تاريخ ابن خلدون

(بسم الله الرحمن الرحيم) وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

(الكتاب الثالث في أخبار البربر والأمة الثانية من أهل المغرب وذكر أوليتهم وأجيالهم ودولتهم منذ بدء الخليقة لهذا العهد ونقل الخلاف الواقع بين الناس في أنسابهم)
هذا الجيل من الآدميين هم سكان المغرب القديم ملئوا السبائط والجبال من تلوله وأريافه وضواحيه وأمصاره، يتخذون البيوت من الحجارة والطين ومن الخوص والشجر ومن الشعر والوبر، ويظعن أهل العز منهم والغلبة لانتجاع المراعي، فيما قرب من الرحلة، لا يجاوزون فيها الريف إلى الصحراء والقفار الأملس. ومكاسبهم الشاء والبقر والخيل في الغالب للركوب والنتاج. وربما كانت الإبل من مكاسب أهل النجعة منهم شأن العرب، ومعاش المستضعفين منهم بالفلح ودواجن السائمة.
ومعاش المعتزين أهل الانتجاع والأظعان في نتاج الإبل وظلال الرماح وقطع السابلة. ولباسهم وأكثر أثاثهم من الصوف يشتملون الصماء بالأكسية المعلمة، ويفرغون عليها البرانس الكحل ورءوسهم في الغالب حاسرة، وربما يتعاهدونها بالحلق. ولغتهم من الرطانة الأعجمية متميزة بنوعها، وهي التي اختصوا من أجلها بهذا الاسم.

(6/116)


يقال: إن أفريقش بن قيس بن صيفي من ملوك التبابعة لما غزا المغرب وإفريقية، وقتل الملك جرجيس، وبنى المدن والأمصار، وباسمه زعموا سميت إفريقية لما رأى هذا الجيل من الأعاجم وسمع رطانتهم ووعى اختلافها وتنوّعها تعجب من ذلك، وقال: ما أكثر بربرتكم فسموا بالبربر. والبربرة بلسان العرب هي اختلاط الأصوات غير المفهومة، ومنه يقال بربر الأسد إذا زأر بأصوات غير مفهومة.
وأما شعوب هذا الجيل وبطونهم فإن علماء النسب متفقون على أنهم يجمعهم جذمان عظيمان وهما برنس وماذغيس. ويلقب ماذغيس بالأبتر فلذلك يقال لشعوبه البتر، ويقال لشعوب برنس البرانس، وهما معا ابنا برنس وبين النسابين خلاف هل هما لأب واحد؟ فذكر ابن حزم عن أيوب بن أبي يزيد صاحب الحمار أنهما لأب واحد على ما حدّثه عنه يوسف الوراق. وقال سالم بن سليم المطماطي وصابى [1] بن مسرور الكومي وكهلان بن أبي لوا، وهم نسابة البربر: إن البرانس بتر، وهم من نسل مازيغ بن كنعان. والبتر بنو بر بن قيس بن عيلان، وربما نقل ذلك عن أيوب بن أبي يزيد، إلا أن رواية ابن حزم أصح لأنه أوثق.
(وأما) شعوب البرانس فعند النسابين أنهم يجمعهم سبعة أجذام وهي ازداجة ومصمودة وأوربة وعجيسة وكتامة وصنهاجة وأوريغة. وزاد سابق بن سليم وأصحابه: لمطة وهسكورة وكزولة. وقال أبو محمد بن حزم: يقال إن صنهاج ولمط إنما هما ابنا امرأة يقال لها بصكي [2] ولا يعرف لهما أب، تزوجها أوريغ فولدت له هوار فلا يعرف لهما أكثر من أنهما أخوان لهوار من أمه. قال: وزعم قوم من أوريغ أنه ابن خبوز [3] بن المثنى بن السكاسك من كندة وذلك باطل.
وقال الكلبي: إن كتامة وصنهاجة ليستا من قبائل البربر، وإنما هما من شعوب اليمانية تركهما أفريقش بن صيفي بإفريقية مع من نزل بها من الحامية. هذه جماع مذاهب أهل التحقيق في شأنهم، فمن ازداجة مسطاطه، ومن مصمودة غمارة بنو غمار بن
__________
[1] وفي نسمة ثانية: هاني بن مسرور، وفي النسخة الباريسية: يصدور وفي النسخة التونسية هاني بن مصدور.
[2] وفي نسخة ثانية: تصكي.
[3] وفي النسخة الباريسية خبور وكذلك في قبائل المغرب ص 314.

(6/117)


مصطاف بن مليل بن مصمود، ومن أوريغة هوارة وملك ومغد [1] وقلدن. فمن هوار بن أوريغ مليلة وبنو كهلان، ومن ملك بن أوريغ صطط وورفل واسيل ومسراتة، ويقال لجميعهم لهانة بنو لهان بن ملك، ويقال إن مليلة منهم. ومن مغد بن أوريغ ماواس وزمور وكبا ومصراي، ومن قلدن بن أوريغ ممصاتة [2] وورسطيف وبيانة وفل مليلة.
(وأما شعوب البتر [3] ) وهم بنو مادغيس الأبتر فيجمعهم أربعة أجذام أداسة ونفوسة وضرية وبنو لوا الأكبر، وكلهم بنو زحيك بن مادغيس. فأما أداسة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ملد ومغر وفي قبائل المغرب ص 315 (ملد ومقر) .
[2] وفي نسخة ثانية: قمصاتة وقد وردت أيضا قمصانه راجع قبائل المغرب ص 317.
[3] قوله واما شعوب إلخ من هنا الى الشجرة أسماء بعضها مخالف لما في الشجرة وهو في جميع النسخ التي بين أيدينا أهـ.

(6/118)


بنو أداس بن زحيك فبطونهم كلها في هوارة لأن أم أداس تزوجها بعد زحيك أوريغ ابن عمه برنس والد هوارة، فكان أداس أخا لهوارة، ودخل نسب بنيه كلهم في هوارة. وهم سفارة واندارة وهنزولة وضرية [1] وهداغة وأوطيطة وترهتة. هؤلاء كلهم بنو أداس بن زحيك بن باذغيس [2] وهم اليوم في هوارة.
وأما لو الأكبر فمنه بطنان عظيمان وهما نفزاوة بنو نفزا وابن الأكبر، ولواتة بنو لو الأصغر ابن لوا الأكبر، فخلفه أبوه حملا فسمّي به. فمن لواته أكوزة وعتروزة وبنو فاصلة ابن لوا الأصغر، ومنهم مزاته بنو زائر بن لوا الأصغر. ومغانة وجدانة بنو كطوف بن لوا الأصغر. ومن لواتة سرداتة بنو نيطط بن لوا الأصغر. ودخل نسب سرداتة في مغراوة. قال أبو محمد بن حزم: كان مغراوة تزوج أم سرداتة، فسار سرداتة أخا بني مغراوة لأمهم واختلط نسبه بهم. ومن نفزاوة أيضا بطون كثيرة وهم ولهاصة وغساسة وزهلة وسوماتة وورسيف ومرنيزة وزاتيمة ووركول ومرسينة [3] ووردغروس ووردن كلهم بنو تطوفت [4] من نفزاوة. وزاد ابن سابق وأصحابه مجر ومكلاتة، وقال:
ويقال إن مكلاتة ليس من البربر وأنه من حمير وقع إلى تطوفت صغيرا فتبناه وهو مكلا بن ريمان بن كلاع حاتم بن سعد بن حمير. ولولهاصة من نفزاوة بطون كثيرة من بيزغاش [5] ودحية ابني ولهاص. فمن بيزغاش بطون ورمجوسة [6] وهم: رجال وطو وبورغيش ووانجذ وكرطيط وماأنجول وسينتت بنو رفجوم بن بيزغاش بن ولهاص ابن تطوفت بن نغزاو.
قال ابن سابق وأصحابه: وبنو بيزغاش من لواتة كلهم بجبال أوراس، ومن دحية ورترين وتريرو ورتبونت [7] ومكرا ولقوس [8] بنو دحية بن ولهاص بن تطوفت بن
__________
[1] وفي النسخة التونسية: صنبرة.
[2] وفي نسخة أخرى: ماذغيس كما مرّت معنا سابقا وفي النسخة التونسية مادغس وكذلك في قبائل الغرب ص 306.
[3] وفي نسخة أخرى: مرنسية، وفي قبائل المغرب مرنيسة ص 306.
[4] وفي نسخة أخرى يطوفت وفي قبائل المغرب ص 307: ذكر ورغوس كما ورده في جمهرة أنساب العرب لابن حزم ووردغوس في كتاب المسالك والممالك، ووسيف بدل ورسيف.
[5] وفي النسخة الباريسية: بندغاش وفي النسخة التونسية تبدغاش.
[6] وفي نسخة أخرى: رفجومة.
[7] وفي نسخة أخرى: رتيونت، وفي النسخة الباريسية ورسوتني. وفي النسخة التونسية: ورلتونت.
[8] وفي النسخة الباريسية يفريق وفي النسخة التونسية يغرين.

(6/119)


نفزاو. وأما ضرية وهم بنو ضري بن زحيك بن مادغيس الأبتر فيجمعهم جذمان عظيمان: بنو تمصيت بن ضري وبنو يحيى بن ضري.
وقال سابق وأصحابه أن بطون تمصيت كلّها من فاتن بن تمصيت وأنهم اختصوا بنسب ضرية دون بطون يحيى. فمن بطون تمصيت مطماطة وصطفورة، وهم لحومية [1] ولماية ومطغرة ومرينة ومغيلة ومعزوزة [2] وكشاتة ودونة ومديونة، كلهم بنو فاتن بن تمصيت بن ضري. ومن بطون يحيى: زناتة كلهم وسمكان وورصطف.
فمن ورصطف: مكناسة وأوكتة وورتناج بنو ورصطف بن يحيى. فمن مكناسة ورثيفة ووربر ومن معليت قنصارة وموالات وحرات ورفلابس ومن ملزلولاين ولرتر ويصلتن وجرير وفرغان [3] . ومن ورتناج مكنسة ومطاسة وكرسطة وسردجة [4] وهناطة وفولال بنو ورتناج بن ورصطف. ومن سمكان زواغة وزواوة بنو سمكان بن يحيى وعن ابن حزم بعد زواوة التي بالواو في كتامة وهو أظهر، ويشهد له الوطن. فالغالب أن زواوة بنو سمكان بن يحيى. وعن ابن حزم: بعد زواوة التي بالواو في بطون كتامة والتي تعد في سمكان هي التي بالزاي وهي قبيلة معروفة. ومن زواغة بنو ماجر وبنو واطيل وسمكين. وسيأتي الكلام فيهم مستوفي عند ذكرهم إن شاء الله تعالى. هذا آخر الكلام في شعوب هذا الجيل مجملا ولا بد من تفصيل فيه عند تفصيل أخبارهم أهـ.
(وأما) إلى من يرجع نسبهم من الأمم الماضية فقد اختلف النسابون في ذلك اختلافا كثيرا، وبحثوا فيه طويلا. فقال بعضهم: أنهم من ولد إبراهيم عليه السلام من نقشان [5] ابنه، وقد تقدّم ذكره عند ذكر إبراهيم عليه السلام. وقال آخرون:
البربر يمنيون وقالوا أوزاع من اليمن. وقال المسعودي: من غسان وغيرهم، تفرقوا عند ما كان من سيل العرم. وقيل: تخلفهم أبرهة ذو المنار بالمغرب وقيل من لخم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: كومية وهم من ولد فاتن بن تمصيت من ضريس بن زحيك بن مادغيس الأبتر.
[2] وفي نسخة ثانية: مكزوزة.
[3] وفي نسخة ثانية: ضمن مكناسة ورتيفة وورتدوسن وتفليت ومنصارة وموالات وحرات ورفلابس، ومن مكن بولالين وتدين ويصلتن وجربن وفوغال.
[4] وفي نسخة أخرى: ومن ورتناج: مكنسة وبطالة وكرنيطة وسدرجة.
[5] وفي التوراة 25/ 2 يقشان.

(6/120)


وجذام كانت منازلهم بفلسطين، وأخرجهم منها بعض ملوك فارس. فلما وصلوا إلى مصر منعتهم ملوك مصر النزول، فعبروا النيل، وانتشروا في البلاد. وقال أبو عمر بن عبد البر: ادعت طوائف من البربر أنهم من ولد النعمان بن حمير بن سبإ. قال:
ورأيت في كتاب الاسفنداد الحكيم: ان النعمان بن حمير بن سبإ كان ملك زمانه في الفترة، وأنه استدعى أبناءه وقال لهم: أريد أن أبعث منكم للمغرب من يعمره، فراجعوه في ذلك، وزعم عليهم، وأنه بعث منهم لمت أبا لمتونة ومسفو ابا مسوفة ومرطا أبا هسكورة وأصناك أبا صنهاجة ولمط أبا لمطة وإيلان أبا هيلانة، فنزل بعضهم بجبل درن، وبعضهم بالسوس وبعضهم بدرعه.
ونزل لمط عند كزول وتزوج ابنته، ونزل جانا وهو أبو زناتة بوادي شلف، ونزل بنو ورتجين ومغراو بأطراف إفريقية من جهة المغرب، ونزل مقرونك [1] بمقربة من طنجة. والحكاية أنكرها أبو عمرو بن عبد البر وأبو محمد بن حزم. وقال آخرون إنهم كلهم من قوم جالوت. وقال علي بن عبد العزيز الجرجاني النسابة في كتاب الأنساب له: لا أعلم قولا يؤدي إلى الصحة إلا قول من قال إنهم من ولد جالوت. ولم ينسب جالوت ممن هو، وعند ابن قتيبة أنه ونور بن هربيل [2] بن حديلان [3] بن جالود بن رديلان [4] بن حظي بن زياد بن زحيك بن مادغيس الأبتر. ونقل عنه أيضا أنه جالوت بن هريال بن جالود بن دنيال [5] بن قحطان بن فارس. قال: وفارس مشهور وسفك أبو البربر كلهم. قالوا: والبربر قبائل كثيرة وشعوب جمة، وهي هوارة وزناتة وضرية ومغيلة وزيحوحة [6] ونفزة وكتامة ولواتة وغمارة ومصمودة وصدينه ويزدران ودنجين [7] وصنهاجة ومجكسة وواركلان وغيرهم. وذكر آخرون منهم الطبري وغيره أن البربر أخلاط من كنعان والعماليق. فلما قتل جالوت تفرّقوا في البلاد وأغزى أفريقش المغرب ونقلهم من سواحل الشام وأسكنهم إفريقية وسماهم بربر. وقيل إن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مصمود.
[2] وفي النسمة الباريسية ثور بن هربيل، وفي النسخة التونسية ونور ابن هرمل.
[3] وفي النسخة الباريسية بلاد وفي النسخة التونسية جدلان.
[4] وفي النسخة الباريسية: روينال.
[5] وفي النسخة الباريسية: دبال وفي النسخة التونسية ديال وفي نسخة أخرى ذبال.
[6] وفي نسخة أخرى: رفجومة وفي قبائل المغرب (ورفجومة) ص 339.
[7] وفي نسخة أخرى: ورنجين.

(6/122)


البربر من ولد حام بن نوح بن بربر بن تملا بن مازيغ بن كنعان بن حام. وقال الصولي: هم من ولد بربر بن كسلاجيم [1] بن مسراييم بن حام. وقيل من العمالقة من بربر بن تملا بن مارب بن قاران بن عمر بن عملاق بن لاود بن إرم بن سام، وعلى هذا القول فهم عمالقة. وقال مالك بن المرحل [2] : البربر قبائل شتى من حمير ومضر والقبط والعمالقة وكنعان وقريش تلاقوا [3] بالشام ولغطوا فسماهم أفريقش البربر لكثرة كلامهم. وسبب خروجهم عند المسعودي والطبري والسهيليّ:
أن أفريقش استجاشهم لفتح إفريقية وسماهم البربر وينشدون من شعره:
بربرت كنعان لما سقتها ... من أراضي الضنك للعيش الخصيب
وقال ابن الكلبي: اختلف الناس فيمن أخرج البربر من الشام، فقيل داود بالوحي قيل: يا داود أخرج البربر من الشام فإنهم جذام الأرض. وقيل يوشع بن نون وقيل أفريقش وقيل بعض الملوك التبابعة. وعند البكري أن بني إسرائيل أخرجوهم عند قتل جالوت. وللمسعوديّ والكبري أنهم فرّوا بعد موت جالوت إلى المغرب، وأرادوا مصر فأجلتهم القبط، فسكنوا برقة وإفريقية والمغرب على حرب الإفرنج والأفارقة وأجازوهم على صقلّيّة وسردانية وميورقة والأندلس. ثم اصطلحوا على أن المدن للإفرنجة. وسكنوا القفار عصورا في الخيام وانتجاع الأمصار من الإسكندرية إلى البحر، وإلى طنجة والسوس حتى جاء الإسلام. وكان منهم من تهوّد ومن تنصر وآخرون مجوسا يعبدون الشمس والقمر والأصنام، ولهم ملوك ورؤساء. وكان بينهم وبين المسلمين حروب مذكورة. وقال الصولي البكري أن الشيطان نزغ بين بني حام وبني سام، فانجلى بنو حام إلى المغرب ونسلوا به. وقال أيضا إن حام لما اسودّ بدعوة أبيه فرّ إلى المغرب حياء واتبعه بنوه وهلك عن أربعمائة سنة. وكان من ولده بربر بن كسلاجيم فنسل بنوه بالمغرب. قال: وانضاف إلى البربر حيان من المغرب يمنيان عند خروجهم من مأرب كتامة وصنهاجة. قال: وهوارة ولمطة ولواتة بنو حمير بن سبإ
__________
[1] وفي نسخة أخرى: كسلوجيم.
[2] وفي النسخة الباريسية الموصل.
وفي النسخة التونسية الموصل.
[3] وفي النسخة التونسية: تألفوا.

(6/123)


وقال هانئ بن بكور الضريسي وسابق بن سليمان المطماطي وكهلان بن أبي لؤيّ وأيوب بن أبي يزيد وغيرهم من نسابة البربر أن البربر فرقتان كما قدمناه وهما:
البرانس والبتر. فالبتر من ولد بر بن قيس بن عيلان. والبرانس بنو بربر سحو بن أبزج بن جمواح بن ويل بن شراط بن ناح بن دويم بن داح بن مازيغ بن كنعان بن حام [1] وهذا هو الّذي يعتمده نسابة البربر. قال الطبري: خرج بربر بن قيس ينشد ضالة بأحياء البربر وهي جارية وتزوجها فولدت. وعند غيره من نسابة البربر أنه خرج فارا من أخيه عمر بن قيس، وفي ذلك تقول تماضر وهي أخته:
لتبكي كل باكية أخاها ... كما أبكي على بر بن قيس
تحمل عن عشيرته فأضحى ... ودون لقائه أنضاء عيس
ومما ينسب إلى تماضر أيضا
وشطت ببر داره عن بلادنا ... وطوح بر نفسه حيث يمما
وازرت ببر لكنة أعجمية ... وما كان بر في الحجاز بأعجما
كأنّا وبرا لم نقف بجيادنا ... بنجد ولم نقسم نهابا ومغنما
وأنشد علماء البربر لعبيدة بن قيس العقيلي:
ألا أيها الساعي لفرقة بيتنا ... توقف هداك الله سبل الأطايب
فأقسم أنا والبرابر إخوة ... نمانا وهم جدّ كريم المناصب
أبونا أبوهم قيس عيلان في الورى ... وفي حومة يشفى غليل المحارب [2]
فنحن وهم ركن منيع وإخوة ... على رغم أعداء لئام المناقب
فإن لبرّ ما بقي الناس ناصرا ... وبر لنا ركن منيع المناكب
تعد لمن عادى شواذق حمرا ... وبيضا تقص الهام يوم التضارب [3]
وبر بن قيس عصبة مضرية ... وفي الفرع من أحسابها والذوائب
وقيس قوام الدين في كل بلدة ... وخير معد عند حفظ المناسب
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بنو برنس بن سفجو بن أبزج بن جناح بن واليل بن شراط بن تام بن دويم بن دام بن مازيغ بن كنعان بن حام. هكذا ورد أيضا في كتاب قبائل المغرب/ 295.
[2] وفي نسخة أخرى:
أبونا أبوهم قيس عيلان في الذرى ... وفي حرمة يسقي غليل المحارب
[3] وفي نسخة أخرى:
نعدّ لمن عادى شواذه ضمرا ... وبيضا تقطّ الهام يوم التضارب

(6/124)


وقيس لها المجد الّذي يقتدي به ... وقيس لها سيف حديد المضارب
وينشد أيضا أبيات ليزيد بن خالد يمدح البربر:
أيها السائل عنا أصلنا ... قيس عيلان بنو العز الأول
نحن ما نحن بنو بر القوى ... عرف المجد وفي المجد دخل
وابتنى المجد فاورى زنده ... وكفانا كل خطب ذي جلل
إن قيسا يعتزي برّ لها ... ولبر يعتزي قيس الأجل
ولنا الفخر بقيس أنه ... جدنا الأكبر فكاك الكبل
إن قيسا قيس عيلان هم ... معدن الحق على الخير دلل
حسبك البربر قومي أنهم ... ملكوا الأرض بأطراف الأسل
وببيض نضرب الهام بها ... هام من كان عن الحق نكل
أبلغوا البربر عني مدحا ... حيك من جوهر شعر منتحل
وعند نسابة البربر، وحكاه البكري وغيره أنه كان لمضر ولدان إلياس وعيلان [1] ، أمهما الرباب بنت جبده [2] بن عمر بن معد بن عدنان، فولد عيلان بن مضر قيسا ودهمان، أما دهمان فولده قليل وهم أهل بيت من قيس يقال لهم بنو أمامة. وكانت لهم بنت تسمى البهاء بنت دهمان، وأما قيس بن عيلان فولد له أربعة بنين وهم سعد وعمر، وأمهما مزنة بنت أسد بن ربيعة بن نزار [3] وبرّ وتماضر وأمهما تمريغ بنت مجدل ومجدل بن عمار بن مصمود وكانت قبائل البربر يومئذ يسكنون الشام ويجاورون العرب في المساكن ويشاركونهم في المياه والمراعي والمسارح ويصهرون إليهم، فتزوج بر بن قيس بنت عمه وهي البهاء بنت دهمان، وحسده إخوته في ذلك. وكانت أمه تمريغ من دهاة النساء فخشيت منهم عليه، وبعثت بذلك إلى أخوالها سرا، ورحلت معهم بولدها وزوجته إلى أرض البربر وهم إذ ذاك ساكنون بفلسطين وأكناف الشام، فولدت البهاء لبر بن قيس ولدين: علوان وما دغيس، فمات علوان صغيرا وبقي مادغيس، فكان يلقب الأبتر، وهو أبو البتر من البربر، ومن ولده جميع زناتة.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: غيلان.
[2] وفي نسخة أخرى: حيدة.
[3] وفي سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب: مزنه بنت أسد بن أكلب بن ربيعة ابن نزار بن معد بن عدنان.

(6/125)


قالوا وتزوج مادغيس بن بر وهو الأبتر باحال [1] بنت واطاس بن محمد بن مجدل بن عمار [2] فولدت له زحيك بن مادغيس. وقال أبو عمر بن عبد البرّ في كتاب التمهيد في الأنساب: اختلف الناس في أنساب البربر اختلافا كثيرا. وأنسب ما قيل فيهم أنهم من ولد قبط بن حام، لما نزل مصر خرج ابنه يريد المغرب، فسكنوا عند آخر عمالة مصر، وذلك ما وراء برقة إلى البحر الأخضر، مع بحر الأندلس إلى منقطع الرمل متصلين بالسودان. فمنهم لواتة بأرض طرابلس، ونزل قوم بقربها وهم نفزة.
ثم امتدت بهم الطرق إلى القيروان وما وراءها إلى تاهرت إلى طنجة وسجلماسة إلى السوس الأقصى وهم طوائف صنهاجة وكتامة وزكالة وركلاوة وفطواكة من هسكورة ومزطاوة، وذكر بعض أهل الآثار أن الشيطان نزغ بين بني حام وبني سام، فوقعت بينهم مناوشات كانت الدبرة فيها لسام وبنيه، وخرج سام إلى المغرب، وقدم مصر وتفرق بنوه، ومضى على وجهه يؤم المغرب حتى بلغ السوس الأقصى، وخرج بنوه في إثره يطلبونه، فكل طائفة من ولده بلغت موضعا وانقطع عنهم خبره، فأقاموا بذلك الموضع وتناسلوا فيه، ووصلت إليهم طائفة فأقاموا معهم وتناسلوا هنالك.
وكان عمر حام أربعمائة وثلاثا وأربعين سنة فيما ذكره البكري. وقال آخرون: كان عمره خمسمائة وإحدى وثلاثين سنة. وقال السهيليّ فيمن هو يعرب بن قحطان.
قال: وهو الّذي أجلى سام إلى المغرب بعد ان كان الجرمي [3] من ولد قوط بن يافث هذا آخر الخلاف في أنساب البربر.
وأعلم أن هذه المذاهب كلها مرجوحة وبعيدة من الصواب، فأما القول بأنهم من ولد إبراهيم فبعيد، لأن داود الّذي قتل جالوت وكان البربر معاصرين له ليس بينه وبين إسحاق بن إبراهيم أخي نعشان الّذي زعموا أنه أبو البربر إلا نحو عشرة آباء ذكرناهم أول الكتاب. ويبعد أن تشعب النسل فيهم مثل هذا التشعب، وأما القول بأنهم من ولد جالوت أو العماليق، وأنهم نقلوا من ديار الشام وانتقلوا، فقول ساقط، يكاد يكون من أحاديث خرافة، إذ مثل هذه الأمة المشتملة على أمم وعوالم ملأت جانب الأرض، لا تكون منتقلة من جانب آخر وقطر محصور. والبربر معروفون في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أملل.
[2] وفي النسخة التونسية: غمار.
[3] الجزى هكذا أوردت في نسخة أخرى.

(6/126)


بلادهم وأقاليمهم متحيزون بشعارهم من الأمم منذ الأحقاب المتطاولة قبل الإسلام.
فما الّذي يحوجنا إلى التعليق بهذه الترهات في شأن أوليتهم. ويحتاج إلى مثله في كل جيل وأمة من العجم والعرب. وأفريقش الّذي يزعمون أنه نقلهم قد ذكروا أنه وجدهم بها، وأنه تعجب من كثرتهم وعجمتهم، وقال: ما أكثر بربرتكم. فكيف يكون هو الّذي نقلهم؟ وليس بينه وبين ذي المغار من يتشعبون فيه إلى مثل ذلك إن قالوا أنه الّذي نقلهم؟ وأما القول أيضا بأنهم من حمير من ولد النعمان أو من مضر من ولد قيس بن عيلان فمنكر من القول، وقد أبطله إمام النسابين والعلماء أبو محمد بن حزم. وقال في كتاب الجمهرة ادعت طوائف من البربر أنهم من اليمن ومن حمير، وبعضهم ينسب إلى بربر بن قيس، وهذا كله باطل لا شك فيه. وما علم النسابون لقيس بن عيلان ابنا اسمه بر أصلا، وما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن. وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة أنهم من ولد جالوت، وأن جالوت من ولد قيس بن عيلان فأبعد عن الصواب. فان قيس عيلان من ولد معد.
وقد قدمنا أن معدا كان معاصرا لبخت نصّر وأن أرمياء النبي خلص به إلى الشام حذرا عليه من بخت نصّر حين سلط على العرب. وبخت نصّر هو الّذي خرب بيت المقدس بعد بناء داود وسليمان إياه بأربعمائة وخمسين سنة ونحوها، فيكون معد بعد داود بمثل هذا الأمد، فكيف يكون ابنه قيس أبا لجالوت المعاصر لداود؟ هذا في غاية البعد وأظنها غفلة من ابن قتيبة ووهما.
والحق الّذي لا ينبغي التعديل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح كما تقدم في أنساب الخليفة، وان اسم أبيهم مازيغ وإخوتهم أركيش وفلسطين [1] إخوانهم بنو كسلوحيم بن مصرايم بن حام، وملكهم جالوت سمة معروفة له. وكانت بين فلسطين هؤلاء وبين بني إسرائيل بالشام حروب مذكورة. وكان بنو كنعان وواكريكيش شيعا لفلسطين، فلا يقعن في وهمك غير هذا، فهو الصحيح الّذي لا يعدل عنه. ولا خلاف بين نسابة العرب أن شعوب البربر الّذي قدمنا ذكرهم كلهم من البربر إلا صنهاجة وكتامة. فإن بين نسابة العرب خلافا والمشهور أنهم من اليمينية، وأن أفريقش لما غزا إفريقية أنزلهم بها. وأما نسابة البربر فيزعمون في بعض شعوبهم
__________
[1] ما ذكره مخالف لما تقدم له في أنساب الخليفة أهـ وصححه.

(6/127)


أنهم من العرب مثل لواتة، يزعمون أنهم من حمير ومثل هوارة يزعمون أنهم من كندة من السكاسك، ومثل زناتة تزعم نسابتهم أنهم من العمالقة فروا أمام بني إسرائيل. وربما يزعمون فيهم أنهم من بقايا التبابعة ومثل عمارة أيضا وزواوة ومكلاتة يزعم في هؤلاء كلهم نسابتهم أنهم من حمير حسبما نذكره عند تفصيل شعوبهم في كل فرقة منهم، وهذه كلها مزاعم. والحق الّذي شهد به المواطن والعجمة أنهم بمعزل عن العرب إلا ما تزعمه نسابة العرب في صنهاجة وكتامة. وعندي أنهم من إخوانهم والله أعلم. وقد انتهى بنا الكلام إلى أنسابهم وأوليتهم، فلنرجع إلى تفصيل شعوبهم وذكرهم أمة بعد أمة. ونقتصر على ذكره من كانت له منهم دولة ملك أو سالف شهرة أو تشعب نسل في العالم وعدد لهذا العهد وما قبله من صنفي البرانس.
والبتر منهم وترتيبهم شعبا شعبا حسبما تأدى إلينا من ذلك واشتمل عليه محفوظنا، والله المستعان.
(الفصل الثاني في ذكر مواطن هؤلاء البربر بإفريقية والمغرب)
اعلم أن لفظ المغرب في أصل وضعه اسم إضافي يدل على مكان من الأمكنة بإضافته إلى جهة المشرق، ومشرق بالإضافة إلى جهة المغرب لأن العرف قد يخصص هذه الأسماء بجهات معينة وأقطار مخصوصة. وعرف أهل الجغرافيا المعتنين بمعرفة هيئة الأرض وقسمتها بأقاليمها ومعمورها وخرابها وجبالها وبحارها ومساكن أهلها، مثل بطليموس ورجاوز [1] وصاحب صقلّيّة المنسوب له الكتاب المشهور بين الناس لهذا العهد في هيئة الأرض والبلدان، وأمثالهم: أن المغرب قطر واحد مميز بين الأقطار.
فحدّه من جهة المغرب بحر المحيط وهو عنصر الماء، وسمي محيطا لإحاطته بما انكشف من الأرض كما قدمنا أول الكتاب.
ويسمى أيضا البحر الأخضر لتلونه غالبا بالخضرة، ويسمى بحر الظلمات لما أنه تقل فيه الأضواء من الأشعة المنعكسة على سطح الأرض من الشمس لبعده عن الأرض
__________
[1] وفي نسخة أخرى: رجار وهو الصحيح وكان ملك صقلّيّة.

(6/128)


فيكون مظلما. ولفقدان الأضواء تقل الحرارة المحللة للأبخرة فلا تزال السحب والغيوم متكاثفة على سطحه. منعقدة هنالك متراكمة، وتسميه الأعاجم: بحر أوقيانوس يعنون به والله أعلم ما نعني نحن بالعنصر. ويسمونه أيضا بحر البلاية بتفخيم اللام الثانية. وهو بحر كبير غير منحصر، لا تبعد فيه السفن عن مرأى العين من السواحل للجهل بسموت الرياح هنالك ولنهايتها إذ لا غاية من العمران وراءه.
والبحار المنحصرة إنما جرت فيها السفن بالرياح المعروفة الهوائية بكثرة تجاربهم، فتبعث الريح من الأماكن وغاية مهبها في سمتها فكل ريح عندهم معروفة الغاية. فإذا علم أن جريته بالريح المنبعثة من مكان كذا، وبما خرج من ريح إلى ريح بحسب مقصوده وجهته. وهذا مفقود في البحر الكبير لأنه منحصر، ومنبعث الريح، وإن كان معروفا فغايته غير معروفة لفقدان العمران وراءه فتضل السفن إذا جرت به وتذهب فتهلك. وأيضا فإذا أوغل فيه فربما وقع في المتكاثف من الغيوم والأبخرة كما قلناه فيهلك، فلهذا كان راكبه على غرر وخطر. فحد الغرب من جهة المغرب البحر المحيط كما قلناه، وعليه كثير من مدنه مثل طنجة وسلا وأزمور وأنفي وأسفي، وهي من مدن الغرب وحواضره. وعليه أيضا مسجد ماسة وبلدتا كاوصت ونول من بلاد السوس وهي كلها من مساكن البربر وحواضرهم. وتنتهي المراكب إلى وراء ساحل نول ولا تجاوزه إلا على خطر كما قلناه. وأما حده من جهة الشمال فالبحر الرومي والمتفرع من هذا البحر المحيط يخرج في خليج متضايق بين طنجة من بلاد المغرب وطريف من بلاد الأندلس ويسمى هذا الخليج الزقاق، وعرضه ثمانية أميال فما فوقها. وكانت عليه قنطرة ركبها ماء البحر.
ثم يذهب هذا البحر الرومي في سمت الشرق إلى أن ينتهي إلى سواحل الشام وثغوره وما إليها مثل: أنطاكية والعلايا وطرسوس والمصيصة وطرابلس وصور والإسكندرية.
ولذلك سمي البحر الشامي. وهو إذا خرج من الخليج ينفسح في ذهابه عرضا. وأكثر انفساحه إلى جهة الشمال، ولا يزال انفساحه ذلك متصاعدا إلى الشمال إلى أن ينتهي إلى غايته. وطوله فيما يقال خمسة آلاف ميل أو ستة. وفيه جزائر ميورقة ومزقة وياسة وصقلّيّة وأقريطش وسردانية وقبرص. وأما عرضه من جهة الجنوب فإنه يخرج عن سمت واحد. ثم يختلف في ذهابه فتارة يبعد في الجنوب وتارة يرجع إلى الشمال.
واعترض ذلك بعروض البلدان التي بساحله، وذلك أن عرض البلد هو ارتفاع قطبه

(6/129)


الشمال على أفقه. وهو أيضا بعد ما بين سمت رءوس أهله ودائرة معدل النهار.
والسبب في ذلك أن الأرض كرية الشكل، والسماء من فوقها مثلها. وأفق البلد هو فرق بين ما يرى وبين ما لا يرى من السماء ومن الأرض. والفلك ذو قطبين، إذا ارتفع أحدهما على رءوس معمور انخفض الآخر بقدره عنهم، والعمارة في الأرض كلها هي إلى الجانب الشمالي أكثر، وليس في الجنوب عمران لما تقرر في موضعه. فلهذا ارتفع القطب الشمالي على أهل العمران دون الجنوبي. والمارّ على سطح الكرة كلما أبعد في جهة ظهر له من سطح الكرة، ومن السماء المقابل لها ما لم يكن يظهر، فيزيد بعد القطب على الأفق كما أبعد في الشمال، وينقص كلما رجع إلى الجنوب.
فعرض سبتة وطنجة التي هي على زقاق هذا البحر وخليجه (له [1] ) ودقائق. ثم يتصاعد البحر إلى الجنوب فيكون عرض تلمسان (لد) ونصف، فتزيد في الجنوب فيكون عرض وهران (لب) أبعد من فاس بيسير لأن عرض فاس (لج) ودقائق.
ولهذا كان العمران في المغرب الأقصى أعرض في الشمال من عمران المغرب الأوسط بقدر ما بين فاس وسبتة. وصار ذلك القطر كالجزيرة بين البحار لانعطاف البحر الرومي إلى الجنوب. ثم يرجع البحر بعد وهران عن سمته ذلك فيكون عرض تونس والجزائر (له) على مثل سمته الأول عند منبعثة من الزقاق. ثم يزيد في الشمال فيكون عرض بجاية وتونس يوم على مثل سمت غرناطة ومريه ومالقة. ثم يرجع إلى الجنوب فيكون عرض طرابلس وقابس (له) على مثل السمت الأول بطنجة وسبتة ثم يزيد في الجنوب فيكون عرض برقة (لج) على مثل سمت فاس وتوزر فيكون عرض الإسكندرية (لا) على مثل مراكش وأغمات. ثم يذهب في الشمال إلى القطافة إلى منتهى سمته بسواحل الشام.
وهكذا اختلافه في هذه العدوة الجنوبية، ولسنا على علم من حاله في العدوة الشمالية. وينتهي بسواحل عرض هذا البحر في انفساحه إلى سبعمائة ميل أو نحوها ما بين سواحل إفريقية وجنوة من العدوة الشمالية والبلاد الساحلية من المغرب الأقصى والأوسط وإفريقية من لدن الخليج حيث منبعثه كلها عليه مثل طنجة وسبتة وبادس
__________
[1] له: في حساب الجمل (36) أي ان سبته وطنجة تقع على خط العرض 36 درجة ودقائق، وكذلك تونس وطرابلس الغرب وقابس. وعرض تلمسان 35 درجة ونصف، وعرض فاس 34 درجة ودقائق وكذلك برقة. وأما الاسكندرية فتقع على خط العرض 31 درجة.

(6/130)


وغساسة وهنين ووهران والجزائر وبجاية وبونة وتونس وسوسة والمهدية وصفاقس وقابس وطرابلس وسواحل برقة والإسكندرية.
هذا وصف هذا البحر الرومي الّذي هو حدّ المغرب من جهة الشمال. وأما حدّه من جهة القبلة والجنوب فالجبال المتهيلة الماثلة حجزا بين بلاد السودان وبلاد البربر.
وتعرف عند العرب الرحالة البادية بالعرق، وهذا العرق سياج على المغرب من جهة الجنوب مبتدئ من البحر المحيط وذاهب في جهة الشرق على سمت واحد إلى أن يعترضه النيل الهابط من الجنوب إلى مصر، فهنالك ينقطع وعرضه ثلاثة مراحل وأزيد. ويعترضه في جهة المغرب الأوسط أرض محجرة تسمى عند العرب الحمادة من دوين مصاب إلى بلاد دريغ، ووراءه من جهة الجنوب وبعض بلاد الجزيرة ذات نخيل، وأنها معدودة في جملة بلاد المغرب، مثل بلاد بودة وتمنطيت في قبلة المغرب الأقصى وتسابيت وتيكورارين في قبلة المغرب الأوسط وغذامس وفزان وودان في قبلة طرابلس. كل واحد من هذه إقليم يشتمل على بلدان عامرة ذات قرى ونخيل وأنهار، ينتهي عدد كل واحد منها إلى المائة فأكثر.
وإلى هذه العدوة الجنوبية من هذا العرق ينتهي في بعض السنين مجالات أهل الشام من صنهاجة ومتقلبهم الجائلون هناك إلى بلاد السودان. وفي العدوة الشمالية منه مجالات البادية من الأعراب الظواعن بالمغرب. وكانت قبلهم مجالات للبربر كما نذكره بعد هذا حدّ المغرب من جهة الجنوب، ومن دون هذا العرق سياج آخر على المغرب مما يلي التلول منه. وهي الجبال التي هي تخوم تلك التلول ممتدة من لدن البحر المحيط في القرب إلى برنيق من بلاد برقة. وهنالك تنقطع هذه الجبال ويسمى مبدؤها من المغرب جبال درن. وما بين هذه الجبال المحيطة بالتلول وبين العرق الّذي وصفناه آنفا بسائط وقفارا أكثر نباتها الشجر، وفيما يلي التلول منها، ويقاربها بلاد الجريد ذات نخل وأنهار.
ففي أرض السوس قبلة مراكش ترودانت والقرى قوبان [1] وغيرهما، بلاد ذات نخل وأنهار ومزارع متعددة عامرة. وفي قبلة فاس سجلماسة وقراها بلد معروف، ودرعة أيضا وهي معروفة وفي قبلة تلمسان قصور متعددة ذات نخل وأنهار. وفي قبلة تاهرت
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: مويان وفي نسخة أخرى فوبان.

(6/131)


القصور أيضا بلاد متتالية على سطر من المشرق إلى المغرب أقرب ما إليها جبل راشد، وهي ذات نخل ومزارع وأنهار. ثم قصور معينات تناهز المائة وأكثر قبلة الجزائر ذات نخل وأنهار. ثم بلد واركلى قبلة بجاية بلد واحد مستجر العمران كثير النخل. وفي سمته إلى جهة التلول بلاد ريغ تناهز الثلاثمائة منتظمة على حفافي واد ينحدر من المغرب إلى المشرق يناهز مائة من البلاد فأكثر، قاعدتها بسكرة من كبار الأمصار بالمغرب.
وتشتمل كلها على النخل والأنهار والفدن والقرى والمزارع.
ثم بلاد الجريد قبلة تونس وهي: نفطة وتوزر وقفصة وبلاد نفزاوة وتسمى كلها بلاد قسطيلة مستجرة العمران مستحكمة الحضارة مشتملة على النخل والأنهار. ثم قابس قبلة سوسة وهي حاضرة البحر من أعظم أمصار إفريقية. وكانت دار ملك لابن غانية كما نذكره بعد. وتشتمل على النخل والأنهار والمزارع. ثم فزان وودان قبلة طرابلس قصور متعددة ذات نخل وأنهار، وهي أول ما افتتح المسلمون من أرض إفريقية لما أغزاها عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص. ثم الواحات قبلة برقة، ذكرها المسعودي في كتابه وما وراء هذه كلها في جهة الجنوب فقفار ورمال لا تنبت زرعا ولا مرعى، إلى أن تنتهي إلى العرق الّذي ذكرناه.
ومن ورائه مجالات المتلثّمين كما قلناه، مفاوز معطشة إلى بلاد السودان. وما بين بلاد هذه والجبال التي هي سياج التلول بسائط متلوّن مزاجها تارة بمزاج التلول، وتارة بمزاج الصحراء، بهوائها ومياهها ومنابتها. وفيها القيروان وجبل أوراس معترض وسطها، وبلاد الحصنة حيث كانت طبنة ما بين الزاب والتل، وفيها مغرّة والمسيلة، وفيها السرسو قبلة تلمسان حيث تاهرت فيها جبل ديرو [1] وقبلة فاس معترض في تلك البسائط. هذا حدّ المغرب من جهة القبلة والجنوب.
وأما من جهة الشرق فيختلف باختلاف الاصطلاحات فعرف أهل الجغرافيا أنه بحر أهل القلزم المنفجر من بحر اليمن، هابط على سمت الشمال بانحراف يسير إلى المغرب حتى ينتهي إلى القلزم والسويس، ويبقى بينهم من هنالك، وبين سمته من البحر الرومي مسيرة يومين. وينقطع عند السويس والقلزم. وبعده عن مصرفي جهة الشرق
__________
[1] وفي نسخة أخرى ديدو ولم نجد لها ذكر في المراجع التي بين أيدينا ولعلها دبرو وهي قرية وسط سهول تافرا في إقليم وجدة (كتاب المغرب/ 88) (قبائل المغرب/ 321) .

(6/132)


ثلاثة أيام. هذا آخر المغرب عندهم ويدخل فيه إقليم مصر وبرقة.
وكان المغرب عندهم جزيرة أحاطت بها البحار من ثلاث جهاتها كما تراه. وأما العرف الجاري لهذا العهد بين سكان هذه الأقاليم فلا يدخل فيه إقليم مصر ولا برقة، وإنما يختص بطرابلس وما وراءها إلى جهة المغرب في هذا العرف لهذا العهد. وهذا الّذي كان في القديم ديار البربر ومواطنهم. فأما المغرب الأقصى منه وهو ما بين وادي ملوية من جهة الشرق إلى أسفي حاضرة البحر المحيط وجبال درن من جهة الغرب فهي في الأغلب ديار المصامدة من أهل درن وبرغواطة وغمارة. وآخر غمارة بطوية مما يلي غساسة، ومعهم عوالم من صنهاجة ومضغره [1] وأوربة وغيرهم، يحيط به البحر الكبير من غربية، والرومي من شمالية، والجبال الصاعدة المتكاثفة مثل درن وجانب القبلة وجبال تازا من جهة الشرق، لأن الجبال أكثر: ما هي وأكنف قرب البحار بما اقتضاه التكوين من ممانعة البحار بها. فكانت جبال المغرب لذلك، أكثر ساكنها من المصامدة في الأغلب وقيل من صنهاجة. وبقيت البسائط من الغرب مثل أزغام وتامستا وتادلاود كالة. واعتمرها الظواعن من البربر الطارئين عليه من جشم ورياح مفص المغرب بساكنه من الأمم لا يحصيهم إلا خالقهم، وصار كله جزيرة وبلد واحد أحاطت به الجبال والبحار، وقاعدته لهذا العهد فاس، وهي دار ملكه، ويمر فيه النهر العظيم المعروف بوادي أم ربيع، وهو نهر عظيم يمتنع عبوره أيام الأمطار لاتساعه، ويعظم مدّه إلى البحر فينتهي إلى سبعين ميلا أو ما يقاربها، ومصبه في البحر الكبير عند أزبور. ومنبعه من جبال درن من فوهة كبيرة ينبع منها هذا النهر ويتساهل إلى بسيط المغرب. وينبع منها أيضا نهر آخر، وينحدر إلى القبلة. ويمر ببلاد درعة ذات النخل المخصوصة بنبات النيلج. وصناعة استخراجه، من شجره وهي قصور ذات نخل موضوعة في سفح جبل درن من آخره، وبها يسمى هذا النهر ويجاورها، الى أن يغوص في الرمل قبلة بلاد السوس.
وأما نهر ملوية آخر المغرب الأقصى فهو نهر عظيم منبعه من فوهة في جبال قبلة تازى، ويصب في البحر الرومي عند غساسة. وعليه كانت ديار مكناسة المعروفة بهم في
__________
[1] وفي نسخة أخرى مطغرة: بطن من خريس ينتشر بتلمسان وفاس والصحراء بين تافيلات وتوات، وتكتب أيضا مضغرة ومدغرة. ومنها ميسرة المضغري الّذي أثار معركة طنجة عام 122 هـ/ 738 م.
(الموسوعة الغربية معلمة الصحراء والملحق الأول/ 197- المعجم التاريخي/ 67) .

(6/133)


القديم، ويسكنها لهذا العهد أمم أخرى من زناتة في قصور منتظمة إلى أعلى النهر يعرفون بوطاط [1] ويجاورهم هنالك، وفي سائر نواحيه أمم من البربر أشهر من فيهم بطالسة إخوة مكناسة. وينبع مع هذا النهر من فوهته نهر كبير ينحدر ذاهبا إلى القبلة مشرقا بعض الشيء، ويقطع العرق على سمته إلى أن ينتهي إلى البردة [2] ، ثم بعدها إلى تمطيت، ويسمى لهذا العهد كير وعليه قصورها. ثم يمر إلى أن يصب في القفار ويروغ في قفارها ويغور في رمالها، وهو موضع مقامه قصور ذات نخل تسمى وركلان [3] وفي شرق بوده مما وراء العرق قصور تسابيت من قصور الصحراء. وفي شرقي تسابيت إلى ما يلي الجنوب قصور تيكورارين تنتهي إلى ثلاثمائة أو أكثر في واد واحد، فينحدر من المغرب إلى المشرق، وفيها أمم من قبائل زناتة.
وأما المغرب الأوسط فهو في الأغلب ديار زناتة كان لمغراوة وبني يفرن. وكان معهم مديونة ومغيلة وكومية ومطغرة ومطماطة. ثم صار من بعدهم لبني وماتوا وبني يلومي.
ثم صار لبني عبد الواد وتوجين من بني مادين وقاعدته لهذا العهد تلمسان، وهي دار ملكه ويجاوره من جهة المشرق بلاد صنهاجة من الجزائر ومتيجة والمرية وما يليها إلى بجاية، وقبائله كلهم لهذا العهد مغلوبون للعرب من زغبة. ويمر في وادي شلف بني وأطيل النهر الأعظم منبعه من بلد راشد في بلاد الصحراء. ويدخل إلى التل من بلاد حصين لهذا العهد. ثم يمر مغربا ويجتمع فيه سائر أودية المغرب الأوسط مثل مينا وغيره إلى أن يصب في البحر الرومي ما بين كلمتين [4] ومستغانم. وينبع من فوهته نهر آخر يذهب مشرقا من جبل راشد، ويمر بالزاب إلى أن يصب في سبخة ما بين توزر ونفزاوة معروفة هنالك، ويسمى هذا النهر وادي شدي.
وأما بلاد بجاية وقسنطينة فهي دار زواوة وكتامة ومحيسة [5] وهوارة، وهي اليوم ديار للعرب إلا ممتنع الجبال، وفيها بقاياهم. وأما إفريقية كلها إلى طرابلس فبسائط فتح [6]
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وطاطا.
[2] وفي نسخة أخرى بودة، ولعلها بورة: مدينة على ساحل بحر مصر قرب دمياط، تنسب إليها العمائم البورية والسمك البوري (معجم البلدان) .
[3] وفي النسخة التونسية: ركان.
[4] وفي نسخة أخرى كلميتوا.
[5] وفي نسخة أخرى عجيسة وكذلك في قبائل المغرب/ 302- 336.
[6] وفي نسخة أخرى: فيح.

