم ومبادي أمرهم
وتصاريف أحوالهم
كان صاحب مزيد من أذربيجان إسماعيل بن ياقوتي بن داود أخو البارسلان
وداود أخو طغرلبك كما مرّ ولقب إسماعيل قطب الدولة وكان له مولى تركي
اسمه سكمان بالكاف والقاف وكان ينسب اليه فيقال سكمان القطبي وكان شهما
عادلا في أحكامه وكانت خلاط وارمينية لبني مروان ملوك ديار بكر وكانوا
في آخر دولتهم قد اشتدّ عسفهم وظلمهم وساء حال أهل البلد معهم فاجتمع
أهل خلاط وكاتبوا سكمان واستدعوه ليملكوه عليهم فسار اليهم سنة اثنتين
وخمسمائة الى ميافارقين من ديار، بكر فحاصرها حتى استأمنوا اليه وملكها
ثم أمر السلطان محمد شاه بن ملك شاه الأمير مودود بن زيد بن صدقة صاحب
الموصل بغزو الافرنج وانتزاع البلاد من أيديهم وأمر أمراء الثغور
بالمسير معه فسار معه برسق صاحب همذان وأحمد بك صاحب مراغة وأبو
الهيجاء صاحب اربل وأبو الغازي صاحب ماردين وسقمان القطبي صاحب ديار
بكر فساروا لذلك وفتحوا عدّة حصون وحاصروا الرها فامتنعت عليهم ثم تل
ناشر كذلك واستدعاهم رضوان بن تتش صاحب حلب [1] فلما ساروا اليه امتنع
من لقائهم ومرض سكمان القطبي هنالك فرجع عنهم وتوفي في طريقه ببالس
وافترقت العساكر وملك خلاط وبلاد ارمينية بعد مهلكه ابنه ظهير الدين
إبراهيم وسار فيهم بسيرة أبيه الى أن هلك سنة احدى وعشرين وملك بعده
أخوه أحمد بن سكمان عشرة أشهر ثم توفي فنصب أصحابه للملك بارمينية
وخلاط شاه أرمن سكمان ابن أخيه إبراهيم بن سكمان صبيا دارجا واستبدّت
عليه جدّته أم إبراهيم ثم أزمعت قتله فقتلها أهل الدولة وعمد سنة ثمان
وعشرين واستبدّ شاه أرمن وكانت بينه وبين الكرج وقائع وساروا سنة ست
وخمسمائة الى مدينة اني من اعمال ارّان فاستباحوها وسار اليهم في
العساكر فهزموه ونالوا منه وكانت عنده أخت طليق بن علي صاحب ارزن الروم
ووقعت بينه وبين الكرج حرب فانهزم طليق وأسر وبعث شاه ارمن الى ملك
الكرج وفادى طليقا ورده الى ملكه
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 486: «ووصلوا الى حلب فأغلق
الملك رضوان أبواب البلد ولم يجتمع بهم من هنا يظهر انه لا شيء وكان
البياض في الأصل، ان العبارة هنا مستقيمة.
(5/203)
بارزن ثم استولى صلاح الدين بن أيوب على
مصر والشام واستفحل ملكه وكاتبه مظفر الدين كوكبري وأغراه بملك الجزيرة
ووعده بخمسين ألف دينار وسار صلاح الدين الى سنجار فحاصرها وهو مجمع
المسير الى الموصل وبها يومئذ عز الدين مودود بن زنكي فاستنجد بشاه
ارمن صاحب خلاط فبعث شاه ارمن مولاه مكتمر [1] الى صلاح الدين شفيعا في
صاحب الموصل ووفد عليه وهو محاصر لسنجار ولم يشفعه صلاح الدين فرجع عنه
مغاضبا وسار شاه ارمن لقتاله واستدعى قطب الدين نجم الدين الى صاحب
ماردين وهو ابن أخيه وابن خال عز الدين وحضر معه دولة شاه بن طغرك شاه
بن قليج ارسلان صاحب [2] وسار سنة ثمان وسبعين وقد ملك صلاح الدين
سنجار وافترقت العساكر فلما بلغه مسيرهم بعث عن تقي الدين ابن أخيه شاه
من حماة فوافاه سريعا ورحل الى رأس عين وافترقت جموعهم وسار صلاح الدين
الى ماردين فعاث في نواحيها ورجع ثم سار الى الموصل آخر احدى وثلاثين
وعبر الى الجزيرة وانتهى الى حران ولقيه مظفر الدين كوكبري بن زين
الدين ولم يف له بالخمسين ألفا التي وعده بها وأخذ منه حران والرها ثم
أطلقه بما نفذه من مكاتبته وأعاد عليه بلدته وسار من حران فحضر عنده
عساكر الحصن ودارا ولقيه سنجر شاه صاحب الجزيرة ابن أخي عز الدين مودود
مفارقا لطاعة عمه وسار معه الى الموصل ولما انتهى الى مدينة بله بعث
اليه عز الدين ابن عمه نور الدين محمود وجماعة من أعيان الدولة راغبين
في الصلح فأكرمهم واستشار أصحابه من أعيان الدولة فأشار علي بن أحمد
المشطوب كبير الهكارية بالامتناع من ذلك فردّهم صلاح الدين واعتذر وسار
فنزل على فرسخين من الموصل واشتدّوا في مدافعته فامتنعوا عليه فندم على
عدم الصلح ورجع على علي المشطوب ومن وافقه باللائمة وخاطبه القاضي
الفاضل البيساني من مصر وعزله في ذلك وجاء زين الدين يوسف بن زين الدين
صاحب اربل وأخوه مظفر الدين كوكبري فتلقاهما بالتكرمة وأنزلهما مع
الحشود الوافدة بالجانب الشرقي وبعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري الى
قلعة الجزيرة من بلاد الهكارية فحاصرها واجتمع عليه الأكراد ولم يزل
محاصرا لها حتى عاد صلاح الدين من الموصل وأقام صلاح الدين على حصارها
مدّة وبلغ عز الدين أن نائبة بالقلعة يكاتبه فمنعه من الصعود اليها
وكان يقتدى برأي مجاهد الدين وبعثه في الصلح فسعى فيه الى أن تحمله
ووصل صلاح الدين الى ميافارقين.
__________
[1] وقد وردت في الكامل بكتمر.
[2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 489: دولة شاه صاحب بدليس
وأرزن.
(5/204)
وفاة شاه ارمن سكمان
وولاية مكتمر مولى أبيه
ثم توفي شاه أرمن سقمان بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط سنة ست وسبعين
وكان مكتمر مولى أبيه بميافارقين فأسرع الوصول بمن معه من المماليك
واستولى على كرسي بني سكمان وولى على ميافارقين أسد الدين برتقش من
موالي شاه ارمن وكان البهلوان بن ايلدكز صاحب أذربيجان وهمذان مرّ
بقائد ملوك السلجوقية وقد زوّج ابنته من شاه ارمن طمعا في ملك خلاط
فلما توفي شاه ارمن سار اليها في عساكره فكاتب أهل خلاط صلاح الدين بن
أيوب ودافعوا كلا منهما بالآخر وسار صلاح الدين في مقدّمته ابن عمه
ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهما ونزلوا
قريبا من خلاط فتردّد الرسل من صلاح الدين ومن شمس الدين البهلوان الى
أهل خلاط وهم يدافعون الفريقين وكان قد بلغه صاحبها قطب الدين وان
برتقش نصب ابنه طفلا صغيرا واستبدّ عليه فسار صلاح الدين اليها وحاصرها
حتى تسلمها على الأمان وأقام مكتمر أميرا بخلاط وطالت مدّته وجرت بينه
وبين صلاح الدين فتن وحروب الى أن توفي صلاح الدين سنة تسع وثمانين
فأظهر الشماتة به وتسمى عبد العزيز وتلقب سيف الدين وتوفى أثر ذلك
والله تعالى أعلم.
وفاة مكتمر وولاية آقسنقر
كان مكتمر لأوّل ولايته قد اختص آقسنقر من موالي شاه ارمن وتلقب هزار
ديناري وزوّجه بنته وجعله اتابكه فأقام على ذلك مدّة ثم استوحش من
مكتمر وتربص به حتى إذا توفى صلاح الدين تجهز مكتمر من ميافارقين
فأمكنته فيه الفرصة فقتله لعشر سنين من ولايته وذلك بعد وفاة صلاح
الدين بشهرين واستبدّ بملك خلاط وارمينية واعتقل ابن مكتمر وأمه في بعض
القلاع والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة آقسنقر وولاية محمد بن مكتمر
ثم هلك آقسنقر صاحب خلاط وارمينية سنة أربع وتسعين لخمس سنين من ملكه
وقام بملك خلاط بعده حجر اشتدّ قطلغ الارمني ولم يرضه أهل خلاط فوثبوا
به لسبعة أيام من ولايته وقتلوه واستدعوا محمد بن مكتمر من محبسه
وملكوه ولقبوه الملك المنصور وقام بدولته
(5/205)
شجاع الدين قطلغ القفجاقي دوادار شاه ارمن
وأقام تحت استبداده الى سنة ثلاث وستمائة ثم دبر الدوادار وقبض عليه
وكان حسن السيرة فاستوحش لذلك الجند والعامّة وعكف بعد نكبة الدوادار
على لذاته فاجتمع أهل خلاط والجند وكبيرهم بلبان مملوك شاه ارمن وكتبوا
الى ارتق بن أبي الغازي بن البي صاحب ماردين يستدعونه للملك بما كان
ابن أخت شاه ارمن وجاهر بلبان بالعصيان الى ملازكرد واجتمع الجند عليه.
نكبة ابن مكتمر واستيلاء بلبان على خلاط
وأعمالها
ولما ملك بلبان مدينة ملازكرد وأعمالها واجتمع عليه الجند وسار يريد
خلاط ووصل ارتق بن أبي الغازي صاحب ماردين لموعدهم ونزل قريبا من خلاط
فبعث اليه بلبان أن الجند والرعية اتهموني فيك فارجع وإذا ملكت البلد
سلمته إليك فتنحى قليلا فبعث اليه يتوعده على مقالته وبطئه فعاد الى
ماردين وكان الأشرف موسى بن العادل بن أيوب صاحب الجزيرة وحران لما سمع
بمسير ارتق الى خلاط طمع فيها لنفسه وخشي أن يزداد بملكها قوة عليهم
فخالفه الى ماردين وأقام بتدليس وجبى ديار بكر حتى استوعبها وعاد الى
حران ثم جمع بلبان العساكر وسار الى خلاط فحاصرها وبرز ابن مكتمر فيمن
عنده فانهزم بلبان وعاد الى ولايته بملازكرد وارجيش وغيرها ثم جمع ورجع
الى خلاط فحاصرها وضيق عليها وابن مكتمر عاكف على لذاته فلما جهدهم
الحصار ثاروا به وقبضوه ومكنوا بلبان منه ودخل الى خلاط واستولى عليها
وعلى سائر أعمالها وحبس ابن مكتمر في قلعة هناك واستبدّ بملكها وكان
الأوحد نجم الدين أيوب بن العادل بن أيوب قد ولى على ميافارقين من قبل
أبيه الى خلاط سنة أربع وستمائة وقصد مدينة سيواس وحاصرها وملك ما
يجاورها وعجز بلبان عنه ثم ملك سوس وقصد خلاط فبرز له بلبان وهزمه فعاد
الى ميافارقين وجمع واستمدّ أباه العادل فأمدّه بالعساكر ونهض الى خلاط
فبرز له بلبان ثانية وهزمه الأوحد وحاصره في خلاط فبعث بلبان الى طغرك
يستنجده فانهزم الأوحد امامهما وسار بلبان مع طغرك الى مراش فحاصراها
وغدر به طغرك هناك وقتله وسار الى خلاط فمنعه أهلها فسار الى ملازكرد
فمنعوه كذلك فعاد الى ارزن وأرسل أهل خلاط بطاعتهم الى الأوحد نجم
الدين فجاء وملك خلاط واستولى على أعمالها وزحف الكرج فأغاروا على خلاط
وعاثوا في نواحيها والأوحد مقيم بخلاط لم يفارقها وانتقض عليه جماعة من
العسكر بحصن رام وساروا الى مدينة ارجيش فملكوها واجتمع اليهم المفسدون
وبعث نجم الدين الى أبيه العادل يستنجده
(5/206)
فأمّده بابنه الآخر شرف الدين موسى فحاصر
حصن رام حتى استأمن اليه من كان به من الجند ورجع الأشرف الى عمله
بحران والرها واستقرّ نجم الدين بخلاط ثم سار الى ملازكرد ليطالع
أمورها ويمهدها فثار أهل خلاط بعسكره فأخرجوهم وحصروا أصحاب نجم الدين
بالقلعة ونادوا بشعار شاه ارمن وقومه فرجع الأوحد ولاقاه عسكر الجزيرة
وحاصر خلاط ثم اختلف أهلها فدخلها عليهم عنوة واستباحها ونقل جماعة من
أعيانها الى ميافارقين وقتل كثيرا منهم هنالك واستكان أهل خلاط بعدها
وانمحى منها حكم المماليك بعد أن كانوا مستحكمين فيها يولون ملوكها
ويخلعونهم وانقرضت دولة بني سكمان من خلاط وصارت لبني أيوب والبقاء
للَّه وحده والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين واليه المرجع.
(5/207)
آخر دولة السلجوقية بخلاط وأرمينية وملكها
منهم بنو أيوب
(5/208)
أخبار الإفرنج فيما
ملكوه من سواحل الشام وثغوره وكيف تغلبوا عليه وبداية أمرهم في ذلك
ومصايره
قد تقدم لنا أول الكتاب الكلام في أنساب هذه الأمة عند ذكر أنساب الأمم
وأنهم من ولد يافث بن نوح ثم من ولد ريفات بن كومر بن يافث إخوة
الصقالبة والخزر والترك وقال هروشيوش أنهم من عصرما بن غومر وأمّا
مواطنهم من بلاد المعمور فإنّهم في شمال البحر الرومي من خليج رومة إلى
ما وراء النهر غربا وشمالا وكانوا أوّلا يدينون لليونان والروم بالطاعة
عند استفحال أمرهم فلما انقرضت دولة أولئك استقلّ هؤلاء الإفرنج بملكهم
وافترقوا دولا مثل دولة القوط بالأندلس والجلالقة بعدهم وملك اللمانيين
بالتفخيم من جزيرة إنكلطرة بالبحر المحيط الغربي الشمالي وما يحاذيه
ويقابله من المعمور ومثل ملوك إفرنسة وهو عندهم اسم إفرنجة بعينه
والجيم ينطقون بها سينا وهم ما وراء خليج رومة غربا إلى الثنايا
المفضية إلى جزيرة الأندلس في الجبل المحيط بها من شرقيها وتسمى تلك
الثنايا البردت وكانت دولة هؤلاء الإفرنس منهم من أعظم دولهم واستفحل
أمرهم بعد الروم وصدرا من دولة الإسلام العربية فسموا إلى ملك بلاد
المشرق من ناحيتها وتغلبوا على جزر البحر الرومي في آخر المائة الخامسة
وكان ملكهم لذلك العهد بردويل فبعث رجالا من ملوكهم إلى صقلّيّة وملكها
من يد المسلمين سنة ثمانين وأربعمائة ثم سموا إلى ملك ما وراء النهر من
إفريقية وبلاد الشام والاستيلاء على بيت المقدس وطال تردّدهم في ذلك ثم
استحثهم وحرضهم عليه فيما يقال خلفاء العبيديين بمصر لما استفحل ملك
السلجوقية وانتزعوا الشام من أيديهم وحاصروهم في مصر فيقال أنّ
المستنصر منهم دس إلى الإفرنج بالخروج وتسهيل أمرهم عليه ليحولوا بين
السلجوقية وبين مرامهم فتجهز الإفرنج لذلك وجعلوا طريقهم في البرّ على
القسطنطينية ومنعهم ملك الروم من العبور عليه من الخليج حتى شرط عليهم
أن يسلموا له أنطاكية لكون المسلمين كانوا أخذوها من مماليكهم فقبلوا
شرطه وسهل العبور في خليجه فأجازوا سنة تسعين وأربعمائة في العدد
والعدّة وانتهوا إلى بلاد قليج أرسلان وجمع للقائهم فهزموه وفرّ [1]
بلاد ابن اليون الأرمني ووصلوا أنطاكية وبها باغيسيان من أمراء
السلجوقية فحاصروه بها وخذلوا صاحب حلب ودمشق على صريخه بأن لا يقصوا
غير أنطاكية
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 274: فلما وصلوا إليها لقيهم
قليج أرسلان في جموعه ومنعهم مقاتلوه فهزموه في رجب سنة تسعين واجتازوا
في بلاده إلى بلاد ابن الأرمني مملكوها وخرجوا إلى أنطاكية فحصروها.
(5/209)
فأسلموه حتى ضاق به الحصار وغدر به بعض
الحامية فملك الإفرنج البلاد وهرب باغيسيان فقتل وحمل إليهم رأسه وكان
ملوكهم الحاضرون لذلك خمسة بردويل وصنجيل وكبريري والقمص وإسمند وهو
مقدم العساكر فردّوا إليه أمر أنطاكية وبلغ الخبر إلى المسلمين فسافروا
إليهم شرقا وغربا وسار قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل وجمع عساكر
الشام وسار إلى دمشق فخرج إليهم دقاق بن تتش وطغتكين أتابك وجناح
الدولة صاحب حمص وأرسلان [1] صاحب سنجار وسكمان أرتق وغيرهم من الأمراء
وزحفوا إلى أنطاكية فحاصروها ثلاثة عشر يوما ووهن الإفرنج واشتدّ عليهم
الحصار لما جاءهم على غير استعداد وطلبوا الخروج على الأمان فلم يسعفوا
ثم اضطرب أمر عساكر المسلمين وأساء كربوقا السيرة فيهم وأزمعوا من
استكثاره عليهم [2] فخرج الإفرنج إليهم واستماتوا فتخاذل المسلمون
وانهزموا من غير قتال حتى ظنها الإفرنج مكيدة فتقاعدوا عن إتباعهم
واستشهد من المسلمين ألوف والله تعالى أعلم.
استيلاء الإفرنج على معرّة النعمان ثم على بيت المقدس
ولما حصلت الإفرنج هذه النكاية في المسلمين طمعوا في البلدا وساروا الى
معرّة النعمان وحاصروها واشتدّ القتال في أسوارها حتى داخل أهلها الجزع
فتحصنوا بالدور وتركوا السور فملكه الإفرنج ودخلوا عليهم فاستباحوها
ثلاثا وأقاموا بها أربعين يوما ثم ساروا إلى غزة وحاصروها أربعة أشهر
وامتنعت عليهم فصالحهم ابن منقذ عليها وساروا إلى حمص وحاصروها فصالحهم
عليها جناح الدولة وساروا إلى عكا فامتنعت عليهم وكان بيت المقدس قد
ملكه السلجوقية وصار لتاج الدولة تتش وأقطعه لسكمان بن أرتق من
التركمان فلما كانت واقعة الإفرنج بأنطاكية طمع أهل مصر فيهم وسار
الأفضل بن بدر الجمال المستولى على العلويين بمصر إلى بيت المقدس وبها
سكمان وأبو الغازي ابنا أرتق وابن عمهما سوع وابن أخيهما ياقوتي
فحاصروه نيفا وأربعين يوما ونصبوا عليه نيفا وأربعين منجنيقا وملكوه
بالأمان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وأحسن الأفضل إلى سكمان وأبي الغازي
وأصحابهما وسرحهم إلى دمشق وعبروا الفرات وأقام سكمان بالرها وسار أبو
الغازي إلى العراق واستناب الأفضل عليها افتخار الدولة الّذي كان بدمشق
فقصده الإفرنج بعد أن حاصروا عكا وامتنعت عليهم
__________
[1] كذا بياض بالأصل واسمه أرسلان تاش.
[2] كذا بياض بالأصل: عبارة مضطربة وفي الكامل: فاغضبهم ذلك وأضمروا له
أنفسهم العذر إذا كان قتال.
(5/210)
فحاصروه أربعين ليلة وافترقوا على جوانب
البلد فملكوها من الجانب الشمالي آخر شعبان من السنة واستباحوها
وأقاموا فيها أسبوعا واعتصم بعض المسلمين بمحراب داود وقاتلوا فيه
ثلاثا حتى استأمنوا ولحقوا بعسقلان وأحصى القتلى من الأئمة والعلماء
والعباد والزهاد المجاورين بالمسجد فكانوا سبعين ألفا ويزيدون وأخذ من
المناور المعلقة عند الصخرة أربعون قنديلا من الفضة كل واحد منها ثلاثة
آلاف وستمائة وستون درهما من الفضة زنته أربعون رطلا بالشامي ومائة
وخمسون قنديلا من الصغار وما لا يحصى من غير ذلك وجاء الصريخ إلى بغداد
صحبة القاضي أبي سعيد الهروي ووصف في الديوان صورة الواقعة فكثر البكاء
والأسف ووسم الخليفة بمسير جماعة من الأعيان والعلماء فيهم القاضي أبو
محمد الدامغانيّ وأبو بكر الشاشي وأبو ألوفا بن عقيل إلى السلطان
بركيارق يستصرخونه للإسلام فساروا إلى حلوان وبلغهم اضطراب الدولة
السلجوقية وقتل محمد الملك البارسلان المتحكم في الدولة واختلاف
السلاطين فعادوا وتمكن الإفرنج من البلاد وولوا على بيت المقدس كندفري
من ملوكهم.
عساكر مصر وحرب الإفرنج مسبر العساكر من
مصر لحرب الإفرنج
لما بلغ خبر الواقعة إلى مصر جمع الأفضل الجيوش والعساكر واحتشد وسار
إلى عسقلان وأرسل إلى الإفرنج بالنكير والتهديد فأعادوا الجواب ورحلوا
مسرعين فكبسوه بعسقلان على غير أهبة فهزموه واستلحموا المسلمين ونهبوا
سوادهم ودخل الأفضل عسقلان وافترق المنهزمون واستبدّوا بخر الحمير [1]
ووصل الأفضل من عسقلان إلى مصر ونازلها الإفرنج حتى صانع أهلها الإفرنج
بعشرين ألف دينار وعادوا إلى القدس.
إيقاع ابن الدانشمند بالإفرنج
كان كمستكين بن الدانشمند من التركمان ويعرف بطابوا ومعنى الدانشمند
المعلم كان أبوه يعلم التركمان وتقلبت به الأحوال حتى ملك سيواس وغيرها
وكان صاحب ملطية يعاديه فاستنجد عليه إسمند صاحب أنطاكية فجاءه في خمسة
آلاف وسار إليه ابن الدانشمند وأسره ثم جاء الإفرنج الى قلعة أنكوريّة
فملكوها وقتلوا من بها من المسلمين ثم حاصروا إسماعيل بن
__________
[1] كذا بالأصل ولا معنى لها، وفي الكامل ج 10 ص 286: ومضى جماعة من
المنهزمين فاستثروا بشجر الجميز، وكان هناك كثيرا فأحرق الفرنج بعض
الشجر حتى هلك من فيه وقتلوا من خرج منه.
(5/211)
الدانشمند فلقيهم كمستكين وهزمهم واستلحمهم
وكانوا ثلاثمائة ألف ثم ساروا إلى ملطية فملكوها وأسروا صاحبها وزحف
إليه إسمند من أنطاكية في الإفرنج فهمّ بهم ابن الدانشمند فأتاح الله
للمسلمين على يده هذا الظهور في مدد متقاربة حتى خلص إسمند من الأسر
وجاء إلى أنطاكية والإفرنج بها وبعث إلى قيس العواصم وما جاورها يطلب
الإمارة فامتعض المسلمون لذلك وقلدوه بعد العهد الّذي التزمه.
حصار الإفرنج قلعة جبلة
كانت جبلة من أعمال طرابلس وكان الروم قد ملكوها وولوا على المسلمين
بها ابن رئيسهم منصور بن صليحة يحكم بينهم فلما صارت للمسلمين رجع
أمرها لجمال الملك أبي الحسن علي بن عمار المستبدّ بطرابلس وبقي منصور
بن صليحة على عادته فيها ثم توفي منصور فقام إليه أبو محمد عبد الله
مقامه وأظهر الشماتة فارتاب به ابن عمار وأراد القبض عليه فعصى هو في
جبلة وأقام بها الخطبة العباسية واستنجد عليه ابن عمار دقاق بن تتش
فجاءه أتابك طغركين فامتنع عليهم ورجعوا ثم جاء الإفرنج فحاصروها
فامتنعت عليهم أيضا وشاع أنّ بركيارق جاء إلى الشام فرحلوا ثم عادوا
وأظهروا أنّ المصريين جاءوا لإنجاده فرحلوا ثم عادوا فتقدّم للنصارى
الذين عنده أن يدخلوا الإفرنج في نقب البلد من بعض أسواره فجهزوا إليهم
ثلاثمائة من أعيانهم فرفعهم بالحبال واحدا بعد واحد وهو قاعد على السور
حتى قتلهم أجمعين فرحلوا عنه ثم عادوا إليه فهزمهم وأسر ملكهم كبرانيطل
وفادى نفسه منه بمال عظيم ثم [1] ابن صليحة وجهده الحصار فأرسل إلى
طغركين صاحب دمشق وبعث ابن عمار في طلبه إلى الملك دقاق على أن يدفعه
إليه بنفسه دون ماله ويعطيه ثلاثين ألف دينار فلم يفعل وسار ابن صليحة
إلى بغداد فوعده إلى وصول رحلة من الأنبار فبعث الوزير من استولى عليها
فوجد فيها ما لا يحصى من الملابس والعمائم والمتاع وانتزع ذلك كله ولما
ملك تاج الملوك جبلة أساء فيها السيرة فراسلوا فخر الملك أبا علي بن
عمار صاحب طرابلس واستدعوه لملكها فبعث إليهم عسكرا وقاتلوا تاج الملك
ومن معه فهزموه وأخذوه أسيرا
__________
[1] كذا بياض بالأصل وهي عبارة مضطربة والأسماء محرفة. وفي الكامل 810
ص 311: وأتوا الفرنج من ظهورهم فولوا منهزمين واسر مقدمهم المعروف بكذا
اصطبل فافتدى نفسه بمال جزيل، ثم علم أنهم لا يقعدون عن طلبه وليس له
ما يمنعهم عنه فأرسل إلى طغمكين أتابك يلتمس منه إنقاذ من يثق به ليسلم
إليه ثغر جبله، ويحميه ليصل هو إلى دمشق بما له وأهله.
(5/212)
وملكوا جبلة بدعوة ابن عمار وحملوا تاج
الملك إلى ابن عمار فأحسن إليه وبعث إلى أبيه بدمشق واعتذر له بأنه خاف
على جبلة من الإفرنج.
استيلاء الإفرنج على سروج وقيسارية وغيرهما
ثم سار كبر يرى ملك الإفرنج من بيت المقدس سنة أربع وتسعين لحصارها
فأصابه منهم سهم فقتله فسار أخوه بغدوين في خمسمائة فارس إلى القدس
ونهض دقاق صاحب دمشق ومعه جناح الدولة صاحب حمص لاعتراضه فهزموا
الإفرنج وأثخنوا فيهم ثم كاتب أهل مدينة الإفرنج وكان أكبرهم ودخل في
طاعتهم وكان سقمان بن أرتو صاحب سروج جمع جموعه من التركمان وسار إلى
الرها فلقيه الإفرنج وهزموه في ربيع سنة أربع وتسعين وساروا إلى سروج
فحاصروهم حتى ملكوها عنوة واستباحوها ثم ملكوا حصن كيفا بقرب عكا عنوة
وملكوا أرسوف بالأمان ثم ساروا في رحب إلى قيسارية فملكوها عنوة
واستباحوها والله تعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه.
حصار الإفرنج طرابلس وغيرها
كان صنجيل من ملوك الإفرنج المذكورين قبل قد لازم حصار طرابلس وزحف
إليه قليج أرسلان صاحب بلاد الروم فظفر به وعاد صنجيل مهزوما فأرسل
الدولة بن عمار صاحب طرابلس إلى أمير آخر نائب جناح الدولة بحمص إلى
دقاق بن تتش يدعوه إلى معالجته فجاء تاج الدولة بنفسه وجاء العسكر مددا
من عند دقائق واجتمعوا على طرابلس وفرّق صنجيل الفلّ الذين معه على
قتالهم فانهزموا كلهم وفتك هو في أهل طرابلس وشدّ حصارها وأعانه أهل
الجبل والنصارى من أهل سوادها ثم صالحوه على مال وخيل ورحل عنهم إلى
طرسوس من أعمال طرابلس فحاصرها وملكها عنوة واستباحها إلى حصن الطومار
ومقدّمه ابن العريض فامتنع عليهم وقاتلهم صنجيل فهزموا عسكره وأسروا
زعيما من زعماء الإفرنج بدل صنجيل فيه عشرة آلاف دينار وألف أسير ولم
يعاوده وذلك كله سنة خمس وتسعين وأربعمائة ثم سار صنجيل إلى حصن
الأكراد وحاصره [1] جناح الدولة لغزوه فوثب عليه
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 345: وفيها سار صنجيل إلى حصن
الأكراد فحاصره، فجمع جناح الدولة عسكره ليسير إليه ويكبسه فقتله باطني
بالمسجد الجامع.
(5/213)
باطني بالمسجد وقتله ويقال أنّ رضوان بن
تتش وضعه عليه فسار صنجيل إلى حمص وحاصرها وملك أعمالها ثم نزل القمص
على عكا في جمادى الأخيرة من السنة فنفر المسلمون من جميع السواحل
لقتاله وهزموه وأحرقوا أهله والمنجنيقات التي نصبت للحرب ثم سار القمص
صاحب الرها الى السروج وحاصرها فامتنعت عليه وزحف عساكر مصر إلى عسقلان
للمدافعة عن سواحلهم فزحف إليهم بردويل صاحب القدس فهزمه المسلمون ونجا
إلى الرملة وهم في أتباعه فحاصروه وخلص إلى يافا وفشا القتل والأسر في
الإفرنج والله تعالى وليّ التوفيق.
حصار الإفرنج عسقلان وحروبهم مع عساكر مصر
لما طمع الإفرنج في عسقلان واستفحل أمرهم بالشام جهز الأفضل أمير
الجيوش عساكره من مصر لحربهم سنة ست وتسعين مع سعد الدولة القواسي مولى
أبيه وزحف بغدوين [1] ملك الإفرنج من القدس فلقيهم بين الرملة ويافا
وهزمهم ومات سعد الدولة متردّيا عن فرسه واستولى الإفرنج على سواده
وبعث الأفضل بعده ابنه شرف المعالي فلقيهم في العساكر على بازور قرب
الرملة فهزمهم ونال منهم ونجا كثير من أعيانهم إلى بعض الحصون هنالك
فحاصرهم شرف المعالي خمس عشرة ليلة وملك الحصن فقتل وأسر ونجا بقدوين
إلى يافا ثم إلى القدس فصادف وصول جمع كثير من الإفرنج لزيارة القدس
فندبهم للغزو فساروا إلى عسقلان وبها شرف المعالي فامتنعت ورجعوا وبعث
شرف المعالي إلى أبيه فبعث العساكر في البرّ مع تاج العجم مولى أبيه
والأسطول في البحر لحصار يافا مع القاضي ابن دقاوس فلما وصل الأسطول
إلى يافا بعث عن تاج العجم ليأتيه بالعساكر فامتنع فأرسل الأفضل من قبض
عليه وولي العساكر وعلى عسقلان جمال الملك من مواليهم فانصرمت السنة
وبيد الإفرنج بيت المقدس غير عسقلان ولهم أيضا من الشام يافا وأرسوف
وقيسارية وصيفا وطبرية والأردن واللاذبية وانطاكية ولهم بالجزيرة الرها
وسروج وصنجيل محاصر فخر الملك بن عمار بمدينة طرابلس وهو يرسل أسطوله
للإغارة على بلاد الإفرنج في كل ناحية ثم دخلت سنة سبع وتسعين فخرج
الإفرنج الذين بالرها فأغاروا على الرقة وقلعة جعفر واكتسحوا نواحيها
وكانت لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد منذ ملكه السلطان ملك شاه
إياها سنة تسع وسبعين كما مرّ والله أعلم.
__________
[1] هكذا ورد في بعض الأماكن من هذه النسخة والصحيح بغدوين.
(5/214)
استيلاء الإفرنج على
جبيل وعكا
وفي سنة سبع وتسعين وصلت مراكب من بلاد الإفرنج تحمل خلقا كثيرا من
التجار والحجاج فاستعان بهم صنجيل على حصار طرابلس فحاصرها حتى يئسوا
منها فارتحلوا إلى جبيل وملكوها بالأمان ثم غدروا بأهلها وأفحشوا في
استباحتها ثم استنجدهم بقدوين ملك القدس على حصار عكا فحاصروها برّا
وبحرا وفيها بهاء الدولة الجيوشي من قبل ملك الجيوش الأفضل صاحب مصر
فدافعهم حتى عجزوا وهرب عنها إلى دمشق وملك الإفرنج عكا عنوة وأفحشوا
في استباحتها والله تعالى أعلم.
غزو أمراء السلجوقية بالجزيرة الفرنج
كان المسلمون أيام تغلب الإفرنج على الشام في فتنة واختلاف تمكن بها
الإفرنج واستطالوا وكانت حران وحمص لمولى من موالي ملك شاه اسمه قراجا
والموصل لجكرمش وحصن كيفا لسقمان بن أرتق وعصى في حران على قراجا بأمته
فيها فاغتاله جاولي مولى من موالي الترك وقتله فطمع الإفرنج في حران
وحاصروها وكان بين جكرمش وسقمان فتنة وحرب فوضعوا أوزارها لتلافي حران
واجتمعا على الخابور وتحالفا ومع سقمان سبعة آلاف من قومه التركمان ومع
جكرمش ثلاثة آلاف من قومه الترك ومن العرب والأكراد وسار إليهم الإفرنج
من حران فاقتتلوا واستطرد لهم [1] المسلمون بعيدا ثم كرّوا عليهم
فأثخنوا فيهم واستباحوا أموالهم وكان إسمند صاحب انطاكية وشكري [2]
صاحب الساحل قد أكمنوا للمسلمين وراء الجبل فلم يظهر لهم أنهم أصحابهم
وأقاموا هنالك إلى الليل ثم هربوا وشعر بهم المسلمون فاتبعوهم وأثخنوا
فيهم وأسر في تلك الواقعة القمص بردويل صاحب الرها أسره بعض التركمان
من أصحاب سقمان فشق ذلك على أصحاب جكرمش لكثرة ما امتاز به التركمان من
الغنائم وحسنوا له أخذ القمص من [3] سقمان فأخذه وأراد التركمان محاربة
جكرمش وأصحابه عليه فمنعهم سقمان حذرا من اختلاف المسلمين وسار مفارقا
لهم وكان يمرّ
__________
[1] استطرد له: أظهر له الانهزام مكيدة.
[2] كذا بالأصل وفي الكامل: بيمند صاحب أنطاكية وطنكري صاحب الساحل.
[3] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 375: وحسنوا له أخذ القمص،
فأنفذ أخذ القمص من خيم سقمان فلما عاد سقمان شق عليه الأمر وركب
أصحابه للقتال فردهم.
(5/215)
بحصون الإفرنج فيخرجون إليه ظنا بنصر
أصحابهم فملكها عليهم وسار جكرمش إلى حران فملكها وولي عليها من قبله
ثم سار إلى الرها وحاصرها أياما وعاد إلى الموصل وفادى القمص بردوبل
بخمسة وثلاثين ألف دينار ومائة وستين أسيرا والله سبحانه وتعالى وليّ
التوفيق بمنه وكرمه.
حرب الإفرنج مع رضوان بن تتش صاحب حلب
ثم سار شكري صاحب أنطاكية من الإفرنج سنة ثمان وتسعين إلى حصن أريام من
حصون رضوان صاحب حلب فضاقت حالهم واستنجدوا برضوان فسار إليهم وخرج
الإفرنج للقائه ثم طلب الصلح من رضوان فمنعه أصبهبد صباوو من أمراء
السلجوقية كان نزع إليه بعد قتل صاحبه أياز ولقيهم الإفرنج فانهزموا
أوّلا ثم استماتوا وكرّوا على المسلمين فهزموهم وأفحشوا في قتلهم وقتل
الرجالة الذين دخلوا عسكرهم في الحملة الأولى ونجا رضوان وأصحابه إلى
حلب ولحق صباوو بطغركين أتابك دمشق ورجع الإفرنج إلى حصار الحصن فهرب
أهله إلى حلب وملكه الإفرنج والله تعالى ولي التوفيق.
حرب الإفرنج مع عساكر مصر
كان الأفضل صاحب مصر قد بعث سنة ثمان وتسعين ابنه شرف المعالي في
العساكر إلى الرملة فملكها وقهر الإفرنج ثم اختلف العسكر في ادعاء
الظفر وكادوا يقتتلون وأغار عليهم الإفرنج فعاد شرف المعالي إلى مصر
فبعث الأفضل ابنه الآخر سناء الملك حسينا مكانه في العساكر وخرج معه
جمال الدين صاحب عسقلان واستمدّوا طغركين أتابك دمشق فجهز إليهم أصبهبد
صباوو من أمراء السلجوقية وقصدهم بقدوين صاحب القدس وعكا فاقتتلوا
وكثرت بينهم القتلى واستشهد جمال الملك نائب عسقلان وتحاجزوا وعاد كل
إلى بلده وكان مع الإفرنج جماعة من المسلمين منهم بكباش بن تتش ذهب
مغاضبا عن دمشق لما عدل عنه طغركين الأتابك بالملك إلى ابن أخيه دقاق
وأقام عند الإفرنج والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه.
حرب الإفرنج مع طغركين
كان قمص من قمامصة الإفرنج بالقرب من دمشق وكان كثيرا ما يغير عليها
ويحارب عساكرها
(5/216)
فسار إليه طغركين في العساكر وجاء بقدوين
ملك القدس لإنجاده على المسلمين فردّه ذلك القمص ثقة بكفائه فرجع إلى
عكا وسار طغركين إلى الإفرنج فقاتلهم وحجزهم في حصنهم ثم خرب الحصن
وألقى حجارته في الوادي وأسر الحامية الذين به وقتل من سواهم من أهله
وعاد إلى دمشق ظافرا ثم سار بعد أسبوع إلى [1] وبه ابن أخت صنجيل فملكه
وقتل حاميته.
استيلاء الإفرنج على حصن أفامية
كان خلف بن ملاعب الكلابي متغلبا على حمص وملكها منه تتش كما مرّ
وانتقلت الأحوال إلى مصر ثم أنّ رضوان صاحب حلب انتفض عليه وإليه بحصن
أفامية وكان من الرافضة فبعث بطاعته إلى صاحب مصر واستدعى منهم واليا
فبعثوا خلف بن ملاعب لايثاره الجهاد وأخذوا رهنه فعبى [2] في افامية
واستبدّ بها واجتمع عليه المفسدون ثم ملك الإفرنج [3] من أعمال حلب
وأهله رافضة ولحق قاضيها بابن ملاعب في أفامية ثم اعمل التدبير عليه
وبعث إلى أبي طاهر الصائغ من أصحاب رضوان وأعيان الرافضة ودعاتهم
وداخله في الفتك بابن ملاعب وتسليم الحصن إلى رضوان وشعر بذلك ابنا ابن
ملاعب وحذرا أباهما من تدبير القاضي عليه وجاء القاضي فحلف له على كذبه
وصدّقه وعاد القاضي إلى مداخلة أبي طاهر ورضوان في ذلك التدبير وبعثوا
جماعة من أهل سرمين بخيول وسلاح يقصدون الخدمة عند ابن ملاعب فأنزلهم
بربض أفامية حتى تمّ التدبير وأصعدهم القاضي وأصحابه ليلا إلى القلعة
فملكوها وقتلوا ابن ملاعب وهرب ابناه فلحق أحدهما بأبي الحسن بن منقذ
صاحب شيرز وقتل الآخر وجاء أبو طاهر الصائغ إلى القاضي يعتقد ان الحصن
له فلم يمكنه القاضي وأقام عنده وكان بعض بني خلف بن ملاعب عند طغركين
بدمشق مغاضبا لأبيه فولاه حصنا من حصونه فأظهر الفساد والعيث فطلبه
طغركين فهرب إلى الإفرنج واستحثهم لملك أفامية فحاصروه حتى جهد أهله
الجوع وقتلوا القاضي المتغلب فيه والصائغ وذلك سنة تسع وتسعين
وخمسمائة.
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 400: وعاد طغتكين إلى دمشق
منصورا فزين البلد أربعة أيام وخرج منها إلى رفنية وهو من حصون الشام
وقد تغلب عليه الفرنج، وصاحبه ابن أخت صنجيل المقيم على حصار طرابلس
فحصره طغتكين وملكه، وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج.
[2] كذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 408: وأقام بأفامية يخيف السبيل
ويقطع الطريق، فاجتمع عنده كثير من المفسدين.
[3] كذا بياض بالأصل وفي الكامل: ثم أن الفرنج ملك أسرمين، وهي من
أعمال حلب (ج 10 ص 408) .
(5/217)
خبر الإفرنج في حصار
طرابلس
كان صنجيل من ملوك الإفرنج ملازما لحصار طرابلس وملك جبلة من يد ابن
أبي صليحة وبنى على طرابلس حصنا وأقام عليها ثم هلك وحمل إلى القدس
ودفن وأمر ملك الروم أهل اللاذقية أن يحملوا الميرة إلى الإفرنج
المحاصرين طرابلس فحملوها في السفن وظفر أصحاب ابن عمار ببعضها فقتلوا
وأسروا واستمرّ الحصن خمس سنين فعدمت الأقوات واستنفد أهل الثروة
مكسوبهم في الإنفاق وضاقت أحوالهم وجاءتهم سنة خمسمائة ميرة في البحر
من جزيرة قبرص وأنطاكية وجزائر البنادقة فحفظت أرماقهم ثم بلغ ابن عمار
انتظام الأمر للسلطان محمد بن ملك شاه بعد أخيه بركيارق فارتحل إليه
صريخا واستخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب في طرابلس وخيم ابن عمار
على دمشق وأكرمه طغركين ثم سار إلى بغداد فأكرمه السلطان محمد وأمر
بتبليغه والاحتفال لقدومه ووعده بالإنجاد ولما رحل عن بغداد أحضره عنده
بالنهروان وأمر الأمير حسين بن أتابك قطلغتكين بالمسير معه وأن يستصحب
العساكر التي بعثها مع الأمير مودود إلى الموصل لقتال جاولي سكاوو
وأمره بإصلاح جاولي والمسير مع ابن عمار حسبما مرّ في أخبارهم ثم وقعت
الحرب بين السلطان محمد وبين صدقة بن مزيد واصطلحوا وودّعه ابن عمار
بعد أن خلع عليه وسار معه الأمير حسين فلم يصل إلى قصده من عساكر
الموصل [1] مودود والانتقاض فعاد فخر الدين بن عمار إلى دمشق في محرّم
سنة اثنتين وخمسمائة وسار منها إلى [1] فملكها وبعث أهل طرابلس إلى
الأفضل أمير الجيوش بمصر يستمدّونه ويسألون الوالي عليهم فبعث إليهم
شرف الدولة بن أبي الطيب بالمدد والأقوات والسلاح وعدّة الحصار واستولى
على ذخائر ابن عمار وقبض على جماعة من أهله وحمل الجميع في البحر إلى
مصر.
خبر القمص صاحب الرها مع جاولي ومع صاحب
أنطاكية
كان جاولي قد ملك الموصل من يد أصحاب جكرمش ثم انتقض فبعث السلطان إليه
مودود في العساكر فسار جاولي عن الموصل وحمل معه القمص بردويل صاحب
الرها الّذي كان
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 464: فقفل حسين ذلك، وسار معه
صاحب جاولي، فلما وصل إلى العسكر الّذي على الموصل وكانوا لم يفتحوها
بعد، أمرهم حسين بالرحيل فكلّهم أجاب إلّا الأمير مودود فإنه قال: لا
أرحل إلّا بأمر السلطان وقبض على صاحب جاولي وأقام على الموصل حتى
فتحها كما ذكرناه وعاد حسين بن قطلغتكين إلى السلطان فأحسن النيابة عن
جاولي عنده. وسار جاولي إلى مدينة بالس.
(5/218)
أسره سقمان وأخذه منه جكرمش وأصحابه وترك
الموصل ثم أطلق جاولي هذا القمص في سنة ثلاث وخمسمائة بعد خمس سنين من
أسره على مال قرّره عليه وأسرى من المسلمين عنده يطلقهم وعلى أن يمدّه
بنفسه وعساكره وماله متى أحتاج إلى ذلك ولما انبرم العقد بينهما بعث
يوالي سالم بن مالك بقلعة جعفر حتى جاءه هناك ابن خاله جوسكين تل ناشر
[1] فأقام رهينة مكانه ثم أطلقه جاولي ورهن مكانه أخا زوجته وزوجة
القمص فلما وصل جوسكين إلى منبج أغار عليها ونهبها وسبى جماعة من أصحاب
جاولي الى الغدر فاعتذر بأنّ هذه البلاد ليست لكم ولما أطلق القمص سار
إلى أنطاكية ليستردّ الرها من يد شكري لأنه أخذها بعد أسره فلم يردّها
وأعطاه ثلاثين ألف دينار ثم سار القمص إلى تل ناشر وقدم عليه أخوه
جوسكين الّذي وضعه رهينة عند جاولي وسار شكري صاحب أنطاكية لحربهما قبل
أن يستفحل أمرهما وينجدهما جاولي فقاتلوه ورجع إلى أنطاكية وأطلق القمص
مائة وستين من أسرى المسلمين ثم سار القمص وأخوه جوسكين وأغاروا على
حصون أنطاكية وأمدّهم صاحب زغبان وكيسوم [2] وغيرهما من القلاع شمال
حلب وهو من الأرمن بألف فارس وألقى راجل وخرج إليهم شكري وتراجعوا
للحرب ثم حملهم الترك على الصلح وحكم على شكري بردّ الرها على القمص
صاحبها بعد أن شهد عنده جماعة من البطارقة والأساقفة بأنّ اسمند خال
شكري لما انصرف إلى بلاده أوصاه بردّ الرها على صاحبها إذا خلص من
الأسر فردّها شكري على القمص في صفر سنة ثلاث ووفى القمص لجاولي بما
كان بينهما ثم قصد جاولي الشام ليملكه وتنقل في نواحيه كما مرّ في
أخباره وكتب رضوان صاحب حلب إلى شكري صاحب أنطاكية يحذره من جاولي
ويستنجده عليه فأجابه وبرز من أنطاكية وبعث إليه رضوان بالعساكر
واستنجد جاولي القمص صاحب الرها فأنجده بنفسه ولحق به على منبج وجاءه
الخبر هنالك باستيلاء عسكر السلطان على بلده الموصل وعلى خزائنه بها
وفارقه كثير من أصحابه منهم زنكي بن آق سنقر فنزل جاولي تل ناشر وتزاحف
مع شكري [3] هنالك
__________
[1] وفي بعض النسخ جوسكين تل باشر. وهنا عبارة مشوشة وفي الكامل 8 ص
253 فلما اتفقا على ذلك سير القمص إلى قلعة جعبر وسلمه إلى صاحبها سالم
بن مالك حتى ورد عليه ابن خالته جوسلين، وهو من فرسان الفرنج وشجعانها،
وهو صاحب تل باشر وغيرها.
[2] ورد في معجم البلدان: كيسوم: الكثير من الحشيش. وهي قرية مستطيلة
من أعمال سميساط، وفيها حصن كبير على تلعه كانت لنصر بن شيث تحصن فيه
من المأمون حتى ظفر به عبد الله بن ظاهر فأخرجه، ثم أحدث بعد فيها
مياها وبساتين.
[3] وفي الكامل ج 12/ 192 لشكري وهو الصحيح.
(5/219)
واشتدّ القتال واستمرّ أصحاب أنطاكية
فتخاذل أصحاب جاولي وانهزموا وذهب الإفرنج بسوادهم فجاء القمص وجوسكين
إلى تل ناشر والله تعالى أعلم.
حروب الإفرنج مع طغركين
كان طغركين قد سار إلى طبرية سنة ثنتين وخمسمائة فسار إليه ابن أخت
بقدوين ملك القدس واقتتلوا فانكشف المسلمون ثم استماتوا وهزموا الإفرنج
وأسروا ابن أخت الملك فقتله طغركين بيده بعد أن فادى نفسه بثلاثين ألف
دينار وخمسمائة أسير فلم يقبل منه إلا الإسلام أو القتل ثم اصطلح
طغركين وبقدوين لمدّة أربع سنين وكان حصن غزيّة من أعمال طرابلس بيد
مولى ابن عمار فعصى عليه وانقطعت عنه الميرة بعيث الإفرنج في نواحيه
فأرسل إلى طغركين بطاعته فبعث إسرائيل من أصحابه ليمتلك الحصن ونزل منه
مولى ابن عمار فرماه إسرائيل في الزحام بسهم فقتله حذرا أن يطلع
الأتابك على مخلفه وقصد طغركين الحصن لمشارفة أحواله فمنعه نزول الثلج
حتى إذا انقشع وانجلى سار في أربعة آلاف فارس وفتح حصونا للإفرنج منها
حصن الأكمة وكان السرداني من الإفرنج يحاصر طرابلس فسار للقائه فلما
أشرف عليه انهزم طغركين وأصحابه إلى حمص وملك السرداني حصن غزية
بالأمان ووصل طغركين إلى دمشق فبعث إليه بقدوين من القدس بالبقاء على
الصلح وذلك في شعبان سنة اثنتين.
استيلاء الإفرنج على طرابلس وبيروت وصيدا
وجبيل وبانياس
ولما عادت طرابلس إلى صاحب مصر من يد ابن عمار وولي عليها نائبة
والإفرنج يحاصرونها وزعيمهم السرداني ابن أخت صنجيل فلما كانت سنة ثلاث
وخمسمائة في شعبان ووصل القمص والد صنجيل وليس صنجيل الأوّل وإنما هو
قمص آخر بمراكب عديدة مشحونة بالرجال والسلاح والميرة وجرت بينه وبين
السرداني فتنة واقتتلوا وجاء شكري صاحب أنطاكية مددا للسرداني ثم جاء
بقدوين ملك القدس وأصلح بينهم وحاصروا طرابلس ونصبوا عليها الأبراج
فاشتدّ بهم الحصار وعدموا القوت لتأخر الأسطول المصري بالميرة ثم زحفوا
إلى قتالها بالأبراج وملكوها عنوة ثاني الأضحى واستباحوها وأثخنوا فيها
وكان النائب
(5/220)
بها قد استأمن إلى الإفرنج قبل ذلك بليال
وملكها بالأمان ونزل على مدينة جبيل وبها فخر الملك بن عمار فاستأمنوا
إلى شكري وملكها ولحق ابن عمار بشيرز فنزل على صاحبها سلطان بن علي بن
منقذ الكناني ولحق منها بدمشق فأكرمه طغركين وأقطعه الزبداني من أعمال
دمشق في محرّم سنة أربع ووصل أسطول مصر بالميرة بعد أخذ طرابلس بثمانية
أيام فأرسى بساحل صور وفرقت الغلال في جهاتها في صور وصيدا وبيروت ثم
استولى الإفرنج على صيدا في ربيع الآخر سنة أربع وخمسمائة وذلك أنه وصل
أسطول للإفرنج من ستين مركبا مشحونة بالرجال والذخائر وبها ملوكهم بقصد
الحج والغزو فاجتمع مع بقدوين صاحب القدس ونازلوا صيدا برّا وبحرا
وأسطول مصر يعجز عن انجادهم ثم زحفوا إلى صور في أبراج الخشب المصفحة
فضعفت نفوسهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت فاستأمنوا فأمنهم
الإفرنج في جمادى الأولى ولحقوا بدمشق بعد سبعة وأربعين يوما من الحصار
وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان وعاد بقدوين إلى القدس.
استيلاء أهل مصر على عسقلان
كانت عسقلان لخلفاء العلوية بمصر وقد ذكرنا حروب الإفرنج مع عساكرهم
عليها وآخر من استشهد منهم جمال الملك نائبها كما مرّ آنفا وولي عليها
شمس الخلافة فراسل بقدوين ملك القدس وهاداه ليمتنع به من الخليفة بمصر
وبعث الأفضل ابن أمير الجيوش العساكر إليه سنة أربع وخمسمائة مع قائد
من قوادهم موريا بالغزو وأسرّ إليه بالقبض على شمس الخلافة والولاية
مكانه بعسقلان وشعر شمس الخلافة بذلك فجاهر بالعصيان فخشي أن يملكها
الإفرنج فراسله وأقرّه على عمله وعزل شمس الخلافة جند عسقلان واستنجد
جماعة من الأرمن فاستوحش منه أهل البلد ووثبوا به فقتلوه وبعثوا إلى
الأمير الأفضل صاحب مصر المستولي عليها بطاعتهم فجاءهم الوالي من قبله
واستقامت أمورهم.
استيلاء الإفرنج على حصن الأثارب وغيره
ثم جمع شكري صاحب أنطاكية واحتشد وسار إلى حصن الأقارب [1] على ثلاثة
فراسخ من حلب فحاصره وملكه عنوة وأثخن فيهم بالقتل والسبي ثم سار إلى
حصن وزدناد [2]
__________
[1] هو حصن (الأثارب) كما في الكامل ج 10 ص 481.
[2] هو حصن (زردنا) كما في الكامل ج 10 ص 481.
(5/221)
ففعل فيه مثل ذلك وهرب أهله منه ومارس على
بلديهما [1] ثم سار عسكر من الإفرنج إلى مدينة صيدا فملكوها على الأمان
وأشفق المسلمون من استيلاء الإفرنج على الشام وراسلوهم في الهدنة
فامتنعوا الا على الضريبة فصالحهم رضوان صاحب حلب على اثنين وثلاثين
ألف دينار وعدّة من الخيول والثياب وصاحب صور على سبعة آلاف دينار وابن
منقذ صاحب شيرز [2] على أربعة آلاف دينار وعلي الكردي صاحب حماة على
ألفي دينار ومدّة الهدنة إلى حصاد الشعير ثم اعترضت مراكب الإفرنج
مراكب التجار من مصر فأخذوها وأسروهم وسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد
للنفير فدخلوها مستغيثين ومعهم خلق من الفقهاء والغوغاء وقصدوا جامع
السلطان يوم الجمعة فمنعوا الناس من الصلاة بضجيجهم وكسروا المنبر
فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد وبعث من دار الخلافة منبرا
للجامع ثم قصدوا في الجمعة الثانية جامع القصر في مثل جمعهم ومنعهم
صاحب الباب فدفعوا ودخلوا الجامع وكسروا شبابيك المقصورة والمنبر وبطلت
الجمعة وأرسل الخليفة إلى السلطان في رفع هذا الحزن فأمر الأمراء
بالتجهز للجهاد وأرسل ابنه الملك مسعودا مع الأمير مودود صاحب الموصل
ليلحق به الأمراء ويسيروا جميعا إلى قتال الإفرنج.
مسير الأمراء السلجوقية إلى قتال الإفرنج
ولما سار مسعود ابن السلطان مع الأمير مودود إلى الموصل اجتمع معهم
الأمراء سقمان القطبي صاحب ديار بكر وابنا برسق إبلتكي وزنكي أصحاب
همذان والأمير أحمد بك صاحب مراغة وأبو الهيجاء صاحب أربل وأياز بن أبي
الغازي بعثه أخوه صاحب ماردين وساروا جميعا إلى سنجار وفتحوا عدّة حصون
للإفرنج ونزلوا على مدينة الرها وحاصروا واجتمعوا مع الإفرنج على
الفرات وخام الطائفتان عن اللقاء وتأخر المسلمون إلى حران يستطردون
للإفرنج لعلهم يعبرون الفرات فخالفهم الإفرنج إلى الرها وشحنوها أقواتا
وعدّة وأخرجوا الضعفاء منها ثم عبروا الفرات إلى نواحي حلب لأن الملك
رضوان صاحبها لما عبروا إلى الجزيرة ارتجع بعض الحصون التي كان الإفرنج
أخذوها بأعمال حلب فطرقوها الآن فاكتسحوا نواحيها وجاءت عساكر السلطان
إلى الرها وقاتلوها فامتنعت عليهم فعبروا الفرات وحاصروا قلعة تل
__________
[1] هنا عبارة سقطت أثناء النسخ أو الطبع. وفي الكامل: فلما سمع أهل
منبج بذلك فارقوها خوفا من الفرنج وكذلك أهل بالس. وقصد الفرنج البلدين
فرأوهما وليس بهما أنيس فعادوا عنها.
[2] شيزر. قلعة تشمل على كورة بالشام قرب المعرة، بينها وبين حماة يوم.
وهي قديمة ذكرها امرؤ القيس في قوله:
تقطع أسباب اللبانة والهوى عشبة جاوزنا حماة وشيزرا.
(5/222)
ناشر شهرا ونصفا فامتنعت فرحلوا الى حلب
فقعد الملك رضوان عن لقائهم ومرض هنالك سقمان القطبي ورجعوا فتوفي في
بالس وحمل شلوه إلى بلده ونزلت العساكر السلطانية على معرّة النعمان
فخرج طغركين صاحب دمشق إلى مودود ونزل عليه ثم ارتاب لما رأى من
الأمراء في حقه فدسّ للإفرنج بالمهادنة ثم افترقت العساكر كما ذكرنا في
أخبارهم وبقي مودود مع طغركين على نهر العاصي وطمع الإفرنج بافتراقهم
فساروا إلى افامية وخرج سلطان بن منقذ صاحب شيرز إلى مودود طغركين فرحل
بهم إلى شيرز وهون عليهم أمر الإفرنج وضاقت الميرة على الإفرنج فرحلوا
وأتبعهم المسلمون يتخطفون من أعقابهم أبعدوا والله تعالى أعلم.
حصار الإفرنج مدينة صور
ولما افترقت العساكر السلطانية خرج بقدوين ملك القدس وجمع الافرنج
ونزلوا على مدينة صور في جمادى الاولى من سنة خمس وهي للأمير الأفضل
صاحب مصر ونائبة بها عز الملك الاغرّ ونصبوا عليها الأبراج والمجانيق
وانتدب بعض الشجعان من أهل طرابلس كان عندهم في ألف رجل وصدقوا الحملة
حتى وصلوا البرج المتصل بالسور فأحرقوه ورموا الآخرين بالنفط فأحرقوهم
واشتدّ القتال بينهم وبعث أهل صور الى طغركين صاحب دمشق يستنجدونه على
أن يمكنوه من البلد فجاء الى بانياس وبعث اليهم بمائتي فرس واشتدّ
القتال وبعث نائب البلد الى طغركين بالاستحثاث للوصول ليمكنه من البلد
وكان طغركين يغير على أعمال الافرنج في نواحيها وملك لهم حصنا من أعمال
دمشق وقطع الميرة عنهم فساروا يحملونها في البحر ثم سار الى صيدا وأغار
عليها ونال منها ثم أزهت الثمرة وخشي الافرنج من طغركين على بلادهم
فأفرجوا عن صور الى عكا وجاء طغركين الى صور فأعطى [1] الأموال
واشتغلوا بإصلاح سورهم وخندقهم والله أعلم.
أخبار مودود مع الإفرنج ومقتله ووفاة صاحب
انطاكية
ثم سار الأمير مودود صاحب الموصل سنة ست الى سروج وعاث في نواحيها فخرج
جكرمش صاحب تل ناشر وأغار على دوابهم فاستاقها من راعيها وقتل كثيرا من
العسكر
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 10 ص 490: وقاتل أهل صور قتال من
أيس من الحياة فدام القتال الى أوان ادراك الفلات فخاف الفرنج ان
طغتكين يستولي على غلات بلادهم فساروا عن البلد عاشر شوّال الى عكا،
وعاد عسكر طغتكين اليه، وأعطاهم أهلها الأموال وغيرها، ثم أصلحوا ما
تشعّث من سورها وخندقها، وكان الفرنج قد طمّوه.
(5/223)
ورجع ثم توفي الأمير الارمني صاحب الدروب
ببلاد ابن كاور فسار شكري صاحب انطاكية من الافرنج الى بلاده ليملكها
فمرض وعاد الى انطاكية ومات منتصف سنة ست وملكها بعده ابن أخته سرجان
واستقام أمره ثم جمع الأمير مودود صاحب الموصل العساكر واحتشد وجاءه
تميرك صاحب سنجار وأياز بن أبي الغازي صاحب ماردين وطغركين صاحب دمشق
ودخلوا في محرّم سنة سبع الى بلاد الافرنج وخرج بقدوين ملك القدس
وجوسكين صاحب القدس يغير على دمشق فعبروا الفرات وقصدوا القدس ونزلوا
على الأردن والافرنج عدوتهم واقتتلوا منتصف المحرّم فانهزم الافرنج
وهلك منهم كثير في بحيرة طبرية والأردن وغنم المسلمون سوادهم وساروا
منهزمين فلقيهم عسكر طرابلس وانطاكية فشردوا معهم وأقاموا على جبل
طبرية وحاصرهم المسلمون نحوا من شهر فلم يظفروا بهم فتركوهم وانساحوا
[1] في بلاد الافرنج ما بين عكا والقدس واكتسحوها ثم انقطعت المواد
عنهم للبعد عن بلادهم فعادوا الى مرج الصفر على نية العود للغزاة في
فصل الربيع وأذنوا للعساكر في الانطلاق ودخل مودود الى دمشق يقيم بها
الى أوان اجتماعهم فطعنه باطني في الجامع منصرفه من صلاة الجمعة آخر
ربيع الأوّل من السنة ومات من يومه وأتهم طغركين بقتله والله تعالى
أعلم.
أخبار البرسقي مع الافرنج
ولما قتل مودود بعث السلطان محمد مكانه آقسنقر البرسقي ومعه ابنه
السلطان مسعود في العساكر لقتال الافرنج وبعث الى الأمراء بطاعته فجاءه
عماد الدين زنكي بن آقسنقر وتميرك صاحب سنجار وسار الى جزيرة ابن عمر
وملكها من يد نائب مودود ثم سار الى ماردين فحاصرها الى أن أذعن أبو
الغازي صاحبها وبعث معه ابنه ايازا في العساكر فساروا الى الرها
وحاصروها في ذي الحجة سنة ثمان مدّة سبعين يوما فامتنعت وضاقت الميرة
على المسلمين فرحلوا الى شمشاط وسروج وعاثوا في تلك النواحي وهلك في
خلال ذلك بكواسيل صاحب مرعش وكيسوم وزغبان من الافرنج وملكت زوجته بعده
وامتنعت من الافرنج وأرسلت الى البرسقي على الرها بطاعته فبعث اليها
صاحب الخابور فردّته بالأموال والهدايا وبطاعتها فعاد من كان عندها من
الافرنج الى انطاكية والله أعلم.
__________
[1] انساحوا: اندفعوا.
(5/224)
الحرب بين العساكر
السلطانية والفرنج
كان السلطان محمد قد تنكر لطغركين صاحب دمشق لاتهامه إياه بقتل مودود
فعصى وأظهر الخلاف وتابعه أبو الغازي صاحب ماردين لما كان بينه وبين
البرسقي فاهتمّ السلطان شأنهما وشأن الافرنج وقوّتهم وجهز العساكر مع
الأمير برسق صاحب همذان وبعث معه الأمير حيوس بك والأمير كسقري وعساكر
الموصل والجزيرة وأمرهم بغزو الافرنج بعد الفراغ من شأن أبي الغازي
وطغركين فساروا في رمضان سنة ثمان وعبروا الفرات عند الرميلة وجاءوا
الى حلب وبها لؤلؤ الخادم بعد رضوان ومقدم العساكر شمس الخواص وعرضوا
عليهما كتب السلطان بتسليم البلد فدافعا بالجواب واستنجدا أبا الغازي
وطغركين فوصلا اليهما في ألفي فارس وامتعا بها على العسكر فسار الأمير
برسق الى حماة من أعمال طغركين فملكها عنوة ونهبها ثلاثا وسلمها للأمير
قرجان صاحب حمص بأمر السلطان بذلك في كل بلد يفتحونه فنفس عليه الأمراء
ذلك وفسدت ضمائرهم وكان أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص قد ساروا الى
انطاكية مستنجدين بصاحبها روميل على مدافعتهم عن حماة فبلغهم فتحها
ووصل اليهم بأنطاكية بقدوين ملك القدس وطرابلس وغيره من شياطين الافرنج
واجتمعوا على افامية واتفقوا على مطاولة المسلمين الى فصل الشتاء
ليتفرّقوا فلما أظلّ الشتاء والمسلمون مقيمون عاد أبو الغازي الى
ماردين وطغركين الى دمشق والافرنج الى بلادهم وقصد المسلمون كفرطاب
وكانت هي وافامية للافرنج فملكوها عنوة وفتكوا بالافرنج فيها وأسروا
صاحبها ثم ساروا الى قلعة افامية فاستعصت عليهم فعادوا الى المعرة وهي
للافرنج وفارقهم الأمير حيوس بك الى وادي مراغة فملكه وسارت العساكر من
المعرّة الى حلب وأثقالهم ودوابهم وهم متلاصقون فوصلت مقدمتهم الى
الشام وخربوا الابنية وكان روميل صاحب انطاكية قد سار في خمسمائة فارس
وألفي راجل للمدافعة عن كفر طاب وأظلّ على خيام المسلمين قبل وصولهم
فقتل من وجد بها من السوقة والغلمان وأقام الافرنج بين الخيام يقتلون
كل من لحق بها حتى وصل الأمير برسق وأخوه زنكي فصعدا ربوة هناك وأحاط
الفلّ من المسلمين به وعزم برسق على الاستماتة ثم غلبه اخوه زنكي على
النجاة فنجا فيمن معه واتبعهم الافرنج فرسخا ورجعوا عنه وافترقت
العساكر الإسلامية منهزمة الى بلادها وأشفق أهل حلب وغيرها من بلاد
الشام من الافرنج بعد هذه الواقعة وسار الافرنج الى رميلة من أعمال
دمشق فملكوها وبالغوا في تحصينها واعتزم طغركين على تخريب بلاد الافرنج
ثم بلغه الخبر عن خلو رميلة من
(5/225)
الحامية فبادر اليها سنة تسع وملكها عنوة
وقاتل وأسر وغنم وعاد الى دمشق ولم تزل رميلة بين المسلمين الى أن
حاصرها الافرنج سنة عشرين وخمسمائة وملكوها والله أعلم.
وفاة ملك الافرنج وأخبارهم بعده مع
المسلمين
ثم توفى بقدوين ملك الافرنج بالقدس آخر سنة احدى عشرة وخمسمائة وكان قد
زحف الى ديار بكر طامعا في ملكها فانتهى الى تنيس وشج في الليل فانتقض
عليه جرحه وعاد الى القدس فمات وعاد القمص صاحب الرها الّذي كان أسره
جكرمش وأطلقه جاولي وكان حاضرا عنده لزيارة قمامة وكان أتابك طغركين قد
سار لقتال الافرنج ونزل اليرموك فبعث اليه قمص في المهادنة فاشترط
طغركين ترك المناصفة من جبل عردة الى الغور فلم يقبل القمص فسار طغركين
الى طبرية ونهب نواحيها وسار منها الى عسقلان ولقي سبعة آلاف من عساكر
مصر قد جاءوا في أثر بقدوين عند ما ارتحل عن ديار بكر فاعلموا أنّ
صاحبهم تقدّم اليهم بالوقوف عند أمر طغركين فشكر لهم ذلك وعاد الى دمشق
وأتاه الخبر بأنّ الافرنج قصدوا أذرعات ونهبوها بعد ان ملكوا حصنا من
أعماله فأرسل اليهم تاج الملك بوري في أثرهم فحاصرهم في جبل هناك حتى
يئسوا من أنفسهم وصدقوا الحملة عليهم فهزموهم وأفحشوا في القتل وعاد
الفلّ الى دمشق وسار طغركين الى حلب يستنجد أبا الغازي فوعده بالمسير
معه ثم جاء الخبر بأنّ الافرنج قصدوا أعمال دمشق فنهبوا حوران
واكتسحوها فرجع طغركين الى دمشق وأبو الغازي الى ماردين الى حشد
العساكر وقصدوا الاجتماع على حرب الافرنج ثم سار الافرنج سنة ثلاثة عشر
الى نواحي حلب فملكوا مراغة ونازلوا المدينة فصانعهم أهلها بمقاسمتهم
أملاكهم وزحف أبو الغازي من ماردين في عشرين ألفا من العساكر والمتطوعة
ومعه أسامة بن مالك بن شيرز الكاني والأمير طغان ارسلان بن افتكين ابن
جناح صاحب ارزن وسار الافرنج الى صنبيل عرمس [1] قرب الاثارب فنزلوا به
في موضع منقطع المسالك وعزموا على المطاولة فناجزهم أبو الغازي وسار
اليهم ودخل عليهم في مجتمعهم وقاتلوه أشدّ القتال فلم يقاوموه وفتك
فيهم فتكة شنعاء وقتل فيهم سرحان صاحب انطاكية وأسر سبعون من زعمائهم
وذلك منتصف ربيع من السنة ثم اجتمع فلّ [2] الأفرنج
__________
[1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 554: فنزلوا قريبا من الأثارب بموضع
يقال له تل يمغرين بين جبال ليس.
[2] فل: جمعها افلال وفلول: منهزم ومنهزمون.
(5/226)
وعادوا الحرب فهزمهم أبو الغازي وملك عليهم
حصن آلات ربّ وزدناد [1] وجاء الى حلب فأصلح أحوالها وعاد الى ماردين
ثم سار جوسكين صاحب تل ناشر في مائتين من الافرنج ليكبس حلة من احياء
طيِّئ يعرفون ببني خالد فأغار عليهم وغنم أموالهم ودلوه على بقية قومهم
من بني ربيعة فيما بين دمشق وطبرية فبعث أصحابه اليهم وسار هو من طريق
آخر فضلّ عن الطريق ووصل أصحابه اليهم وأميرهم مر من ربيعة فقاتلهم
وغلبهم وقتل منهم سبعين وأسر اثني عشر ففاداهم بمال جزيل وأصناف عدّتهم
من الأسرى وبلغ الى جوسكين في طريقه فعاد الى طرابلس وجمع جمعا وأغار
على عسقلان فهزمه المسلمون وعاد مفلولا والله أعلم.
ارتجاع الرها من الافرنج
ثم سار بهرام أخو أبي الغازي الى مدينة الرها وحاصرها مدّة فلم يظفر
بها فرحل عنها ولقيه النذير بأنّ جوسكين صاحب الرها وسروج قد سار
لاعتراضه وقد تفرّق عن مالك أصحابه فاستجاب لما وصل اليه الافرنج
ودفعهم لأرض سنجة فوصلت فيها خيولهم فلم يفلت منهم أحد وأسر جوسكين
وخاط عليه جلد جمل وفادى نفسه بأموال جليلة فأبى مالك من فديته الا أن
يسلم حصن الرها فلم يفعل وحبسه في خرت برت ومعه كلمام ابن خالته وكان
من شياطينهم وجماعة من زعمائهم والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
استيلاء الافرنج على خرت برت وارتجاعها
منهم
كان مالك بن بهرام صاحب خرت برت وكان في جواره الافرنج في قلعة كركر
فحاصرهم بها وسار بقدوين اليه في جموعه فلقيه في صفر سنة سبعة عشر فهزم
الافرنج وأسر ملكهم وجماعة من زعمائهم وحبسهم مالك في قلعة خرت برت مع
جوسكين صاحب الرها وأصحابه وسار مالك الى حران في ربيع الأول وملكها
ولما غاب من خرت برت تحيل الافرنج وخرجوا من محبسهم بمداخلة بعض الجند
وسار بقدوين الى بلده وملك الآخرون القلعة فعاد مالك اليهم وحاصرها
وارتجعها من أيديهم ورتب فيها الحامية والله تعالى وليّ التوفيق.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: حصن الاثارب ورزدنا.
(5/227)
استيلاء الإفرنج على
مدينة صور
كانت مدينة صور لخلفاء العلوية بمصر وكان بها عز الملك من قبل الأفضل
ابن أمير الجيوش المستبدّ على الأمر بمصر وتجهز الإفرنج لحصارها سنة ست
فاستمدّوا طغركين صاحب دمشق فأمدهم بعسكر ومال مع وال من قبله اسمه
مسعود فجاء إليها ولم يغير دعوة العلوية بها في خطبة ولا سكة وكتب إلى
الأفضل بذلك وسأله تردّد الأسطول إليه بالمدد فأجابه وشكره ثم قتل
الأفضل وجاء الأسطول إليها من مصر على عادته وقد أمر مقدّمه أن يعمل
الحيلة في القبض على مسعود الوالي بصور من قبل طغركين لشكوى أهل مصر
منه فقبض عليه مقدم الأسطول وحمله إلى مصر وبعثوا به إلى دمشق وأقام
الوالي من قبل أهل مصر في مدينة صور وكتب إلى طغركين بالعذر عن القبض
على مسعود واليه وكان ذلك سنة ستة عشر ولما بلغ الإفرنج انصراف مسعود
عن صور قوى طمعهم فيها وتجهزوا لحصارها وبعث الوالي الأمير بذلك وبعجزه
عن مقاومة حصارهم لها وسار طغركين إلى بانياس ليكون قريبا من صريخها
[1] وبعث إلى أهل مصر يستنجدهم فراسل الإفرنج في تسليم البلد وخروج من
فيها فدخلها الإفرنج آخر جمادى الأولى من السنة بعد أن حمل أهلها ما
أطاقوا وتركوا ما عجزوا عنه والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتح البرسقي كفرطاب وانهزامه من الإفرنج
ثم جمع البرسقي عساكره وسار سنة تسعة عشر إلى كفرطاب [2] وحاصرها
فملكها من الإفرنج ثم سار إلى قلعة أعزاز شمالي حلب وبها جوسكين
فحاصرها واجتمع الإفرنج وساروا لمدافعته فلقيهم وقاتلهم شديدا فحص الله
المسلمين وانهزموا وفتك النصارى فيهم ولحق البرسقي بحلب بها ابنه
مسعودا وعبر الفرات إلى الموصل ليستمدّ العساكر ويعود لغزوهم فقضى الله
بمقتله وولى ابنه عز الدين بعده قليلا ثم مات سنة إحدى وعشرين وولى
السلطان محمود عماد الدين زنكي بن آقسنقر مكانه على الموصل والجزيرة
وديار بكر كما مرّ في أخبار دولة السلجوقية ثم استولى منها على الشام
وأورث ملكها بنيه فكانت لهم دولة عظيمة بهذه
__________
[1] صريخ: استغاثة.
[2] كفرطاب: بلدة بين معرة النعمان ومدينة حلب في برية معطشة.
(5/228)
الأعمال نذكرها أن شاء الله تعالى ونشأت عن
دولتهم دولة بني أيوب وتفرّعت منها كما نذكره ونحن الآن نترك من أخبار
الإفرنج هنا جميع ما يتعلق بدولة بني زنكي وبني أيوب حتى نوردها في
أخبار تينك الدولتين لئلا تتكرّر الأخبار ونذكر في هذا الموضع من أخبار
الإفرنج ما ليس له تعلق بالدولتين فإذا طالعة المتأمل علم كيف يردّ كل
خبر إلى مكانه بجودة قريحته وحسن تأنيه.
الحرب بين طغركين والإفرنج
ثم اجتمعت الإفرنج سنة عشرين وخمسمائة وساروا إلى دمشق ونزلوا مرج
الصفر واستنجد طغركين صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها فجاءوا
إليه وكان هو قد سار إلى جهة الإفرنج آخر سنة عشرين وقاتلهم وسقط في
المعترك فظنّ أصحابه أنه قتل فانهزموا وركب فرسه وسار معهم منهزما
والإفرنج في إتباعهم وقد أثخنوا في رجاله التركمان فلما أتبعوا
المنهزمين خالف الرجالة إلى معسكرهم فنهبوا سوادهم وقتلوا من وجدوا فيه
ولحقوا بدمشق ورجع الإفرنج عن المنهزمين فوجدوا خيامهم منهوبة فساروا
منهزمين ثم كان سنة ثلاث وعشرين واقعة المزدغاني والإسماعيلية بدمشق
بعد أن طمع الإفرنج في ملكها فأسف ملوك الإفرنج على قتله وسار صاحب
القدس وصاحب أنطاكية وصاحب طرابلس وغيرهم من القمامصة ومن وصل في البحر
للتجارة أو الزيارة وساروا إلى دمشق في ألفي فارس ومن الرجال ما لا
يحصى وجمع طغركين من العرب والتركمان ثمانية آلاف فارس وجاء الإفرنج
آخر السنة ونازلوا دمشق وبثوا سراياهم للإغارة بالنواحي وجمع الميرة
وسمع تاج الملك بسرية في حوران فبعث شمس الخواص من أمرائه ولقوا سرية
الإفرنج وظفروا بهم وغنموا ما معهم وجاءوا إلى دمشق وبلغ الخبر إلى
الإفرنج فأجفلوا عن دمشق بعد أن أحرقوا ما تعذر عليهم حمله وتبعهم
المسلمون يقتلون ويأسرون ثم أنّ إسمند صاحب أنطاكية سار إلى حصن
القدموس وملكه والله تعالى يؤيد من يشاء.
هزيمة صاحب طرابلس
ثم اجتمع سنة سبع وعشرين جمع كبير من تركمان الجزيرة وأغاروا على بلاد
طرابلس وقتلوا وغنموا فخرج إليهم القمص صاحبها فاستطردوا له ثم كرّوا
عليه فهزموه ونالوا منه ونجا إلى
(5/229)
قلعة بقوين [1] فتحصن بها وحاصره التركمان
فيها فخرج من القلعة ليلا في عشرين من أعيان أصحابه ونجا إلى طرابلس
واستصرخ الإفرنج من كل ناحية وسار بهم إلى بقوين لمدافعة التركمان
فقاتلهم حتى أشرف الإفرنج على الهزيمة ثم تحيزوا إلى أرمينية وتعذر على
التركمان أتباعهم فرجعوا عنهم انتهى.
فتح صاحب دمشق بانياس
كان بوري بن طغركين صاحب دمشق لما توفي سنة ست وعشرين وخمسمائة وولي
مكانه ابنه شمس الملوك إسماعيل فاستضعفه الإفرنج وتعرّضوا لنقض الهدنة
ودخل بعض تجار المسلمين إلى سروب فأخذوا أموالهم وراسلهم شمس الملوك في
ردّها عليهم فلم يفعلوا فتجهز وسار إلى بانياس في صفر سنة سبع وعشرين
فنازلها وشدّد حصارها ونقب المسلمون سورها وملكوها عنوة واستلحموا [2]
الإفرنج بها واعتصم فلهم بالقلعة حتى استأمنوا بعد يومين وكان الإفرنج
قد جمعوا لمدافعة شمس الملوك فجاءهم خبر فتحها فأقصروا.
استيلاء شمس الملوك على الشقيف
ثم سار شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق إلى شقيف بيروت وهو في الجبل
المطلّ على بيروت وصيدا وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم وهو
ممتنع به وقد تحاماه المسلمون والإفرنج وهو يحتمي من كل منهما بالآخر
فسار إليه شمس الملوك وملكه في المحرّم سنة ثمان وعشرين وعظم ذلك على
الإفرنج وخافوا شمس الملوك فساروا إلى بلد حوران وعاثوا في جهاتها ونهض
شمس الملوك ببعض عساكره وجمر الباقي قبالة الإفرنج وقصد طبرية والناصرة
وعكا فاكتسح نواحيها وجاء الخبر إلى الإفرنج فاجفلوا إلى بلادهم وعظم
عليهم خرابها وراسلوا شمس الملوك في تجديد الهدنة فجدّدها لهم انتهى
والله أعلم.
استيلاء الإفرنج على جزيرة جربة من إفريقية
كانت جزيرة جربة من أعمال إفريقية ما بين طرابلس وقابس وكان أهلها من
قبائل البربر قد
__________
[1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 7 ومضى هو ومن سلم معه إلى قلعة
بعرين فتحصنوا فيها وامتنعوا عن التركمان.
[2] استلحم الرجل: نشب في الحرب فلم يجد مخلصا.
(5/230)
استبدّوا بجزيرتهم عند ما دخل العرب
الهلاليون إفريقية ومزقوا ملك صنهاجة بها وقارن ذلك استفحال ملك
الإفرنج برومة وما اليها من البلاد الشمالية وتطاولوا إلى ملك بلاد
المسلمين فسار ملكهم بردويل فيمن معه من زعمائهم وأقماصهم إلى الشام
فملكوا مدنه وحصونه كما ذكرناه آنفا وكان من ملوكهم القمص رجار بن نيغر
بن خميرة وكان كرسيه مدينة ميلكوا مقابل جزيرة صقلّيّة ولما ضعف أمر
المسلمين بها وانقرضت دولة بني أبي الحسين الكلبي منها سما رجار هذا
إلى ملكها وأغراه المتغلبون بها على بعض نواحيها فأجاز إليها عساكره في
الأسطول في سبيل التضريب بينهم ثم ملكها من أيديهم معقلا معقلا إلى أن
كان آخرها فتخاطر إبنّة وما زرعة من يد عبد الله بن الجواس أحد الثوار
بها فملكها من يده صلحا سنة أربع وستين وأربعمائة وانقطعت كلمة الإسلام
بها ثم مات رجار سنة أربع وتسعين فولي ابنه رجار مكانه وطالت أيامه
واستفحل ملكه وذلك عند ما هبت ريح الإفرنج بالشام وجاسوا خلالها وصاروا
يتغلبون على ما يقدرون عليه من بلاد المسلمين وكان رجار يتعاهد سواحل
إفريقية بالغزو فبعث سنة ثلاث وخمسين أسطول صقلّيّة إلى جزيرة جربة وقد
تقلص عنها ظلّ الدولة الصنهاجية فأحاطوا بها واشتدّ القتال ثم اقتحموا
الجزيرة عليهم عنوة وغنموا وسبوا واستأمن الباقون وأقرّهم الإفرنج في
جزيرتهم على جزية وملكوا عليهم أمرهم والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء
من عباده.