(6/134)


كانت ديارا لنفزاوة وبني يفرن ونفوسة ومن لا يحصى من قبائل البربر. وكانت قاعدتها القيروان وهي لهذا العهد مجالات للعرب من سليم وبني يفرن وهوارة، ومغلوبون تحت أيديهم. وقد تبدوا معهم ونسوا رطانة الأعاجم، وتكلموا بلغات العرب، وتحلوا بشعارهم في جميع أحوالهم. وقاعدتها لهذا العهد تونس وهي دار ملكها، ويمرّ فيها النهر الأعظم المعروف بوادي مجردة يجتمع فيه سائر الأودية بها، ويصب في البحر الرومي على مرحلة من غربي تونس بموضع يعرف ببنزرت. وأما برقة فدرست معالمها وخربت أمصارها، وانقرض أمرها. وعادت مجالات للعرب بعد أن كانت دارا للواتة وهوارة وغيرهم من البربر. وكانت بها الأمصار المستجرة مثل لبدة وزويلة وبرقة وقصر حسان وأمثالها، فعادت يبابا ومفاوز كان لم تكن والله أعلم.
(الفصل الثالث في ذكر ما كان لهذا الجيل قديما وحديثا من الفضائل الانسانية والخصائص الشريفة الراقية بهم الى مراقي العز ومعارج السلطان والملك)
قد ذكرنا ما كان من أمر هذا الجيل من البربر ووفور عدده وكثرة قبائلهم وأجيالهم، وما سواه من مغالبة الملوك ومزاحمة الدول عدة آلاف من السنين، من لدن حروبهم مع بني إسرائيل بالشام وخروجهم عنه إلى إفريقية والمغرب، وما كان منهم لأول الفتح في محاربة الطوالع من المسلمين أولا، ثم في مشايعتهم ومظاهرتهم على عدوهم ثانيا من المقامات الحميدة والآثار الجميلة. وما كان لوهيا الكاهنة وقومها بجبل أوراس من الملك والعز والكثرة قبل الإسلام وبعده حتى تغلب عليهم العرب، وما كان لمكناسة من مشايعة المسلمين أولا، ثم ردتهم ثانيا، وتحيزهم إلى المغرب الأقصى وفرارهم أمام عقبة بن نافع ثم غلبهم بعد ذلك طوالع هشام بأرض المغرب.
(قال ابن أبي زيد [1] ) : إن البربر ارتدوا بإفريقية المغرب اثنتي عشرة مرة، وزحفوا في كلها للمسلمين، ولم يثبت إسلامهم إلا في أيام موسى بن نصير، وقيل بعدها. وتقدم ذكر ما كان لهم في الصحراء والقفر من البلاد، وما شيدوا من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن أبي يزيد.

(6/135)


الحصون والآطام والأمصار من سجلماسة وقصور توات، وتجورارين وفيجيج ومصاب وواركل وبلاد ريغة والزاب ونفزاوة والحمة وغذامس، ثم ما كان لهم من الأيام والوقائع والدول والممالك. ثم ما كان بينهم وبين طوالع العرب من بني هلال في المائة الخامسة بإفريقية. وما كان لهم مع دولة آل حماد بالقلعة ومع لمتونة بتلمسان وتاهرت من الموالاة والانحراف. وما استولى عليه بنو يادين آخرا باسهام الموحدين وأقطاعهم من بلاد المغرب، وما كان لبني مرين في الاجلاب على عير عبد المؤمن من الآثار، وما تشهد أخباره كلها بأنه جيل عزيز على الأيام وأنهم قوم مرهوب جانبهم شديد بأسهم كثير جمعهم، مظاهرون [1] لأمم العالم وأجياله من العرب والفرس ويونان والروم.
ولكنهم لما أصابهم الفناء وتلاشت عصابتهم بما حصل لهم من ترف الملك والدول التي تكررت فيهم، قلت جموعهم وفنيت عصابتهم وعشائرهم وأصبحوا خولا للدول وعبيدا للجباية. واستنكف كثير من الناس عن النسب فيهم لأجل ذلك، والا فقد كانت أوربة أميرهم كسيلة عند الفتح كما سمعت، وزناتة أيضا حتى أسر أميرهم وزمار بن مولات، وحمل إلى المدينة إلى عثمان بن عفان. ومن بعد ذلك هوارة وصنهاجة وبعدهم كتامة وما أقاموا من الدولة التي ملكوا بها المغرب والمشرق، وزاحموا بني العباس في ديارهم وغير ذلك منهم كثير. وأما تخلقهم بالفضائل الإنسانية وتنافسهم في الخلال الحميدة، وما جبلوا عليه من الخلق الكريم مرقاة الشرف والرفعة بين الأمم ومراعاة المدح والثناء من الخلق من عز الجوار وحماية النزيل، ورعي الأذمة والوسائل والوفاء بالقول والعهد والصبر على المكارم والثبات في الشدائد وحسن الملكة والإغضاء عن العيوب والتجافي عن الانتقام ورحمة المسكين وبر الكبير وتوقير أهل العلم وحمل الكل وكسب المعدوم. وقرى الضيف والإعانة على النوائب وعلو الهمة وإباية الضيم ومشاقة الدول ومقارعة الخطوب وغلاب الملك وبيع النفوس من الله في نصر دينه، فلهم في ذلك آثار نقلها الخلف عن السلف لو كانت مسطورة لحفظ منها ما يكون إسوة لمتبعيه من الأمم، وحسبك ما اكتسبوه من حميدها، واتصفوا به من شريفها أن قادتهم إلى مراقي العز، وأوفت بهم على ثنايا
__________
[1] وفي النسخة التونسية: مضاهون.

(6/136)


الملك حتى علت على الأيدي أيديهم ومضت في الخلق بالقبض والبسط أحكامهم.
وكان مشاهيرهم بذلك من أهل الطبقة الأولى بلكين بن زيري الصنهاجي عامل إفريقية للعبيديين ومحمد بن خزر والخير ابنه، وعروبة بن يوسف الكتامي القائم بدعوة عبد الله الشيعي، ويوسف بن تاشفين ملك لمتونة بالمغرب، وعبد المؤمن بن علي شيخ الموحدين وصاحب الإمام المهدي. وكان عظماؤهم من أهل الطبقة الثانية السابقون إلى الراية بين دولهم والمعاهدون لملكهم بالمغرب الأقصى والأوسط، كبيرهم يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين ويغمراسن بن زيان سلطان بني عبد الواد، ومحمد بن عبد القوي ووزمار كبير بني توجين وثابت بن منديل أمير مغراوة أهل شلف ووزمار بن إبراهيم زعيم بني راشد المتعارضين في أزمانهم المتناغين في تأثيل عزهم والتمهيد لقومهم على شاكلته بقوة جمعه. فكانوا من أرسخهم في تلك الخلال قدما وأطولهم فيها يدا، وأكثرهم لها جمعا، طارت عنهم في ذلك قبل الملك وبعده أخبار عني بنقلها الأثبات من البربر وغيرهم، وبلغت في الصحة والشهرة منتهى التواتر.
وأما إقامتهم لمراسم الشريعة وأخذهم بأحكام الملة ونصرهم لدين الله فقد نقل عنهم من اتخاذ المعلمين كتاب الله [1] لصبيانهم، والاستفتاء في فروض أعيانهم، واقتفاء الأئمة للصلوات في بواديهم، وتدارس القرآن بين أحيائهم وتحكيم حملة الفقه في نوازلهم وقضاياهم، وصاغيتهم إلى أهل الخير والدين من أهل مصرهم للبركة في آثارهم وسؤال الاعداد عن صالحيهم، وإغشائهم البحر أفضل المرابطة والجهاد، وبيعهم النفوس من الله في سبيله وجهاد عدوه ما يدل على رسوخ إيمانهم وصحة معتقداتهم، ومتين ديانتهم التي كانت ملاكا لعزهم ومقادا إلى سلطانهم وملكهم.
وكان المبرز منهم في هذا المنتحل يوسف بن تاشفين وعبد المؤمن بن علي وبنوهم. ثم يعقوب بن عبد الحق من بعدهم وبنوه، فقد كان لهم في الاهتمام بالعلم والجهاد وتشييد المدارس واختطاط الزوايا والربط، وسد الثغور وبذل النفس في ذات الله، وإنفاق الأموال في سبيل الخيرات، ثم مخالطة أهل العلم وترفيع مكانهم في مجالستهم ومفاوضتهم في الاقتداء بالشريعة والانقياد لإشاراتهم في الوقائع والأحكام ومطالعة سير الأنبياء وأخبار الأولياء وقراءتها بين أيديهم من دواوين ملكهم ومجالس أحكامهم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اتخاذ المعلمين الأحكام دين الله.

(6/137)


وقصور عزهم. والتعرض بالمعاقل لسماع شكوى المتظلمين وإنصاف الرعايا من العمال والضرب على يد أهل الجور واتخاذ المساجد بصحن دورهم وشدة خلافهم وملكهم، يعمرونها بالصلوات والتسبيحات والقراء المرتبين لتلاوة كتاب الله أحزابا بالعشي والإشراق على الأيام، وتحصين ثغور المسلمين بالبنيان المشيد والكتائب المجهزة، وإنفاق الأموال العريضة، شهدت لهم بذلك آثار تخلفوها بعدهم.
وأما وقوع الخوارق فيهم وظهور الكاملين في النوع الإنساني من أشخاصهم، فقد كان فيهم من الأولياء المحدثين أهل النفوس القدسية والعلوم الموهوبة ومن حملة العلم عن التابعين ومن بعدهم من الأئمة والكهان المفطورين على المطلع للأسرار المغيبة. ومن الغرائب التي خرقت العادة وأوضحت أدلة القدرة ما يدل على عظيم عناية الله بذلك الجيل وكرامته لهم، بما آتاهم من جماع الخير وآثرهم به من مذاهب الكمال، وجمع لهم من متفرق خواص الإنسان، ينقل ذلك في أخبار توهم عجائب، فكان من مشاهير حملة العلم فيهم سعيد بن واسول جد بني مدرار ملوك سجلماسة، أدرك التابعين وأخذ عن عكرمة مولى العباس، ذكره عريب بن حميد في تاريخه. ومنهم أبو يزيد مخلد بن كيداد اليفرني صاحب الحمار، الخارج على الشيعة سنة اثنتين وثلاثمائة الدائن بدين الخارجية. أخذ العلم بتوزر عن مشيختها، ورأس في الفتيا وقرأ مذاهب الإضافية من الخوارج، وصدق فيه. ثم لقي عمارا الأعمى الصفري النكار. فتلقن عنه من مذاهبهم ما انسلخ من آية السعادة بانتحاله. وهو مع ذلك من الشهرة في هذا الجيل بحيث لا يغفل.
ومنهم منذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة من ظواعن ولهاصة، ثم من سوماتة منهم، مولده عام عشرة وثلاثمائة ووفاته عام ثلاثة وثمانين وثلاثمائة. كان من البتر من ولد مادغيس هلك على عهد عبد الرحمن الناصر. ومنهم أيضا أبو محمد بن أبي زيد علم الملة وهو من نفزة أيضا. ومنهم علماء بالنسب والتاريخ وغير ذلك من فنون العلوم.
ومن مشاهير زناتة أيضا موسى بن صالح الغمري، معروف عند كافتهم معرفة وضوح وشهرة، وقد ذكرناه عند ذكر غمرة من شعوب زناتة. وهو وإن لم توقفنا الأخبار الصحيحة على الجلي من أمره في دينه، فهو من محاسن هذا الجيل الشاهدة بوجود الخواص الإنسانية فيهم من ولاية وكهانة وعلم وسحر، كل نوع من آثار الخليقة.

(6/138)


ولقد تحدث أهل هذا الجيل فيما يتحدثون به أن أخت يعلى بن محمد اليفرني جاءت بولد من غير أب سموه كلمام. ويذكر له أخبار في الشجاعة خرقت العوائد ودلت على أنه موهبة من الله استأثره بها، لم يشاركه فيها غيره من أهل جلدته. وربما ضاقت حوامل الخواص منهم عن ملتقط هذه الكائنة، ويجهلون ما يتسع لها ولأمثالها من نطاق القدرة، وينقلون أن حملها كان أثر استحمامها في عين حامية هنالك غب ما صدر عنها بعض السباع، كانت ترد فيها على الناس، ويردون عليها ويرون أنها علقت من فضل ولوغه، ويسمون ذلك المولود ابن الأسد لظهور خلعة الشجاعة فيه. وكثير من أمثال هذه الأخبار التي لو انصرفت إليها عناية الناقلين لملأت الدواوين. ولم يزل هذا دأبهم وحالهم إلى أن مهدوا من الدول وأثلوا من الملك ما نحن في سبيل ذكره.
(الفصل الرابع في ذكر أخبارهم على الجملة من قبل الفتح الإسلامي ومن بعده الى ولاية بني الأغلب)
هؤلاء البربر جيل وشعوب وقبائل أكثر من أن تحصى حسبما هو معروف في تاريخ الفتح بإفريقية والمغرب. وفي أخبار ردتهم وحروبهم فيها. نقل ابن أبي الرقيق أن موسى ابن نصير لما فتح سقوما [1] كتب إلى الوليد بن عبد الملك أنه صار لك من سبي سقوما مائة ألف رأس. فكتب إليه الوليد بن عبد الملك ويحك إني أظنها من بعض كذباتك، فإن كنت صادقا فهذا محشر الأمة، ولم تزل بلاد المغرب إلى طرابلس بل وإلى الإسكندرية عامرة بهذا الجيل ما بين البحر الرومي وبلاد السودان منذ أزمنة لا يعرف أولها ولا ما قبلها. وكان دينهم دين المجوسية شأن الأعاجم كلهم بالمشرق والمغرب إلا في بعض الأحايين يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم. فإن الأمم أهل الدول العظيمة كانوا يتغلبون عليهم، فقد غزتهم ملوك اليمن من قرارهم مرارا على ما ذكر مؤرخوهم، فاستكانوا لغلبهم ودانوا بدينهم.
ذكر ابن الكلبي أن حمير أبا لقبائل اليمانية، ملك المغرب مائة سنة وأنه الّذي ابتني
__________
[1] وفي النسخة التونسية: سقيوما.

(6/139)


مدائنه مثل إفريقية وصقلّيّة واتفق المؤرخون على غزو أفريقش بن صيفي من التبابعة إلى المغرب كما ذكرنا في أخبار الروم، واختطوا بسبب البحر وما يليه من الأرياف مدنا عظيمة الخطة وثيقة المباني شهيرة الذكر باقية المعالم والآثار لهذا العهد مثل:
سبيطلة وجلولاء ومزناق وطاقة وزانة وغيرها من المدن التي خربها المسلمون من العرب لأول الفتح عند استيلائهم عليها. وقد كانوا دانوا العهد هم بما تعبدوهم به من دين النصرانية، وأعطوهم المهادنة وأدوا إليهم الجباية طواعية.
وكان للبربر في الضواحي وراء ملك الأمصار المرهوبة الحامية ما شاء من قوة وعدة وعدد وملوك ورؤساء وأقيال. وأمراؤها لا يرامون بذل، ولا ينالهم الروم والإفرنج في ضواحيهم تلك بمسخطة الإساءة، وقد صبحهم الإسلام وهم في مملكة قد استولوا على رومة. وكانوا يؤدون الجباية لهرقل ملك القسطنطينية كما كان المقوقس صاحب الإسكندرية وبرقة ومصر يؤدون الجباية له، وكما كان صاحب طرابلس ولبدة وصبرة وصاحب صقلّيّة وصاحب الأندلس من الغوط لما كان الروم غلبوا على هؤلاء الأمم أجمع. وعنهم كلهم أخذوا دين النصرانية، فكان الفرنجة هم الذين ولوا أمر إفريقية ولم يكن للروم فيها شيء من ولاية. وإنما كان كل من كان منهم بها جندا للإفرنج ومن حشودهم. وما يسمع في كتب الفتح من ذكر الروم في فتح إفريقية فمن باب التغليب، لأن العرب يومئذ لم يكونوا يعرفون الفرنج، وما قاتلوا في الشام إلا الروم، فظنوا أنهم هم الغالبون على أمم النصرانية. فإن هرقل هو ملك النصرانية كلها فغلبوا اسم الروم على جميع أمم النصرانية.
ونقلت الأخبار عن العرب كما هي فجرجير المقتول عند الفتح من الفرنج وليس من الروم، وكذا الأمة الذين كانوا بإفريقية غالبين على البربر ونازلين بمدنها وحصونها، إنما كانوا من الفرنجة. وكذلك ربما كان بعض هؤلاء البربر دانوا بدين اليهودية أخذوه عن بني إسرائيل عند استفحال ملكهم، لقرب الشام وسلطانه منهم كما كان جراءة أهل جبل أوراس قبيلة الكاهنة مقتولة العرب لأول الفتح، وكما كانت نفوسة من برابر إفريقية قندلاوة ومدينونة وبهلولة وغياتة وبنو بازاز [1] من برابرة المغرب الأقصى حتى محا إدريس الأكبر الناجم بالمغرب من بني حسن بن الحسن جميع ما كان في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بنو فازان.

(6/140)


نواحيه من بقايا الأديان والملل، فكان البربر بإفريقية والمغرب قبل الإسلام تحت ملك الفرنج، وعلى دين النصرانية الّذي اجتمعوا عليه مع الروم كما ذكرناه حتى إذا كان الفتح وزحف المسلمون إلى إفريقية زمان عمر رضي الله عنه سنة تسع وعشرين، وغلبهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤيّ، فجمع لهم جرير [1] ملك الفرنجة يومئذ بإفريقية من كان بأمصارها من الفرنج والروم، ومن بضواحيها من جموع البربر وملوكهم.
وكان ملك ما بين طرابلس وطنجة، وكانت دار ملكه سبيطلة فلقوا المسلمين في زهاء مائة وعشرين ألفا، والمسلمون يومئذ في عشرين ألفا، فكان من هزيمة العرب لهم وفتحهم لسبيطلة وتخريبهم إياها وقتلهم جرجير ملكهم. وما نفلهم الله من أموالهم وبناتهم التي اختصت منهن ابنته بقاتله عبد الله بن الزبير لعهد المسلمين له بذلك بعد الهزيمة، وخلوصه بخبر الفتح إلى الخليفة والملأ من المسلمين بالمدينة ما هو كله مذكور مشهور. ثم أرزي الفرنجة ومن معهم من الروم بعد الهزيمة، وخلوصه بخبر الفتح إلى حصون إفريقية، وانساح المسلمون في البسائط بالغارات، ووقع بينهم وبين البربر أهل الضواحي زحوف وقتل وسبي، حتى لقد حصل في أسرهم يومئذ من ملوكهم وزمار بن صقلاب [2] جد بني خزر، وهو يومئذ أمير مغراوة وسائر زناتة، ورفعوه إلى عثمان بن عفان فأسلم على يده، ومن عليه وأطلقه، وعقد له على قومه.
ويقال إنما وصله وافدا، وحصن المسلمين عليهم ولاذ الفرنج بالسلم وشرطوا لابن أبي سرح ثلاثمائة قنطار من الذهب على أن يرحل عنهم بالعرب، ويخرج بهم من بلادهم ففعل. ورجع المسلمون إلى المشرق وشغلوا بما كان من الفتن الإسلامية. ثم كان الاجتماع والاتفاق على معاوية بن أبي سفيان، وبعث معاوية بن خديج السكونيّ من مصر لافتتاح إفريقية سنة خمس وأربعين. وبعث ملك الروم من القسطنطينية عساكره لمدافعتهم في البحر فلم تغن شيئا وهزمهم العرب ساحل أجم.
وحاصروا جلولاء وفتحوها، وقفل معاوية بن خديج إلى مصر فولى معاوية بن أبي سفيان على إفريقية بعده عقبة بن نافع، فاختط القيروان وافترق أمر الفرنجة وصاروا
__________
[1] لعله جرجير كما سيرد بعد قليل.
[2] وفي النسخة الباريسية: صولات بن وزمار (كتاب قبائل المغرب/ 369.

(6/141)


إلى الحصون وبقي البربر بضواحيهم إلى أن ولي يزيد بن معاوية وولى على إفريقية أبا المهاجر مولى [1] وكانت رياسة البربر يومئذ في أوربة لكسيلة بن لمزم، وهو رأس البرانس، ومرادفه سكرديد بن رومي بن مازرت من أوربة، وكان على دين النصرانية فأسلما الأول الفتح. ثم ارتدا عند ولاية أبي المهاجر واجتمع إليهما البرانس، وزحف إليهم أبو المهاجر حتى نزل عيون تلمسان فهزمهم وظفر بكسيلة فأسلم واستبقاه. ثم جاء عقبة بعد أبي المهاجر فنكبه غيظا على صحابته لأبي المهاجر. ثم استفتح حصون الفرنجة مثل ماغانة [2] ولميس، ولقيه ملوك البربر بالزاب وتاهرت فغضهم جمعا بعد جمع، ودخل المغرب الأقصى، وأطاعته غمارة، وأميرهم يومئذ بليان. ثم أجاز إلى وليلى ثم إلى جبال درن، وقتل المصامدة، وكانت بينهم وبينه حروب، وحاصروه بجبال درن. ونهضت إليهم جموع زناتة وكانوا خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة فأفرجت المصامدة عن عقبة، وأثخن فيهم حتى حملهم على طاعة الإسلام، ودوخ بلادهم. ثم أجاز إلى بلاد السوس لقتال من بها من صنهاجة أهل اللثام وهم يومئذ على دين المجوسية، ولم يدينوا بالنصرانية، فأثخن فيهم وانتهى إلى تارودانت وهزم جموع البربر، وقاتل مسوفة من وراء السوس، وساسهم وقفل راجعا. وكسيلة أثناء هذا كله في اعتقاله لجمعه معه في عسكره سائر غزواته.
فلما قفل من السوس سرح العساكر إلى القيروان حتى بقي في خف من الجنود. وتراسل كسيلة وقومه، فأرسلوا له شهودا وانتهزوا الفرصة فيه وقتلوه ومن معه وملك كسيلة إفريقية خمس سنين ونزل القيروان وأعطى الأمان لمن بقي بها ممن تخلف من العرب أهل الذراري والأثقال، وعظم سلطانه على البربر.
وزحف قيس بن زهير البلوي في ولاية عبد الملك للثأر بدم عقبة سنة سبع وستين، وجمع له كسيلة سائر البربر، ولقيه بجيش من نواحي القيروان فاشتد القتال بين الفريقين ثم انهزم البربر وقتل كسيلة ومن لا يحصى منهم. وأتبعهم العرب إلى محنة [3] ثم إلى ملوية وفي هذه الواقعة ذل البربر وفنيت فرسانهم ورجالهم وخضت شوكتهم واضمحل أمر الفرنجة فلم يعد، وخاف البربر من زهير ومن العرب خوفا شديدا فلجئوا
__________
[1] هكذا بالأصل وفي النسخة التونسية: مولى (فلان) .
[2] وفي نسخة أخرى: باغاية.
[3] وفي نسخة أخرى: مر محنة. وفي النسخة التونسية مر مجنة.

(6/142)


إلى القلاع والحصون. ثم ترهب زهير بعدها وقفل إلى المشرق فاستشهد ببرقة كما ذكرناه. واضطرمت إفريقية نارا وافترق أمر البربر وتعدد سلطانهم في رؤسائهم. وكان من أعظمهم شأنا يومئذ الكاهنة دهيا بنت ماتية [1] بن تيفان ملكة جبل أوراس وقومها من جراوة ملوك البتر، وزعمائهم فبعث عبد الملك إلى حسان بن النعمان الغساني عامله على مصر ان يخرج إلى جهاد إفريقية، وبعث إليه بالمدد، فزحف إليها سنة تسع وسبعين ودخل القيروان وغزا قرطاجنة وافتتحها عنوة، وذهب من كان بقي بها من الإفرنجة إلى صقلّيّة وإلى الأندلس.
ثم سأل عن أعظم ملوك البربر فدلوه على الكاهنة وقومها جراوة فمضى إليها حتى نزل وادي مسكيانة. وزحفت إليه فاقتتلوا قتالا شديدا. ثم انهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير وأسر خالد بن يزيد القيسي. ولم تزل الكاهنة والبربر في اتباع حسان والعرب حتى أخرجوهم من عمل قابس، ولحق حسان بعمل طرابلس. ولقيه كتاب عبد الملك بالمقام فأقام وبنى قصوره وتعرف لهذا العهد به. ثم رجعت الكاهنة إلى مكانها واتخذت عهدا عند أسيرها خالد بالرضاع مع ابنتها [2] . وأقامت في سلطان إفريقية والبربر خمس سنين. ثم بعث عبد الملك إلى حسان بالمدد، فرجع إلى إفريقية سنة أربع وسبعين، وخربت الكاهنة جميع المدن والضياع، وكانت من طرابلس إلى طنجة ظلا واحدا في قرى متصلة.
وشق ذلك على البربر فاستأمنوا لحسان فأمنهم ووجد السبيل إلى تفريق أمرها، وزحف إليها وهي في جموعها من البربر فانهزموا، وقتلت الكاهنة بمكان السر المعروف بها لهذا العهد بجبل أوراس. واستأمن إليه البربر على الإسلام والطاعة وعلى أن يكون منهم اثنا عشر ألفا مجاهدين معه، فأجابوا وأسلموا وحسن إسلامهم، وعقد للأكبر من ولد الكاهنة على قومهم من جراوة [3] وعلى جبل أوراس فقالوا: لزمنا الطاعة له سبقناها إليها وبايعناه عليها [4] . وأشارت عليهم بذلك لإثارة من علم كانت لديها بذلك من شياطينها وانصرف حسان إلى القيروان فدون الدواوين وصالح من
__________
[1] وفي النسخة التونسية: ثابتة.
[2] وفي نسخة أخرى: ابنيها.
[3] وفي النسخة التونسية: هوارة وبعض الأحيان جراوة.
[4] وفي النسخة التونسية: لطاعة سبقا بها إليه بإيعاز أمهما واشارتها عليهما.

(6/143)


التقى بيده إلى البربر على الخراج. وكتب الخراج على عجم إفريقية ومن أقام معهم على النصرانية من البربر والبرانس. واختلفت أيدي البربر فيما بينهم على إفريقية والمغرب فخلت أكثر البلاد، وقدم موسى بن نصير إلى القيروان واليا على إفريقية. ورأى ما فيها من الخلاف، وكان ينقل العجم من الأقاصي إلى الأداني وأثخن في البربر.
ودوخ المغرب وأدّى إليه البربر الطاعة. وولي على طنجة طارق بن زياد، وأنزل معه سبعة وعشرين ألفا من العرب واثني عشر ألفا من البربر، وأمرهم أن يعلموا البربر القرآن والفقه. ثم أسلم بقية البربر على يد إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر سنة إحدى ومائة.
وذكر أبو محمد بن أبي زيد: إن البربر ارتدوا اثنتي عشرة مرة من طرابلس إلى طنجة، ولم يستقر إسلامهم حتى أجاز طارق وموسى بن نصير إلى الأندلس بعد أن دوخ المغرب وأجاز معه كثير من رجالات البربر أمرائهم برسم الجهاد. فاستقروا هنالك من لدن الفتح، فحينئذ استقر الإسلام بالمغرب وأذعن البربر لحكمه، ورسخت فيهم كلمة الإسلام وتناسوا الردة. ثم نبضت فيهم عروق الخارجية فدانوا بها، ولقنوها من العرب الناقلة ممن سمعها بالعراق. وتعددت طوائفهم وتشعبت طرقها، من الإباضية والصفرية كما ذكرنا في أخبار الخوارج.
وفشت هذه البدعة وعقدها رءوس النفاق من العرب وجرت إليهم الفتنة من البربر ذريعة إلى الانتزاء على الأمر فاختلوا [1] في كل جهة، ودعوا إلى قائدهم طغام البربر تتلون عليهم مذاهب كفرها، ويلبسون الحق بالباطل فيها إلى أن رسخت فيهم عروق من غرائسها. ثم تطاول البربر إلى الفتك بأمراء العرب، فقتلوا يزيد بن أبي مسلم سنة اثنتين ومائة لما نقموا عليه في بعض الفعلات. ثم انتقض البربر بعد ذلك سنة اثنتين وعشرين ومائة في ولاية عبد الله بن الحجاب أيام هشام بن عبد الملك لما أوطأ عساكره بلاد السوس، وأثخن في البربر وسبى وغنم. وانتهى إلى مسوفة فقتل وسبى وداخل البربر منه رعب وبلغه أن البربر أحسوا بأنهم فيء للمسلمين فانتقضوا عليه.
وثار ميسرة المطغتي [2] بطنجة على عمرو بن عبد الله فقتله وبايع لعبد الأعلى بن جريج
__________
[1] وفي النسخة التونسية: فأجلبوا.
[2] وفي نسخة أخرى: ميسرة المطغري وفي كتاب قبائل الغرب ص 382: ميسرة المدغري.

(6/144)


الإفريقي روميّ الأصل ومولى العرب، كان مقدم الصفرية من الخوارج في انتحال مذهبهم، فقام بأمرهم مدة وبايع ميسرة لنفسه بالخلافة داعيا إلى نحلته من الخارجية على مذهب الصفرية. ثم ساءت سيرته فنقم عليه البربر ما جاء به فقتلوه وقدموا على أنفسهم خالد بن حميد الزناتي.
(قال ابن عبد الحكم) هو من هتورة إحدى بطون زناتة فقام بأمرهم، وزحف إلى العرب وسرح إليهم عبد الله بن الحجاب العساكر في مقدمته ومعهم خالد بن أبي حبيب فالتقوا بوادي شلف، وانهزم العرب وقتل خالد بن أبي حبيب ومن معه وسميت وقعة الأسراب وانتقضت البلاد ومرج أمر الناس، وبلغ الخبر هشام بن عبد الملك فعزل ابن حجاب وولى كلثوم بن عياض القشيري سنة ثلاث وعشرين وسرحه في اثني عشر ألفا من أهل الشام. وكتب إلى ثغور مصر وبرقة وطرابلس أن يمدوه، فخرج إلى إفريقية والمغرب حتى بلغ وادي طنجة وهو وادي سبس فزحف إليه خالد ابن حميد الزناتي فيمن معه من البربر، وكانوا خلقا لا يحصى. ولقوا كلثوم بن عياض من بعد أن هزموا مقدمته فاشتد القتال بينهم، وقتل كلثوم وأضرمت العساكر فمضى أهل الشام إلى الأندلس مع فلح بن بشر القشيري ومضى أهل مصر وإفريقية إلى القيروان.
وبلغ الخبر إلى هشام بن عبد الملك فبعث حنظلة بن سفيان الكلبي فقدم القيروان سنة أربع وعشرين وأربعمائة [1] وهوارة يومئذ خوارج على الدولة، منهم عكاشة بن أيوب وعبد الواحد بن يزيد في قومهما، فثارت هوارة ومن تبعهم من البربر فهزمهم حنظلة بن المعز بظاهر القيروان بعد قتال شديد. وقتل عبد الواحد الهواري وأخذ عكاشة أسيرا، وأحصيت القتلى في هذه الوقيعة فكانوا مائة وثمانين ألفا. وكتب بذلك حنظلة إلى هشام وسمعها الليث بن سعد فقال: ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة بدر أحب إلى من غزوة القرن والأصنام.
ثم خفت صوت الخلافة بالمشرق والتاث أمرها لما كان من بني أمية من الفتنة، وما كان من أمر الشيعة والخوارج مع مروان. وأقضى الأمر إلى الإدالة ببني العباس من بني أمية وأجاز البحر عبد الرحمن بن حبيب من الأندلس إلى إفريقية فملكها وغلب
__________
[1] الصحيح سنة اربع وعشرين ومائة وهذا الخطأ راجع في الأغلب الى الناسخ.

(6/145)


حنظلة عليها سنة ست وعشرين ومائة فعادت هيف إلى أديانها، واستشرى داء البربر وأعضل أمر الخارجية ورءوسها، فانتقضوا من أطراف البقاع، وتواثبوا على الأمر بكل ما كان داعين إلى بدعتهم. وتولى كبر ذلك يومئذ صنهاجة، وتغلب أميرهم ثابت بن وزيدون وقومه على باجة، وثار معه عبد الله بن سكرديد من أمرائهم فيمن تبعه.
وثار بطرابلس عبد الجبار والحرث من هوارة، وكانا يدينان برأي الإباضية فقتلوا عامل طرابلس بكر بن عيسى القيسي لما خرج إليهم يدعوهم إلى الصلح، وبقي الأمر على ذلك مدة، وثار إسماعيل بن زياد في قتل البربر. وأثخن فيهم وزحف إلى تلمسان سنة خمس وثلاثين ومائة فظفر بها ودوخ المغرب وأذل من كان فيه من البربر. ثم كانت بعد ذلك فتنة وربجومة [1] وسائر قبائل نفزاوة سنة أربعين ومائة، وذلك لما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر وقتله أخواه إلياس وعبد الوارث، فولي مكانه ابنه حبيب، وطالبهما بثأر أبيه فقتل إلياس ولحق عبد الوارث بوربجومة فأجاره أميرهم عاصم بن جميل، وتبعه على شأنه يزيد بن سكوم أمير ولهاصة واجتمعت لهم كلمة نفزاوة ودعوا لأبي جعفر المنصور، وزحفوا إلى القيروان ودخلوها عنوة، وفر حبيب بن قابس فأتبعه عاصم في نفزاوة وقبائلهم.
وولي على القيروان عبد الملك بن أبي الجعد النغزي، ثم انهزم حبيب إلى أوراس، واتبعه عاصم، فاعترضه عبد الملك بن أبي الجعد وجموع نفزاوة الذين كانوا بالقيروان وقتلوه واستولت وربجومة على القيروان وسائر إفريقية، وقتلوا من كان بها من قريش وربطوا دوابهم بالمسجد الجامع، واشتد البلاء على أهل القيروان وأنكرت ذلك من فعل وربجومة ومن إليهم من نفزاوة برابرة طرابلس الإباضية من هوارة وزنانة فخرجوا واجتمعوا إلى أبي الخطاب عليها واجتمع إليه سائر البربر الذين كانوا هنالك من زناتة وهوارة وزحف بهم إلى القيروان فقتل عبد الملك بن أبي الجعد وسائر وربجومة ونفزاوة، واستولى على القيروان سنة إحدى وأربعين ومائة ثم ولي على القيروان عبد الرحمن بن رستم وهو من أبناء رستم أمير فارس بالقادسية، كان من موالي العرب ومن رءوس هذه البدعة. ورجع أبو الخطاب إلى طرابلس واضطرم المغرب نارا،
__________
[1] وفي النسخة التونسية: ورفجومة وقد مرت معنا من قبل.

(6/146)


وانتزى خوارج البربر على الجهات فملكوها، واجتمعت الصفرية من مكناسة بناحية المغرب منه أربعين ومائة، وقدموا عليهم عيسى بن يزيد الأسود، وأسسوا مدينة سجلماسة ونزلوها، وقدم محمد بن الأشعث واليا على إفريقية من أبي جعفر المنصور فزحف إليه أبو الخطاب ولقيه بسرت، فهزموا ابن الأشعث وقتل البربر ببلاد ريفا [1] وفر عبد الرحمن بن رستم من القيروان إلى تاهرت بالمغرب الأوسط، واجتمعت إليه طوائف البربر الإباضية من لماية ولواتة ورجالة ونفزاوة فنزل بها، واختط مدينتها سنة أربع وأربعين ومائة وضبط ابن الأشعث إفريقية وخافه البربر.
ثم انتقل بنو يفرن من زناتة ومغيلة من البربر بنواحي تلمسان، وقدموا على أنفسهم أبا قرة من بني يفرن، ويقال إنه من مغيلة وهو الأصح في شأنه، وبويع له بالخلافة سنة ثمان وأربعين ومائة. وزحف إليه الأغلب بن سود التميمي عامل طبنة، فلما قرب منه هرب أبو قرة، فنزل الأغلب الزاب. ثم اعتزم على تلمسان ثم طنجة، ورجع إليه الجند فرجع. ثم انتقض البربر من بعد ذلك أيام عمرو بن حفص من ولد قبيصة ابن أبي صفرة أخي المهلب. وكان تغلب هوارة منذ سنة إحدى وخمسين ومائة [2] واجتمعوا بطرابلس، وقدموا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب بن مرين [3] بن تطوفت من أمراء مغيلة، ويسمى أبا قادم. وزحفت إليهم جنود عمر بن حفص فهزموها وملكوا طرابلس، وزحفوا إلى القيروان فحاصروها. ثم زحف البرابرة من الجانب الآخر بجنود عمر بطبنة في اثني عشر معسكرا. وكان منهم أبو قرة في أربعين ألفا من الصفرية وعبد الرحمن بن رستم في ستة آلاف من الإباضية، والمسور بن هانئ في عشرة آلاف كذلك، وجرير بن مسعود فيمن تبعه من مديونة، وعبد الملك ابن سكرديد الصنهاجي في ألفين منهم من الصفرية. واشتد الحصار على عمر بن حفص فأعمل الحيلة في الخلاف بين جماعتهم. وكان بنو يفرن من زناتة أكثر البرابرة يومئذ جمعا، وأشدّهم قوة، فصالح أبو قرة زعيمهم على أربعين ألفا وأعطى ابنه في إتمام ذلك أربعة آلاف، وافترقوا وارتحلوا عن طبنة. ثم بعث بعثا إلى ابن رستم فهزمه، ودخل تاهرت مفلولا، وزحف عمر بن حفص إلى أبي حاتم والبربر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وقتل البربر قتلا ذريعا.
[2] وفي نسخة أخرى: وكان يلقب هزارمرد سنة احدى وخمسين.
[3] وفي نسخة أخرى: مدين.

(6/147)


الإباضية الذين معه. ونهضوا إليه فخالفهم إلى القيروان، وشحنها بالأقوات والرجال.
ثم لقي أبا حاتم والبربر وهزموه، ورجع إلى القيروان وحاصروه. وكانوا في ثلاثمائة وخمسين ألفا، الخيل منها خمسة وثلاثون ألفا، وكانوا كلهم إباضية. وطال الحصار وقتل عمر بن حفص في بعض أيامه سنة أربع وخمسين ومائة. وصالح أهل القيروان أبا حاتم على ما أحب وارتحل. وقدم يزيد بن قبيصة بن المهلب سنة أربع وخمسين ومائة واليا على إفريقية، فزحف إليه أبو حاتم بعد أن خالف عليه عمر بن عثمان الفهري، وافترق أمرهم فلقيه يزيد بن حاتم بطرابلس فقتل أبو حاتم، وانهزم البربر ولحق عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن من أصحاب أبي حاتم بكتامة وبعث المخارق بن غفار الطائي فحاصره ثمانية أشهر. ثم غلب عليه فقتله ومن كان معه من البربر، وهربوا إلى كل ناحية. وكانت حروبهم مع الجند من لدن قتل عمر بن حفص بطبنة إلى انقضاء ثلاثمائة وخمسة وسبعين حربا.
وقدم يزيد إفريقية فزال فسادها ورتب القيروان، ولم تزل البلاد هادئة، وانتقض ورفجومة سنة سبع وخمسين ومائة وولوا عليهم رجلا منهم اسمه أبو زرجونة، فسرح إليهم يزيد من عشيرة ابن محراة المهلبي فهزموه. واستأذنه ابنه المهلب وكان على الزاب وطبنة وكتامة في الزحف إلى ورفجومة فأذن له، وأمده بالعلاء بن سعيد ابن مروان المهلبي من عشيرتهم أيضا، فأوقع بهم وقتلهم أبرح قتل. وانتقض نفزاوة من بعد ذلك في سلطنة ابنه داود من بعد مهلكه سنة إحدى وستين ومائة، وولوا عليهم صالح بن نصير النفزي ودعوا إلى رأيهم رأي الإباضية، فسرح إليهم ابن عمه سليمان بن الصمّة في عشرة آلاف فهزمهم وقتل البربر أبرح قتل. ثم تحيز إلى صالح بن نصير، ولم يشهد الاولى من البربر الإباضية واجتمعوا بشقبنارية فهزمهم إليها سليمان ثانية وانصرف إلى القيروان.
وركدت ريح الخوارج من البربر من إفريقية، وتداعت بدعتهم إلى الاضمحلال، ورغب عبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت سنة إحدى وسبعين ومائة في موادعة صاحب القيروان روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب، فوادعه وانحصدت شوكة البربر واستكانوا للغلب وأطاعوا للدين، فضرب الإسلام بجرانه، وألقت الدولة الضريبة على البربر بكلكلها، وتقلد إبراهيم بن الأغلب التميمي أمر إفريقية والمغرب من قبل

(6/148)


الرشيد هارون سنة خمس وثمانين ومائة فاضطلع بأمر هذه الولاية، وأحسن السيرة وقوّم القتاد ورأب الصدع وجمع الكلمة. ورضيت الكافة واستقل بولايتها غير منازع ولا متشوه، وتوارثها بنوه خالفا عن سالف.
وكانت لهم بإفريقية والمغرب الدولة التي ذكرناها من قبل إلى أن انقرض أمر العرب بإفريقية على زيادة الله عاقبتهم الفارّ إلى المشرق أمام كتامة سنة ست وتسعين ومائتين كما نذكره. وخرج كتامة على بني الأغلب بدعوة الرافضية. قام فيهم أبو عبد الله المحتسب الشيعي داعية عبيد الله المهدي، فكان ذلك آخر عهد بالملك والدولة بإفريقية. واستقل كتامة بالأمر من يومئذ، ثم من بعدهم من برابرة المغرب. وذهبت ريح العرب ودولتهم من المغرب وإفريقية، فلم يكن لهم بعد دولة إلى هذا العهد.
وصار الملك للبربر وقبائلهم يتداولونه طائفة بعد أخرى وجيلا بعد آخر، تارة يدعون إلى الأمويين الخلفاء بالأندلس، وتارة إلى الهاشميين من بني العباس وبني الحسن.
ثم استقلوا بالدعوة لأنفسهم آخرا حسبما نذكر ذلك كله مفصلا عند ما يعرض لنا من ذكر دول زناتة والبربر الذين نحن في سياقة أخبارهم.
(البرابرة البتر) (الخبر عن البرابرة البتر وشعوبهم ونبدأ منهم أولا بذكر نفوسة وتصاريف أحوالهم)
كان مادغيس الأبتر جد البرابرة البتر، وكان ابنه زحيك ومنه تشعبت بطونهم. فكان له من الولد فيما يذكر نسابة البربر أربعة. نفوس وأداس وضرا ولوا، فأما أداس فصار في هوارة لما يقال إن هوارة خلف أباه زحيك على أمه قبل فصاله فانتسب إليه واختلط بولده، واندرجت بطون أداس في هوارة كما ذكرناه. وأما ضرا ولوا فسنأتي بذكر بطونهم واحدا واحدا. وأما نفوس فهم بطن واحد تنسب إليه نفوسة كلها. وكانوا من أوسع قبائل البربر فيهم شعوب كثيرة مثل بني زمور وبني مكسور [1] وماطوسة.
وكانت مواطن جمهورهم بجهات طرابلس وما إليها، وهناك الجبل المعروف بهم.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: مسكور وكذلك في قبائل المغرب/ 308.

(6/149)


وهم على ثلاثة مراحل من قبلة طرابلس يسكنه اليوم بقاياهم. وكانت مدينة صبرة قبل الفتح في مواطنهم، وتعزى إليهم، وهي كانت باكورة الفتح لأول الإسلام، وخرب المغرب بعد استيلائهم عليها فلم يبق منهم إلا الأطلال ورسوم خافية. وكان من رجالاتهم إسماعيل بن زياد المتغلب على قابس سنة اثنتين وثلاثين ومائة لأول الدولة العباسية. ومنهم لهذا العهد أوزاع متفرقون في الأقطار بعمالات مصر والمغرب، والله وارث الأرض ومن عليها، وأمالوا فمن ولده نفزاوة ولواتة كما نذكر.
(الخبر عن نفزاوة وبطونهم وتصاريف أحوالهم)
وهم بنو تطوفت بن نفزاو بن لوا الأكبر بن زحيك، وبطونهم كثيرة مثل غساسة ومرنيسة وزهيلة وسوماتة وزاتيمة وولهاصة ومجره وورسيف، ومن بطونهم مكلاتة.
ويقال إن مكلاتة من عرب اليمن وقع إلى تطوفت صغيرا فتبناه، وليس من البربر.
ولمكلاتة بطون متعددة مثل بني ورياغل وكزناية وبني يصلتن وبني ديمان ورمحوق وبني يزناسن [1] ويقال إن غساسة منهم، هكذا عند نسابة البربر مثل سابق المطماطي وغيره ومن بطون ولهاصة ورتدين بن داحية بن ولهاصة وورفجومة بن نيرغاس بن ولهاص.
ومن بطون ورفجومة زكوله رجالة لذكاك بن ورفجوم إلى بطون أخرى كثيرة.
وكان ورفجومة هؤلاء أوسم بطون نفزاوة وأشدهم بأسا وقوة. ولما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر المنصور وقتله أخواه عبد الوارث وإلياس وطالبهما ابنه حبيب بالثأر فلحق عبد الوارث بورفجومة، ونزل على أميرهم عاصم بن جميل بأوراس، وكان كاهنا فأجاره وقام بدعوة أبي جعفر المنصور، واجتمعت إليه نفزاوة، وكان من رجالاتهم عبد الملك بن أبي الجعد ويزيد بن سكوم وكانوا يدينون بدين الإباضية من الخوارج، وزحفوا إلى القيروان سنة أربعين ومائة. وفر عنها حبيب بن عبد الرحمن، ودخلها عبد الملك بن أبي الجعد وقتل حبيبا. واستولت نفزاوة على القيروان وقتلوا من كان بها من قريش وسائر العرب، وربطوا دوابهم بالمسجد، وعظمت حوادثهم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بني يصلتن وبني ديمار وريحون وبني سراين.