فتح صاحب دمشق بعض حصون الإفرنج
ثم بعث شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق عساكره مع الأمير خزواش سنة إحدى
وثلاثين إلى طرابلس الشام ومعه جمع كثير من التركمان والمتطوعة وسار
إليه القمص صاحب طرابلس فقاتلوه وهزموه وأثخنوا في عساكره وأحجزه
بطرابلس وعاثوا في أعماله وفتحوا حصن وادي ابن الأحمر من حصونه عنوة
واستباحوه واستلحموا من فيه من الإفرنج ثم سار الإفرنج سنة خمس وثلاثين
الى عسقلان [1] وأغاروا في نواحيها وخرج إليهم عسكر مصر الذين بها
فهزموا الإفرنج وظفروا بهم وعادوا منهزمين وكفى الله شرهم بمنه وكرمه.
__________
[1] عسقلان: مدينة بالشام من أعمال فلسطين على ساحل البحر بين غزة وبيت
جبرين ويقال لها عروس الشام. وقد نزلها جماعة من الصحابة والتابعين
وحدث بها خلق كثير. ولم تزل عامرة إلى أن استولى عليها الإفرنج. (معجم
البلدان) .
(5/231)
استيلاء الإفرنج على
طرابلس الغرب
كان أهل طرابلس الغرب لما انحلّ نظام الدولة الصنهاجية بإفريقية وتقلص
ظلها عنهم قد استبدّوا بأنفسهم وكان بالمهدية آخر الملوك من بني باديس
وهو الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز فاستبدّ لعهده في طرابلس
أبو يحيى بن مطروح ورفضوا دعوة الحسن وقومه وذلك عند ما تكالب الإفرنج
على الجهات فطمع رجار في ملكها وبعث أسطوله في البحر فنازلها آخر سنة
سبع وثلاثين وخمسمائة فنقبوا سورها واستنجد أهلها بالعرب فأنجدوهم
وخرجوا إلى الإفرنج فهزموهم وغنموا أسلحتهم ودوابهم ورجع الإفرنج إلى
صقلّيّة فتجهزوا إلى المغرب وطرقوا جيجيل من سواحل بجاية وهرب أهلها
الى الجبل ودخلوها فنهبوها وخربوا القصر الّذي بناه يحيى بن العزيز بن
حماد ويسمى النزهة ورجعوا إلى بلادهم ثم بعث رجار أسطوله إلى طرابلس
سنة إحدى وأربعين فأرسى عليها ونزل المقاتلة وأحاطوا بها برا وبحرا
وقاتلوها ثلاثا وكان أهل البلد قد اختلفوا قبل وصول الإفرنج وأخرجوا
بني مطروح وولوا عليهم رجلا من أمراء لمتونة قام حاجا في قومه فولوه
أمرهم فلما شغل أهل البلد بقتال الإفرنج اجتمعت شيعة بني مطروح
وأدخلوهم للبلد ووقع بينهم القتال فلما شعر الإفرنج بأمرهم بادروا إلى
الأسوار فنصبوا عليها السلالم وتسنموها وفتحوا البلد عنوة وأفحشوا في
القتل والسبي والنهب ونجا كثير من أهلها إلى البربر والعرب في نواحيها
ثم رفعوا السيف ونادوا بالأمان فتراجع المسلمون إلى البلد وأقروهم على
الجزية وأقاموا بها ستة أشهر حتى أصلحوا أسوارها وفنادقها وولوا عليها
ابن مطروح وأخذوا رهنه على الطاعة ونادوا في صقلّيّة بالمسير إلى
طرابلس فسار إليها الناس وحسنت عمارتها.
استيلاء الإفرنج على المهدية
كانت قابس عند ما اختلّ نظام الدولة الصنهاجية واستبدّ بها [1] ابن
كامل بن جامع من قبائل رياح إحدى بطون هلال الذين بعثهم الجرجرائي وزير
المستنصر بمصر على المعز بن باديس وقومه فأضرعوا الدولة وأفسدوا نظامها
وملكوا بعض أعمالها واستبدّ آخرون من أهل البلاد بمواضعهم فكانت قابس
هذه في قسمة بني دهمان هؤلاء وكان لهذا العهد
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر على اسمه في المراجع التي بين أيدينا.
(5/232)
رشيد أميرا بها كما ذكرنا ذلك في أخبار
الدولة الصنهاجية من أخبار البربر وتوفي رشيد سنة اثنتين وأربعين
وخمسمائة ونصب مولاه يوسف ابنه الصغير محمد بن رشيد وأخرج ابنه الكبير
معمرا واستبد على محمد وتعرض لحرمة سرّا وكان فيهن امرأة رشيد وساروا
إلى التمحض بصاحب المهدية يشكون فعله وكاتبه الحسن في ذلك فلم يجبه
وتهدّده بإدخال الإفرنج إلى قابس فجهز إليه العساكر وبعث يوسف إلى رجار
صاحب طرابلس بطاعته وأن يوليه على قابس كما ولي ابن مطروح على طرابلس
وشعر أهل البلد بمداخلته للإفرنج فلما وصل عساكر الحسن ثاروا به معهم
وتحصن يوسف بالقصر فملكوه عنوة وأخذ يوسف أسيرا وملك معمر قابس مكان
أخيه محمد وامتحن يوسف بأنواع العذاب إلى أن هلك وأخذ بنو قرة أختهم
ولحق عيسى أخو يوسف وولد يوسف برجار صاحب صقلّيّة واستجاروا به وكان
الغلاء قد اشتدّ بإفريقية سنة سبع وثلاثين ولحق أكثر أهلها بصقلية وأكل
بعضهم بعضا وكثر الموتان فاغتنم رجار الفرصة ونقض الصلح الّذي كان بينه
وبين الحسن بن علي صاحب المهدية [1] لسنين وجهز أسطوله مائتين وخمسين
من الشواني وشحنها بالمقاتلة والسلاح ومقدّم الأسطول جرجي بن ميخاييل
أصله من المنتصرة وقد ذكرنا خبره في أخبار صنهاجة والموحدين فقصد قوصرة
وصادف بها مركبا من المهدية فغنمه ووجد عندهم حمام البطاقة فبعث الخبر
إلى المهدية على أجنحتها بأن أسطول الإفرنج أقلع إلى القسطنطينية ثم
أقلع فأصبح قريبا من المرسي في ثامن صفر سنة ثلاث وأربعين وقد بعث الله
الريح فعاقتهم عن دخول المرسي ففاته غرضه وكتب إلى الحسن بأنه باق على
الصلح وإنما جاء طالبا بثأر محمد بن رشيد ورده إلى بلده قابس فجمع
الحسن الناس واستشارهم فأشاروا بالقتال فخام عنه واعتذر بقلة الأقوات
وارتحل من البلد وقد حمل ما خف حمله وخرج الناس بأهاليهم وما خف من
أموالهم واختفى كثير من المسلمين في الكنائس ثم ساعد الريح أسطول
الإفرنج ووصلوا إلى المرسي ونزلوا إلى البلد من غير مدافع ودخل جرجي
القصر فوجده على حاله مملوءا بالذخائر النفسية التي يعز وجود مثلها
وبعث بالأمان إلى كلّ من شرد من أهلها فرجعوا وأقرّهم على الجزية وسار
الحسن بأهله وولده إلى المعلقة وبها محرز بن زياد من أمراء الهلاليين
ولقيه في طريقه حسن بن ثعلب من أمراء الهلاليين بمال انكسر له في
ديوانه فأخذ ابنه يحيى رهينة به ولما وصل محرز بن زياد أكرم لقاءه وبرّ
مقدمه جزاء بما كان يؤثره على العرب ويرفع محله وأقام عنده شهرا ثم عزم
على المسير إلى مصر وبها يومئذ الحافظ فأرصد له جرجي الشواني في البحر
__________
[1] المهدية: مدينة بإفريقية منسوبة إلى المهدي، وبينها وبين القيروان
مرحلتان والقيروان في جنوبيها.
(5/233)
فرجع عن ذلك واعتزم على قصد عبد المؤمن من
ملوك الموحدين بالمغرب وفي طريقه يحيى بن عبد العزيز ببجاية من بني عمه
حماد فأرسل إليه أبناءه يحيى وتميما وعليا يستأذنه في الوصول فأذن له
وبعث إليه من أوصله إلى جزائر بني مذغنة ووكل به وبولده حتى ملك عبد
المؤمن بجاية سنة أربع وأربعين وخبرهم مشروع هنالك ثم جهز جرجي أسطولا
آخر إلى صفاقس وجاء العرب لإنجادهم فلما توافوا للقتال استطرد لهم
الإفرنج غير بعيد فهزموهم ومضى العرب عنهم وملك الإفرنج المدينة عنوة
ثالث عشري صفر وفتكوا فيها ثم أمنوهم وفادوا وأسراهم وأقروهم على
الجزية وكذا أهل سوسة [1] وكتب رجار صاحب صقلّيّة إلى أهل سواحل
إفريقية بالأمان والمواعد ثم سار جرجي إلى إقليبية من سواحل تونس
واجتمع إليها العرب فقاتلوا الإفرنج وهزموهم ورجعوا خائبين إلى المهدية
وحدثت الفتنة بين رجار صاحب صقلّيّة وبين ملك الروم بالقسطنطينية فشغل
رجار بها عن إفريقة وكان متولي كبرها جرجي بن ميخاييل صاحب المهدية ثم
مات سنة ست وأربعين فسكنت تلك الفتنة ولم يقم لرجار بعده أحد مقامه
والله تعالى أعلم [2] .
__________
[1] سوسة بلد بالمغرب، وهي مدينة عظيمة بها قوم لونهم لون الحنطة يضرب
إلى الصفرة.
[2] تلاحظ ولا شك عدم الانسجام في سرد الحوادث، لذلك نقلنا ما كتبه ابن
الأثير عن هذه الحادثة بالنص الكامل ليتمكن القارئ أن يتوصل إلى
الحقائق التاريخية بعد المقارنة. عن كتاب الكامل ج 11 ص 125: (ذكر ملك
الإفرنج مدينة المهدية بإفريقية) قد ذكرنا سنة إحدى وأربعين وخمسمائة
مسير أهل يوسف صاحب قابس إلى رجار ملك صقلّيّة واستغاثتهم به فغضب
لذلك، وكان بينه وبين الحسن بن علي بن يحيى بن تميم ابن المعز بن باديس
الصنهاجي صاحب إفريقية صلح وعهود إلى مدة سنتين، وعلم أنه فاته فتح
البلاد في هذه الشدة التي أصابتهم، وكانت الشدة ودوام الغلاء في جميع
المغرب من سنة سبع وثلاثين إلى هذه السنة. وكان أشد ذلك منه سنة اثنتين
وأربعين، فإن الناس فارقوا البلاد والقرى، ودخل أكثرهم إلى مدينة
صقلّيّة وأكل الناس بعضهم بعضا وكثر الموت في الناس فاغتنم رجار هذه
السنة فعمر الأسطول وأكثر منه فبلغ نحو مائتين وخمسين شينيا مملوءة
رجالا وسلاحا وقوتا. وسار الأسطول عن صقلّيّة ووصل إلى جزيرة قوصرة وهي
ما بين المهدية وصقلّيّة فصدفوا بها مركبا ووصل من المهدية فأخذ أهله
وأحضروا بين يدي جرجي مقدّم الأسطول فسألهم عن حال إفريقيا. ووجد في
المركب قفص حمام فسألهم هل أرسلوا منها فحلفوا باللَّه أنهم لم يرسلوا
شيئا فأمر الرجل الّذي كان الحمام صحبته أن يكتب بخطه أننا لما وصلنا
جزيرة قوصرة وجدنا بها مراكب من صقلّيّة فسألناهم عن الأسطول المخذول
فذكروا أنه أقلع إلى جزائر القسطنطينية. وأطلق الحمام فوصل إلى المهدية
فسر الأمير الحسن والناس، وأراد جرجي بذلك أن يصل بغتة. ثم سار وقدر
وصولهم إلى المهدية وقت السحر ليحيط بها قبل ان يخرج أهلها، فلو تم له
ذلك لم يسلم منهم أحد، فقدر الله تعالى ان أرسل عليهم ريحا هائلا فلم
يقدروا على السير إلا بالمقاذيف، فطلع النهار ثاني صفر في هذه السنة
قبل وصولهم فرآهم الناس. فلما رأى جرجي ذلك وأن الخديعة فاتته أرسل إلى
الأمير الحسن يقول إنما جئت بهذا الأسطول طالبا بثأر محمد بن رشيد صاحب
قابس ورده إليها. أما أنت فبيننا وبينك عهود وميثاق إلى مدة ونريد منك
عسكرا يكون معنا فجمع الحسن الناس من الفقهاء والأعيان وشاورهم فقالوا
نقاتل عدونا فإن بلدنا حصين فقال: أخاف أن ينزل إلى البر ويحصرنا برا
وبحرا ويحول بيننا وبين الميرة وليس عندنا ما يقوتنا شهرا فتؤخذ قهرا.
وأنا أرى سلامة المسلمين من الأسر والقتل
(5/234)
استيلاء الإفرنج على بونة ووفاة رجار صاحب
صقلّيّة وملك ابنه غليالم
ثم سار أسطول رجار من صقلّيّة سنة ثمان وأربعين إلى مدينة بونة وقائد
الأسطول بها وقتات المهدوي فحاصرها واستعان عليها بالعرب فملكها
واستباحها وأغضى عن جماعة من أهل
__________
[ () ] خيرا من الملك وقد طلب مني عسكرا إلى قابس فإن فعلت فما يحل لي
معونة الكفار على المسلمين، وإن امتنعت يقول انتقض ما بيننا من الصلح
وليس الا أن يثبطنا حتى يحول بيننا وبين البر، وليس بقتاله لنا طاقة
والرأي أن نخرج بالأهل والولد وننزل عن البلد، فمن أراد أن يفعل كفعلنا
فليبادر معنا. وأمر في الحال بالرحيل وأخذ معه من حضره وما خف حمله
وخرج الناس على وجوههم بأهليهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم،
ومن الناس من اختفى عند النصارى وفي الكنائس وبقي الأسطول في البحر
تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية إلى ثلثي النهار فلم يبق في البلد
ممن عزم على الخروج أحد فوصل الفرنج ودخلوا البلد بغير مانع ولا دافع،
ودخل جرجي القصر فوجده على حاله لم يأخذ الحسن منه إلا ما خف من ذخائر
الملوك وفيه جماعة من حظاياه، ورأى الخزائن مملوءة من الذخائر النفيسة
وكل شيء غريب يقل وجوده مثله فختم عليه وجمع سراري الحسن من قصره.
وكان عدة من ملك منهم من زيري بن مناد إلى الحسن تسعة ملوك ومدة
ولايتهم مائة وثمانين سنة من إحدى وستين وثلاثمائة إلى سنة ثلاث
وأربعين وخمسمائة، وكان بعض القواد قد أرسله الحسن إلى رجار برسالة
فأخذ لنفسه وأهله منه أمانا فلم يخرج معهم. ولما ملك المدينة نهبت
مقدار ساعتين ونودي بالأمان فخرج من كان مستخفيا وأصبح جرجي من الغد
فأرسل إلى من قرب من العرب فدخلوا إليه فأحسن إليهم وأعطاهم أموالا
جزيلة وأرسل من جند المهدية الذين تخلفوا بها جماعة ومعهم أمان لأهل
المهدية الذين خرجوا منها ودواب يحملون عليها الأطفال والنساء، وكانوا
قد أشرفوا على الهلاك والجوع، ولهم بالمهدية خبايا وودائع، فلما وصل
إليهم الأمان رجعوا فلم يمض غير جمعة حتى رجع أكثر أهل البلد. وأما
الحسن فأنه سار بأهله وأولاده وكانوا اثني عشر ولدا ذكرا غير الإناث
وخواص خدمه قاصرا إلى محرز بن زياد وهو بالمعلقة فلقيه في طريقه أمير
من العرب يسمى حسن بن ثعلب، فطلب منه مالا انكسر له في ديوانه فلم يمكن
الحسن إخراج مال لئلا يؤخذ فسلم إليه ولده يحيى رهينة، وسار فوصل في
اليوم الثاني إلى محرز، وكان الحسن قد فضله على جميع العرب وأحسن إليه
ووصله بكثير من المال فلقيه محرز لقاء جميلا وتوجع لما حل به فأقام
عنده شهورا، والحسن كاره للإقامة فأراد المسير الى ديار مصر الى
الخليفة الحافظ العلويّ واشترى مركبا السفرة فسمع جرجي الفرنجي فجهز
شواني ليأخذه فعاد عن ذلك، وعزم على المسير إلى عبد المؤمن بالمغرب
فأرسل كبار أولاد يحيى وتميما وعليا إلى يحيى بن عبد العزيز وهو من بني
حماد وهما أولاد عم يستأذنه في الوصول إليه وتجديد العهد به والمسير من
عنده إلى عبد المؤمن فأذن له يحيى فسار إليه، فلما وصل لم يجتمع به
يحيى وسيره إلى جزيرة بني مزغنان هو وأولاده ووكل به من يمنعهم من
التصرف فبقوا كذلك إلى أن ملك عبد المؤمن بجاية سنة سبع وأربعين فحضر
عنده، وقد ذكرنا حاله هناك.
ولما استقر جرجي بالمهدية سير أسطولا بعد أسبوع إلى مدينة سفاقس وسير
أسطولا آخر إلى مدينة سوسة، فأما سوسة فان أهلها لما سمعوا خبر المهدية
وكان واليها علي بن الحسن الأمير فخرج إلى أبيه وخرج الناس لخروجه
فدخلها الفرنج بلا قتال في 12 صفر. أما سفاقس فإن أهلها أتاهم كثير من
العرب فامتنعوا بهم فقاتلهم الفرنج فخرج إليهم أهل البلد فأظهر الفرنج
الهزيمة وتبعهم الناس حتى أبعدوا عن البلد، ثم عطفوا عليهم فانهزم قوم
إلى
(5/235)
العلم والدين فخرجوا بأموالهم وأهاليهم إلى
القرى وأقام بها عشرا ورجع إلى المهدية ثم إلى صقلّيّة فنكر عليه رجار
رفقه بالمسلمين في بونة وحبسه ثم اتهم في دينه فاجتمع الأساقفة والقسوس
وأحرقوه ومات رجار آخر هذه السنة لعشرين سنة من ملكه وولى ابنه غليالم
مكانه وكان حسن السيرة واستوزر مائق البرقياني فأساء التدبير واختلف
عليه حصون من صقلّيّة وبلاد قلورية [1] وتعدّى الأمراء على إفريقية على
ما سيأتي إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم [2] .
__________
[ () ] البلد وقوم إلى البرية وقتل منهم جماعة ودخل الفرنج البلد
فملكوه بعد قتال شديد وقتلى كثيرة، وأسر من بقي من الرجال وسبى الحريم
وذلك في الثالث والعشرين من صفر، ثم نودي بالأمان فعاد أهلها إليها
وأفتكوا حرمهم وأولادهم ورفق بهم وبأهل سوسة والمهدية وبعد ذلك وصلت
كتب من رجار لجميع أهل إفريقية بالأمان والمواعيد الحسنة. ولما استقرت
أحوال البلاد سار جرجي في أسطول إلى قلعة إقليبية وهي قلعة حصينة فلما
وصل إليها سمعته العرب فاجتمعوا إليها، ونزل إليهم الفرنج فاقتتلوا
فانهزم الفرنج وقتل منهم خلق كثير فرجعوا خاسرين إلى المهدية، وصار
للفرنج من طرابلس الغرب إلى قريب تونس ومن المغرب إلى دون القيروان
والله أعلم.
[1] قلوّرية: جزيرة في شرقي صقلّيّة وأهلها إفرنج، ولها مدن كثيرة
وبلاد واسعة (معجم البلدان) .
[2] ذكرت هذه الحادثة هنا مقتضية، وفي الكامل ج 11 ص 203 (ذكر عصيان
الجزائر وإفريقية على ملك الفرنج بصقلية وما كان منهم) قد ذكرنا سنة
ثمان وأربعين وخمسمائة موت رجّار ملك صقلّيّة وملك ولده غليالم وأنه
كان فاسد التدبير فخرج عن حكمه عدة من حصون صقلّيّة، فلما كان هذه
السنة قوي طمع الناس فيه فخرج عن طاعته جزيرة جربة وجزيرة قرقنّة
وأظهروا الخلاف عليه، وخالف عليه أهل إفريقية فأول من أظهر الخلاف عليه
عمر بن أبي الحسين الفريابي بمدينة سفاقس. وكان رجار قد استعمل عليها
لما فتحها أباه أبا الحسين وكان من العلماء الصالحين فأظهر العجز
والضعف وقال استعمل ولدي فاستعمله وأخذ أباه رهينة إلى صقلّيّة. فلما
أراد المسير إليها قال لولده عمر إنني كبير السن وقد قارب أجلي فمتى
أمكنتك الفرصة في الخلاف على العدو فأفعل ولا تراقبهم ولا تنظر في أنني
أقتل وأحسب أني قدمت، فلما وجد هذه الفرصة دعا أهل المدينة إلى الخلاف
وقال: يطلع جماعة منكم إلى السور وجماعة يقصدون مساكن الفرنج والنصارى
جميعهم ويقتلونهم كلهم فقالوا له: إن سيدنا الشيخ والدك نخاف عليه، قال
هو أمرني بهذا، وإذا قتل بالشيخ ألوف من الأعداء فما مات، فلم تطلع
الشمس حتى قتلوا الفرنج عن آخرهم وكان ذلك أول سنة إحدى وخمسين
وخمسمائة. ثم أتبعه يحيى بن مطروح بطرابلس وبعدهما محمد بن رشيد بقابس
وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونه فملكها وخرج جميع إفريقية عن حكم الفرنج
ما عدا المهدية وسوسة. وأرسل عمر بن أبي الحسين إلى زويلة وهي مدينة
بينها وبين المهدية نحو ميدان يحرضهم على الوثوب على من معهم من
النصارى، ففعلوا ذلك وقدم عرب البلاد إلى زويلة فأعانوا أهلها على من
بالمهدية من الفرنج وقطعوا الميرة عن المهدية، فلما اتصل الخبر بغليالم
ملك صقلّيّة أحضر أبا الحسين وعرفه ما عمل ابنه فأمره أن يكتب إليه
ينهاه عن ذلك ويأمره بالعود إلى طاعته ويخوفه عاقبة فعله، فقال: من قدم
على هذا يرجع بكتاب. فأرسل إليه ملك صقلّيّة رسولا يتهدده ويأمره بترك
ما ارتكبه فلم يمكنه عمر من دخول البلد يومه ذلك، فلما كان الغد خرج
إلى الرسول يقول له هذا أبي قد دفنته وقد جلست للعزاء به فاصنعوا به ما
أردتم، فعاد الرسول إلى غليالم فأخبره بما صنع عمر بن أبي الحسين فأخذ
أباه وصلبه فلم يزل يذكر الله تعالى حتى مات. وأما زويلة فأنهم كثر
جمعهم بالعرب وأهل سفاقس وغيرهم فحصروا المهدية وضيقوا عليها وكانت
الأقوات بالمهدية قليلة فسير إليهم صاحب صقلّيّة عشرين شينيا فيها
الرجال والطعام
(5/236)
استيلاء الإفرنج على
عسقلان
كانت عسقلان في طاعة الظافر العلويّ ومن جملة ممالكه وكان الإفرنج
يتعاهدونها بالحصار مرّة بعد مرّة وكان الوزراء يمدّونها بالأموال
والرجال والأسلحة وكان لهم التحكم في الدولة على الخلفاء العلوية فلما
قتل ابن السلار سنة ثمان وأربعين اضطرب الحال بمصر حتى ولي عباس
الوزارة فسار الإفرنج خلال ذلك من بلادهم بالشام وحاصروا عسقلان
وامتنعت عليهم ثم اختلف أهل البلد وآل أمرهم إلى القتال فاغتنم الإفرنج
الفرصة وملكوا البلد وعاثوا فيها والله يؤيد بنصره من يشاء من عباده
[1] .
ثورة المسلمين بسواحل إفريقية على الإفرنج
المتغلبين فيها
قد تقدّم لنا وفاة رجار وملك ابنه غليالم وإنه ساء تدبير وزيره فاختلف
عليه الناس وبلغ ذلك المسلمين الذين تغلبوا عليهم بإفريقية وكان رجار
قد ولى على المسلمين بمدينة صفاقس
__________
[ () ] والسلاح فدخلوا البلد وأرسلوا إلى العرب وبذلوا لهم مالا
لينهزموا، وخرجوا من الغد فاقتتلوا هم وأهل زويلة فانهزمت العرب وبقي
أهل زويلة وأهل سفاقس وركبوا في البحر فخرجوا. وبقي أهل زويلة فحمل
عليهم الفرنج فانهزموا إلى زويلة فوجدوا أبوابها مغلقة فقاتلوا تحت
السور وصبروا حتى قتل أكثرهم ولم ينج إلا القليل فتفرقوا. ومضى بعضهم
إلى عبد المؤمن. فلما قتلوا هرب من سلم من الحرم والصبيان والشيوخ في
البر ولم يعرّجوا على شيء من أموالهم. ودخل الفرنج زويلة فقتلوا من
وجدوا فيها من النساء والأطفال ونهبوا الأموال واستقر الفرنج بالمهدية
إلى أن أخذها منهم عبد المؤمن.
[1] كذلك ذكرت هذه الحادثة هنا مقتضية وفي الكامل ج 11 ص 188: (ذكر ملك
الفرنج مدينة عسقلان) في هذه السنة ملك الفرنج بالشام مدينة عسقلان،
وكانت من جملة مملكة الظافر باللَّه العلويّ المصري وكان الفرنج كل سنة
يقصدونها ويحصرونها فلا يحدون إلى ملكها سبيلا. وكان الوزراء بمصر لهم
الحكم في البلاد، والخلفاء معهم اسم لا معنى تحته. وكان الوزراء كل سنة
يرسلون إليها من الذخائر والأسلحة والأموال والرجال من يقوم بحفظها.
فلما كان في هذه السنة قتل ابن السلار على ما ذكرناه واختلفت الأهواء
في مصر وولي عباس الوزارة وإلى أن استقرت قاعدة اغتنم الفرنج اشتغالهم
عن عسقلان فاجتمعوا وحصورها فصبر أهلها وقاتلوهم قتالا شديدا، حتى أنهم
بعض الأيام قاتلوا خارج السور وردوا الفرنج إلى خيامهم مقهورين. وتبعهم
أهل البلد إليها فأيس حينئذ من ملكه فبينا هم على عزم الرحيل إذ قد
أتاهم الخبر أن البلد قد وقع بين أهله خلاف، وقتل منهم قتلى فصبروا.
وكان سبب هذا الاختلاف أنهم لما عادوا عن قتال الفرنج قاهرين منصورين
ادعى كل طائفة منهم أن النصرة من جهتهم كانت وأنهم الذين ردوا الفرنج
خاسرين فعظم الخصام بينهم إلى أن قتل من إحدى الطائفتين قتيل، واشتد
الخطب وعظم حينئذ وتفاقم الشر، ووقعت الحرب بينهم فقتل بينهم قتلى فطمع
الفرنج وزحفوا إليه وقاتلوا عليه فلم يحدوا من يمنعهم فملكوه.
(5/237)
لما تغلب عليها أبو الحسين الفرياني منهم
وكان من أهل العلم والدين ثم عجز عن ذلك وطلب ولاية ابنه عمر فولاه
رجار وحمل أبا الحسين إلى صقلّيّة رهينة وأوصى ابنه عمرو قال يا بني
أنا كبير السنّ وقد قرب أجلي فمتى أمكنتك الفرصة في إنقاذ المسلمين من
ملكة العدوّ فأفعل ولا تخش عليّ وأحسبني قدمت فلما اختلّ أمر غليالم
دعا عمر أهل صفاقس إلى الثورة بالإفرنج فثاروا بهم وقتلوهم سنة إحدى
وخمسين وأتبعه أبو يحيى بن مطروح بطرابلس ومحمد بن رشيد بقابس وسار
عسكر عبد المؤمن إلى بونة فملكها وذهب حكم الإفرنج عن إفريقية ما عدا
المهدية وسوسة وأرسل عمر الفرياني إلى زويلة [1] قريبا من المهدية
يغريهم بالوثوب على الإفرنج الذين معهم فوثبوا وأعانهم أهل ضاحيتهم
وقاتلوا الإفرنج بالمهدية وقطعوا الميرة عنهم وبلغ الخبر إلى غليالم
فبعث إلى عمر الفرياني بصفاقس وأعذر إليه في أبيه فأظهر للرسول جنازة
ودفنها وقال هذا قد دفنته فلما رجع الرسول بذلك صلب أبا الحسين ومات
شهيدا رحمه الله تعالى وسار أهل صفاقس والعرب إلى زويلة واجتمعوا مع
أهلها على حصار المهدية وأمدّهم غليالم بالأقوات والأسلحة وصانعوا
العرب بالمال على أن يخذلوا أصحابهم ثم خرجوا للقتال فانهزم العرب وركب
أهل صفاقس البحر إلى بلدهم أيضا وأتبعهم الإفرنج فعاجلوهم عن زويلة
وقتلوهم ثم اقتحموا البلد فقتلوا مخلفهم بها واستباحوهم.
ارتجاع عبد المؤمن المهدية من يد الإفرنج
ولما وقع بأهل زويلة من الإفرنج ما وقع لحقوا بعبد المؤمن ملك المغرب
يستصرخونه فأجاب صريخهم ووعدهم وأقاموا في نزله وكرامته وتجهز للمسير
وتقدّم إلى ولاته وعماله بتحصيل الغلات وحفر الآبار ثم سار في صفر سنة
اربع وخمسين في مائة ألف مقاتل وفي مقدّمته الحسن بن عليّ صاحب المهدية
ونازل تونس منتصف السنة وبها صاحبها أحمد بن خراسان من بقية دولة
صنهاجة وجاء أسطول عبد المؤمن فحاصرها من البحر ثم نزل إليه من سورها
عشرة رجال من أعيانها في السلالم مستأمنين لأهل البلد ولأنفسهم فأمنهم
على مقاسمتهم في أموالهم وعلى أن يخرج إليه ابن خراسان فتمّ ذلك كله
وسار عنها إلى المهدية وأسطوله محاذية في البحر فوصلها منتصف رجب من
السنة وبها أولاد الملوك والزعماء من الإفرنج وقد أخلوا
__________
[1] زويلة: ورد في معجم البلدان: بهذا الاسم بلدان أحدها زويلة السودان
مقابل أجدابية في البر بين بلاد السودان وإفريقية، والأخرى زويلة
المهدية وهي مدينة بإفريقية بناها المهدي عبيد الله، وهي المذكورة هنا.
(5/238)
زويلة وهي على غلوة من المهدية فعمرها عبد
المؤمن لوقتها وامتلأ فضاء المهدية بالعساكر وحاصرها أياما وضاق موضع
القتال من البرّ لاستدارة البحر عليها لأنها صورة يد في البحر وذراعها
في البرّ وآحاط الأسطول بها في البحر وركب عبد المؤمن البحر في الشواني
[1] ومعه الحسن بن عليّ فرأى حصانتها في البحر وأخذ في المطاولة وجمع
الأقوات حتى كانت في ساحة معسكره كالتلال وبعث إليه أهل صفاقس وطرابلس
وجبال نفوسة بطاعتهم وبعث عسكر إلى قابس فملكها عنوة وبعث ابنه عبد
الله ففتح كثيرا من البلاد ثم وفد عليه يحيى بن تميم بن المقر بن الرند
صاحب قفصة [2] في جماعة من أعيانها فبذل طاعته ووصله عبد المؤمن بألف
دينار ولما كان آخر شعبان وصل أسطول صقلّيّة في مائة وخمسين من الشواني
غير الطرائد كان في جزيرة يابسة فاستباحها وبعث إليه صاحب صقلّيّة بقصد
المهدية فلما أشرفوا على المرسي قذفت إليهم أساطيل عبد المؤمن ووقف
عسكره على جانب البرّ وعبد المؤمن ساجد يعفر وجهه بالتراب ويجأر
بالدعاء فانهزم أسطول الإفرنج وأقلعوا إلى بلادهم وعاد اسطول المسلمين
ظافرا وأيس أهل المهدية من الأنجاد ثم صابروا إلى آخر السنة حتى جهدهم
الحصار ثم استأمنوا إلى عبد المؤمن فعرض عليهم الإسلام فأبوا ولم
يزالوا يخضعون له بالقول حتى أمنهم وأعطاهم السفن فركبوا فيها وكان فصل
شتاء فمال عليهم البحر وغرقوا ولم يفلت منهم إلى الأقل ودخل عبد المؤمن
المهدية في محرّم سنة خمس وخمسين لثنتي عشرة سنة من ملك الإفرنج وأقام
بها عشرين يوما فأصلح أمورها وشحنها بالحامية والأقوات واستعمل عليها
بعض أصحابه وأنزل معه الحسن بن علي وأقطعه بأرضها له ولأولاده وأمر
الوالي أن يقتدي برأيه ورجع إلى المغرب والله أعلم.
حصار الإفرنج أسد الدين شيركوه في بلبيس
كان أسد الدين شيركوه بن شادي عم صلاح الدين قد بعثه نور الدين العادل
سنة تسع وخمسمائة منجدا لشاور وزير العاضد صاحب مصر على قريعة الضرغام
كما سيأتي في أخبارهم إن شاء الله تعالى وسار نور الدين من دمشق في
عساكره إلى بلاد الإفرنج ليشغلهم عن أسد الدين شيركوه وخرج ناصر الدين
أخو الضرغام في عساكر مصر فهزمه أسد الدين
__________
[1] الشواني: جمع شونة وهو المركب المعد للقتال في البحر.
[2] قفصة: اسم عجمي، وهو اسم بلدة صغيرة في طرف إفريقيا من ناحية
المغرب، مختطة في أرض سبخة لا تنبت إلّا الأشنان والشيح (معجم البلدان)
.
(5/239)
على تنيس [1] وأتبعه إلى القاهرة ونزلها
منتصف السنة وأعاد شاور إلى الوزارة ونقض ما بينه وبين أسد الدين وتأخر
إلى تنيس وخشي منه ودس إلى الإفرنج يغريهم به وبذل لهم المال فطمعوا
بذلك في ملك الديار المصرية وسار ملك القدس في عساكر الإفرنج واجتمعت
معه عساكر المسلمين وساروا إلى أسد الدين فحاصروه في بلبيس [2] ثلاثة
ولم يظفروا منه بشيء ثم جاءهم الخبر بأنّ نور الدين العادل هزم أصحابهم
على خارد وفتحها ثم سار إلى بانياس فسقط في أيديهم وطلبوا الصلح من أسد
الدين ليعودوا إلى بلادهم لذلك وخرج من بلبيس سائرا إلى الشام ثم عاد
إلى مصر سنة ثنتين وستين وعبر النيل من أطفج ونزل الجزيرة واستمدّ شاور
الإفرنج فساروا إليه بجموعهم وكان أسد الدين قد سار إلى الصعيد وانتهى
إلى [3] فسار الإفرنج والعساكر المصرية في أثره فأدركوه منتصف السنة
واستشار أصحابه فاتفقوا على القتال وأدركته عساكر الإفرنج ومصر وهو على
تعبيته وقد أقام مقامه في القلب راشد حذرا من حملة الإفرنج وانحاز فيمن
يثق به من شجعان أصحابه إلى الميمنة فحمل الإفرنج على القلب فهزموهم
وأتبعوهم وخالفهم أسد الدين إلى من تركوا وراءهم من العساكر فهزمهم
وأثخن فيهم ورجع الإفرنج من أثناء القلب فانهزموا وانهزم أصحابهم
ولحقوا بمصر ولحق أسد الدين بالإسكندرية فملكها صلحا وأنزل بها صلاح
الدين ابن أخيه وحاصرته عساكر الإفرنج ومصر وزحف إليهم عمه أسد الدين
من الصعيد فبعثوا إليه في الصلح فأجابهم على خمسين ألف دينار يعطونها
إياه ولا يقيم في البلد أحد من الإفرنج ولا يملكون منها شيئا فقبلوا
ذلك وعادوا إلى الشام وملك أهل مصر الإسكندرية واستقر بينهم وبين
الإفرنج أن ينزلوا بالقاهرة شحنة وأن يكون أبوابها في غلقها وفتحها
بأيديهم وأن لهم من خراج مصر مائة ألف دينار في كل سنة ولم [4] ذلك منه
وعاد الإفرنج إلى بلادهم بالسواحل الشامية والله تعالى أعلم [5] .
__________
[1] تنيس: جزيرة في بحر مصر قريبة من البرّ ما بين الفرما ودمياط
والفرما في شرقيها (معجم البلدان) .
[2] بلبيس: مدينة بينها وبين فسطاط مصر عشرة فراسخ على طريق الشام
(معجم البلدان) .
[3] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 325: وكان أسد الدين وعساكره
قد ساروا إلى الصعيد فبلغ مكانا يعرف بالبابين.
[4] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل: هذا كله استقر مع شاور، فإن العاضد
لم يكن معه حكم، لأنه قد حجر عليه وحجبه عن الأمور كلها.
[5] عبارات غير مرتبطة مع بعضها البعض وقد وردت هذه الحادثة في الكامل
ج 11 ص 298 بعنوان: (ذكر مسير شيركوه وعساكر نور الدين إلى ديار مصر
وعودهم عنها) في هذه السنة في جمادى الأول سير نور الدين محمود بن زنكي
عسكرا كثيرا إلى مصر وجعل عليهم الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي وهو
مقدم عسكره وأكبر
(5/240)
حصار الإفرنج
القاهرة
ثم كان مسير أسد الدين إلى مصر وقتله شاور سنة أربع وستين باستدعاء
العاضد لما رأى من تغلب الإفرنج كما نذكر في أخبار أسد الدين وأرسل إلى
الإفرنج أصحابهم الذين بالقاهرة
__________
[ () ] أمراء دولته وأشجعهم. وكان سبب إرسال هذا الجيش أن شاور وزير
العاضد لدين الله العلويّ صاحب مصر نازعه في الوزارة ضرغام وغلب عليها
فهرب شاور منه إلى الشام ملتجئا إلى نور الدين ومستجيرا به فأكرم مثواه
وأحسن إليه وأنعم عليه. وكان وصوله في ربيع الأول من السنة، وطلب منه
إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون لنور الدين ثلث دخل
البلاد بعد إقطاعات العساكر، ويكون شيركوه مقيما بعساكر في مصر ويتصرف
هو بأمر نور الدين، يقدم إلى هذا الفرض رجلا ويؤخر أخرى، فتارة يحمله
رعاية قصد شاور بابه وطلب الزيادة في الملك والتقوي على الفرنج، وتارة
يمنعه خطر الطريق وان الفرنج فيه، وتخوف إن شاور أن استقرت قاعدته ربما
لا يفي، ثم قوي عزمه على إرسال الجيوش فتقدم بتجهيزها وإزاحة عللها
وكان هوى أسد الدين في ذلك وعنده من الشجاعة وقوة النفس ما لا يبالي
بمخافة. فتجهز وساروا جميعا وشاور في صحبتهم في جمادى الأول من سنة تسع
وخمسين، وتقدم نور الدين إلى شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه وينتقم ممن
نازعه فيه وسار نور الدين إلى طرف بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكره
ليمنع الفرنج من التعريض لأسد الدين ومن معه فكان قصارى الفرنج حفظ
بلادهم من نور الدين.
ووصل أسد الدين والعساكر معه إلى مدينة بلبيس فخرج إليهم ناصر الدين
أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيهم فانهزم، وعاد الى القاهرة، ووصل أسد
الدين فنزل على القاهرة أواخر جمادى الآخرة فخرج ضرغام من القاهرة سلخ
الشهر فقتل عند مشهد السيدة نفيسة وبقي يومين. ثم حمل ودفن في القرافة
وقتل أخوه فارس المسلمين وخلع على شاور مستهل رجب وأعيد إلى الوزارة
وتمكن منها، وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، فغدر به شاور، وعاد عما
كان قرره لنور الدين من البلاد المصرية ولأسد الدين أيضا، وأرسل إليه
يأمره بالعود إلى الشام فأعاد الجواب بالامتناع وطلب ما كان قد استقر
بينهم فلم يجبه شاور إليه. فلما رأى ذلك أرسل إلى نوابه فتسلموا مدينة
بلبيس وحكم على البلاد الشرقية فأرسل شاور إلى الإفرنج يستمدهم ويخوفهم
من نور الدين ان ملك مصر. وكان الفرنج قد أيقنوا بالهلاك إن تم ملكه
لها، فلما أرسل شاور يطلب منهم أن يساعدوه على إخراج أسد الدين من
البلاد جاءهم فرج لم يحتسبوه وسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته، وطمعوا
في تلك الديار المصرية.
وكان قد بذل لهم مالا على المسير إليه وتجهزوا وساروا. فلما بلغ نور
الدين ذلك سار بعساكره إلى أطراف بلادهم ليمتنعوا عن السير فلم يمنعهم
ذلك لعلهم أن الخطر في مقامهم إذا ملك أسد الدين مصر أشد، فتركوا في
بلادهم من يحفظها، وسار ملك القدس في الباقين إلى مصر.
وكان قد وصل إلى الساحل جمع كثير من الفرنج في البحر لزيارة البيت
المقدس فاستعان بهم الفرنج الساحلية فأعانوهم، فسار بعضهم معهم وأقام
بعضهم في البلاد لحفظها فلما قارب الفرنج مصر فارقها أسد الدين وقصد
مدينة بلبيس فأقام بها هو وعسكره، وجعلها له ظهرا يتحصن فاجتمعت
العساكر المصرية والفرنج ونازلوا أسد الدين شيركوه بمدينة بلبيس وحصروه
بها ثلاثة أشهر وهو ممتنع بها مع أن سورها قصير جدا وليس لها خندق ولا
فصل يحميها، وهو يغاديهم القتال ويراوحهم فلم يبلغوا منه غرضا ولا
نالوا منه شيئا فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبر بهزيمة الفرنج على حارم
وملك نور الدين حارم. حينئذ سقط في أيديهم وأرادوا العودة إلى بلادهم
ليحفظوها فراسلوا أسد الدين في الصلح والعود إلى الشام ومفارقة مصر
وتسليم ما بيده منها إلى المصريين، فأجابهم إلى ذلك لأنه لم يعلم ما
فعله نور الدين بالشام بالفرنج ولأن الأقوات والذخائر قلت عليه. وخرج
من بلبيس في ذي الحجة فحدثني من رأى أسد الدين حين خرج من بلبيس قال:
أخرج أصحابه بين يديه وبقي في
(5/241)
يستدعونهم لملكها ويهونونها عليهم وملك
الإفرنج يومئذ بالشام مري ولم يكن ظهر فيهم مثله شجاعة ورأيا فأشار بأن
جبايتها لنا خير من ملكها وقد يضطرون فيملكون نور الدين منها وأن ملكها
قبلنا احتاج إلى مصانعتنا [1] فأبوا عليه وقالوا إنما نزداد بها قوّة
فرجع إلى رأيهم وساروا جميعا إلى مصر وانتهوا إلى تنيس في صفر سنة أربع
وستين فملكوها عنوة واستباحوها ثم ساروا إلى القاهرة وحاصروها وأمر
شاور بإحراق مصر وانتقال أهلها إلى القاهرة فنهبت المدينة ونهب أموال
أهلها وبغتهم قبل نزول الإفرنج عليهم بيوم فلم تخمد النار مدّة شهرين
وبعث العاضد بالصريخ إلى نور الدين واشتدّ عليه الحصار وبعث شاور إلى
ملك الإفرنج يشير بالصلح على ألف دينار مصرية ويهدّده بعساكر نور الدين
فأجابوا إلى ذلك ودفع إليهم مائة ألف دينار وتأخروا قريبا حتى يصل
إليهم بقية المال وعجز عن تحصيله والإفرنج يستحثونه فبعثوا خلال ذلك
إلى نور الدين يستنجدونه على الإفرنج بأن يرسل إليهم أسد الدين شير كوه
في عسكر يقيمون عندهم على أنّ لنور الدين ثلث بلاد مصر ولأسد الدين
إقطاعه وعطاء العساكر فاستدعى أسد الدين من حمص وكانت إقطاعه وأمره
بالتجهز إلى مصر وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الدواب والأسلحة وحكمه في
العساكر والخزائن وما يحتاج إليه وسار في ستة آلاف وأزاح علل جنده
وأعانهم أسد الدين بعشرين دينارا لكل فارس وبعث معه جماعة من الأمراء
منهم خرديك مولاه وعز الدين قليج وشرف الدين بن بخش وعين الدولة
الياروقي وقطب الدين نيال بن حسان وصلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب وسار
إلى مصر فلما قاربها ارتحل الإفرنج راجعين إلى بلادهم ودخل هو إليها
منتصف السنة وخلع عليه العاضد [2] وأجرى عليه وعلى عسكره الجرايات
الوافرة ثم شرع شاور في مماطلة أسد الدين
__________
[ () ] آخرهم وبيده لت من حديد يحمي ساقتهم والمسلمون والفرنج ينظرون
إليه. قال: فأتاه فرنجي من الغرباء الذين خرجوا من البحر فقال له: أما
تخاف أن يغدر بك هؤلاء المصريون والفرنج، وقد أحاطوا بك وبأصحابك ولا
يبقى لكم بقية، فقال شيركوه يا ليتهم فعلوه حتى كنت ترى ما افعله، كنت
والله أضع السيف فلا يقتل منها رجل حتى يقتل منهم رجال، وحينئذ يقصدهم
الملك العادل نور الدين وقد ضعفوا وفني شجعانهم فنملك بلادهم ونهلك من
بقي. والله لو أطاعني هؤلاء لخرجت إليكم من أول يوم ولكنهم امتنعوا،
فصلب على وجهه وقال: كنا نعجب من فرنج هذه البلاد ومبالغتهم في صفتك
وخوفهم منك والآن فقد عذرناهم، ثم رجع عنه وسار شيركوه إلى الشام فوصل
سالما وكان الفرنج قد وضعوا له على مضيق في الطريق رصدا ليأخذوه أو
ينالوا منه ظفرا فعلم بهم فعاد عن ذلك الطريق ففيه يقول عمارة:
أخذتم عن الإفرنج كل ثنية ... وقلت لأيدي الخيل مرّي على (مري)
لئن نصبوا في البر جسر فإنكم ... عبرتم ببحر من حديد على الجسر.
وكلمة (مري) اسم ملك الفرنج.
[1] صانعه: داهنه، وأراه، رشاه. ومنه المثل: من صانع بالمال لم يحتشم
من طلب الحاجة.
[2] خلع عليه ثوبا: ألبسه إياه منحة.
(5/242)
بما وقع اتفاقهم معه عليه وحدّث نفسه
بالقبض عليه واستخدام جنده لمدافعة الإفرنج ولم يتمّ له ذلك وشعر به
أسد الدين فاعترضه صلاح الدين ابن أخيه وعز الدين خرديك مولاه عند قبر
الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وقتلاه وفوّض العاضد أمور دولته
إلى أسد الدين وتقاصر الإفرنج عنها ومات أسد الدين واستولى صلاح الدين
بعد ذلك على البلاد وارتجع البلاد الإسلامية من يد الإفرنج كما نذكر في
أخبار دولته والله أعلم [1] .
__________
[1] ذكرت هذه الحادثة في الكامل ج 11 ص 335 بعنوان.
(ذكر ملك أسد الدين مصر ومقتل شاور) في هذه السنة في ربيع الأول سار
أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى مصر فملكها ومعه العساكر النورية وسبب
ذلك ما ذكرناه من تمكن الفرنج من البلاد المصرية وأنهم جعلوا لهم في
القاهرة شحنة وتسلموا أبوابها وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم وأعيان
فرسانهم، وحكموا المسلمين حكما جائرا وركبوهم بالأذى العظيم. فلما رأوا
ذلك وأن البلاد ليس فيها من يردهم أرسلوا إلى ملك الفرنج بالشام وهو
(مري) ولم يكن للفرنج من ظهر بالشام مثله شجاعة ومكر أو دهاء يستدعونه
ليملكها وأعلموه خلّوها من موانع وهونوا أمرها عليه فلم يجبهم فاجتمع
إليه فرسان الفرنج وذو الرأي منهم فأشاروا عليه بقصدها وتملكها فقال
لهم:
الرأي عندي أننا لا نقصدها ولا طمعة لنا فيها وأموالها تساق إلينا
نتقوى بها على نور الدين، وان نحن قصدناها لنملكها فإن صاحبها وعساكره
وعامه بلاده وفلاحيها لا يسلمونها إلينا ويقاتلوننا دونها ويحملهم
الخوف منا على تسليمها إلى نور الدين، ولئن صار له فيها مثل أسد الدين
فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من ارض الشام فلم يقبلوا قوله، وقالوا له:
إنها لا مانع فيها ولا حامي وإلى أن يتجهز عسكر نور الدين ويسير إليها
نكون نحن قد ملكناها وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنى نور الدين منا
السلامة فسار معهم على كره وشرعوا يتجهزون ويظهرون أنهم يريدون قصد
مدينة حمص. فلما سمع نور الدين شرع أيضا بجمع عساكره وأمرهم بالقدوم
عليه، وجدّ الفرنج في السير إلى مصر فقدموها ونازلوا مدينة بلبيس
وملكوها قهرا مستهل صفر ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وكان جماعة من
أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج ووعدوهم النصرة عداوة منهم لشاور بن
الخياط وابن فرجلة، فقوي جنان الفرنج وساروا من بلبيس إلى مصر فنزلوا
على القاهرة عاشر صفر وحصروها فخاف الناس منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا
بأهل بلبيس، فحملهم الخوف منهم على الامتناع فحفظوا البلد وقاتلوا دونه
وبذلوا جهدهم في حفظه. فلو أن الفرنج أحسنوا السيرة في بلبيس ملكوا مصر
والقاهرة، ولكن الله تعالى حسن لهم ذلك أي ما فعلوا (ليقضي الله أمرا
كان مفعولا) وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر وأمر أهلها بالانتقال
منها إلى القاهرة، وأن ينهب البلد فانتقلوا وبقوا على الطرق ونهبت
المدينة وافتقر أهلها وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم
بيوم خوفا أن يملكها الفرنج فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوما
وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به ويعرفه ضعف المسلمين عن
دفع الفرنج وأرسل في الكتب شعور النساء وقال: هذه شعور نسائي من قصري
يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج فشرع في تسيير الجيوش. وأما الفرنج فإنّهم
اشتدوا في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها وشاور هو المتولي للأمر
والعساكر والقتال فضاق به الأمر وضعف عن ردهم فأخلد إلى أعمال الحليلة
فأرسل إلى ملك الفرنج يذكر له مودة ومحبة له قديما، وإن هواه معه لخوفه
من نور الدين والعاضد، وإنما المسلمون لا يوافقونه على التسليم إليه
ويشير بالصلح وأخذ مالا لئلا يتسلم البلاد نور الدين فأجابه الى ذلك
على ان يعطوه ألف ألف دينار مصرية يعمل البعض ويمهل بالبعض فاستقرت
القاعدة على ذلك، ورأى الفرنج أن البلاد قد امتنعت عليه وربما سلمت إلى
نور الدين فأجابوا كارهين وقالوا نأخذ المال فنتقوى به وتعاود البلاد
بقوة لا نبالي معها بنور الدين (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين)
فعجل لهم شاور مائة ألف دينار وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال
فرحلوا قريبا، وجعل شاور يجمع المال من أهل القاهرة ومصر فلم يتحصل له
إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وسببه أن أهل مصر كانوا قد احترقت
دورهم وما فيها وما سلم نهب وهم لا
(5/243)
حصار الافرنج دمياط
ولما ملك أسد الدين شيركوه مصر خشيه الافرنج على ما بأيديهم من مدن
الشام وسواحله وكاتبوا أهل ملتهم ونسبهم بصقلية وافرنسة يستنجدونهم على
مصر ليملكوها وبعثوا الأقسة والرهبان من بيت المقدس يستنفرونهم
لحمايتها وواعدوهم بدمياط طمعا في أن يملكوها ويتخذوها ركابا للاستيلاء
على مصر فاجتمعوا عليها وحاصروها لأوّل أيام صلاح الدين وأمدّهم صلاح
الدين بالعساكر والأموال وجاء بنفسه وبعث الى نور الدين يستنجده ويخوفه
على مصر فتابع اليه الامداد وسار بنفسه الى بلاد الافرنج بالشام
واكتسحها وخربها
__________
[ () ] يقدرون على الأقوات فضلا عن الأقساط، أما أهل القاهرة فالأغلب
على أهلها الجند وغلمانهم فلهذا تعذرت عليهم الأموال وهم في خلال هذا
يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث مصر وأن يكون أسد
الدين مقيما عندهم في عسكر وأقطاعهم من البلاد المصرية أيضا خارجا عن
الثلث الّذي لهم.
وكان نور الدين لما وصله كتب العاضد بحلب أرسل إلى أسد الدين يستدعيه
إليه فخرج العاضد في طلبه فلقيه على باب حلب وقد قدمها من حمص وكانت
إقطاعه. وكان سبب وصوله أن كتب المصريين وصلته أيضا في المعنى فسار
أيضا إلى نور الدين واجتمع به وعجب نور الدين من حضوره في الحال وسره
ذلك وتفاءل به وأمر بالتجهيز إلى مصر وأعطاه مائتي ألف دينار سوى
الشباب والدواب والأسلحة وغير ذلك، وحكمه في العسكر والخزائن، واختار
من العسكر ألفي فارس وأخذ المال وجمع ستة آلاف فارس، وسار هو ونور
الدين إلى باب دمشق فوصلها سلخ صفر ورحل إلى رأس الماء وأعطى نور الدين
كل فارس ممن مع أسد الدين عشرين دينارا معونة غير محسوبة من جامكيته،
وأضاف إلى أسد الدين جماعة أخرى من الأمراء منهم مملوكه عز الدين جرديك
وغرس الدين قليج شرف الدين برغش وعين الدولة الياروقي وقطب الدين ينال
بن حسان المنبجي وصلاح الدين يوسف بن أيوب أخي شيركوه على كره منه
(وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم.) أحب
نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب بيته وكره صلاح الدين المسير وفيه
سعادته وملكه.، وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجدا منتصف ربيع
الأول، فلما قارب مصر رحل الفرنج إلى بلادهم بخفي حنين خائبين مما
أملوا. وسمع نور الدين بعودهم فسره ذلك وأمر بضرب البشائر في البلاد
وبث رسله في الافاق مبشرين بذلك فإنه كان فتحا جديدا لمصر وحفظا لبلاد
الشام وغيرها. فأما أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة
ودخل إليها واجتمع بالعاضد لدين الله وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالخلعة
العاضدية، وفرح به أهل مصر وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة
والإنعامات الوافرة ولم يمكن شاور المنع عن ذلك لأنه رأى العساكر كثيرة
مع شيركوه وهوى العاضد معهم فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه، وشرع
يماطل أسد الدين في تقرير ما كان بذل لنور الدين من المال وإقطاع الجند
وإفراد ثلث البلاد لنور الدين وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين ويسير معه
ويعده ويمنيه وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً 4: 120 ثم
أنه عزم على أن يعمل دعوة يدعو إليها أسد الدين والأمراء الذين معه
ويقبض عليهم يستخدم من معهم من الجند فيمنع بهم البلاد من الفرنج فنهاه
ابنه الكامل وقال له: والله لئن عزوت على هذا الأمر لا عرفن شيركوه،
فقال له أبوه: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعا. فقال صدقت ولأن
نقتل ونحن مسلحون والبلاد إسلامية خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج،
فإنه ليس بينك وبين الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو
مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه فارسا واحدا ويملكون البلاد فترك
ما كان عزم عليه. ولما رأى العسكر النوري تطل شاور خافوا شره فاتفق
(5/244)
فعاد الفرنج الى دمياط بعد حصار خمسين يوما
نفس الله عليهم [1] ومن هذه القصة بقية أخبار الافرنج متعلقة بالدولتين
دولة بني زنكي بالشام ودولة بني أيوب بمصر فأخرت بقية أخبارهم الى أن
نسردها في الدولتين على مواقعها في مواضعها حسبما تراه ولم يبق الا
استيلاؤهم على القسطنطينية من يد الروم فأوردناه هاهنا.
استيلاء الافرنج على القسطنطينية
كان هؤلاء الافرنج بعد ما ملكوه من بلاد الشام اختلف أحوالهم في الفتنة
والمهادنة مع الروم بالقسطنطينية لاستيلائهم على الثغور من بلاد
المسلمين التي تجاور الروم التي كانت بأيديهم من قبل وظاهرهم الروم على
المسلمين في بعض المرّات ثم غلبوا عليهم آخرا وملكوا القسطنطينية من
أيديهم فأقامت في أيديهم مدّة ثم ارتجعها الروم على يد شكري من
بطارقتهم وكيفية الخبر عن ذلك أنّ ملوك الروم أصهروا الى ملوك الافرنج
وتزوّجوا منهم بنتا لملك الروم فولدت ذكرا خاله الافرنسيس وثب عليه
أخوه فانتزع الملك من يده وحبسه ولحق الولد بملك الافرنج خاله مستصرخا
به فوصل اليه وقد تجهز الافرنج لاستنقاذ القدس من يد المسلمين وكان
صلاح الدين قد ارتجعها منهم كما يأتي في أخباره ان شاء الله تعالى
وانتدب لذلك ثلاثة من ملوكهم دموس البنادقة وهو صاحب الاسطول الّذي
ركبوا فيه وكان
__________
[ () ] صلاح الدين يوسف بن أيوب وعز الدين جرديك وغيرهم على قتل شاور
فنهاهم أسد الدين فسكتوا وهم على ذلك العزم من قتله، فاتفق أن شاور قصد
عسكر أسد الدين على عادته فلم يجده في الخيام وكان قد مضى يزور قبر
الشافعيّ رضي الله تعالى عنه فلقيه صلاح الدين وجرديك في جمع من
العسكر، وخدموه وأعلموه بأن شيركوه في زيارة قبر الإمام الشافعيّ فقال:
نمضي إليه فساروا جميعا، فسايره صلاح الدين وجرديك والقوه إلى الأرض عن
فرسه فهرب أصحابه عند فأخذه أسيرا فلم يمكنهم قتله بغير أمر أسد الدين،
فتوكلوا بحفظه وسيروا وأعلموا أسد الدين فحضر ولم يمكنه إلا إتمام ما
عملوه. وسمع الخليفة العاضد صاحب مصر الخبر فأرسل إلى أسد الدين يطلب
منه رأس شاور وتابع الرسل بذلك فقتل وأرسل رأسه إلى العاضد في السابع
عشر من ربيع الآخرة، ودخل أسد الدين القاهرة فرأى من اجتماع الخلق ما
خافهم على نفسه فقال لهم أمير المؤمنين يعني العاضد يأمركم بنهب دار
شاور، فتفرق الناس عنه إليها فنهبوها وقصد هو قصر العاضد فخلع عليه خلع
الوزارة ولقب الملك المنصور أمير الجيوش. وسار بالخلع إلى دار الوزارة
وهي التي كان فيها شاور فلم ير فيها ما يقعد عليه واستقر في الأمر وغلب
عليه ولم يبق له مانع ولا منازع، واستعمل على الأعمال من يثق إليه من
أصحابه واقطع البلاد لعساكره. أما الكامل بن شاور فإنه لما قتل أبوه
دخل القصر هو إخوته معتصمين به فكان آخر العهد بهم فكان شيركوه يتأسف
عليه كيف عدم لأنه بلغه ما كان منه مع أبيه في منعه من قتل شيركوه،
وكان يقول: وددت أنه بقي لأحسن إليه جزاء الصنيعة.
[1] يقال: نفّس فلانا: اي أمهله أو أزال كربه وغمه
(5/245)
شيخا أعمى لا يركب ولا يمشي الا بقائد
ومقدّم الفرنسيس ويسمى المركيش والثالث يسمى كبد إقليد [1] وهو أكثرهم
عددا فجعل الملك ابن أخته معهم وأوصاهم بمظاهرته على ملكه بالقسطنطينية
ووصلوا اليه في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وخمسمائة فخرج عمّ الصبي
وقاتلهم واضرم شيعة الصبي النار في نواحي البلاد فاضطرب العسكر ورجعوا
وفتح شيعة الصبيّ باب المدينة وأدخلوا الافرنج وخرج عمه هاربا ونصب
الافرنج الصبيّ في الملك وأطلقوا أباه من السجن واستبدّوا بالحكم
وصادروا الناس وأخذوا مال البيع وما على الصلبان من الذهب وما على
تماثيل المسيح والحواريين وما على الإنجيل فعظم ذلك على الروم ووثبوا
بالصبيّ فقتلوه وأخرجوا الافرنج من البلد وذلك منتصف سنة ستمائة وأقام
الافرنج بظاهرها محاصرين لهم وبعث الروم صريخا الى صاحب قونية ركن
الدين سليمان بن قليج ارسلان فلم ينهض لذلك وكان بالمدينة متخلفون من
الافرنج يناهزون ثلاثين ألفا فثاروا بالبلد عند شغل الروم بقتال
أصحابهم وأضرموا النار ثانيا فاقتحم الافرنج وأفحشوا في النهب والقتل
ونجا كثير من الروم الى الكنائس وأعظمها كنيسة سوميا فلم تغن عنهم وخرج
القسيسون والأساقفة في أيديهم الإنجيل والصلبان فقتلوهم ثم تنازع
الملوك الثلاثة على الملك بها وتقارعوا فخرجت القرعة على كبداقليد
فملكها على أن يكون لدموس البنادقة الجزائر البحرية اقريطش ورودس
وغيرهما ويكون لمركيش الافرنسيس شرقي الخليج ولم يحصل أحد منهم شيئا
الا ملك القسطنطينية كبداقليد وتغلب على شرقي الخليج بطريق من بطارقة
الروم اسمه شكري فلم يزل بيده الى أن مات ثم غلب بعد ذلك على
القسطنطينية وملكها من يد الافرنج والله غالب على أمره [2] .
الخبر عن دولة بني ارتق وملكهم لماردين
وديار بكر ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم
كان ارتق بن اكسك ويقال اكست والأوّل أصح كلمة أوّلها همزة ثم كافان
الاولى ساكنة بينهما سين من مماليك السلطان ملك شاه بن البارسلان ملك
السلجوقية وله مقام محمود في
__________
[1] كذا بالأصل، وهنا أسماء افرنجية محرفة كما هي كذلك محرفة في كتب
التاريخ القديمة. وفي الكامل ج 12 ص 191 وكانوا ثلاثة ملوك: دوقس
البنادقة وهو صاحب المراكب البحرية، وفي مراكبه ركبوا الى القسطنطينية
وهو شيخ أعمى إذا ركب تقاد فرسه، والآخر يقال له المركيس وهو مقدم
الافرنسيس. والآخر يقال له كند افلنر وهو أكثرهم عددا.
[2] وهنا أيضا عدم انسجام في العبارات وتحريف في الأسماء، راجع الكامل
ج 12 ص 190- 193.
(5/246)
دولتهم وكان على حلوان وما اليها من أعمال
العراق ولما بعث السلطان ملك شاه عساكره الى حصار الموصل مع فخر الدولة
بن جهير سنة سبع وسبعين وأربعمائة أردفه بعسكر آخر مع أرتق فهزمه مسلم
بن قريش فحاصره بآمد ثم داخلة في الخروج من هذا الحصار على مال اشترطه
ونجا الى الرقة ثم خشي ارتق من فعلته تلك فلحق بتتش حتى سار الى حلب
طامعا في ملكها فلقيه تتش وهزمه وكان لارتق في تلك الواقعة المقام
المحمود ثم سار تتش الى حلب وملكها واستجار مقدمها ابن الحسين بأرتق
فأجاره من السلطان تتش ثم هلك ارتق سنة ثلاث وثمانين بالقدس وملكه من
بعد ارتق ابناه أبو الغازي وسقمان وكان لهما معه الرها [1] وسروج [2]
ولما ملك الافرنج انطاكية سنة احدى وتسعين وأربعمائة اجتمعت الأمراء
بالشام والجزيرة وديار بكر [3] وحاصروها وكان لسقمان في ذلك المقام
المحمود ثم تخاذلوا وافترقوا وطمع أهل مصر في ارتجاع القدس منهم وسار
اليها الملك الأفضل المستولى على دولتهم فحاصرها أربعين يوما وملكها
بالأمان وخرج سقمان وأبو الغازي ابنا ارتق وابن أخيهما ياقوتي وابن
عمهما سونج وأحسن اليهم الأفضل وولىّ على بيت المقدس ورجع الى مصر وجاء
الافرنج فملكوها كما تقدّم في أخبار الدولة السلجوقية ولحق أبو الغازي
بالعراق فولّى شحنة بغداد وسار سقمان الى الرها فأقام بها وكان بينه
وبين كربوقا صاحب الموصل فتن وحروب أسر في بعضها ياقوتي ابن أخيه ثم
توفي كربوقا سنة خمس وتسعين وولىّ الموصل بعده موسى التركماني وكان
نائبا بحصن كيفا فزحف اليه جكرمس صاحب جزيرة ابن عمر وحاصره بالموصل
واستنجد موسى سقمان على أن يعطيه حصن كيفا [4] فأنجده وسار اليه وأفرج
عنه جكرمس وخرج موسى للقاء سقمان فقتله مواليه غدرا ورجع سقمان الى حصن
كيفا فملكه ثم كانت الفتنة بين أبي الغازي وكمستكين القيصري لما بعثه
بركيارق شحنة على بغداد وكان هو شحنة من قبل السلطان محمد فمنع القيصري
من الدخول واستنجد أخاه سقمان فجاء اليه
__________
[1] الرها: مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام بينهما اربع فراسخ، سميت
باسم الّذي استحدثها وهو الرهاء اليلندي بن مالك بن دعر.
[2] سروج: بلدة قريبة من حران من ديار مصر، غلب عياض بن غنم على أرضها
ما فتحها صلحا على مثل صلح الرها في سنة 17 في أيام عمر رضي الله عنه.
ديار بكر: هي بلاد كبيرة واسعة تنسب الى بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن
افصى بن دعمي بن جديله بن
[3] أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وحدها ما غرّب من دجلة الى
بلاد الجبل المطل على نصيبين الى دجلة وفيه حصن كيفا وآمد وميافارقين.
[4] حصن كيفا: ويقال كيبا، وأظنها ارمينية وهي بلدة وقلعة عظيمة مشرفة
على دجلة بين آمد وجزيرة ابن عمر من ديار بكر.
(5/247)
من حصن كيفا في عساكره ونهب تكريت [1] وخرج
اليه أبو الغازي واجتمع معهم صدقة بن مزيد صاحب الحلة وعاثوا في نواحي
بغداد وفتكوا بنفر من أهل البلد وبعث اليهم الخليفة في الصلح على أن
يسير القيصري الى واسط [2] فسار اليها ودخل أبو الغازي بغداد ورجع
سقمان الى بلده وقد مرّ ذلك في أخبارهم ثم استولى مالك بن بهرام أخى
سقمان على عامّة الخرمية سنة سبع وتسعين وكان له مدينة سروج فملكها منه
الافرنج وسار الى غانة فملكها من بني يعيش بن عيسى بن خلاط واستصرخوا
بصدقة بن مزيد وارتجعها لهم منه وعاد الى الحلة فعاد مالك فملكها
واستقرّت في ملكه ثم اجتمع سقمان وجكرمس صاحب الموصل على جهاد الافرنج
سنة سبع وتسعين وهم محاصرون حران [3] فتركوا المنافسة بينهم وقصدوهم
وسقمان في سبعة آلاف من التركمان فهزموا الافرنج وأسروا القمص بردويل
صاحب الرها أسره أصحاب سقمان فتغلب عليهم أصحاب جكرمس وأخذوه وافترقوا
بسبب ذلك وعادوا الى ما كان بينهم من الفتن والله أعلم.
استيلاء سقمان بن ارتق على ماردين
كان هذا الحصن ماردين [4] من ديار بكر وأقطعه السلطان بركيارق بجميع
أعماله لمغن كان عنده وكان في ولاية الموصل وكان ينجرّ اليه خلق كثير
من الأكراد يفسدون السابلة واتفق ان كربوقا صاحب الموصل سار لحصار آمد
[5] وهي لبعض التركمان فاستنجد صاحبها بسقمان فسار لانجاده وقاتل
كربوقا قتالا شديدا ثم هزمه وأسر ابن أخيه ياقوتي بن ارتق وحبسه بقلعة
__________
[1] تكريت: بلدة مشهورة بين بغداد والموصل ولها قلعة حصينة في طرفها
الأعلى راكبة على دجلة وهي غربي دجلة.
[2] واسط: واسط في عدة مواضع والمذكورة هنا هي واسط الحجاج وهو الّذي
بناها وسميت واسطا لتوسطها بين البصرة والكوفة لان منها والى كل منهما
خمسين فرسخا. والحجاج هو الّذي بناها.
[3] حرّان: مدينة عظيمة مشهورة من جزيرة اقور، وهي قصبة ديار مضر،
بينها وبين الرها يوم واحد وبين الرقة يومان وهي على طريق الموصل
والشام والروم وقيل سميت بهارات اخي إبراهيم عليه السلام، لانه أول من
بناها فعرّبت مقيل حرّان، وذكر انها أول مدينة بنيت على الأرض بعد
الطوفان.
[4] ماردين: قلعة مشهورة على قنّة جبل الجزيرة مشرفة على دنيسر ودارا
ونصيبين، وذلك الفضاء الواسع، وقدامها ربض عظيم فيه أسواق كثيرة وخانات
ومدارس وربط وخان قاهاث ودورهم فيها كالدرج. ومما لا شك فيه انه ليس في
الأرض كلها أحسن من قلعتها ولا أحصن ولا احكم (معجم البلدان) .
[5] آمد أعظم مدن ديار بكر وأجلها قدرا واشهرها ذكرا. بلد قديم حصين
ركين مبني بالحجارة السود على نشز دجلة محيطة بأكثره مستديرة به
كالهلال، وفي وسطه عيون وآبار.
(5/248)
ماردين عند المغنى فبقي محبوسا مدّة طويلة
وكثر ضرر الأكراد فبعث ياقوتي الى المغنى صاحب الحصن في أن يطلقه ويقيم
عنده بالربض لدفاع الأكراد ففعل وصار يغير عليهم في سائر النواحي الى
خلاط وصار بعض أجناد القلعة يخرجون للاغارة معه فلا يهيجهم ثم حدّثته
نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الأيام مرجعه من الاغارة ودنا
من القلعة وعرضهم على القتل ان لم يفتحوا له ففتحها أهلوهم وملكها وجمع
الجموع وسار الى نصيبين [1] وأغار على جزيرة ابن عمر وهي لجكرمس فكبسه
جكرمس وأصحابه في الحرب بينهم فقتله وبكاه جكرمس وكان تحت ياقوتي ابنة
عمه سقمان فمضت الى أبيها وجمعت التركمان وجاء سقمان بهم الى نصيبين
فترك طلب الثار فبعث اليه جكرمس ما أرضاه من المال في ديته ورجع وقدم
بماردين بعد ياقوتي أخوه على بطاعة جكرمس وخرج منها لبعض المذاهب وكتب
نائبة بها الى عمه سقمان بأنه يملك ماردين لجكرمس فسار اليها سقمان
وعوض عليا ابن أخته جبل جور وأقامت ماردين في ملكه مع حصن كيفا واستضاف
اليهما نصيبين والله أعلم.
وفاة سقمان بن ارتق وولاية أخيه أبي الغازي
مكانه بماردين
ثم بعث فخر الدين بن عمار صاحب طرابلس يستنجد سقمان بن ارتق على
الافرنج وكان استبدّ بها على الخلفاء العلويين أهل مصر ونازلة الافرنج
عند ما ملكوا سواحل الشام فبعث بالصريخ الى سقمان بن ارتق سنة ثمان
وتسعين وأجابه وبينما هو يتجهز للمسير وافاه كتاب طغركين صاحب دمشق
المستبدّ بها من موالي بني تتش يستدعيه لحضور وفاته خوفا على دمشق من
الافرنج فأسرع المسير اليه معتزما على قصد طرابلس وبعدها دمشق فانتهى
الى القريتين [2] وندم طغركين على استدعائه وجعل يدبر الرأي مع أصحابه
في صرفه ومات هو بالقدس فكفاهم الله أمره وقد كان أصحابه عند ما أشفي
على الموت أشاروا عليه بالرجوع الى كيفا فامتنع وقال هذا جهاد وان مت
كان لي ثواب شهيد فلما مات حمله ابنه إبراهيم الى
__________
[1] نصيبين: مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل
الى الشام وفيها وفي قراها على ما يذكر أهلها أربعون ألف بستان (معجم
البلدان) .
[2] القريتين: قرية كبيرة من اعمال حمص في طريق البرية بينها وبين سخنة
وأرك وقال ابو حذيفة في فتوح الشام:
وسار خالد بن الوليد من تدمر الى القريتين وهي التي تدعى حوّارين.
(معجم البلدان)
(5/249)
حصن كيفا فدفنه بها وكان أبو الغازي بن
ارتق شحنة بغداد كما قدّمناه ولاه السلطان محمد أيام الفتنة بينه وبين
أخيه بركيارق فلما اصطلح بركيارق وأخوه سنة تسع وتسعين على أن تكون
بغداد له وممالك أخرى من الممالك الإسلامية ومن جملتها حلوان وهي أقطاع
أبي الغازي فبادر وخطب لبركيارق ببغداد فنكر عليه ذلك صدقة بن مزيد
وكان من شيعة السلطان محمد فجاء الى بغداد ليزعج [1] أبا الغازي عنها
ففارقها الى يعقوب وبعث الى صدقة يعتذر بأنه صار في ولاية بركيارق
ويحكم الصلح في اقطاعه وولايته فلم يمكنه غير ذلك ومات بركيارق على اثر
ذلك فخطب أبو الغازي لابنه ملك شاه فنكر ذلك السلطان محمد منه فلما
استولى على الأمر عز له عن شحنة بغداد فلحق بالشام وحمل رضوان بن تتش
صاحب حلب على حصار نصيبين من بلاد جكرمس فحاصروها وبعث جكرمس الى رضوان
وأغراه بأبي الغازي ففسد ما بينهما ورحلوا مفترقين على نصيبين وسار أبو
الغازي الى ماردين وقد مات أخوه سقمان كما قلناه فاستولى عليها والله
تعالى أعلم.
اضطراب أبي الغازي في طاعته وأسره ثم خلاصه
لما ولى السلطان محمد على الموصل والجزيرة وديار بكر سنة اثنتين
وخمسمائة مودود بن افتكين مكان جاولي سكاوو الّذي ملكها من يد جكرمس
كما مرّ في أخبارهم فوصل مودود الى الموصل وسار جاولي الى نصيبين وهي
يومئذ لابي الغازي وراسله في المظاهرة والانجاد فوصل اليه بماردين على
حين غفلة مستنجدا به فلم يسعه الا اسعافه وسار معه الى سنجار والرحبة
وحاصرهما وشق عليهما فلما نزل الخابور هرب أبو الغازي راجعا الى نصيبين
ثم الى بلده وبقي مضطربا ثم بعث السلطان محمد سنة خمس وخمسمائة الى
الأمير مودود بالمسير الى قتال الافرنج وأن يسير الأمراء معه من كل جهة
مثل سقمان القطبي صاحب ديار بكر وأحمد بك صاحب مراغة وأبي الهيجاء صاحب
اربل وأبي الغازي صاحب ماردين فحضروا كلهم الا أبا الغازي فإنه بعث
ولده أياز في عسكر فسارت العساكر الى الرها وحاصروها وامتنعت عليهم ثم
ساروا سنة ست وخمسمائة الى سروج كذلك ثم ساروا سنة سبع الى بلاد
الافرنج فهزموهم على طبرية ودوّخوا بلادهم وعاد مودود الى دمشق وافترقت
العساكر ودخل دمشق ليشتي بها عند طغركين صاحبها فقتل غيلة بها واتهم
طغركين في أمره وبعث السلطان مكانه
__________
[1] زعجه وأزعجه: اقلعه وقلعه من مكانه، طرده. أزعجه الى المعصية.
(5/250)
على العساكر والموصل آقسنقر البرسقي وأمره
بقصد الافرنج وقتالهم وكتب الى الأمراء بطاعته وبعث ابنه الملك مسعودا
في عسكر كثيف ليكونوا معه فسار آقسنقر سنة ثمان وخمسمائة وفرّ أبو
الغازي وحاصره بماردين حتى استقام وبعث معه ابنه أياز في عسكر فحاصروا
الرها وعاثوا في نواحيها ثم سروج وشمشاط وأطاعه صاحب مرعش وكيسوم ورجع
فقبض على أياز بن أبي الغازي ونهب سواد ماردين فسار أبو الغازي من وقته
الى ركن الدولة داود ابن أخيه سقمان وهو بحصن كيفا مستنجدا به فأنجده
وساروا الى البرسقي آخر ثمان وخمسمائة فهزموهم وخلصوا ابنه أياز من
الأسر وأرسل السلطان الى أبي الغازي يتهدّده فلحق بطغركين صاحب دمشق
صريخا وكان طغركين مستوحشا لاتهامه بأمر مودود فاتفقا على الاستنجاد
وبعثا بذلك الى صاحب انطاكية فجاء اليهما قرب حمص وتحالفا وعاد الى
انطاكية وسار أبو الغازي الى ديار بكر في خف من أصحابه فاعترضه قيرجان
صاحب حمص فظفر به وأسره وبعث الى السلطان بخبره وأبطأ عليه وصول جوابه
فيه وجاء طغركين الى حمص فدخل على قيرجان وألحّ عليه بقتل أبي الغازي
ثم أطلقه قيرجان وأخذ عليه وسار أبو الغازي الى حلب وبعث السلطان
العساكر مع يوسف بن برسق صاحب همذان وغيره من الأمراء لقتال أبي الغازي
وقتال الافرنج بعده فساروا الى حلب وبها لؤلؤ الخادم مولى رضوان بن تتش
كفل ابنه البارسلان بعد موته ومعه مقدم العساكر شمس الخواص فطالبوهما
بتسليم حلب بكتاب السلطان اليهما في ذلك وبادر أبو الغازي وطغركين
فدخلا اليهما فامتنعت عليهما فساروا الى حماة من أعمال طغركين وبها
ذخائره ففتحوها عنوة ونهبوها وسلموها الى الأمير قيرجان صاحب حمص
فأعطاهم أياز بن أبي الغازي وكان أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص ساروا
الى روجيل صاحب انطاكية يستنجدونه على حفظ حماة وجاءهم هنالك بقدوين
صاحب القدس والقمص صاحب طرابلس وغيرهما واتفقوا على مطاولة العساكر
ليتفرّقوا عند هجوم الشتاء واجتمعوا عند قلعة افامية فلم تبرح العساكر
مكانها فافترقوا وعاد طغركين الى دمشق وأبو الغازي الى ماردين والافرنج
الى بلادهم ثم كان اثر ذلك فتح كفرطاب على المسلمين واعتزموا على
معاودة حلب فاعترضهم روجيل صاحب انطاكية وقد جاء في خمسمائة فارس مددا
للافرنج في كفرطاب فانهزم المسلمون وكان تمحيصهم ورجع برسق أمير
العساكر وأخوه منهزمين الى بلادهم وكان أياز بن أبي الغازي أسيرا عندهم
فقتله الموكلون به يوم المعركة سنة تسع وخمسمائة والله تعالى أعلم.
(5/251)
استيلاء أبي الغازي
على حلب
كان رضوان بن تتش صاحب حلب لما توفي سنة سبع وخمسمائة قام بأمر دولته
لؤلؤ الخادم ونصب ابنه البارسلان في ملكه ثم استوحش منه ونصب مكانه
أخاه سلطان شاه واستبدّ عليه ثم سار لؤلؤ الخادم الى قلعة جعفر سنة
احدى عشرة [1] بينه وبين مالك ابن سالم بن مالك بن بدران فغدر به
مماليك الأتراك وقتلوه عند خرت برت واستولوا على خزائنه واعترضهم أهل
حلب واستنقذوا منهم ما أخذوه وولى شمس الخواص أتابك مكان لؤلؤ ثم عزل
لشهر وولى أبو المعالي بن الملحي الدمشقيّ ثم عزل وصودر واضطربت الدولة
وخشي أهل حلب على بلدهم من الافرنج فاستدعوا أبا الغازي بن ارتق من
ماردين وسلموا له البلد وانقرض ملك آل رضوان بن تتش منها فلم يملكها
بعد واحد منهم ولما ملكها لم يجد فيها مالا فصادر جماعة من الخدم وصانع
الافرنج بما لهم ثم سار الى ماردين بنية العود الى حمايتها واستخلف
عليها ابنه حسام الدين تمرتاش.
واقعة أبي الغازي مع الافرنج
ولما استولى أبو الغازي على حلب وسار عنها طمع فيها الافرنج وساروا
اليها فملكوا مراغة وغيرها من أعمالها وحاصروها فلم يكن لأهلها بدّ من
مدافعتهم بقتال أو بمال فقاسموهم أملاكهم التي بضاحيتها في سبيل
المصانعة وبعثوا الى بغداد يستغيثون فلم يغاثوا وجمع أبو الغازي من
العساكر والمتطوعة نحوا من عشرين ألفا وسار بهم الى الشام سنة ثلاث
عشرة ومعه أسامة بن مبارك بن منقذ الكناني وطغان ارسلان بن اسكين بن
جناح صاحب ارزن الروم ونزل الافرنج قريبا من حصون الاماري في ثلاثة
آلاف فارس وتسعة آلاف راجل ونزلوا في تل عفرين حيث كان مقتل مسلم بن
قريش وتحصنوا بالجبال من كل جهة الا ثلاث مسارب فقصدهم أبو الغازي ودخل
عليهم من تلك المسارب وهم غارّون فركبوا وصدقوا الحملة فلقوا عساكر
المسلمين متتابعة فولوا منهزمين وأخذهم السيف من كل جهة فلم يفلت الا
القليل وأسر من زعمائهم سبعون فاداهم أهل حلب بثلاثمائة ألف دينار وقتل
سرجان صاحب انطاكية ونجافلهم من المعركة فاجتمع جماعة من الافرنج
وعاودوا اللقاء
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 109: سار منها الى قلعة جعبر
ليجتمع بالأمير سالم بن مالك العقيلي صاحبها.