(6/150)


ونكر ذلك عليهم الاباضية من برابرة طرابلس وتولى كبرها زناتة وهوارة فاجتمعوا إلى الخطاب بن السمح ورجالات العرب، واستولوا على طرابلس ثم على القيروان سنة إحدى وأربعين ومائة وقتلوا عبد الملك بن أبي الجعد وأثخنوا في قومه من نفزاوة وورفجومة، ورجعوا إلى طرابلس بعد أن استعمل أبو الخطاب على القيروان عبد الرحمن بن رستم. واضطرم المغرب نارا وعظمت فتنة ورفجومة هؤلاء إلى أن قدم محمد بن الأشعث سنة ست وأربعين ومائة من قبل المنصور فأثخن في البربر وأطفأ نار هذه الفتنة كما قدمناه. ولما اختط عمر بن حفص مدينة طبنة سنة إحدى وخمسين ومائة أنزل ورفجومة هؤلاء بها بما كانوا شيعا له، وعظم غناؤهم فيها عند ما حاصره بها ابن رستم وبنو يفرن.
ثم انتقضوا بعد مهلك عمر على يزيد بن حاتم عند قدومه على إفريقية سنة سبع وخمسين ومائة وولوا عليهم أبا زرجونة منهم، وسرح إليهم يزيد العساكر مع ابنه وقومه فأثخنوا فيهم. ثم انتقضت نفزاوة على أبيه داود، ودعوا إلى دين الاباضية، وولوا عليهم صالح بن نصر منهم فرجعت العساكر إليهم متراسلة وقتلوهم أبرح قتل.
وعليها كان ركود ريح الخوارج بإفريقية وأذعار البربر. وافترق بنو ورفجوم بعد ذلك وانقرض أمرهم وصاروا أوزاعا في القبائل. وكان رجالة منهم بطنا متسعا. وكان منهم رجالات مذكورون في أول العبيديين وبني أمية بالأندلس منهم الرجالي أحد الكتاب بقرطبة، وبقي منهم لهذا العهد فرق بمرماجنّة. وهناك قرية ببسيطها تنسب إليهم.
وأما سائر ولهاصة من ورفجومة وغيرهم فهم لهذا العهد أوزاع لذلك، أشهرهم قبيلة بساحل تلمسان اندرجوا في كومية وعدوا منهم بالنسب والخلط. وكان منهم في أواسط هذه المائة الثامنة ابن عبد المكلف [1] استقل برياستهم وتملك بدعوى السلطان بعد استيلاء بني عبد الواد على تلمسان ونواحيها، وتغلب على سلطانهم لذلك العهد كما نذكره عثمان بن عبد الرحمن وسجنه بالمطبق بتلمسان ثم قتله. ومن أشهر قبائل ولهاصة أيضا قبيلة أخرى ببسيط بونة يركبون الخيل ويأخذون بمذاهب العرب في زيهم ولغتهم وسائر شعارهم كما هو شأن هوارة. وهم في عداد القبائل الغارمة ورياستهم في بني عريف منهم، وهي لهذا العهد في ولد حازم بن شداد بن حزام بن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عبد الملك.

(6/151)


نصر بن مالك بن عريف. وكانت قبلهم لعسكر بن بطنان منهم، هذه أخبار ولهاصة فيما علمناه.
(وأما نهاية بطون نفزاوة) فمنهم زاتيمة، وبقية منهم لهذا العهد بساحل برشك، ومنهم غساسة، وبقية منهم لهذا العهد بساحل بوطة [1] حيث القرية التي هناك حاضرة البحر، ومرسى لأساطيل المغرب، وهي مشهورة باسمهم. وأما زهيلة فبقيتهم لهذا العهد بنواحي بادس مندرجون في غمارة وكان منهم لعهد مشيختنا أبو يعقوب البادسي أكبر الأولياء، وآخرهم بالمغرب. وأما مرنيسة فلا يعلم لهم موطن، ومن أعقابهم أوزاع بين أحياء العرب بإفريقية، وأما سوماتة فمنهم بقية فمن نواحي القيروان، كان منهم منذر بن سعيد القاضي بقرطبة لعهد الناصر والله أعلم.
وأما بقايا بطون نفزاوة فلا يعرف لهم لهذا العهد حيّ ولا موطن إلا القرى الظاهرة المقدرة السير المنسوبة إليهم ببلاد قسطيلة، وبها معاهدون من الفرنجة أوطنوهم على الجزية واعتقاد الذمة عند عهد الفتح، وأعقابهم بها لهذا العهد، وقد نزل معهم كثير من بني سليم من الشريد وزغبة، وأوطنوها وتملكوا بها القفار والضياع. وكان أمر هذه القرى راجعا إلى عامل توزر أيام استبداد الخلافة. فلما تقلص ظل الدولة عنهم، وحدثت العصبة في الأمصار استبدت كل قرية بأمرها وصار مقدم توزر يحاول دخولهم في إيالته فمنهم من يعطيه ذلك ومنهم من يأباه حتى أظلتهم دولة مولانا السلطان أبي العباس، وأدرجوا كلهم في طاعته واندرجوا في حبله، والله ولي الأمور لا رب غيره أهـ.
(الخبر عن لواتة من البرابرة البتر وتصاريف أحوالهم)
وهو بطن عظيم متسع من بطون البربر البتر ينتسبون إلى لوا الأصغر بن لوا الأكبر بن زحيك، ولوا الأصغر هو نفزا وكما قلناه. ولوا اسم أبيهم، والبربر إذا أرادوا العموم في الجمع زادوا الألف والتاء فصار لوات، فلما عرّبته العرب حملوه على الإفراد وألحقوا به هاء الجمع. وذكر ابن حزم أن نسابة البربر يزعمون أن سدراتة ولواتة ومزاتة من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بطوية- قبائل المغرب/ 307

(6/152)


القبط وليس ذلك بصحيح. وابن حزم لم يطلع على كتب علماء البربر في ذلك. وفي لواتة بطون كثيرة وفيهم قبائل كثيرة مثل سدراتة بن نيطط بن لوا، ومثل عزوزة بن ماصلت بن لوا. وعد سابق وأصحابه في بني ماصلت بطونا أخرى غير عزوزة وهم:
أكورة وجرمانة ونقاعة [1] مثل بني زائد بن لوا، وأكثر بطونهم مزاتة. ونسابة البربر يعدون في مزاتة بطونا كثيرة مثل: ملايان ومرنه ومحيحه [2] ودكمه وحمره ومدونه.
وكان لواتة هؤلاء ظواعن في مواطنهم بنواحي برقة كما ذكر المسعودي، وكان لهم في فتنة أبي يزيد آثار.
وكان منهم بجبل أوراس أمة عظيمة ظاهروا أبا يزيد مع بني كملان على أمره. ولم يزالوا بأوراس لهذا العهد مع من به من قبائل هوارة وكتامة، ويدهم العالية عليهم تناهز خيالتهم ألفا وتجاوز رجالاتهم العدة. وتستكفي بهم الدولة في جباية من تحت أيديهم بجبل أوراس من القبائل الغارمة فيحسنون الغناء والكفاية. وكانت البعوث مضروبة عليهم ينفرون بها في معسكر السلطان. فلما تقلص ظلّ الدولة عنهم صار بنو سعادة منهم في أقطاع أولاد محمد من الزواودة [3] فاستعملوهم في مثل ما كانت الدولة تستعملهم فيه، فأصاروهم خولا للجباية وعسكرا للاستنفار وأصبحوا من جملة رعاياهم. وقد كان بقي جانب منهم لم تستوفه الإقطاعات، وهم بنو زنجان وبنو باديس فاستضافهم منصور بن مزني إلى عمله. فلما استبد مزني عن الدولة واستقلوا بالزاب صاروا يبعدونهم بالجبلية بعض السنين ويعسكرون عليهم لذلك بأفاريق الأعراب، وهم لهذا العهد معتصمون بجبلهم لا يجاوزونه إلى البسيط خوفا من عادية الأعراب.
ولبني باديس منهم أتاوات على بلد نقاوس المحيطة في فسيح [4] الجبل بما تغلبوا على ضواحيها. فإذا انحدر الأعراب إلى مشاتيهم اقتضوا منها أتاواتهم وخفارتهم. وإذا أقبلوا إلى مصايفهم رجع لواتة إلى معاقلهم الممتنعة على الأعراب. وكان من لواتة هؤلاء أمّة عظيمة بضواحي تاهرت إلى ناحية القبلة، وكانوا ظواعن هنالك على
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مغانة.
[2] وفي نسخة أخرى: بلايان وقرنة ومجيجة.
[3] وفي نسخة أخرى: الدواودة.
[4] وفي نسخة أخرى: المختطة في سفح أجبل.

(6/153)


وادي ميناس ما بين جبل يعود من جهة الشرق وإلى وارصلف من جهة الغرب. يقال إن بعض أمراء القيروان نقلهم معه في غزوة وأنزلهم هنالك. وكان كبيرهم أورغ بن علي بن هشام قائدا لعبد الله الشيعي.
ولما انتقض حميد بن مصل [1] صاحب تاهرت على المنصور ثالث خلفاء الشيعة ظاهروه على خلافه، وجاوروه في مذاهب ضلاله إلى أن غلبه المنصور. وأجاز حميد إلى الأندلس سنة ست وثلاثين ومائة وزحف المنصور يريد لواتة فهربوا أمامه إلى الرمال وهرب عنهم ونزل إلى وادي ميناس ثم انصرف إلى القيروان.
(وذكر) ابن الرقيق أن المنصور وقف هنالك على أثر من آثار الأقدمين بالقصور التي على الجبال الثلاثة مبنية بالحجر المنحوت، يبدو للناظر على البعد كأنها أسنمة قبور، ورأى كتابا في حجر فسره له أبو سليمان السردغوس: خالف أهل هذا البلد على الملك فأخرجني إليهم، ففتح لي عليهم، وبنيت هذا البناء لأذكر به، وهكذا ذكر ابن الرقيق، وكان بنو وجديجى [2] من قبائل زناتة بمواطنهم من منداس جيرانا للواتة هؤلاء، والتخم بينهما وادي ميناس وتاهرت. وحدثت بينهما فتنة بسبب امرأة أنكحها بنو وجديجي في لواتة فعيروا بالفقر، فكتبت بذلك إلى قومها ورئيسهم يومئذ غسان [3] فتذامروا واستمدوا من وراءهم من زناتة فأمدوهم بعلي بن محمد اليفرني.
وزحفت مطماطة من الجانب الآخر في مظاهرتهم وعليهم غزانة أميرهم، وزحفوا جميعا إلى لواتة، فكانت بينهم وقائع وحروب هلك في بعضها علاق، وأزاحوا عن الجانب الغربي السرسو، وألجئوهم إلى الجبل الّذي في قبلة تاهرت، المسمى لهذا العهد كركيرة، وكان به قوم من مغراوة فغدروا بهم، وتظاهروا جميعا عليهم إلى أن أخرجوهم عن آخر مواطنهم في جهة الشرق بجبل يعود فنزلوا من وراء الجبل المسمى لهذا العهد دارك. وانتشرت عمائرها بتلوله وما وراءه إلى الجبال المطلة على متيجة، وهم لهذا العهد في عداد القبائل الغارمة. وجبل دارك في أقطاع ولد يعقوب بن موسى مشيخة العطاف من ورغة ولواتة أيضا بطون بالجبل المعروفة بهم قبلة قابس وصفاقس ومنهم بنو مكي رؤساء قابس لهذا العهد. ومنهم أيضا بواحات مصر فيما
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حميد بن يصل وفي قبائل المغرب ص 120: حميد بن يصلتين.
[2] وفي نسخة أخرى: بنو وجديجن.
[3] وفي نسخة أخرى: عنان.

(6/154)


ذكره المسعودي أمة عظيمة بالجيزة التي بينها وبين مصر. وكان لما قرب من هذه القصور شيخهم هنالك بدر بن سالم، وانتقض على الترك وسرحوا إليه العساكر فاستلحموا كثيرا من قومه، وفر إلى ناحية برقة وهو الآن في جوار العرب بها. ومن زناتة هؤلاء أحياء بنواحي تادلا قرب مراكش من الغرب الأقصى، ولهم هنالك كثرة. ويزعم كثير من الناس أنهم بنواحي جابر من عرب جشم، واختلطوا بهم وصاروا في عدادهم، ومنهم أوزاع مفترقون بمصر وقرى الصعيد شاوية وفلاحين، ومنهم أيضا بضواحي بجاية قبيلة يعرفون بلواتة، ينزلون بسيط تاكرارت من أعمالها ويعتمرونها، فدنا لمزارعهم ومسارح لأنعامهم ومشيختهم لهذا العهد في ولد راجح بن صواب منهم، وعليهم للسلطان جباية مفروضة وبعث مضروب. هؤلاء المعروفون من بطون لواتة ولهم شعوب أخرى كثيرة اندرجوا في البطون وتوزعوا بين القبائل، والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن بني فاتن من ضريسة إحدى بطون البرابرة البتر وتصاريف أحوالهم)
وهم بطون مضغرة [1] ولماية وصدينة وكومية ومديونة ومغيلة ومطماطة وملزوزة ومكناسة ودونة، وكلهم من ولد فاتن بن تمصيب بن حريس [2] بن زحيك بن مادغيس الأبتر، ولهم ظهور من البرابر وأخبار، نسردها بطنا بطنا إلى آخرها. مضغرة: وهم من أوفر هذه الشعوب. وكانوا خصاصين آهلين. وكان جمهورهم بالمغرب منذ عهد الإسلام نشبوا في نشر الردة وضروبها [3] . وكان لهم فيها مقامات. ولما استوسق الإسلام في البربر أجازوا إلى فتح الأندلس وأجازت منهم أمم واستقروا هنالك. ولما سرى دين الخارجية أجازوا إلى فتح الأندلس وأجازت منهم أمم واستقرّوا هنالك.
ولما سرى دين الخارجية في البربر أخذ مضغرة هؤلاء برأي الصفرية، وكان شيخهم ميسرة، ويعرف بالجفير مقدما فيه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مطغرة. وقد مرت معنا من قبل وتكتب على الوجهين.
[2] وفي نسخة أخرى: تمصيت بن ضريس.
[3] وفي نسخة أخرى: ونوبة الفتح وشئون الردّة وحروبها.

(6/155)


ولما ولى عبيد الله بن الحبحاب على إفريقية من قبل هشام بن عبد الملك، وأمره أن يمضي إليها من مصر، فقدمها سنة أربع عشرة ومائة واستعمل عمر بن عبد الله المرادي على طنجة والمغرب الأقصى وابنه إسماعيل على السوس وما وراءه. واتصل أمر ولائهم وساءت سيرتهم في البربر ونقموا عليهم أحوالهم، وما كانوا يطالبونهم به من الوصائف البربريات والأردية [1] العسلية الألوان، وأنواع طرف المغرب، فكانوا يتغالبون في جمعهم ذلك وانتحالة. حتى كانت الصرمة من الغنم تهلك بالذبح لاتخاذ الجلود العسلية من سخالها، ولا يوجد فيها مع ذلك إلا الواحد وما قرب منه.
فكثر عيثهم بذلك في أموال البربر وجورهم عليهم، وامتعض لذلك ميسرة الحسن [2] زعيم مضغرة الحسن وحمل البرابرة على الفتك بعمر بن عبد الله عامل طنجة فقتلوه سنة خمس وعشرين [3] ومائة وولى ميسرة مكانه عبد الأعلى بن خديم [4] الإفريقي الرومي الأصل، كان من موالي العرب وأهل خارجيتهم، وكان يرى رأي الصفرية، فولاه ميسرة على طنجة، وتقدم إلى السوس فقتله عامله إسماعيل بن عبد الله، واضطرم المغرب نارا وانتقض أمره على خلفاء المشرق فلم يراجع طاعتهم بعد.
وزحف بعض الحجاب إليه من القيروان في العساكر على مقدمة خالد بن أبي حبيب الفهري، فلقيهم ميسرة في جموع البرابرة فهزم المقدمة واستلحمهم، وقتل خالد.
وتسامع البربر بالأندلس بهذا الخبر فثاروا يعاملهم عقبة بن الحجاج السلولي وعزلوه، وولوا عبد الملك بن قطن الفهري، وبلغ الخبر بذلك إلى هشام بن عبد الملك فسرح كلثوم بن عياض المري في اثني عشر الفا من جنود الشام، وولاه على إفريقية وأدال به من عبيد الله بن الحبحاب (القسم الثاني المجلد السادس) وزحف كلثوم إلى البرابرة سنة ثلاث وعشرين ومائة حتى انتهت مقدمته الى اسبو من أعمال طنجة فلقيه البرابرة هنالك مع ميسرة وقد فحصوا عن أوساط رءوسهم ونادوا بشعار الخارجية فهزموا مقدمته ثم هزموه وقتلوه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الأفرية.
[2] وفي نسخة أخرى: ميسرة الحفيد وقد ذكر من قبل الحفير.
[3] وفي النسخة التونسية: سنة اثنتين وعشرين.
[4] وفي نسخة أخرى: عبد الأعلى بن خدع.

(6/156)


وكان كيدهم في لقائهم إياه، وملئوا الشنان بالحجارة وربطوها بأذناب الخيل تنادي بها فتقعقع الحجارة في شنانها، وسرّبت [1] بمصاف العساكر من العرب فنفرت خيولهم واختل مصافهم وانجرب عليهم الهزيمة فافترقوا، وذهب بلج [2] مع الطلائع من أهل الشام إلى سبتة كما ذكرناه في أخبارهم. ورجع إلى القيروان أهل مصر وإفريقية، وظهرت الخوارج في كل جهة، واقتطع المغرب عن طاعة الخلفاء إلى أن هلك ميسرة، وقام برياسة مضغرة من بعده يحيى بن حارث منهم، وكان خلفا لمحمد بن خزر ومغراوة. ثم كان من بعد ذلك ظهور إدريس بالمغرب، فقدم بها البرابرة وتولى كبرها أوربة منهم كما ذكرناه. وكان على مضغرة يومئذ شيخهم بهلول بن عبد الواحد، فانحرف مالك عن إدريس إلى طاعة هارون الرشيد بمداخله إبراهيم بن الأغلب عامل القيروان، فصالحه إدريس وأنبأه بالسلم.
ثم ركد ريح مضغرة من بعد ذلك وافترق جمعهم، وجرت الدول عليهم أذيالها واندرجوا في عمال البربر الغارمين لهذا العهد بتلول المغرب وصحرائه. فمنهم ما بين فاس وتلمسان أمم يتصلون بكومية ويدخلون حلفهم، واندرجوا من لدن الدعوة الموحدية منهم ورياستهم لولد خليفة. كان شيخهم على عهد الموحدين، وبنى لهم حصنا بمواطنهم على ساحل البحر سمى تاونت. ولما انصرفت دولة بني عبد المؤمن واستولى بنو مرين على المغرب قام هارون بن موسى بن خليفة بدعوة يعقوب بن عبد الحق سلطانهم، وتغلّب على ندرومة، وزحف إليه يغمراسن بن زيان فاسترجع ندرومة من يده، وغلبه على تاونت. ثم زحف يعقوب بن عبد الحق إليهم وأخذها من أيديهم وشحنها بالأقوات، واستعمل هارون ورجع إلى المغرب فحدث هارون نفسه بالاستبداد، فدعا لنفسه معتصما بذلك الحصن خمس سنين.
ثم صاهره يغمراسن واستنزله على صلح سنة اثنتين وسبعين وستمائة. ولحق هارون بيعقوب بن عبد الحق. ثم أجاز إلى الجهاد بإذنه واستشهد هنالك. وقام بأمر مضغرة من بعده أخوه تاشفين إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعمائة. واتصلت رياستهم على عقبه لهذا العهد. ومن قبائل مضغرة أمة بجبل قبلة فاس معروف بهم. ومنهم أيضا قبائل كثيرون بنواحي سجلماسة وأكثر أهلها منهم. وربما حدثت بها عصبية من جراهم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ومرّت.
[2] هو بلج بن بشر العبسيّ.

(6/157)


ومن قبائل مضغرة أيضا بصحراء المغرب كثيرون نزلوا بقصورها واغترسوا شجرة النخل على طريقة العرب، فمنهم بتوات قبلة سجلماسة إلى تمنطيت آخر عملها، قوم كثيرون موطنون مع غيرهم من أصناف البربر.
ومنهم في قبلة تلمسان وعلى ستة مراحل منها، وهي قصور متقاربة بعضها من بعض ائتلف منها مصر كبير مستبحر بالعمران البدوي، معدود في آحاد الأمصار بالصحراء، ضاح من ظلّ الملك والدول لبعده في القفر. ورياسته في بني سيد الملك منهم. وفي شرقيها وعلى مراحل منها قرى أخرى متتابعة على سمتها متصاعدة قليلا إلى الجوف، آخرها على مرحلة من قبلة جبل راشد. وهي في مجالات بني عامر من زغبة وأوطانهم من القفر، وقد تملكوها لحظ أبنائهم [1] وقضاء حاجاتهم حتى نسبت إليهم في الشهرة. وفي جهة الشرق على هذه القصور وعلى خمس مراحل منها دامعة متوغلة في القفر تعرف بقليعة. الآن يعتمرها رهط من مضغرة هؤلاء. وينتهي إليها ظواعن عن الملثمين من أهل الصحراء بعض السنين إذا لفحهم الهجير، يستبردون في تلولها لتوغلها في ناحيتهم. ومن مضغرة هؤلاء أوزاع في أعمال المغرب الأوسط وإفريقية وللَّه الخلق جميعا.
(لماية) وهم بطون [2] كما ذكرناه أخوه مضغرة، ولهم بطون كثير عدّ منها سابق وأصحابه بنو زكرمار [3] ومزيزة ومليزة بنو مدنيين [4] كلهم من لماية. وكانوا ظواعن بإفريقية والمغرب، وكان جمهورهم بالمغرب الأوسط موطنين بسحومة مما يلي الصحراء. ولما سرى دين الخارجية في البربر أخذوا برأي الاباضية ودانوا به وانتحلوه وانتحله جيرانهم من مواطنهم تلك من لواتة وهوارة. وكانوا بأرض السرسو قبلة منداس وزواغة وكانوا في ناحية الغرب عنهم. وكانت مطماطة ومكناسة وزناتة جميعا في ناحية الجوف والشرق، فكانوا جميعا على دين الخارجية، وعلى رأي الاباضية منهم. وكان عبد الرحمن بن رستم من مسلمة الفتح، وهو من ولد رستم أمير الفرس بالقادسية، وقدم إلى إفريقية مع طوالع الفتح فكان بها. وأخذ بدين الخارجية
__________
[1] وفي نسخة أخرى: لحطّ أثقالهم.
[2] بياض بالأصل وفي النسخة التونسية: بطون فاتن بن تمزيت. وفي نسخة أخرى: تمصيت.
[3] وفي نسخة أخرى: بنو زكوفا.
[4] وفي النسخة الباريسية: بنو مدين.

(6/158)


والاباضية منهم. وكان صنيعة للمتة وحليفا لهم [1] .
ولما تحزب الاباضية بناحية طرابلس منكرين على ورفجومة فعلهم في القيروان كما مر، واجتمعوا إلى ابن الخطاب عبد الأعلى بن السمح المغافري إمام الاباضية فملكوا طرابلس، ثم ملكوا القيروان، وقتل واليها من ورفجومة عبد الملك بن أبي الجعد، وأثخنوا في ورفجومة وسائر مغراوة [2] سنة إحدى وأربعين ومائة ورجع أبو الخطاب والاباضية الذين معه من زناتة وهوارة وغيرهم بعد ان استخلف على القيروان عبد الرحمن بن رستم. وبلغ الخبر بفتنة ورفجومة هذه واضطراب الخوارج من البربر بإفريقية والمغرب وتسلقهم على الكرسي للإمارة بالقيروان إلى المنصور أبي جعفر فسرح محمد بن الأشعث الخزاعي في العساكر إلى إفريقية، وقلده حرب الخوارج بها، فقدمها سنة أربع وأربعين ومائة ولقيهم أبو الخطاب في جموعه قريبا من طرابلس فأوقع به ابن الأشعث وبقومه. وقتل أبو الخطاب وطار الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن رستم بمكان إمارته في القيروان، فاحتمل أهله وولده ولحق باباضية المغرب الأوسط من البرابرة الذين ذكرناهم، ونزل على لماية لقديم حلف بينه وبينهم، فاجتمعوا إليه وبايعوا له بالخلافة. وائتمروا في بناء مدينة ينصبون بها كرسي لإمارتهم، فشرعوا في بناء مدينة تاهرت في سفح جبل كزول السياح على تلول منداس، واختطوها على وادي ميناس النابعة منه عيون بالقبلة، وتمر بها وبالبطحاء إلى أن تصب في وادي شلف. فأسسها عبد الرحمن بن رستم واختطها سنة أربع وأربعين ومائة فتمدّنت واتسعت خطتها إلى أن هلك عبد الرحمن، وولي ابنه عبد الوهاب من بعده، وكان رأس الاباضية.
وزحف سنة ست وسبعين ومائة مع هوارة إلى طرابلس وبها عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب من قبل أبيه فحاصره في جموع الاباضية من البربر إلى أن هلك إبراهيم بن الأغلب واستقدم عبد الله بن الأغلب لإمارته بالقيروان، فصالح عبد الوهاب على أن تكون الصباحية لهم وانصرف الى مقوسة ولحق عبد الله بالقيروان، وولّى عبد الوهاب ابنه ميمونا، وكان رأس الأباضيّة والصفريّة والواصليّة. وانصرف إلى مقوسة والصفريّة والواصليّة. وكان يسلم عليه بالخلافة، وكان أتباعه من الواصلية وحدهم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وكان شيعة لليمنية وحليفا لهم.
[2] وفي نسخة أخرى: نفزاوة.

(6/159)


ثلاثين ألفا ظواعن ساكنين بالخيام. ولم يزل الملك في بني رستم هؤلاء بتاهرت وحازتهم جيرانهم من مغراوة وبني يفرن على الدخول في طاعة الأدارسة لما ملكوا تلمسان. وأخذت بها زناتة من لدن ثلاث وسبعين ومائة فامتنعوا عليهم سائر أيامهم، إلى أن كان استيلاء أبي عبد الله الشيعي على إفريقية والمغرب سنة ست وسبعين ومائة فغلبهم على مدينة تاهرت وابتزهم ملكهم بها.
وبثّ دعوة عبد الله في أقطار المغربين، فانقرض أمرهم بظهور هذه الدولة وعهد عروبة بن يوسف الكتامي فاتح المغرب للشيعة على تاهرت لأبي حميد دوّاس بن صولان الهيصيّ فغدا إلى المغرب سنة ثمان وتسعين ومائة فأمحى في مؤامرتها الاباضية من لماية وازداجة ولواتة ومكناسة ومطماطة، وحملهم على دين الرافضة وشيخ [1] بها دين الخارجية حتى استحكم في عقائدهم. ثم وليها أيام إسماعيل المنصور ابن صلاص بن حبوس [2] . ثم نزع إلى دعوة الأموية وراء البحر، ولحق بالخير بن محمد بن خزر صاحب دعوتهم في زناتة. واستعمل المنصور بعده على تاهرت ميسورا الحصني [3] مولاه وأحمد بن الزجالي من صنائعه، فزحف إليها حميد والخير وانهزم ميسور.
واقتحموا تاهرت عنده وتعصّبوا على أحمد الزجالي وميسور إلى أن أطلقوهما بعد حين.
ولم تزل تاهرت هذه بعد لأعمال الشيعة وصنهاجة سائر أيامهم، وتغلّب عليها زناتة مرارا ونازلها عسكر بني أمية راجعة في أثر زيري بن عطية أمير المغرب من مغراوة أيام أجاز المظفر بن أبي عامر من العدوة إلى حربه. ولم يزل الشأن هذا إلى أن انقرض أمر تلك الدول، وصار أمر المغرب الى لمتونة. ثم صار إلى دولة الموحدين من بعدهم، وملكوا المغربين. وخرج عليهم بنو غانية بناحية قابس، ولم يزل يجيء منهم جلب على ثغور الموحّدين وشنّ الغارات على بسائط إفريقية والمغرب الأوسط. وتكرر دخوله إليها عنوة مرّة بعد أخرى إلى أن احتمل سكانها وخلا جوّها وعفا رسمها لما يناهز عشرون من المائة السابعة، والأرض للَّه.
(وأما قبائل لماية) فانقرضوا وهلكوا بهلاك مصرهم الّذي اختطوه وحازوه وملكوه سنّة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فسخ.
[2] وفي نسخة أخرى: إسماعيل المنصور بصلاصن بن حبوس.
[3] وفي نسخة أخرى: الخصيّ.

(6/160)


الله في عباده. وبقيت فرق منهم أوزاعا في القبائل، ومنهم جربة الذين سميت بهم الجزيرة البحرية تجاه ساحل قابس، وهم بها لهذا العهد. وقد كان النصرانية من أهل صقلّيّة ملكوها على من بها من المسلمين، وهي قبائل لماية وكتامة مثل: جربة وسدويكش ووضعوا عليهم الجزية وشيّدوا على ساحل البحر بها معقلا كافيا لإمارتهم سمّوه القشتيل. وطال تمرّس العساكر به من حضرة الدولة الحفصية بتونس حتى كان افتتاحها أعوام ثمان وثلاثين من المائة الثامنة في دولة مولانا السلطان أبي بكر، وعلى يد مخلوف بن الكماد من صنائعه. واستقرت بها الدعوة الإسلامية إلى هذا العهد. إلا أن القبائل الذين بها من البربر لم يزالوا يدينون لدين الخارجيّة ويتدارسون مذاهبهم مجلدات تشتمل على تآليف لأئمتهم في قواعد ديانتهم وأصول عقائدهم وفروع مذاهبهم يتناقلونها ويعكفون على دراستها وقراءتها والله خلقكم وما تعملون.
(مطماطة) وهم إخوة مضغرة ولماية من ولد فاتن بن تمصيت الذين مرّ ذكرهم، وهم شعوب كثيرة. وعن سابق المطماطي وأصحابه من النسابة أن اسم مطماط مصكاب، ومطماط لقب له وأن شعوبهم من لوا بن مطماط وأنه كان له ولد آخر اسمه ورنشيط، ولم يذكروا له عقبا قالوا: وكان للوا أربعة من الولد: ورماس ومبلاغر ووريكول ويليص [1] . ولم يعقب يليص وأعقب الثلاثة الباقون، ومنهم افترقت شعوب مطماطة كلّها، فأما ورماس فمنه مصمود ويونس ويفرين، وأما وريكول فكان له من الولد كلدام وسيده وقيدر [2] ولم يعقب سيده ولا قيدر وكان لكلدام عصفراص وسليايان فمن سليايان وريغني ووصدى وقسطايان وعمرو ويقال لهؤلاء الخمسة بنو وصطلودة سمّوا بأمهم. وكان لعصفراص زهاص ونهراص [3] فمن عصفراص ورهل وحامد وسكوم [4] ، ويقال لهم بنو تليكشان [5] سمّوا بأمهم وكان من زهاص بلست وبصلاتين فمن بلست ورسقلاسن وسكر ومحمد ومكريل ودكوال [6] . ومن يصلاسن بان يولى وسمساسن ومسامر وملوسن ويحمد ونافع وعبد الله
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ورماكسن ويلاغف ووريكول ويليصن.
[2] وفي نسخة أخرى: كلثام ومسيده وفيدن.
[3] وفي نسخة أخرى: وكان لعصفراصن يرهاض ويصراصن.
[4] وفي نسخة أخرى: فمن يصراصن ورتجين ووريكول وجليدا وسكوم.
[5] وفي نسخة أخرى: تليفكتان.
[6] وفي نسخة أخرى: وكان ليزهاض بليث ويصلاسن فمن بليث ورسفلاسن وسكن ومحمد ومكديل ودكوال.

(6/161)


وعردابين [1] وأما يلاغف بن لوا بن مطماط فكان له من الولد دحيا وتاينة فمن تاينة ماحرسكن وريغ وعجلان ومقام وقرة [2] . وكان لدحيا ورتجى ومحديل. فمن ورتجى مغرين وبور ورسيكم وممجيس. ومن محديل ماكور وأشكول وكفلان ومذكور وفطارة وأبورة [3] . هذه شعوب مطماطة كما ذكر نسّابة البربر سابق وأصحابه، وهم مفرقون في المواطن، فمنهم من نواحي فاس من قبلتها في جبل هنالك معروف بهم ما بين فاس وصفروى، ومنهم بجهات قابس والبلد المختط على العين الحامية من جهة غربها، منسوب إليهم. ولهذا العهد يقال حمة مطماطة، ويأتي ذكرها في الدولة الحفصيّة وممالك إفريقية وبقاياهم أوزاع من القبائل، وكانت مواطن جمهورهم بتلول منداس عند جبل وانشريس وجبل كزول من نواحي تاهرت. وكان لهم بتلك المواطن عزم بدولة صنهاجة واستفحال وصولة. وفي فتنة حمّاد بن بلكّين مع باديس المنصور مقامات وآثار. وكان كبيرهم يومئذ عزانة، وكانت له مع البرابرة المجاورين له من لواتة وغيرهم حروب وأيام.
(ولما هلك) عزانة قام بأمره في مطماطة ابنه زيري فمكث فيهم أياما. ثم غلبت صنهاجة على أمره فأجاز البحر إلى العدوة، ونزل على المنصور بن أبي عامر فاصطنعه ونظمه في طبقة الأمراء من البربر الذين كانوا في جملته، واستظهره على أمره فكان من أوجه رجالهم عنده، وأعظمهم قدرا لديه، إلى أن هلك، وأجراه ابنه المظفّر من بعده وأخوه عبد الرحمن الناصر على سنن أبيهما في ترفيع مكانه وإخلاص ولايته، وكان عند ثورة محمد بن هشام بن عبد الجبّار غائبا مع أبي عامر في أعراب النعمان مع من كان معه من أمراء البربر وعرفائهم. فلما رأوا انتقاض أمره وسوء تدبيره لحقوا بمحمد بن هشام المهدي فكانوا معه إلى أن كانت الفتنة البربرية بالأندلس إلى أن هلك هنالك. ولا أدري أي السنين كان مهلكه. وأجاز إلى الأندلس أيضا من فصالهم بهلا بهلا من أبي لواي يصلاص [4] ونزل على الناصر، وهو من أهل العلم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ومن يصلاسن: فان يولين ويتماسن وماركسن ومسافر وفلوسن وربجيد ونافع وعبد الله وغرزاي.
[2] وفي نسخة أخرى: وكان له من الولد دهيا وثابتة فمن ثابتة ماجرسن وريغ وعجلان ويغام وقرة.
[3] وفي نسخة أخرى: وكان لدهيا ورتجى ومجلين. فمن ورتجى مقرين وثور وسكم وعمجميس. ومن مجلين ماكور وأشكول وكيلان ومذكون وقطارة وأبورة.
[4] وفي نسخة أخرى: وأجاز إلى الأندلس أيضا من رجالاتهم كهلان بن أبي لوا بن يصلاصن.

(6/162)


بأنساب البربر. (وكان من مشاهيرهم) أيضا النسّابة سابق بن سليمان بن حرّاث بن مولات بن دوياسر [1] وهو كبير نسّابة البربر ممن علمناه. (وكان منهم) أيضا عبد الله بن إدريس كاتب الخراج لعبيد الله المهدي في آخرين يطول ذكرهم أهـ.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: دوفاس.

(6/163)


وهذا ما تلقيناه من أخبار مطماطة (وأما موطن منداس) فزعم بعض الأخباريّين من البربر ووقفت على كتابه في ذلك أنه سمّي بمنداس بن مغر بن أوريغ بن لهرر بن المساو وهو هوارة [1] وكأنه والله أعلم يشير إلى أداس بن زحيك الّذي يقال إنه ربيب هوّار كما يأتي في ذكرهم، إلا أنه اختلط عليه الأمر. وكان لمنداس من الولد شراوة وكلتوم وتبكم [2] . قال: ولما استفحل أمر مطماطة وكان شيخهم لهذا العهد إهاص ابن عصفراص فأخرج منداس من الوطن وغلبه على أمره، واعتمر بنوه موطن منداس ولم يزالوا به أهـ. كلامه ولقيه هؤلاء القوم لهذا العهد بجبل أوتبتيش [3] ، لحقوا به لما غلبهم بنو توجين من زناتة على منداس وصاروا في عداد قبائل الغارمة.
والله وارث الأرض ومن عليها.
(مغيلة) وهم إخوة مطماطة ولماية كما قلناه، وإخوتهم ملزوزة معدودون منهم.
وكذلك دونة وكشاتة ولهم افتراق في الوطن. وكان منهم جمهوران: أحدهما بالمغرب الأوسط عند مصب شلف في البحر من صوادر مادونه [4] ، المصر لهذا العهد. ومن ساحلهم أجاز عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ونزل بالمنكب فكان منهم أبو قرة المغيلي الدائن بدين الصّفريّة من الخوارج ملك أربعين سنة. وكانت بينه وبين أمراء العرب بالقيروان لأول دولة بني العبّاس حروب ونازل طبنة. وقد قيل إن أبا قرة هذا من بني مطماطة وهذا عندي صحيح. فلذلك أخّرت ذكر أخباره إلى أخبار بني يفرن من زناتة.
(وكان) منهم أيضا أبو حسان ثار بإفريقية لأوّل الإسلام، وأبو حاتم يعقوب بن لبيب بن مرين بن يطوفت من مازور الثائر مع أبي قرة سنة خمسين ومائة. وتغلّب على القيروان فيما ذكر خالد بن خراش وخليفة بن خياط من علمائهم. وذكروا من رؤسائهم أيضا موسى بن خليد ومليح بن علوان وحسّان بن زروال الداخل مع عبد الرحمن. وكان منهم أيضا دلول بن حمّاد أميرا في سلطان يعلى بن محمد اليفرني، وهو الّذي اختطّ بلد ايكري على اثني عشر ميلا من البحر، وهي لهذا العهد خراب لم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: منداس بن مغر بن أوريغ بن كبوري بن المثنى وهو هوار.
[2] وفي نسخة أخرى: تكّم.
[3] وفي نسخة أخرى: جبل وادشنيش.
[4] وفي نسخة أخرى: من ضواحي مازونة.

(6/164)


يبق منها إلّا الأطلال ماثلة. ولم يبق من مغيلة بذلك الوطن جمع ولا حيّ. وكان جمهورهم الآخر بالمغرب الأقصى وهم الذين تولوا مع أوربة وصدينة القيام بدعوة إدريس بن عبد الله لمّا لحق بالمغرب وأجازه، وحملوا قبائل البربر على طاعته والدخول في أمره. ولم يزالوا على ذلك إلى أن اضمحلت دولة الأدارسة وبقاياهم لهذا العهد بمواطنهم ما بين فاس وصفرون ومكناسة والله وارث الأرض ومن عليها.
(مديونة) وهم من إخوة مغيلة ومطماطة من ولد فاس كما قلناه، وكانت مواطن جمهورهم بنواحي تلمسان ما بين جبل بني راشد لهذا العهد إلى الجبل المعروف بهم قبلة وجدة، يتقلّبون بظواعنهم في ضواحيه وجهاته. وكان بنو يلومي وبنو يفرن من قبلهم يجاورونهم من ناحية المشرق، ومكناسة من ناحية المغرب وكومية وولهاصة من جهة الساحل.
(وكان) من رجالاتهم المذكورين جرير بن مسعود كان أميرا عليهم، وكان مع أبي حاتم وأبي قرة في فتنتهم، وأجاز إلى الأندلس في طوالع الفتح كثير منهم، فكان لهم هنالك استفحال. وخرج هلال بن أبزيا منهم يشتدّ به [1] على عبد الرحمن الداخل متبعا شقيا المكناسي في خروجه. ثم راجع الطاعة فقتله وكتب له على قومه، فكان بشرق الأندلس، وشنت مريّة. ثم خلفه بها من قومه نابتة بن عامر. ولما تغلّب بنو توجين وبنو راشد من زناتة على ضواحي المغرب الأوسط وكان مديونة هؤلاء قد قلّ عددهم وفلّ حدّهم فداخلتهم زناتة على الضواحي من مواطنهم وتملكوها، وصارت مديونة إلى الحصون من بلاده بجبل ماساله [2] وجبل وجده المعروف بهم. وضربت عليهم المغارم وتمرست بهم بهم الأيام، فلم يبق منهم هنالك إلا صبابة محترفون بالفلح. ومنهم أيضا أوزاع في القبائل مندرجون فيهم. وبنواحي فاس ما بينها وبين صفرون قبيلة منهم مجاورة لمغيلة، والله يرث الأرض ومن عليها.
كومية وهم المعروفون قديما بصطفورة إخوة مطاية ومضغرة، وهم من ولد فاتن كما قدّمنا، ولهم ثلاث بطون منها تفرّعت شعوبهم وقبائلهم وهي ندرومة ومغارة [3]
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بشنتمرية وتسمى اليوم فارو وتقع في البرتغال وهي عاصمة المقاطعة التي تسمى اليوم الغرب (مجلة البيّنة/ 35) .
[2] وفي نسخة أخرى: تاسالة، وهي بلاد جبلية قريبة من الشاطئ قبائل المغرب/ 52.
[3] وفي نسخة أخرى: صفاره.

(6/165)


وبنو يلول، فمن ندرومة مفوطة وحرسة ومردة ومصمانة ومراتة ومن بني يلول مسيقة ورتيوة وهنشبة وهيوارة ووالغة. ومن مغارة ملتيلة وبنو حباسة [1] وكان منهم النسّابة المشهور ماني بن مصدور بن مريس بن نقوط هذا هو المعروف في كتبهم. وكانت مواطن كومية بالمغرب الأوسط لسيف البحر من ناحية أرشكول وتلمسان. وكان لهم كثرة موفورة وشوكة مرهوبة. وصاروا من أعظم قبائل الموحّدين لما ظاهروا المصامدة على أمر المهدي وكلمة توحيده. وربّما كانوا رهط عبد المؤمن صاحبه وخليفته، فإنه كان من بني عابد أحد بيوتاتهم، وهم عبد المؤمن بن علي بن مخلوف بن يعلي بن مروان بن نصر بن علي بن عامر بن الأمير بن موسى بن عبد الله بن يحيى بن وريغ بن صطفور هكذا نسبه مؤرّخو دولة الموحّدين إلى صطفور. ثم يقولون صطفور بن نفور ابن مطماط بن هودج بن قيس عيلان بن مضر. ويذكر بعضهم أنّ في خط أبي عبد الواحد المخلوع ابن يوسف بن عبد المؤمن فأما انتسابهم في قيس عيلان فقد ذكرنا أنه غير صحيح. وفي أسماء هذا العمود من نسب عبد المؤمن ما يدلّ على أنه مصنوع، إذ هذه الأسماء ليست من أسماء البربر وإنما هي كما تراه كلها عربية والقوم كانوا من البرابرة معروفون بينهم، وانتساب صطفور إلى مطماط تخليط أيضا فإنّهما أخوان عند نسّابة البربر أجمع، وعبد المؤمن بلا شك منهم، والله أعلم بما سوى ذلك.
وكان عبد المؤمن هذا من بيوتاتهم وأشرافهم وموطنهم بتاكرارت، وهو حصن في الجبل المطل على هنين من ناحية الشرق. ولما نجح عبد المؤمن منهم وثب وارتحل في طلب العلم فنزل بتلمسان، وأخذ عن مشيختها مثل ابن صاحب الصلاة وعبد السلام البرنسي [2] وكان فقيها صالحا، وهو ضجيع الشيخ أبي مدين في تربته. ولما هلك عبد السلام هذا، ولم يحذق تلميذه بعد في فنونه وكان شيخ عصره في الفقه والكلام. تعطّش التلميذ بعده إلى القراءة، وبلغهم خبر الفقيه محمد بن تومرت المهدي، ووصل إلى بجاية، وكان يعرف إذ ذاك بالفقيه السوسي ونسبته إلى السوس.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فمن ندرومه نغوطة وحرسة وفردة وهفافة وفراثة، ومن بني يلول: مسيفة ووثيوة وهبيشة وهيوارة ووالغة. ومن صغارة ماتيلة وبنو حيّاسة.
[2] وفي نسخة أخرى: التونسي.

(6/166)


ولم يكن لقب المهدي وضع عليه بعده.
وكان في ارتحاله من المشرق إلى المغرب قد أخذ نفسه مع تغيير المنكر الّذي شأنه وطريقته نشر العلم وتبين الفتاوى وتدريس الفقه والكلام. وكان له في طريقته الأشعرية إمامة وقدم راسخة. وهو الّذي أدخلها إلى المغرب كما ذكرناه، وتشوق طلبة العلم بتلمسان إلى الأخذ عنه وتفاوضوا في ذلك، وندب بعضهم بعضا إلى الرحلة إليه لاستجلابه، وأن يكون له السبق باتحاف القطر بعلومه، فانتدب لها عبد المؤمن بن عليّ مكانه من صغر السن بنشاطه للسفر لبداوته، فارتحل إلى بجاية للقائه وترغيبه في نزوله تلمسان فلقيه بملالة، وقد استحكمت بينه وبين العزيز النفرة وبنو ورياكل متعصّبون على إجارته منهم، ومنعه من إذايته والوصول إليه. فألقى إليه عبد المؤمن ما عنده من الترغيب، وأدّى إليه رسالة طلبة العلم بتلمسان فوعاها، وشأنه غير شأنهم.
وعكف عبد المؤمن على التعليم والأخذ عنه في ظعنه ومقامه. وارتحل إلى المغرب في صحابته، وصدق في العلم وآثره الإمام بمزيد الخصوصية والقرب، بما خصّه الله به من الفهم والوعي للتعليم، حتى كأنه خالصة لإمام وكنز صحابته. وكان يؤمله لخلافته لما ظهر عليه من الشواهد المدوّنة بذلك. ولما اجتازوا في طريقهم إلى المغرب بالثعالبة من موطن العرب الذين ذكرناهم قبل في نواحي المدينة، قرّبوا إليه حمارا فارها يتّخذه له عطية لمركوبه، فكان يؤثر به عبد المؤمن ويقول لأصحابه: أركبوه الحمار يركبكم الخيول المسوّمة. ولما بويع له بهرغة سنة خمس عشرة وخمسمائة، واتفقت على دعوته كلمة المصامدة وحاربوا لمتونة نازلوا مراكش.
وكانت بينهم في بعض أيام منازلتها حرب شديدة هلك فيها من الموحّدين الألف، فقيل للإمام إنّ الموحّدين قد هلكوا. فقال لهم: ما فعل عبد المؤمن؟ قالوا هو على جواده الأدهم قد أحسن البلاء. فقال ما بقي عبد المؤمن فلم يهلك أحد. ولما احتضر الإمام سنة اثنتين وعشرين [وخمسمائة] عهد بخلافته في أمره لعبد المؤمن، واستراب من العصبية بين المصامدة فكتم موت المهدي وأرجأ أمره حتى صرّح الشيخ أبو حفص أمير هنتاتة وكبير المصامدة لمصاهرته. وأمضى عهد الإمام فيه فقام بالأمر واستبد بشياخة الموحّدين وخلافة المسلمين. ونهض سنة سبع وثلاثين وخمسمائة إلى فتح المغرب فدانت له غمارة. ثم ارتحل منها إلى الريف ثم إلى بطوية، ثم إلى

(6/167)


مطالة [1] ثم إلى بني يزناسين. ثم إلى مديونة ثم إلى كومية وجيرانهم ولهاصة، وكانوا يلونهم في الكثرة فاشتدّ عضده بقومه، ودخلوا في أمره وشايعوه على تمكين سلطانه بين الموحّدين وخلافته. ولما رجع إلى المغرب وافتتح أمصاره واستولى على مراكش استدعى قومه للرحلة إليها والعسكرة عليه بحب جمهورهم إلى المغرب واستوطن مراكش لحمل سرير الخلافة والقيام بأمر الدعوة والذبّ عن ثغورهم والمدافعة، فاعتضد بهم عبد المؤمن وبنوه سائر الدولة، وكانوا بمكانتهم فاتحة الكتاب وتداركه [2] الجماعة. وتقدّموا في الفتوح والعساكر وأكلتهم الأقطار في تجهيز الكتائب تدويخ الممالك، فانقرضوا، وبقي بمواطنهم الأولى بقايا منهم: بنو عابدوهم في عداد القبائل الغارقة قد انقلب زمانهم فأمهلهم [3] فحملوا المغرم، وألفوا نهوضهم بالتكاليف. ونظموا مع جيرانهم ولهاصة في سوم الخسف والذلّ واقتضاء الخراج بالنكال والعذاب، والله مبدّل الأمر ومالك الملك سبحانه.
(الخبر عن زواوة وزواغة من بطون ضرسة من البرابر البتر والإلمام ببعض أحوالهم)
هؤلاء البطون من بطون البرابرة البتر، من ولد سمكان بن يحيى بن ضري بن زحيك ابن مادغيس الأبتر. وأقرب ما يليهم من البرابر زناتة لأن أباهم أجانا هو أخو سمكان ابن أبيه فلذلك كانوا ذوي قربى لهم.
(زواوة) فأمّا زواوة فهم من بطونهم، وقد يقال إن زواوة من قبائل كتامة، ذكر ذلك ابن حزم، ونسّابة البربر إنما يعدونهم من ولد سمكان كما قلناه، والصحيح عندي ما ذكره ابن حزم. ويشهد له الموطن ونحلة الشيع مع كتامة لعبد الله. وعدّ نسّابة البربر ولهم بطون كثيرة: بنو مجسطة وبنو مليكش وبنو كوفي ومشداله وبنو زريقف وبنو كوزيت وكرسفينة ووزلجة وخوجة وزكلاوة وبنو مرانه، ويقال إن بني مليكش من صنهاجة والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بطالسة.
[2] وفي نسخة أخرى: فذلكة.
[3] وفي نسخة أخرى: قد أثقلت زناتة كاهلهم فحملوا المغرم.