(5/252)
فهزمهم أبو الغازي وفتح حصن الاربات ورزدنا
وعاد الى حلب فأصلح أمورها وعبر الفرات الى ماردين وولى على حلب ابنه
سليمان ثم وصل دبيس بن صدقة الى أبي الغازي مستجيرا به فكتب اليه
المسترشد مع سرير الدولة عبد أبي الغازي [1] بابعاد دبيس ثم وقع بينه
وبين السلطان محمود الاتفاق ورهن ولده على الطاعة ورجع وسار أبو الغازي
الى الافرنج عقب ذلك سنة أربع عشرة فقاتلهم بأعمال حلب وظفر بهم ثم سار
هو وطغركين صاحب دمشق فحاصروا الافرنج بالمثيرة وخشوا من استماتتهم
فأفرج لهم أبو الغازي حتى خرجوا من الحصن وكان لا يطيل المقام بدار
الحرب لأنّ أكثر الغزاة معه التركمان يأتون بجراب دقيق وقديد شاه
فيستعجل العودان فنيت ازوادهم والله أعلم.
انتقاض سليمان بن أبي الغازي بحلب
كان أبو الغازي قد ولى على حلب ابنه سليمان فحمله بطانته على الخلاف
على أبيه وسار اليه أبوه [2] تلقاه ابنه سليمان بالمعاذير فأمسك عنه
وقبض على بطانته الذين داخلوه في ذلك وكان متولي كبرها أمير كان لقيطا
لأبيه ونشأ في بيته فسمله وقطع لسانه وكان منهم آخر من أهل حماه قدّمه
أبو الغازي على أهل حلب فقطعه وسمله فمات وأراد قتل ابنه ثم ثنته
الشفقة عليه وهرب الى دمشق وشفع فيه طغركين فلم يشفعه ثم استخلف على
حلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار ولقبه بدر الدولة وعاد الى ماردين وذلك
سنة خمس عشرة ثم ابنه حسام الدين تمرتاش مع القاضي بهاء الدولة أبي
الحسن الشهرزوريّ شافعا في دبيس وضامنا في طاعته فلم يتمّ ذلك فلما
انصرف تمرتاش الى أبيه أقطع السلطان أباه أبا الغازي مدينة ميافارقين
وكانت لسقمان القطبي صاحب خلاط فتسلمها أبو الغازي ولم تزل في يده الى
أن ملكها صلاح الدين بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة والله تعالى أعلم.
واقعة مالك بن بهرام مع جوسكين صاحب الرها
قد تقدّم لنا أنّ جوسكين من الافرنج كان صاحب الرها وسروج وأنّ مالك بن
بهرام كان قد
__________
[1] كذا بياض بالأصل. وفي الكامل ج 10 ص 568: أرسل المسترشد باللَّه
خلعا مع سديد الدولة ابن الأنباري نجم الدين ايلغازي وشكره على ما
يفعله من غزو الفرنج ويأمره بابعاد دبيس.
[2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 591 فسمع والده الخبر فسار مجدا
لوقته فلم يشعر به سليمان حتى هجم عليه فخرج اليه معتذرا فأمسك عنه.
وقبض على من أشار عليه بذلك.
(5/253)
ملك مدينة غانة فسار سنة خمس عشرة الى
الرها وحاصرها أياما فامتنعت عليه وسار جوسكين في اتباعه بعد أن جمع
الافرنج وقد تفرّق عن مالك أصحابه ولم يبق معه الا اربعمائة فلحقوه في
أرض رخوة قد نضب عنها الماء فوحلت فيها خيولهم ولم يقدروا على التخلص
فظفر بهم أصحاب مالك وأسروهم وجعل جوسكين في إهاب جمل وخيط عليه وطلبوا
منه تسليم الرها فلم يفعل وحبسه في خرت برت بعد أن بذل في فديته أموالا
فلم يفادوه والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
وفاة أبي الغازي [1] وملك بنيه من بعده
ثم توفي أبو الغازي بن ارتق صاحب ماردين في رمضان سنة ست عشرة وخمسمائة
فولى بعده بماردين ابنه حسام الدين تمرتاش وملك سليمان ميافارقين وكان
بحلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار فاستولى عليها ثم سار مالك بن بهرام
بن ارتق الى مدينة حران فحاصرها وملكها وبلغه انّ سليمان ابن عمه بعد
الجبار صاحب حلب قد عجز عن مدافعة الافرنج وأعطاهم حصن الاماري فطمع في
ملك بلاده وسار اليها في ربيع سنة ست عشرة وملكها من يده على الأمان ثم
سار سنة ثمان عشرة الى منبج وحاصرها وملك المدينة وحبس صاحبها حسان
التغلبي وامتنع أهلها بالقلعة فحاصرها وسمع الافرنج بذلك فساروا اليه
فترك على القلعة من يحاصرها ونهض اليهم فهزمهم وأثخن فيهم وعاد الى
منبج فحاصرها وأصابه بعض الأيام سهم غرب فقتله فاضطرب العسكر وافترقوا
وخلص حسان من محبسه وكان تمرتاش بن أبي الغازي صاحب ماردين معه على
منبج فلما قتل حمل شلوه الى حلب ودفنه بها واستولى عليها ثم استخلف
عليها وعاد الى ماردين وجاء الافرنج الى مدينة صور فملكوها وطمعوا في
غيرها من بلاد المسلمين ولحق بهم دبيس بن صدقة ناجيا من واقعته مع
المسترشد فأطمعهم في ملك حلب وساروا معه فحاصروها وبنوا عليها المساكن
وطال الحصار وقلت الأقوات واضطرب أهل البلد وظهر لهم العجز من صاحبهم
ولم يكن في الوقت أظهر من البرسقي صاحب الموصل ولا أكثر قوّة وجمعا منه
فاستدعوه ليدافع عنهم ويملكوه وشرط عليهم أن يمكنوه من القلعة قبل
وصوله ونزل فيها بوابه وسار فلما أشرف على الافرنج ارتحلوا عائدين الى
بلادهم وخرج أهل حلب فتلقوا البرسقي فدخل واستولى على حلب وأعمالها ولم
تزل بيده الى ان هلك وملكها ابنه عز الدين ثم هلك فولى السلطان محمود
عليها أتابك زنكي حسبما يأتي
__________
[1] وفي الكامل ايلغازي. ج 10 ص 604
(5/254)
في أخبار دولته ورجع تمرتاش الى ماردين
واستمرّ ملكه بها وكان مستوليا على كثير من قلاع ديار بكر ثم استولى
سنة اثنتين وثلاثين على قلعة الساج من ديار بكر وكانت بيد بعض بني
مروان من بقايا ملوك الأوّلين وكان هذا آخرهم بهذه القلعة وكان ملك
ميافارقين قد سار لحسام الدين تمرتاش وملكها من يد أخيه سليمان ولم يزل
تمرتاش ملكا بماردين الى أن هلك سنة سبع وأربعين وخمسمائة لإحدى
وثلاثين سنة من ملكه والله تعالى ولىّ التوفيق.
وفاة تمرتاش وولاية ابنه البي بعده
ثم توفي حسام الدين تمرتاش سنة سبع وأربعين وخمسمائة كما قلناه فملك
بعده ابنه بماردين البي بن تمرتاش وبقي ملكا عليها الى أن مات وولى
بعده ابنه أبو الغازي بن البي الى أن مات ولم يذكر ابن الأثير تاريخ
وفاتهما وقال مؤرّخ حماة لم يقع اليّ تاريخ وفاتهما.
ولاية حسام الدين بولق ارسلان بن أبي
الغازي بن البي
ولما توفي أبو الغازي بن البي قام بأمر ملكه نظام الملك النقش ونصب
للملك مكانه ابنه بولق ارسلان طفلا واستبدّ عليه وكان النقش غالبا على
هواه حيث صار أمر الطفل في يده ولم تزل حالهم على ذلك الى أن هلك حسام
الدين في سنة خمس وتسعين وخمسمائة على عهد بولق هذا وكناه ابن الأثير
حسام الدين ناصر الملك قصد العادل أبو بكر ابن أيوب ماردين وخشيت ملوك
الجزيرة ولم يقدروا على منعه ثم توفي العزيز بن صلاح الدين صاحب مصر
وولى أخوه الأفضل فاستنفر العادل أهل مصر ودمشق وأهل سنجار وبعثهم مع
ابنه الكامل وحاصروا ماردين فبعث اليه النقش المستولي على بولق بالطاعة
وتسليم القلعة لأجل معلوم على أن يدخل اليهم الأقوات ووضع العادل ابنه
على بابها أن لا يدخلها زائد على القوت فصانعوا الولد بالمال وشحنوها
بالأقوات وبينما هم في ذلك جاء نور الدين صاحب الموصل لانجادهم وقاتلهم
فانهزمت عساكر العادل وخرج أهل القلعة فأوقعوا بعسكر الكامل ابنه
فرحلوا جميعا منهزمين ونزل حسام الدين بولق الى نور الدين ولقيه وشكر
وعاد ونزل نور الدين على دبيس ثم رحل عنها قاصدا حوران كما نذكره في
أخبار دولته ان شاء الله تعالى والله أعلم
.
(5/255)
وفاة بولق [1]
وولاية أخيه ارتق
ولما هلك بولق ارسلان نصب لؤلؤ الخادم بعده للملك أخاه الأصغر ناصر
الدين ارتق ارسلان بن قطب الدين أبي الغازي ولم يذكر ابن الأثير خبر
وفاته أيضا وبقي مملكا في كفالة النقش الى سنة احدى وستمائة والله
أعلم.
مقتل النقش [2] واستبداد ارتق المنصور
واتصال الملك في عقبه
ثم استنكف ارتق من المحر ومرض النقش سنة احدى وستمائة فجاء ارتق
لعيادته وقتل لؤلؤا خادمه في بعض زوايا بيته ورجع الى النقش فقتله في
فراشه واستقلّ بملك ماردين وتلقب المنصور وتوفي سنة ست وثلاثين
وثلاثمائة [3] وملك بعده ابنه السعيد نجم الدين غازي بن ارتق وتوفي سنة
ثمان أو ثلاث وخمسين وملك بعده أخوه المظفر قرا ارسلان بن ارتق فأقام
سنة أو بعضها ثم هلك سنة ثلاث وتسعين وستمائة وملك بعده أخوه المنصور
نجم الدين غازي بن قرا ارسلان الى أن توفي سنة اثنتي عشرة وسبعمائة
لأربع وخمسين سنة من ولايته وملك بعده ابنه المنصور أحمد الى أن توفي
سنة تسع وستين لثلاث سنين من ولايته ثم ملك بعده ابنه الصالح محمود
اربعة أشهر وخلعه عمه المظفر فخر الدين داود بن المنصور أحمد الى أن
توفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وملك بعده ابنه مجد الدين عيسى وهو
السلطان بماردين لهذا العهد والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده
(ولما) ملك هلاكو بن طلو خان بن جنكزخان مدينة بغداد واعمالها أعطاه
المظفر قرا ارسلان طاعته وخطب له في أعماله ولم يزالوا يدينون بطاعة
بنيه الى أن هلك أبو سعيد بن خربهرا آخر ملوك التتر ببغداد سنة سبع
وثلاثين فقطعوا الخطبة لهم واستبدّ أحمد المنصور منهم وهو الثاني عشر
من لدن أبي الغازي جدّهم الأوّل (وأمّا) داود بن سقمان فإنه ملك حصن
كيفا من بعد سقمان أبيه وإبراهيم أخيه ولم أقف على خبر وفاته (وملك
بعده) ابنه فخر الدين قرا ارسلان بن داود وملك أكثر ديار بكر مع حصن
كيفا وتوفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة (وملك بعده) ابنه نور الدين محمد
بعهده
__________
[1] وفي بعض النسخ بولق ارسلان.
[2] وفي بعض النسخ البقش.
[3] كذا بالأصل ويقتضي ان تكون وستمائة حسب سير الحوادث.
(5/256)
اليه بذلك وكانت بينه وبين صلاح الدين
مواصلة ومظاهرة ظاهر صلاح الدين على الموصل على أن يظاهره على آمد
فظاهره صلاح الدين وحاصرها من صاحبها ابن سان سنة تسع وستين وصارت من
أعمال نور الدين كما نذكر في دولة صلاح الدين ثم توفي نور الدين محمد
سنة احدى وثمانين وخلف ولدين (فملك الأكبر) منهما قطب الدين سقمان وقام
بتدبير دولته العوّام بن سماق الأسعد وزير أبيه وكان عماد الدين أخو
نور الدين هو المرشح للامارة الا أنه سار في العساكر مددا لصلاح الدين
على حصار الموصل فلما بلغه الخبر بوفاة أخيه سار لملك البلد لصغر أولاد
أخيه نور الدين فلم يظفر واستولى على خرت برت فانتزعها منهم وملكها
وأورثها بنيه فلما أفرج صلاح الدين عن الموصل لقيه قطب الدين سقمان
وأقره على ملك أبيه بكيفا وأبقى بيده آمد التي كان ملكها لأبيه وشرط
عليه مراجعته في أحواله والوقوف عند أوامره وأقام أميرا من أصحاب ابنه
قرا ارسلان اسمه صلاح الدين فقام بأمور دولته واستقرّ ملكه بكيفا وآمد
وما اليهما الى أن توفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة تردّى من جوسق له بحصن
كيفا فمات وكان أخوه محمود مرشحا لمكانه الا أن قطب الدين سقمان كان
شديد البغضاء له وأشخصه الى حصن منصور من آخر عملهم واصطفي مملوكه
اياسا وزوّجه بأخته وجعله ولى عهده (ولما توفي) ملك بعده مملوكه وشخص
أهل الدولة فدسوا الى محمود فسار الى آمد وسبقه اياس اليها ليدافعه فلم
يطق وملك محمود آمد واستولى على البلد كلها وحبس اياسا الى أن أطلقه
بشفاعة صاحب بلاد الروم ولحق به وانتظم في أمرائه واستقلّ محمود بملك
كيفا وآمد وأعمالهما ولقب ناصر الدين وكان ظالما قبيح السيرة وكان
ينتحل العلوم الفلسفية وتوفي سنة تسعة عشر وستمائة وولىّ مكانه المسعود
وحدثت بينه وبين الأفضل بن العادل فتنة واستنجد عليه أخاه الكامل فسار
في العساكر من مصر ومعه داود صاحب الكرك والمظفر صاحب حماة فحاصروه
بآمد الى أن نزل عنها وجاء الى الكامل فاعتقله فلم يزل عنده حبيسا الى
أن مات الكامل فذهب الى التتر فمات عندهم (وأمّا) عماد الدين بن قرا
ارسلان الّذي ملك خرت برت من يد قطب الدين سقمان ابن أخيه نور الدين
فلم تزل في يده الى أن توفي سنة احدى وستمائة لعشرين سنة من ملكه إياها
(وملكها بعده) ابنه نظام الدين أبو بكر وكانت بينه وبين ناصر الدين
محمود ابن عمه نور الدين صاحب آمد وكيفا عداوة ودخل محمود في طاعة
العادل بن أيوب وحضر مع ابنه الأشرف في حصار الموصل على أن يسير معه
بعدها الى خرت برت فيملكها له وكان نظام الدين مستنجدا به [1]
__________
[1] كذا بياض بالأصل، والواضح من العبارة التالية انه غياث الدين.
(5/257)
الدين قليج ارسلان صاحب بلاد الروم فمات
وسار الأشرف مع محمود بعساكره وحاضروا خرت برت في شعبان سنة احدى وستين
وملكوا ربضها وبعثوا غياث الدين صاحب الروم الى نظام الدين المدد
بالعساكر مع الأفضل بن صلاح الدين صاحب سميساط فلما انتهوا الى ملطية
أفرج الأشرف ومحمود عن خرت برت الى بعض حصون نظام الدين بالصحراء
ببحيرة سهنين وفتحت في ذي الحجة سنة احدى وستين فلما وصل الأفضل بعساكر
غياث الدين ووصل الأشرف عن البحيرة راجعا جاء نظام الدين بالعساكر الى
الحصن فامتنع عليه وبقي لصاحب آمد ثم ملك كيقباد صاحب الروم حصن خرت
برت من أيديهم سنة احدى وثلاثين وانقرض منها ملك بني سقمان والله وارث
الأرض ومن عليها وإليه يرجعون
.
(5/258)
دولة بني زنكي بن
آقسنقر الخبر عن دولة بني زنكي بن آقسنقر من موالي السلجوقية بالجزيرة
والشام ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم
قد تقدّم لنا ذكر آقسنقر مولى السلطان ملك شاه وأنه كان يلقب قسيم
الدولة وأن السلطان ملك شاه لما بعث الوزير فخر الدولة بن جهير سنة سبع
وسبعين وأربعمائة بفتح ديار بكر من يد ابن مروان واستنجد ابن مروان
صاحب الموصل شرف الدولة مسلم بن عقيل وهزمته العساكر وانحصر بآمد فبعث
السلطان عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير ليخالف شرف الدولة الى
السلطان فلقيه في الرحبة وأهدى له فرضي عنه ورده الى بلده الموصل
واستولى بنو جهير بعد ذلك على ديار بكر كما مرّ في موضعه من دولة بني
مروان ثم كان بعد ذلك شان حلب واستبدّ بها أهلها بعد انقراض دولة بني
صالح بن مرداس الكلابي وطمع فيها شرف الدولة مسلم بن قريش وسليمان بن
قطلمش صاحب بلاد الروم وتتش ابن السلطان البارسلان وقتل سليمان بن
قطلمش مسلم بن قريش ثم قتل تتش سليمان بن قطلمش وجاء الى حلب فملكها
وامتنعت عليه القلعة فحاصرها وقد كانوا بعثوا الى السلطان ملك شاه
واستدعوه لملكها فوصل اليهم سنة تسع وسبعين ورحل تتش عن القلعة ودخل
البرية واستولى السلطان على حلب وولىّ عليها قسيم الدولة آقسنقر وعاد
الى العراق فعمرها آقسنقر وأحسن السيرة فيها وسار معه تتش حين عهد له
أخوه السلطان ملك شاه بفتح بلاد العلوية بمصر والشام ففتح الكثير منها
وهو معه كما مرّ وزحف قبل ذلك سنة ثمانين الى بني منقذ بشيرز فحاصره
وضيق عليه ثم رجع عنه عن صلح وأقام بحلب ولم يزل واليا عليها الى أن
هلك السلطان سنة خمس وثمانين واختلف ولده من بعده وكان أخوه تتش قد
استولى على الشام منذ سنة احدى وسبعين فلما هلك أخوه طمع في ملك
السلجوقية من بعده فجمع العساكر وسار لاقتضاء الطاعة من الأمراء معه
بالشام وقصد حلب فأطاعه قسيم الدولة آقسنقر وحمل باغيسيان صاحب انطاكية
وتيران صاحب الرها وحران على طاعته حتى يظهر مآل الأمر في ولد سيدهم
ملك شاه وساروا مع تتش الى الرحبة فملكها وخطب لنفسه فيها ثم الى
نصيبين ففتحها عنوة ثم الى الموصل فهزم صاحبها إبراهيم بن قريش بن
بدران وتولى كبر هزيمته آقسنقر وقتل قريش بن إبراهيم وملك الموصل من
يده وولىّ تتش عليها ابن عمته علي بن مسلم بن قريش وسار الى ديار بكر
فملكها ثم الى أذربيجان وكان بركيارق بن ملك شاه قد
(5/260)
استولى على الريّ وهمذان وكثير من البلاد
فسار لمدافعته وجنح قسيم الدولة آقسنقر وبوزان صاحب الرها الى بركيارق
ابن سيدهم فلحقوا به وتركوا تتش فانقلب عائدا الى الشام ساخطا على
آقسنقر وبوزان ما فعلوه فجمع العساكر وسار الى حلب سنة سبع وثمانين
لقتال قسيم الدولة وأمدّه بركيارق بالأمير كربوقا في العساكر فبرزوا
الى لقائهم والتقوا على ست فراسخ من حلب ونزع بعض عساكر آقسنقر الى تتش
فاختل مصافه وتمت الهزيمة عليه وجيء به أسيرا الى تتش فقتله صبرا ولحق
كربوقا وبوزان بحلب وتبعهما فحاصرهما وملكها وأخذهما أسيرين كما مرّ في
أخبار الدولة وكان قسيم الدولة حسن السياسة كثير العدل وكانت بلاده
آمنة ولما مات نشأ ولده في ظلّ الدولة السلجوقية وكان أكبرهم زنكي فنشأ
مرموقا بعين التحلة ولما ولي كربوقا الموصل من قبل بركيارق أيام الفتنة
بين بركيارق وأخيه محمد كان زنكي في جملته لانه كان صاحب أبيه وسار
كربوقا أيام ولايته لحصار آمد وصاحبها يومئذ بعض أمراء التركمان وأنجده
سقمان بن ارتق وكان زنكي بن آقسنقر يومئذ صبيا وهو في جملة رجال كربوقا
ومعه جماعة من أصحاب أبيه فجلا في تلك الحرب وانهزم سقمان وظهر كربوقا
وفي هذه الحرب أسر ابن ياقوتي بن ارتق وسجنه كربوقا بقلعة ماردين فكان
ذلك سببا لملك بني ارتق فيها كما مرّ في أخبار دولتهم ثم تتابعت الولاة
على الموصل فوليها جكرمس بعد كربوقا وبعده جاولى سكاوو وبعده مودود بن
ايتكين وبعده آقسنقر البرسقي كما تقدّم في أخبار السلجوقية وولاه
السلطان محمد بن ملك شاه سنة ثمان وخمسين وبعث معه ابنه مسعودا وكتب
الى سائر الأمراء هناك بطاعته ومنهم يومئذ عماد الدين زنكي بن آقسنقر
فاختص به ولما ملك السلطان محمود بعد أبيه محمد سنة احدى عشرة كان أخوه
مسعود بالموصل كما تقدّم أتابكه حيوس بك ونقل البرسقي من الموصل الى
شحنة بغداد وانتقض دبيس بن صدقة صاحب الحلة على المسترشد والسلطان
محمود وجمع البرسقي العساكر وقصد الحلة فكاتب دبيس السلطان مسعود
وأتابكه حيوس بك بالموصل وأغراهما بالمسير الى بغداد فسار لذلك مع
السلطان مسعود وزيره فخر الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس وزنكي بن
قسيم الدولة آقسنقر وجماعة من أمراء الجزيرة ووصلوا الى بغداد وصالحهم
البرسقي وسار معهم ودخل مسعود الى بغداد وجاء منكبرس الى بغداد ونزع
اليه دبيس بن صدقة ووقعت الحرب بينهما على بغداد كما تقدّم في أخبار
الدولة وأقام منكبرس ببغداد ثم كان له في خدمة السلطان محمود عند حربه
مع أخيه مسعود مقامات جليلة وغلب السلطان أخاه مسعودا وأخذه عنده
واستنزل أتابكه حيوس بك من الموصل وأعاد اليها البرسقي سنة خمسة عشر
(5/261)
فعاد زنكي الى الاختصاص به كما مرّ ثم أضاف
اليه السلطان محمود شحنة بغداد وولاية واسط مضافة الى ولاية الموصل سنة
ستة عشر فولّى عليها عماد الدين زنكي فحسن أثره في ولايتهما ولما كانت
الحرب بين دبيس بن صدقة وبين الخليفة المسترشد وبرز المسترشد لقتاله من
بغداد وحضر البرسقي من الموصل وعماد الدين زنكي فانهزم دبيس [1] عماد
الدين في ذلك المقام ثم ذهب دبيس الى البصرة وجمع المنتفق من بني عقيل
فدخلوا البصرة ونهبوها وقتلوا أميرها وبعث المسترشد الى البرسقي فعذله
في إهماله أمر دبيس حتى فعل في البصرة ما فعل فبادر الى قصره وهرب دبيس
واستولى [2] على البصرة وولىّ عليها عماد الدين زنكي بن آقسنقر فأحسن
حمايتها والدفاع عنها وكبس العرب في حللهم بضواحيها وأجفلوا ثم عزل
البرسقي سنة ثمان عشرة عن شحنة بغداد وعاد الى الموصل فاستدعى عماد
الدين زنكي من البصرة فضجر من ذلك وقال كلّ يوم للموصل جديد يستنجدنا
وسار الى السلطان ليكون في جملته فلما قدم عليه بأصبهان أقطعه البصرة
وأعاده عليها من قبله ثم ملك البرسقي مدينة حلب سنة ثمان عشرة وقتل بها
سنة تسع عشرة وكان ابنه عز الدين مسعود بحلب فبادر الى الموصل وأقام
ملك أبيه بها ووقع الخلاف بين المسترشد والسلطان محمود وبعث الخليفة
عفيفا الخادم الى واسط ليمنع عنها نواب السلطان محمود فسار اليه عماد
الدين زنكي من البصرة وقاتله فهزمه ونمي عفيف الى المسترشد [3] وأقام
عماد الدين في واسط وأمره أن يحضر بالعساكر في السفن وفي البر فجمع
السفن من البصرة وشحنها بالمقاتلة شاكي السلاح وأصعد في البرّ وقدم على
السلطان وقد تسلحت العساكر فهاله منظرهم ووهن المسترشد لما رأى فأجابه
الى الصلح.
__________
[1] كذا بياض بالأصل: ويتضح من وقائع هذه المعركة كما ذكرها ابن الأثير
في الكامل ج 10 ص 609 ان تصويب العبارة ينبغي ان يكون: فانهزم دبيس
وابلى عماد الدين في ذلك المقام.
[2] اي واستولى المسترشد على البصرة كما يتضح من العبارة التي بعدها.
[3] كذا بالأصل، ويظهر ان هنا عبارة سقطت أثناء النسخ أو الطبع، وفي
الكامل ج 10 ص 636: وأقام الخليفة بالجانب الغربي فلما حضر عيد الأضحى
خطب الناس وصلى بهم، فبكى الناس لخطبته وأرسل عفيفا الخادم وهو من
خواصه في عسكر الى واسط ليمنع عنها نواب السلطان فأرسل السلطان اليه
عماد الدين زنكي بن آقسنقر وكان له حينئذ البصرة وقد فارق البرسقي
واتصل بالسلطان فاقطعه البصرة. فلما وصل عفيف الى واسط سار اليه عماد
الدين فنزل بالجانب الشرقي، وكان عفيف بالجانب الغربي فأرسل اليه عماد
الدين يحذره القتال ويأمره بالانتزاح عنها فأبى ولم يفعل. فعبر اليه
عماد الدين واقتتلوا فانهزم عسكر عفيف وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر
مثلهم وتغافل عن عفيف حتى نجا لمودة كانت بينهما.
(5/262)
ولاية زنكي شحنة
بغداد والعراق
ولما ظهر من عماد الدين زنكي من الكفاءة والغناء في ولاية البصرة وواسط
ما ظهر ثم كان له المقام المحمود مع السلطان محمود على بغداد كما مرّ
ولاه شحنة بغداد والعراق لما رأى انه يستقيم اليه في أمور الخليفة بعد
أن شاور أصحابه فأشاروا به وذلك سنة احدى وعشرين وسار عن بغداد بعد أن
ولاه على كرسي ملكه بأصبهان والله تعالى أعلم.
ولاية عماد الدين زنكي على الموصل واعمالها
قد قدّمنا أن عز الدين مسعود بن البرسقي لما قتل الباطنية أباه بالموصل
وكان نائبة بحلب فبادر الى الموصل وضبط أمورها وخاطب السلطان محمودا
فولاه مكان أبيه وكان شجاعا قرما فطمع في ملك الشام فسار وبدأ بالرحبة
فحاصرها حتى استأمن اليه أهل القلعة وطرقه مرض فمات وتفرّقت عساكره
ونهب بعضهم بعضا حتى شغلوا عن دفنه وكان جاولى مولى أبيه مقدّم العساكر
عنده فنصب مكانه أخاه الأصغر وكاتب السلطان في تقرير ولايته وأرسل في
ذلك الحاجب صلاح الدين محمد الباغيسياني والقاضي أبا الحسن علي بن
القاسم الشهرزوريّ فأوصى صلاح الدين صهره جقري فيما جاء فيه وكان شيعة
لعماد الدين زنكي فخوّف الحاجب وحذره مغبة حاله معه وأشار عليه وعلى
القاضي بطلب عماد الدين زنكي وضمن لهما عنده الولايات والاقطاع وركب
القاضي مع الحاجب الى الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد وذكر له حال
الجزيرة والشام واستيلاء الافرنج على أكثرها من ماردين الى العريش
وأنها تحتاج الى من يكف طغيانهم وابن البرسقي المنصوب بالموصل صغير لا
يقوى على مدافعتهم وحماية البلاد منهم ونحن قد خرجنا عن العهدة وأنهينا
الأمر إليكم فرفع الوزير قولهما الى السلطان فشكرهما واستدعاهما
واستشارهما فيمن يصلح للولاية فذكرا جماعة وأدرجا فيهم عماد الدين زنكي
وبذلا عنه مالا جزيلا لخزانة السلطان فأجابهما اليه لما يعلم من
كيفياته وولاه البلاد كلها وكتب منشورة بها وشافهه بالولاية وسار الى
ولايته فبدأ بالفوارع وملكها ثم سار الى الموصل وخرج جاولى والعساكر
للقائه ودخل الموصل في رمضان سنة احدى وعشرين وبعث جاولى واليا على
الرحبة وولى على القلعة نصير الدين جقري وولىّ على حجابته صلاح الدين
الباغيسياني وعلى القضاء ببلاده جميعا بهاء الدين الشهرزوريّ وزاد في
اقطاعه وكان لا يصدر الا عن رأيه ثم خرج الى جزيرة ابن عمر وبه موالي
البرسقي
(5/263)
فامتنعوا عليه وحاصرهم وكان بينه وبين
البلد دجلة فعبرها وبين دجلة والبلد فسيح من الأرض فعبر دجلة وقاتلهم
في ذلك الفسيح وهزمهم فتحصنوا بالاسوار ثم استأمنوا فدخل البلد وملكه
وسار لنصيبين وكانت لحسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي صاحب ماردين
فاستنجد عليه ابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان صاحب كيفا فوعده
بالنجدة وبعث حسام الدين بذلك الى أهل نصيبين يأمرهم بالمصابرة عشرين
يوما الى حين وصوله فسقط في أيديهم لعجزهم عن ذلك واستأمنوا لعماد
الدين فأمنهم وملكها وسار عنها لسنجار فامتنعوا عليه أوّلا ثم استأمنوا
وملكها وبعث منها الى الخابور فملك جميعه ثم سار الى حران وكانت الرها
وسروج البيرة في جوارها للافرنج وكانوا معهم في ضيقة فبادر أهل حران
الى طاعته وأرسل الى جوسكين وهادنه حتى يتفرغ له فاستقرّ بينهما لصلح
والله تعالى أعلم.
استيلاء الاتابك زنكي على مدينة حلب
كان البرسقي قد ملك حلب وقلعتها سنة ثمانية عشر واستخلف عليها ابنه
مسعودا ثم قتل الباطنية البرسقي بالموصل فبادر ابنه مسعود الى الموصل
واستخلف على حلب الأمير قزمان ثم عزله وبعث بولايتها الى الأمير قطلغ
آية فمنعه قزمان وقال بيني وبينه علامة لم أرها في التوقيع فرجع الى
مسعود فوجده قد [1] الرحبة فعاد الى حلب مسرعا ومال اليه أهل البلد
ورئيسها مضايل بن ربيع وأدخلوه وملكوه واستنزلوا قزمان من القلعة
وأعطوه ألف دينار وبلغوه مأمنه وملك قطلغ القلعة والبلد منتصف احدى
وعشرين ثم ساءت سيرته وفحش ظلمه واشتمل عليه الأشرار فاستوحش الناس منه
وثاروا به في عيد الفطر من السنة وقبضوا على أصحابه وولوا عليهم بدر
الدولة سليمان بن عبد الجبار بن ارتق الّذي كان ملكها من قبل وحاصروا
قطلغ بالقلعة ووصل حسان صاحب منبج وحسن صاحب مراغة لإصلاح الأمر فلم
يتمّ وزحف جوسكين صاحب الرها من الافرنج الى حلب فصانعوه بالمال ورجع
فزحف صاحب انطاكية وحاصر البلد وهم يحاصرون القلعة الى منتصف ذي القعدة
من آخر السنة وانتهى عماد الدين زنكي الى صاحب حران كما ذكرناه فبعث
الى أهل حلب أميرين من أصحابه بتوقيع السلطان له بالموصل والجزيرة
والشام فبادروا الى الطاعة وسار اليه بدر الدولة ابن عبد الجبار وقطلغ
آية وأقام أحد الأميرين بحلب ولما وصلا الى عماد الدين أصلح بينهما
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 649: فعاد قتلغ أبه الى مسعود
وهو يحاصر الرّحبة فوجده قد مات فعاد الى حلب مسرعا.
(5/264)
وأقاما عنده وبعث الحاجب صلاح الدين محمد
الباغيسياني في عسكر اليهما فملك القلعة ورتب الأمور وولى ثم وصل عماد
الدين بعده في محرّم سنة اثنتين وعشرين وملك في طريقه منبج من يد حسان
ومراغة من يد حسن وتلقاه أهل حلب فاستولى وأقطع أعمالها للامراء
والأجناد ثم قبض على قطلغ آية وأسلمه الى ابن بديع فكحله ومات واستوحش
ابن بديع فلحق بقلعة جعفر مستنجدا بصاحبها وأقام عماد الدين مكانه في
رياسة حلب علي بن عبد الرزاق وعاد الى الموصل والله أعلم.
استيلاء الاتابك زنكي على مدينة حماة
ثم سار عماد الدين زنكي لجهاد الافرنج وعبر الفرات الى الشام واستنجد
تاج الملوك بوري بن طغركين صاحب دمشق فأنجده بعد التوثق باستحلافه وبعث
عسكره من دمشق الى ابنه سونج وأمره بالمسير الى زنكي فلما وصلوا اليه
أكرمهم ثم غدر بهم بعد أيام وقبض على سونج والأمراء الذين معه فاعتقلهم
بحلب ونهب خيامهم وبادر الى حماة وهي خلو من الحامية فملكها وسار عنها
الى حمص وصاحبها قيرجان بن قراجا معه في عساكره وهو الّذي أشار بحبس
سونج وأصحابه فقبض عليه يظنّ أهل حمص يسلمون بلادهم اليه فامتنعوا وبعث
اليهم قيرجان بذلك فلحق اليها فحاصرها مدّة وامتنعت عليه فعاد الى
الموصل ومعه سونج بن بوري والله أعلم.
فتح عماد الدين حصن الاثارب وهزيمة الافرنج
[1]
ولما عاد عماد الدين الى الموصل أراح عساكره أياما ثم تجهز سنة أربع
وعشرين الى الغزو وعاد الى الشام فقصد حلب واعتزم على قصد حصن الاثارب
وهو على ثلاثة فراسخ من حلب وكان الافرنج الذين به قد ضيقوا على حلب
فسار اليه وحاصره وجاء الافرنج من انطاكية لدفاعه فاستغرغوا فتبعهم
وترك الحصن وسار اليهم واستماتت المسلمون فانهزم الافرنج وأسر كثير من
زعمائهم وقتل كثير حتى بقيت عظامهم ماثلة بذلك الموضع أكثر من ستين سنة
ثم عاد الى حصن الاثارب فملكه عنوة وخرّبه وتقسم جميع من فيه بين القتل
والأسر وسار الى
__________
[1] قال ابو الفداء ومن الأماكن المشهورة بالشام: الاثارب بالهمزة
المفتوحة والثاء المثلثة وألف وراء مهمل ة وباء موحدة.
(5/265)
قلعة حارم [1] قرب انطاكية وهي للافرنج
فحاصرها حتى صالحوه على نصف خراجها فرجع عنها ومليء الافرنج رعبا منه
ومن استبداد المسلمين به وذهب ما كان عندهم من الطمع.
واقعة عماد الدين مع بني ارتق
ولما فرغ عماد الدين من غزو الافرنج وفتح الاثارب وقلعة حارم عاد الى
الجزيرة وحاصر مدينة سرخس وهي لصاحب ماردين بينها وبين نصيبين فاجتمع
حسام الدين صاحب ماردين وركن الدولة صاحب آمد وهما لابي الغازي صاحب
ماردين ابن حسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي وصاحب كيفا ركن الدولة
داود بن سقمان وتمرتاش بن ارتق وجمعوا من التركمان نحوا من عشرين ألفا
وساروا لمدافعة زنكي فهزمهم وملك سرخس وسار ركن الدولة الى جزيرة ابن
عمر لينهبها فاتبعه عماد الدين فرجع الى بلده فعاد عنه لضيق مسالكه
وملك من قلاعه همرد ورجع الى الموصل الى آخره.
حصول دبيس بن صدقة في أسر الاتابك زنكي
قد تقدّم لنا أنّ دبيس بن صدقة لما فارق البصرة سار الى سرخد من قلاع
الشام سنة خمس وعشرين باستدعاء الجارية التي خلفها الحسن هنالك ليتزوّج
بها وأنه مرّ في الغوطة يجيّ من أحياء كلب فأسروه وحملوه الى تاج
الملوك صاحب دمشق وبلغ الخبر الى الاتابك زنكي وكان عدوّا له فبعث فيه
الى تاج الملوك بوري وفادى من ابنه سونج والأمراء الذين معه عنده
فأطلقهم وبعث بوري اليه بدبيس وهو مستيقن الهلاك فلما وصله أكرمه وأحسن
اليه وأزاح علله وبعث المسترشد فيه الى بوري بن طغركين صاحب دمشق فوجده
قد فات بتسلمه الى زنكي فذمّ الرسل زنكي فيما فعله فأرصد لهم في طريقهم
وسيقوا اليه وهم سديد الدولة بن الانباري وأبو بكر بن نشر الجزري
فحبسهما حتى شفع فيهما المسترشد وبقي دبيس عنده حتى انحدر معه الى
العراق.
__________
[1] حارم: من اعمال حلب، وهي بلدة صغيرة ذات قلعة وأشجار وأعين ونهر
صغير. قال ابن سعيد: هو حصن كثير الأرزاق. وقد خص بالرمان الّذي يظهر
باطنه مع عدم العجم وكثرة المياه (أبي الفداء) .
(5/266)
مسير الاتابك زنكي الى العراق لمظاهرة
السلطان مسعود وانهزامه
ولما توفي السلطان محمود سنة خمس وعشرين واختلف ولده داود وأخوه مسعود
وسار داود الى مسعود وحاصره بتبريز في محرّم سنة ست وعشرين ثم صالحه
وخرج مسعود من تبريز واجتمعت عليه العساكر وسار الى همذان وبعث يطلب
الخطبة من المسترشد فمنعه وكتب الاتابك عماد الدين زنكي يستنجده وسار
الى بغداد فحاصرها وكان قد سبق اليها أخوه سلجوق شاه صاحب فارس
وخوزستان مع أتابك قراجا الشامي في عسكر كثير وأنزله المسترشد بدار
السلطان فلما جاء مسعود ونزل عباسة وبرز عسكر المسترشد وعسكر سلجوق شاه
وقراجا الشامي لمحاربة مسعود فأتاهم الخبر بوصول عماد الدين زنكي من
ورائهم وأنه وصل الى المعشوب فرجع قراجا الشامي الى محاربته وسار سلجوق
شاه بالعساكر الى محاربة أخيه مسعود وأغذ قراجا السير وصبح عماد الدين
بعد يوم وليلة على المعشوب وقاتله وهزمه وأسر كثيرا من أصحابه وسار
زنكي منهزما الى [1] والنائب بها نجم الدين أيوب بن شادي والد السلطان
صلاح فتأخر ثم اصطلح مع الخليفة على أن يكون العراق له والسلطنة لمسعود
وولاية العهد لسلجوق شاه وذلك منتصف سنة ست وعشرين.
مسير الاتابك عماد الدين الى بغداد بابنه وانهزامه
قد قدّمنا ما كان بعد وفاة السلطان محمود من الخلاف بين ابنه داود
وأخويه مسعود وسلجوق شاه ثم استقرّ مسعود في السلطنة وصلحه مع أخيه
سلجوق على أن يكون وليّ عهده ثم أنّ السلطان سنجر سار من خراسان يطلب
السلطنة لطغرل ابن أخيه السلطان محمود وكان عنده مقيما فبلغ همذان وخرج
السلطان مسعود وسلجوق شاه للقائه وساروا متباطئين ينتظرون لحاق
المسترشد بهم وخرج المسترشد الى [2] فجاءته الاخبار بوصول الاتابك زنكي
ودبيس بن صدقة الى بغداد فذكر دبيس أنّ السلطان سنجر
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 675: وسار زنكي منهزما الى
تكريت فعبر فيها دجلة وكان الدوادار بها حينئذ نجم الدين أيوب.
[2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل: فلما علم الخليفة بذلك أسرع العود
اليها وعبر الى الجانب الغربي، وسار فنزل بالعباسية ونزل عماد الدين
بالمنارية من دجيل والتقيا بحصن البرامكة سابع عشر رجب.
(5/267)
أقطعه الحلة وبعث يسترضي فلم يشفعه وذكر
الاتابك زنكي ان السلطان سنجر ولاه شحنة بغداد واستمرّ السلطان مسعود
وأخوه سلجوق على المسير للقاء سنجر وكانت الهزيمة على مسعود كما مرّ
فعاد المسترشد الى بغداد ونزل العباسيّة من الجانب الغربي ولقي الاتابك
زنكي ودبيس على حصن البرامكة فهزمهما آخر رجب سنة ست وعشرين ولحق
الاتابك بالموصل.
واقعة الافرنج على أهل حلب
وفي غيبة الاتابك زنكي سار ملك الافرنج من القدس الى حلب فخرج نائبها
عن الاتابك زنكي وهو الأمير أسوار وجمع التركمان مع عساكره وقاتل
الافرنج عند قنسرين وصابرهم ومحص الله المسلمين وانهزموا الى حلب وسار
ملك الافرنج في أعمال حلب ظافرا ثم سار بعض الافرنج من الرها للغارة في
أعمال حلب فخرج اليهم الأمير أسوار ومعه حسان التغلبي الّذي كان صاحب
منبج فأوقعوا بهم واستلحموهم وأسروا من بقي منهم وعادوا ظافرين.
حصار المسترشد الموصل
ولما وقع ما قدّمناه من وصول زنكي الى بغداد وانهزامه أمام المسترشد
حقد عليه المسترشد ذلك وأقام يتربص ثم كثر الخلاف بين سلاطين السلجوقية
واعتزلهم جماعة من أمرائهم فرارا من الفتنة ولحقوا بالخليفة وأقاموا في
ظله فأراد الخليفة المسترشد أن ينتصف بهم من الاتابك زنكي فقدّم اليه
بهاء الدين أبا الفتوح الاسقر ابن الواعظ وحمله عتابا أغلظ فيه وزاده
الواعظ غلظة حفظا على ناموس الخلافة في معتقده فامتعض الاتابك لما
شافهه به وأهانه وحبسه وأرسل المسترشد الى السلطان مسعود [1] على قصد
الموصل وحاصرها لما وقع من زنكي ثم سار في شعبان سنة سبع وعشرين الى
الموصل في ثلاثين ألف مقاتل فلما قارب الموصل فارقها الاتابك زنكي الى
سنجار وترك نائبة بها نصر الدين جقري وجاء المسترشد فحاصرها والاتابك
زنكي قد قطع الميرة عن معسكره فتعذرت الأقوات وضاقت عليهم الأحوال
وأرادت جماعة من أهل البلد الوثوب بها وسعي بهم فأخذوا وصلبوا ودام
الحصار ثلاثة أشهر وامتنعت عليه فأفرج عنها وعاد الى بغداد وقيل انّ
مطر الخادم جاءه من بغداد وأخبره أنّ السلطان مسعودا عازم على قصد
العراق فعاد مسرعا.
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 5: فأرسل المسترشد باللَّه الى
السلطان مسعود يعرفه الحال الّذي جرى من زنكي ويعرفه انه على قصد
الموصل وحصرها.
(5/268)
ارتجاع صاحب دمشق
مدينة حماة
قد كنا قدّمنا أنّ الاتابك زنكي تغلب على حماة من يد تاج الملوك بوري
بن طغركين صاحب دمشق سنة ثلاث وعشرين وأقامت في ملكه أربع سنين وتوفي
تاج الملوك بوري في رجب سنة ست وعشرين وولىّ بعده ابنه شمس الملوك
إسماعيل وملك بانياس من الافرنج في صفر سنة سبع وعشرين ثم بلغه أنّ
المسترشد باللَّه حاصر الموصل فسار هو الى حماة وحاصرها وقاتلها يوم
الفطر ويومين بعده فملكها عنوة واستأمنوا فأمنهم ثم حصر الوالي ومن معه
بالقلعة فاستأمنوا أيضا واستولى على ما فيها من الذخائر والسلاح وسار
منها الى قلعة شيرز فحاصرها ابن منقذ فحمل اليه مالا صانعه به وعاد الى
دمشق في ذي الحجة من السنة.
حصار الاتابك زنكي قلعة آمد واستيلاؤه على
قلعة النسور ثم حصار قلاع الحميدية
وفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة اجتمع الاتابك زنكي صاحب الموصل وصاحب
ماردين على حصار آمد واستنجد صاحبها بداود بن سقمان صاحب كيفا فجمع
العساكر وسار اليهما ليدافعهما عنه وقاتلاه فهزماه وقتل كثير من عسكره
وأطالا حصار آمد وقطعا شجرها وكرومها وامتنعت عليهما فرحلا عنها وسار
زنكي الى قلعة النسور من ديار بكر فحاصرها وملكها منتصف رجب من السنة
ووفد عليه ضياء الدين أبو سعيد بن الكفرتوثيّ فاستوزره الاتابك وكان
حسن الطريقة عظيم الرئاسة والكفاية محببا في الجند وتوفي سنة ست
وثلاثين بعدها ثم استولى الاتابك على سائر قلاع الأكراد الحميدية مثل
قلعة العقر وقلعة سوس وغيرهما وكان لما ملك الموصل أمر صاحب هذه القلاع
الأمير عيسى الحميري على ولايتها فلما حاصر المسترشد الموصل قام في
خدمته أحسن القيام وجمع له الأكراد فلما عاد المسترشد الى بغداد من
قتال الاتابك زنكي فحاصر قلاعهم وحاصرتها العساكر وقاتلوها قتالا شديدا
حتى ملكوها في هذه السنة ورفع الله شرّهم عن أهل السواد المحاربين لهم
فقد كانوا منهم في ضيقة من كثرة عيثهم في البلاد وتخريبهم والله تعالى
أعلم.
(5/269)
استيلاء الاتابك على
قلاع الهكارية وقلعة كواشي
حدّث ابن الأثير عن الجنيبي أنّ الاتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية
وأجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء من عبد الله على قلعة أشب والجزيرة
وكواشي فاستأمن الاتابك واستحلفه وحمل له مالا ثم وفد عليه بالموصل بعد
أن اخرج ابنه أحمد من أشب خشية أن يغلب عليها وأعطاه قلعة كواشي وولى
على أشب رجلا من الكرد واسمه باد الأرمني وابنه أحمد هذا هو أبو علي بن
احمد المشطوب من أمراء السلطان صلاح الدين ولما مات أبو الهيجاء واسمه
موسى وسار أحمد الى أشب ليملكها فامتنع عليه باد وأراد حفظها لعلىّ
الصغير من بني أبي الهيجاء فسار الاتابك زنكي في عساكره ونزل على أشب
وبرز أهلها لقتاله واستجرّهم حتى أبعدوا ثم كرّ عليهم فأفناهم قتلا
وأسرا وملك القلعة في الحال وسيق اليه باد في جماعة من مقدّمي الأكراد
وقتلهم وعاد الى الموصل ثم سار غازيا في بعض مذاهبه فبعث نائبة نصر
الدين جقري عسكرا وخلى كنجاورسى وقلعة العماديّة وحاصروا قلعة الشغبان
وفرح وكواشي والزعفرانيّ والغيّ وسرف وسفروه وهي حصون الهكارية فحصرها
وملكها جميعا واستقام أمر الجبل والزوزن وأمنت الرعية من الأكراد وأمّا
باقي قلاع الهكارية وهي حل وصورا وهزور والملايسي ويامرما ومانرحا
وباكرا ونسر فإنّ قراجا صاحب العماديّة فتحها بعد قتل زنكي بمدّة طويلة
كان أميرا على تلك الحصون الهكارية من قبل زين الدين علي على ما قال
ابن الأثير ولم أعلم تاريخ فتح هذه القلاع فلهذا ذكرته هنا قال وحدّثني
بخلاف هذا الحديث بعض فضلاء الأكراد أنّ أبا بكر زنكي لما فتح قلعة اسب
وحرساني وقلعة العماديّة ولم يبق في الهكارية الا صاحب جبل صورا وصاحب
هزور لم يكن لهما شوكة يخشى منهما ثم عاد الى الموصل وخافه أهل القلاع
الجليلة ثم توفي عبد الله بن عيسى بن إبراهيم صاحب الريبة والغي وفرح
وملكها بعده ابنه علي وكانت أمّه خديجة ابنة الحسن أخت إبراهيم وعيسى
وهما من الأمراء مع زنكي بالموصل فأرسلها ابنها علي الى أخويها
المذكورين وهما خالاه ليستأمنا له من الاتابك فاستحلفاه وقدم عليه
فأقرّه على قلاعه واستقلّ بفتح قلاع الهكارية وكان الشغبان هذا الأمير
من المهرانية اسمه الحسن بن عمر فأخذه منه وخرّبه لكبره وقلة أعماله
وكان نصر الدين جقري يكره عليا صاحب الريبة والغي وفرح فسعى عند
الاتابك في حبسه فأمره بحبسه ثم ندم وكتب اليه أن يطلقه فوجده قد مات
فاتهم نصر الدين بقتله ثم بعث العساكر الى قلعة الرحبية فنازلوها بغتة
وملكوها عنوة وأسروا ولد علي واخوته ونجت أمّه خديجة لمغيبها
(5/270)
وجاء البشير الى الاتابك بفتح الريبة فسره
ذلك وبعث العساكر الى ما بقي من قلاع علي فأبي الا أن يزيدوه قلعة
كواشي فمضت خديجة أمّ علي الى صاحب كواشي من المهرانية واسمه جرك
راهروا وسألته النزول عن كواشي لإطلاق اسراهم ففعل ذلك وتسلم زنكي
القلاع وأطلق الأسرى واستقامت له جبال الأكراد والله تعالى أعلم.
حصار الاتابك زنكي مدينة دمشق
كان شمس الملوك إسماعيل بن بوري قد انحلّ أمره وضعفت دولته واستطال
عليه الافرنج وخشي عاقبه أمرهم فاستدعى الاتابك زنكي سرّا ليملكه دمشق
ويريح نفسه وشعر بذلك أهل دولته فشكوا الى أمّه فوعدتهم الراحة منه ثم
اغتالته فقتلته وجاء الأتابك زنكي فقدم رسله من الفرات فألفوا شمس
الملوك قد مات وولي مكانه أخوه محمود واشتمل أهل الدولة عليه ورجعوا
الخبر الى الاتابك فلم يحفل به وسار حتى نزل بظاهر دمشق واشتدّ أهل
الدولة على مدافعته ومقدمهم معين الدين أبربوه أتابك طغركين ثم بعث
المسترشد أبا بكر بن بشر الجزري الى الاتابك زنكي فأمره بصلح صاحب دمشق
فصالحه ورحل عنه منتصف السنة والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتنة الراشد مع السلطان مسعود ومسيره الى الموصل وخلعه
كان كثير من أمراء السلجوقية قد اجتمعوا على الانتقاض على السلطان
مسعود والخروج عليه ولحق داود ابن السلطان محمود من أذربيجان ببغداد في
صفر سنة اثنين وثلاثين فأنزل بدار السلطنة وراسله أولئك الأمراء وقدم
عليه بعضهم مثل صاحب قزوين وصاحب أصبهان وصاحب الأهواز وصاحب الجبلة
وصاحب الموصل الاتابك زنكي وخرجت اليهم العساكر من بغداد وولى داود
شحنية بغداد وخرج موكب الخليفة مع الوزير جلال الدين الرضي وكان
الخليفة قد تغير عليه وعلى قاضي القضاة الزينبي فسمع بهم الاتابك ثم
وقعت العزيمة من الراشد والسلطان داود والاتابك زنكي وحلف كل منهم
لصاحبه وبعث الراشد الى الاتابك بمائتي ألف دينار ووصل سلجوق شاه الى
واسط وقبض على الأمير بك آبه ونهب ماله فانحدر الاتابك زنكي لمدافعته
فاصطلحا وعاد زنكي الى بغداد ومرّ على جميع العساكر لقتال السلطان
مسعود وخرج على طريق خراسان وبلغهم أن السلطان مسعودا سار الى بغداد
(5/271)
فعاد اليها ثم عاد الملك داود وجاء السلطان
مسعود فنزل على بغداد وحاصرهم نيفا وخمسين يوما وارتحل الى النهروان ثم
قدم عليه طرنطاي صاحب واسط بالسفن فرجع الى بغداد وعبر الى الجانب
الغربي ثم اختلف العسكر ببغداد ورجع الملك داود الى ولايته بأذربيجان
وافترق الأمراء الذين معه ولحق الراشد بالاتابك زنكي في نفر من أصحابه
وهو بالجانب الغربي وسار معه الى الموصل ودخل السلطان مسعود الى بغداد
منتصف ذي القعدة سنة ثلاثين واستقرّ بها وسكن الناس وجمع القضاة
والفقهاء وعرض عليهم يمين الراشد بخطه بأنه متى جمع أو خرج لحرب
السلطان فقد خلع نفسه فأفتوا بخلعه ثم وقعت الشهادات من أهل الدولة
وغيرهم الى الراشد بموجبات العزل وكتبت وأفتى الفقهاء عقبها باستحقاق
العزل وحكم به القاضي المعين حينئذ لغيبة قاضي القضاة بالموصل مع
الراشد ونصب للخلافة [1] ابن المستظهر وجاء رسول الاتابك زنكي الى
بغداد وهو القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوريّ وبايع [2]
بعد أن ثبت عنده الخلع وانصرف الى الاتابك باقطاع من خاص الخليفة ولم
يكن ذلك لأحد قبله وعاد كمال الدين الى الاتابك وحمل كتب الخلع فحكم
بها قاضي القضاة بالموصل وانصرف الراشد عن الموصل الى أذربيجان كما مرّ
في أخبار الخلفاء والسلجوقية والله تعالى ولىّ التوفيق.
غزاة العساكر حلب الى الافرنج
ثم اجتمعت عساكر حلب [3] مع الأمير أسوار نائب الاتابك زنكي بحلب في
شعبان سنة ثلاثين وساروا غازين الى بلاد الافرنج وقصدوا اللاذقية على
غرّة فنالوا منها وانساحوا في بسائطها واكتسحوها وامتلأت أيديهم من
الغنائم وخربوا بلاد اللاذقية وما جاورها وخرجوا على شيرز وملئوا الشام
بالاتراك والظهر ووهن الافرنج لذلك والله سبحانه وتعالى يؤيد بنصره من
يشاء من عباده.
__________
[1] كذا بياض بالأصل وهو الأمير أبو عبد الله بن المستظهر (قبل
الخلافة) ولقب بعد الخلافة المقتفي لأمر الله (الكامل ج 11 ص 42- 45) .
[2] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 43: وبلغني ان السلطان مسعود
أرسل الى الخليفة المقتفي لأمر الله في تقرير اقطاع يكون لخاصته فكان
صوابه: ان في الدار ثمانين بغلا تنقل الماء من دجلة فلينظر السلطان ما
يحتاج اليه من يشرب هذا الماء ويقوم به فتقرّرت القاعدة على ان يجعل له
ما كان للمستظهر باللَّه، فأجابه الى ذلك. وقال السلطان لما بلغه قوله
لقد جعلنا في الخلافة رجلا عظيما.
[3] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل: في هذه السنة في شعبان اجتمعت عساكر
أتابك زنكي صاحب حلب وحماة مع الأمير أسوار نائبة بحلب وقصدوا بلاد
الفرنج على حين غفلة.
(5/272)
حصار الاتابك زنكي
مدينة حمص واستيلاؤه على بعدوين وهزيمة الافرنج واستيلاؤه على حمص
ثم سار الاتابك في العساكر في شعبان سنة احدى وثلاثين الى مدينة حمص
وبها يومئذ معين الدين ابن القائم بدولة صاحب دمشق وحمص من أقطاعه فقدم
اليه صاحبه صلاح الدين الباغيسياني في تسليمها فاعتذر بأنّ ذلك ليس من
الاصابة فحاصرها والرسل تردّد بينهما وامتنعت عليه فرحل عنها الى
بغدوين من حصون الافرنج في شوّال من السنة فجمع الافرنج وأوعبوا وزحفوا
اليه واشتدّ القتال بينهم ثم هزم الله العدوّ ونجا المسلمين منهم ودخل
ملوكهم الى حصن بغدوين فامتنعوا به وشدّ الاتابك حصاره وذهب القسوس
والرهبان الى بلاد النصرانية من الروم والافرنج يستنجدونهم على
المسلمين ويخوّفونهم استيلاء الاتابك على قلعة بغدوين وما يخشى بعد ذلك
من ارتجاعهم بيت المقدس وجدّ الاتابك بعد ذلك في حصارها والتضييق عليها
حتى جهدهم الحصار ومنع عنهم الاخبار ثم استأمنوا على أن يحملوا اليه
خمسين ألف دينار فأجابهم وملك القلعة ثم سمعوا بمسير الروم والافرنج
لانجادهم وكان الاتابك خلال الحصار قد فتح المعرّة وكفرطاب [1] في
الولايات التي بين حلب وحماة ووهن الافرنج ثم سار الاتابك زنكي في
محرّم سنة اثنين وثلاثين الى بعلبكّ وملك حصن الممدل من أعمال صاحب
دمشق وبعث اليه نائب باساس بالطاعة كذلك ثم كانت حادثة ملك الروم
ومنازلته حلب كما نذكره فسار الى سلمية ولما انجلت حادثة الروم رجع إلى
حصار حمص وبعث إلى محمود صاحب دمشق في خطبة أمّه مردخان بنت جاولي التي
قتلت ابنها فتزوجها وملك حمص وقلعتها وحملت الخاتون إليه في رمضان وظنّ
أنه يملك دمشق بزواجها فلم يحصل على شيء من ذلك والله تعالى يؤيد بنصره
من يشاء من عباده.
مسير الروم الى الشام وملكهم مراغة [2]
ولما استنجد الافرنج ببغدوين ملك أمم النصرانية كما مرّ جمع ملك الروم
بالقسطنطينية وركب البحر سنة احدى وثلاثين ولحقته أساطيله وسار الى
مدينة قيقية فحاصرها وصالحوه
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على
التصويب.
[2] وفي الكامل: بزاعة ج 11 ص 56.
(5/273)
بالمال وسار عنها الى ادنة والمصيصة وهما
لابن ليون الارمني صاحب قلاع الدروب فحاصرهما وملكهما وسار الى عين
زربة فملكها عنوة وملك تل حمدون ونقل أهله الى جزيرة قبرص ثم ملك مدينة
انطاكية في ذي القعدة من السنة وبها رغيد من ملوك الافرنج فصالحه ورجع
الى بفراس ودخل منها بلاد ابن ليون فصالحه بالأموال ودخل في طاعته ثم
خرج الى الشام أوّل سنة اثنتين وثلاثين وحاصر مراغة على ستة فراسخ من
حلب وبعثوا بالصريخ الى الاتابك زنكي فبعث بالعساكر الى حلب لحمايتها
وقاتل ملك الروم مراغة فملكها بالأمان منتصف السنة ثم غدر بهم
واستباحهم ورحل الى حلب فنزل بدابق ومعه الافرنج [1] ورجعوا من الغد
الى حلب وحاصروها ثلاثا فامتنعت عليهم وقتل عليها بطريق كبير منهم ورحل
عنها الى قلعة الاتاود في شعبان من السنة فهرب عنها أهلها ووضع الروم
بها الأسرى والسبي وأنزلوا بها حامية وبعث اليهم أسوار نائب حلب عسكرا
فقتلوا الحامية وخلصوا الأسرى والسبي ورحل الاتابك من حصن الاثارب بعد
فتحه الى سلمية وقطع الفرات الى الرقة واتبع الروم فقطع عنهم الميرة
وقصد الروم قلعة شيزر وبها سلطان ابن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ
الكناني فحاصروها ونصبوا المجانيق عليها واستصرخ صاحبها بالاتابك زنكي
فسار اليه ونزل نهر العاصي بين شيزر وحماة وبعث السرايا تختطف من حول
معسكر الروم وبعث الى الروم يدعوهم الى المناجزة والنزول الى البسيط
فخافوا عن ذلك فرجع الى التضريب بين الروم والإفرنج يحذر أحد الفريقين
من الآخر حتى استراب كل بصاحبه فرحل ملك الروم في رمضان من السنة بعد
حصار شيزر أربعين يوما وأتبعه الاتابك فلحقهم واستلحمهم واستباحهم ثم
أرسل القاضي كما الدين محمد بن عبد الله الشهرزوريّ الى السلطان مسعود
يستنجده على العدوّ ويحذره الروم واستيلاءهم على حلب وينحدرون من
الفرات الى بغداد فوضع القاضي كمال الدين في جماع القصر من ينادي بصريخ
المسلمين والخطيب على المنبر وكذا في جامع السلطان فعظم الصراخ والبكاء
وتسايلت العوام من كلّ جانب وجاءوا الى دار السلطان في تلك الحالة وقد
وقع العويل والصراخ فعظم الهول على السلطان مسعود وجهز عسكرا عظيما
وخاف القاضي كمال الدين غائلته ثم وصل الخبر برحيل ملك الروم فأخبر
القاضي السلطان مسعود بذلك و [2] من مسير
__________
[1] كذا بالأصل: عبارة مرتبكة وفي الكامل ج 11 ص 56: ثم رحلوا الى حلب
من الغد في خيلهم ورجلهم فخرج اليهم احداث حلب فقاتلوهم قتالا شديدا.
[2] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل: وإذا قد وصلني كتاب أتابك زنكي في
الشام بخبر رحيل ملك الروم ويأمرني بأن لا استصحب من العسكر أحدا.
فعرّفت السلطان ذلك فقال العسكر قد تجهّز ولا بدّ من الغزاة الى الشام،
فبعد الجهد وبذل الخدمة العظيمة له ولأصحابه حتى أعاد العسكر. ج 11 ص
58.
(5/274)
العساكر والله تعالى أعلم.
استيلاء الاتابك زنكي على بعلبكّ
ثم قتل محمود صاحب دمشق سنة ثلاث وثلاثين في شوّال كما مرّ في أخبار
دولتهم وكانت أمّه زمرد خان متزوّجة بالاتابك كما مرّ فبعثت اليه وهو
بالجزيرة تعرفه بالخبر وتطلب منه أن يسير الى دمشق ويثأر بولدها من أهل
دولته فسار لذلك واستعدّ أهل دمشق للحصار ثم قصد الاتابك مدينة بعلبكّ
ونزلها وكان ابن القائم بالدولة قد نصب كمال الدين محمد بن بوري بدمشق
وتزوّج أمّه وبعث بجاريته الى بعلبكّ فلما سار الاتابك الى دمشق قدم
رسله الى انز في تسليم البلد على أن يبذل له ما يريد فأبي من ذلك وسار
الاتابك الى بعلبكّ فنازلها آخر ذي الحجة من السنة ونصب عليها المجانيق
وشد حصارها حتى استأمنوا فملكها واعتصم الحامية بالقلعة حتى يئسوا من
أنز فاستأمنوا الى الاتابك فلما ملكها قبض عليهم وصلهم وتزوّج جارية
انز ونقلها الى حلب الى أن بعثها ابنه نور الدين محمود الى صاحبها بعد
موت الاتابك والله تعالى أعلم.
حصار الاتابك زنكي مدينة دمشق
ثم سار الاتابك زنكي الى حصار دمشق في ربيع الأوّل من سنة أربع وثلاثين
بعد الفراغ من بعلبكّ فنزل بالبقاع وأرسل الى جمال الدين محمد صاحبها
في أن يسلمها اليه ويعوضه عنها بما شاء فلم يجب الى ذلك فزحف اليه ونزل
داريا والتقت الطلائع فكان الظفر لأصحاب الاتابك ثم تقدم الى المصلي
فنزل بها وقاتله أهل دمشق بالغوطة فظفر بهم وأثخن فيهم ثم أمسك عن
القتال عشرا يراود فيها صاحب دمشق وبذل له بعلبكّ وحمص وما يختاره من
البلاد فجنح الى ذلك ولم يوافقه أصحابه فعادت الحرب ثم توفي صاحب دمشق
جمال الدين محمد في شعبان من السنة ونصب معين الدين انز مكانه ابنه
محيي الدين أمو وقام بأمره وطمع زنكي في ملك البلد فامتنعت عليه وبعث
معز الدين انز الى الافرنج يستدعيهم الى النصر على الاتابك ويبذل لهم
ويخوّفهم غائلته ويشترط لهم اعانتهم على بانياس حتى يملكوها فأجاب
الافرنج لذلك وأجفل زنكي الى حوران خامس رمضان من السنة معتزما على
لقائهم فلم يصلوا فعاد الى حصار دمشق وأحرق قراها وارتحل الى بلاده ثم
وصل الافرنج وارتحل معين الدين انز في عساكر دمشق الى بانياس وهي
للاتابك زنكي ليوفي
(5/275)
للافرنج بشرطه لهم فيها وقد كان نائبها سار
للاغارة على مدينة صور ولقيه في طريقه صاحب انطاكية ذاهبا الى دمشق
منجدا فهزم عسكر بانياس وقتلوا ولحق فلهم بالبلد وقد وهنوا وحاصرهم
معين الدين انز والافرنج وملكها عنوة وسلمها للافرنج وأحفظه ذلك وفرّق
العسكر في حوران وأعمال دمشق وسار هو فصابح دمشق ولم يعلموا بمكانه
فبرزوا اليه وقاتلوه وقتل منهم جماعة ثم احجم عنهم لقلة من معه وارتحل
الى مرج راهط في انتظار عساكره فلما توافوا عنده عاد الى بلاده.
استيلاء الاتابك على شهرزور وأعمالها
كان شهرزور بيد قفجاق بن ارسلان شاه أمير التركمان وصالحهم وكانت
الملوك تتجافى عن أعماله لامتناعها ومضايقها فعظم شأنه واشتمل عليه
التركمان وسار اليه الاتابك زنكي سنة أربع وثلاثين فجمع ولقيه فظفر به
الاتابك واستباح معسكره وسار في اتباعه فحاصر قلاعه وحصونه وملك جميعها
واستأمن اليه قفجاق فأمنه وسار في خدمته وخدمة بنيه بعده الى آخر
المائة ثم كان في سنة خمس وثلاثين بين الاتابك زنكي وبين داود بن سقمان
صاحب كيفا فتنة وحروب وانهزم داود وملك الاتابك من بلاده قلعة همرد
وأدركه [1] فعاد الى الموصل ثم سار الاتابك الى مدينة الحرمية فملكها
سنة ست وثلاثين ونقل آل مهارش الذين كانوا بها الى الموصل ورتب أصحابه
مكانهم ثم خطب له صاحب آمد وصار في طاعته بعد أن كان مع داود عليه ثم
بعث الاتابك لسنة سبع وثلاثين عسكرا الى قلعة أشهب وهي أعظم من حصون
الأكراد الهكارية وأمنعها وفيها أهلوهم وذخائرهم فحاصرها وملكها وأمره
الاتابك بتخريبها وبنى قلعة العماديّة عوضا عنها وكانت خربت قبل ذلك
لاتساعها وعجزهم عن حمايتها فأعيدت الآن وكان نصير الدين نائب الموصل
قد فتح أكثر القلاع الحربية والله تعالى أعلم.
صلح الاتابك مع السلطان مسعود واستيلاؤه
على أكثر ديار بكر
كان السلطان مسعود ملك السلجوقية قد حقد على الاتابك زنكي شأن الخارجين
على طاعته من أهل الاطراف وينسب ذلك اليه وكان يفعل ذلك مشغلة للسلطان
عنه فلما فرغ
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر بالمصادر التي بين أيدينا على اسم
المكان الّذي أدركه به.
(5/276)
السلطان مسعود من شواغله سنة ثمان وثلاثين
وخمسمائة سار الى بغداد عازما على قصد الاتابك وحصار الموصل فأرسل
الاتابك يستعطفه ويستميله على أن يدفع اليه مائة ألف دينار ويعود عنه
فشرع في ذلك وحمل منها عشرين ألفا ثم حدثت الفتنة على السلطان فاحتاج
الى مداراته وترك له الباقي وبالغ هو في مخالصة السلطان بحيث ان ابنه
غازي كان عند السلطان فهرب الى الموصل فبعث الى نائبها نصير الدين جقري
يمنعه من دخولها وبعث الى ابنه بالرجوع الى خدمة السلطان وكتب الى
السلطان بأن ابني هرب للخوف من تغيير السلطان عليه وقد أعدته الى
الخدمة ولم ألفه وأنا مملوك والبلاد لك فوقع ذلك من السلطان أحسن
المواقع ثم سار الاتابك الى ديار بكر ففتح طره واسعرد وحران وحصن الرزق
وحصن تطليت وحصن ياسنه وحصن ذي القرنين وغير هذه وملك أيضا من بلاد
ماردين [1] الافرنج حملين والمودن وتل موزر وغيرها من بلاد حصون سجستان
وأنزل بها الحامية وقصد آمد فحصرها وسير عسكرا الى مدينة غانة من أعمال
الفرات فملكها وللَّه تعالى أعلم.
فتح الرها وغيرها من أعمال الافرنج
كان الافرنج بالرها وسروج والبيرة قد أضروا بالمسلمين جوارهم مثل آمد
ونصيبين ورأس عين والرقة وكان زعيمهم ومقدّمهم بتلك البلاد جوسكين
الزعيم ورأى الاتابك أنه يوري عن قصدهم بغيره لئلا يجمعوا له فوري بغزو
ديار بكر كما قلناه و [2] جوسكين وعبر الفرات من الرها الى غزنة وجاء
الخبر بذلك الى الاتابك فارتحل منتصف جمادى الاخيرة سنة تسع وثلاثين
وحرّض المسلمين وحثهم على عدوّهم ووصل الى الرها وجوسكين غائب عنها
فانحجز الإفرنج بالبلد وحاصرهم شهرا وشدّ في حصارهم وقتالهم ولج في ذلك
قبل اجتماع الافرنج ومسيرهم اليه ثم ضعف سورها فسقطت ثلمة منه وملك
البلد عنوة ثم حاصر القلعة وملكها كذلك ثم ردّ على أهل البلد ما أخذ
منهم وأنزل فيه حامية وسار الى سروج وجميع البلاد التي بيد الافرنج
شرقيا فملكها جميعا الا البيرة لامتناعها فأقام يحاصرها حتى امتنعت
ورحل عنها والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] هنا بياض بالأصل، ولم نعثر بالمصادر التي بين أيدينا على التصويب.
[2] كذا بياض بالأصل، في جميع النسخ ولم نعثر في المراجع التي بين
أيدينا على تصويب العبارة ومقتضى السياق.
فوري بغزو ديار بكر كما قلناه، وخدع جوسكين وعبر الفرات.
(5/277)
مقتل نصير الدين
جقري نائب الموصل وولاية زين الدين على كجك مكانه بالقلعة
كان استقرّ عند الاتابك زنكي بالموصل الملك البارسلان ابن السلطان محمد
ويلقب الخمفاجي وكان شبيها به وتوهم [1] السلطان ان البلاد له وأنه
نائبة وينتظر وفاة السلطان مسعود فيخطب له ويملك البلد باسمه وكان
يتردّد له ويسعى في خدمته فداخله بعض المفسدين في غيبة الاتابك وزين له
قتل نصير الدين النائب والاستيلاء على الموصل فلما دخل اليه أغرى به
أجناد الاتابك ومواليه فوثبوا به وقتلوه في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين
ثم ألقوا برأسه الى أصحابه يحسبون أنهم يفترقون فاعصوصبوا واقتحموا
عليه الدار ودخل عليه القاضي تاج الدين يحي ابن الشهرزوريّ فأوهمه
بطاعته وأشار عليه بالصعود الى القلعة ليستولي على المال والسلاح فركب
وصعد معه وتقدّم الى حافظ القلعة وأشار عليه بأن يمكنه من الدخول ثم
يقبض عليه فدخل ودخل معه الذين قتلوا نصير الدين فحبسهم والي القلعة
وعاد القاضي الى البلد وطار الخبر الى الاتابك زنكي بحصار البيرة فخشي
اختلاف البلد وعاد الى الموصل وقدم زين الدين على ابن كجك وولاه القلعة
مكان نصير الدين وأقام ينتظر الخبر وخاف الافرنج الذين بالبيرة من
عودته اليهم فبعثوا الى نجم الدين صاحب ماردين وسلموها له فملكها
المسلمون.
حصار زنكي حصن جعبر وفنك
ثم سار الاتابك زنكي سنة احدى وأربعين في المحرّم الى حصن جعبر ويسمى
دوس وهو مطل على الفرات وكان لسالم بن مالك العقيلي أقطعه السلطان ملك
شاه لأبيه حين أخذ منه حلب وبعث جيشا الى قلعة فنك على فرسخين من جزيرة
ابن عمر فحاصروها وصاحبها يومئذ حسام الدين الكردي فحاصر قلعة جعبر حتى
توسط الحال بينهما حسان المنبجي ورغبه ورهبه وقال في كلامه من يمنعك
منه فقال الّذي منعك أنت من مالك بن بهرام وقد حاصر حسان منبج فأصابه
في بعض الأيام سهم فقتله وأفرج عن حسان وقدر قتل الاتابك كذلك والله
تعالى أعلم.
__________
[1] بياض بالأصل، ومقتضى السياق: وتوهم ان يخدع السلطان ان البلاد له.
(5/278)
مقتل الاتابك عماد
الدين زنكي
كان الاتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل والشام محاصرا
لقلعة جعبر كما ذكرنا واجتمع جماعة من مواليه اغتالوه ليلا وقتلوه على
فراشه ولحقوا بجعبر وأخبروا أهلها فنادوا من السور بقتله فدخل أصحابه
اليه وألفوه بجود بنفسه وكان قتل لخمس من ربيع الآخر سنة احدى وأربعين
عن ستين سنة من عمره ودفن بالرقة وكان يوم قتل أبوه ابن سبع سنين ولما
قتل دفن بالرقة وكان حسن السياسة كثير العدل مهيبا عند جنده عمر البلاد
وأمنها وأنصف المظلوم من الظالم وكان شجاعا شديد الغيرة كثير الجهاد
ولما قتل رحل العسكر عن قلعة فنك وصاحبها غفار قال ابن الأثير سمعتهم
يزعمون أن لهم فيها نحو ثلاثمائة سنة وفيهم رفادة وعصبية ويجيرون كل من
يلجأ اليهم والله أعلم.
استيلاء ابنه غازي على الموصل وابنه الآخر
محمود على حلب
ولما قتل الاتابك زنكي نزع ابنه نور الدين محمود خاتمه من يده وسار به
الى حلب فاستولى عليها وخرج الملك البارسلان ابن السلطان محمود واجتمعت
عليه العساكر وطمع في الاستقلال بملك الموصل وحضر ابنه جمال الدين محمد
بن علي ابن متولي الديوان وصلاح الدين محمد بن الباغيسياني الحاجب وقد
اتفقا فيما بينهما على حفظ الدولة لأصحابهما وحسنا لألب أرسلان ما هو
فيه من الاشتغال بلذاته وأدخلاه الرقة فانغمس بها وهما يأخذان العهود
على الأمراء لسيف الدين غازي ويبعثانهم الى الموصل وكان سيف الدين غازي
في مدينة شهرزور وهي أقطاعه وبعث اليه زين الدين على كوجك نائب القلعة
بالموصل يستدعيه ليحضر عنده وسار البارسلان الى سنجار والحاجب وصاحبه
معه ودسوا الى نائبها بأن يعتذر للملك البارسلان بتأخره حتى يملك
الموصل فساروا الى الموصل ومرّوا بمدينة [1] وقد وقف العسكر فأشاروا
على البارسلان بعبور دجلة الى الشرق وبعثوا الى سيف الدين غازي بخبره
وقلة عسكره فأرسل اليه عسكرا فقبضوه وجاءوا به فحسب بقلعة الموصل
واستولى سيف الدين غازي على الموصل والجزيرة وأخوه نور الدين محمود على
حلب ولحق به صلاح الدين الباغيسياني فقام بدولته والله سبحانه وتعالى
يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
__________
[1] بياض بالأصل في هذه النسخة وفي نسخة ثانية: مدينة سنجار.
(5/279)
عصيان الرها
ولما قتل الاتابك زنكي ملك الرها جوسكين كان جوسكين مقيما في ولايته
بتل باشر وما جاورها فراسل أهل الرها وعامّتهم من الأرمن وحملهم على
العصيان على المسلمين وتسليم البلد له فأجابوه وواعدوه ليوم عينوه فسار
في عساكره وملك البلد وامتنعت القلعة وبلغ الخبر الى نور الدين محمود
وهو بحلب فأغذ السير اليها وأجفل جوسكين الى بلده ونهب نور الدين
المدينة وسبى أهلها وارتحلوا عنها وبعث سيف الدين غازي العساكر اليها
فبلغهم في طريقهم ما فعله نور الدين فعادوا وذلك سنة احدى وأربعين ثم
قصد صاحب دمشق بعد قتل الاتابك حصن بعلبكّ وبه نجم الدين أيوب بن شادي
نائب الاتابك فأبطأ عليه انجاد بنيه فصالح صاحب دمشق وسلم له بعلبكّ
على اقطاع ومال أعطاه إياه وعشر قرى من بلاد دمشق وانتقل معه إلى دمشق
فسكنها وأقام بها ثم سار نور الدين محمود سنة اثنتين وأربعين من حلب
الى الافرنج ففتح مدينة ارتاج عنوة وحاصر حصونا أخرى وكان الافرنج بعد
قتل الاتابك يظنون أنهم يستردّون ما أخذه منهم فبدا لهم ما لم يكونوا
يحتسبون ولما قتل الاتابك زنكي طمع صاحب ماردين وصاحب كيفا أن يستردّوا
ما أخذ من بلادهم فلما تمكن سيف الدين غازي سار إلى أعمال ديار بكر
فملك دارا وغيرها وتقدم الى ماردين وحاصرها وعاث في نواحيها حتى ترحم
صاحبها حسام الدين تمرتاش على الاتابك مع عداوته ثم أرسل الى سيف الدين
غازي وصالحه وزوّجه بنته فعاد الى الموصل وزفت اليه وهو مريض فهلك قبل
زفافها وتزوّجها أخوه قطب الدين من بعده والله أعلم.
مصاهرة سيف الدين غازي لصاحب دمشق وهزيمة
نور الدين محمود للافرنج
كان تقدّم لنا في دولة بني طغركين موالي دقاق بن تتش أنّ ملك اللمان من
الافرنج سار سنة ثلاث وأربعين وحاصر دمشق بجموع الافرنج وبها محيي
الدين ارتق بن بوري بن محمد بن طغركين في كفالة معين الدين أنز مولى
[1] فبعث معين الدين الى سيف الدين غازي بن أتابك زنكي بالموصل يدعوه
الى نصرة المسلمين فجمع عساكره وسار الى الشام
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 38: مملوك جده طغركين، وهو الّذي
اقام مجير الدين.
(5/280)
واستدعى أخاه نور الدين من حلب ونزلوا على
حمص فأخذوا بحجزة الافرنج عن الحصار وقوي المسلمون بدمشق عليهم وبعث
معين الدين الى طائفتي الافرنج من سكان الشام واللمان الواردين فلم يزل
يضرب بينهم وجعل لافرنج الشام حصن بانياس طعمة على أن يرحلوا بملك
اللمانيين ففتلوا له في الذروة والغارب حتى رحل عن دمشق ورجع الى بلاده
وراء قسطنطينية بالشمال وحسن أمر سيف الدين غازي وأخيه في الدفاع عن
المسلمين وكان مع ملك اللمان حين خرج الى الشام ابن ادفونش ملك
الجلالقة بالأندلس وكان جدّه هو الّذي ملك طرابلس الشام من المسلمين
حين خروج الافرنج الى الشأم فلما جاء الآن مع ملك اللمان ملك حصن
العريمة وأخذ في منازلة طرابلس ليملكها من القمص فأرسل القمص الى نور
الدين محمود ومعين الدين أنز وهما مجتمعان ببعلبكّ بعد رحيل ملك
اللمانيين عن دمشق وأغراهما بابن ادفونش ملك الجلالقة واستخلاص حصن
العريمة من يده فسارا لذلك سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وبعث الى سيف
الدين وهو بحمص فأمدّهما بعسكر مع الأمير عز الدين أبي بكر الديسي صاحب
جزيرة ابن عمر وحاصروا حصن العريمة أياما ثم نقضوا سوره وملكوه على
الافرنج وأسروا من كان به من الافرنج ومعهم ابن ادفونش وعاد الى سيف
الدين عسكره ثم بلغ نور الدين ان الافرنج تجمعوا في بيقو من أرض الشام
للاغارة على أعمال حلب فسار اليهم وقتلهم وهزمهم وأثخن فيهم قتلا وأسرا
وبعث من غنائمهم وأسراهم الى أخيه سيف الدين غازي والى المقتفي الخليفة
انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة سيف الدين غازي وملك أخيه قطب الدين
مودود
ثم توفي سيف الدين غازي بن الاتابك زنكي صاحب الموصل منتصف أربع
وأربعين وخمسمائة لثلاث سنين وشهرين من ولايته وخلف ولدا صغيرا ربي عند
عمه نور الدين محمود وهلك صغيرا فانقرض عقبه وكان كريما شجاعا متسع
المائدة يطعم بكرة وعشية مائة رأس من الغنم في كل نوبة وهو أوّل من حمل
الصنجق [1] على رأسه وأمر بتعليق السيوف بالمناطق وترك التوشح بها وحمل
الدبوس في حلقة السرج وبني المدارس للفقهاء والربط للفقراء ولما أنشده
حيص بيص الشاعر يمدحه
__________
[1] كلمة تركية تعني العلم.