(6/168)


ومن قبائلهم المشهور لهذا العهد بنو بجرو وبنو مابكلات وبنو مترون وبنو ماني وبنو بوعردان وبنو تورغ [1] ، وبنو بو يوسف، وبنو عبسي، وبنو بو شعيب، وبنو صدقة، وبنو غبرين، وبنو كشطولة. ومواطن زواوة بنواحي بجاية ما بين مواطن كتامة وصنهاجة أوطنوا عنها جبالا شاهقة متوعّرة تنذعر منها الأبصار ويضلّ في غمرها السالك مثل بني غبرين بجبل زيري، وفيه شعراء من شجر الزان يشهد بها لهذا العهد. ومثل بني فرلوسن وبني سرا [2] ، وجبلهم ما بين بجاية وتدلس وهو أعظم معاقلهم وأمنع حصونهم، فلهم به الاعتزاز على الدول والخيار عليها في إعطاء المغرم، مع أنّ كلهم لهذا العهد قد امتنع لساهمه واعتز على السلطان في أبناء طاعته وقانون مزاجه.
وكانت لهم في دولة صنهاجة مقامات مذكورة في السلم والحرب بما كانوا أولياء لكتامة، وظهر أوّلهم على أمرهم من أول الدولة، وقتل بادس بن المنصور في إحدى وقائعه بهم، وشيخهم زيري بن أجانا لاتهامه أباه في أمر حمّاد. ثم واختط بنو حمّاد بعد ذلك بجاية وتمرّسوا بهم، فانقادوا وأذعنوا لهم إلى آخر الدولة، واتصل إذعانهم إلى هذا العهد إلا تمريضا يحملهم عليه الموثقون بمنعة جبالهم. وكانت رياسة بني يراثن منهم في بني عبد الصمد من بيوتاتهم وكاتب عبد ثعلب السلطان أبو الحسن على المغرب الأوسط شيخة عليهم من بني عبد الصمد هؤلاء اسمها شمسي، وكان لها عشرة من الولد فاستفحل شأنها بهم وملكت عليهم أمرهم.
ولما تقبّض السلطان أبو الحسن على ابنه يعقوب المكنّى بأبي عبد الرحمن عند ما فرّ من معسكره بمتيجة سنة ثمان أو سبع وثلاثين وسرّح في أثره الخيالة فرجّعوه واعتقله. ثم قتله من بعد ذلك حسبما يذكر في أخبارهم. لحق حينئذ بني يراثن هؤلاء خازن من مطبخه فموّه عليهم باسمه وشبّه بتمثاله ودعا إلى الخروج على ابنه بزعمه فشمّرت شمسي هذه عزائمها في إجازته وحملت قومها على طاعته. وسرّب السلطان أبو الحسن أمواله في قومها وهما على السلامة فأبته: ثم نمي إليها الخبر بمكره وتمويهه فنبذت إليه عهده، وخرج عنها إلى بلاد العرب كما نذكر بعض ذلك في أخبارهم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بنو بجرو وبنو مانكلات وبنو يترون وبنو ماني وبنو بوغروان وبنو يتورغ.
[2] وفي نسخة أخرى: فراسن وبني براثن.

(6/169)


وقدمت على السلطان أبي الحسن في وفد من قومها وبعض بنيها فاستبلغ السلطان من تكريمها، وأحسن صلتها وأجاز الوفد ورجعت بهم إلى موطنها، ولم تزل الرئاسة في هذا البيت.
(زواغة)
وأما زواغة فلم يتأدّ إلينا من أخبارهم وتصاريف أحوالهم ما نعمل فيه الأقلام. ولهم ثلاثة بطون وهي: دمّر بن زواغ وبنو واطيل بن زحيك بن زواغ وبنو ماخر بن تيغون من زواغة. ومن دمّر بنو سمكان وهم أوزاع في القبائل. ومنهم بنواحي طرابلس مفترقون في براريها ولهم هنالك الجبل المعروف بدمّر. وفي جهات قسنطينة أيضا رهط من زواغة، وكذلك بجبال شلف بنو واطيل منهم وبنواحي فاس آخرون. وللَّه الخلق والأمر.
الخبر عن مكناسة وسائر بطون بني ورصطف وما كان لمكناسة من الدول بالمغرب وأوّلية ذلك وتصاريفه
كان لورصطف بن يحيى، وهو أخو أجانا بن يحيى وسمكان بن يحيى ثلاثة من البطون، وهم: مكناسة وورتناجة وأوكتة. ويقال مكنه وبنو ورتناجة أربعة بطون سدرجة ومكسة وبطالسة وكرنيطه. وزاد سابق وأصحابه في بطونهم هناطة وفولالة، وكذلك عدّوا في بطون مكنه: بني درطين وبني فولالين وبني يزين وبني جرين وبني بوعال [1] . ولمكناسة عندهم أيضا بطون كثيرة منها: صولات وبوحاب وبنو ورفلاس وبنو وردنوس وقيصارة ونبعة وورقطنة [2] . وبطون ورصطف كلهم مندرجون في بطون مكناسة، وكانت مواطنهم على وادي ملويّة من لدن أعلاه سجلماسة إلى مصبّه في البحر، وما بين ذلك من نواحي تازا وتسول. وكانت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بني يصلتن وبني تولالين وبني ترين وبني جرتن وبني فوغال.
[2] وفي نسخة أخرى: صولات وبنو حوّات وبنو ورفلاس وبنو وريدوس وقنصارة وورنيقة ووريفلتة.

(6/170)


رياستهم جميعا في بني ابايرون [1] واسمه مجدول بن تاقريس بن فراديس بن ونيف بن مكناس. وأجاز منهم إلى العدوة عضد الفتح أمم. وكانت لهم بالأندلس رياسة وكثرة، وخرج منهم على عبد الرحمن الداخل شعيا بن عبد الواحد سنة إحدى وخمسين واعتصم بشنتمرية ودعا لنفسه منتسبا إلى الحسن بن عليّ. وتسمّى عبد الله ابن محمد وتلقّب بالفاطمي، وكانت بينه وبين عبد الرحمن حروب إلى أن غلبه ومما أثر ضلالته. وكان من رجالتهم لعهد دولة الشيعة مصالة بن حبّوس بن منازل اتصل بعبيد الله الشيعي، وكان من أعظم قوّاده وأوليائه، وولّاه تاهرت وافتتح له المغرب وفاس وسجلماسة.
ولما هلك أقام أخاه يصلتين بن حبّوس مقامه في ولاية تاهرت والمغرب. ثم هلك وأقام ابنه حميدا مقامه فانحرف عن الشيعة، ودعا لعبد الرحمن الناصر. واجتمع مع بني خزر أمراء جراوة على ولاية المروانية. ثم أجاز إلى الأندلس وولي الولايات أيام الناصر وابنه الحكم، وولي في بعضها تلمسان بدعوتهم. ثم هلك وأقام ابنه لرصل [2] بن حميد وأخوه يباطن بن يصلتين وعلى ابن عمّه من ماله في ظل الدولة الأموية إلى أن أجاز المظفّر بن أبي عامر إلى المغرب فولي يصل بن حميد سجلماسة كما نذكره. ثم أن رياسة مكناسة بالعدوة انقسمت في بني أبي نزول، وانقسمت مسايل [3] مكناسة بانقسامها. وصارت رياسة مكناسة في مواطن سجلماسة وما إليها من بني واسول بن مصلان بن أبي نزول، ورياسة مكناسة بجهات تازا وتوسول وملوية ومليلة لبني أبي العافية بن أبي نائل بن أبي الضحّاك بن أبي نزول. ولكل واحد من هذين الفريقين في الإسلام دولة وسلطان صاروا به في عداد الملوك كما نذكره.
(الخبر عن دولة بني واسول ملوك سجلماسة وأعمالها من مكناسة)
كان أهل مواطن سجلماسة من مكناسة يدينون لأوّل الإسلام بدين الصّفريّة من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أبي يزول.
[2] وفي نسخة أخرى: نصل وفي النسخة التونسية يصل وفي النسخة الباريسية فضل.
[3] وفي نسخة أخرى: قبائل.

(6/171)


الخوارج لقنوه عن أئمتهم ورءوسهم من العرب لما لحقوا من المغرب وأسروا على الامتناع وماجت أقطار المغرب لفتنة ميسرة. فلما اجتمع على هذا المذهب زهاء أربعين من رجالاتهم نقضوا طاعة الخلفاء وولّوا عليهم عيسى بن يزيد الأسود من موالي العرب ورءوس الخوارج. واختطّوا مدينة سجلماسة لأربعين ومائة من الهجرة. ودخل سائر مكناسة من أهل تلك الناحية في دينهم. ثم سخطوا أميرهم عيسى ونقموا عليه كثيرا من أحواله فشدّوه كتافا ووضعوه على قنّة جبل إلى أن هلك سنة خمس وخمسين ومائة واجتمعوا بعده على كبيرهم أبي القاسم سمكو بن واسول بن مصلان [1] بن أبي نزول. كان أبوه سمقو [2] من حملة العلم، ارتحل إلى المدينة فأدرك التابعين وأخذ عن عكرمة مولى ابن عباس، ذكره عريب بن حميد في تاريخه، وكان صاحب ماشية وهو الّذي بايع لعيسى بن يزيد وحمل قومه على طاعته فبايعوه من بعده.
وقاموا بأمره إلى أن هلك سنة سبع وستين ومائة لمنتهى عشر سنين [3] من ولايته.
وكان أباضيا صفريّا. وخطب في عمله للمنصور والمهدي من بني العبّاس. ولمّا هلك ولّوا عليهم ابنه إلياس، وكان يدعى بالوزير. ثم انتقضوا عليه سنة أربع وتسعين ومائة فخلعوه وولّوا مكانه أخاه اليسع بن أبي القاسم وكنيته أبو منصور، فلم يزل أميرا عليهم، وبنى سور سجلماسة لأربع وثلاثين سنة من ولايته. وكان أباضيا صفريّا. وعلى عهده استفحل ملكهم بسجلماسة. وهو الّذي أتمّ بناءها وتشييدها، واختطّ بها المصانع والقصور، وانتقل إليها آخر المائة الثانية، ودوّخ بلاد الصحراء وأخذ الخمس من معادن درعة، وأصهر لعبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت بابنه مدرار في ابنته أروى فأنكحه إياها.
ولما هلك سنة ثمان ومائتين ولي بعده ابنه مدرار ولقبه المنتصر، وطال أمر ولايته.
وكان له ولدان اسم كلّ واحد منهما ميمون، أحدهما لأروى بنت عبد الرحمن بن رستم، وقيل إنّ اسمه أيضا عبد الرحمن. والآخر لبغي [4] وتنازع في الاستبداد على
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: مصلات بن أبي يزول.
[2] وفي النسخة الباريسية: ابو سمقو وفي نسخة أخرى أبو سمكو.
[3] وفي النسخة التونسية: لاثنتي عشرة سنة من ولايته.
[4] وفي نسخة ثانية: لتقي.

(6/172)


أبيه، ودامت الحرب بينهما ثلاث سنين. وكانت لأبيهما مدرار صاغية إلى ابن أروى فمال معه حتى غلب أخاه فأخذه وأخرجه عن سجلماسة. ولم يلبث أن خلع أباه واستبد بأمره، ثم ساءت سيرته في قومه ومدينته، فخلعوه وصار الى درعة وأعادوا مدرارا الى أمره. ثم حدّث نفسه بإعادة ابنه ميمون ابن الرستميّة إلى إمارته بصاغية إليه فخلعوه ورجعوا ابنه ميمونا بن التقي، وكان يعرف بالأمير.
ومات مدرار إثر ذلك سنة ثلاث وخمسين ومائتين لخمس وأربعين من ملكه، وأقام ابنه ميمون في استبداده إلى أن هلك سنة ثلاث وستين ومائتين وولي ابنه محمد، وكان أباضيّا وتوفي سنة سبعين ومائتين فولي اليسع بن المنتصر، وقام بأمره ولحق عبيد الله الشيعي وابنه وأبو القاسم بسلجماسة لعهده. وأوعد المعتضد إليه في شأنهما، وكان على طاعته، فاستراب بهما وحبسهما إلى أن غلب الشيعي بني الأغلب، وملك رقادة، فزحف إليه لاستخراج عبيد الله وابنه من محبسه، وخرج إليه اليسع في قومه مكناسة فهزمه أبو عبد الله الشيعي، واقتحم عليه سجلماسة وقتله سنة ست وتسعين ومائتين واستخرج عبيد الله وابنه من محبسهما وبايع لهما. وولّى عبيد الله المهديّ على سجلماسة إبراهيم بن غالب المراسي [1] من رجالات كتامة، وانصرف إلى إفريقية.
ثم انتقض أمراء سجلماسة على واليهم إبراهيم فقتلوه ومن كان معه من كتامة سنة ثمان وتسعين ومائتين وبايعوا الفتح بن ميمون الأمير ابن مدرار ولقبه واسول، وميمون ليس هو ابن المتقي [2] الّذي تقدّم ذكره وكان أباضيا. وهلك قريبا من ولايته لرأس المائة الثالثة، فولي أخوه أحمد واستقام أمره إلى أن زحف مصالة بن حبّوس في جموع كتامة ومكناسة إلى المغرب سنة تسع وثلاثمائة، فدوّخ المغرب وأخذهم بدعوة صاحبه عبيد الله المهدي. وافتتح سجلماسة وتقبّض على صاحبها أحمد بن ميمون بن مدرار وولّى عليها ابن عمّه المعتز بن محمد بن ساور [3] بن مدرار، فلم يلبث أن استبد وبلغها المعتز، وهلك سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة قبيل ملك المهدي، وولي من بعده ابنه أبو المنتصر محمد بن المعتز فمكث عشرا.
ثم هلك وولي من بعده ابنه المنتصر سمكو شهرين، وكانت جدّته تدبّر أمره لصغره.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المزاتي.
[2] وفي النسخة التونسية: وميمون أبوه، هو ابن التقي.
[3] وفي نسخة أخرى: بسّاور.

(6/173)


ثم ثار عليه ابن عمّه محمد بن الفتح بن ميمون الأمير وتغلّب عليه، وشغب عليه [1] بنو عبيد الله لفتنة ابن أبي العافية وتاهرت، ثم نقلته إلى أبي يزيد بعدهما فدعا محمد ابن الفتح لنفسه مموّها بالدعوة لبني العبّاس. وأخذ بمذاهب أهل السنّة ورفض الخارجيّة، ولقّب الشاكر باللَّه، واتخذ السكة باسمه ولقبه. وكانت تسمّى الدراهم الشاكريّة. كذا ذكره ابن حزم وقال فيه: وكان في غاية العدل حتى إذا فزع له بنو عبيد وحمت الفتنة [2] زحف جوهر الكاتب أيام المعز لدين الله في جموع كتامة وصنهاجة وأوليائهم إلى المغرب سنة سبع وأربعين وثلاثمائة فغلب على سجلماسة وملكها.
وفرّ محمد بن الفتح إلى حصن تاسكرات على أميال من سجلماسة وأقام به.
ثم دخل سجلماسة متنكرا فعرفه رجل من مضغرة وأنذر به، فتقبّض عليه جوهر، وقاده أسيرا إلى القيروان مع أحمد بن بكر صاحب فاس كما نذكره، وقفل إلى القيروان، فلما انتقض المغرب على الشيعة، وفشت بدعة الأمية [3] وأخذ زناتة بطاعة الحكم المنتصر، ثار بسلجماسة قائم من ولد الشاكر وباهي [4] المنتصر باللَّه. ثم وثب عليه أخوه أبو محمد سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة فقتله، وقام بالأمر مكانه. وتلقّب المعتز باللَّه.
وأقام على ذلك مدّة وأمر مكناسة يومئذ قد تداعى إلى الانحلال، وأمر زناتة قد استفحل بالمغرب عليهم إلى أن زحف حرزون [5] بن فلفول من ملوك مغراوة إلى سجلماسة سنة ست وستين وثلاثمائة وأبرز إليه أبو محمد المعتز فهزمه حرزون وقتله، واستولى على بلده وذخيرته، وبعث برأسه إلى قرطبة مع كتاب الفتح. وكان ذلك لأوّل حجابة المنصور بن أبي عامر، فنسب إليه واحتسب له لحدا بقبة [6] ، وعقد لحرزون على سجلماسة، فأقام دعوة هشام بأنحائها فكانت أوّل دعوة أقيمت لهم بالأمصار في المغرب الأقصى، وانقرض أمر بني مدرار ومكناسة من المغرب أجمع
__________
[1] وفي النسخة التونسية: وشغل عنه بنو عبيد الله بفتنة ابن أبي العافية
[2] وفي النسخة التونسية: حتى إذا فزع له بنو عبيد من الفتن.
[3] وفي النسخة التونسية: وفشت دعوة الأموية- وهذا أصح-
[4] وفي النسخة التونسية: باهي وتلقب بالمنتصر باللَّه.
[5] وفي نسخة ثانية: خزرون.
[6] وفي نسخة ثانية: واحتسب له جدّا ويمن نقيبة.

(6/174)


وأدال منهم بمغراوة وبني يفرن حسبما يأتي ذكرهم في دولتهم، والأمر للَّه وحده وله البقاء سبحانه وتعالى
.

(6/175)


(الخبر عن دولة بني أبي العافية ملوك تسول من مكناسة وأولية أمرهم وتصاريف أحوالهم)
كان مكناسة الظواعن من أهل مواطن ملويّة وكرسيف ومليلة وما إليها من التلول بنواحي تازا وتسول والكل يرجعون في رياستهم إلى بني أبي باسل بن أبي الضحّاك ابن أبي نزّول وهم الذين اختطوا بلد كرسيف ورباط تازا، ولم يزالوا على ذلك من أوّل الفتح. وكانت رياستهم في المائة الثالثة لمصالة بن حبّوس وموسى بن أبي العافية ابن أبي باسل، واستفحل أمرهم في أيامه وعظم سلطانهم وتغلّبوا على قبائل البربر بأنحاء تازا إلى الكائي، وكانت بينهم وبين الأدارسة ملوك المغرب لذلك العهد فتن وحروب. وكانوا يقتلونهم على كثير من ضواحيها لما كان نزل بدولتهم من الهرم. ولمّا استولى عبيد الله على المغرب واستفحل أمره كانوا من أعظم أوليائه وشيعه، وكان مصالة بن حبّوس من أكبر قوّاده لانحياشه إليه، وولّاه على مدينة تاهرت والمغرب الأوسط.
ولما زحف مصالة إلى المغرب الأقصى سنة خمس وثلاثمائة، واستولى على فاس وعلى سجلماسة وفرغ من شأن المغرب واستنزل يحيى بن إدريس من إمارته بفاس إلى طاعة عبيد الله وأبقاه أميرا على فاس، عقد حينئذ لابن عمه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة على سائر ضواحي المغرب وأمصاره مضافة إلى عمله من قبل تسول وتازا وكرسيف وقفل مصالة إلى القيروان. وقام موسى بن أبي العافية بأمر المغرب، وناقضه يحيى بن إدريس صاحب فاس لما يظعن له من المظاهرة عليه.
فلما عاود مصالة غرق المغرب سنة تسع وثلاثمائة أنزل ابن أبي العافية يحيى بن إدريس، فقبض عليه واستصفاه وطرده عن عمله فلحق ببني عمّه بالبصرة والريف.
وولّى مصالة على فاس ريحان الكتامي وقفل إلى القيروان فهلك، وعظم ملك ابن أبي العافية بالمغرب. ثم ثار بفاس سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس، وكان مقداما شجاعا ويلقّب بالحجام لطعنه في المحاجم دخل فاس على حين غفلة من أهلها، وقتل ريحان واليها، واجتمع الناس على بيعته. ثم

(6/176)


خرج لقتاله ابن أبي العافية فتزاحفوا بفحص أدّاز ماد بين تازا وفاس، ويعرف لهذا العهد بوادي المطاحن، واشتدّت الحرب بينهم، وهلك منهال بن موسى بن أبي العافية في الفتن بمكناسة.
ثم كانت العاقبة لهم وانفضّ عسكر الحسن ورجع مفلولا إلى فاس، فغدر به عامله على عدوة القرويّين حامد بن حمدان الهمدانيّ واستمكن من عاقله، واستحثّ ابن أبي العافية للقدوم وأمكنه من البلد، وزحف إلى عدوة الأندلس فملكها وقتل عاملها عبد الله بن ثعلبة [1] بن محارب بن محمود، وولّى مكانه أخاه محمدا وطالب حامدا بصاحبه الحسن فدس إليه حامد بالفرار تجافيا عن دعاء أهل البيت، وتدلّى الحسن من السور فسقط وانكسر ساقه ومات مستخفيا بعدوة الأندلس لثلاث ليال منها. وحذّر حامد من سطوة أبي العافية فلحق بالمهديّة واستولى ابن أبي العافية على فاس والمغرب أجمع، وأجلى الأدارسة عنهم وألجأهم إلى حصنهم بقلعة حجر النسر مما يلي البصرة، وحاصرهم بها مرارا. ثم جمّر عليهم العساكر، وخلّف فيهم قائده أبا الفتح فحاصرهم ونهض إلى تلمسان سنة تسع عشرة وثلاثمائة بعد أن استخلف على المغرب الأقصى ابنه مدين. وأنزله بعدوة القرويين، واستعمل على عدوة الأندلس طوال بن أبي يزيد، وعزل به محمد بن ثعلبة. وزحف إلى تلمسان فملكها وغلب عليها صاحب الحسن بن أبي العيش بن عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان من عقب سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر الداخل إلى المغرب بعده، فغلب موسى ابن أبي العافية الحسن على تلمسان وأزعجه عنها إلى مليلة من جزائر ملويّة ورجع إلى فاس. وقد كان الخليفة الناصر لما فشت دعوته بالمغرب خاطبه بالمقاربة والوعد، فسارع إلى إجابته ونقض طاعة الشيعة، وخطب للناصر على منابر عمله، فسرح إليه عبد الله المهدي قائده ابن أخي مصالة، وهو حميد بن يصلت [2] المكناسي قائد تاهرت، فزحف في العساكر إلى حرمه سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ولقيه موسى بن أبي العافية بفحص مسون فتزاحفوا أياما، ثم لقيه حميد فهزمه ولحق ابن أبي العافية بتسول فامتنع بها، وأفرج قائده أبو الفتح عن حصن الأدارسة فاتبعوه وهزموه ونهبوا معسكره.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: ثعبة ولعلها ثعلبة وهـ محرّفة في النسختين.
[2] وفي نسخة أخرى: يصلتن.

(6/177)


ثم نهض حميد إلى فاس ففرّ عنها أعزل بن موسى إلى ابنه، واستعمل عليها حامد بن حمدان كان في جملته وقفل حميد إلى إفريقية وقد دوّخ المغرب. ثم انتقض أهل المغرب على الشيعة بعد مهلك عبيد الله، وثار أحمد بن بكر بن عبد الرحمن بن سهل الجذامي على حامد بن حمدان فقتله، وبعث برأسه إلى ابن أبي العافية فأرسله إلى الناصر بقرطبة واستولى على المغرب. وزحف ميسور الخصي قائد أبي القاسم الشيعي إلى المغرب سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وخام ابن أبي العافية عن لقائه، واعتصم بحصن الكأي، ونهض ميسور إلى فاس فحاصرها واستنزل أحمد بن بكر عاملها. ثم تقبّض عليه وأشخصه إلى المهديّة، وبدر أهل فاس بغدره فامتنعوا وقدّموا على أنفسهم حسن بن قاسم اللواتي، وحاصرهم ميسور مدّة حتى رغبوا إلى السلم، واشترطوا على أنفسهم الطاعة والإتاوة فتقبّل ميسور ورضي، وأقرّ حسن بن قاسم على ولايته بفاس وانحل إلى حرب ابن أبي العافية فكانت بينهما حروب إلى أن غلبه ميسور فتقبّض على ابنه الغوري وغرّبه إلى المهدية. وأجلى موسى بن أبي العافية عن أعمال المغرب إلى نواحي ملوية ووطاط وما وراءها من بلاد الصحراء، وقفل إلى القيروان.
ولما مرّ بارشكول خرج إليه صاحبها ملاطفا له بالتحف، وهو إدريس بن إبراهيم من ولد سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر، فتقبّض عليه واصطلم نعمته، وولى مكانه أبا العيش بن عيسى منهم. وأغذّ السير إلى القيروان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ورجع موسى بن أبي العافية من الصحراء إلى أعماله بالمغرب، فملكها وولّى على الأندلس أبا يوسف بن محارب الأزدي، وهو الّذي مدّن عدوة الأندلس، وكانت حصونا. واحتلّ موسى بن أبي العافية قلعة كوماط، وخاطب الناصر فبعث إليه مددا من أسطوله، وزحف إلى تلمسان ففرّ عنها أبو العيش واعتصم بارشكول فنازله وغلبه عليها سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ولحق أبو العيش بنكور، واعتصم بالقلعة التي بناها هنالك لنفسه.
ثم زحف ابن أبي العافية إلى مدينة نكور فحاصرها مدّة، ثم تغلّب عليها وقتل صاحب عبد البديع بن صالح، وخرّب مدينتهم. ثم سرّح ابنه مدين في العساكر، فحاصر أبا العبّاس بالقلعة حتى عقد له السلم عليها. واستفحل أمر ابن أبي العافية في المغرب الأقصى واتصل عمله بعمل محمد بن خزر ملك مغراوة وصاحب المغرب الأوسط، وبثّوا دعوة الأموية في أعمالها، وبعث ابنه مدين بأمره في قومه. وعقد له

(6/178)


الناصر على أعمال ابنه بالمغرب واتصلت يده بيده الخير بن محمد كما كان بين آبائهما.
ثم فسد بينهما وتزاحفا للحرب، وبعث الناصر قاضيه مقدر [1] بن سعد لمشارفة أحوالهما وإصلاح ما بينهما فتمّ ذلك كما أراده ولحق به سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة أخوه البوري فارّا من عسكر المنصور مع أحمد بن بكر الجذاميّ عامل فاس بعد أن لحقا بأبي يزيد فسار أحمد بن أبي بكر إلى فاس وأقام بها متنكرا إلى أن وثب بعاملها حسن بن قاسم اللواتي وتخلّى له عن العمل، وصار البوري إلى أخيه مدين واقتسم أعمال ابنه معه ومع ابنه الآخر منقذ، فكانوا ثلاث الأثافي. وأثار الثوري إلى الناصر سنة خمس وأربعين وثلاثمائة فعقد الناصر لابنه منصور على عمله وكانت وفاته وهو محاصر لأخيه مدين بفاس، وأجاز أبناه أبو العيش ومنصور إلى الناصر فأجزل لهما الكرامة على سنن أبيهما.
ثم هلك مدين فعقد الناصر لأخيه أبي منقذ على عمله سنة [2] ثم غلب مغراوة على فاس [3] وأعمالها، واستفحل أمرهم بالمغرب وأزاحوا مكناسة عن ضواحيه وأعماله، وساروا إلى مواطنهم وأجاز إسماعيل بن الثوري [4] ومحمد بن عبد الله بن مرين إلى الأندلس فنزلوا بها إلى أن جازوا مع واضح أيام المنصور كما مرّ عند ما نقض زيري ابن عطية طاغيتهم سنة ست وثمانين وثلاثمائة، فملك واضح المغرب ورجّعهم إلى أعمالهم. وتغلب بلكّين بن زيري على المغرب الأوسط وغلب عليه ملوكه بني خزر من مغراوة فاتصلت يد مكناسة. ولم يزالوا في طاعة بني زيري ومظاهرتهم. وهلك إسماعيل بن الثوري في حروب حمّاد مع باديس بشلف سنة خمس وأربعمائة، وتوارث ملكهم في أعقاب موسى إلى أن ظهرت دولة المرابطين، وغلب يوسف بن تاشفين على أعمال المغرب، فزحف إليهم القاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن موسى بن أبي العافية، فاستدعى أهل فاس وصريخ زناتة بعد مهلك معنصرة المغراوي فلقي عساكر المرابطين بوادي صفر [5] فهزمهم وزحف إليه يوسف
__________
[1] وفي نسخة ثانية: منذر.
[2] بياض بالأصل في جميع النسخ ولم نهتد إلى السنة في المراجع التي بين أيدينا.
[3] وفي النسخة الباريسية قابس.
[4] وفي نسخة أخرى: إسماعيل بن البوري.
[5] وفي النسخة التونسية: صغير.

(6/179)


ابن تاشفين من مكانه فحاصر قلعة فازاز فهزم القاسم بن محمد وجموع مكناسه وزناتة ودخل فاس عنوة كما ذكرناه في أخباره.
ثم زحف إلى أعمال مكناسة فاقتحم الحصن وقتل القاسم. وفي بعض تواريخ المغرب أن مهلك إبراهيم بن موسى كان سنة خمس وأربعمائة. وولي ابنه عبد الله أبو عبد الرحمن، وهلك سنة ثلاثين وأربعمائة وولي ابنه محمد وهلك سنة ست وأربعين وأربعمائة وولي ابنه القاسم وهلك سول عند اقتحام لمتونة عليه سنة ثلاث وستين وأربعمائة وانفضّ ملك مكناسة من المغرب بانقراض ملك مغراوة، والأمر للَّه وحده.
وهي من قبائل مكناسة لهذا العهد بهذه المواطن أفاريق في جبال تازا بعد ما شرست [1] بهم الدول وأناخت بساحتهم الأمم. وهم موصوفون بوفور الجباية وقوّة الشكيمة. ولهم عناء في مظاهرة الدولة وحقوق عند الحشد والعسكرة. وفيهم ميدان من الحمالية [2] ، ومن مكناسة غير هؤلاء أوزاع في القبائل لهذا العهد مفرّقون في نواحي إفريقية والمغرب الأوسط. «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ» 14: 19- 20 وهذا آخر الكلام في بني ورصطيف، فلنرجع إلى من بقي علينا من البربر وهم زناتة والله ولي العون وبه المستعان.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تمرست.
[2] وفي نسخة أخرى: وفيهم مؤن من الخيالة.

(6/180)


(أخبار البرانس من البربر ولنبدأ أولا بالخبر عن هوارة من شعوبهم وذكر بطونهم وتصاريف أحوالهم وافتراق شعوبهم في عمالات إفريقية والمغرب)
وهوّارة هؤلاء من بطون البرانس باتفاق من نسّابه العرب والبربر ولد هوّار بن أوريغ بن برنس إلّا ما يزعم بعضهم أنهم من عرب اليمن. تارة يقولون من عاملة إحدى بطون قضاعة وتارة يقولون من ولد المسوّر بن السكاسك بن وابل [1] بن حمير. وإذا تحرّوا الصواب، المسوّر بن السكاسك بن أشريس بن كندة وينسبونه هكذا: هوّار بن أوريغ بن جنون بن المثنى بن المسوّر. وعند هؤلاء أن هوّارة وصنهاجة ولمطة وكزولة وهسكورة يعرف جميعهم بني ينهل [2] وأن المسور جدّهم جميعا وأنه وقع إلى البتر [3] ونزل على بني زحيك بن مادغيس الأبتر. وكانوا أربعة إخوة: لوا وضرا [4] وأدّاس ونفوس. وأنهم زوّجوه أختهم بصكي [5] العرجاء بنت زحيك فولدت منه المثنّى أبا هوّارة، وتزوّجها بعد المسوّر بن عافيل [6] بن زعزاع أبو صنهاجة ولمطة وكزولة وهسكورة كما يأتي فيما بعد أنهم إخوة المثنّى لأمه، وبها عرف جميعهم.
قالوا: وولد المثنّى بن المسوّر خبّوز وولد خبّوز بن المثنى ريغ الّذي يقال فيه أوريغ بن برنس، ومنه عرفت قبائل هوّارة. قالوا: إنما سميت هوّارة لأن المسوّر لما جال البلاد ووقع في المغرب قال: لقد تهوّرنا هكذا عند بعض نسّابه البربر. وعندي والله أعلم أنّ هذا الخبر مصنوع وأن أثر الصنعة باد عليه. ويعضد ذلك أن المحقّقين ونسّابتهم مثل سابق وأصحابه قالوا: إنّ بطون أدّاس بن زحيك دخلت كلّها في هوّارة من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: واثل.
[2] وفي النسخة التونسية: تيصكي.
[3] وفي النسخة التونسية: البربر.
[4] وفي النسخة التونسية: ضريس وهو تيسكي الصحيح.
[5] وفي نسخة أخرى: تيسكي.
[6] وفي نسخة أخرى: عاصيل.

(6/182)


أجل أن هوّار خلف زحيك على أم أدّاس، فربي أدّاس في حجره وزحيك على ما في الخبر الأوّل هو جدّ هوّار، لأن المثنّى جدّه الأعلى هو ابن بصكي وهي بنت زحيك، فهو الخامس من زحيك فكيف يخلفه على امرأته. هذا بعيد. والخبر الثاني أصح عند نسّابتهم من الأوّل.
وأما بطون هوّارة فكثير وأكثرهم بنو نبه وأوريغ اشتهروا نسبة لشهرته وكبر سنه من بينهم فانتسبوا جميعا إليه. وكان لأوريغ أربعة من الولد: هوّار وهو أكبرهم، ومغر وقلدن ومندر [1] ، ولكل واحد منهم بطون كثيرة وكلّهم ينسبون إلى هوّار. فمن بطون مغر ماوس وزمّور وكياد وسواي [2] ذكر هذه البطون الأربعة ابن حزم، وزاد سابق المطماطي وأصحابه ورجين ومنداسة وكركوده ومن بطون قلدن: خماصه وورصطيف وبيانة [3] . وبل ذكر هذه الأربعة ابن حزم وسابق. ومن بطون ملد مليلة وسطط وروفل [4] واسيل ومسراتة ذكرها ابن حزم، وقال: جميعهم بنو لهال بن ملك [5] ، وكذا عند سابق. ويقال: إن ورنيفن أيضا من نهانه [6] .
ومن بطون هوّارة بنو كهلان. ويقال: إن مليلة من بطونهم. وعند نسّابه البربر من بطونهم غريان وورغة وزكاوة ومسلاتة ومجريس. ويقال إن ونيفن منهم. ومجريس لهذا العهد ينتسبون إلى ونيفن وعند سابق وأصحابه أن بنى كهلان وريجن إحدى بطون مغر، وأن من بطون بني كهلان بني كسى ورتاكط ولشوه [7] وهيوارة. وأما بطون أدّاس بن زحيك بن مادغيس الأمراء الذين دخلوا في هوّارة فكثير. فمنهم هراغة وترهوتة وشتاتة وأنداوة وهيزونة وأوطيعة وضبرة [8] هؤلاء باتفاق من ابن حزم وسابق وأصحابه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ملد.
[2] وفي نسخة أخرى: سراي.
[3] وفي نسخة أخرى: قمصانه وورصطيف وبيانة وكذلك في النسخة التونسية.
[4] وفي نسخة أخرى: وورفل.
[5] وفي نسخة أخرى: لهان بن ملد.
[6] وفي نسخة أخرى: ويقال: إن ونيفن أيضا من لهانة.
[7] وفي النسخة الباريسية: مشوه وفي التونسية تيسوة وفي نسخة أخرى شوه.
[8] وفي نسخة أخرى: فمنهم هراغة وترهوتة وشتاتة وأنداوة وهنزونة وأوطيطة وصنبرة.

(6/183)


وكانت مواطن الجمهور من هوّارة هؤلاء، ومن دخل في نسبهم من إخوانهم البرانس والصمغر [1] لأوّل الفتح بنواحي طرابلس وما يليها من برقة كما ذكره المسعودي والبكري. وكانوا ظواعن وآهلين، ومنهم من قطع الرمل إلى بلاد القفر وجاوزوا لمطة من قبائل الملثّمين فيما يلي بلاد كوكو من السودان تجاه إفريقية، ويعرفون بنسبهم هكّارة، قلبت العجمة واوه كافا أعجمية تخرج بين الكاف العربية والقاف. وكان لهم في الردّة وحروبها آثار ومقامات. ثم كان لهم في الخارجيّة والقيام بها ذكر، وخصوصا بالاباضية منها. وخرج على حنظلة منهم عبد الواحد بن يزيد مع عكاشة الفزاريّ فكانت بينهما وبين حنظلة حروب شديدة. ثم هزمهما وقتلهما وذلك سنة أربع وعشرين ومائة أيام هشام بن عبد الملك. وخرج على يزيد بن حاتم سنة ست وخمسين ومائة يحيى بن فوناس منهم، واجتمع إليه كثير من قومه وغيرهم.
وزحف إليه قائد طرابلس عبد الله بن السمط الكندي على شاطئ البحر بسواريه من سواحلهم، فانهزم وقتل عامة هوّارة. وكان منهم مع عبد الرحمن بن حبيب مجاهد ابن مسلم من قوّاده. ثم أجاز منهم إلى الأندلس مع طارق رجالات مذكورون واستقروا هنالك، وكان من خلفهم بنو عامر بن وهب أمير رندة أيام لمتونة، وبنو ذي النون الذين ملكوها من أيديهم، واستضافوا معها طليطلة وبنو رزين أصحاب السهلة. ثم ثارت هوارة من بعد ذلك على إبراهيم بن الأغلب سنة ست وتسعين ومائة، وحاصروا طرابلس وافتتحوها فخرّبوها. وتولى كبر ذلك منهم عياض بن وهب، وسرّح إبراهيم إليهم ابنه أبا العبّاس فهزمهم وقتلهم وبنى طرابلس.
وجأجأ هوّارة بعبد الوهاب بن رستم من مكان إمارتهم بتاهرت فجاءهم واجتمعوا إليه ومعهم قبائل نفوسة وحاصروا أبا العبّاس بن الأغلب بطرابلس إلى أن هلك أبوه إبراهيم بالقيروان، وقد عهد إليه فصالحهم على أن يكون الصحراء لهم. وانصرف عبد الوهاب إلى نفوسه. ثم أصبحوا بعد ذلك وغزوا مع الجيوش صقلّيّة، وشهد فتحها منهم زواوة بن نعم الحلفاء. ثم كان لهم مع أبي يزيد النكاري وفي حروبه مقامات مذكورة، اجتمعوا إليه من مواطنهم بجبل أوراس ومرماجنة لما غلب عليه، وأخذ أهلها بدعوته فاغاشوا إلى ولايته وفعلوا الأفاعيل. وكان من أظهرهم في تلك
__________
[1] وفي النسخة التونسية: البتر.

(6/185)


الفتنة بنو كهلان.
ولما هلك أبو يزيد كما نذكره سطا إسماعيل المنصور بهم وأثخن فيهم، وانقطع ذكر بني كهلان. ثم جرّت الدول عليهم أذيالها وأناخت بكلاكلها، وأصبحوا في عداد القبائل الغارمة من كل ناحية، فمنهم لهذا العهد بمصر أوزاع متفرقون أوطنوها أكرة وعبارة وشاوية، وآخرون موطنون ما بين برقة والاسكندرية يعرفون بالمثانية [1] ، ويظعنون مع الحرّة [2] من بطون هيث من سليم بأرض التلول من إفريقية ما بين تبسة إلى مرماجنة إلى باجة، ظواعن صاروا في عداد الناجعة عرب بني سليم في اللغة والزيّ وسكنى الخيام وركوب الخيل، وكسب الإبل وممارسة الحروب، وإيلاف الرحلتين في الشتاء والصيف في تلولهم. قد نسوا رطانة البربر واستبدلوا منها بفصاحة العرب، فلا يكاد يفرّق بينهم. فأوّلهم مما يلي تبسة قبيلة وينفن [3] ورياستهم لهذا العهد في ولد يفرن بن حنّاش لأولاد سليم بن عبد الواحد بن عسكر بن محمد بن يفرن، ثم لأولاد زيتون بن محمد بن يفرن، ولأولاد دحمان بن فلان بعده. وكانت الرئاسة قبلهم لسارية من بطون ونيفن ومواطنهم ببسائط مزماحة [4] وتبسة وما إليهما.
وبينهم قبيلة أخرى في الجانب الشرقي منهم يعرفون بقيصرون ورياستهم في بيت بني مرمن [5] ما بين ولد زعازع وولد حركات ومواطنهم بفحص آبّه وما إليها من نواحي الأربس. وتليهم إلى جانب الشرق قبيلة أخرى منهم يعرفون بنصورة، ورياستهم في بيت الرمامنة لولد سليمان بن جامع منهم. ويراد بهم في رياسة نصرة [6] قبيلة وربهامة [7] ومواطنهم ما بين تبسة إلى حامة إلى جبل الزنجار إلى أطار على ساحل تونس وبسائطها. ويجاورهم متساحلين إلى ضواحي باجة قبيلة أخرى من هوّارة يعرفون ببني سليم، ومعهم بطن من عرب نصر [8] من هذيل بن مدركة بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المثالنة.
[2] وفي النسخة التونسية: العزة.
[3] وفي نسخة أخرى: ونيقش وفي قبائل المغرب: ونيفن ص 316- 317.
[4] وفي نسخة أخرى: مرماجة وفي مكان آخر مرماجنة.
[5] وفي نسخة أخرى: مؤمن.
[6] وفي النسخة التونسية: نصوة.
[7] وفي النسخة التونسية: وزمانة.
[8] وفي نسخة أخرى: مضر.

(6/186)


إلياس. جاءوا من مواطنهم بالحجاز مع العرب الهلاليّين عند دخولهم إلى المغرب، وأوطنوا بهذه الناحية من إفريقية، واختلطوا بهوّارة وحملوا في عدادهم.
ومعهم أيضا بطن آخر من بطون رياح [1] من هلال ينتمون إلى عتبة بن مالك بن رياح صاروا في عدادهم وجروا على مجراهم والظعن والمغرم. ومعهم أيضا بطن من مرداس بني سليم يعرفون ببني حبيب. ويقولون هو حبيب بن مالك. وهم غارمة مثل سائر هوّارة وضواحي إفريقية من هذا العهد معهودة لهؤلاء الظواعن [2] ، ومعظمهم من هوّارة. وهم أهل بقروشاء وركوب للخيل وللسلطان بإفريقية، عليهم وظائف من الجباية، وضعها عليهم دهاقين العمّال بديوان الخراج، قوانين مقرّرة وتضرب عليهم مع ذلك البعث في غزوات السلطان بعسكر مفروض يحضر بمعسكر السلطان متى استنفروا لذلك.
ولرؤسائهم آراء ذلك قاطعات ومكان في الدول بين رجالات البدو، ويربطون هوّارة بمواطنهم الأولى من نواحي طرابلس، ظواعن وآهلين، توزّعتهم العرب من دبان [3] فيما توزعوه من الرعايا وغلبوهم على أمرهم منذ ضحا عملهم من ظل الدولة، فتملّكوهم تملّك العبيد للجباية منهم والاستكثار منهم في الانتجاع والحرب مثل:
ترهونه وورقلة، الظواعن ومجريس الموطّنين بزرنزور من ونيفن وهي قرية من قرى طرابلس، ومن هوّارة هؤلاء بآخر عمل طرابلس مما يلي بلد سرت وبرقة قبيلة يعرفون بمسراتة لهم كثرة واعتزار، ووضائع العرب عليهم قليلة ويعطونها من عزة. وكثيرا ما ينقلون في سبيل التجارة ببلاد مصر والإسكندرية، وفي بلاد الجريد من إفريقية وبأرض السودان إلى هذا العهد.
(وأعلم) أنّ في قبلة قابس وطرابلس جبالا متصلا بعضها ببعض من المغرب إلى المشرق، فأوّلها من جانب الغرب جبل دمّر يسكنه أمم من لواتة ويتّصلون في بسيطة إلى فاس [4] وصفاقس من جانب الغرب، وأمم أخرى من نفوسة من جانب الشرق. وفي طوله سبع مراحل، ويتصل به شرقا جبل نفوسة تسكنه أمة كبيرة [5]
__________
[1] رباح: سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب.
[2] وفي نسخة أخرى: معمورة بهؤلاء الظواعن.
[3] وفي نسخة أخرى: دباب.
[4] وفي النسخة التونسية: قابس.
[5] وفي النسخة التونسية: أمم كثيرة.

(6/187)


من نفوسة ومغراوة وسدراتة، وهو قبلة طرابلس على ثلاث مراحل عنها. وفي طوله سبع مراحل، ويتصل به من جانب الشرق جبل مسلاتة، ويعتمره قبائل هوّارة إلى بلد مسراتة وبرقة، وهو آخر جبال طرابلس. وكانت هذه الجبال من مواطن هوّارة ونفوسة ولواتة. وكانت هنالك مدينة صغيرة بلد نفوسة قبل الفتح. وكانت برقة من مواطن هوّارة هؤلاء، ومنهم مكان بني خطّاب ملوك زويلة إحدى أمصار برقة، كانت قاعدة ملكهم حتى عرفت بهم، فكان يقال زويلة بن خطّاب.
ولما خربت انتقلوا منها إلى فزّان من بلاد الصحراء وأوطنوها، وكان لهم بها ملك ودولة حتى إذا جاء قراقوش الغزّي الناصريّ مملوك تقي الدين ابن أخي صلاح الدين كما نذكر في مكانه عند ذكر الغوري [[1]] بن مسوفة وأخباره، وافتتح زلّة وأوجلة وافتتح فزّان بعدها، وتقبّض على عاملها محمد بن خطّاب بن يصلتن بن عبد الله بن صنفل بن خطّاب آخر ملوكهم، وامتحنه وطالبه بالأموال وبسط عليه العذاب إلى أن هلك، وانقرض أمر بني خطّاب هؤلاء الهوّاريّين.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الميورقي.

(6/188)


(ومن قبائل) هوّارة هؤلاء بالمغرب أمم كثيرة في مواطن من أعمال تعرف بهم، وظواعن شاوية تنتجع لمسرحها في نواحيها، وقد صاروا عبيدا للمغارم في كل ناحية. وذهب ما كان لهم من الاعتزاز والمنعة أيام الفتوحات بسبب الكثرة، وصاروا إلى الافتراق في الأودية بسبب القلّة والله مالك الأمور. ومن أشهرهم بالمغرب الأوسط أهل الجبل المطل على البطحاء، وهو مشهور باسم هوّارة وفيه من مسراتة وغيرهم من بطونهم، ويعرف رؤساؤهم من بني إسحاق. وكان الجبل من قبلهم فيما زعموا لبني يلومين، فلما انقرضوا صار إليه هوّارة وأوطنوه، وكانت رياستهم في بني عبد العزيز منهم. ثم ظهر من بني عمّهم رجل اسمه إسحاق واستعمله ملوك القلعة، وصارت رياستهم في عقبه بني إسحاق واختطّ كبيرهم محمد بن إسحاق القلعة المنسوبة إليهم.
وورث رياسته فيهم أخوه حيّون وصارت في عقبه. واتصلوا بالسلطان أيام ملك بني عبد الواد على المغرب الأوسط، وانتظموا في شرائعهم، واستعمل أبو تاشفين من ملوكهم يعقوب بن يوسف بن حيّون قائدا على بني توجين عند ما غلبهم على أمرهم، وفرض المغارم عليهم، فقام بها أحسن قيام ودوّخ بلادهم، وأذلّ من عزّهم. وبعد أن غلب بنو مرين بني عبد الواد على المغرب الأوسط استعمل السلطان أبو الحسن عبد الرحمن بن يعقوب على قبيلة هؤلاء. ثم استعمل بعده عمّه عبد الرحمن، ثم ابنه محمد بن عبد الرحمن بن يوسف. ثم تلاشى حال هذا القبيل وخفّ ساكن الجبل بما اضطرم بهم [1] دولة بني عبد الواد، وأجحفت بهم في الظلامات.
وانقرض بيت بني إسحاق، والأمر على ذلك لهذا العهد، والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن ازداجة ومسطاسه وعجيسة من بطون البرانس ووصف أحوالهم)
أما أزداجة ويعرفون أيضا وزداجة فمن بطون البرانس، وكثير من نسّابة البربر يعدّونهم في بطون زناتة. وقد يقال إن أزداجة من زناتة ووزداجة من هوّارة، وأنهما بطنان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: اضطهدتهم.