(5/281)
الام يراك المجد في زي شاعر ... وقد نحلت
شوقا إليك المنابر
فوصله بألف مثقال سوى الخلع وغيرها ولما توفي سيف الدين غازي انتقض
الوزير جمال الدين وأمير الجيوش زين الدين علي وجاءوا بقطب الدين مودود
وبادروا الى تمليكه واستخلفوه وحلفوا له وركب الى دار السلطنة وزين
الدين في ركابه فبايعوا له وأطاعه جميع من في أعمال أخيه بالموصل
والجزيرة وتزوّج الخاتون بنت حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين التي هلك
أخوه قبل زفافها فكان ولده كلهم منها والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء السلطان محمود على سنجار
ولما ملك قطب الدين مودود الموصل وكان أخوه نور الدين محمود بالشام
وكان أكبر منه وله حلب وحماة كاتبه جماعة من الأمراء بعد أخيه غازي
وفيمن كاتبه نائب سنجار المقدّم عبد الملك فبادر اليه في سبعين فارشا
من أمرائه وسبق أصحابه في يوم مطير الى مساكن ودخل البلد ولم يعرفوا
منه الا أنه أمير من جند التركمان ثم دخل على الشحنة بيته فقبل يده
وأطاعه ولحق به أصحابه وساروا جميعا الى سنجار وأغذ السير فقطع عنه
أصحابه وتوصل الى سنجار في فارسين ونزل بظاهر البلد وبعث الى المقدم
فوصله وكان قد سار الى الموصل وترك ابنه شمس الدين محمد بالقلعة فبعث
في أثر أبيه وعاد من طريقه وسلم سنجار الى نور الدين محمود فملكها
واستدعى فخر الدين قرى ارسلان صاحب كيفا لمودة بينهما فوصل في عساكره
وبلغ الخبر الى قطب الدين صاحب الموصل ووزيره جمال الدين وأمير جيشه
زين الدين فساروا الى سنجار للقاء نور الدين محمود وانتهوا الى تل اعفر
ثم خاموا عن لقائه وأشار الوزير جمال الدين بمصالحته وسار اليه بنفسه
فعقد معه الصلح وأعاد سنجار على أخيه قطب الدين وسلم له أخوه مدينة حمص
والرحبة والشام فانفرد بملك الشام وانفرد أخوه قطب الدين بالجزيرة
واتفقا وعاد نور الدين الى حلب وحمل ما كان لأبيهم الاتابك زنكي من
الذخيرة واتفقا وعاد نور الدين الى حلب وحمل ما كان لأبيهم الاتابك
زنكي من الذخيرة لسنجار وكانت لا يعبر عنها والله تعالى أعلم.
غزو نور الدين الى انطاكية وقتل صاحبها وفتح افاميا
ثم غزا نور الدين سنة أربع وأربعين الى انطاكية فعاث فيها وخرّب كثيرا
من حصونها وبينما
(5/282)
هو يحاصر بعض الحصون اجتمع الافرنج وزحفوا
اليه فلقيهم وحاربهم وأبلى في ذلك الموقف فهزم الافرنج وقتل البرنس
صاحب انطاكية وكان من عتاة الافرنج وملك بعده ابنه سمند طفلا وتزوّجت
أمّه برنس آخر يكفل ولدها ويدبر ملكها فغزاه نور الدين ولقوة فهزمهم
وأسر ذلك البرنس الثاني وتمكن الطفل سمند من ملكه بأنطاكية ثم سار نور
الدين سنة خمس وأربعين الى حصن افاميا بين شيزر وحماة وهو من أحسن
القلاع فحاصروه وملكه وشحنه حامية وسلاحا واقواتا ولم يفرغ من أمره الا
والإفرنج الّذي بالشام جمعوا وزحفوا اليه وبلغهم الخبر فخاموا عن
اللقاء وصالحوه في للهادنة فعقد لهم انتهى.
هزيمة نور الدين جوسكين وأسر جوسكين
ثم جمع نور الدين بعد ذلك وسار غازيا إلى بلاد زعيم الإفرنج وهي تل
باشر وعنتاب وعذار وغيرها من حصون شمالي حلب فجمع جوسكين لمدافعته عنها
ولقيه فاقتتلوا ومحص الله المسلمين واستشهد كثير منهم وأسر آخرون وفيهم
صاحب صلاح نور الدين فبعثه جوسكين إلى الملك مسعود بن قليج أرسلان
يعيره به لمكان صهره نور الدين على ابنته فعظم ذلك عليه وأعمل الحيلة
في جوسكين وبذل المال لأحياء التركمان البادين بضواحيه أن يحتالوا في
القبض عليه ففعلوا وظفر به بعضهم فشاركهم في إطلاقه على مال وبعث من
يأتي به وشعر بذلك وإلى حلب أبو بكر بن الرامة فبعث عسكرا ليسوا من ذلك
الحيّ جاءوا بجوسكين أسيرا إلى حلب وثار نور الدين إلى القلاع فملكها
وهي تل باشر وعنتاب وعذار وتل خالد وقورص وداوندار ومرج الرصاص وحصن
النادة وكفرشود وكفرلات ودلوكا ومرعش ونهر الجود وشحنها بالأقوات وزحف
إليه الإفرنج ليدافعوه فلقيهم على حصن جلدك وانهزم الإفرنج وأثخن
المسلمون فيهم بالقتل والأسر ورجع نور الدين إلى دلوكا ففتحها وتأخر
فتح تل باشر منها إلى أن ملك نور الدين دمشق واستأمنوا إليه وبعث إليهم
حسان المنبجي فتسلمها منهم وحصنها وذلك في سنة تسع وأربعين وخمسمائة
والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء نور الدين على دمشق
كان الإفرنج سنة ثمان وأربعين قد ملكوا عسقلان من يد العلوية خلفاء مصر
واعترضت دمشق بين نور الدين وبينهما فلم يجد سبيلا إلى المدافعة عنها
واستطال الإفرنج على دمشق
(5/283)
بعد ملكهم عسقلان ووضعوا عليها الجزية
واشترطوا عليهم تخيير الأسرى الذين بأيديهم في الرجوع إلى وطنهم وكان
بها يومئذ مجير الدين أنز بن محمد بن بوري بن طغركين الأتابك واهن
القوى مستضعف القوّة فخشي نور الدين عليها من الإفرنج وربما ضايق مجير
الدين بعض الملوك من جيرانه فيفزع إلى الإفرنج فيغلبون عليه وأمعن
النظر في ذلك وبدأ أمره بمواصلة مجير الدين وملاطفته حتى استحكمت
المودّة بينهما حتى صار يداخله في أهل دولته ويرميهم عنده أنهم كاتبوه
فيوقع الآخر بهم حتى هدم أركان دولته ولم يبق من أمرائه إلا الخادم
عطاء بن حفاظ وكان هو القائم بدولته فعصى به نور الدين وحال بينه وبين
دمشق فأغرى به صاحبه مجير الدين حتى نكبه وقتله وخلت دمشق من الحامية
فسار حينئذ نور الدين مجاهرا بعداوة مجير الدولة ومتجنيا عليه واستنجد
بالإفرنج على أن يعطيهم الأموال ويسلم لهم بعلبكّ فجمعوا واحتشدوا وفي
خلال ذلك عمد نور الدين إلى دمشق سنة سبع وأربعين وكاتب جماعة من
أحداثها ووعدهم من أنفسهم فلما وصل ثاروا بمجير الدين ولجأ إلى القلعة
وملك نور الدين المدينة وحاصره بالقلعة وبذل له إقطاعا منها مدينة حمص
فسار إليها مجير الدين وملك نور الدين القلعة ثم عوضه عن حمص ببالس فلم
يرضها ولحق ببغداد وابتنى بها دارا وأقام بها إلى أن توفي والله سبحانه
وتعالى أعلم.
استيلاء نور الدين على تل باشر وحصاره قلعة
حارم
ولما فرغ نور الدين من أمر دمشق بعث إليه الإفرنج الذين في تل باشر في
شمالي حلب واستأمنوا إليه ومكنوه من حصنهم فتسلمه حسان المنبجي من
كبراء أمراء نور الدين سنة تسع وأربعين ثم سار سنة إحدى وخمسين إلى
قلعة بهرام بالقرب من أنطاكية وهي لسمند أمير أنطاكية من الإفرنج
فحاصرها واجتمع الإفرنج لمدافعته ثم خاموا عن لقائه وصالحوه على نصف
أعمال حارم فقبل صلحهم ورحل عنها والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق
بمنه وكرمه.
استيلاء نور الدين على شيزر
شيزر هذه حصن قريب من حماة على نصف مرحلة منها على جبل منيع عال لا
يسلك إليه إلّا من طريق واحدة وكانت لبني منقذ الكنانيين يتوارثون ذلك
من أيام صالح بن مرداس صاحب حلب من أعوام عشرين وأربعمائة إلى أن انتهى
ملكه إلى المرهف نصر بن علي بن
(5/284)
نصير بن منقذ بعد أبيه أبي الحسن علي فلما
حضره الموت سنة تسعين وأربعمائة عهد لأخيه أبي سلمة بن مرشد وكان عالما
بالقراءات والأدب وولي مرشد أخاه الأصغر سلطان بن علي وكان بينهما من
الاتفاق والملاءمة ما لم يكن بين اثنين ونشأ لمرشد بنون كثيرون و [1]
في السود منهم عز الدولة أبو الحسن علي ومؤيد الدولة أسامة وولده علي
وتعدّد ولده ونافسوا بني عمهم وفشت بينهم السعايات فتماسكوا لمكان مرشد
والتئامه بأخيه فلما مات مرشد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة تنكر أخوه
سلطان لولده وأخرجهم من شيزر فتفرّقوا وقصد بعضهم نور الدين فامتعض لهم
وكان مشتغلا عنهم بالإفرنج ثم توفي سلطان وقام بأمر شيزر أولاده
وراسلوا الإفرنج فحنق نور الدين عليهم لذلك ثم وقعت الزلازل بالشام
وخرب أكثر مدنه مثل حماة وحمص وكفر طاب والمعرّة وأفامية وحصن الأكراد
وعرقة ولاذقية وطرابلس وأنطاكية هذه سقطت جميعها وتهدّمت سنة اثنتين
وخمسين وما سقط بعضه وتهدّمت أسواره فأكثر بلاد الشام وخشي نور الدين
عليها من الإفرنج فوقف بعساكره في أطراف البلاد حتى رم ما تثلم من
أسوارها وكان بنو منقذ أمراء شيزر قد اجتمعوا عند صاحبها منهم في دعوة
فأصابتهم الزلزلة مجتمعين فسقطت عليهم القلعة ولم ينج منهم أحد وكان
بالقرب منها بعض أمراء نور الدين فبادر وصعد إليها وملكها منه نور
الدين ورم ما تثلم من أسوارها وجدّد بناءها فعادت كما كانت هكذا قال
ابن الأثير وقال ابن خلكان وفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة استولى بنو
منقذ على شيزر من يد الروم والّذي تولى فتحها منهم علي بن منقذ بن نصر
بن سعد وكتب إلى بغداد بشرح الحال ما نصه كتابي من حصن شيزر حماه الله
وقد رزقني الله من الاستيلاء على هذا المعقل العظيم ما لم يتأت لمخلوق
في هذا الزمان وإذا عرف الأمر على حقيقته علم أني هزبر هذه الأمّة
وسليمان الجنّ والمردة وأنا أفرّق بين المرء وزوجه واستنزل القمر من
محله أنا أبو النجم وشعري شعري نظرت إلى هذا الحصن فرأيت أمرا يذهل
الألباب يسع ثلاثة آلاف رجل بالأهل والمال وتمسكه خمس نسوة فعمدت إلى
تل بينه وبين حصن الروم يعرف بالحواص ويسمى هذا التل بالحصن فعمرته
حصنا وجمعت فيه أهلي وعشيرتي ونفرت نفرة على حصن الحواص فأخذته بالسيف
من الروم ومع ذلك فلما أخذت من به من الروم أحسنت إليهم وأكرمتهم
ومزجتهم بأهلي وعشيرتي وخلطت خنازيرهم بغنمي ونواقيسهم بصوت الأذان
ورأى أهل شيزر فعلي ذلك فأنسوا بي ووصل إليّ منهم قريب من نصفهم فبالغت
في إكرامهم ووصل إليهم مسلم بن قريش العقيلي فقتل
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 219: فأولد مرشد عدة أولاد ذكور
وكبروا وسادوا.
(5/285)
من أهل شيزر نحو عشرين رجلا فلما انصرف
مسلم عنهم سلموا إليّ الحصن انتهى كتاب علي بن منقذ وبين هذا الّذي
ذكره ابن خلكان والّذي ذكره ابن الأثير نحو خمسين سنة وما ذكره ابن
الأثير أولى لأنّ الإفرنج لم يملكوا من الشام شيئا في أوائل المائة
الخامسة والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء نور الدين على بعلبكّ
كانت بعلبكّ في يد الضحاك البقاعي نسبة إلى بقاعة [1] والآن عليها صاحب
دمشق فلما ملك نور الدين دمشق امتنع ضحاك ببعلبكّ وشغل نور الدين عنه
بالإفرنج فلما كانت سنة اثنتين وخمسين استنزله نور الدين عنها وملكها
والله أعلم.
استيلاء أخي نور الدين على حران ثم
ارتجاعها
كان نور الدين سنة أربع وخمسين وخمسمائة بحلب ومعه أخوه الأصغر أمير
أميران فمرض نور الدين بالقلعة واشتدّ مرضه فجمع أخوه وحاصر قلعة حلب
وكان شيركوه بن شادي أكبر أمرائه بحمص فلما بلغه لأزحاف [2] سار إلى
دمشق ليملكها وعليها أخوه نجم الدين أيوب فنكر عليه وأمره بالمسير إلى
حلب حتى يتبين حياة نور الدين من موته فأغذ السير إلى حلب وصعد القلعة
وأظهر نور الدين للناس من سطح مشرف فافترقوا عن أخيه أمير أميران فسار
إلى حران فملكها فلما أفاق نور الدين سلمها إلى زين الدين علي كجك نائب
أخيه قطب الدين بالموصل وسار إلى الرقة فحاصرها والله تعالى وليّ
التوفيق.
خبر سليمان شاه وحبسه بالموصل ثم مسيره
منها إلى السلطنة بهمذان
كان الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملك شاه عند عمه السلطان
سنجر بخراسان وقد عهد له بملكه وخطب باسمه على منابر خراسان فلما حصل
سنجر في أسر العدو سنة ثمان وأربعين وخمسمائة كما مرّ في أخبار دولتهم
واجتمعت العساكر على سليمان شاه هذا وقدموه
__________
[1] وهي البقاع وفي الكامل بقاع بعلبكّ.
[2] كذا بالأصل ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على التصويب
والأصح: الزحف.
(5/286)
فلم يطق مقاومة العدوّ فمضى إلى خوارزم شاه
وزوّجه ابنة أخيه ثم بلغه عنه ما ارتاب له فأخرجه من خوارزم وقصد
أصبهان فمنعه الشحنة من الدخول فقصد قاشان فبعث إليه محمد شاه ابن أخيه
محمود عسكرا دافعوه عنها فسار إلى خراسان فمنعه ملك شاه منها فقصد
النجف ونزل [1] وأرسل للخليفة المستنصر وبعث أهله وولده رهنا بالطاعة
واستأذن في دخول بغداد فأكرمهم الخليفة [2] وأذن له وخرج ابن الوزير
ابن هبيرة لتلقيه في الموكب وفيه قاضي القضاة والتقيا ودخل بغداد وخلع
عليه آخر سنة خمسين وبعد أيام أحضر بالقصر واستخلف بحضرة قاضي القضاة
والأعيان وخطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه وأمر بثلاثة آلاف فارس وسار
نحو بلاد الجبل في ربيع سنة إحدى وخمسين ونزل الخليفة حلوان واستنفر له
ابن أخيه ملك شاه صاحب همذان فقدم إليه في ألفي فارس وجعله سليمان شاه
وليّ عهده وأمدّهما الخليفة بالمال والسلاح ولحق بهما ايلدكز صاحب
الريّ فكثرت جموعهم وبعث السلطان محمد إلى قطب الدين مودود صاحب الموصل
وزين الدين كجك علي نائبة في المظاهرة والأنجاد وسار إلى لقاء سليمان
شاه فانهزم وتمزق عسكره وفارقه أيلدكز فذهب إلى بغداد على طريق بشهرزور
وبلغ خبر الهزيمة إلى زين الدين علي كجك فخرج في جماعة من عسكر الموصل
وقعد له بشهرزور ومعه الأمير إيراق حتى مرّ بهم سليمان شاه فقبض عليه
زين الدين وحمله إلى الموصل فحبسه بها مكرما وطير إلى السلطان محمود
بالخبر فلما هلك السلطان محمود بن محمد سنة خمس وخمسين أرسل أكابر
الأمراء من همذان إلى قطب الدين أتابك وزيره وزيرا له وتعاهدوا على ذلك
وجهزه قطب الدين جهاز الملك وسار معه زين الدين علي كجك في عسكر الموصل
إلى همذان فلما قاربوا بلاد الجبل تتابعت العساكر والإمداد للقائهم
إرسالا واجتمعوا على سليمان شاه وجروا معه على مذاهب الدولة فخشيهم زين
الدين على نفسه وفارقهم إلى الموصل وسار سليمان شاه إلى همذان فكان من
أمرهم ما تقدّم في أخبار الدولة السلجوقية.
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 206: ونزل البندنجين، وأرسل
رسولا إلى الخليفة المقتفي يعلمه بوصوله.
[2] كذا بياض بالأصل عبارة مرتبكة. وفي الكامل فأكرم الخليفة زوجته ومن
معها، وأذن له في القدوم فقدم ومعه عسكر خفيف يبلغون ثلاثمائة رجل: ج
11 ص 206.
(5/287)
حصار قلعة حارم
وانهزام نور الدين إمام الإفرنج ثم هزيمتهم وفتحها
ثم جمع نور الدين محمود عساكر حلب وحاصر الإفرنج بقلعة حارم وجمعوا
لمدافعته ثم خاموا عن لقائه ولم يناجزوه وطال عليه أمرها فعاد عنها ثم
جمع عساكره وسار سنة ثمان وخمسين معتزما على غزو طرابلس وانتهى إلى
البقيعة تحت حصن الأكراد فكبسهم الإفرنج هنالك وأثخنوا فيهم ونجا نور
الدين في الفلّ إلى بحيرة مرس قريبا من حمص ولحق به المنهزمون وبعث إلى
دمشق وحلب في الأموال والخيام والظهر وأزاح علل العسكر وعلم الإفرنج
بمكان نور الدين من حمص فنكبوا عن قصدها وسألوه الصلح فامتنع فأنزلوا
حاميتهم بحصن الأكراد ورجعوا وفي هذه الغزاة عزل نور الدين رجلا يعرف
بابن نصري تنصح له بكثرة خرجه بصلاته وصدقاته على الفقراء والفقهاء
والصوفية والقرّاء إلى مصارف الجهاد فغضب وقال والله لا أرجو النصر إلا
بأولئك فإنّهم يقاتلون عني بسهام الدعاء في الليل وكيف أصرفها عنهم وهي
من حقوقهم في بيت المال ذلك شيء لا يحل لي ثم أخذ في الاستعداد للأخذ
بثأره من الإفرنج وسار بعضهم إلى ملك مصر فأراد أن يخالفهم إلى بلادهم
فبعث إلى أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وإلى فخر الدين قرا أرسلان
صاحب كيفا وإلى نجم الدين وإلى صاحب ماردين بالنجدة فسار من بينهم أخوه
قطب الدين وفي مقدمته زين الدين علي كجك صاحب جيشه ثم تبعه صاحب كيفا
وبعث نجم الدين عسكره فلما توافت الإمداد سار نور الدين نحو حارم سنة
تسع وخمسين فحاصرها ونصب عليها المجانيق واجتمع من بقي بالساحل من ملوك
الإفرنج ومقدمهم البرنس سمند صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس وابن
جوسكين واستنفر لهم أمم النصرانية وقصدوه فأفرج عن حارم إلى إرتاج ثم
خاموا عن لقائه وعادوا إلى حصن حارم وسار في إتباعهم وناوشهم الحرب
فحملوا على عساكر حلب وصاحب كيفا في ميمنة المسلمين فهزموها ومرّوا في
أتباعهم وحمل زين الدين في عساكر الموصل على الصف فلقيه الرجل فأثخن
فيهم واستلحمهم وعاد الإفرنج من أتباع الميمنة فسقط في أيديهم ودارت
رحى الحرب على الإفرنج فانهزموا ورجع المسلمون من القتل إلى الأسر
فأسروا منهم أمما فيهم سمند صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس وبعث
السرايا في تلك الأعمال بقصد أنطاكية لخلوها من الحامية فأبى وقال أخشى
أن يسلمها أصحابها لملك الروم فإنّ سمند ابن أخته
(5/288)
ومحاورته أحق إليّ من مجاورة ملك الروم ثم
عاج على قلعة حارم فحاصرها وافتتحها ورجع مظفرا والله يؤيد بنصره من
يشاء عباده.
فتح نور الدين قلعة بانياس
ولما افتتح نور الدين قلعة حارم أذن لعسكر الموصل وحصن كيفا بالانطلاق
إلى بلادهم وعزم على منازلة بانياس وكانت بيد الإفرنج من سنة ثلاث
وأربعين وخمسمائة ثم ورى عنها بقصد طبرية فصرف الإفرنج همتهم إلى
حمايتها وخالف هو إلى بانياس لقلة حاميتها فحاصرها وضيق عليها في ذي
الحجة من سنة تسع وخمسين وكان معه أخوه نصير الدين أمير أميران فأصيب
بسهم في إحدى عينيه وأخذ الإفرنج في الجمع لمدافعته فلم يستكملوا أمرهم
حتى فتحها وشحن قلعتها بالمقاتلة والسلاح وخافه الإفرنج فشاطروه في
أعمال طبرية وضرب عليهم الجزية في الباقي ووصل الخبر بفتح حارم وبانياس
إلى ملوكهم الذين ساروا إلى مصر فسبقهم بالفتح وعاد إلى دمشق ثم سار
سنة إحدى وستين متجرّدا إلى حصن المنيطرة فنازلهم على غرّة وملكه عنوة
ولم يجتمع الإفرنج إلا وقد ملكه فافترقوا ويئسوا من ارتجاعه والله
تعالى أعلم.
وفادة شاور وزير العاضد بمصر على نور الدين
العادل صريخا وإنجاده بالعسكر مع أسد الدين شيركوه
كانت دولة العلويين بمصر قد أخذت في التلاشي وصارت إلى استبداد وزرائها
على خلفائها وكان من آخر المسلمين بها شاور السعدي استعمله الصالح بن
زربك على قوص وندم فلما هلك الصالح بن زربك [1] وكان مستبدّا على
الدولة قام ابنه زربك مقامه فعزل شاور عن قوص فلم يرض بعزله وجمع وزحف
إلى القاهرة فملكها وقتل زربك واستبدّ على العاضد ولقيه أمير الجيوش
وكانت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ثم نازعه الضرغام وكان صاحب الباب
ومقدم البرقية فثار عليه لسبعة أشهر من وزارته وأخرجه من القاهرة فلحق
بالشام وقصد نور الدين محمود بن زنكي مستنجدا به على أن يكون له ثلث
الجباية بمصر ويقيم عسكر نور الدين بها مددا له فاختار من أمرائه لذلك
أسد الدين شيركوه بن شادي الكردي
__________
[1] وفي الكامل ج 11 ص 290 الصالح بن رزّيك.
(5/289)
وكان بحمص وجهزه بالعساكر فسار لذلك في
جمادى سنة تسع وخمسين وأتبعه نور الدين إلى أطراف بلاد الإفرنج فشغلها
عن التعرّض للعساكر وسار أسد الدين مع شاور وسار معه صلاح الدين ابن
أخيه نجم الدين أيوب وانتهوا إلى بلبيس فلقيهم ناصر الدين أخو الضرغام
في عساكر مصر فانهزم ورجع إلى القاهرة وأتبعه أسد الدين فقتله عند مشهد
السيدة نفيسة رضي الله تعالى عنها وقتل أخوه وعاد شاور إلى وزارته
وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة ينتظر الوفاء بالعهد من شاور بما عاهد
عليه نور الدين فنكث شاور العهد وبعث إليه بالرجوع إلى بلده فلجّ في
طلب ضريبته ورحل إلى بلبيس والبلاد الشرقية فاستولى عليها واستمدّ شاور
عليه بالإفرنج فبادروا إلى ذلك لما كان في نفوسهم من تخوّف غائلته
وطمعوا في ملك مصر وسار نور الدين من دمشق ليأخذ بحجرتهم على المسير
فلم يثنهم ذلك وتركوا ببلادهم حامية فلما قاربوا مصر فارقها أسد الدين
واجتمع الإفرنج وعساكر مصر فحاصروه ثلاثة أشهر يغاديهم القتال ويراوحهم
وجاءهم الخبر بهزيمة الإفرنج على حارم وما هيأ الله لنور الدين في ذلك
فراسلوا أسد الدين شيركوه في الصلح وطووا عنه الخبر فصالحهم وخرج ولحق
بالشام ووضع له الإفرنج المراصد بالطريق فعدل عنها ثم أعاده نور الدين
إلى مصر سنة اثنتين وستين فسار بالعساكر في ربيع ونزل اطفيح وعبر النيل
وجاء إلى القاهرة من جانبها الغربي ونزل الجيزة في عدوة النيل وحاصرها
خمسين يوما واستمدّ شاور بالإفرنج وعبر إلى أسد الدين فتأخر إلى الصعيد
ولقيهم منتصف السنة فهزمهم وسار إلى ثغر الإسكندرية فملكها وولي عليها
صلاح الدين ابن أخيه ورجع فدوّخ بلاد الصعيد وسارت عساكره مصر والإفرنج
إلى الإسكندرية وحاصروا بها صلاح الدين فسار إليه أسد الدين فتلقوه
بطلب الصلح فتمّ ذلك بينهم وعاد إلى الشام وترك لهم الإسكندرية وكاتب
شجاع بن شاور نور الدين بالطاعة عنه وعن طائفة من الأمراء ثم استطال
الإفرنج على أهل مصر وفرضوا عليهم الجزية وأنزلوا بالقاهرة الشحنة
وتسلموا أبوابها واستدعوا ملكهم بالشام إلى الاستيلاء عليها فبادر نور
الدين وأعاد أسد الدين في العساكر إليها في ربيع سنة أربع وستين فملكها
وقتل شاور وطرد الإفرنج عنها وقدّمه العاضد لوزارته والاستبداد عليه
كما كان من قبله ثم هلك أسد الدين وقام صلاح الدين ابن أخيه مكانه وهو
مع ذلك في طاعة نور الدين محمود وهلك العاضد فكتب نور الدين إلى صلاح
الدين يأمره بإقامة الدعوة العباسية بمصر والخطبة للمستضيء ويقال أنه
كتب له بذلك في حياة العاضد وبين يدي وفاته وهلك لخمسين يوما أو نحوها
فخطب للمستضيء العباسي وانقرضت الدولة العلوية بمصر وذلك سنة سبع وستين
كما نأتي على شرحه وتفصيله
(5/290)
في دولة بني أيوب إن شاء الله تعالى ووقعت
خلال ذلك فتنة بين نور الدين محمود وبين صاحب الروم قليج أرسلان بن
مسعود بن قليج أرسلان سنة ستين وخمسمائة وكتب الصالح ابن زربك إلى قليج
أرسلان ينهاه عن الفتنة والله تعالى وليّ التوفيق.
فتح نور الدين صافيتا وعريمة ومنبج وجعبر
ثم جمع نور الدين عساكره سنة اثنتين وستين واستدعى أخاه قطب الدين من
الموصل فقدم عليه بحمص ودخلوا جميعا بلاد الإفرنج ومرّوا بحصن الأكراد
واكتسحوا نواحيه ثم حاصروا عرقة وخرجوا جكة [1] وفتحوا العريمة وصافيتا
وبعثوا سراياهم فعاثت في البلاد ورجعوا إلى حمص فأقاموا بها إلى رمضان
وانتقلوا إلى بانياس وقصدوا حصن حموص [2] فهرب عنه الإفرنج فهدم نور
الدين سوره وأحرقه واعتزم على بيروت فرجع عنه أخوه قطب الدين إلى
الموصل وأعطاه نور الدين من عمله الرقة على الفرات ثم انتقض بمدينة
منبج غازي بن حسان وبعث إليها العساكر فملكها عنوة وأقطعها أخاه قطب
الدين نيال بن حسان وبقيت بيده إلى أن أخذها منه صلاح الدين بن أيوب ثم
قبض بنو كلاب على شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي صاحب قلعة
جعبر وكانت تسمى دوس ثم سميت باسم جعبر بانيها وكان السلطان ملك شاه
أعطاها لجدّه عند ما ملك حلب كما مرّ في أخباره ولم تزل بيده ويد عقبه
إلى أن هلك هذا فخرج يتصيد سنة ثلاث وستين وقد أرصد له بنو كلاب فأسروه
وحملوه إلى نور الدين محمود صاحب دمشق فاعتقله مكرما وحاوله في النزول
عن جعبر بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى فأبى [3] وبعث بالعساكر مع
الأمير فخر الدين محمود بن أبي علي الزعفرانيّ وحاصرها مدّة فامتنعت
فبعث عسكرا آخر وقدّم على الجميع الأمير فخر الدين أبا بكر ابن الداية
رضيعه وأكبر أمرائه فحاصرها فامتنعت ورجع إلى ملاطفة صاحبها فأجاب
وعوّضه نور الدين عنها سروج وأعمالها وساحة حلب ومراغة وعشرين ألف
دينار وملك قلعة جعبر سنة أربع وستين وانقرض أمر بني مالك منها والبقاء
للَّه وحده.
__________
[1] وفي الكامل: ج 11 ص 327 وحصروا حلبة وأخذوها وخربوها.
[2] وفي الكامل: (ج 11 ص 328) وقصدوا حصن هونين، وهو للفرنج أيضا من
أمنع حصونهم ومعاقلهم.
[3] كذا بالأصل والعبارة مرتكبة والأسماء محرفة، وفي الكامل: فاعتقله
وأحسن لمواليه ورغبة في الإقطاع والمال ليسلم إليه القلعة فلم يفعل
فعدل إلى الشدة والعنف، وتهدده فلم يفعل فسير إليها نور الدين عسكرا
مقدمه الأمير فخر الدين مسعود بن علي الزعفرانيّ، فحصرها مدة فلم يظفر
منها بشيء.
(5/291)
رحلة زين الدين نائب
الموصل إلى أربل واستبداد قطب الدين بملكه
قد كان تقدّم لنا أنّ نصير الدين جقري كان نائب الأتابك زنكي بالموصل
وقتل البارسلان ابن السلطان محمود آخر سنة تسع وثلاثين وخمسمائة طمعا
في الملك لغيبة الأتابك فرجع من غيبته في حصار البيرة وقدم مكانه زين
الدين عليّ بن كمستكين بقلعة الموصل فلم يزل بها بقية أيام الأتابك
وأيام ابنه غازي وابنه الآخر قطب الدين سنة ثمان وخمسين على وزيرهم
جمال الدين محمد بن علي بن منصور الأصبهاني فاعتقله وهلك لسنة من
الاعتقال وحمل إلى المدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة وأتمّ
التسليم فدفن بها في رباط هناك أعدّه لذلك وكانت وفاته أيام سيف الدين
غازي بن قطب الدين فولي مكانه جلال الدين أبا الحسن ابنه وكان زين
الدين علي بن كمستكين ويعرف بكجك قد استبدّ في دولة قطب الدين واستغل
بحكم الدولة وصارت بيده أكثر البلاد اقطاعا مثل أربل وشهرزور والقلاع
التي في تلك البلاد الهكارية منها العماديّة وغيرها والحميدية وتكريت
وسنجار وقد كان نقل أهله وولده وذخائر إلى أربل وأقام بمحلها نيابته من
قلعة الموصل فأصابه الكبر وطرقه العمى والصمم فعزم على مفارقة الموصل
إلى كسر بيته بأربل فسلم جميع البلاد التي بيده إلى قطب الدين ما عدا
أربل وسار إليها سنة أربع وستين وأقام قطب الدين مكانه فخر الدين عبد
المسيح خصيا من موالي جدّه الأتابك زنكي وحكمه في دولته فنزل بالقلعة
وعمرها وكان الخراب قد لحقها بإهمال زين الدين أمر البناء والله تعالى
أعلم.
حصار نور الدين قلعة الكرك
ثم بعث صلاح الدين سنة خمس وستين إلى نور الدين محمود يطلب إنفاذ أبيه
نجم الدين أيوب إليه فبعثه في عسكر واجتمع إليه خلق من التجار ومن
أصحاب صلاح الدين وخشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج فسارت
العساكر إلى الكرك وهو حصن اختطه من الإفرنج البرنس إرقاط واختط له
قلعة فحاصره نور الدين وجمع له الإفرنج فرحل إلى مقدمتهم قبل أن
يتلاحقوا فخاموا عن لقائه ونكصوا على أعقابهم وسار في بلادهم فاكتسحها
وخرب ما مرّ به من القلاع وانتهى إلى بلاد المسلمين حتى نزل حوشب وبعث
(5/292)
نجم الدين من هنالك إلى مصر فوصلها منتصف
خمس وستين وركب العاضد للقائه ولما كان نور الدين بعشيرا سار للقاء
شهاب الدين محمد بن الياس بن أبي الغازي بن أرتق صاحب قلعة أكبره فلما
انتهى إلى نواحي بعلبكّ لقي سرية من الإفرنج فقاتلهم وهزمهم واستلحمهم
وجاء بالأسرى ورءوس القتلى إلى نور الدين وعرف الرءوس مقدم الإستبان
[1] صاحب حصن الأكراد وكان شجّى في قلوب المسلمين وبلغه وهو بهذا
المنزل خبر الزلازل التي عمت البلاد بالشام والموصل والجزيرة والعراق
وخرجت أكثر البلاد بعمله فسار إليها وشغل في إصلاحها من واحدة إلى أخرى
حتى أكملها بمبلغ جهده واشتغل الإفرنج بعمارة بلادهم أيضا خوفا من
غائلته والله تعالى أعلم.
وفاة قطب الدين صاحب الموصل وملك ابنه سيف
الدين غازي
ثم توفي قطب الدين مودود بن الأتابك زنكي صاحب الموصل في ذي الحجة سنة
خمس وستين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ملكه وعهد لابنه الأكبر عماد الدين
بالملك وكان القائم بدولته فخر الدين عبد المسيح وكان شديد الطواعية
لنور الدين محمود ويعلم ميله عن عماد الدين زنكي بن مودود فعدل عنه إلى
أخيه سيف الدين غازي بن مودود بموافقة أمّه خاتون بنت حسام الدين
تمرتاش بن أبي الغازي ولحق عماد الدين بعمه نور الدين منتصرا به وقام
فخر الدين عبد المسيح بتدبير الدولة بالموصل واستبدّ بها والله تعالى
أعلم.
استيلاء نور الدين على الموصل وإقراره ابن
أخيه سيف الدين عليها
ولما ولي سيف الدين غازي بالموصل بعد أبيه قطب الدين واستبدّ عليه فخر
الدين عبد المسيح كما تقدّم وبلغ الخبر إلى نور الدين باستبداده أنف من
ذلك وسار في خف من العسكر وعبر الفرات عند جعبر أوّل سنة ست وستين وقصد
الرقة فملكها ثم الخابور فملك جميعه ثم
__________
[1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 352: فرأى نور الدين في الرءوس رأس
مقدم الإسبتار صاحب حصن الأكراد.
(5/293)
نصيبين وكلها من أعمال الموصل وجاءه هناك
نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان صاحب كيفا مددا ثم سار
إلى سنجار فحاصرها وملكها وسلمها لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين ثم
جاءته كتب الأمراء بالموصل فاستحثوه فأغذ السير إلى مدينة كلك ثم عبر
الدجلة ونزل شرقي الموصل على حصن نينوى ودجلة بينه وبين الموصل وسقطت
ذلك اليوم ثلمة كبيرة من سور الموصل وكان سيف الدين غازي قد بعث أخاه
عز الدين مسعود إلى الأتابك شمس الدين صاحب همذان وبلاد الجبل
وأذربيجان وأصبهان والريّ يستنجده على عمه نور الدين فأرسل أيلدكز إلى
نور الدين ينهاه عن الموصل فأساء جوابه وتوعده وأقام يحاصر الموصل ثم
اجتمع أمراؤها على طاعة نور الدين ولما استحث فخر الدين عبد المسيح
استأمن إلى نور الدين على أن يبقى سيف الدين ابن أخيه على ملكها فأجابه
على أن يخرج هو عنه ويكون معه بالشام وتمّ ذلك بينهما وملك نور الدين
منتصف جمادى الأولى من سنة ست وستين ودخل المدينة واستناب بالقلعة خصيا
اسمه كمستكين ولقبه سعد الدين فأقرّ سيف الدين ابن أخيه على ملكه وخلع
عليه خلعة وردت عليه من الخليفة المستضيء وهو يحاصرها وأمر ببناء جامع
بالموصل فبني وشهر باسمه وأمر سيف الدين أن يشاور كمستكين في جميع
أموره وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين وعاد إلى
الشام والله تعالى أعلم.
الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين
ثم سار صلاح الدين في صفر سنة تسع وستين من مصر إلى بلاد الإفرنج غازيا
ونازل حصن الشويك من أعمال [1] واستأمن إليه أهله على أن يمهلهم عشرة
أيام فأجابهم وسمع نور الدين بذلك فسار من دمشق غازيا أيضا بلاد
الإفرنج من جانب آخر وتنصح لصلاح الدين أصحابه بأنك ان ظاهرته على
الإفرنج اضمحلّ أمرهم فاستطال عليك نور الدين ولا تقدر على الامتناع
منه فترك الشويك وكرّ راجعا إلى مصر وكتب لنور الدين يعتذر له بأنه
بلغه عن بعض سفلة العلويين بمصر أنهم معتزمون على الوثوب فلم يقبل نور
الدين عذره في ذلك واعتزم على عزله عن مصر فاستشار صلاح الدين أباه
وخاله شهاب الدين
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 371: ونازل حصن الشوبك وبينه
وبين الكرك يوم، وحصره وضيق على من به من الفرنج.
(5/294)
الحارمي وقرابتهم فأشار عليه تقي الدين عمر
بن أخيه بالامتناع والعصيان ففكر عليه نجم الدين أبوه وقال له ليس منا
من يقوم بعصيان نور الدين لو حضر أو بعث وأشار عليه بأن يكاتبه بالطاعة
وأنه إن عزم على أخذ البلاد منك فسلمها ويصل بنفسه وافترق المجلس فخلا
به أبوه وقال مالك توجد بهذا الكلام السبيل للأمراء في استطالتهم عليك
ولو فعلتم ما فعلتم كنت أوّل الممتنعين عليه ولكن ملاطفته أولى وكتب
صلاح الدين إلى نور الدين بما أشار به أبوه من الملاطفة فتركهم نور
الدين وأعرض عن قصدهم ثم توفي واشتغل صلاح الدين بملك البلاد ثم جمع
نور الدين العساكر وسار لغزو الإفرنج بسبب ما أخذوه لأهل البلاد من
مراكب التجار ونكثوا فيها العهد مغالطين بأنها تكسرت فلم يقبل مغالطتهم
وسار إليهم وبث السرايا في بلادهم نحو أنطاكية وطرابلس وحاصر هو حصن
عرقة وخرب ربضه وأرسل عسكرا إلى حصن صافيتا وعريمة ففتحهما عنوة
وخربهما ثم سار من عرقة إلى طرابلس واكتسح كل ما مرّ عليه حتى رجع
الإفرنج إلى الإنصاف من أنفسهم وردّوا ما أخذوا من المكرمين الأعزين
وسألوا تجديد الهدنة فأجابهم بعد أن خربت بلادهم وقتلت رجالهم وغنمت
أموالهم ثم اتخذ نور الدين في هذه السنة الحمام [1] بالشام تطير إلى
أوعارها من [1] لاتساع بلاده ووصول الأخبار بسرعة فبادر إلى القيام
بواجبة وأجرى الجرايات على المرتبين لحفظها لتصل الكتب في أجنحتها ثم
أغار الإفرنج على حوران من أعمال دمشق وكان نور الدين بمنزل الكسوة
فرحل إليهم ورحلوا أمامه إلى السواد وتبعهم المسلمون ونالوا منهم ونزل
نور الدين على عشيرا وبعث منها سرية إلى أعمال طبرية فاكتسحها وسار
الإفرنج لمدافعتهم فرجعوا عنها وأتبعهم الإفرنج فعبروا النهر وطمعوا في
استنقاذ غنائمهم فقاتلهم المسلمون دونها أشدّ قتال إلى أن استنقذت
وتحاجزوا ورجع الإفرنج خائبين والله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين
بمنه وكرمه.