(6/190)


مفترقان وكان لهم وفور وكثرة. وكانت مواطنهم بالمغرب الأوسط بناحية وهران، وكان لهم اعتزاز وآثار في الفتن والحروب. ومسطاسة مندرجون معهم فيقال إنهم من عداد بطونهم، ويقال إنهم إخوة مسطاس أخي وزداج والله أعلم.
وكان من رجالتهم المذكورين شجرة بن عبد الكريم المسطاسي وأبو دليم بن خطّاب. وأجاز أبو دليم إلى الأندلس من ساحل تلمسان، وكان لبنيه بها ذكر وفي فقهاء قرطبة. وكان من بطون ازداجة بنو مشقق [1] وكانوا يجاورون وهران ونزل مرس وهران من رجال الدولة الأموية محمد بن أبي عون ومحمد بن عبدون، فداخلوا بني مسكن وملكوا وهران سبع سنين مقيمين فيها للدعوة الأموية، فلما ظهرت دعوة الشيعة وملك عبيد الله المهدي تاهرت وولّى عليها دواس بن صولات اللهيصي من كتامة، وأخذت البرابرة بدعوتهم أو عز دوّاس بحصار وهران فرجعوا إليها سنة سبع وتسعين وأدخلوا بني مسكن في ذلك فأجابوهم، وفرّ محمد بن أبي عون فلحق بدوّاس بن صولات واستبيحت وهران وأضرمت نارا.
ثم جدّد بناءها دوّاس وأعاد محمد بن أبي عون إلى ولايتها، فعادت أحسن ما كانت، وأمراء تلمسان لذلك العهد من الأدارسة بنو أحمد بن محمد بن سليمان، وسليمان أخو إدريس الأكبر كما ذكرناه. وكانوا يقيمون دعوة الأموية لذلك العهد.
ثم ولي على تاهرت أيام أبي القاسم بن عبد الله أيا ملك يغمراسن بن أبي سمحة، وانتقض عليه البربر فحاصروه عند زحف ابن أبي العافية إلى المغرب الأوسط بدعوة المروانية، وكان ممن أخذ بها محمد بن أبي عون صاحب وهران وسرّح أبو القاسم ميسورا فولاه إلى المغرب وأتاه محمد بن عون بطاعته فقبلها وأقرّه على عمله، ثم نكث محمد بن عون عند منصرف ميسور من المغرب وراجع طاعته المروانية.
ثم كان شأن أبي يزيد وانتقاض سائر البرابرة على العبيديّين، واستفحل أمر زناتة وأخذ بدعوة المروانيّين. وكان الناصر عقد ليعلى بن أبي محمد اليفرني على المغرب، فخاطبه بمراوغة محمد بن أبي عون وقبائل ازداجة في الطاعة للعداوة وبين القبيلتين بالمجاورة، وزحف إلى ازداجة فحصرهم بجبل كيدرة، ثم تغلّب عليهم واستأصلهم وفرّق جماعتهم وذلك لسنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، ثم زحف إلى وهران ونازلها، ثم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مسقن.

(6/191)


افتتحها عنوة وأضرمها نارا واستلحم ازداجة ولحق رياستهم بالأندلس فكانوا بها، وكان منهم خزرون بن محمد من كبار أصحاب المنصور بن أبي عامر وابنه المظفّر وأجاز إلى المغرب وبقي ازداجة بعد ذلك على حال من الهضيمة والمذلّة وانتظموا في عداد المغارم من القبائل.
(وأما العجيسة) وهم من بطون البرانس من ولد عجيسة من برنس ومدلول هذا الاسم البطن، فإنّ البربر يسمّون البطن بلغتهم عدّس بالدال المشدّدة، فلما عرّبتها العرب قلبت دالها جيما مخفّفة، وكان لهم بين البربر كثرة وظهور، وكانوا مجاورين في بطونهم لصنهاجة، وبقاياهم لهذا العهد في ضواحي تونس والجبال المطلّة على المسيلة، وكانت منهم يسكنون جبل القلعة. وكان لهم في فتنة أبي يزيد أثر. ولما هزمهم المنصور لجأ إليهم واعتصم بقلعة كتامة من حصونهم حتى اقتحم عليه. ثم بادر حمّاد بن بلكّين من بعد ذلك مكانا لبناء مدينة فاختطها بينهم. ونزلها ووسّع خطتها واستبحر عمرانها. وكانت حاضرة لملك آل حماد فأخلفت هذه المدينة من جدّة عجيسة لمّا تمرّست بهم، وخضدت من شوكتهم وراموا كيد القلعة مرارا، وأجلبوا على ملوكها بالأعياص منهم فاستلحمهم السيف، ثم هلكوا وهلكت القلعة من بعدهم وورثت مواطنهم بذلك الجبل عياض من أفاريق العرب الهلاليّين وسمّي الجبل بهم، وفي القبائل بالمغرب كثير من عجيسة هؤلاء مفترقون فيهم والله أعلم.
(الخبر عن أوربة من بطون البرانس وما كان لهم من الردّة والثورة وما صار لهم من الدعاء لإدريس الأكبر)
كانت البطون التي فيها الكثرة والغلب من هؤلاء البربر البتر كلهم لعهد الفتح أوربة وهوّارة وصنهاجة من البرانس، ونفوسة وزناتة ومطغرة ونفزاوة من البتر، وكان التقدّم لعهد الفتح لأوربة هؤلاء بما كانوا أكثر عددا وأشدّ بأسا وقوة، وهم من ولد أورب بن برنس، وهم بطون كثيرة، فمنهم بجاية ونفاسة ونعجة وزهكوجة ومزياتة ورغيوتة وديقوسة. وكان أميرهم بين يدي الفتح ستردير بن رومي بن بارزت بن بزريات [1]
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الفتح سكرديد بن زوغي بن بارزت بن برزيات.

(6/192)


ولي عليهم مدّة ثلاث وسبعين سنة، وأدرك الفتح الإسلامي ومات سنة إحدى وسبعين، وولي عليهم من بعده كسيلة بن لزم [1] الأوربي فكان أميرا على البرانس كلهم، ولما نزل ابن المهاجر تلمسان سنة خمس وخمسين كان كسيلة بن لزم مرتادا بالمغرب الأقصى في جموعه من أوربة وغيرهم، فظفر به أبو المهاجر وعرض عليه الإسلام فأسلم، واستنقذه وأحسن إليه وصحبه.
وقدم عقبة في الولاية الثانية أيام يزيد سنة اثنتين وستين فاضطغن عليه صحابته لأبي المهاجر وتقدّم أبو المهاجر في اصطناعه فلم يقبل وزحف إلى المغرب وعلى مقدّمته زهير ابن قيس البلويّ فدوّخه. ولقيه ملوك البربر ومن انضم إليه من الفرنجة بالزاب وتاهرت فهزمهم واستباحهم، وأذعن له بليان أمير غمارة ولاطفه وهاداه، ودلّه على عورات البرابرة وردأه بوليلة والسوس وما والاهما من مجالات الملثمين فغنم وسبى، وانتهى إلى ساحل البحر وقفل ظافرا.
وكان في غزاتة تلك يستهين كسيلة ويستخفّ به وهو في اعتقاله. وأمره يوما بسلخ شاة بين يديه فدفعها إلى غلمانه، وأراده عقبة على أن يتولّاها بنفسه، وانتهره فقام إليها كسيلة مغضبا وجعل كلما دسّ يده في الشاة مسح بلحيته والعرب يقولون ما هذا يا بربري؟ فيقول: هو أجير [2] فيقول لهم شيخ منهم: إن البربري يتوعّدكم. وبلغ ذلك أبا المهاجر فنهى عقبة عنه، وقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستألف جبابرة العرب، وأنت تعمد إلى رجل جبّار في قومه بدار عزّه قريب عهد بالشرك فتفسد قلبه وأشار عليه بأن يوثق منه. وخوّفه فتكه فتهاون عقبة بقوله.
فلما قفل عن غزاتة وانتهى إلى طبنة صرف العساكر إلى القيروان أفواجا ثقة بما دوّخ من البلاد، وأذلّ من البربر حتى بقي في القليل [3] ، وسار إلى تهودة أو بادس لينزل بها الحامية. فلما نظر إليه الفرنجة طمعوا فيه وراسلوا كسيلة بن لزم ودلّوه على الفرصة فيه فانتهزها، وراسل بني عمّه ومن تبعهم من البربر، واتبعوا عقبة وأصحابه رضي الله عنه حتى إذا غشوه بتهودة ترحّل القوم وكسروا أجفان سيوفهم، ونزل الصبر واستلحم عقبة وأصحابه رضي الله عنهم ولم يفلت منهم أحد. وكانوا زهاء ثلاثمائة من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: لمرم وفي النسخة التونسية لمزم.
[2] وفي نسخة ثانية: فيقول: هذا جيد للشعر.
[3] وفي نسخة ثانية: قليل من الناس.

(6/193)


كبار الصحابة والتابعين استشهدوا في مصرع واحد، وفيهم أبو المهاجر كان أصحبه في اعتقاله، فأبلى رضي الله عنه في ذلك اليوم البلاء الحسن، وأجداث الصحابة رضي الله عنهم أولئك الشهداء عقبة وأصحابه بمكانهم ذلك من أرض الزاب لهذا العهد.
وقد جعل على قبر عقبة أسنمة ثم جصّص، واتخذ عليه مسجد عرف باسمه وهو في عداد المزارات ومظان البركة، بل هو أشرف مزور من الأجداث في بقاع الأرض لما توفّر فيه من عدد الشهداء من الصحابة والتابعين الذين لا يبلغ أحد مدّ أحدّهم ولا نصيفه، وأسر من الصحابة يومئذ محمد بن أوس [1] الأنصاري ويزيد بن خلف العبسيّ [2] ونفر معهم ففداهم ابن مصاد صاحب قفصة. وكان زهير بن قيس البلويّ بالقيروان وبلغه الخبر فخرج هاربا وارتحل بالمسلمين ونزل برقة وأقام بها ينتظر المدد من الخلفاء. واجتمع إلى كسيلة جميع أهل المغرب من البربر والفرنجة، وزحف الى القيروان فخرج العرب منها ولحق بزهير بن قيس ولحق بها أصحاب الذراري والأثقال فأمّنهم ودخل القيروان وأقام أميرا على إفريقية ومن بقي بها من العرب خمس سنين وقارن ذلك مهلك يزيد بن معاوية وفتنة الضّحاك بن قيس مع المروانية بمرج راهط وحروب آل الزبير فاضطرب أمر الخلافة بعض الشيء، واضطرم المغرب نارا وفشت الردّة في زناتة والبرانس. ثم استقل عبد الملك بن مروان من بعد ذلك وأذهب بالمشرق آثار الفتنة. وكان زهير بن قيس مقيما ببرقة منذ مهلك عقبة، فبعث إليه بالمدد وولّاه حرب البرابرة والثأر بدم عقبة. فزحف إليها في آلاف من العرب سنة سبع وستين. وجمع كسيلة البرانس وسائل البربر، ولقيه بجيش [3] من نواحي القيروان واشتدّ القتال بين الفريقين، ثم انهزم البربر وقتل كسيلة ومن لا يحصى منهم وأتبعهم العرب إلى مرماجنّة ثم إلى ملوية وذلّ البربر ولجئوا إلى القلاع والحصون وحدّت شوكة أوربة من بينهم واستقرّ جمهورهم بديار المغرب الأقصى فلم يكن بعدها لهم ذكر.
واستولوا على مدينة وليلى بالمغرب كانت ما بين موضع فاس ومكناسة بجانب جبل زرهون وأقاموا على ذلك، والجيوش من القيروان تدوّخ المغرب مرّة بعد أخرى إلى أن خرج محمد بن عبد الله ابن حسن بن الحسن بن علي أيام المنصور وقتل بالمدينة سنة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أويس، وعند ابن الأثير أوس (ج 4 ص 108) .
[2] وفي نسخة أخرى: القيسي.
[3] وفي النسخة التونسية ممس (وممس اسم بلد) وفي الكامل ج 4 ص 108 ممش.

(6/194)


خمس وأربعين ومائة. ثم خرج بعده ابن عمّه حسين بن علي بن حسن المثلّث بن حسن المثنّى بن حسن السبط أيام الهادي وقتل بفخ على ثلاثة أميال من مكة سنة تسع وستين ومائة، واستلحم كثير من أهل بيته وفرّ إدريس بن عبد الله إلى المغرب ونزل على أوربة سنة اثنتين وسبعين ومائة وأميرهم يومئذ بو ليلى إسحاق بن محمد بن عبد الحميد منهم فأجاره وجمع البرابر على دعوته. واجتمعت عليه زواغة ولواتة وسراتة وغمات [1] ونفرة ومكناسة وغمارة وكافة برابرة المغرب، فبايعوه وائتمروا بأمره، وتمّ له الملك والسلطان بالمغرب. وكانت له الدولة التي ورثها أعقابه إلى حين انقراضها، كما ذكرنا في دولة الفاطميّين والله تعالى أعلم.
الخبر عن كتامة من بطون البرانس وما كان لهم من العز والظهور على القبائل وكيف تناولوا الملك من أيدي الاغالبة بدعوة الشيعة
هذا القبيل من قبائل البربر بالمغرب وأشدّهم بأسا وقوة، وأطولهم باعا في الملك عند نسّابة البربر من ولد كتام بن برنس، ويقال: كتم ونسّابة العرب يقولون إنهم من حمير ذكر ذلك ابن الكلبيّ والطبريّ. وأوّل ملوكهم أفريقش بن قيس بن صيفي من ملوك التبابعة، وهو الّذي افتتح إفريقية وبه سمّيت، وقتل ملكها جرجير، وسمّى البربر بهذا الاسم كما ذكرناه. يقال أقام في البربر من حمير صنهاجة وكتامة فهم إلى اليوم فيهم، وتشعّبوا في المغرب وانبثوا في نواحيه إلّا أنّ جمهورهم كانوا لأول الملّة بعد تهييج الردّة وطفئت تلك الفتن، موطنين بأرياف قسنطينة إلى تخوم بجاية غربا إلى جبل أوراس من ناحية القبلة. وكانت بتلك المواطن بلاد مذكورة أكثرها لهم، وبين ديارهم ومجالات تقلّبهم مثل أبكجان وسطيف وباغاية، وبفاس وتلزمه [2] ويتكست وميلة وقسنطينة والسيكرة والقلّ وجيجل من حدود جبل أوراس إلى سيف البحر ما بين بجاية وبونة.
وكانت بطونهم كثيرة يجمعها كلّها غرسن ويسوّدة ابنا كتم بن يوسف [3] فمن يسّودة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: سدراتة وغماته.
[2] وفي نسخة أخرى: ونقاوس ويلزمة.
[3] وفي نسخة أخرى: برنس.

(6/195)


فالسبد ودنهاجة ومتوسة ورسين [1] كلّهم بنو يسّودة بن كتم وإلى دنهاجة ينسب قصور كتامة بالمغرب لهذا العهد. ومن غرسن مصالة وقلان وماوطن ومعّاذ بنو غرسن ابن كتم، ولهيفة [2] وجيملة ومسألته وبنو بناوة بن غرسن، وملوسة من إيان ولطاية وإجّانة وغسمان وأوباست بنو تيطاسن [3] بن غرسن وملوسة من إيان غرسن بن غرسن. ومن ملوسة هؤلاء بنو زيدوي [4] أهل الجبل المطل على قسنطينة لهذا العهد.
وبعد البرابرة من كتامة بنو يستيتن وهشتيوة ومصالة وبني قنسيلة. وعدّ ابن حزم منهم زواوة بجميع بطونهم وهو الحق على ما تقدّم.
وكان من هذه البطون بالمغرب الأقصى كثير منتبذون عن مواطنهم، وهم بها إلى اليوم. ولم يزالوا بهذه المواطن وعلى هذه الحالة من لدن ظهور الملّة وملك المغرب إلى دولة الأغالبة. ولم تكن الدولة تسومهم بهضيمة ولا ينالهم تعسّف لاعتزازهم بكثرة جموعهم كما ذكره ابن الرقيق في تاريخه إلى أن كان من قيامهم في دعوة الشيعة ما ذكرناه في دولتهم عند ذكر دولة الفاطميّين إثر دولة بني العبّاس، فانظره هنالك وتصفّحه تجد تفصيله. ولما صار لهم الملك بالمغرب زحفوا إلى المشرق فملكوا الإسكندرية ومصر والشام واختطّوا القاهرة أعظم الأمصار بمصر، وارتحل المعزّ رابع خلفائهم فنزلها وارتحل معه كتامة على قبائلهم واستفحلت الدولة هنالك وهلكوا في ترفها وبذخها.
وبقي في مواطنهم الأولى بجبل أوراس وجوانبه من البسائط بقايا من قبائلهم على أسمائها وألقابها والآخرون بغير لقبهم وكلّهم رعايا معبدون للمغارم إلّا من اعتصم بقنة الجبل مثل بني زيدوي بجبلهم وأهل جبال جيجل وزواوة أيضا في جبالهم. وأما البسائط فأشهر من فيها منهم سدويكش ورياستهم في أولاد سواد [5] ولا أدري إلى من يرجعون في قبائل كتامة المسمّين بهذه الاسم [6] إلّا أنهم باتفاق من أهل
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فمن يسودة: فلاسة ودنهاجة ومتوسة ووريسن.
[2] وفي نسخة أخرى: لهيصة.
[3] وفي نسخة أخرى: أوفاس بنو ينطاسن.
[4] وفي نسخة أخرى: بنو زلدوي.
[5] وفي نسخة أخرى: سواق.
[6] وفي نسخة أخرى: في هذا الكتاب.

(6/196)


الأخبار، ونحن الآن ذاكرون ما عرفناه من أخبارهم المتأخّرة بعد دولة كتامة والله تعالى ولي العون.
(الخبر عن سدويكش ومن اليهم من بقايا كتامة في مواطنهم)
هذا الحي لهذا العهد وما قبله من العصور يعرفون بسدويكش وديارهم في مواطن كتامة ما بين قسنطينة وبجاية في البسائط منها، ولهم بطون كثيرة مثل سيلين وطرسون وطرغيان وموليت وبني فتنة [1] وبني لمائي وكايارة وبني زغلان والنورة وبني مزوان ووارمسكن وسكوال وبني عيار [2] . وفيهم من لماته [3] ومكلاتة وريغة والرئاسة على جميعهم في بطن منهم يعرفون أولاد سواق لهم جمع وقوّة وعدد وعدّة. وكان جميع هذه البطون وعيالهم غارمة فيمتطون الخيل ويسكنون الخيام ويظعنون على الإبل والبقر ولهم مع الدول في ذلك الوطن استقامة. وهذا شأن القبائل الأعراب من العرب لهذا العهد. وهم ينتفون من نسب كتامة ويفرون منه لما وقع منذ أربعمائة سنة من النكير على كتامة بانتحال الرافضة وعداوة الدول بعدهم، فيتفادون بالانتساب إليهم. وربما انتسبوا في سليم من قبائل مضر وليس ذلك بصحيح. وإنما هم من بطون كتامة وقد ذكرهم مؤرخو صنهاجة بهذا النسب ويشهد لذلك الموطن الّذي استوطنوه من إفريقية.
ويذكر نسّابتهم ومؤرخوهم أن موطن أولاد سواق منهم كان في قلاع بني بو خصرة من نواحي قسنطينة ومنه انتقلوا وانتشروا في سائر تلك الجهات. وأولاد سواق بطنان وهم: أولاد علاوة بن سواق وأولاد يوسف بن حمّو بن سواق. فأما أولاد علاوة فكانت الرئاسة على قبائل سدويكش لهم فيما سمعناه من مشيختنا، وأن ذلك كان لعهد دولة الموحّدين وكان منهم علي بن علاوة وبعده ابنه طلحة بن عليّ وبعده أخوه يحيى بن علي وبعده أخوهما منديل بن علي عزل تازير بن أخيه طلحة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بني فشة وفي النسخة التونسية بني قشة.
[2] وفي النسخة أخرى: البؤرة وبني مروان وواركسن وسكرال وبني عيّاد.
[3] وفي نسخة أخرى: لماية.

(6/197)


لما بويع السلطان أبو يحيى بقسنطينة سنة عشر من هذه المائة وقع من تازير انحراف؟ من طاعته واعتلوا بطاعة ابن الخلوف بجاية، فقدم عوضا منه عمّه منديل. ثم؟ يستبدل منهم أجمعين بأولاد يوسف، فشمّروا في طاعته وأبلوا، وغلب السلطان على بجاية وقتل ابن الخلوف فظهر أولاد يوسف وزحموا أولاد علاوة، وأخرجوهم من لوطن فصاروا إلى عياض من أفاريق هلال، وسكنوا في جوارهم بجبلهم الّذي وطنوه المطل على المسيلة. واتصلت الرئاسة على سدويكش في أولاد يوسف وهم لهذا العهد أربع قبائل: بنو محمد بن يوسف وبنو المهدي وبنو إبراهيم بن يوسف والعزيزيون وهم بنو منديل، وظافر وجري وسيّد الملوك والعبّاس وعيسى، والستة أولاد يوسف وهم أشقاء. وأمّهم تاعزيزت فنسبوا إليها، وأولاد محمد والعزيزيون يوطنون بنواحي بجاية وأولاد المهدي وإبراهيم بنواحي قسنطينة.
وما زالت الرئاسة في هذه القبائل الأربع تجتمع تارة في بعضهم وتفترق أخرى إلى هذا العهد، وكانت الأخرى دولة مولانا السلطان أبي يحيى اجتمعت رياستهم لعبد الكريم بن منديل بن عيسى من العزيزيين ثم افترقت واستقل كل بطن من هؤلاء الأربعة برياسة، وأولاد علاوة في خلال هذا كلّه بجبل عياض. ولما تغلب بنو مرين على إفريقية نكر السلطان أبو عنّان أولاد يوسف ورماهم بالميل إلى الموحّدين، وصرف الرئاسة على سدويكش إلى مهنّا من تازير بن طلحة من أولاد علاوة فلم يتم له ذلك، وقتله أولاد يوسف. ورجع أولاد علاوة إلى مكانهم من جبل عياض.
وكان رئيسهم لهذه العصور عدوان بن عبد العزيز بن زرّوق بن علي بن علاوة، وهلك ولم تجتمع رياستهم بعده لأحد. وفي بطون سدويكش هؤلاء بطن مرادف أولاد سواق في الرئاسة على بعض أحيائهم وهم بنو سكين، ومواطنهم في جوار لواتة بجبل تابور وما إليه من نواحي بجاية، ورياستهم في بني موسى بن ثابر منهم.
أدركنا ابنه صخر بن موسى واختصّه السلطان أبو يحيى بالرياسة على قومه، وكان له مقامات في خدمته. ثم عرف بعده في الوفاء ابنه الأمير أبو حفص فلم يزل معه إلى أن وقع به بنو مرين بناحية قابس، وجيء به مع أسرى الوقيعة فقطعه السلطان أبو الحسن من خلاف، وهلك بعد ذلك وقام برياسته ابنه عبد الله وكان له فيها وفي خدمة السلطان بجاية شأن إلى أن هلك لأعوام ثمانين، وولي ابنه محمد من بعده والله وارث الأرض ومن عليها
.

(6/198)


(الخبر عن بني ثابت أهل الجبل المطل على قسنطينة من بقايا كتامة)
ومن بطون كتامة وقبائلهم أهل الجبل المطل على القل ما بينه وبين قسنطينة المعروف برياسة أولاد ثابت بن حسن بن أبي بكر من بني تليلان. ويقال إن أبا بكر هذا الجد هو الّذي فرض المغرم على أهل هذا الجبل لأيام الموحّدين، ولم يكن قبل ذلك عليه مغرم. فلما انقرض ملك صنهاجة وغلب الموحّدون على إفريقية وفد أبو بكر هذا على الخليفة بمراكش ونجع بالطاعة والانقياد، وتقرّب إليه بفرض المغرم على قبيلة بالجبل، وكان لثابت هذا من الولد عليّ وحسن وسلطان وإبراهيم، كلّهم راسوا بالجبل، وأمّا حسن منهم فحجب السلطان أبا يحيى لأول دولته وفي عنيته. ولابن عمر لدولة طرابلس أعوام احدى عشر وسبعمائة كما نذكره. فلما تملّك السلطان بجاية وقتل ابن خلوف ورجع ابن عمر من تونس إلى حجابته، وجد حسن بن ثابت معسكرا بفرحيرة [1] لانقضاء مغارم الوطن، فبعث إليه من قتله. وكان آخرهم رئاسة بالجبل عليّ، أدرك دولة بني مرين بإفريقية. وولي بعده ابن عبد الرحمن ووفد على السلطان أبي عنان بفاس. ولما استجد مولانا السلطان أبو العبّاس دولته بإفريقية استولى عليهم ومحا أثر مشيختهم ورياستهم وصيّرهم من عداد جنده وحاشيته.
واستعمل في الجبل عمّاله وهو جبل مطاوع [2] وجبايته مؤداة لصولته وجواره للعسكر بقسنطينة. ومن بقايا كتامة أيضا قبائل أخرى بناحية تدلس في هضابة مكتنفة بها وهم في عداد القبائل الغارمة، وبالمغرب الأقصى منهم قبيلة من بني سنس [3] بجبل قبلة جبل يزناسن، وقبيلة أخرى بناحية الهبط مجاورون لنصر بن عبد الكريم وقبائل أخرى بناحية مرّاكش نزلوا مع صنهاجة هنالك، ونسب كتامة لهذا العهد بين القبائل المثل السائر في الدولة [4] لما نكرتهم الدول من بعدهم أربعمائة سنة بانتحالهم الرافضة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فرجيوة.
[2] وفي النسخة الباريسية يطواع وفي النسخة التونسية مطواع.
[3] وفي نسخة أخرى: يستيتن.
[4] وفي النسخة التونسية: الذلة.

(6/199)


ومذاهبها الكفرية، حتى صار كبيرهم من أهل نسبهم يفرون منه، وينتسبون فيمن سواهم من القبائل فرارا من هجنته والعزّة للَّه وحده.
(الإلمام بذكر زواوة من بطون كتامة)
هذا البطن من أكبر بطون البربر ومواطنهم كما تراه محتفة ببجاية إلى تدلس في جبال شاهقة وأوعار متسنمة، ولهم بطون وشعوب كثيرة، ومواطنهم متصلة بمواطن كتامة هؤلاء، وأكثر الناس جاهلون بنسبهم. وعامة نسّابة البربر على أنّهم من بني سمكان يحيى بن ضريس، وأنهم إخوة زواغة المحقّقون من النسّابة مثل ابن حزم وأنظاره إنّما يعدّونهم في بطون كتامة وهو الأصوب. والمواطن أوضح دليل عليه وإلا فأين مواطن زواغة؟ وهي طرابلس بالمغرب الأقصى من مواطن كتامة. وإنما حمل على الغلط في نسبهم إلى كتامة تصحيف اسم زوازه بالزاي بعد الواو وهم إخوة زواغة بلا شك، فصحّف هذا القارئ الزاي بالواو فعد زواوة إخوان زواغة. ثم استمر التصحيف جمعا في نسب سمكان والله أعلم، وقد مرّ ذكرهم هنالك مع ذكر زواغة وتعديد بطونهم

(6/200)


الخبر عن صنهاجة من بطون البرانس وما كان لهم من الظهور والدول في بلاد المغرب والأندلس
هذا القبيل من أوفر قبائل البربر، وهو أكثر أهل الغرب لهذا العهد وما بعده [1] لا يكاد قطر من أقطاره يخلو من بطن من بطونهم في جبل أو بسيط، حتى لقد زعم كثير من الناس أنهم الثلث من أمم البربر. وكان لهم في الردّة ذكر وفي الخروج على الأمراء شأن تقدّم منه في صدر ذكر البرابر، ونذكر منه هنا ما تيسّر. وأما ذكر نسبهم فإنّهم من ولد صنهاج وهو صناك [2] بالصاد المشمة بالزاي والكاف القريبة من الجيم. إلا أن العرب عرّبته وزادت فيه الهاء بين النون والألف فصار صنهاج، وهو عند نسّابة البربر من بطون البرانس من ولد برنس بن برّ، وذكر ابن الكلبيّ والطبري أنهم وكتامة جميعا من حمير كما تقدّم في كتامة، وفيما نقل الطبري في تاريخه أنهم صنهاج بن بر بن صوكان بن منصور [3] بن الفند بن أفريقش بن قيس، وبعض النسّابة يزعم أنه صنهاج بن المثنّى بن المنصور بن مصباح بن يحصب بن مالك بن عامر بن حمير الأصغر بن سبإ، كذا نقل ابن النحويّ من مؤرخي دولتهم وجعله ليحصب. وقد مرّ ذكره في أنساب حمير وليس كما ذكر والله أعلم. وأما المحقّقون من نسّابة البربر فيقولون هو صنهاج بن عاميل [4] بن زعزاع بن قيمتا بن سدور بن مولان بن مصلين بن يبرين [5] بن مكسيلة بن دقيوس [6] بن حلحال بن شرو بن مصرايم بن حام. ويزعمون أن جزول واللمط وهسكور إخوة صنهاج، وأن أمهم الأربعة بصكي [7] وبها يعرفون وهي بنت زحيك بن مادغيس، ويقال لها العرجاء فهذه القبائل الأربعة من القبائل إخوة لأم والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وما قبله.
[2] وفي النسخة التونسية: صرهاك.
[3] وفي النسخة أخرى: صنهاج بن يصوكان بن ميسور.
[4] وفي النسخة التونسية: عاصيل وفي قبائل المغرب عاميل ص 328.
[5] وفي النسخة التونسية: مصلتن بن سر، وفي النسخة الباريسية: مصلتن بن تبن. وفي نسخة أخرى يصلين بن شر. وفي قبائل المغرب: يصلين بن يبرين.
[6] وفي نسخة أخرى: دهيوس. وكذا في قبائل المغرب.
[7] وفي نسخة أخرى: نصكي وقد مرّت معنا من قبل وفي قبائل المغرب تيصكي/ 329.

(6/201)


وأما بطون صنهاجة فكثيرة فمنهم بلكانة [1] وأنجفة وشرطة ولمتونة ومسوقة وكدالة ومندلسة وبنو وارت وبنو يتين [2] . ومن بطون أنجفة بنو مزوات وبنو تثليب وفشتالة وملواقة [3] . هكذا يكاد نقل بعض نسّابة البربر في كتبهم وذكر آخرون من مؤرّخي البربر أن بطونهم تنتهي إلى سبعين بطنا. وذكر ابن الكلبيّ والطبري أن بلادهم بالصحراء مسيرة ستة أشهر. وكان أعظم قبائل صنهاجة بلكانة وفيهم كان الملك الأول. وكانت مواطنهم ما بين المغرب الأوسط وإفريقية، وهم أهل مدر. ومواطن مسوقة ولمتونة وكدالة وشرطة بالصحراء، وهم أهل وبر.
وأما أنجفة فبطونهم مفترقة وهم أكثر بطون صنهاجة. ولصنهاجة ولاية لعلي بن أبي طالب، كما أنّ لمغراوة ولاية لعثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنهما، إلّا أنّا لا نعرف سبب هذه الولاية ولا أصلها. وكان من مشاهيرهم في الدولة الإسلامية ثابت بن وزريون ثار بإفريقية أيام السفّاح عند انقراض الأموية، وعبد الله بن سكرديرلك، وعبّاد بن صادق من قوّاد حمّاد بن بلكّين وسليمان بن مطعمان بن غيلان [4] أيام باديس بن بلكّين. وبني حمدون وورا بني حمّاد [5] ، وهو حمدون بن سليمان بن محمد بن علي بن علم، منهم ميمون بن جبل [6] ابن أخت طارق مولى عثمان بن عفّان صاحب فتح الأندلس في آخرين يطول ذكرهم. وكان الملك في صنهاجة في طبقتين الطبقة الأولى لملكانة ملوك إفريقية والأندلس، والثانية مسوقة ولمتونة من الملثّمين ملوك المغرب المسمون بالمرابطين. ويأتي ذكرهم كلهم إن شاء الله تعالى والله أعلم.
(الطبقة الاولى من صنهاجة وما كان لهم من الملك)
كان أهل هذه الطبقة بنو ملكان [7] بن كرت، وكانت مواطنهم بالمسيلة إلى حمرة إلى
__________
[1] وفي النسخة التونسية: تلكاثة. وكذلك في قبائل المغرب ص 330.
[2] وفي نسخة أخرى: مندلة وبنو وارث وبنو يتيسن.
[3] وفي نسخة أخرى: ومن بطون انجفة بنو مزورات وبنو سليب وفشتالة وملوانة.
[4] وفي نسخة أخرى: سليمان بن بطعتان بن عليّان.
[5] وفي نسخة أخرى: وبنو جدون وزاريني حمّاد.
[6] وفي نسخة أخرى: جميل.
[7] وفي النسخة التونسية: تلكات.

(6/202)


الجزائر ولمدية ومليناتة من مواطن بني يزيد وحصين والعطاف من زغبة، ومواطن الثعالبة لهذا العهد. وكان معهم بطون كثيرة من صنهاجة أعقابهم هنالك من متنان وأنوغة وبنو مزغنه وبنو جعد وملكانة وبطوية وبنو يفرن وبنو خليل، وبعض أعقاب ملكانة بجهات بجاية ونواحيها. وكان التقدّم منهم جميعا لبلكانة وكان أكثرهم لعهده الأغالبة مناد بن منقوش بن صنهاج الأصغر، وهو صناك بن واسفاق بن جريل [1] بن يزيد بن واسلي بن سمليل بن جعفر بن إلياس بن عثمان بن سكاد بن ملكان بن كرت بن صنهاج الأكبر هكذا نسبه ابن النحويّ، من مؤرخي الأندلس، وذكر بعض مؤرخي المغرب أن مناد بن منقوش ملك جانبي [2] إفريقية والمغرب الأوسط مقيما لدعوة ابن العبّاس، وراجعا إلى أمر الأغالبة.
وأقام أمره من بعده ابنه زيري بن مناد، وكان من أعظم ملوك البربر. وكانت بينه وبين مغراوة من زناتة المجاورين له من جهة المغرب الأوسط كما نذكر حروب وفتن طويلة. ولما استوسق الملك للشيعة بإفريقية تحيّز إليهم للولاية التي لعليّ رضي الله عنه فيهم. وكان من أعظم أوليائهم، واستطال بهم على عدوّه من مغراوة فكانوا ظهرا له عليهم، وانحرفت لذلك مغراوة وسائر زناتة عن الشيعة سائر أيامهم وتحيّزوا عن المروانيّين ملوك العدوة بالأندلس فأقاموا دعوتهم بالمغرب الأوسط والأقصى كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. ولما كانت فتنة أبي يزيد والتاث أمر العبيديّين بالقيروان والمهديّة، كان لزيري بن مناد منافرة إلى الخوارج أصحاب أبي يزيد وأعقابهم [3] وشريف بالحشود إلى مناصرة العبيديين بالقيروان كما ستراه.
وأحفظ مدينة واشين [4] للتحصّن بها سفح الجبل المسمى تيطرا لهذا العهد حيث مواطن حصين، وحصّنها بأمر المنصور، وكانت من أعظم مدن المغرب. واتسعت بعد ذلك خطتها واستبحر عمرانها. ورحل إليها العلماء والتجّار من القاصية. وحين نازل إسماعيل المنصور أبا يزيد لقلعة كتامة جاءه زيري في قومه ومن انضم إليه من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: جبريل.
[2] وفي نسخة أخرى: جانبا من إفريقية.
[3] وفي النسخة التونسية: كان لزيري بن مناد من منابذة الخوارج أصحاب أبي يزيد والأخذ بأعقابهم وتسريب الحشود الى مناصريه العبيديين بالقيروان عناء مشهور.
[4] وفي نسخة أخرى: أشير.

(6/203)


حشود البربر وعظمت نكايته في العدوّ وكان الفتح. وصحبه المنصور إلى أن انصرف من المغرب ووصله صلات سنيّة. وعقد له على قومه وأذن له في اتخاذ القصور والمنازل والحمامات بمدينة أشير. وعقد له على تاهرت وأعمالها.
ثم اختطّ ابنه بلكّين بأمره وعلى عهده مدينة الجزائر المنسوبة لبني مزغنة بساحل البحر، ومدينة مليانة بالعدوة الشرقية من شلف، ومدينة لمدونة [1] . وهم بطن من بطون صنهاجة وهذه المدن لهذا العهد من أعظم مدن المغرب الأوسط، ولم يزل زيري على ذلك قائما بدعوة العبيديّين منابذا لمغراوة، واتصلت الفتنة فيهم. ولما نهض جوهر الكاتب إلى المغرب الأقصى أيام معدّ المعز لدين الله أمره أن يستصحب زيري بن مناد فصحبه إلى المغرب وظاهره على أمره. ولما ظهر يعلى بن محمد النفزي [2] اتهمه زناتة بالممالاة عليه. ولما نزل جوهر فاس وبها أحمد بن بكر الجذامي، وطال حصاره إياها، كان لزيري في حصارها أعظم العياء، وكان فتحها على يده. سهر ذات ليلة وصعد سورها فكان الفتح.
ولما استمرّت الفتنة بين زيري بن مناد ومغراوة ووصلوا أيديهم بالحاكم المستنصر وأقاموا دعوة المروانية بالمغرب الأوسط، وشمّر محمد بن الخير بن محمد بن خزر لذلك، رماه معدّ لقريعة زيري في قومه واحتشد أهل وطنه وقد جمع له محمد بن الخير وزناتة، فسرّح إليهم ولده بلكّين في مقدّمة، وعارضهم قبل استكمالهم التعبية، فدارت بينهم حرب شديدة بعد العهد بمثلها يومئذ. واختلّ مصاف مغراوة وزناتة. ولما أيقن محمد بن الخير بالمهلكة وعلم أنه أحيط به مال إلى ناحية من العسكر، وتحامل على سيفه فذبح نفسه وانفض جموع زناتة، واستمرّت الهزيمة عليهم سائر يومهم فاستلحموا، ومكثت عظامهم ماثلة بمصارعهم عصورا.
وهلك فيما زعموا بضعة عشر أميرا منهم، وبعث زيري برءوسهم إلى المعزّ بالقيروان فعظم سروره وهشّ لها الحكم المستنصر صاحب الدعوة بما أوهنوا من أمره.
واستطال زيري وصنهاجة على بوادي المغرب، وغلب يده على جعفر بن علي صاحب المسيلة والزاب وسما به في الرتب عند الخلافة وتاخمه في العمالة. واستدعى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية لمدرية، وفي النسخة التونسية: لمدية.
[2] وفي نسخة أخرى: ولما قتل يعلى بن محمد اليفرني.

(6/204)


معدّ جعفر بن علي من المسيلة لتولية إفريقية حين اعتزم على الرحيل إلى القاهرة، فاستراب مما كانت السعاية كبرت فيه. وبعث معدّ المعزّ بعض مواليه فخافه جعفر على نفسه، وهرب من المسيلة ولحق بمغراوة فاشتملوا عليه، وألقوا بيده زمام أمرهم، وقام فيهم بدعوة الحكم المستنصري. وكانوا أقدم لها إجابة وفاوضهم زيري الحرب قبل استفحالهم فزحف إليهم واقتتلوا قتالا شديدا.
وكانت على زيري الدبرة وكبابه فرسه، وأجلت الهزيمة عن مصرعه ومصارع حاميته من قومه فجزوا رأسه وبعثوا به الى الحكم المستنصر بقرطبة في وفد أوفدوه عليه من أمرائهم يؤدّون الطاعة ويؤكّدون البيعة، ويجمعون لقومهم النصرة. وكان مقدّم وفدهم يحيى بن علي أخو جعفر هذا كما ذكرناه. وهلك زيري هذا سنة ستين وثلاثمائة لست وعشرين سنة من ولايته. ولما وصل خبره إلى ابنه بلكّين وهو بأشير نهض إلى زناتة ودارت بينهم حرب شديدة. فانهزمت زناتة وثأر بلكّين بأبيه وقومه، واتصل ذلك بالسلطان محمد أثره وعقد له على عمل أبيه بأشير وتيهرت وسائر أعمال المغرب، وضمّ إليه المسيلة والزاب وسائر عمل جعفر فاستعتب واستفحل أمره واتسعت ولايته وأثخن في البربر أهل الخصوص من أحرابه [1] وهوّارة ونفزة وتوغّل في المغرب في طلب زناتة فأثخن فيهم. ثم رجع واستقدمه السلطان لولاية إفريقية فقدم سنة إحدى وستين وثلاثمائة واستبلغ السلطان في تكريمه ونفس ذلك عليه كتامة. ثم نهض السلطان إلى القاهرة واستخلفه كما نذكره. وكان ذلك أوّل دولة آل زيري بإفريقية والله تعالى أعلم.
الخبر عن دولة آل زيري بن مناد ولاة العبيديين من هذه الطبقة بإفريقية وتصاريف أحوالهم
لما أخذ المعزّ في الرحلة إلى المشرق وصرف اهتمامه إلى ما يتخلف وراء ظهره من الممالك والعمالات، ونظر فيمن يولّيه أمر إفريقية والمغرب ممن له الغناء والاضطلاع، وبه الوثوق من صدق التشييع ورسوخ القدم في دراية الدولة، فعثر اختياره على بلكّين بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مزاتة.

(6/205)


زيري بن مناد وليّ الدولة منذ عهد أخذه ما بيده من أيدي زناتة وأموالها في سبيل الاباء على [1] الدولة والمظاهرة للدولة.
(دولة بلكين بن زيري)
فبعث خلف بلكين بن زيري وكان متوغّلا في المغرب في حروب زناتة، وولّاه أمر إفريقية ما عدا أصهلية كانت لبني أبي الحسين الكلبي، وطرابلس لعبد الله بن يخلف الكتامي وسمّاه يوسف بدلا من بلكّين، وكنّاه أبا الفتوح، ولقبه سيف الدولة، ووصله بالخلع والأكسية الفاخرة. وحمله على مقرّباته بالمراكب الثقيلة وأنفذ أمره في الجيش والمال وأطلق يده في الأعمال. وأوصاه بثلاث: أن لا يرفع السيف عن البربر، ولا يرفع الجباية عن أهل البادية، ولا يولّي أحدا من أهل بيته.
وعهد إليه أن يفتح أمره بغزو المغرب لحسم دائه، وقطع علائق الأموية منه. وارتحل يريد القاهرة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة ورجع عنه بلكين من نواحي صفاقس فنزل قصر معدّ بالقيروان، واضطلع بالولاية وأجمع غزو المغرب فغزاه في جموع صنهاجة ومخلّف كتامة وارتحل إلى المغرب، وفرّ أمامه ابن خزر صاحب المغرب الأوسط إلى سجلماسة.
وبلغه خلاف أهل تاهرت وإخراج عامله فرحل إليها وخرّبها. ثم بلغه أنّ زناتة اجتمعوا إلى تلمسان فرحل إليهم فهربوا أمامه. ونزل على تلمسان فحاصرها حتى نزل أهلها على حكمه ونقلهم إلى أشير. وبلغه كتاب معدّ ينهاه عن التوغّل في المغرب فرجع. ولمّا كان سنة سبع وستين وثلاثمائة رغب بلكّين من الخليفة نزار بن المعز أن يضيف إليه عمل طرابلس، وسرت وأجدابية فأجابه إلى ذلك وعقد له عليها. ورحل عنها عبد الله بن يخلف الكتامي وولّى بلكّين عليه من قبله. ثم ارتحل بلكّين إلى المغرب، وفرّت أمامه زناتة فملك فاس وسجلماسة وأرض الهبط وطرد منها عمال بني أمية، ثم غزا جموع زناتة بسجلماسة وأوقع بهم وتقبّض على ابن خزر أمير مغراوة فقتله. وجعل ملوكهم أمامه مثل بني يعلى بن محمد النفزيّ [2] وبني عطيّة بن عبد الله
__________
[1] وفي نسخة أخرى: في سبيل الذبّ عن الدولة.
[2] وفي نسخة أخرى: اليفرني.

(6/206)


ابن خزر وبني فلفول بن خزر، ويحيى بن علي بن حمدون صاحب البصرة.
وبرزوا جميعا بقياطينهم إلى سبتة، وبعثوا الصريخ إلى المنصور بن أبي عامر، فخرج بعساكره إلى الجزيرة الخضراء. وأمرهم بمن كان في حضرته من ملوك زناتة ورؤسائهم النازعين إلى خلفاء الأموية بالأندلس بقرطبة بالمقام في سبيل الطاعة، واغتنام فضل الرباط بثغور المسلمين في إيالة الخلفاء. واجتمعت منهم وراء البحر أمم مع ما انضمّ إليهم من العساكر والحشود، وأجازهم البحر لقصر جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة، وعقد له على حرب بلكّين وأمدّه بمائة حمل من المال، فتعاقد ملوك زناتة واجتمعوا إليه، وضربوا مصاف القتال بظاهر سبتة. وهرع إليهم المدد من الجزيرة من عساكر المنصور، وكادوا يخوضون البحر من فرائض الزقاق إلى مظاهرة أوليائهم من زناتة. ووصل بلكّين إلى تيطاوير وتسنّم هضابها، وقطع شعوبها لنهج المسالك والطرق لعسكره، حتى أطلّ على معسكرهم بظاهر سبتة فأرى ما هاله واستيقن امتناعهم.
ويقال إنه لما عاين سبتة من مستشرفه، ورأى اتصال المدد من العدوة إلى معسكرهم بها قال: هذه أفعى فغرت إلينا فاها وكرّ راجعا على عقبه. وكان موقفه ذلك أقصى أثره ورجع إلى البصرة فهدمها وكانت دار ملك ابن الأندلسي، وبها عمارة عظيمة.
ثم انفتح له باب في جهاد برغواطة فارتحل إليهم وشغل بجهادهم، وقتل ملكهم عيسى بن أبي الأنصار كما نذكره. وأرسل بالسبي إلى القيروان وأذهب دعوة بني أمية من نواحي المغرب وزناتة مشرّدون بالصحراء إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة بواركش ما بين سجلماسة وتلمسان منصرفا من هذه الغارة الطويلة.
(دولة منصور بن بلكين)
ولما توفي بلكّين بعث مولاه أبو زغبل بالخبر إلى ابنه المنصور، وكان واليا بأشير وصاحب عهد أبيه، فقام بأمر صنهاجة من بعده ونزل صيره وقلّده العزيز نزار بن معدّ أمر إفريقية والمغرب وكان على سنن أبيه، وعقد لأخيه أبي البهار على تاهرت ولأخيه يطوفت على أشير، وسرّحه بالعساكر إلى المغرب الأقصى سنة أربع وسبعين

(6/207)


وثلاثمائة يسترجعه من أيدي زناتة. وقد بلغه أنهم ملكوا سجلماسة وفاس، فلقيه زيري بن عطية المغراوي الملقّب بالقرطاس أمير فاس فهزمه ورجع إلى أشير.
وأقصى المنصور بعدها عن غزو المغرب وزناتة، واستقلّ به ابن عطية وابن خزرون وبدر بن يعلى كما نذكر بعد.
ثم رحل بلكّين إلى رقاده وفتك بعبد الله بن الكاتب عامله وعامل أبيه على القيروان لهنات كانت منه، وسعايات أنجحت فيه فهلك سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وولي مكانه يوسف بن أبي محمد، وكثر التواتر بكتابه فقتلهم وأثخن فيهم حتى أذعنوا، وأخرج إليهم العمّال وعقد لأخيه حمّاد على أشير. وطالت الفتنة مع زناتة ونزل إليه منهم سعيد بن خزرون. ولم يزل سعيد يطيعه إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وولي ابنه فلفول بن سعيد. وخالف أبو البهار بن زيري سنة تسع وسبعين وثلاثمائة فزحف إليه المنصور وفرّ بين يديه إلى المغرب. وأمدّ [1] المنصور أهل تاهرت ومضى في أتباع أبي البهار حتى نفد عسكره [2] وأشير عليه بالرجوع فرجع. وبعث أبو البهار إلى أبي عامر صاحب الأندلس في المظاهرة والمدد، واسترهن ابنه في ذلك، فكتب زيري بن عطية صاحب دعوة الأموية من زناتة بفاس أن يكون معه يدا واحدة فظاهره زيري واتفق رأيهما مدّة، وحار بهما بدر بن يعلى فهزماه وملكا فاس وما حولها. ثم اختلفت ذات بينهما سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة ورجع أبو البهار إلى قومه. ووفد على المنصور سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة بالقيروان فأكرمه ووصله وأنزله أحسن نزل وعقد له على تاهرت، ثم هلك المنصور سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.
(دولة باديس بن المنصور)
ولما هلك المنصور قام بأمره ابنه باديس وعقد لعمّه يطوفت على تاهرت، وسرّح عساكره لحرب زناتة مع عمّيه يطوفت وحمّاد، فولّوا منهزمين أمام زناتة إلى أشير.
ونهض بنفسه سنة تسع وثمانين وثلاثمائة لحرب زيري بن عطية راجعا إلى المغرب، فولّى
__________
[1] وفي النسخة التونسية: وأمن.
[2] وفي النسخة التونسية: حتى فقد عسكره المرافق.

(6/208)


باديس أخاه يطوفت على تاهرت وأشير، وخالف عليه عمومته ماكسن وزاوي وحلال ومعتز وعزم واستباحوا عسكر يطوفت وأفلت منهم. ووصل أبو البهار متبرّئا من شأنهم. وشغل السلطان باديس بحرب فلفول بن سعيد كما نذكره في أخبار بني خزرون وسرّح عمه حمّادا لحرب بني زيري إخوته. ووصل بنو زيري أيديهم بفلفول ثم رجعوا إلى حمّاد فهزمهم وتقبّض على ماكسن منهم فأطمة الكلاب وقتل أولاد الحسن وباديس [1] كذا ذكر ابن حزم.
ونجا فلّهم إلى جبل سنوه [2] فنازلهم حمّاد أياما وعقد هلم السلم على الإجازة إلى الأندلس فلحقوا بابن عامر سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة.
وهلك زيري بن عطية المغراوي لتسع أيام من مهلك ماكسن، وأقفل باديس عمّه حمّادا على حضرته ليستعين به في حروف فلفول، فاضطرب المغرب لقفوله، وأظهرت زناتة الفساد وأضرّوا بالسابلة وحاصروا المسيلة وأشير، فسرّح إليهم باديس عمّه حمّاده وخرج على أثره سنة خمس وتسعين وثلاثمائة فنزل تيجست ودوّخ حمّاد المغرب، وأثخن في زناتة واختطّ مدينة القلعة. ثم طلب منه باديس أن ينزل على عمل تيجست وقسنطينة اختبارا للطاغية فأبى [3] وأظهر الخلاف. وبعث إليه أخاه إبراهيم فأقام معه، وزحف إليهم باديس، ثم رحل في طلبه إلى شلف، ونزل إليه بعض العساكر. ودخل في طاعته بنو توجين وحازوا [4] في مدده. ووصل أميرهم عطيّة بن دافلين وبدر بن أغمان [5] بن المعتز فوصلها. وكان حمّاد قتل دافلين. ثم نزل باديس نهر واصل والسرسو وكزول وانثنى حماد راجعا إلى القلعة واتبعه باديس.
ونازلة بها وهلك بمعسكره عليها سنة ست وأربعمائة فجأة، وهو نائم بين أصحابه بمضربه، فارتحلوا راجعين واحتملوا باديس على أعواده.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: وتقبض على ماكسن منهم فأطعمه الكلاب، وقتل أولاده محسن وباديس.
[2] وفي النسخة الباريسية: سبوة.
[3] وفي النسخة الباريسية: اختبارا لطاعته فأبى
[4] وفي نسخة أخرى: وجاروا.
[5] وفي النسخة التونسية: بدر بن لقمان.

(6/209)


(دولة المعز بن باديس)
ولما بلغ الخبر بمهلك باديس بويع ابنه المعزّ ابن ثمان سنين، ووصل العسكر فبايعوه البيعة العامّة. ودخل حمّاد المسيلة وأشير، واستعدّ للحرب وحاصر باعانة [1] ، وبلغ الخبر بذلك فزحف المعز إليه وأفرج عن باعانة، ولقيه فانهزم حمّاد وأسلم معسكره، وتقبّض على أخيه إبراهيم ونجا إلى القلعة، ورغب في الصلح فاستجيب على أن يبعث ولده. وانتهى المعزّ إلى سطيف وقصر الطين وقفل إلى حضرته، ووصل إليه القائد بن حمّاد بعمل المسيلة وطبنة والزاب وأشير وتاهرت، وما يفتح من بلاد المغرب، وعقد للقائد ابن حمّاد على طبنة والمسيلة مقره ومرسى الدجاج وسوق حمزة وزواوة وانقلب بهدية ضخمة. ورفعت الحرب أوزارها من يومئذ، واقتسموا المظلّة والتحموا بالأصهار، وافترق ملك صنهاجة إلى دولتين: دولة إلى المنصور بن بلكّين أصحاب القيروان، ودولة إلى حمّاد بن بلكين أصحاب القلعة.
ونهض المعز إلى حمّاد سنة اثنتين وثلاثين فحاصره بالقلعة مدّة سنين، ثم أقلع عنها وانكفأ راجعا ولم يعاود فتنة بعد. ووصل زاوي بن زيري من الأندلس سنة عشر وأربعمائة كما ذكرناه في خبره، فتلقّاه المعزّ أعظم لقاء وسلّم عليه راجلا وفرشت القصور لنزله، ووصله بأعظم الصلات وأرفعها، واستمرّ ملك المعزّ بإفريقية والقيروان، وكان أضخم ملك عرف للبربر بإفريقية وأترفه وأبذخه. نقل ابن الرقيق من أحوالهم في الولائم والهدايا والجنائز والأعطيات ما يشهد بذلك، مثل ما ذكر أنّ هديّة صندل عامل باعانة مائة حمل من المال، وأنّ بعض توابيت الكبراء منهم كان العود الهندي بمسامير الذهب وأنّ باديس أعطى فلفول بن مسعود الزناتي ثلاثين حملا من المال وثمانين تختا. وانّ أعشار بعض أعمال الساحل بناحية صفاقس كان خمسين [2] ألف قفيز وغير ذلك من أخبارهم.
وكانت بينه وبين زناتة حروب ووقائع كان له الغلب في جميعها كما هو مذكور، وكان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: باغاية.
[2] وفي نسخة أخرى: ثمانين. وكذا في النسخة التونسية.

(6/210)


المعز منحرفا عن مذاهب الرافضة، ومنتحلا للسنّة، فأعلن بمذهبه لأوّل ولايته ولعن الرافضة. ثم صار إلى قتل من وجد منهم، وكبا به فرسه ذات يوم فنادى مستغيثا باسم أبي بكر وعمر، فسمعته العامّة فثاروا لحينهم بالشيعة وقتلوهم أبرح قتل وقتل دعاة الرافضة يومئذ وامتعض لذلك خلفاء الشيعة بالقاهرة. وخاطبه وزيرهم أبو القاسم الجرجاني محذرا، وهو يراجعه بالتعريض لخلفائه والمزج فيهم حتى أظلم الجوّ بينه وبينهم إلى أن انقطع الدعاء لهم سنة أربعين وأربعمائة على عهد المستنصر من خلفائهم. وأحرق بنوده ومحا اسمه من الطرز والسكّة، ودعا للقائم بن القادر من خلفائهم. وأحرق بنوده ومحا اسمه من الطرز والسكّة، ودعا للقائم بن القادر من خلفاء بغداد. وجاءه خطاب القائم وكتاب عهده صحبة داعيته أبي الفضل بن عبد الواحد التميمي، فرماه المستنصر خليفة العبيديّين بالمغرب من هلال الذين كانوا مع القرامطة، وهم رياح وزغبه والأثبج، وذلك بمشاركة من وزيره أبي محمد الحسن بن علي البازوري كما ذكرنا في أخبار العرب ودخولهم إلى إفريقية.
وتقدّموا إلى البلاد وأفسدوا السابلة والقرى وسرّح إليهم المعز جيوشه فهزموهم، فنهض إليهم ولقيهم بجبل حيدران فهزموه، واعتصم بالقيروان فحاصروه وتمرّسوا به وطال عيثهم في البلاد وإضرارهم بالرعايا إلى أن خربت إفريقية. وخرج ابن المعز من القيروان سنة تسع وأربعين وأربعمائة مع خفيره منهم، وهو مؤنس بن يحيى الصبري أمير رياح، فلحق في خفارته بالمهديّة بعد أن أصهر إليه في ابنته فأنكحه إياها ونزل بالمهديّة وقد كان قدم إليها ابنه تميما فنزل عليه، ودخل العرب القيروان وانتهبوها.
وأقام المعز بالمهديّة وانتزى الثّوار في البلاد فغلب حمد بن مليل البرغواطي على مدينة صفاقس وملكها سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وخالفت سوسة وصار أهلها إلى الشورى في أمرهم وصارت تونس آخرا إلى ولاية الناصر بن علناس بن حمّاد صاحب القلعة. وولّى عليهم عبد الحق بن خراسان فاستبدّ بها واستقرّت في ملكه وملك بنيه، وتغلّب موسى بن يحيى على قابس وصار عاملها المعز بن محمد الصنهاجي إلى ولايته، وأخوه إبراهيم من بعده كما يأتي ذكره. والثالث ملك آل باديس وانقسم في الثوار كما نذكر في أخبارهم بعد مهلك المعز سنة أربع وخمسين وأربعمائة والله أعلم
.

(6/211)


(دولة تميم بن المعز)
ولما هلك المعز قام بأمره ابنه تميم وغلبه العرب على إفريقية، فلم يكن له إلا ما ضمّه السور، خلا أنه كان يخالف بينهم ويسلّط بعضهم على بعض. وزحف إليه حمّو بن مليل البرغواطي صاحب صفاقس، فخرج تميم للقائه، وانقسمت العرب عليهما فانهزم حمّو وأصحابه، وذلك سنة خمس وخمسين وأربعمائة. وسار منها إلى سوسة فافتتحها، ثم بعث عساكره إلى تونس فحاصروا ابن خراسان حتى استقام على الطاعة لتميم. ثم بعث عساكره أيضا إلى القيروان، وكان بها قائد بن ميمون الصنهاجي من قبل المعزّ فأقام ثلاثا، ثم غلبته عليها هوّارة، وخرج إلى المهديّة، ثم ردّه تميم إلى ولايته بها فخالف بعد ست من ولايته، وكاتب الناصر بن علناس صاحب القلعة فبعث تميم إليه العساكر فلحق بالناصر وأسلم القيروان.
ثم رجع بعد ست إلى حمو بن مليل البرغواطي بصفاقس وابتاع له القيروان من مهنا ابن علي أمير زغبة، فولّاه عليها وحصّنها سنة سبعين وأربعمائة، وكانت بين تميم والناصر صاحب القلعة أثناء ذلك فتن كان سماسرتها العرب يجأجؤن بالناصر من قلعته، ويوطئون عساكره ببلاد إفريقية، وربما ملك بعض أمصارها، ثم يردّونه على عقبه إلى داره إلى أن اصطلحا سنة سبعين وأربعمائة، وأصهر إليه تميم بابنته.
ونهض تميم سنة أربع وسبعين وأربعمائة إلى قابس وبها ماضي بن محمد الصنهاجي، وليها بعد أخيه إبراهيم فحاصرها، ثم أفرج عنها، ونازلته العرب سنة ست وسبعين وأربعمائة بالمهدية، ثم أفرجوا عنه، وهزمهم فقصدوا القيروان ودخلوها فأخرجهم عنها.
وفي أيامه كان تغلّب نصارى جنده على المهديّة سنة ثمانين واربعمائة نزلوها في ثلاثمائة مركب وثلاثين ألف مقاتل، واستولوا عليها وعلى زويلة، فبذل لهم تميم في النزول عنها مائة ألف دينار بعد أن انتهبوا جميع ما كان بها، فاستخلصها من أيديهم ورجع إليها، ثم استولى على قابس سنة تسع وثمانين وأربعمائة من يد أخيه عمر بن المعزّ بايع له أهلها بعد موت قاضي بن إبراهيم. ثم استولى بعدها على صفاقس سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وخرج منها حمّو بن مليل إلى قابس، فأجاره مكن ابن كامل

(6/212)


الدهماني إلى أن مات بها. وكانت رياح قد تغلّبت على زغبة وعلى إفريقية من لدن سبع وستين وأربعمائة وأخرجوه منها، وفي هذه المائة الخامسة غلب الأخضر من بطون رياح على مدينة باجة وملكوها، وهلك تميم إثر ذلك سنة إحدى وخمسمائة.
(دولة يحيى بن تميم)
ولما هلك تميم بن المعزّ ولي ابنه يحيى، وافتتح أمره بافتتاح امكيسة [1] وغلب عليها ابن محفوظ الثائر بها. وثار أهل صفاقس على ابنه أبي الفتوح فلطف الحيلة في تفريق كلمتهم، وراجع طاعة العبيديّين ووصلته المخاطبات والهدايا. وكان قد صرف همه إلى غزو النصارى والأساطيل البحرية فاستكثر منها واستبلغ في اقتنائها. وردّد البعوث إلى دار الحرب فيها حتى اتّقته أمم النصرانية بالجزى من وراء البحر من بلاد إفريقية [2] وجنوة وسردينية. وكان له في ذلك آثار ظاهرة عزيزة. وهلك فجأة في قصره سنة تسع وخمسمائة والله أعلم.
(دولة على بن يحيى)
ولما هلك يحيى بن تميم ولي عليّ ابنه، استقدم لها من صفاقس، فقدم في خفارة أبي بكر بن أبي جابر مع عسكر ونظرائه من أمراء العرب. وكان أعظم أمراء عساكر صنهاجة محاصرين لقصر الأجم فاجتمعوا إليه وتمت بيعته. ونهض إلى حصار تونس حتى استقام أحمد بن خرايان [3] على الطاعة، وفتح جبل وسلات. وكان ممتنعا على من سلف من قومه، فجرّد إليه عسكرا مع ميمون بن زياد الصخري المعادي من أمراء العرب، فافتتحوه وقتلوا من كان به. ووصل رسول الخليفة من مصر بالمخاطبات والهدايا على العادة، ثم نهض إلى حصار رافع بن مكن بفاس سنة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: اقليبية.
[2] وفي النسخة التونسية: من بلاد الفرنجة.
[3] وفي نسخة أخرى: أحمد بن خراسان.

(6/213)


إحدى عشرة وخمسمائة. ودوّن لها قبائل بادغ [1] من بني علي إحدى بطون رياح كما نذكره في أخبار رافع. ثم حدثت الفتنة بينه بين رجار صاحب صقلّيّة بممالأة رجار لرافع بن كامل عليه، وإمداده إيّاه بأسطوله، يغير على ساحل علي بن يحيى ويرصد أساطيله، فاستخدم علي بن يحيى الأساطيل وأخذ في الأهبة للحرب، وهلك سنة خمس عشرة وخمسمائة والله أعلم.
(دولة الحسن بن علي)
ولما هلك علي بن يحيى بن تميم ولي بعده ابنه الحسن بن علي غلاما يفعة ابن اثنتي عشرة سنة، وقام بأمره مولاه صندل. ثم مات صندل وقام بأمره مولاه موفّق. وكان أبوه أصدر المكاتبة إلى رجار عند الوحشة يهدّده بالمرابطين ملوك المغرب، ولما كان بينهما وبينهم من المكاتبة. واتفق أن غزا أحمد بن ميمون قائد أسطول المرابطين صقلّيّة، وافتتح قرية منها، فسابها وقتل أهلها سنة ست عشر وخمسمائة، فلم يشك رجار أنّ ذلك بإملاء الحسن، فنزلت أساطيله إلى المهديّة وعليهم عبد الرحمن بن عبد العزيز وجرجي بن مخاييل الأنطاكي. وكان جرجي هذا نصرانيا هاجر من المشرق، وقد تعلّم اللسان وبرع في الحساب، وتهذّب في الشام بأنطاكيّة وغيرها، فاصطنعه تميم واستولى عليه، وكان يحيى يشاوره.
فلما هلك تميم أعمل جرجي الحيلة في اللحاق برجار فلحق به، وحظي عنده، واستعمله على أسطوله. فلما اعتزم على حصار المهديّة بعثه لذلك، فزحف في ثلاثمائة مركب، وبها عدد كثير من النصرانية، فيهم ألف فارس. وكان الحسن قد استعدّ لحربهم، فافتتح جزيرة قوصرة، وقصدوا إلى المهديّة ونزلوا إلى الساحل، وضربوا الأبنية وملكوا قصر الدهانين وجزيرة الأملس [2] وتكرّر القتال فيهم إلى أن غلبهم المسلمون، وأقلعوا راجعين إلى صقلّيّة بعد أن استمرّ القتل فيهم. ووصل بأكثر ذلك محمد بن ميمون قائد المرابطين بأسطوله، فعاث في نواحي صقلّيّة، واعتزم رجار على
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فادغ وهو الأصح.
[2] وفي النسخة التونسية: قصر الديماس وجزيرة الاحاس. وفي النسخة الباريسية: قصر الدهاس وجزيرة الحمامات.

(6/214)


إعادة الغزو إلى المهدية. ثم وصل أسطول يحيى بن العزيز صاحب بجاية لحصار المهدية، ووصلت عساكره في البرّ مع قائده مطرف بن علي بن حمدون الفقيه، فصالح الحسن صاحب صقلّيّة ووصل يده به، واستمدّ منه أسطوله. واستمدّ الحسن أسطول رجار فأمدّه، وارتحل مطرف إلى بلده.
وأقام الحسن مملكا بالمهدية، وانتقض عليه رجار وعاد إلى الفتنة معه، ولم يزل يردّد إليه الغزو إلى أن استولى على المهديّة قائد أسطوله جرجي بن مناسل سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ووصلها بأسطوله في ثلاثمائة مركب. وخادعهم بأنهم إنما جاءوا مددا له. وكان عسكر الحسن قد توجّه صريخا لمحرز بن زياد الفادغي صاحب علي ابن خراسان صاحب تونس، فلم يجد صريخا فجلا عن المهديّة، ورحل واتبعه الناس. ودخل العدوّ إلى المدينة وتملّكوها دون دفاع. ووجد جرجي القصر كما هو لم يرفع منه الحسن إلّا ما خفّ، وترك الذخائر الملوكية. فأمّن الناس وأبقاهم تحت إيالته، وردّ الفارّين منه إلى أماكنهم. وبعث أسطولا إلى صفاقس فملكها، وأجاز إلى سوسه فملكها أيضا. وأجاز إلى طرابلس كذلك. واستولى رجار صاحب صقلّيّة على بلاد الساحل كلّها، ووضع على أهلها الجزي، وولّى عليهم كما نذكره إلى أن استنقذهم من ملكة الكفر عبد المؤمن شيخ الموحّدين وخليفة إمامهم المهدي.
ولحق الحسن بن يحيى بعد استيلاء النصارى على المهديّة بالعرب من رياح، وكبيرهم محرز بن زياد الفادعي صاحب القلعة، فلم يجد لديهم مصرخا، وأراد الرحيل إلى مصر للحافظ عبد المجيد فأرصد له جرجي فارتحل إلى المغرب، وأجاز إلى بونة وبها الحارث بن منصور وأخوه العزيز. ثم توجه إلى قسنطينة وبها سبع بن العزيز أخو يحيى صاحب بجاية، فبعث إليه من أجازه إلى الجزائر. ونزل على ابن العزيز فأحسن نزله وجاوره إلى أن فتح الموحّدون الجزائر سنة سبع وأربعين وخمسمائة بعد تملّكهم المغرب والأندلس، فخرج إلى عبد المؤمن فلقاه تكرمة وقبولا. ولحق به وصحبه إلى إفريقية في غزاته الأولى، ثم الثانية سنة سبع وخمسين وخمسمائة فنازل المهديّة وحاصرها أشهرا، ثم افتتحها سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وأسكن بها الحسن وأقطعه رحيش فأقام هنالك ثماني سنين. ثم استدعاه يوسف بن عبد المؤمن فارتحل بأهله يريد مراكش. وهلك بتامسنا في طريقه إلى بابارولو [1] سنة ست وثلاثين،
__________
[1] وفي النسخة التونسية: باباززلو وفي النسخة الباريسية: باربارولو.

(6/215)


والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ورب الخلائق أجمعين.

(6/216)


(الخبر عن بني خراسان من صنهاجة الثوار بتونس على آل باديس عند اضطراب افريقية بالعرب ومبدإ أمرهم ومصاير أحوالهم)
لما تغلّب العرب على القيروان وأسلم المعزّ وتحوّل إلى المهدية، اضطرمت إفريقية نارا. واقتسمت العرب البلاد عمالات، وامتنع كثير من البلاد على ملوك آل باديس مثل أهل سوسة وصفاقس وقابس، وصارت صاغية أهل إفريقية إلى بني حمّاد ملوك القلعة وملكو القيروان، كما تقدّم. وانقطعت تونس عن ملك المعز، ووفد مشيختها على الناصر بن علناس، فولّى عليهم عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان، يقال إنه من أهل تونس، والأظهر أنه من قبائل صنهاجة، فقام بأمرهم وشاركهم في أمره وتودّد إليهم وأحسن السيرة فيهم. وصالح العرب أهل الضاحية على أتاوة معلومة لكفّ عاديتهم. وزحف تميم بن المعزّ من المهدية إليه سنة ثمان وخمسين وأربعمائة في جموعه، ومعه يبقى بن على أمير زغبة، فحاصر تونس أربعة أشهر، إلى أن صالحه ابن خراسان واستقام على طاعته فأفرج عنه.
ولم يزل قائما بأمره إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين وأربعمائة فولي ابنه أحمد بن عبد العزيز بن عبد الحق فقتل عمه إسماعيل بن عبد الحق لمكان ترشه، وغرّبه أبو بكر إلى أن برزت فأقام بها خوفا على نفسه. ونزع أحمد إلى التخلّق بسير الملك، والخروج عن سيرة المشيخة، واشتدّت وطأته، وكان من مشاهير رؤساء بني خراسان هؤلاء، فاستبدّ بتونس لأوّل المائة السادسة، وضبطها وبنى أسوارها. وعامل العرب على إصلاح سابلتها فصلحت حاله، وبنى قصور بني خراسان. وكان مجالسا للعلماء محبا فيهم ونازلة علي بن يحيى بن العزيز بن تميم سنة عشر وخمسمائة وضيّق عليه، ودافعه [1] بأسعاف غرضه فأفرج عنه. ثم نازلة عساكر العزيز بن منصور صاحب بجاية فعاد إلى طاعته سنة أربعة عشر وخمسمائة ولم يزل واليا على تونس إلى أن نهض سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة مطرف بن علي بن حمدون قائد يحيى بن العزيز من
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ووافقه.

(6/217)


بجاية في العساكر إلى إفريقية، وملك عامّة أمصارها، فتغلّب على تونس وأخرج أحمد بن عبد العزيز صاحبها ونقله إلى بجاية بأهله وولده.
وولّى على تونس كرامة بن المنصور عمّ يحيى بن العزيز فبقي واليا عليها إلى أن مات، وولي عليها بعده أخوه أبو الفتوح بن المنصور إلى أن مات، وولي مكانه ابن ابنه محمد وساءت سيرته فعزل، وولي مكانه عمّه معدّ بن المنصور إلى أن استولى النصارى على المهديّة وسواحلها ما بين سوسة وصفاقس وطرابلس سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وصارت لصاحب صقلّيّة، وأخرج الحسن بن علي كما هو مذكور، فأخذ أهل تونس في الاستعداد والحذر. واستأسدوا لذلك على واليهم، وانتشر بغاتهم وربما ثاروا بعض الأيام عليه فقتلوا عبيده بمرأى منه، واعتدوا عليه في خاصّته. فبعث عنه أخوه يحيى من بجاية فركب البحر في الأسطول، وترك نائبة العزيز بن دامال [1] من وجوه صنهاجة، فأقام بينهم وهم مستبدّون عليه، وكان بالمعلقة جوارهم محرز بن زياد أمير بني علي من بطون رياح قد تغلب عليها.
وكانت الحرب بينه وبين أهل تونس سجالا، والتحم؟ بينهما المصاف وكان محرز يستمدّ عساكر صاحب المهديّة على أهل تونس فتأتيه إلى أن غلب النصارى على المهديّة، وحدثت الفتنة بينهم بالبلد فكان المصاف بين أهل باب السويقة وأهل باب الجزيرة، وكانوا يرجعون في أمورهم إلى القاضي عبد المنعم ابن الإمام أبي الحسن.
ولما غلب عبد المؤمن على بجاية وقسنطينة وهم العرب بسطيف ورجع إلى مراكش.
انتهت إليه شكوى الرعايا بإفريقية مما نزل بهم من العرب، فبعث ابنه عبد الله من بجاية إلى إفريقية في عساكر الموحّدين، فنازل تونس سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة وامتنعت عليه. ودخل معهم محرز بن زياد وقومه من العرب، واجتمع جندهم وبرزوا للموحّدين فأوقعوا بهم، وأفرجوا عن تونس، وهلك أميرها عبد الله بن خراسان خلال ذلك. وولي مكانه علي بن أحمد بن عبد العزيز خمسة أشهر، وزحف عبد المؤمن إلى تونس وهو أميرها، فانقادوا لطاعته كما نذكره في أخبار الموحّدين. ورحل علي بن أحمد بن خراسان إلى مراكش بأهله وولده، وهلك في طريقه سنة أربع وخمسين وخمسمائة وأفرج محرز بن زياد عن المعلقة. واجتمعت إليه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: دافال.

(6/218)


قومه وتدامرت العرب عن مدافعة الموحدين واجتمعوا بالقيروان وبلغ الخبر إلى عبد المؤمن وهو منصرف من غزاته إلى المغرب فبعث إليهم العساكر وأدركوهم بالقيروان فأوقعوا بهم واستلحموهم قتلا وسبيا وتقبض على محرز بن زياد أميرهم فقتل وصلب شلوه بالقيروان، والله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه، وهو على كل شيء قدير.

(6/219)


(الخبر عن بني الرند ملوك قفصة الثائرين بها عند التياث ملك آل باديس بالقيروان واضطرابه بفتنة العرب ومبدإ دولتهم ومصاير أمورهم)
لما تغلب العرب على إفريقية وانحلّ نظام الدولة الصنهاجيّة، وارتحل المعزّ من القيروان إلى المهدية، وكان بقفصة عاملا لصنهاجة عبد الله بن محمد بن الرند وأصله من جرية من بني صدغيان. وكان ابن نحيل [1] هو من بني مرين من مغراوة، وكان مسكنهم بالجوسين من نفزاوة فضبط قفصة وقطع عنها عادية الفساد، وصالح العرب على الإتاوة فصلحت السابلة واستقام الحال. ثم استبدّ بأمره وخلع الامتثال من عنقه سنة خمس وأربعين وخمسمائة واستمرّ على ذلك. وبايعته توزر وقفصة وسوس والحامة ونفزاوة وسائر أعمال قسنطينة فاستفحل أمره وعظم سلطانه، ووفد عليه الشعراء والقصّاد، وكان معظّما لأهل الدين إلى ان هلك سنه خمس وستين وخمسمائة.
وولي من بعده ابنه المعتز وكنيته أبو عمر، وانقاد إليه الناس فضبط الأمور وجبى الأموال واصطنع الرجال، وتغلّب على قموده وجبل هوّارة وسائر بلاد قسطيلية وما إليها. وحسنت سيرته إلى أن عمي. وهلك في حياته ابنه تميم فعهد لابنه يحيى بن تميم. وقام بالأمر واستبدّ على حدّه ولم يزالوا بخير حال إلى أن نازلهم عبد المؤمن سنة أربع وخمسين وخمسمائة. فمنعهم من الأمر، ونقلهم إلى بجاية فمات المعتز بها سنة سبع وخمسين وخمسمائة لمائة وأربع عشرة من عمره وقيل لسبعين، ومات بعده بيسير حافده يحيى بن تميم. وولّى عبد المؤمن على قفصة نعمان بن عبد الحق الهنتاتي.
ثم عزله بعد ثلاث بميمون بن أجانا الكنسيفي، ثم عزله بعمران بن موسى الصنهاجي، وأساء إلى الرعية، فبعثوا عن علي بن العزيز بن المعتز من بجاية. وكان بها في مضيعة يحترف بالخياطة فقدم عليهم، وثاروا بعمران بن موسى عامل الموحّدين فقتلوه وقدّموا علي بن العزيز فساس ملكه وحاط رعيته. وأغزاه يوسف بن عبد المؤمن سنة ثلاث وستين وخمسمائة أخاه السيد أبا زكريا فحاصره وضيّق عليه
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: مميل، وفي النسخة التونسية: نحيل.

(6/220)


وأخذه، وأشخصه إلى مراكش بأهله وماله، واستعمله على الأشغال بمدينة سلا إلى أن هلك وفنيت دولة بني الرند والبقاء للَّه وحده أهـ.
يحيى بن تميم علي بن العزيز بن المعتز أبي عمر بن عبد الله بن محمد الرند
(الخبر عن بني جامع الهلاليين أمراء قابس لعهد الصنهاجيين وما كان لتميم بها من الملك والدولة وذلك عند فتنة العرب بإفريقية)
ولما دخلت العرب إلى إفريقية وغلبوا المعز على الضواحي ونازلوه بالقيروان، وكان الوالي بفاس المعزّ بن محمد بن لموية الصنهاجي، وكان أخوه إبراهيم وماضي بالقيروان قائدين للمعز على جيوشه فعزلهما، ولحقا مغاضبين بمؤنس بن يحيى، وكان أوّل تملّك العرب. ثم أقام إبراهيم منهم واليا بقابس ولحق المعز بن محمد بمؤنس، فكان معه إلى أن هلك إبراهيم وولي مكانه أخوه ماضي، وكان سيّئ السيرة فقتله أهل قابس، وذلك لعهد تميم بن المعز بن باديس، وبعثوا إلى عمر أخي السلطان إلى طاعة العرب، فوليها بكر بن كامل بن جامع أمير المناقشة من دهمان من بني علي إحدى بطون رياح فقام بأمرها، واستبدّ على صنهاجة. ولحق به مثنّى بن تميم بن المعزّ نازعا عن أبيه فأجابه، ونازل معه المهديّة حتى امتنعت عليه، واطلع على قبائح شتى، فأفرج عنها. ولم يزل كذا على حاله في إجابة قابس وإمارة قومه دهمان إلى أن هلك.
وقام بأمره بعده رافع واستفحل بها ملكه، وهو الّذي اختطّ بحر العروسيين من مصانع الملك بها، واسمه مكتوب لهذا العهد في جدرانها.
ولمّا ولي علي بن يحيى بن تميم فسد ما بينه وبين رافع، وأعان عليه رافع صاحب،

(6/221)


صقلّيّة فغلب أسطول علي بن يحيى على أسطول النصارى. ثم ذوى [1] قبائل العرب والأساطيل، وزحف إلى قابس سنة إحدى عشر وأربعمائة. قال ابن أبي الصلت:
دول الثلاثة الأخماس من قبائل العرب الذين هم: سعيد ومحمد ونحبه، وأضاف إليهم من الخمس الرابع أكابر بني مقدّم موافى من كان منهم بفحص القيروان، وفرّ رافع إلى القيروان وامتنع عليه أهلها. ثم امتنع شيوخ دهمان واقتسموا البلاد، وعيّنوا القيروان لرافع وأمكنوه. وبعث عليّ بن يحيى عساكره والعرب المدوّنة على منازلة رافع بالقيروان، وخرج إلى محاربتهم فهلك بالطريق في بعض حروبه مع أشياع رافع.
ثم أنّ ميمون بن زياد الصخري حمل رافع بن مكن على مسالمة السلطان وسعى في إصلاح ذات بينهما، فانصلح وارتفعت بينهما الفتنة. وقام بقابس من ذلك رشيد بن كامل. قال ابن بجيل: وهو الّذي اختطّ قصر العروسيّين وضرب السكّة الرشيدية.
وولي بعده ابنه محمد بن رشيد، وغلب عليه مولاه يوسف، ثم خرج محمد في بعض وجوهه وترك ابنه مع يوسف فطرده يوسف واستبد، وانتهى إلى طاعة رجار فثار به أهل قابس ودفعوه عنهم، فخرج إلى أخيه. ولحق أخوه عيسى بن رشيد وأخبره الخبر فحاصرهم رجار بسبب ذلك مدّة من الأيام. وكان آخر من ملكها من بني جامع أخوه مدافع بن رشيد بن كامل. ولمّا استولى عبد المؤمن على المهديّة وصفاقس وطرابلس بعث ابنه عبد الله بعسكر إلى قابس ففرّ مدافع بن رشيد عن قابس وأسلمها للموحّدين، ولحق بعرب طرابلس من عرب عوف فأجاروه سنتين. ثم لحق بعبد المؤمن بقابس [2] فأكرمه ورضي عنه. وانقرض من بني جامع من يؤانس، والبقاء للَّه وحده أهـ.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: دوى. ولا معنى هنا لذوي، ولا لدوى ومقتضى السياق دوّخ.
[2] وفي النسخة التونسية: بفاس.

(6/222)


(الخبر عن ثورة رافع بن مكن بن مطروح بطرابلس والعرامى بصفاقس على النصارى وإخراجهم واستبدادهم بأمر بلدهم [1] في آخر دولة بني باديس)
أمّا طرابلس فكان رجار صاحب صقلّيّة لعنه الله قد استولى عليها سنة أربعين وخمسمائة على يد قائده جرجي بن ميخاييل الأنطاكي، وأبقى المسلمين بها واستعمل عليهم، وبقيت في مملكة النصارى أياما. ثم إنّ أبا يحيى بن مطروح من أعيان البلد مشى في وجوه الناس وأعيانهم، وداخلهم في الفتك بالنصارى فاجتمعوا لذلك وثاروا بهم وأحرقوهم بالنار. ولما وصل عبد المؤمن إلى المهديّة وافتتحها سنة خمس وخمسين وخمسمائة وفد عليه أبو يحيى بن مطروح ووجوه أهل طرابلس فأوسعهم برّا وتكرمة. وقدم ابن مطروح المذكور عليهم وردّهم إلى بلدهم، فلم يزل
__________
[1] الأصح ان يقول: واستبدادها بأمر بلديهما، هكذا في النسخة التونسية.

(6/223)


عليهم إلى أن هرم وعجز بعهد يوسف بن عبد المؤمن، وطلب الحج فسرّحه السيد أبو زيري [1] بن أبي حفص محمد [2] بن عبد المؤمن عامل تونس فارتحل في البحر سنة ست وثمانين وخمسمائة واستقرّ بالإسكندرية.
وأمّا صفاقس فكانت ولاتها أيام بني باديس من صنهاجة قبيلهم إلى أن ولّى المعز بن باديس عليها منصور البرغواطي من صنائعه، وكان فارسا مقداما، فحدّث نفسه بالثورة أيام تغلب العرب على إفريقية، وخروج المعز إلى المهديّة ففتك به ابن عمّه حمّو بن مليل البرغواطي وقتله في الحمام غدرا. وامتعض له حلفاؤه من العرب وحاصروا حمّو حتى بذل لهم من المال ما رضوا به. واستبدّ حمّو بن مليل بأمر صفاقس حتى إذا هلك المعزّ حدّثته نفسه بالتغلّب على المهديّة، فزحف إليها في جموعه من العرب، ولقيه تميم فانهزم حمّو وأصحابه سنة خمس وخمسين وخمسمائة ثم بعث ابنه يحيى مع العرب لحصار صفاقس، فحاصرها مدّة وأقلع عنها. وزحف إليه تميم بن المعزّ سنة ثلاث وتسعين فغلبه عليها. ولحق حمّو بمكن بن كامل أمير قابس فأجاره، وصارت صفاقس إلى ملكة تميم ووليها ابنه.
ولما تغلّب النصارى على المهديّة وملكها جرجي بن ميخاييل قائد رجار سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فغلبوا بعدها على صفاقس وأبقوا أهلها، واستعملوا عمر بن أبي الحسن القرباني لمكانه فيهم. وحملوا أباه أبا الحسن معهم إلى صقلّيّة رهنا. وكان ذلك مذهب إلى رجار ودينه فيما ملك من سواحل إفريقية، يبقيهم ويستعمل عليهم منهم، ويذهب إلى العدل فيهم فبقي عمر بن أبي الحسن عاملا لهم في أهل بلده وأبوه عندهم. ثم أنّ النصارى الساكنين بصفاقس امتدّت أيديهم إلى المسلمين ولحقوا بالضرر. وبلغ الخبر أبا الحسن وهو بمكانه من صقلّيّة، فكتب إلى ابنه عمر، وأمره بانتهاز الفرصة فيهم والاستسلام إلى الله في حق المسلمين، فثار بهم عمر لوقته سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وقتلهم وقتل النصارى أباه أبا الحسن وانتقضت عليهم بسبب ذلك سائر السواحل. ولما افتتح عبد المؤمن المهديّة من يد رجار، وصل إليه عمر، وأدّى طاعته، فولّاه صفاقس، ولم يزل واليا عليها وابنه عبد الرحمن من بعده إلى أن تغلّب يحيى بن غانية فرغّبه في الحج، فسرّحه ولم بعد.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أبو يزيد.
[2] وفي النسخة التونسية: عمر.

(6/224)


(الخبر عما كان بإفريقية من الثوار على صنهاجة عند اضطرابها بفتنة العرب الى انّ محا أثرهم الموحدون)
لما كان أبو رجاء الورد اللخمي عند اضطرام نار الفتنة بالعرب، وتقويض المعز عن القيروان إلى المهديّة، وتغلّبهم عليها قد ضمّ إليه جماعة من الدعّار. وكان ساكنا بقلعة قرسينة [1] من جبل شعيب، فكان يضرب على النواحي بجهة بنزرت ويفرض على أهل القرى الاتاوات بسبب ذلك، فطال عليهم أمره ويئسوا من حسم دائه وكان ببلد بنزرت فريقان أحدهما من لخم وهم من قوم الورد، وبقوا فوضى واختلف أمرهم، فبعثوا إلى الورد في أن يقوم بأمرهم، فوصل إلى بلدهم، فاجتمعوا عليه وأدخلوا حصن بنزرت، وقدّموه على أنفسهم فحاطهم من العرب، ودافع عن نواحيهم. وكان بنو مقدّم من الأثبج ودهمان من بني عليّ إحدى بطون رياح هم المتغلبون على ضاحيتهم فهادنهم على الإتاوة وكفّ بها عاديتهم، واستفحل أمرهم وتسمّى بالأمير، وشيّد المصانع والمباني وكثر عمران بنزرت إلى أن هلك، فقام بأمره ابنه طراد وكان شهما، وكانت العرب تهابه.
وهلك فولي من بعده ابنه محمد بن طراد، وقتله أخوه مقرن لشهر من ولايته في مسامرة، وقام بأمر بنزرت وسمى بالأمير، وحمى حوزته من العرب، واصطنع الرجال، وعظم سلطانه وقصده الشعراء وامتدحوه فوصلهم. وهلك فولي من بعده ابنه عبد العزيز عشر سنين، وجرى فيها على سنن أبيه وجدّه، ثم ولى من بعده أخوه موسى على سننهم أربع سنين. ثم من بعده أخوهما عيسى واقتفى أثرهم. ولما نازل عبد الله بن عبد المؤمن تونس وأفرج عنه مرّ به في طريقه فاستفرغ جهده في قراه وتجمع بطاعته. وطلب منه الحفاظ على بلده فأسعفه. وولّى عليهم أبا الحسن الهرغى، فلمّا قدم عبد المؤمن على إفريقية سنة أربع وخمسين وخمسمائة راعى له ذلك وأقطعه، واندرج في جملة الناس. وكان بقلعة ورغة يدوكس [2] بن أبي علي الصنهاجي من أولياء العزيز المنصور صاحب بجاية، والقلعة قد شادها [3] وحصّنها.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: قريشة.
[2] وفي النسخة التونسية: وكان بقلعة زرعة بروكس.
[3] وفي النسخة التونسية: والقلعة قد ثار بها وحصّنها.

(6/225)


وكان مبدأ أمره أنّ العزيز تغيّر عليه في حروب وقعت بينه وبين العرب نسب فيها إلى نفسه الإقدام، وإلى السلطان العجز، فخافه على نفسه، ولحق ببجاية فأكرمه شيخها محمود بن نزال الربغي [1] وآواه وترافع إلى محمود أهل ورغة من عمله، وكانوا فئتين مختلفتين من زاتيمة إحدى قبائل البربر، وهما أولاد مدين وأولاد لاحق. فبعث عليهم بروكس بن أبي علي لينظر في أحوالهم، وأقام معهم بالقلعة. ثم استجلب بعض الدعّار كانوا بناحيتها، وأنزلهم بالقلعة معهم واصطنعهم صاهر أولاد مدين وظاهرهم على أولاد لاحق، وأخرجهم من القلعة واستبدّ بها.
وقصدته الرجال من كل جانب إلى أن اجتمعت له خمسمائة فارس، وأثخن في نواحيه، وحارب بني الورد ببنزرت وابن علال بطبربة، وقتل محمد بن سبّاع أمير بني سعيد من رياح، وغصّت القلعة بالساكن فاتخذ لها ربضا، وجهّز إليه العزيز عسكره من بجاية فبارز قائد العسكر وفتك به واسمه غيلاس. وهلك بعد مدّة وقام بأمره ابنه منيع، ونازلة بنو سبّاع وسعيد طالبين بثأر أخيهما محمد. وتمادى به الحصار وضاقت أحواله فاقتحموا عليه القلعة، واستلحم هو وأهل بيته قتلا وسبيا والله مالك الأمور.
وكان أيضا بطبربة مدافع بن علال القيسيّ شيخ من شيوخها. فلما اضطربت إفريقية عند دخول العرب إليها امتنع بطبربة وحصّن قلعتها، واستبدّ بها في جملة من ولده وبني عمّه وجماعته إلى أن ثار عليه ابن بيزون اللخمي في البحرين على وادي مجردة. بإزاء الرياحين. وطالت بينهما الفتنة والحرب. وكان قهرون بن مخنوس [2] بمنزل دحمون قد بنى حصنه وشيّده، وجمع إليه جيشا من أوباش القبائل، وذلك لما أخرجه أهل تونس بعد أن ولّاه العامّة عليهم. ثم صرفوه عن ولايتهم لسوء سيرته، فخرج من البلد ونزل دحمون، وبني حصنا بنفسه مع الحنايا وردّد الغارة على تونس، وعاث في جهاتها فرغبوا من محرز بن زياد أن يظاهرهم عليه ففعل.
وبلغ خبره ابن علّال صاحب طبرية فوصل ابن علّال يده بصهر منه، ونقله إلى بعض الحصون ببلده، وهي قلعة غنوش، وتظافروا على الإفساد. وخلفهما بنوهما من بعدهما إلى أن وصل عبد المؤمن إلى إفريقية سنة أربع وخمسين وخمسمائة فمحا آثار
__________
[1] وفي النسخة التونسية: محمود بن يزال الربعي.
[2] وفي نسخة ثانية: غنوش.

(6/226)


الفساد من جانب إفريقية، وكان أيضا حمّاد بن خليفة اللخمي بمنزل رقطون من إقليم زغوان على مثل حال ابن علّال وابن غنوش وابن بيزون وخلفه ولده في مثل ذلك إلى أن انقطع ذلك على يد عبد المؤمن. وكان عماد بن نصر الله الكلاعي بقلعة شقبناريّة قد صار إليه جند من أهل الدعارة وأوباش القبائل، فحملها من العرب، واستغاث به ابن قليه شيخ الأريس من العرب، وشكا إليه سوء ملكتهم، فزحف إليهم وأخرجهم من الأريس، وفرض عليهم مالا يؤدّونه إليه إلى أن مات وولي ابنه من بعده، فجرى على سننه إلى أن دخل في طاعة عبد المؤمن سنة أربع وخمسين وخمسمائة، والله مالك الملك لا ربّ غيره وسبحانه أهـ.
(الخبر عن دولة آل حماد بالقلعة من ملوك صنهاجة الداعين لخلافة العبيديين وما كان لهم من الملك والسلطان بإفريقية والمغرب الأوسط الى حين انقراضه بالموحدين)
هذه الدولة شعبة من دولة آل زيري وكان المنصور بلكّين قد عقد لأخيه حمّاد على أشير والمسيلة، وكان يتداولها مع أخيه يطوفت وعمه أبي البهار. ثم استقل بها سنة سبع وثمانين وثلاثمائة أيام باديس من أخيه المنصور ودفعه لحرب زناتة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بالمغرب الأوسط من مغراوة وبنى يفرن، وشرط له ولاية أشير والمغرب الأوسط وكل بلد يفتحه وأن لا يستقدمه. فعظم عناؤه فيها وأثخن في زناتة وكان مظفرا عليهم. واختطّ مدينة القلعة بحبل كتامة سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وهو جبل عجيسة وبه لهذا العهد قبائل عياض من عرب هلال. ونقل إليها أهل المسيلة وأهل حمزة وخرّبهما. ونقل جراوة من المغرب وأنزلهم بها، وتمّ بناؤها وتمصّرها على رأس المائة الرابعة. وشيّد من بنيانها وأسوارها واستكثر فيها من المساجد والفنادق، فاستبحرت في العمارة واتسعت في التمدّن. ورحل إليها من الثغور والقاصية والبلد البعيد طلاب العلوم وأرباب الصنائع لنفاق أسواق المعارف والحرف والصنائع بها.
ولم يزل حمّاد أيام باديس هذا أميرا على الزاب والمغرب الأوسط ومتوليا حروب زناتة. وكان نزوله ببلد أشير والقلعة متاخما لملوك زناتة أحيائهم البادية بضواحي

(6/227)


تلمسان وتاهرت. وحاربه بنو زيري عند خروجهم على باديس سني تسعين وثلاثمائة وهم زاوي وماكسن وإخوانهما فقتل ماكسن وابناه، وألجأ زاوي وإخوته إلى جبل شنون وأجازهم البحر إلى الأندلس. ثم أنّ بطانة باديس ومن إليه من الأعجام والقرابة نفسوا على حماد رتبته وسعوا في مكانه من باديس إلى أن فسد ذات بينهما. وطلب باديس ان يسلم عمل تيجست وقسنطينة لولد المعز لما قلّده الحاكم ولاية عهد ابنه، فأبى حمّاد وخالف دعوة باديس وقتل الرافضة وأظهر السنة، ورضي عن الشيخين ونبذ طاعة العبيديّين جملة، وراجع دعوة آل العباس وذلك سنة خمس وأربعمائة.
وزحف إلى باجة فدخلها بالسيف ودسّ إلى أهل تونس الثورة على المشارقة والرافضة فثاروا بهم فناصبه باديس الحرب، وعبى عساكره من القيروان، وخرج إليه فنزع عن حمّاد أكثر أصحابه مثل: بني أبي واليل أصحاب معرّة من زناتة، وبني حسن كبار صنهاجة، وبني يطوفت من زناتة، وبني غمرة أيضا منهم، وفرّ حماد، وملك باديس أشير. ولحق حماد بشلف بني واليل وباديس في اتّباعه حتى نزل مواطين [1] فحصر السرسّو من بلاد زناتة. ونزل إليه عطية بن داقلتن [2] في قومه من بني توجين، لما كان حمّاد قتل أباه. وجاء على أثره ابن عمّه بدر بن لقمان بن المعتز فوصلهما باديس واستظهر بهما على حماد.
ثم أجاز إليه باديس من وادي شلف وناجزه الحرب، ونزع إليه عامّة أهل معسكره فانهزم وأغذ السير إلى القلعة، وباديس في أثره حتى نزل فحاصر المسيلة، وانحجر حمّاد في القلعة وحاصره. ثم هلك بمعسكره من ذلك الحصار فجأة بمضربه وهو نائم بين أصحابه ست وأربعمائة، فباعت صنهاجة لابنه المعزّ صبيا ابن ثمان سنين. وتلاقوا من أشير [3] ، وبعثوا كرامة بن منصور لسدّها فلم يقدروا، واقتحمها عليه حمّاد.
واحتملوا باديس على أعواده إلى مدفنهم بالقيروان وبايعوا المعزّ بالبيعة العامة وزحف إلى حمّاد بناحية قفصة، وأشفق حمّاد فبعث ابنه القائد لإحكام الصلح بينه وبين المعز، فوصل إلى القيروان سنة ثمان وأربعمائة بهدية جليلة. وأمضى له المعز ما سأله من الصلح ورجع إلى أبيه.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بوادي الطين، وفي النسخة التونسية بوالطين وفي نسخة أخرى: مواطن.
[2] وفي النسخة الباريسية: دافلتن، وفي النسخة التونسية: دافلين.
[3] وفي نسخة أخرى: وتلافوا أمر أشير.