واقعة ابن ليون ملك الأرمن بالروم
كان مليح بن ليون صاحب دروب حلب أطاع نور الدين محمود بن زنكي وأمره
على الحمالة
__________
[1] هنا بياضان بالأصل في جميع النسخ ولم نعثر في المراجع التي بين
أيدينا على تصويب هذه العبارة ويدل سياق العبارة بحسب رأينا أن
المقصود: ثم اتخذ نور الدين في هذه السنة الحمام الزاجل بالشام لإرسال
الأخبار بسرعة ضمن بلاده الواسعة.
(5/295)
وأقطعه ببلاد الشام وكان يسير في خدمته
ويشهد حروبه مع الإفرنج أهل ملته وكان الأرمني أيضا يستظهر به على
أعدائه وكانت أذنة والمصيصة وطرسوس مجاورة لابن ليون وهي بيد ملك الروم
صاحب القسطنطينية فتغلب عليها ابن ليون وملكها وبعث صاحب القسطنطينية
منتصف سنة ثمان وستين وخمسمائة جيشا كثيفا مع عظيم من بطارقته فلقيه
ابن ليون بعد أن استنجد نور الدين فأنجده بالعساكر وقاتلهم فهزمهم وبعث
بغنائمهم وأسراهم إلى نور الدين وقويت شوكة ابن ليون ويئس الروم من تلك
البلاد والله تعالى أعلم.
مسير نور الدين إلى بلاد الروم
كان ذو النون بن محمد بن الدانشمند صاحب ملطية وسيواس وأخصرى وقيسارية
ملكها بعد عمه باغي أرسلان وأخيه إبراهيم بن محمد فلم يزل قليج أرسلان
بن محمد بن قليج أرسلان يتخيف بلاده إلى أن استولى عليها ولحق ذو النون
بنور الدين صريخا وأرسل إلى قليج أرسلان بالشفاعة في ردّ بلاده فلم
يشفعه فسار إليه وملك من بلاده بكسور ومهنسا ومرعش ومرزبان وما بينهما
في ذي القعدة سنة ثمان وستين ثم بعث عسكرا إلى سيواس فملكوها ثم أرسل
قليج أرسلان إلى نور الدين يستعطفه وقد كان يجيز أمامه إلى قاصية بلاده
فأجابه نور الدين إلى الصلح على أن ينجده بعسكر الافرنج ويبقى سيواس
بيد ذي النون وعسكر نور الدين الّذي معه فيها ورجع نور الدين إلى بلاده
وبقيت سيواس بيد ذي النون حتى مات نور الدين وعاد قليج أرسلان ثم وصل
رسول نور الدين من بغداد كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله
الشهرزوريّ ومعه منشور من الخليفة المستضيء لنور الدين بالموصل
والجزيرة وأربل وخلاط والشام وبلاد الروم وديار مصر والله سبحانه
وتعالى أعلم.
مسير صلاح الدين إلى الكرك ورجوعه
ولما كانت الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين كما قدّمناه واعتزم نور
الدين على عزله عن مصر واستعطفه صلاح الدين كان فيما تقرّر بينهما
أنهما يجتمعان على الكرك وأيهما سبق انتظر صاحبه فسار صلاح الدين من
مصر في شوال سنة ثمان وستين وسبق إلى الكرك وحاصره وخرج نور الدين بعد
أن بلغه مسير صلاح الدين من مصر وأزاح علل العساكر وانتهى إلى الرقيم
على مرحلتين من الكرك فخافه صلاح الدين على نفسه وخشي أن يعزله عند
لقائه
(5/296)
وكان استخلف أباه نجم الدين أيوب على مصر
فبلغه أنه طرقه مرض شديد فوجد فيه عذر لنور الدين وكرّ راجعا إلى مصر
وبعث الفقيه عيسى بذلك العذر وان حفظه مصر أهمّ عليه فلما وصل مصر وجد
أباه قد توفي من سقطة سقطها عن مركوبة هزه المرح فرماه وحمل إلى بيته
وقيذا ومات لأيام قريبة آخر ذي الحجّة من السنة ورجع نور الدين إلى
دمشق وكان قد بعث رسوله كمال الدين الشهرزوريّ القاضي ببلاده وصاحب
الوقوف والديوان لطلب التقليد للبلاد التي بيده مثل مصر والشام
والجزيرة والموصل والتي دخلت في طاعته كديار بكر وخلاط وبلاد الروم وأن
يعادله ما كان لأبيه زنكي من الإقطاع بالعراق وهي صريفين ودرب هارون
وأن يسوغ قطعة أرض على شاطئ دجلة بظاهر الموصل يبني فيها مدرسة
للشافعية فاسعف بذلك كله.
وفاة نور الدين محمود وولاية ابنه إسماعيل
الصالح
ثم توفي نور الدين محمود بن الأتابك زنكي حادي عشر شوّال سنة تسع وستين
وخمسمائة لسبع عشرة سنة من ولايته وكان قد شرع في التجهز لأخذ مصر من
صلاح الدين بن أيوب واستنفر سيف الدين ابن أخيه في العساكر موريا بغزو
الإفرنج وكان قد اتسع ملكه وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن لما
ملكها سيف الدولة بن أيوب وكان معتنيا بمصالح المسلمين مواظبا على
الصلاة والجهاد وكان عارفا بمذهب أبي حنيفة ومتحرّيا للعدل ومتجافيا عن
أخذ المكوس في جميع أعماله وهو الّذي حصن قلاع الشام وبني الأسوار على
مدنها مثل دمشق وحمص وحماة وشيرز وبعلبكّ وحلب وبنى مدارس كثيرة
للحنفية والشافعية وبنى الجامع النوري بالموصل والمارستانات والخانات
في الطريق والخوانق للصوفية في البلاد واستكثر من الأوقاف عليها يقال
بلغ ريع أوقافه في كل شهر تسعة آلاف دينار صوري وكان يكرم العلماء وأهل
الدين ويعظمهم ويتمثل لهم قائما ويؤنسهم في المجالسة ولا يردّ لهم قولا
وكان متواضعا مهيبا وقورا ولما توفي اجتمع الأمراء والمقدّمون وأهل
الدولة بدمشق وبايعوا ابنه الملك الصالح إسماعيل وهو ابن إحدى عشرة سنة
وحلفوا له وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر وخطب له هنالك وضرب
السكة باسمه وقام بكفالته وتدبير دولته الأمير شمس الدين محمد بن عبد
الملك بن المقدّم وأشار عليه القاضي كمال الدين الشهرزوريّ بأن يرجعوا
في جميع أمورهم إلى صلاح الدين لئلا ينبذ طاعتهم فأعرضوا عن ذلك والله
تعالى وليّ التوفيق.
(5/297)
استيلاء سيف الدين
غازي على بلاد الجزيرة
قد كنا قدّمنا أنّ نور الدين استولى على بلاد الجزيرة وأقرّ سيف الدين
ابن أخيه قطب الدين على الموصل واحتمل معه فخر الدين عبد المسيح الّذي
ولّى سيف الدين واستبدّ عليه بأمره وولّى على قلعة الموصل سعد الدين
كمستكين ولما استنفرهم نور الدين بين يدي موته سار إليه سيف الدين غازي
وكمستكين الخادم في العساكر وبلغهم في طريقهم خبر وفاته وكان كمستكين
في المقدّمة فهرب إلى حلب واستولى سيف الدين على مخلفه وسواده وعاد إلى
نصيبين فملكها وبعث العساكر إلى الخابور فاستولى عليها وعلى أقطاعها ثم
سار إلى حران وبها قايماز الحراني مولى نور الدين فحاصرها أياما ثم
استنزله على أن يقطعه حران فلما نزل قبض عليه وملكها ثم سار إلى الرها
وبها خادم لنور الدين استسلمها وعوّضه عنها قلعة الزعفرانيّ من جزيرة
ابن عمر وانتزعها منه بعد ذلك سار إلى الرقة وسروج فملكها واستوعب بلاد
الجزيرة سوى قلعة جعبر لامتناعها وسوى رأس عين كانت لقطب الدين صاحب
ماردين وهو ابن خاله وكان شمس الدين علي ابن الداية بحلب وهو من أكبر
أمراء نور الدين ومعه العساكر ولم يقدر على مدافعة سيف الدين فخر الدين
عبد المسيح وكان نور الدين تركه قبل موته بسيواس مع ذي النون بن
الدانشمند فلما مات نور الدين رجع إلى صاحبه سيف الدين غازي وهو الّذي
كان ملكه فوجده بالجزيرة وقد ملكها فأشار عليه بالعبور إلى الشام
وعارضه آخر من أكبر الأمراء في ذلك فرجع سيف الدين إلى قوله وعاد إلى
الموصل وأرشد صلاح الدين إلى الملك الصالح وأهل دولته يعاتبهم حيث لم
يستدعوه لمدافعة سيف الدين عن الجزيرة ويتهدّد ابن المقدّم وأهل الدولة
على انفرادهم بأمر الملك الصالح دونه وعلى قعودهم عن مدافعة سيف الدين
غازي ثم أرسل شمس الدين ابن الداية إلى الملك الصالح يستدعيه من دمشق
إلى حلب ليدافع شمس الدين ابن عمه قطب الدين عن الجزيرة فمنعه أمراؤه
عن ذلك مخافة أن يستولي عليه ابن الداية والله سبحانه وتعالى أعلم
بغيبه.
حصار الإفرنج بانياس
ولما مات نور الدين اجتمع الإفرنج وحاصروا قلعة بانياس من أعمال دمشق
وجمع شمس الدين بن المقدّم العساكر وسار عن دمشق وراسل الإفرنج
وتهدّدهم بسيف الدين صاحب الموصل وصلاح الدين صاحب مصر فصالحوه على مال
يبعثه إليهم واشترى من الإفرنج
(5/298)
وأطلعهم وتقررت الهدنة وبلغ ذلك صلاح الدين
فنكره واستعظمه وكتب إلى الصالح وأهل دولته يقبح مرتكبهم ويعدهم بغزوة
الإفرنج وقصده إنما هو طريقه إلى الشام ليتملك البلاد وإنما صالح ابن
المقدّم الإفرنج خوفا منه ومن سيف الدين والله تعالى أعلم.
استيلاء صلاح الدين على دمشق
ولما كان ما ذكرناه من استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة خاف
شمس الدين ابن الداية منه على حلب وكان سعد الدين كمستكين قد هرب من
سيف الدين غازي إليه فأرسله إلى دمشق ليستدعي الملك الصالح للمدافعة
فلما قارب دمشق أنفذ ابن المقدّم إليه عسكرا فنهبوه وعاد إلى حلب ثم
رأى ابن المقدّم وأهل الدولة بدمشق أنّ مسير الصالح إلى حلب أصلح
فبعثوا إلى كمستكين وبعثوا معه الملك الصالح فلما وصل إلى حلب قبض
كمستكين على ابن الداية وإخوته وعلى رئيس حلب ابن الخشاب وعلى مقدم
الأحداث بها واستبدّ بأمر الصالح وخشي ابن المقدم وأمراؤه بدمشق غائلته
فكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل أن يملكوه فأحجم عن المسير إليهم
وظنها مكيدة وبعث بخبرهم إلى كمستكين وصالحه على مال أخذه من البلاد
فكثر ارتياب القوم في دمشق فكاتبوا صلاح الدين بن أيوب فطار إليهم ونكب
عن الإفرنج في طريقه وقصد بصرى وأطاعه صاحبها ثم سار صلاح الدين إلى
دمشق فخرج إليه أهل الدولة بمقدمهم شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم
وهو الّذي كان أبوه سلم سنجار لنور الدين سنة أربع وأربعين كما مرّ
ودخل صلاح الدين دمشق آخر ربيع سنة سبعين ونزل دار أبيه المعروفة بدار
العفيفي وكان في القلعة ريحان خديم نور الدين فبعث إليه صلاح الدين
القاضي كمال الدين الشهرزوريّ بأنه على طاعة الصالح والخطبة له في
بلاده وانه إنما جاء ليرتجع البلاد التي أخذت له فسلم إليه ريحان
القلعة واستولى على ما فيها من الأموال وهو في ذلك كله يظهر طاعة الملك
الصالح ويخطب له وينقش السكة باسمه انتهى والله أعلم.
استيلاء صلاح الدين على حمص وحماة ثم حصاره
حلب ثم ملكه بعلبكّ
ولما ملك صلاح الدين دمشق من إيالة الملك الصالح استخلف عليها أخاه سيف
الإسلام طغركين بن أيوب وكانت حمص وحماة وقلعة مرعش وسليمية وتل خالد
والرها من بلاد الجزيرة
(5/299)
في إقطاع فخر الدين مسعود الزعفرانيّ من
أمراء نور الدين ما عدا القلاع منها ولما مات نور الدين أجفل
الزعفرانيّ عنها لسوء سيرته ولما ملك صلاح الدين دمشق سار إلى حمص فملك
البلد وامتنعت القلعة بالوالي الّذي بها فجهز عسكرا لحصارها وسار إلى
حماة فنازلها منتصف شعبان وبقلعتها الأمير خرديك فبعث إليه صلاح الدين
بأنه في طاعة الملك صالح وإنما جاء لمدافعة الإفرنج عنه وارتجاع بلاده
بالجزيرة من ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل واستخلفه على ذلك عز
الدين ثم بعثه صلاح الدين إلى الملك الصالح بحلب في الاتفاق وإطلاق شمس
الدين علي حسن وعثمان تقي الدين من الاعتقال فسار عز الدين لذلك
واستخلف بالقلعة أخاه ولما وصل إلى حلب قبض عليه كمستكين وحبسه فسلم
أخوه قلعة حماة لصلاح الدين وملكها ثم سار صلاح الدين من وقته الى حلب
وحاصرها وركب الملك الصالح وهو صبي مناهز فسار في البلد واستعان بالناس
وذكر حقوق أبيه فبكى الناس رحمة له واستماتوا دونه وخرجوا فدافعوا عسكر
صلاح الدين ودس كمستكين إلى مقدم الإسماعيلية في الفتك بصلاح الدين
فبعث لذلك فداوية منهم وشعر بذلك بعض أصحاب صلاح الدين وجماعة منهم معه
وقتلوا عن آخرهم وأقام صلاح الدين محاصرا لحلب وبعث كمستكين إلى
الإفرنج يستنجدهم على منازلة بلاد صلاح الدين ليرحل عنهم وكان القمص
سمند السنجيلي صاحب طرابلس أسره نور الدين في حارم سنة تسع وخمسين وبقي
معتقلا بحلب فأطلقه الآن كمستكين بمائة وخمسين ألف دينار صورية وألف
أسير وكان متغلبا على ابن مري ملك الإفرنج لكونه محذوفا لا يصدر إلا عن
رأيه فسار بجموع الإفرنج إلى حصن الرستن سابع رجب وصالحهم صلاح الدين
من الغد فأجفلوا وحاصر هو القلعة وملكها آخر شعبان واستولى على أكثر
الشام ثم سار إلى بعلبكّ وبها يمن الخادم من موالي نور الدين فحاصرها
حتى استأمنوا إليه فملكها منتصف رمضان من السنة وأقطعها شمس الدين محمد
ابن عبد الملك المقدم بما تولى له من إظهار طاعته بدمشق وتسليمها له
والله تعالى أعلم.
حروب صلاح الدين مع سيف الدين غازي صاحب
الموصل وغلبه إياه واستيلاؤه على بغدوين وغيرها من أعمال الملك الصالح
ثم مصالحته على حلب
لما ملك صلاح الدين حمص وحماة وحاصر حلب كاتب الملك الصالح إسماعيل من
حلب
(5/300)
إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل
يستنجده فجمع عساكره واستنجد أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار فلم يجبه
لما كان بينه وبين صلاح الدين وأنه ولاه سنجار ويطمعه في الملك فبعث
سيف الدين غازي بالعساكر لمدافعة صلاح الدين عن الشام في رمضان سنة
سبعين وخمسمائة مع أخيه عز الدين مسعود وأمير جيوش عز الدين القندار
وجعل التدبير إليه وسار هو إلى سنجار فحاصر بها أخاه عماد الدين وامتنع
عليه وبينما هو يحاصره جاءه الخبر بأنّ صلاح الدين هزم أخاه عز الدين
وعساكره فصالح عماد الدين على سنجار وعاد إلى الموصل ثم جهز أخاه عز
الدين في العساكر ثانية ومعه القندار وساروا إلى حلب فانضمت إليهم
عساكره وساروا جميعا إلى صلاح الدين فأرسل إلى عماد الدين بالموصل في
الصلح بينه وبين الملك الصالح على أن يرد عليه حمص وحماة ويسوغه الصالح
دمشق فأبى إلا ارتجاع جميع بلاد الشام واقتصاره على مصر سار صلاح الدين
إلى عساكرهم ولقيها قريبا من حماة فانهزمت وثبت عز الدين ليلا ثم صدق
عليه صلاح الدين الحملة فانهزم وغنم سوادهم ومخلفهم وأتبع عساكر حلب
حتى أخرجهم منها وحاصرها وقطع خطبة الملك الصالح وبعث بالخطبة للسلطان
في جميع بلاده ولما طال عليهم الحصار صالحوه على إقراره على جميع ما
ملك من الشام رحل عن حلب عاشر شوّال من السنة وعاد إلى حماة ثم سار
منها إلى بغدوين وكانت لفخر الدين مسعود بن الزعفرانيّ من أمراء نور
الدين وكان قد اتصل بالسلطان صلاح الدين واستخدم له ثم فارقه حيث لم
يحصل على غرضه عنده فلحق ببغدوين وبها نائب الزعفرانيّ فحاصرها حتى
استأمنوا إليه وأقطعها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي وأقطع حمص
ناصر الدين ابن عمه شيركوه وعاد إلى دمشق آخر سنة سبعين وكان سيف الدين
غازي صاحب الموصل بعد هزيمة أخيه وعساكره عاد من حصار أخيه بسنجار كما
قلناه إلى الموصل فجمع العساكر وفرّق الأموال واستنجد صاحب كيفا وصاحب
ماردين وسار في ستة آلاف فارس وانتهى إلى نصيبين في ربيع سنة إحدى
وسبعين فأقام إلى انسلاخ فصل الشتاء وسار إلى حلب فبرز إليه سعد الدين
كمستكين الخادم مدبر الصالح في عساكر حلب وبعث صلاح الدين عن عساكره من
مصر وقد كان أذن لهم في الانطلاق فجاءوا إليه وسار من دمشق إلى سيف
الدين وكمستكين فلقيهم بتل الفحول وانهزموا راجعين إلى حلب وترك سيف
الدين أخاه عز الدين بها في جمع من العساكر وعبر الفرات إلى الموصل
يظنّ أنّ صلاح الدين في اتباعه وشاور الصالح وزيره جلال الدين ومجاهد
الدين قايماز في مفارقة الموصل إلى قلعة الحميدية
(5/301)
فعارضاه في ذلك ثم عزل القندار عن إمارة
الجيوش لأنه كان جرّ الهزيمة برأيه ومفارقته وولى مكانه مجاهد الدين
قايماز ولما انهزمت العساكر أمام صلاح الدين وغنم مخلفها سار إلى مراغة
وملكها وولى عليها ثم سار إلى منبج وبها صاحبها قطب الدين نيال بن حسان
المنبجي وكان شديد العداوة لصلاح الدين فملك المدينة وحاصره بالقلعة
وضيق مخنقة ثم نقب أسوارها وملكها عليه عنوة وأسره ثم أطلقه سليبا فلحق
بالموصل وأقطعه سيف الدين الرقة ولما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى
قلعة عزاز [1] وهي في غاية المنعة فحاصرها أربعين يوما حتى استأمنوا
إليه فتسلمها في الأضحى ثم رحل إلى حلب فحاصرها وبها الملك الصالح
واشتدّ أهلها في قتاله فعدل إلى المطاولة ثم سعى بينهما في الصلح وعلى
أن يدخل فيه سيف الدين صاحب الموصل وصاحب كيفا وصاحب ماردين فاستقرّ
الأمر على ذلك وخرجت أخت الملك الصالح إلى صلاح الدين فأكرمها وأفاض
عليها العطاء وطلبت منه قلعة عزاز فأعطاها إياها ورحل إلى بلاد
الإسماعيلية والله سبحانه وتعالى أعلم.
عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين صاحب
الموصل ورجوعه
كان مجاهد الدين قايماز متولى مدينة اربل وكان بينه وبين شهاب الدين
محمد بن بدران صاحب شهرزور عداوة فلما ولىّ سيف الدين مجاهد الدين
قايماز نيابة الموصل خاف شهاب الدين غائلته عن تعاهد الخدمة بالموصل
وأظهر الامتناع وذلك سنة اثنتين وسبعين فخاطبه جلال الدين الوزير في
ذلك مخاطبة بليغة وحذره ورغبه فعاود الطاعة وبادر الى الحضور بالموصل
والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
نكبة كمستكين الخادم ومقتله
كان سعد الدين كمستكين الخادم قائما بدولة الملك الصالح في حلب وكان
يناهضه فيها أبو صالح العجميّ فقدم عند نور الدين وعند ابن الملك
الصالح وتجاوز مراتب الوزير فعدا عليه بعض الباطنية فقتله وخلا الجوّ
لكمشتكين وانفرد بالاستبداد على الصالح وكثرت السعاية فيه بحجر السلطان
والاستبداد عليه وأنه قتل وزيره فقبض عليه وامتحنه وكان قد أقطعه قلعة
حارم فامتنع بها أصحابه وأرادهم الصالح على تسليمها فامتنعوا وهلك
__________
[1] كذا في الكامل ج 10/ 115 وفي نسخة أخرى: إعزاز.
(5/302)
كمستكين في المحنة وطمع فيها وساروا اليها
وحاصروها وصانعهم الصالح بالمال فرجعوا عنها وبعث هو عساكره اليها وقد
جهدهم الحصار فسلموها له وولىّ عليها والله تعالى أعلم.
وفاة الصالح إسماعيل واستيلاء ابن عمه عز
الدين مسعود على حلب
ثم توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب في منتصف
سنة سبع وسبعين لثمان سنين من ولايته وعهد بملكه لابن عمه عز الدين
صاحب الموصل واستحلف أهل دولته على ذلك بعضهم بعماد الدين صاحب سنجار
أخي عز الدين الأكبر لمكان صهره على أخت الصالح وأن أباه نور الدين كان
يميل اليه فأبي وقال عز الدين أنا أقدر على مدافعة صلاح الدين عن حلب
فلما قضى نحبه أرسل الأمراء بحلب الى عز الدين مسعود يستدعونه [1] هو
ومجاهد الدين قايماز الى الفرات ولقي هنالك أمراء حلب وجاءوا معه
فدخلها آخر شعبان من السنة وصلاح الدين يومئذ بمصر بعيدا عنهم وتقي
الدين عمر ابن أخيه في منبج فلما أحس بهم فارقها الى حماة وثار به أهل
حماة ونادوا بشعار عز الدين وأشار أهل حلب عليه بقصد دمشق وبلاد الشام
وأطمعوه فيها فأبى من أجل العهد الّذي بينه وبين صلاح الدين ثم أقام
بحلب شهورا وسار عنها الى الرقة والله تعالى أعلم.
استيلاء عماد الدين على حلب ونزوله عن
سنجار لأخيه عز الدين
ولما انتهى عز الدين الى الرقة منقلبا من حلب وافقه هنالك رسل أخيه
عماد الدين صاحب سنجار يطلب منه أن يملكه مدينة سنجار وينزل هو له عن
حلب فلم يجبه الى ذلك فبعث عماد الدين اليه بأنه يسلم سنجار الى صلاح
الدين فحمل الأمراء حينئذ على معارضته على سنجار وتحمّسهم له ولم يكن
لعز الدين مخالفا لتمكنه في الدولة وكثرة بلاده وعساكره فأخذ سنجار من
أخيه عماد الدين وأعطاه حلب وسار اليها عماد الدين وملكها وسهل أمره
على صلاح الدين بعد ان كان متخوّفا من عز الدين على دمشق والله سبحانه
وتعالى أعلم.
__________
[1] كذا بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 473: الى أتابك عز الدين
يستدعونه الى حلب فسار هو ومجاهد الدين قايماز الى الفرات.
(5/303)
مسير صلاح الدين الى بلاد الجزيرة وحصاره
الموصل واستيلاؤه على كثير من بلادها ثم على سنجار
كان عز الدين صاحب الموصل قد أقطع مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك
مدينة حرّان وقلعتها ولما سار صلاح الدين لحصار البيرة جنح اليه مظفر
الدين ووعده النصر واستحثه للقدوم على الجزيرة فسار الى الفرات موريا
بقصد [1] وعبر اليه مظفر الدين فلقيه وجاء معه الى البيرة وهي قلعة
منيعة على الفرات من عدوة الجزيرة وكان صاحبها من بني ارتق أهل ماردين
قد أطاع صلاح الدين فعبر من جسرها وعز الدين صاحب الموصل يومئذ قد سار
ومعه مجاهد الدين الى نصيبين لمدافعة صلاح الدين عن حلب فلما بلغهما
عبوره الفرات عادا الى الموصل وبعثا حامية الى الرها وكاتب صلاح الدين
ملوك النواحي بالنجدة والوعد على ذلك وكان تقدّم العهد بينه وبين نور
الدين محمد بن قرا ارسلان صاحب كيفا على أن صلاح الدين يفتح آمد
ويسلمها اليه فلما كاتبهم الآن كان صاحب كيفا أوّل مجيب وسار صلاح
الدين الى الرها فحاصرها في جمادى سنة ثمان وسبعين وبها يومئذ فخر
الدين مسعود الزعفرانيّ فلما اشتدّ به الحصار استأمن الى صلاح الدين
وحاصر معه القلعة حتى سلمها نائبها على مال أخذه وأقطعها صلاح الدين
مظفر الدين كوكبري صاحب حرّان وسار عنها الى الرقة وبها نائبها قطب
الدين نيال بن حسان المنجي فاجفل عنها الى الموصل وملكها صلاح الدين
وسار الى الخابور وهو قرقيسيا وماكسين وعرمان فاستولى على جميعها وسار
الى نصيبين فملكها لوقتها وحاصر القلعة أياما وملكها وأقطعها أبا
الهيجاء السمين من أكبر أمرائه وسار عنها وملكها ومعه صاحب كيفا وجاءه
الخبر بأن الافرنج أغاروا على أعمال دمشق ووصلوا داريا فلم يحفل بخبرهم
واستمرّ على شأنه وأغراه مظفر الدين كوكبري وناصر الدين محمد بن شيركوه
بالموصل ورجحا قصدها على سنجار وجزيرة ابن عمر كما أشار عليهما فسار
صلاح الدين وصاحبها عز الدين ونائبة مجاهد الدين وقد جمعوا العساكر
وأفاضوا العطاء وشحنوا البلاد التي بأيديهم كالجزيرة وسنجار والموصل
واربل وسار صلاح الدين حتى قاربها وسار هو ومظفر الدين وابن شيركوه في
أعيان دولته الى السور فرآه مخايل الامتناع وقال لمظفر الدين ولناصر
الدين ابن عمه قد
__________
[1] بياض بالأصل، وفي الكامل ج 11 ص 483: فجد صلاح الدين في السير
مظهرا انه يريد حصر حلب سترا للحال.
(5/304)
أغررتماني ثم صبح البلد وناشبه وركب أصحابه
في المقاعد للقتال ونصب منجنيقا فلم يغن ونصب اليه من البلد تسعة ثم
خرج اليه جماعة من البلد وأخذوه وكانوا يخرجون ليلا من البلد بالمشاعل
يوهمون الحركة فخشي صلاح الدين من البيات وتأخر عن القصد وكان صدر
الدين شيخ الشيوخ قد وصل من قبل الخليفة الناصر مع بشير الخادم من
خواصه في الصلح بين الفريقين على اعادة صلاح الدين بلاد الجزيرة فأجاب
على اعادة الآخرين حلب فامتنعوا ثم رجع عن شرط حلب الى ترك مظاهرة
صاحبها فاعتذروا عن ذلك ووصلت رسل صاحب أذربيجان قرا ارسلان وأرسل صاحب
خلاط شاهرين فلم ينتظم بينهما أمر ورحل صلاح الدين عن الموصل الى سنجار
فحاصرها وبها أمير أميران [1] وأخوه عز الدين صاحب الموصل في عسكر
ولقيه شرف الدين وجاءها المدد من الموصل فحال بينهم وبينها وداخله بعض
أمراء الأكراد من الدوادية من داخلها فكبسها صلاح الدين من ناحيته
واستأمن شرف الدين لوقته فأمنه صلاح الدين ولحق بالموصل وملك صلاح
الدين سنجار وصارت سياجا على جميع ما ملكه بالجزيرة وولى عليها سعد
الدين بن معين الدين أنز الّذي كان متغلبا بدمشق على آخر [2] طغركين
وعاد فمرّ بنصيبين وشكا اليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله وسار
الى حران بلد مظفر الدين كوكبري فوصلها في القلعة من سنة سبع وثمانين
فأراح بها وأذن لعساكره في الانطلاق وكان عز الدين قد بعث الى شاهرين
صاحب خلاط يستنجده وأرسل شاهرين الى صلاح الدين بالشفاعة في ذلك رسلا
عديدة آخرهم مولاه سكر جاه وهو على سنجار فلم يشفعه [3] أخاه من ذلك
وفارقه مغاضبا وسار شاهرين [4] الى قطب الدين صاحب ماردين وهو ابن أخته
وابن حال عز الدين وصهره على بنته فاستنجده وسار معه وجاءهم عز الدين
من الموصل في عساكره واعتزموا على قصد صلاح الدين وبلغه الخبر وهو مريح
بحران فبعث عن تقي الدين ابن أخيه صاحب حمص وحماة وارتحل للقائهم ونزل
رأس عين فخاموا عن لقائه ولحق كل
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 487: وبها أمير أميران هندو أخو عز
الدين صاحب الموصل.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل: واستناب بها سعد الدين بن معين الدين انز،
وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة ومعنى.
[3] بياض بالأصل، وفي الكامل: فأرسل اليه أخيرا مملوكه سيف الدين بكتمر
الّذي ملك خلاط بعد شاه ارمن فأتاه وهو يحاصر سنجار يطلب اليه ان
يتركها ويرحل عنها. وقال له. ان رحل عنها والا فتهدده بقصده ومحاربته
فأبلغه بكتمر الشفاعة فسوفه في الجواب رجاء ان يفتحها فلما رأى بكتمر
ذلك أبلغه الرسالة بالتهديد وفارق غضبان.
[4] واسمه في الكامل شاه ارمن.
(5/305)
ببلده وسار صلاح الدين الى ماردين فأقام
عليها أياما ورجع والله تعالى أعلم.
استيلاء صلاح الدين على حلب وأعمالها
ولما ارتحل صلاح الدين عن ماردين قصد آمد فحاصرها سنة تسع وسبعين
وملكها وسلمها لنور الدين محمد بن قرا ارسلان كما كان العهد بينهما وقد
أشرنا اليه ثم سار الى الشام فحاصر تل خالد من أعمال حلب حتى استأمنوا
اليه وملكها في محرّم سنة تسع وسبعين وسار منها الى عينتاب وبها ناصر
الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل خازن نور الدين محمود وصاحبه ولاه عليها
نور الدين فلم يزل بها فاستأمن الى صلاح الدين على أن يقرّه على الحصن
ويكون في خدمته فأقرّه وأطاعه ورحل صلاح الدين الى حلب وبها عماد الدين
زنكي بن مودود ونزل عليها بالميلان الأخضر أياما ثم انتقل الى جبل جوشن
أياما أخرى وأظهر أنه أبنى عليها وعجز عماد الدين عن عطاء الجند فراسل
صلاح الدين أن يعوّضه عنها سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج فأجاب
الى ذلك وأعطاه عنها تلك البلاد وملكها وكان في شرط صلاح الدين عليه
انه يبادر الى الخدمة متى دعاه اليها وسار عماد الدين الى بلاده تلك
ودخل صلاح الدين حلب في آخر سنة تسع وسبعين ومات عليها أخوه الأصغر تاج
الملوك بوري بضربة في ركبته تصدّعت لها ومات بعد فتح حلب ثم ارتحل صلاح
الدين الى قلعة حارم وبها سرجك من موالي نور الدين ولاه عليها عماد
الدين فلما سلم حلب لصلاح الدين امتنع سرجك في قلعة حارم فحاصره صلاح
الدين وتردّدت الرسل بينهما وقد دس الى الافرنج ودعاهم وخشي الجند
الذين معه أن يسلمها اليهم فحبسوه واستأمنوا الى صلاح الدين فملكها
وولى عليها بعض خواصه وعلى تل خالد الأمير داروم الياروقي صاحب تل باشر
وأقطع قلعة إعزاز الأمير سليمان بن جندر فعمرها بعد ان كان عماد الدين
خربها وأقطع صلاح الدين أعمال حلب لأمرائه وعساكره والله تعالى أعلم.
نكبة مجاهد الدين قايمان [1]
كان مجاهد الدين قايمان قائما بدولة الموصل ومتحكما فيها كما قلناه
وكان عز الدين محمود الملقب القندار صاحب الجيش وشرف الدين أحمد بن أبي
الخير الّذي كان صاحب
__________
[1] وفي بعض النسخ قايماز.
(5/306)
العراق كان من أكابر الأمراء عند السلطان
عز الدين مسعود صاحب الموصل وكانا يغريانه بمجاهد الدين ويكثران
السعاية عنده فيه حتى اعتزم على نكبته ولم يقدر على ذلك في مجلسه
لاستبداد مجاهد الدين وقوّة شوكته فانقطع في بيته لعارض مرض وكان مجاهد
الدين خصيا لا يحتجب منه النساء فدخل عليه يعوده فقبض عليه وركب الى
القلعة فاحتوى على أمواله وذخائره وولى بها زلقندار [1] نائبا وجعل ابن
صاحب العراق أمير حاجبا وحكمهما في دولته وكان في يد مجاهد الدين اربل
وأعمالها فيها زين الدين يوسف بن زين الدين علي كجك صبيا صغيرا تحت
استبداده وبيده أيضا جزيرة ابن عمر لمعز الدين سنجر شاه بن سيف الدين
غازي وهو صبيّ تحت استبداده وبيده أيضا شهرزور وأعمالها ودقوقا وقلعة
عقر الحميدية ونوابه في جميعها ولم يكن لعز الدين مسعود بعد استيلاء
صلاح الدين على الجزيرة سوى الموصل وقلعتها لمجاهد الدين وهو الملك في
الحقيقة فلما قبض عز الدين عليه امتنع صاحب اربل واستبدّ بنفسه وكان
صاحب جزيرة ابن عمر وبعث بطاعته الى صلاح الدين وبعث الخليفة الناصر
شيخ الشيوخ وبشير الخادم بالصلح بين عز الدين وصلاح الدين على أن تكون
الجزيرة واربل من أعماله وامتنع عز الدين وقال هما من أعمالي وطمع صلاح
الدين في الموصل فتنكر عز الدين لزلقندار ولابن صاحب العراق لما حملاه
عليه من الفساد لنكبة مجاهد الدين فبدأ أوّلا بعزل صاحب أذربيجان فقال
له أنا أكفيكه وجهز له عسكرا نحو ثلاثة آلاف فارس وساروا نحو اربل
فاكتسحوا البلد وخربوها وسار اليهم زين الدين يوسف بإربل فوجدهم
مفترقين في النهب فهزمهم وما كان معهم وعاد مظفرا ولحق العجم ببلادهم
وعاد مجاهد الدين الى الموصل والله سبحانه وتعالى ولىّ التوفيق.
حصار صلاح الدين الموصل وصلحه مع عز الدين
صاحبها
ثم سار صلاح الدين من دمشق في ذي القعدة سنة احدى وثمانين فلما انتهى
الى حران قبض على صاحبها مظفر الدين كوكبري لانه كان لذلك وعده بخمسين
ألف دينار حتى إذا وصل لم يف له بها فقبض عليه لانحراف أهل الجزيرة عنه
فأطلقه ورد عليه عمله بحران والرها وسار عن حران وجاء معه عساكر كيفا
وداري وعساكر جزيرة ابن عمر مع صاحبها معز.
الدين سنجر شاه ابن أخي عز الدين صاحب الموصل وقد كان استبدّ بأمره
وفارق طاعة عمه بعد نكبة مجاهد الدين كما قلناه فساروا مع صلاح الدين
الى الموصل ولما انتهوا الى مدينة
__________
[1] وفي نسخة ثانية القندار وكذا في هذه النسخة في مكان آخر.
(5/307)
بله وفدت عليه أم عز الدين وابن عمه نور
الدين محمود وجماعة من أعيان الدولة ظنا بانه لا يردهم وأشار عليه
الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب بردهم ورحل الى الموصل فقاتلها
وامتنعت عليه وندم على ردّ الوفد وجاءه كتاب القاضي الفاضل بالأئمة ثم
قدم عليه زين الدين يوسف صاحب اربل فأنزله مع أخيه مظفر الدين كوكبري
وغيره من الأمراء ثم بعث الأمير علي بن أحمد المشطوب الى قلعة الجزيرة
من بلاد الهكارية فاجتمع عليه الأكراد الهكارية وأقام يحاصرها وكاتب
نائب القلعة زلقندار ونمي خبر مكاتبته الى عز الدين فمنعه واطرحه من
المشورة وعدل الى مجاهد الدين قايمان وكان يقتدي برأيه فضبط الأمور
وأصلحها ثم بلغه في آخر ربيع من سنة اثنتين وثمانين وقد ضجر من حصار
الموصل ان شاهرين صاحب خلاط توفي تاسع ربيع واستولى عليها مولاه بكتمر
فرحل عن الموصل وملك ميافارقين كما يأتي في أخبار دولته ولما فرغ منها
عاد الى الموصل ومرّ بنصيبين ونزل الموصل في رمضان سنة اثنتين وثمانين
وتردّدت الرسل بينهما في الصلح على أن يسلم اليه عز الدين شهرزور
وأعمالها وولاية الفرائلي وما وراء الزاب ويخطب له على منابرها وينقش
اسمه على سكته ومرض صلاح الدين أثناء ذلك ووصل الى حران ولحقته الرسل
بالإجابة الى الصلح وتحالفا عليه وبعث من يسلم البلاد وأقام ممرضا
بحران وعنده العادل وناصر الدولة ابن عمه شيركوه وأمنت بلاد الموصل ثم
حدثت بعد ذلك فتنة بين التركمان والأكراد بالجزيرة والموصل وديار بكر
وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان وقتل فيها ما لا يحصى من الأمم واتصلت
أعواما وسببها أن عروسا من التركمان أهديت الى زوجها ومرّوا بقلعة
الزوزان والأكراد وطلبوا منهم الوليمة على الفتيان فأغلظوا في الرد
فقتل صاحب القلعة الزوج وثار التركمان بجماعة من الأكراد فقتلوهم ثم
أصلح مجاهد الدين بينهم وأفاض فيهم العطاء فعادوا الى الوفاق وذهبت
بينهم الفتنة والله تعالى أعلم.
وفاة زين الدين يوسف صاحب اربل وولاية أخيه
مظفر الدين اقتهى
كان زين الدين يوسف بن علي كجك قد صار في طاعة صلاح الدين كما ذكرناه
قبل واربل من أعماله ووقع الصلح على ذلك بينه وبين عز الدين صاحب
الموصل سنة ست وثمانين [1]
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 11 ص 210 كان زين الدين يوسف صاحب اربل
قد حضر عند صلاح الدين بعساكره فمرض ومات.
(5/308)
للعسكر معه فمات عنده أخريات رمضان من السنة واستولى أخوه على موجودة
وقبض على جماعة من أمرائه مثل بلداحي صاحب قلعة حقبيركان وغيره وطلب من
صلاح الدين أن يقطعه اربل مكان أخيه وينزل عن حران والرها فأقطعه اربل
وأضاف اليها شهرزور وأعمالها ودوقبر قرابلي وبني قفجاق وراسل أهل اربل
مجاهد الدين قايمان واستدعوه ليملكوه وهو بالموصل فلم يتطاول لذلك خوفا
من صلاح الدين ولان عز الدين لما كان ولاه نيابته بعد ان أطلقه من
الاعتقال لم يمكنه كما كان أوّل مرّة وجعل معه رديفا في الحكم كان من
بعض غلمانه فكان أسفا لذلك فلما راسله أهل اربل قال والله لا أفعل لئلا
يحكم معي فيها فلان وسار مظفر الدين اليها وملكها. |