(6/228)


وهلك حماد سنة تسعة عشر وأربعمائة فقام بأمره ابنه القائد وكان جبّارا فاختار أخاه يوسف على المغرب وويغلان على حمزة في بلد اختطه حمزة بن إدريس. وزحف إليه حمامة بن زيري بن عطية ملك فاس من مغراوة سنة ثلاثين وأربعمائة فخرج إليه القائد، وسرّب الأموال في زناتة. وأحس بذلك حمامة فصالحه ودخل في طاعته، ورجع إلى فاس، وزحف إليه المعزّ من القيروان سنة أربع وثلاثين وأربعمائة وحاصره مدّة طويلة. ثم صالحه القائد وانصرف إلى أشير فحاصرها، ثم أقلع عنها وانكفأ راجعا. وراجع القائد طاعة العبيديّين لما نقم عليه المعز ولقبوه شرف الدولة.
وهلك سنة ست وأربعين وأربعمائة وولي ابنه محسن وكان جبارا، وخرج عليه عمه بوسف ولحق بالمغرب فقتل سائر أولاد حمّاد، وبعث محسن في طلبه بلكّين ابن عمّه محمد بن حمّاد، وأصحبه من العرب خليفة بن بكير وعطية الشريف وأمرهما بقتل بلكّين في طريقهما، فأخبرا بلكّين بذلك وتعاهدوا جميعا على قتل محسن، وأنذر بهم، ففرّ إلى القلعة وأدركوه، فقتله بلكّين لتسعة أشهر من ولايته. وولي الأمر سنة سبع وثلاثين وأربعمائة [1] وكان شهما قرما حازما سفّاكا للدّماء. وقتل وزير محسن الّذي تولى قبله. وفي أيامه قتل جعفر بن أبي رمان مقدّم بسكرة لما أحس بنكثه،؟ مخالف أهل بسكرة بأثر ذلك حسبما نذكره. ثم مات أخوه مقاتل بن محمد فاتهم به زوجته ناميرت بنت عمه علناس بن حمّاد فقتلها، وأحفظ ذلك أخاها الناصر وطوى على التبييت. وكان بلكّين كثيرا ما يردّد الغزو إلى المغرب، وبلغه استيلاء؟ يوسف بن تاشفين والمرابطين على المصامدة فنهض نحوهم سنة أربع وخمسين وأربعمائة وفرّ المرابطون إلى الصحراء، وتوغّل بلكّين في ديار المغرب، ونزل بفاس، واحتمل من أكابر أهلها وأشرافهم رهنا على الطاعة. وانكفأ راجعا إلى القلعة فانتهز منه الناصر ابن عمّه الفرصة في الثأر بأخته، ومالأه قومه من صنهاجة لما لحقهم من تكلّف المشقة بابعاد الغزو والتوغّل في أرض العدو، فقتله بتساله سنة أربع وخمسين وأربعمائة.
وقام بالأمر من بعده، واستوزر أبا بكر بن أبي الفتوح، وعقد على المغرب لأخيه كباب وأنزله مليانة وعلى حمزة لأخيه رومان، وعلى نقاوس لأخيه خزر. وكان المعز
__________
[1] الواقع ان القائد بن حمّاد توفي سنة 446 فخلفه ابنه محسن الّذي قتله بكلين بن محمد بن حماد بعد تسعة أشهر حسب رواية ابن خلدون فيكون وفاته في سنة 447 وليس 437. وربما يعود هذا الخطأ الى الناسخ. وفي النسخة التونسية أيضا 447. كذلك في قبائل المغرب ص 144.

(6/229)


قد هدم سورها فأصلحه الناصر، وعقد على قسنطينة لأخيه بلباز، وعلى الجزائر وسوس الدجاج [1] لابنه عبد الله وعلى أشير لابنه يوسف، وكتب إليه حمّو بن مليك البرغواطي من صفاقس بالطاعة وبعث إليه بالهدية. ووفد عليه أهل قسنطينة [2] ومقدّمهم يحيى بن واطاس فأعلنوا بطاعته، وأجزل صلتهم وردّهم إلى أماكنهم، وعقد عليها ليوسف بن خلوف من صنهاجة ودخل أهل القيروان أيضا في طاعته وكذلك أهل تونس.
وكان أهل بسكرة لما قتل بلكّين مقدّمهم جعفر بن أبي رمّان خلعوا طاعة آل حمّاد واستبدّوا بأمر بلدهم، وعليهم بنو جعفر، فسرّح الناصر إليهم خلف بن أبي حيدرة وزيره ووزير بلكّين قبله، فنازلها وافتتحها عنوة، واحتمل بني جعفر في جماعة من رؤسائها إلى القلعة فقتلهم الناصر وصلبهم، ثم قتل خلف بن أبي حيدرة بسعاية رجالات صنهاجة فيه، أنه لما بلغه خبر بلكّين أراد تولية أخيه معمّر، وشاورهم في ذلك، فقتله الناصر وولّى مكانه أحمد بن جعفر بن أفلح.
ثم خرج الناصر ليتفقّد المغرب فوثب علي بن ركان على تافر بوست [3] دار ملكهم وكان لما قتل بلكين هرب الى إخوانه من عجيسة واهتبلوا الغرّة في تافر بوست لغيبة الناصر، فطرقوها ليلا، وملكها عليّ فرجع الناصر من المسيلة وعاجلهم فسقط في أيديهم، وافتتحها عليهم عنوة وذبح علي بن ركان نفسه بيده. ثم وقعت بين العرب الهلاليين فتن وحروب ووفد عليه رجالات الأثبج صريخا به على رياح، فأجابهم ونهض إلى مظاهرتهم في جموعه من صنهاجة وزناتة حتى نزل للأربس، وتواقعوا بسببه فغدرت بهم زناتة وجرّوا عليه وعلى قومه الهزيمة بدسيسة ابن المعز بن زيري بن عطية، وإغراء تميم بن المعز فانهزم الناصر، واستباحوا خزائنه ومضاربه، وقتل أخوه القاسم وكاتبه، ونجا إلى قسنطينة في اتباعه.
ثم لحق بالقلعة في فلّ من عسكره، لم يبلغوا مائتين. وبعث وزيره ابن أبي الفتوح للإصلاح، فعقد بينهم وبينه صلحا وتمّمه الناصر. ثم وفد عليه رسول تميم، وسعى عنده بالوزير بن أبي الفتوح وأنه مائل إلى تميم فنكسه وقتله. وكان المستنصر بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مرسى الدجاج.
[2] وفي النسخة التونسية: قسطيلة.
[3] وفي النسخة التونسية تاقريوست وفي قبائل المغرب تغرسيت ص 330.

(6/230)


خزرون الزناتي خرج في أيام الفتنة بين الترك والمغاربة بمصر، ووصل إلى طرابلس فوجد بني عديّ بها قد أخرجهم الأثبج وزغبة من إفريقية كما ذكرناه، فرغّبهم في بلاد المغرب، وسار بهم حتى نزل المسيلة، ودخلوا أشير. وخرج إليه الناصر ففرّ إلى الصحراء ورجع، فرجع إلى مكانه من الإفساد، فراسله الناصر في الصلح فأسعفه، وأقطعه ضواحي الزاب وريغه، وأوعز إلى عروس بن هندي [1] رئيس بسكرة لعهده، وولي دولته أن يمكر به، فوصل المنتصر إلى بسكرة وخرج إليه عروس ابن هندي وأحمد نزله، وأشار على حشمه عند انكباب المنتصر وذويه على الطعام فبادروا مكبين لطعنه، وفرّ أتباعه وأخذوا رأسه، وبعث به إلى الناصر فنصبه ببجاية، وصلب شلوه بالقلعة وجعلوه عظة لغيره. وقتل كثير من رؤساء زناتة، فمن مغراوة أبي الفتوح بن حبوس أمير بني سنجلس، وكانت له بلد لمديه والمرية قبيل من بطون صنهاجة سميت البلد بهم، وقتل معنصر بن حمّاد منهم أيضا، وكان بناحية شلّف فأجلب على عامل مليانه، وقتل شيوخ بني ورسيفان من مغراوة، فكاتبهم السلطان لما كان مشتغلا عنهم بشأن العرب. فزحفوا إلى معنصر وقتلوه، وبعثوا برأسه إلى الناصر فنصبه مع رأس المستنصر [2] . وبعث إليه أهل الزاب أنّ عمر [3] ومغراوة ظاهروا الأثبج من العرب على بلادهم، فبعث ابنه المنصور في العساكر ونزل وعلان [4] بلد المنتصر بن خزرون [5] وهدمها. وبعث سراياه وجيوشه إلى بلد واركلا وولّى عليها، وقفل بالغنائم والسبي، وبلغه عن بني توجين من زناتة أنهم ظاهروا بني عدي من العرب على الفساد وقطع السبيل، وأميرهم إذ ذاك مناد بن عبد الله، فبعث ابنه المنصور إليهم بالعسكر، وتقبّض على أمير بني توجين وأخيه زيري وعمّهما الأغلب وحمامة، وأحضرهم فوبّخهم وقدر عليهم فغلبه في إجارتهم من أولاد القاسم رؤساء بني عبد الواد، وقتلهم جميعا على الخلاف.
وفي سنة ستين وأربعمائة افتتح جبل بجاية، وكان له قبيل من البربر يسمّون بهذا الاسم، إلّا أنّ الكاف فيهم بلغتهم ليست كافا بل هي بين الجيم والكاف، وعلى هذا
__________
[1] وفي النسخة التونسية: سندي.
[2] وفي نسخة أخرى: فنصبه على رأس القصر.
[3] وفي النسخة الباريسية: عمرت. وفي النسخة التونسية: غمرت.
[4] وفي النسخة التونسية: وغلان.
[5] هو المستنصر بن خزرون.

(6/231)


القبيل من صنهاجة يأتون لهذا العهد أوزاعا في البربر. فلما افتتح هذا الجبل اختطّ به المدينة وسمّاها الناصرية، وتسمّى عند الناس باسم القبيلة وهي بجاية، وبنى بها قصر اللؤلؤة وكان من أعجب قصور الدنيا ونقل إليها الناس، وأسقط الخراج عن ساكنيها وانتقل إليها سنة إحدى وستين وأربعمائة وفي أيام الناصر هذا كان استفحال ملكهم وشغوفه على ملك بني باديس إخوانهم بالمهديّة، ولمّا أضرع منه الدهر بفتنة العرب الهلاليين حتى اضطرب عليهم أمرهم، وكثر الثوّار عليهم والمنازعون من أهل دولتهم، فاعتز آل حماد هؤلاء أيام الناصر هذا، وعظم شأن أيامهم، فبنى المباني العجيبة المؤنّقة، وشيّد المدائن العظيمة، وردّد الغزو إلى المغرب وتوغل فيهم.
ثم هلك سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وقام بالأمر من بعده ابنه المنصور بن الناصر.
ونزل بجاية سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، وأوطنها بعساكر وخاصة بعراعر منازل العرب [1] ، وما كانوا يسومونهم بالقلعة من خطة الخسف وسوء العذاب بوطء ساحتها والعيث في نواحيها، وتخطف الناس من حولها السهولة طرقها على رواحلهم، وصعوبة المسالك عليها في الطريق إلى بجاية لمكان الأوعار، فاتخذ بجاية هذه معقلا وصيّرها دارا لملكه، وجدّد قصورها وشيّد جامعها. وكان المنصور هذا جمّاعة مولعا بالبناء وهو الّذي حضر ملك بني حمّاد وتأنّق في اختطاط المباني وتشييد المصانع واتخاذ القصور وإجراء المياه في الرياض والبساتين. فبنى في القلعة قصر الملك والمنار والكوكب وقصر السلام وفي بجاية قصر اللؤلؤة وقصر أميميون [2] .
وكان أخوه يلباز على قسنطينة منذ عهد الناصر أبيهما وهمّ بالاستبداد لأوّل ولاية المنصور، فسرّح إليه أبا يكنى بن محصن بن العابد في العساكر، وعقد له على قسنطينة وبونة فتقبّض على يلباز وأشخصه إلى القلعة، وأقام واليا على قسنطينة وكأنه، وولّى أخاه ويغلان على بونة. ثم بدا له في الخلاف على المنصور وثار بقسنطينة سنة سبع وثمانين وأربعمائة وبعث أخاه ابن موتة إلى تميم بن المعزّ بالمهديّة، واستدعاه لولاية بونة فبعث معه ابنه أبا الفتوح بن تميم، ونزل بونة مع ويغلان، وكاتبوا المرابطين بالمغرب الأقصى وجمعوا العرب على أمرهم. وسرّح المنصور عساكره فحاصروا بونه سبعة أشهر، ثم اقتحموها غلابا، وتقبضوا على أبي الفتوح
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وخاصة بعرا من بلاد العرب.
[2] وفي قبائل المغرب/ 145: قصر دار السلام، وبجاية قصر اللؤلؤة وقصر أميون.

(6/232)


بن تميم وبعثوا به إلى المنصور فاعتقله بالقلعة.
ثم نازلت عساكره قسنطينة واضطرب أحوال ابن أبي يكنى فخرج إلى قلعة بجبل أوراس، وتحصّن بها. ونزل بقسنطينة صليصل بن الأحمر من رجالات الأثبج.
وداخل صليصل المنصور في أن يمكّنه من قسنطينة على مال يبذله ففعل، واستولى عليها المنصور. وأقام أبو يكنى بحصنه من أوراس، وردّد الغارة على قسنطينة فتوجّهت إليه العساكر وحاصروه بقلعته. ثم اقتحموها عليه وقتلوه. وكان بنو ومانو من زناتة حيّا جميعا وقوما أعزّة. وكانت إليهم رياسة زناتة. وكان رئيسهم لعهده ماخوخ، وكان بينهم وبين آل حمّاد صهر، فكانت إحدى بناتهم زوجة للناصر، وكانت أخرى عند المنصور.
ولما تجدّدت الفتنة بينه وبين قومهما أغزاهم المنصور بنفسه في جموع صنهاجة وحشوده، وجمع له ماخوخ ولقيه في زناتة، فانهزم المنصور إلى بجاية فقتل أخت ماخوخ التي كانت تحته. واستحكمت النفرة بين ماخوخ وبينه. وسار إلى ولاية أمراء تلمسان من لمتونة وحرّضهم على بلاد صنهاجة، فكان ذلك مما دعا المنصور إلى النهوض إلى تلمسان، وذلك أنّ يوسف بن تاشفين لمّا ملك المغرب، واستفحل به أمره، سما إلى ملك تلمسان، فغلب عليها أولاد يعلى سنة أربع وسبعين وأربعمائة على ما يأتي ذكره، وأنزلها محمد بن يغمر المسولى [1] وصيّرها لعز الملك [2] فاضطلع بأمرها ونازل بلاد صنهاجة وثغورهم، فزحف إليه المنصور وأخرب ثغوره وحصون ماخوخ، وضيّق عليه فبعث إليه يوسف بن تاشفين وصالحه.
وقبض أيدي المرابطين عن بلاد صنهاجة، ثم عاود المرابطون إلى شأنهم في بلاده، فبعث ابنه الأمير عبد الله، وسمع به المرابطون فانقبضوا عن بلاده وزحفوا إلى مراكش، واحتل هو بالمغرب الأوسط فشنّ الغارة في بلاد بني ومانوا، وحاصر الجعبات، وفتحها ثم عاود ذلك مرات كذلك، وعفا عن أهلها، ورجع إلى أبيه.
ثم وقعت الفتنة بينه وبين ماخوخ. وقتل أخوه ولحق ابن ماخوخ بتلمسان، وظاهره ابن يغمر صاحب تلمسان على أمره، واجلبوا على الجزائر فنازلوها يومين، فأعقبهما محمد بن يغمر صاحب تلمسان.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: محمد بن يغمر المستوفي.
[2] وفي نسخة أخرى: وصيّرها ثغرا لملكه.

(6/233)


وولي يوسف بن تاشفين مكان أخيه تاشفين بن يغمر، فنهض إلى أشير وافتتحها، فقام المنصور في ركائبه ومعه كافة صنهاجة [1] . ومن العرب أحياء الأثبج وزغبة وربيعة، وهم العقل من زناتة أمما كثيرة، ونهض إلى غزو تلمسان سنة ست وسبعين وأربعمائة في نحو عشرين ألفا. ولقي اسطقسه [2] وبعث العسكر في مقدّمته، وجاء على أثرهم. وكان تاشفين قد أفرج عن تلمسان وخرج إلى تسأله، ولقيته عساكر المنصور فهزموه، ولجأ إلى جبل الصخرة. وعاثت عساكر المنصور في تلمسان فخرجت إليه حوا زوجة تاشفين أميرهم متذممة راغبة في الإبقاء، متوسلة بوشائح الصنهاجية، فأكبر قصدها إليه وأكرم موصلها، وأفرج عنهم صبيحة يومه. وانكفأ راجعا إلى حضرته بالقلعة. وأثخن بعدها في زناتة وشرّدهم بنواحي الزاب والمغرب الأوسط. ورجع إلى بجاية وأثخن في نواحيها، ودوّخت عساكره قبائلها، فساروا في جبالها المنيعة مثل بني عمران وبني تازروت [3] والمنصورية والصهريج والناظور [4] وحجر المعزّ، وقد كان أسلافه يرومون كثيرا عنها، فتمنع عليهم فاستقام أمره واستفحل ملكه.
وقدم عليه معز الدولة بن صمادح من المريّة فارا أمام المرابطين لما ملكوا الأندلس، فنزل على المنصور وأقطعه تدلس وأنزله بها. وهلك سنة ثمان وتسعين وأربعمائة فولي من بعده ابنه باديس، فكان شديد البأس عظيم النظر فنكب عبد الكريم بن سليمان وزير أبيه لأوّل ولايته، وخرج من القلعة إلى بجاية فنكب سهاما عامل بجاية.
وهلك قبل أن يستكمل سنة، وولي من بعده أخوه العزيز. وقد كان عزله عن الجزائر وغرّبه إلى جيجل فبعث عنه القائد علي بن حمدون فوصل، وبايعوه، وصالح زناتة وأصهر إلى ماخوخ فأنكحه ابنته. وطال أمر ملكه، وكانت أيامه هدنة وأمنا. وكان العلماء يتناظرون في مجلسه.
ونازلت أساطيله جربة فنزلوا على حكمه وأخذوا بطاعته، ونازل تونس وصالحه صاحبها أحمد بن عبد العزيز وأخذ بطاعته، وكبس العرب في أيامه القلعة وهم
__________
[1] وفي النسخة التونسية: فقام المنصور في ركائبه وقعد واستنفر كافة صنهاجة.
[2] وفي نسخة اخرى: اسطقسيف.
[3] وفي النسخة الباريسية: بازروت وفي النسخة التونسية يازروت.
[4] وفي النسخة الباريسية: والهريج والناطور وفي التونسية: والصهريج والباطور

(6/234)


غارون فاكتسحوا جميع ما وجدوه بظواهرها، وعظم عيثهم، وقاتلتهم الحامية فغلبوهم وأخرجوهم من البلد. ثم ارتحل العرب وبلغ الخبر إلى العزيز فبعث ابنه يحيى وقائده علي بن حمدون من بجاية في عسكر وتعبية، فوصل إلى القلعة وسكن الأحوال. وقد أمّن العرب واستعتبوا فأعتبوا وانكفأ يحيى راجعا إلى بجاية في عسكره على عهد العزيز. وهكذا كان وصول مهدي الموحّدين إلى بجاية قافلا إلى المشرق سنة اثنتي عشرة وخمسمائة وغيّر بها المنكر، فسعى به عند العزيز وائتمر به، فخرج إلى بني ورياكل من صنهاجة كانوا ساكنين بوادي بجاية فأجاروه. ونزل عليهم بملالة وأقام بها يدرّس العلم. وطلبه العزيز فمنعوه وقاتلوا دونه إلى أن رحل عنهم إلى المغرب.
وهلك العزيز سنة خمس عشرة وأربعمائة [1] فولي من بعده ابنه يحيى، وطالت أيامه مستضعفا مغلبا للنساء مولعا بالصيد على حين انقراض الدولة وذهاب الأيام بقبائل صنهاجة واستحدث السكّة ولم يحدثها أحد من قومه أدبا مع خلفائهم العبيديّين، ونقل ابن حماد انّ سكته في الدينار كانت ثلاثة سطور ودائرة في كل وجه، فدائرة الوجه الواحد: «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 2: 281 والسطور «لا إله إلا الله ومحمد رسول الله، يعتصم بحبل الله يحيى بن العزيز باللَّه الأمير المنصور. ودائرة الوجه الآخر: «بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 ضرب هذا الدينار بالناصريّة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة» . وفي سطوره الإمام أبو عبد الله المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين العبّاسي.
ووصل سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلى القلعة لافتقادها ونقل ما بقي بها، وانتقض عليه بنو زرا بن مروان، فجهّز إليه الفقيه مطرف بن علي بن حمدون في العساكر فافتتحها عنوة وتقبّض على ابن مروان وأوصله إليه فسجنه بالجزائر إلى أن هلك في معتقله، وقيل قتله. وبعث مطرف بابنه إلى تونس فافتتحها ونازل في وجهته هذه المهدية فامتنعت عليه، ورجع إلى بجاية وتغلّب النصارى على المهديّة، وقصده الحسن صاحبها فأجازه إلى الجزائر وأنزله بها مع أخيه القائد، حتى إذا زحف الموحّدون إلى بجاية وفرّ القائد من الجزائر وأسلمها، قدّموا الحسن على أنفسهم ولقي
__________
[1] الصحيح: خمس عشرة وخمسمائة.

(6/235)


عبد المؤمن فأمّنهم، وأخرج يحيى بن العزيز أخاه سبع للقاء الموحّدين فانهزم وملك الموحدون بجاية.
وركب يحيى البحر إلى صقلّيّة يروم الاجازة منها إلى بغداد. ثم عدل إلى بونة فنزل على أخيه الحارس ونكر عليه سوء صنيعه وإخراجه عن البلاد فارتحل عنه إلى قسنطينة، فنزل على أخيه الحسن فتخلّى له عن الأمر. وفي خلال ذلك دخل الموحّدون القلعة عنوة. ودخل حوشن بن العزيز وابن الدحامس من الأثبج معه وخربت القلعة. ثم بايع يحيى لعبد المؤمن سنة سبع وأربعين وخمسمائة ونزل قسنطينة واشترط لنفسه فوفّى له، ونقله إلى مراكش فسكنها. ثم انتقل إلى سلا سنة ثمان وخمسين وخمسمائة فسكن قصر بني عشيرة إلى أن هلك في سنته. وأمّا الحارث صاحب بونة ففرّ إلى صقلّيّة واستصرخ صاحبها فصارخه على أمره ورجع إلى بونة وملكها. ثم غلب عليها الموحّدون وقتلوه صبرا. وانقرض ملك بني حمّاد والبقاء للَّه وحده، ولم يبق من قبائل ماكسن إلا أوزاع بوادي بجاية ينسبون إليهم، وهم لهذا العهد في عداد الجند، ولهم أقطاع بنواحي البلد على العسكرة في جملة السلطنة مع قواده، والله وارث الأرض ومن عليها أهـ.

(6/236)


ملوك بني حبوس (الخبر عن ملوك بني حبوس بن ماكسن من بني زيري من صنهاجة من غرناطة من عدوة الأندلس وأولية ذلك ومصايره
لما استبدّ باديس بن المنصور بن بلكّين بن زيري بن مناد بن هاد بولاية إفريقية سنة خمس وثمانين وثلاثمائة ولى عمومته وقرابته ثغور عمله، فأنزل حمّادا بأشير أخاه يطوفت بتاهرت، وزحف زيري بن عطية صاحب فاس من مغراوة بدعوة المؤيد هشام خليفة قرطبة إلى عمل صنهاجة في جموع زناتة، ونزل تاهرت وسرّح باديس عساكره لنظر محمد بن أبي العون فالتقوا على تاهرت، وانهزم صنهاجة، فزحف باديس بنفسه للقائهم، وخالف عليه فلفول بن سعيد بن خزرون صاحب طبنة ثم أجفل زيري بن عطية أمامه ورجع إلى المغرب، فرجع باديس الى القيروان، وترك عمومته أولاد زيري بأشير مع حمّاد وأخيه يطوفت وهم زاوي وحلال وعرم ومعنين وأجمعوا على الخلاف والخروج على باديس سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، فأسلموا حمّادا برمته واستولوا على جميع ما معه، واتصل الخبر بأبي البهار بن زيري، وهم مع باديس فخشيه على نفسه، ولحق بهم واجتمعوا في الخلاف، واشتغل باديس عنهم بحرب فلفول بن يأنس مولى الحاكم القادم على طرابلس من قبله، وانفسح مجالهم في الفساد والعيث ووصلوا أيديهم بفلفول وعاقدوه.
ثم رجع أبو البهار عنهم إلى باديس فتقبّله وصالح له، ثم رجعوا إلى حمّاد سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، ولقيهم فهزمهم وقتل ماكسن وابنه. ولحق زاوي بجبل شنوق من ساحل مليانة، وأجاز البحر إلى الأندلس في بنيه وبني أخيه وحاشيته، ونزل على المنصور بن أبي عامر صاحب الدولة وكافل الخلافة الأموية، فأحسن نزلهم وأكرم وفادتهم، واصطنعهم لنفسه واتخذهم بطانة لدولته وأوليائه على ما يرومه من قهر الدولة والتغلّب على الخلافة، ونظّمهم في طبقات زناتة وسائر رجالات البربر الذين أدال بجموعهم من جنود السلطان وعساكر الأموية وقبائل العرب، واستغلظ أمر صنهاجة بالأندلس واستفحلت إمارتهم، وحملوا دولة المنصور بن أبي عامر وولديه المظفّر والناصر من بعده على كاهلهم.

(6/238)


ولما انقرض أمرهم واضمحلّت دولتهم ونشأت الفتنة بالأندلس بين البرابرة وأهلها، فكان زاوي كبش تلك الوقائع ومحش [1] حروبها. وتمرّس بقرطبة هو وقومه صنهاجة وكافة زناتة والبربر حتى أثبتوا قدم خليفتهم المستعين سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر الّذي أتوه ببيعتهم، وأعطوه على الطاعة صفقتهم كما ذكرناه في أخبارهم. ثم اقتحموا به قرطبة عنوة واصطلموا عامّة أهلها وأنزلوا المعرات بذوي الصون منها وبيوتات الستر من خواصّها، فحدث الناس في ذلك بأخبارها وتوصّل زاوي عند استباحة قرطبة إلى رأس أبيه زيري بن مناد المتصور بجدران قصر قرطبة فأزاله وأصاره إلى قومه ليدفن في جدثه. ثم كان شأن بني حمّود من العلوية، وافترق أمر البرابرة واضطرمت الأندلس نارا، وامتلأت جوانبها فتنة، وأسرى الرؤساء من البرابرة ورجالات الدولة على النواحي والأمصار فملكوها، وتحيّزت صنهاجة إلى ناحية ألبيرة فكانت ضواحيها وحصل عليها استيلاؤهم، وزاوي يومئذ عضد البرابرة فنزل غرناطة واتخذها دارا لملكته ومعتصما لقومه.
ثم وقع في نفسه سوء أثر البربر بالأندلس أيام الفتنة، وحذر مغبّة الفعلة واستعاضت الدولة، فاعتزم على الرحلة وآوى إلى سلطان قومه بالقيروان سنة عشر وأربعمائة بعد مغيبه عشرين سنة، وأنزل على المعزّ بن باديس حافد أخيه بلكّين أجلّ ما كانت دولتهم بأمر إفريقية، وأترف وأوسع ملكا وأوفر عددا، فلقيه المعز بأحسن أحوال البرّ والتجلّة، وأنزله أرفع المنازل من الدولة وقدّمه على الأعمام والقرابة وأسكنه بقصره، وأبرز الحرم للقائه، فيقال: إنه لقيه من ذوات محارمه ألف امرأة لا تحلّ له واحدة منهنّ، ووارى إبراهيم مع شلوه بجدثه. وكان استخلف على عمله ابنه ونّا فظعن لأهل غرناطة فانتقضوا عليه، وبعثوا عن حبّوس ابن عمّه ماكسن بن زيري مكانه ببعض حصون عمله، فبادر إليهم، ونزل بغرناطة، فانتقضوا عليه وبايعوه، واستحدث بها ملكا، وكان من أعظم ملوك الطوائف بالأندلس إلى أن هلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة وولي من بعده ابنه باديس بن حبّوس ويلقّب بالمظفّر، ولم يزل مقيما لدعوة آل حمّو أمراء مالقة بعد تخلّفهم عن قرطبة سائر أيامه، وزحف إليها العامري صاحب المرية سنة تسع وعشرين وأربعمائة فلقيه باديس بظاهر غرناطة فهزمه وقتله وطالت
__________
[1] حشّ الحرب أي هيّجها (القاموس) .

(6/239)


أيام ومدّ ملوك الطوائف أيديهم جميعا إلى مدده فكان ممن استمدّه محمد بن عبد الله البرز الي لمّا حاصره إسماعيل بن القاضي بن عبّاد بعساكر أبيه فأمدّه باديس بنفسه وقومه وصار إلى صريخه مع ابن بقية قائد إدريس بن حمّود صاحب المالقة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ورجعوا من طريقهم. وطمع إسماعيل بن القاضي بن عبّاد مع صريخه فيهم فاتبعهم ولحق بباديس في قومه، فاقتتلوا، وفرّ عسكر إسماعيل وأسلموه فقتله صنهاجة، وحمل رأسه إلى ابن حمود.
وكان القادر بن ذي النون صاحب طليطلة أيضا يستدفع به وبقومه استطالة ابن عبّاد وأعوانه. وباديس هذا هو الّذي مصّر غرناطة واختطّ قصبتها وشاد قصورها وشيّد حصونها، وآثاره في مبانيها ومصانعها باقية لهذا العهد. واستولى على مالقة عند انقراض بني حمود سنة تسع وأربعين وأربعمائة وأضافها إلى عمله، وهلك سنة سبع وستين وأربعمائة وظهر أمر المرابطين بالمغرب واستفحل ملك يوسف بن تاشفين فولي من بعده حافده عبد الله بن بلكين بن باديس، وتغلّب المظفر وعقد لأخيه تميم على مالقة فاستقام أمرها إلى أن أجاز يوسف بن تاشفين إلى العدوة أجازته المعروفة كما نذكره في أخباره. ونزل بغرناطة سنة ثلاث وثمانين فتقبّض على عبد الله بن بلكين واستصفى أمواله وذخيرته وألحق به أخاه تميما من مالقة واستصحبهما إلى العدوة، فأنزل عبد الله وتميما بالسوس الأقصى وأقطع لهما إلى أن هلكوا في إيالته، ويزعم بنو الماكسن من بيوتات طنجة لهذا العهد أنهم من أعقابهم، فاضمحلّ ملك بلكانة من صنهاجة ومن بيوتات طنجة لهذا العهد أنهم من أعقابهم، فاضمحلّ ملك بلكانة من صنهاجة ومن إفريقية والأندلس أجمع والبقاء للَّه وحده أهـ.
عبد الله بن بلكين بن باديس بن حيوس بن ماكسن بن زيري بن مناد

(6/240)


الطبقة الثانية من صنهاجة وهم الملثمون وما كان لهم بالمغرب من الملك والدولة
هذه الطبقة من صنهاجة هم الملثّمون الموطنون بالقفر وراء الرمال الصحراويّة بالجنوب، أبعدوا في المجالات هنالك منذ دهور قبل الفتح لا يعرف أوّلها. فأصحروا عن الأرياف ووجدوا بها المراد وهجروا التلول وجفوها، واعتاضوا منها بألبان الأنعام ولحومها انتباذا عن العمران، واستئناسا بالانفراد، وتوحشا بالعز عن الغلبة والقهر.
فنزلوا من ريف الحبشة جوارا، وصاروا ما بين بلاد البربر وبلاد السودان حجزا، واتخذوا اللثام خطاما تميزوا بشعاره بين الأمم، وعفوا في تلك البلاد وكثروا. وتعدّدت قبائلهم من كذالة فلمتونة فمسوقة فوتريكة فناوكا [1] فزغاوة ثم لمطة إخوة صنهاجة كلّهم ما بين البحر المحيط بالمغرب إلى غدامس من قبلة طرابلس وبرقة.
وللمتونة فيهم بطون كثيرة منهم بنو ورتنطق وبنو زمال وبنو صولان وبنو ناسجة، وكان موطنهم من بلاد الصحراء يعرف كأكدم وكان دينهم جميعا المجوسيّة شأن برابرة المغرب. ولم يزالوا مستقرّين بتلك المجالات حتى كان إسلامهم بعد فتح الأندلس، وكانت الرئاسة فيهم للمتونة. واستوسق لهم ملك ضخم مذ دولة عبد الرحمن بن معاوية الداخل توارثه ملوك منهم: تلاكاكين وورتكا اوراكن بن ورتنطق جد أبي بكر بن عمر أمير لمتونة في مبتدإ دولتهم، وطالت أعمارهم فيها إلى الثمانين ونحوها، ودوّخوا تلك البلاد الصحراويّة وجاهدوا من بها من أمم السودان وحملوهم على الإسلام، فدان به كثيرهم. واتّقاهم آخرون بالجزية فقبلوها منهم وملك عليهم بعد تلاكاكين المذكور ثيولوثان.
(قال) ابن أبي زرع: أوّل من ملك الصحراء من لمتونة ثيولوثان، فدوّخ بلاد الصحراء واقتضى مغارم السودان وكان يركب في مائة ألف نجيب. وتوفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين، وملك بعده يلتّان [2] وقام بأمرهم وتوفي سنة سبع وثمانين ومائتين، وقام بأمرهم بعده ابنه تميم إلى سنة ست وثلاثمائة، وقتله صنهاجة وافترق
__________
[1] وفي النسخة التونسية: فوتزيلة فتاركا.
[2] وفي النسخة الباريسية: بليان.

(6/241)


أمرهم أهـ. كلام ابن أبي زرع. وقال غيره: كان من أشهرهم تيزا [1] وابن وانثبق بن بيزا وقيل برويان بن واشنق بن يزار ملك الصحراء بأسرها على عهد عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر في المائة الرابعة. وفي عهد عبيد الله وابنه أبي القاسم من خلفاء الشيعة، كان يركب في مائة ألف نجيب، وعمله مسيرة شهرين في مثلها، ودان له عشرون ملكا من ملوك السودان يعطونه الجزى، وملك من بعده بنوه. ثم افترق أمرهم من بعد ذلك، وصار ملكهم طوائف ورياستهم شيعا. قال ابن أبي زرع: افترق أمرهم بعد تميم بن بلتان مائة وعشرون سنة إلى أن قام فيهم أبو عبيد الله بن تيفاوت المعروف بناشرت اللمتوني، فاجتمعوا عليه وأحبّوه وكان من أهل الدين والصلاح، وحجّ وهلك لثلاثة أعوام من رياسته في بعض غزواته. وقام بأمرهم صهره يحيى بن إبراهيم الكندالي. وبعده يحيى بن عمر بن تلاكاكين أهـ كلامه.
وكان لهذه الطبقة ملك ضخم بالمغرب والأندلس أوّلا، وبإفريقية بعده فنذكره الآن على نسقه.
الخبر عن دولة المرابطين [2] من لمتونة وما كان لهم بالعدوتين من الملك وأولية ذلك ومصايره
كان هؤلاء الملثّمون في صحاريهم كما قلناه، وكانوا على دين المجوسيّة إلى أن ظهر فيهم الإسلام لعهد المائة الثالثة كما ذكرناه، وجاهدوا جيرانهم من السودان عليه فدانوا لهم واستوسق لهم الملك. ثم افترقوا وكانت رياسة كل بطن منهم في بيت مخصوص.
فكانت رياسة لمتونة في بني ورتانطق [3] بن منصور بن وصالة بن المنصور بن مزالت ابن أميت بن رتمال بن ثلميت وهو لمتونة. ولما أفضت الرئاسة إلى يحيى بن إبراهيم الكندالي، وكان له صهر في بني ورتانطق هؤلاء، وتظاهروا على أمرهم. وخرج يحيى بن إبراهيم لقضائه فرصة في رؤساء من قومه في سني أربعين وأربعمائة، فلقوا في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تينزوا.
[2] علق أحمد أمين في حديثه عن المرابطين والموحدين أنهم «لم يكونوا من سعة الأفق والعراقة في المدنية والحضارة بحيث يستطيعون ان يحكموا الأندلس طويلا. (ظهور الإسلام ج 3 ص 7) .
[3] ورتنطق: قبائل الغرب/ 332.

(6/242)


منصرفهم بالقيروان شيخ المذهب المالكي أبو عمران الفاسي، واغتنموا ما متعوا به.
من هديه وما شافههم به من فروض أعيانهم من فتاويه.
وسأله الأمير يحيى أن يصحبهم من تلميذه من يرجعون إليه في نوازلهم وقضايا دينهم، فندب تلميذه إلى ذلك حرصا على إيصال الخير إليهم لما رأى من رغبتهم فيه. فاستوعروا مسغبة بلادهم. وكتب لهم الفقيه أبو عمران إلى الفقيه محمد وكاك ابن زلوا اللمطي بسلجماسة من الآخذين عنه، وعهد إليه أن يلتمس لهم من يثق بدينه وفقهه، ويروّض نفسه على مسغبة أرضهم في معاشه، فبعث معهم عبد الله بن ياسين بن مكو الجزولي، ووصل معهم يعلّمهم القرآن ويقيم لهم الدين. ثم هلك يحيى ابن إبراهيم وافترق أمرهم، واطرحوا عبد الله بن ياسين، واستصعبوا عمله وتركوا الأخذ عنه لما تجشّموا فيه من مشاق التكليف، فأعرض عنهم وترهّب وتنسّك معه يحيى بن عمر بن تلاكاكين من رؤساء لمتونة، وأخوه أبو بكر، فنبذوا عن الناس في ربوة يحيط بحر النيل من جهاتها ضحضاحا في المصيف وغمرا في الشتاء، فتعود جزرا منقطعة. فدخلوا في غياضها منفردين للعبادة، وتسامع بهم من في قلبه مثقال حبة من خير، فتسايلوا إليهم ودخلوا في دينهم وغيضتهم.
ولما كمل معهم ألف من الرجالات، قال لهم شيخهم عبد الله بن ياسين: إن ألفا لن تغلب من قلّة، وقد تعيّن علينا القيام بالحق والدعاء إليه وحمل الكافة عليه، فأخرجوا بنا لذلك، فخرجوا وقتلوا من استعصى عليهم من قبائل لمتونة وكدالة [1] ومهمومة حتى أنابوا الى الحق واستقاموا على الطريقة، وأذن لهم في أخذ الصدقات من أموال المسلمين، وسمّاهم بالمرابطين، وجعل أمرهم في العرب إلى الأمير يحيى بن عمر، فتخطّوا الرمال الصحراوية إلى بلاد درعة وسجلماسة فأعطوهم صدقاتهم وانقلبوا. ثم كتب إليهم وكاك اللمطي بما نال المسلمين فيما إليه من العسف والجور من بني وانودين أمراء سجلماسة من مغراوة، وحرّضهم على تغيير أمرهم، فخرجوا من الصحراء سنة خمس وأربعين وأربعمائة في عدد ضخم ركبانا على المهارى أكثرهم، وعمدوا إلى درعة. لا بل كانت هنالك بالحمى وكانت تناهز خمسين ألفا ونحوها.
ونهض إليهم مسعود بن وانودين أمير مغراوة وصاحب سجلماسة ودرعة لمدافعتهم عنها
__________
[1] هم من القبائل الملثمين/ قبائل المغرب ص 332.

(6/243)


وعن بلاده، فتواقعوا وانهزم ابن وانودين وقتل واستلحم عسكره مع أموالهم، واستلحمهم ودوابهم وإبل الحمى التي كانت ببلد درعة. وقصدوا سجلماسة فدخلوها غلابا وقتلوا من كان بها من أهل مغراوة، وأصلحوا من أحوالها وغيروا المنكرات، وأسقطوا المغارم والمكوس، واقتضوا الصدقات واستعملوا عليها منهم وعادوا إلى صحرائهم، فهلك يحيى بن عمر سنة سبع وأربعين وقدم مكانه أخاه أبا بكر وندب المرابطين إلى فتح المغرب فغزا بلاد السوس سنة ثمان وأربعين وأربعمائة وافتتح ماسة وتارودانت سنة تسع وأربعين وأربعمائة وفرّ أميرها لقوط بن يوسف بن عليّ المغراوي إلى تادلّا [1] واستضاف إلى بني يفرن ملوكها وقتل معهم لقوط بن يوسف المغراوي صاحب غمات [2] وتزوّج امرأته زينب بنت إسحاق النفزاويّة، وكانت مشهورة بالجمال والرئاسة، وكانت قبل لقوط عند يوسف بن عليّ بن عبد الرحمن بن واطاس، وكان شيخا على وريكة وهي زوجة هيلانة في دولة امغارن في بلاد المصامدة وهم الشيوخ. وتغلّب بنو يفرن على وريكة، وملكوا غمات فتزوّج لقوط زينب هذه، ثم تزوّجها بعده أبو بكر بن عمر كما ذكرنا. ثم دعا المرابطين الى جهاد برغواطة الذين كانوا بتامستا [3] وإنفا وجهات الريف الغربي، فكانت لهم فيهم وقائع وأيام استشهد عبد الله بن ياسين في بعضها سنة خمسين وأربعمائة وقد أمّ المرابطين بعده سليمان بن حروا [4] ليرجعوا إليه في قضايا دينهم. واستمر أبو بكر بن عمر في إمارة قومه على جهادهم ثم استأصل شأفتهم ومحا أثر دعوتهم من المغرب وهلك في جهادهم سليمان بن عدوّ سنة إحدى وخمسين وأربعمائة لسنة من وفاة عبد الله بن ياسين.
ثم نازل أبو بكر مدينة لواتة وافتتحها عنوة وقتل من كان بها من زناتة سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. وبلغه وهو لم يستتم فتح المغرب بعد ما وقع من الخلاف بين لمتونة ومسوفة ببلاد الصحراء، حيث أصل أعياصهم ووشايج أعراقهم ومنيع عددهم، فخشي افتراق الكلمة وانقطاع الوصلة، وتلافى أمره بالرحلة. وأكد ذلك زحف
__________
[1] وفي قبائل المغرب ص 123: وتتبع أميرها لقوط الغماري الى تادلة ففتحها سنة 449.
[2] وفي قبائل المغرب ص 123: أغمات.
[3] تامسنا: قبائل المغرب ص 124.
[4] وفي نسخة أخرى: سليمان بن عدوّ.

(6/244)


بلكّين بن محمد بن حمّاد صاحب القلعة إلى المغرب سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة لقتالهم، فارتحل أبو بكر إلى الصحراء، واستعمل على المغرب ابن عمّه يوسف بن تاشفين [1] ونزل له عن زوجه زينب بنت إسحاق ولحق بقومه. ورفع ما كان بينهم من خرق الفتنة، وفتح بابا من جهاد السودان، فاستولى على نحو تسعين رحلة من بلادهم.
وأقام يوسف بن تاشفين بأطراف المغرب، ونزل بلكّين صاحب القلعة فاس وأخذ رهنها على الطاعة، وانكفأ راجعا. فحينئذ سار يوسف بن تاشفين في عسكره من المرابطين ودوّخ أقطار المغرب. ثم رجع أبو بكر الى المغرب فوجد يوسف بن تاشفين قد استبدّ عليه. وأشارت عليه زينب أن يريه الاستبداد في أحواله وأن يعدّ له متاع الصحراء وما عونها، ففطن لذلك الأمير أبو بكر وتجافى عن المنازعة وسلّم له الأمر، ورجع إلى أرضه فهلك لمرجعه سنة ثمانين وأربعمائة.
واختطّ يوسف مدينة مرّاكش سنة أربع وخمسين وأربعمائة ونزلها بالخيام وأدار سورها على مسجد وقصبة صغيرة لاختزان أمواله وسلاحه، وكمل تشييدها وأسوارها علي [2] ابنه من بعده سنة ست وعشرين وخمسمائة. وجعل يوسف مدينة مراكش لنزله ولعسكره وللتمرّس بقبائل المصامدة المصيفة بمواطنهم بها في جبل درن، فلم يكن في قبائل المغرب أشدّ منهم ولا أكثر جمعا. ثم صرف عزمه إلى مطالبة مغراوة وبني يفرن وقبائل زناتة بالمغرب، وجذب الخيل من أيديهم، وكشف ما نزل بالرعايا من جورهم وعسفهم فقد كانوا من ذلك على ألم (حدث المؤرّخون في أخبار مدينة فاس ودولتهم فيها بكثير منه) فنازل أولا قلعة فازاز وبها مهدي بن توالي من بني يحفش.
قال صاحب نظم الجواهر: وهم بطن من زناتة، وكان أبو توالي صاحب تلك القلعة ووليها هو من بعده، فنازله يوسف بن تاشفين. ثم استجاش به على فاس مهدي بن يوسف الكرنامي صاحب مكناسة بما كان عدوا لمعنصر المغراوي صاحب فاس،
__________
[1] تحدث صاحب الأنيس المطرب ابن أبي زرع الفاسي عن حدود المملكة المرابطية فلاحظ ان يوسف بن تاشفين خطب له على 1900 منبر وان ملكه امتدّ من أقصى شرق الأندلس الى اشبونة، ومن جزائر بني فراغة الى طنجة الى آخر السوس الأقصى الى جبل الذهب من بلاد السودان الأنيس المطرب ج 2 ص 37. (المعجم التاريخي/ 64) .
[2] ذكر لسان الدين الخطيب في كتابه الحلل الموشية في ذكر الاخبار المراكشية ص 69: ان علي بن يوسف بن تاشفين هو أول من استعمل الروم بالمغرب. (المعجم التاريخي/ 64) .

(6/245)


فزحف في عساكر المرابطين إلى فاس، وجمع إليه معنصر ففضّ جموعه، وارتحل يوسف إلى فاس وتقرى منازلها وافتتح جميع الحصون المحيطة بها، وأقام عليها أياما قلائل، وظفر بعاملها بكّار بن إبراهيم فقتله. ثم نهض إلى مغراوة وافتتحها وقتل من كان بها من أولاد وانودين المغراوي ورجع إلى فاس فافتتحها صلحا سنة خمس وخمسين وأربعمائة ثم رجع إلى غمارة ونازلهم وفتح كثيرا من بلادهم. وأشرف على طنجة وبها سكوت البرغواطي الحاجب صاحب سبتة، وبقية الأمراء من موالي الحموديّة وأهل دعوتها. ثم رجع إلى منازلة قلعة فازاز، وخالفه معنصر إلى فاس فاستولى عليها وقتل عاملها.
واستدعى يوسف بن تاشفين مهدي بن يوسف صاحب مكناسة ليستجيش به على فاس فاستعرضه معنصر في طريقه قبل أن تتصل بأيديهما، وناجزه الحرب ففضّ جموعه وقتله، وبعث برأسه إلى وليه ومساهمه في شدّته الحاجب سكوت البرغواطي.
واستصرخ أهل مكناسة بالأمير يوسف بن تاشفين فسرّح عساكر لمتونة إلى حصار فاس فأخذوا بمخنقها وقطعوا المرافق عنها، وألحّوا بالقتال عليها فمسّهم الجهد. وبرز معنصر إلى مناجزة عدوّه لإحدى الراحتين فكانت الدائرة عليه وهلك. واجتمع زناتة من بعده على القاسم بن محمد بن عبد الرحمن من ولد موسى بن أبي العافية، كانوا ملوكا بتازا وتسول، فزحفوا إلى عساكر المرابطين والتقوا بوادي سيمير [1] فكان الظهور لزناتة. واستلحم كثير من المرابطين، واتصل خبرهم بيوسف بن تاشفين وهو محاصر لقلعة مهدي بلاد فازاز [2] فارتحل سنة ست وخمسين وأربعمائة ونزل عليها عسكر من المرابطين وصار يتنقل في بلاد المغرب فافتتح بني مراسن ثم قبولادة [3] ، ثم بلاد ورغة سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ثم افتتح بلاد غمارة سنة ستين وأربعمائة. وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة نازل فاس فحاصرها مدّة ثم افتتحها عنوة قول بمفازتها ثلاثة آلاف من مغراوة وبنى يفرن ومكناسة وقبائل زناتة حتى أعوزت مدافنهم فرادى، فاتخذت لهم الأخاديد وقبروا جماعات منهم، وخلص من نجا منهم من القتل إلى بلاد تلمسان وأمر بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين القرويين والأندلسيين من عدويتها، وصيّرها
__________
[1] وفي نسخة اخرى: صغير.
[2] هي جبال فازاز (الأطلس المتوسط) قبائل المغرب/ 124.
[3] وفي نسخة أخرى: فنزلاوة.

(6/246)


مصرا واحدا، وأدار عليها الأسوار وحمل أهلها على الاستكثار من المساجد، ورتّب بناءها، وارتحل سنة ثلاث وستين وأربعمائة إلى وادي ملوية، فافتتح بلادها وحصون وطاط من نواحيها. ثم نهض سنة خمس وستين وأربعمائة إلى مدينة الدمنة فافتتحها عنوة، ثم افتتح حصن علودان من حصون غمارة. ثم نهض سنة سبع وستين وأربعمائة إلى جبال غياثة وبني مكود من أحواز تازا فافتتحها ودوّخها، ثم اقتسم المغرب عمالات على بنيه وأمراء قومه وذويه، ثم استدعاه المعتمد بن عبّاد إلى الجهاد فاعتذر له بمكان الحاجب سكوت البرغواطي وقومه من أولياء الدولة الحمّوديّة بسبتة، فأعاد إليه ابن عبّاد الرسل بالمشايعة إليهم، فجهّز إليهم قائده صالح بن عمران في عساكر لمتونة، فلقيه سكوت الحاجب بظاهر طنجة في قومه ومعه ابنه ضياء الدولة، فانكشف وقتل الحاجب سكوت ولحق ابنه العزيز ضياء الدولة. وكتب صالح بن عمران بالفتح إلى يوسف بن تاشفين، ثم أغزى الأمير يوسف بن تاشفين إلى المغرب الأوسط سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة قائده مزدلى بن تبلكان [1] بن محمد بن وركوت من عشيرة في عساكر لمتونة لمحاربة مغراوة ملوك تلمسان، وبها يومئذ الأمير العبّاس بن بختي من ولد يعلى بن محمد بن الخير بن محمد بن خزر، فدوّخوا المغرب الأوسط وصاروا في بلاد زناتة، وظفروا بيعلى ابن الأمير العبّاسي فقتلوه، وانكفأوا راجعين من غزاتهم.
ثم نهض يوسف بن تاشفين سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة بعدها إلى الريف وافتتح كرسيف ومليلة وسائر بلاد الريف وخرّب مدينة نكور فلم تعمّر بعده ثم نهض في عساكره المرابطين إلى بلاد المغرب الأوسط فافتتح مدينة وجده وبلاد بني يزتاسن ثم افتتح مدينة تلمسان واستلحم من كان بها من مغراوة، وقتل العبّاس بن بختي أمير تلمسان وأنزل محمد بن تيغمر المستوفي بها في عساكر المرابطين، فصارت ثغرا لملكه. ونزل بعساكره واختطّ بها مدينة تاكرارت بمكان محلته، وهو اسم المحلّة بلسان البربر. ثم افتتح مدينة تنس ووهران وجبل وانشريس إلى الجزائر، وانكفأ راجعا إلى المغرب فاحتلّ مراكش سنة خمس وسبعين وأربعمائة ولم يزل محمد بن تيغمر واليا بتلمسان إلى أن هلك، وولي بعده أخوه تاشفين
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ملنكان وفي التونسية تيلنكان.

(6/247)


ثم ان الطاغية تكالب على بلاد المسلمين وراء البحر، وانتهز الفرصة فيها بما كان من الفرقة بين ملوك الطوائف فحاصر طليطلة، وبها القادر بن يحيى بن ذي النون حتى نالهم الجهد، وتسلّمها منه صلحا سنة ثمان وسبعين وأربعمائة على أن يملّكه بلنسية، فبعث معه عسكرا من النصرانية فدخل بلنسية وتملّكها على حين مهلك صاحبها أبي بكر بن العزيز بين يدي حصار طليطلة. وسار الطاغية في بلاد الأندلس حتى وقف بفرضة المجاز من صريف، وأعيا أمره أهل الأندلس واقتضى منهم الجزية فأعطوها.
ثم نازل سرقسطة وضيّق على ابن هود بها، وطال مقامه وامتدّ أمله إلى تملّكها، فخاطب المعتمد بن عبّاد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين منجزا وعده في صريخ الإسلام بالعدوة وجهاد الطاغية.
وكاتبه أهل الأندلس كافة من العلماء والخاصّة فاهتز للجهاد وبعث ابنه المعز في عساكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز، فنازلها برّا، وأحاطت بها أساطيل ابن عبّاد بحرا فاقتحموها عنوة في ربيع الآخر سنة ست وسبعين وأربعمائة وتقبّض على ضياء الدولة وقيد إلى المغرب فقتله صبرا، وكتب إلى أبيه بالفتح. ثم أجاز ابن عبّاد البحر في جماعته والمرابطين، ولقيه بفاس مستنفرا للجهاد، وأنزل له ابنه الراضي عن الجزيرة الخضراء لتكون رباطا لجهاده فأجاز البحر في عساكر المرابطين وقبائل المغرب ونزل الجزيرة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ولقيه المعتمد بن عبّاد وابن الأفطس صاحب بطليوس. وجمع ابن أدفونس [1] ملك الجلالقة أمم النصرانية لقتاله، ولقي المرابطين بالزلّاقة من نواحي بطليوس فكان للمسلمين عليه اليوم المشهور سنة إحدى وثمانين وأربعمائة ثم رجع إلى مراكش وخلف عسكرا بالإشبيلية لنظر محمد ومجون بن سيمونن بن محمد بن وركوت من عشيرة، ويعرف أبوه بالحاج، وكان محمد من بطانته وأعاظم قوّاد تكاليب الطاغية على شرق الأندلس، ولم يغن فيه أمراء الطوائف شيئا، فزحف إليه من سبتة ابن الحاج قائد يوسف بن تاشفين في عساكر المرابطين فهزموا جميع النصارى هزيمة شنيعة. وخلع ابن رشيق صاحب مرسية، وتمادى إلى دانية ففرّ عليّ بن مجاهد أمامه إلى بجاية ونزل على الناصر بن علناس فأكرمه ووصل ابن جحاف قاضي بلنسية إلى محمد بن الحاج مغريا بالقادر بن ذي النون، فأنفذ معه
__________
[1] ألفونس: قبائل المغرب/ 124. وأذفونش عند ابن الأثير ج 10/ 152.

(6/248)


عسكرا وملك بلنسية، وقتل ابن ذي النون وذلك سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وانتهى الخبر إلى الطاغية فنازل بلنسية واتصل حصاره إيّاها إلى أن ملكها سنة خمس وثمانين وأربعمائة، ثم استخلصتها عساكر المرابطين، وولّى عليها يوسف بن تاشفين الأمير مزدلي، وأجاز يوسف بن تاشفين ثانية سنة ست وثمانين وأربعمائة وتثاقل أمراء الطوائف عن لقائه لما أحسّوا من نكيره عليهم لما يسمون به عليهم من الظلامات والمكوس وتلاحق المغارم، فوجد عليهم، وعهد برفع المكوس وتحرّى المعدلة، فلما أجاز انقبضوا عنه إلّا ابن عبّاد فإنه بادر إلى لقائه وأغراه بالكثير منهم، فتقبّض على ابن رشيق فأمكن ابن عبّاد منه العداوة التي بينهما. وبعث جيشا إلى المريّة ففرّ عنها ابن صمادح ونزل على المنصور بن الناصر ببجاية، وتوافق ملوك الطوائف على قطع المدد عن عساكره ومحلاته فساء نظره، وأفتاه الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس بخلعهم وانتزاع الأمر من أيديهم، وصارت إليه بذلك فتاوى أهل الشرق الأعلام مثل: الغزالي والطرطوشي، فعهد إلى غرناطة واستنزل صاحبها عبيد الله بن بلكّين بن باديس وأخاه تميما من مالقة بعد أن كان منهما مداخلة الطاغية في عداوة يوسف بن تاشفين، وبعث بهما إلى المغرب فخاف ابن عبّاد عند ذلك منه وانقبض عن لقائه وفشت السعايات بينهما. ونهض يوسف بن تاشفين إلى سبتة فاستقر بها، وعقد للأمير سير بن أبي بكر بن محمد وركوت على الأندلس وأجازه فقدم عليها، وقعد ابن عبّاد عن تلقّيه ومبرّته فأحفظه ذلك، وطالبه بالطاعة للأمير يوسف والنزول عن الأمر، ففسد ذات بينهما، وغلبه على جميع عمله.
واستنزل أولاد المأمون من قرطبة ويزيد الرائض من رندة وقرمونة واستولى على جميعها وقتلهم. وصمد إلى إشبيليّة فحاصر المعتمد بها وضيّق عليه، واستنجد الطاغية فعمد الى استنقاذه من هذا الحصار، فلم يغن عنه شيئا، وكان دفاع لمتونة مما فتّ في عضده، واقتحم والمرابطون إشبيليّة عليه عنوة سنة أربع وثمانين وأربعمائة وتقبّض على المعتمد وقاده أسيرا إلى مراكش، فلم يزل في اعتقال يوسف بن تاشفين إلى أن هلك في محبسه بأغمات سنة سبعين وأربعمائة [1] ثم عمد إلى بطليوس وتقبّض على صاحبها
__________
[1] قبض على المعتمد بن عباد سنة 484 وحبس في مراكش فكيف يكون توفي سنة 470 ولعل هذا الخطأ خطأ الناسخ والصحيح أنه توفي سنة 490 كما هو معروف في كتب التاريخ. وفي النسخة التونسية 490.

(6/249)


عمر بن الأفطس فقتله وابنيه يوم الأضحى سنة تسع وثمانين بما صحّ عنده من مداخلتهم الطاغية، وأن يملّكوه مدينة بطليوس، ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الثالث سنة تسعين وأربعمائة وزحف إليه الطاغية فبعث عساكر المرابطين لنظر محمد بن الحاج فانهزم النصارى أمامه، وكان الظهور للمسلمين.
ثم أجاز الأمير يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وانضمّ إليه محمد بن الحاج وسير بن أبي بكر واقتحموا عامّة الأندلس من أيدي ملوك الطوائف، ولم يبق منها إلّا سرقسطة في يد المستعين بن هود معتصما بالنصارى.
وغزا الأمير مزدلي صاحب بلنسية إلى بلد برشلونة فأثخن بها وبلغ إلى حيث لم يبلغ أحد قبله ورجع. وانتظمت بلاد الأندلس في ملكة يوسف بن تاشفين، وانقرض ملك الطوائف منها أجمع كأن لم يكن، واستولى على العدوتين، واتصلت هزائم المرابطين مرارا وتسمى بأمير المسلمين، وخاطب المستنصر العباسي [1] الخليفة لعهده ببغداد، وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العرب على يد المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر، فتلطّفا في القول وأحسنا في الإبلاغ، وطلبا من الخليفة أن يعقد له على المغرب والأندلس، فعقد له وتضمّن ذلك مكتوب الخليفة بذلك منقولا في أيدي الناس، وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم. وخاطبه الإمام الغزالي والقاضي أبو بكر الطرطوشي يحضّانه على العدل والتمسّك بالخير، ويفتيانه في شأن ملوك الطوائف بحكم الله.
ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الرابع إلى الأندلس سنة سبع وتسعين وأربعمائة وقد كان ما قدّمناه في أخبار بني حمّاد من زحف المنصور بن الناصر إلى تلمسان سنة سبع وتسعين وأربعمائة للفتنة التي وقعت بينه وبين تاشفين بن تيغمر وافتتاحه أكثر بلادهم، فصالحه يوسف بن تاشفين واسترضاه بعدول تاشفين عن تلمسان سنة سبع وتسعين وأربعمائة وبعث إليهما مزدلي من بلنسية، وولي بلنسية عوضا منه أبا محمد بن فاطمة، وكثرت غزواته في بلاد النصرانية. وهلك يوسف على رأس المائة الخامسة، وقام بالأمر من بعده ابنه علي بن يوسف فكان خير ملك. وكانت أيامه صدرا منها وداعة ولدولته على الكفر وأهله ظهور وعزة، وأجاز إلى العدوة فأثخن في بلاد العدوّ
__________
[1] وفي النسخة التونسية: المستظهر العباسي.

(6/250)


قتلا وسبيا؟، وولّى على الأندلس الأمير تميم بن [1] وجمع الطاغية للأمير تميم فهزمه تميم، ثم أجاز علي بن يوسف سنة ثلاث ونازل طليطلة وأثخن في بلاد النصارى ورجع، وعلى أثر ذلك قصد ابن ردمير سرقسطة وخرج ابن هود للقائه فانهزم المسلمون ومات ابن هود شهيدا وحاصر ابن ردمير البلد حتى نزلوا على حكمه.
ثم كانت سنة تسع وخمسمائة شأن برقة [2] وتغلّب أهل جنوة عليها وأخلوها. ثم رجع العمران إليها على يد مرتانا قرطست [3] من قوّاد المرابطين كما مرّ في ذكرها عند ذكر الطوائف. ثم استمرّت حال عليّ بن يوسف في ملكه، وعظم شأنه، وعقد لولده تاشفين على غرب الأندلس سنة ست وعشرين وخمسمائة وأنزله قرطبة واشبيلية، وأجاز معه الزبير بن عمر، وحشد قومه وعقد لأبي بكر بن إبراهيم المسوقي على شرق الأندلس وأنزله بلنسية، وهو ممدوح بن خفّاجة ومخدوم أبي بكر بن باجة الحكيم المعروف بابن الصائغ. وعقد لابن غانية المسوقي على الجزائر الشرقيّة دانية وميورقة، واستقامت أيامه، ولأربع عشرة سنة من دولته كان ظهور الإمام المهدي صاحب واستقامت أيامه، ولأربع عشرة سنة من دولته كان ظهور الإمام المهدي صاحب دعوة الموحّدين، فقيها منتحلا للعلم والفتيا والتدريس، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، متعرّضا بذلك للمكروه في نفسه.
ونالته بجاية وتلمسان ومكناسة أذايات من الفسقة ومن الظالمين، وأحضره الأمير عليّ بن يوسف للمناظرة ففلج عليّ خصومه من الفقهاء بمجلسه، ولحق بقومه هرغة من المصامدة، واستدرك عليّ بن يوسف رأيه فتفقّده وطالب هرغة بإحضاره فأبوا عليه فسرّح إليهم البعث فأوقعوا به، وتقاسم معهم هنتاتة وتين ملّل على إجارته والوفاء بما عاهدهم عليه من القيام بالحق والدعاء إليه حسبما يذكر ذلك كله بعد دولتهم.
وهلك المهدي في سنة أربع وعشرين وخمسمائة وقام بأمرهم عبد المؤمن بن عليّ الكومي كبير أصحابه بعهده إليه، وانتظمت كلمة المصامدة وأغزوا مراكش مرارا.
وفشل ريح لمتونة بالعدوة الأندلسية، وظهر أمر الموحّدين وفشت كلمتهم في برابرة المغرب. وهلك عليّ بن يوسف سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وقام بالأمر من بعده ولده تاشفين وولي عهده، وأخذ بطاعته وبيعته أهل العدوتين كما كانوا على حين استغلظ
__________
[1] بياض في جميع النسخ ولم نهتد الى اسم والد تميم هذا في المراجع التي بين أيدينا.
[2] وفي النسخة التونسية: ميورقة.
[3] وفي نسخة أخرى: بن تامرظست.

(6/251)


أمر الموحّدين واستفحل شأنهم وألحوا في طلبه.
وغزا عبد المؤمن غزوته الكبرى إلى جبال المغرب، ونهض تاشفين بعساكره بالبسائط إلى أن نزل تلمسان ونازلة عبد المؤمن والموحّدون بكهف الضحّاك بين الصخرتين من جبل تيطري المطل عليها، ووصله هنالك مدد صنهاجة من قبل يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية مع قائده طاهر بن كباب، وشرهوا إلى مدافعة الموحّدين فغلبوهم، وهلك طاهر واستلحم الصنهاجيون وفرّ تاشفين إلى وهران في موادعة لب بن ميمون قائد البحر بأساطيله، واتبعه الموحّدون واقتحموا عليه البلد فهلك يقال سنة إحدى وأربعين وخمسمائة واستولى الموحّدون على المغرب الأوسط واستلحموا لمتونة. ثم بويع بمراكش ابنه إبراهيم وألفوه مضعفا عاجزا، فخلع وبويع عمّه إسحاق بن عليّ بن يوسف بن تاشفين. وعلى هيئة ذلك وصل الموحّدون إليها وقد ملكوا جميع بلاد المغرب عليه، فخرج إليهم في خاصّته فقتلهم الموحّدون وأجاز عبد المؤمن والموحّدون إلى الأندلس سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وملكوا واستلحموا أمراء لمتونة وكافتهم وفرّوا في كل وجه، ولحق فلّهم بالجزائر الشرقية ميورقة ومنورقة ويابسة إلى أن جدّدوا من بعده للملك بناحية إفريقية، والله غالب على أمره.
دولة ابن غانية الخبر عن دولة ابن غانية من بقية المرابطين وما كان له من الملك والسلطان بناحية قابس وطرابلس واجلابه على الموحدين ومظاهرة قراقش الغزي له على أمره وأولية ذلك ومصايره
كان أمر المرابطين من أوله في كدالة من قبائل الملثّمين حتى هلك يحيى بن إبراهيم فاختلفوا على عبد الله بن ياسين إمامهم، وتحوّل عنهم إلى لمتونة وأقصر عن دعوته وتنسّك وترهّب كما قلناه، حتى إذا أجاب داعية يحيى بن عمرو أبي بكر بن عمر من بني ورتانطق بيت رياسة لمتونة. واتبعهم الكثير من قومهم وجاهدوا معه سائر قبائل الملثّمين، وكان مسوقة قد دخل في دعوة المرابطين كثير منهم، فكان لهم بذلك في تلك الدولة حظّ من الرئاسة والظهور. وكان يحيى المسوفي من رجالاتهم

(6/252)


وشجعانهم، وكان مقدّما عند يوسف بن تاشفين لمكانه في قومه. واتفق انه قتل بعض رجالات لمتونة في ملاحاة وقعت بينهما، فتثاور الحيّان وفرّ هو إلى الصحراء، ففدّى يوسف بن تاشفين القتل وودّاه، واسترجع عليّا من مفرّه لسنين من مغيبه، وأنكحه امرأة من أهل بيته تسمّى غانية بعهد أبيها إليه في ذلك، فولدت منه محمدا ويحيى ونشأ في ظلّ يوسف بن تاشفين وحجر كفالته.
ورعى لهما عليّ بن يوسف ذمام هذه الأمور وعقد ليحيى على غرب الأندلس وأنزله قرطبة. وعقد لمحمد على الجزائر الشرقيّة وميورقة ومنورقة ويابسة سنة عشرين وخمسمائة، وانقرض بعد ذلك أمر المرابطين. وتقدّم وفد الأندلس إلى عبد المؤمن وبعث معهم أبا إسحاق براق بن محمد المصمودي من رجالات الموحّدين وعقد له على حرب لمتونة كما يذكر في أخبارهم، فملك إشبيليّة واقتضى طاعة يحيى بن عليّ بن غانية، واستنزله عن قرطبة إلى حمال [1] والقليعة، فسار منها إلى غرناطة يستنزل من بها من لمتونة، ويحملهم على طاعة الموحّدين فهلك هنالك سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ودفن بقصر باديس. وأمّا محمد بن عليّ فلم يزل واليا إلى أن هلك، وقام بأمره بعده ابنه عبد الله.
ثم هلك وقام بالأمر أخواه إسحاق بن محمد بن عليّ، وقيل إن إسحاق ولي بعد ابنه محمد، وأنه قتله غيرة من أخيه عبد الله لمكان أبيه منه، فقتلهما معا، واستبدّ بأمره إلى أن هلك سنة ثمانين وخمسمائة. وخلّف ثمانية من الولد وهم: محمد وعليّ ويحيى وعبد الله والغازي وسير والمنصور وجبارة، فقام بالأمر ابنه محمد. ولمّا أجاز يوسف بن عبد المؤمن بن علي إلى ابن الزبرتير لاختبار طاعتهم، ولحين وصوله نكر ذلك إخوته وتقبّضوا عليه واعتقلوه. وقام بالأمر أخوه عليّ بن محمد بن عليّ، وتلوموا في ردّ ابن الزبرتير إلى مرسلة، وحالوا بينه وبين الأسطول حين بلغهم أن الخليفة يوسف القسري [2] استشهد في الجهاد باركش من العدوة، وقام بالأمر ابنه يعقوب واعتقلوا
__________
[1] هي جيان كما في نسخة أخرى. وكانت تسمى عند الرومان أورنجس وقد كانت مركز علم وأدب أيام العرب وعاصمة لامارة الى أن استرجعها الاسبان سنة 1246 م بينها وبين غرناطة 97 كلم، وكانت قاعدة كورة البشارات التي كانت تشتمل على ما يقرب من ستمائة قرية كما عند الاويسي. (مجلة البيّنة/ 26) .
[2] وفي النسخة الباريسية: العشري وفي النسخة التونسية: العسري.

(6/253)


ابن الزبرتير وركبوا البحر في اثنتين وثلاثين قطعة من أساطيلهم وأسطوله، وركب معه إخوته يحيى وعبد الله والغازي، وولي على ميورقة عمّه أبا الزبير، وأقلعوا إلى بجاية فطرقوها على حين غفلة من أهلها، وعليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن، وكان بايميلول من خارجها في بعض مذاهبه، فلم تمانعه أهل البلد واستولوا عليها في صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة واعتقلوا بها السيد أبا موسى بن عبد المؤمن، كان قافلا من إفريقية يؤم المغرب واكتسحوا ما كان بدار السادة والموحّدين.
وكان والي القلعة قاصدا مراكش وهو يستخبر خبر بجاية، فرجع وظاهر السيد أبا الربيع، وزحف إليهما علي بن غانية فهزمهما واستولى على أموالهما، وأسريا ولحقا بتلمسان فنزلا بها على السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وأخذ في تحصين تلمسان ورمّ أسوارها، وأقاما عند السيد يرومان الكرّة من صاحب تلمسان.
وعاث عليّ بن محمد بن غانية في الأموال وفرّقها في ذؤبان العرب ومن انضاف إليهم، ورحل إلى الجزائر فافتتحها، وولّى عليها يحيى بن أبي طلحة. ثم افتتح مازونة وانتهى إلى مليانة فافتتحها، وولّى عليها بدر بن عائشة. ثم نهض إلى القلعة فحاصرها ثلاثا ودخلها عنوة، وكانت في المغرب خطة مشهورة. ثم قصد قسنطينة فامتنعت عليه واجتمعت إليه وفود العرب فاستنجدهم وجاءوا بأحلافهم. ولما اتصل الخبر بالمنصور وهو بسبتة مرجعه من الغزو، سرّح العساكر في البرّ لنظر السيد أبي زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وعقد له على المغرب الأوسط، وبعث الأساطيل الى البحر وقائدها أحمد الصقلّي وعقد عليها لأبي محمد بن إبراهيم بن جامع، وزحفت العساكر من كل جهة فثار أهل الجزائر على يحيى بن أبي طلحة ومن معه، وأمكنوا منهم السيد أبا يزيد فقتلهم على شلف، وعفا عن يحيى لنجدة عمه طلحة، وكان بدر بن عائشة أسرى من مليانة واتبعه الجيش فلحقوه أمام العدو، فتقبّضوا عليه بعد قتال مع البرابرة حين أرادوا إجارته، وقادوه إلى السيد أبي يزيد فقتله. وسبق الأسطول إلى بجاية فثار بيحيى بن غانية وفرّ إلى أخيه عليّ لمكانه من حصار قسنطينة بعد أن كان أخذ بمخنقها. ونزل السيد أبو زيد بعساكره بتكلات من ظاهر بجاية، وأطلق السيد أبا موسى من معتقله. ثم رحل في طلب العدو فأفرج عن قسنطينة بعد أن كان أخذ ومضى شديدا في الصحراء، والموحّدون في اتباعه حتى انتهوا إلى مغرة ونغارس. ثم نقلوا إلى بجاية واستنفر السيد أبا زيد بها وقصد علي

(6/254)


ابن غانية في قفصة فملكها، ونازل بورق وقسطيلية فامتنعت وارتحل إلى طرابلس وفيها قراقش الغزي المطغري، وكان من خبره على ما نقل أبو محمد التيجاني في كتاب رحلته: أنّ صلاح الدين صاحب مصر بعث تقي الدين ابن أخيه شاه إلى المغرب لافتتاح ما أمكنه من المدن تكون له معقلا يتحصّن فيه من مطالبة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام الّذي كان صلاح الدين عمّه من وزرائه. واستعجلوا النصر [1] فخشوا عاديته. ثم رجع تقي الدين من طريقه لأمر عرض له ففرّ قراقش الأرمني بطائفة من جنوده. وفرّ إبراهيم بن قراتكين سلاح دار المعظّم نسبة للملك المعظّم شمس الدولة بن أيوب أخي صلاح الدين. فأمّا قراقش فلحق ششرية [2] وافتتحها وذلك سنة ست وثمانين وخمسمائة وخطب فيها لصلاح الدين ولاستاذه تقي الدين. وكتب لهما بفتح زويلة وغلبه بني خطاب الهواري على ملك فزّان وكانت ملكا لعمّه محمد بن الخطّاب بن يصلتن بن عبد الله بن صنغل بن خطّاب وهو آخر ملوكهم، وكانت قاعدة ملكه زويلة. وتعرف زويلة ابن خطّاب فتقبّض عليه وغلبه على المال حتى هلك، ولم يزل يفتح البلاد إلى أن وصل طرابلس واجتمع عليه عرب دياب بن سليم. ونهض بهم إلى جبل نفوسة فملكه واستخلص أموال العرب، واتصل به مسعود بن زمام شيخ الزواودة [3] من رياح عند مفرّة من المغرب كما ذكرناه. واجتمعت أيديهم على طرابلس وافتتحها واجتمع إليه ذؤبان العرب من هلال وسليم، وفرض لهم العطاء واستبدّ بملك طرابلس وما وراءها. وكان قراقش من الأرمن وكان يقال له المعظّمي والناصري لأنه يخطب للناصر صلاح الدين.
وكان يكتب في ظهائره ولي أمير المؤمنين بسكون الميم، ويكتب علامة الظهيرة بخطه. وثقت باللَّه وحده أسفل الكتاب. وأما إبراهيم بن قراقش صاحبه، فإنه سار مع العرب إلى قفصة فملك جميع منازلها، وراسل بني الزند رؤساء قفصة فأمكنوه من البلد لانحرافهم عن بني عبد المؤمن، فدخلها وخطب للعبّاسي ولصلاح الدين إلى أن قتله المنصور عند فتح قفصة كما نذكره في أخبار الموحّدين.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: واستفحلوا بمصر.
[2] وفي نسخة أخرى: سنترية ولعلها شنت مريّة في البرتغال وقد مرّت معنا سابقا.
[3] وفي نسخة أخرى: الدواودة.

(6/255)


(رجع الخبر الى ابن غانية)
ولما وصل علي بن غانية إلى طرابلس ولقي قراقش اتفقا على المظاهرة على الموحّدين واستمال ابن غانية كافة بني سليم من العرب وما جاورهم من مجالاتهم ببرقة وخالطوه في ولايتهم، واجتمع إليه من كان محرفا عن طاعة الموحّدين من قبائل هلال مثل:
جشم ورياح والأبثج، وخالفتهم زغبة إلى الموحّدين، فاحتفلوا [1] بطاعتهم سائر أيامهم. ولحق بابن غانية فلّ قومه من لمتونة ومنونة من أطراف البقاع، فانعقد أمره وتجدّد بذلك القطر سلطان قومه. وجدد رسوم الملك واتخذ الآلة وافتتح كثيرا من بلاد الجريد وأقام فيها الدعوة العبّاسية. ثم بعث ولده وكاتبه عبد المؤمن من فرسان الأندلس إلى الخليفة الناصر بن المستضيء ببغداد مجدّدا ما سلف لقومه من المرابطين بالمغرب من البيعة والطاعة، وطلب المدد والإعانة. فعقد له كما كان لقومه وكتب الكتاب من ديوان الخليفة إلى ملك مصر والشام النائب عن الخليفة بها صلاح الدين يوسف بن أيوب، فجاء إلى مصر فكتب له صلاح الدين إلى قراقش واتصل أمرهما في إقامة الدعوة العبّاسية.
وظاهره ابن غانية على حصار قابس فافتتحها قراقش من يد سعيد بن أبي الحسن، وولّى عليها مولاه وجعل فيها ذخائره. ثم اتصل بها إلى أن وصل قفصة خلعوا طاعة ابن غانية، فظاهره قراقش عليها فافتتحها عنوة. ثم رحل إلى توزر وقراقش في مظاهرته فافتتحها أيضا. ولما اتصل بالمنصور ما نزل بإفريقية من أجلاب ابن غانية وقراقش على بلاد الجريد نهض من مراكش سنة ثمان وثمانين وخمسمائة لحسم هذا الداء واستنقاذ ما غلبوا عليه. ووصل إلى تونس فأراح بها وسرّح في مقدّمته السيد أبا يوسف يعقوب بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، ومعه عمر بن أبي زيد من أعيان الموحّدين، فلقيهم ابن غانية في جموعه بعهده، فانهزم الموحّدون وقتل ابن أبي زيد وجماعة منهم، وأسر علي بن الزبرتير في آخرين، وامتلأت أملاك العدو من أسلابهم ومتاعهم. ووصل سرعان الناس إلى تونس، وصمد المنصور إليهم فأوقع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فاعتقلوا.

(6/256)


بهم بظاهر الحامة في شعبان من سنته. وأفلت ابن غانية وقراقش بحومة الوفر [1] وبادر أهل قابس وكانت خالصة لقراقش دون ابن غانية، فأتوا طاعتهم وأسلموا من كان عندهم من أصحابه وذويه فاحتلموا الى مراكش، وقصد المنصور إلى توزر فحاصرها فأسلموا إليه من كان فيها من أصحاب ابن غانية. وبادر أهلها بالطاعة.
ثم رجع إلى قفصة فحاصرها حتى نزلوا على حكمه، وقتل من كان بها من الحشود.
وقتل إبراهيم بن قراتكين، وامتنّ على سائر الأعوان وخلّى سبيلهم، وأمّن أهل البلد في أنفسهم وجعل أملاكهم بأيديهم على حكم المساقاة. تم غزا العرب واستباح حللهم وأحياءهم حتى استقاموا على طاعته. وفرّ ذو المراس كثير الخلاف والفتنة منهم إلى المغرب قبل: جشم ورياح والعاصم كما قدّمناه. وقفل إلى المغرب سنة أربع وثمانين وخمسمائة ورجع ابن غانية وقراقش إلى حالهما من الاجلاب على بلاد الجريد إلى أن هلك عليّ في بعض حروبهما مع أهل نفزاوة سنة أربع وثمانين وخمسمائة أصابه سهم غرب كان فيه هلاكه فدفن هنالك، وعفى على قبره، وحمل شلوه إلى ميورقة فدفن بها. وقام بالأمر أخوه يحيى بن إسحاق بن محمد بن غانية وجرى في مظاهرة قراقش وموالاته على سنن أخيه علي.
ثم نزع قراقش إلى طاعة الموحّدين سنة ست وثمانين وخمسمائة فهاجر إليهم بتونس وتقبّله السيد أبو زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن وأقام معه أياما. ثم فرّ ووصل إلى قابس فدخلها مخادعة وقتل جماعة منهم، واستبدّ على أشياخ دباب والكعوب من بني سليم فقتل سبعين منهم بقصر العروسيين، كان منهم: محمود بن طرق أبو المحاميد وحميد بن جارية أبو الجواري. ونهض إلى طرابلس فافتتحها ورجع إلى بلاد الجريد فاستولى على أكثرها، ثم فسد ما بينه وبين يحيى بن غانية. وسار إليه يحيى فانتهز قراقش ولحق بالجبال وتوغّل فيها، ثم فرّ إلى الصحراء ونزل ودّان ولم يزل بها إلى أن حاصره ابن غانية من بعد ذلك بمدّة وجمع عليه أهل الثأر من دباب، واقتحمها عليه عنوة وقتله ولحق ابنه بالموحّدين. ولم يزل بالحضرة إلى أيام المستنصر. ثم فرّ إلى ودّان وأجلب في الفتنة فبعث إليه ملك كام من قتله لسنة ست وخمسين وخمسمائة.
(رجع الخبر) واستولى ابن غانية على الجريد، واستنزل ياقوت فولّى قراقش من
__________
[1] وفي النسخة التونسية: بجريعة الذقن.

(6/257)


طرده، كذا ذكره التجاني في رحلته. ولحق ياقوت بطرابلس، ونازلة ابن غانية بها، وطال أمر حصاره. وبالغ ياقوت في المدافعة، وبعث يحيى عن أسطول ميورقة فأمدّه أخوه عبد الله بقطعتين منه فاستولى على طرابلس، وأشخص ياقوت إلى ميورقة واعتقل بها إلى أن أخذها الموحّدون. وكان من خبر ميورقة أن عليّ بن غانية لما نهض إلى فتح بجاية ترك أخاه محمدا وعليّ بن الزبرتير في معتقلهما. فلما خلا الجو من أولاد غانية وكثير من الحامية داخل ابن الزبرتير في معتقله نفر من أهل الجزيرة، وثاروا بدعوة محمد وحاصروا القصيبة إلى أن صالحهم أهلها على إطلاق محمد بن إسحاق فأطلق من معتقله، وصار الأمر له فدخل في دعوة الموحّدين، ووفد مع علي بن الزبرتير على يعقوب المنصور. وخالفهم إلى ميورقة عبد الله بن إسحاق، ركب البحر من إفريقية إلى صقلّيّة وأمدّوه بأسطول، ووصل إلى ميورقة عند وفادة أخيه على المنصور فملكها، ولم يزل بها واليا. وبعث إلى أخيه علي بالمدد إلى طرابلس كما ذكرناه، وبعثوا إليه ياقوت فاعتقله عنوة إلى أن غلب عليه الموحّدون سنة تسع وتسعين وخمسمائة فقتل ومضى ياقوت إلى مراكش وبها مات.
(رجع الخبر) ولما فرغ ابن غانية من أمر طرابلس ولّى عليها تاشفين ابن عمّه الغازي، وقصد قابس فوجد بها عامل الموحّدين ابن عمر تافراكين بعثه إليهم صاحب تونس الشيخ أبو سعيد بن أبي حفص، فاستدعاه أهلها لما فرّ عنهم نائب قراقش أخذ ابن غانية لطرابلس فنازل قابس، وضيّق عليها حتى سألوه الأمان على أن يخلّي سبيل ابن بافراس [1] فعقد لهم ذلك وأمكنوه من البلد فملكها سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وأغرمهم ستين ألف دينار، وقصد المهدية سنة سبع وتسعين وخمسمائة فاستولى عليها وقتل الثائر بها محمد بن عبد الكريم الكرابي [2] .
(وكان من خبره) أنه نشأ بالمهديّة وصار من جندها المرتدّين، وهو كوفيّ الأصل، وكانت له شجاعة معروفة، فجمع لنفسه خيلا ورجالا وصار يغير على المفسدين من الأعراب بالأطراف فداخلهم هيبة، وبعد في ذلك صيته وأمدّه الناس بالدعاء.
وقدم أبو سعيد بن أبي حفص على إفريقية من قبل المنصور لأوّل ولايته، وولّى على المهدية أخاه يونس، وطالب محمد بن عبد الكريم بالسهمان في المغانم، وامتنع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تافراكين.
[2] وفي نسخة أخرى: الراكراكي.

(6/258)


فانزل به النكال وعاقبه بالسجن فدبّر ابن عبد الكريم الثورة وداخل فيها بطانته، وتقبّض على يونس سنة خمس وتسعين وخمسمائة واعتقله إلى أن فدّاه أخوه أبو سعيد بخمسمائة دينار من الذهب العتيق، واستبدل ابن عبد الكريم بالمهديّة ودعا لنفسه، وبلغت المتوكّل على الله. ثم وصل السيد أبو زيد بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن واليا على إفريقية فنازل ابن عبد الكريم بتونس سنة ست وتسعين وخمسمائة واضطرب معسكره بحلق الوادي وبرز إليه جيوش الموحّدين فهزمهم وطال حصاره لهم. ثم سألوه الإفراج عنهم فأجاب لذلك، وارتحل عنهم إلى حصار يحيى بن غانية بفاس فنازله مدّة. ثم ارتحل إلى قفصة وخرج ابن غانية في اتباعه فانهزم ابن عبد الكريم أمامه ولحق ارتحل إلى قفصة وخرج ابن غانية في اتباعه فانهزم ابن عبد الكريم أمامه ولحق بالمهديّة، وحاصره ابن غانية بها سنة سبع وتسعين وخمسمائة وأمدّه السيد أبو زيد بقطعتين من الغزاة حتى سأل ابن عبد الكريم النزول على حكمه وخرج إليه فقبض عليه ابن غانية وهلك في اعتقاله، واستولى على المهديّة واستضافها إلى ما كان بيده من طرابلس وقابس وصفاقس والجريد. ثم نهض إلى الجانب الغربي من إفريقية فنازل باجة، ونصب عليها المجانيق وافتتحها عنوة وخرّبها، وقتل عاملها عمر بن غالب، ولحق شريدها بالأربس وشقبناريّة وتركها خالية على عروشها، وبعد مدة تراجع إليها ساكنها بأمن السيد أبي زيد، فزحف إليها ابن غانية ونازلها، وزحف إليه السيد أبو الحسن أخو السيد أبي زيد فلقيه بقسنطينة، وانهزم الموحّدون واستولى على معسكرهم.
ثم نهض إلى بسكرة واستولى عليها وقطع أيدي أهلها، وتقبّض على حافظها أبي الحسن بن أبي يعلى، وتملك بعدها بلنسية [1] والقيروان وبايعه أهل بونة، ورجع إلى المهديّة وقد استفحل ملكه، فأزمع على حصار تونس وارتحل إليها سنة تسع وتسعين وخمسمائة واستعمل على المهديّة علي بن الغازي ويعرف بالكافي بن عبد الله بن محمد بن علي بن غانية، ونزل بالجبل الأحمر من ظاهر تونس ونزل أخوه بحلق الوادي. ثم ضايقوه بمعسكرهم وردموا خندقها ونصبوا المجانيق والآلات، واقتحموها لأربعة أشهر من حصارها في ختام المائة السادسة [2] . وقبض على السيد أبي زيد وابنه ومن كان معه من الموحّدين، وأخذ أهل تونس بغرم مائة ألف دينار، وولّى
__________
[1] وفي النسخة التونسية: تبسه.
[2] الصحيح في ختام المائة الخامسة.

(6/259)


بقبضها منهم كاتبه ابن عصفور وأبا بكر بن عبد العزيز بن السكاك، فأرهقوا الناس بالطلب حتى لاذ معظمهم بالموت واستعملوا القتل فيما نقل أن إسماعيل بن عبد الرفيع من بيوتاتها ألقى بنفسه في بئر فهلك، فرجع الطلب ببقيتها عنهم.
وارتحل إلى نفوسة والسيد أبو زيد معتقل في معسكره ففعل بهم مثل ذلك، وأغرمهم بالناصر بمراكش ما دهم أهل إفريقية منه ومن ابن عبد الكريم قبله، فامتعض لذلك ورحل إليها سنة إحدى وستمائة. وبلغ يحيى بن غانية خبر زحفه إليه، فخرج من تونس إلى القيروان ثم إلى قفصة واجتمع إليه العرب وأعطوه الرهن على المظاهرة والدفاع. ونازل طرة من حصون مغراوة [1] ، فاستباحها، وانتقل إلى حامة مطماطة. ونزل الناصر تونس، ثم قفصة، ثم قابس، وتحصّن منه ابن غانية، في مطماطة. ونزل الناصر تونس، ثم قفصة، ثم قابس، وتحصّن منه ابن غانية، في جبل دمّر، فرجع عنه إلى المهديّة، وعسكر عليها واتخذ الآلة لحصارها.
وسرّح الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص لقتال ابن غانية في أربعة آلاف من الموحّدين سنة اثنتين وستمائة فلقيه بجبل تاجورّا من نواحي قابس، وأوقع به وقتل أخاه جبارة بن إسحاق واستنقذ السيد أبا زيد من معتقله، ثم افتتح الناصر المهديّة ودخل إليها عليّ بن الغازي في دعوة فتقبله، ورفع مكانه ووصله بهدية وافق وصولها برسمه إليه على يد واصل [2] مولاه وكان بها ثوبان منسوجان بالجواهر فوصله بذلك كله، ولم يزل معه إلى أن استشهد مجاهدا.
وولىّ الناصر على المهديّة محمد بن يغمور من الموحّدين ورجع إلى تونس. ثم نظر فيمن يولّيه أمر إفريقية لسدّ فرجها والذبّ عنها ومدافعة ابن غانية وجموعه دونها. فوقع اختياره على الشيخ أبي محمد بن أبي حفص، فعقد له على ذلك سنة ثلاث كما ذكرناه في أخباره. ورجع الناصر إلى المغرب وأجمع ابن غانية النهوض لقتال الموحّدين بتونس، وجمع ذؤبان العرب من الزواودة وغيرهم، وأوفد الزواودة يومئذ محمد بن مسعود بن سلطف [3] وتحيّز بنو عوف بن سليم إلى الموحّدين، والتقوا بشبور [4] من نواحي تبسّة [5] فانهزمت جموع ابن غانية، ولجأ إلى جهة طرابلس.
__________
[1] وفي النسخة التونسية: نغزاوة.
[2] وفي النسخة التونسية: من سبته إليه على يد ناصح.
[3] وفي نسخة أخرى: بن سلطان.
[4] وفي نسخة أخرى: بشبرو.
[5] تبسّة: بالفتح ثم الكسر، وتشديد السين المهملة: بلد مشهور من أرض افريقية، بينه وبين قفصة ست مراحل في قفر سبيبة، وهو بلد قديم به آثار الملوك، وقد خرّ الآن أكثرها ... (معجم البلدان) .

(6/260)


ثم نهض إلى المغرب في جموعه من العرب والملثّمين فانتهى إلى سجلماسة وامتلأت أيدي اتباعه من النهاب، وخرقوا الأرض بالعيث والفساد. وانتهى إلى المغرب الأوسط وداخله المفسدون من زناتة، وأغزوا به صاحب تلمسان السيد أبا عمران موسى بن يوسف بن عبد المؤمن فلقيه بتاهرت فهزمه ابن غانية، وقتله وأسروا وافده [1] ، وكرّ راجعا إلى إفريقية، فاعترضه الشيخ أبو محمد صاحب إفريقية في جموع الموحّدين، واستنقذ الغنائم من أيديهم. ولجأ [2] ابن غانية إلى جبال طرابلس، وهاجر أخوه مسير بن إسحاق إلى مرّاكش فقبله الناصر وأكرمه. ثم اجتمع إلى ابن غانية طوائف العرب من رياح وعوف وهيث [3] ومن معهم من قبائل البربر، وعزم على دخول إفريقية. ونهض إليهم الشيخ أبو محمد سنة ست وستمائة ولقيهم بجبل نفوسة، ففلّ عسكرهم واستلحم أمرهم، وغنم ما كان معهم من الظهر والكراع والأسلحة. وقتل يومئذ محمد بن الغازي وجوار بن يفرن، وقتل معه ابن عمّه من كتّاب ابن أبي الشيخ ابن عساكر بن سلطان، وهلك يومئذ من العرب الهلاليّين أمير قرّة سمّاد بن نخيل.
حكى ابن نخيل أن مغانم الموحّدين يومئذ من عساكر الملثّمين كانت ثمانية عشر ألفا من الظهر، فكان ذلك مما أوهن من شدّته ووطّى من بأسه. وثارت قبائل نفوسة بكاتبه ابن عصفور فقتلوا ولديه، وكان ابن غانية يبعثه عليهم للمغرم. وسار أبو محمد في نواحي إفريقية ودفع سلبهم واستثار أشياخهم بأهلهم، وأسكنهم بتونس حسما لفسادهم. وصلحت أحوال إفريقية إلى أن هلك الشيخ أبو محمد سنة ثمان عشرة وستمائة وولي أبو محمد السيد أبو العلا إدريس بن يونس بن عبد المؤمن، ويقال بل وليها قبيل مهلك الشيخ أبي محمد، فاستطار بعد مهلكه سور بن عبابة، ولخم فعابه رعيته [4] ، ونهض إليه السيد أبو العلا ونزل قابس وأقام بقصر العروسيّين، وسرّح ولده السيد أبا زيد بعسكر من الموحّدين إلى درج وغدامس، وسرّح عسكرا آخر إلى ودان لحصار ابن غانية، فأرجف بهم العرب ونهضوا وهمّ بهم السيد أبو
__________
[1] وفي النسخة التونسية: ولده.
[2] وفي النسخة التونسية: ونجا.
[3] وفي النسخة التونسية: ونفاث.
[4] وفي نسخة أخرى: ثور بن غانية، ونجم نفاقه وعيثه.

(6/261)


العلا. وفرّ ابن غانية إلى الزاب، واتبعه السيد أبو زيد فنازل ببسكرة واقتحمها عليه.
ونجا ابن غانية وجمع أوباشا من العرب والبربر، واتبعه السيد أبو زيد في الموحّدين وقبائل هوّارة، وتزاحفوا بظاهر تونس سنة إحدى وعشرين وستمائة فانهزم ابن غانية وجموعه، وقتل كثير من الملثّمين وامتلأت أيدي الموحّدين من الغنائم.
وكان طرأ له يومئذ حماس من بعد ما سعى [1] في هذا الزحف أثر مذكور وبلاء حسن. وبلغ السيد أبا زيد إثر هذه الوقيعة خبر مهلك أبيه بتونس، فانكفّ راجعا، وأعيد بنو أبي حفص إلى مكان أبيهم الشيخ أبي محمد بن أثال بإفريقية. واستقلّ الأمير أبو زكريا منهم بأمرها، واقتلعها عن ملكه إلى عبد المؤمن [2] وتناولها من يد أخيه أبي محمد عبد الله. وهذا الأمير أبو زكريا هو جدّ الخلفاء الحفصيّين وماهد أمرهم بإفريقية، فأحسن دفاع ابن غانية عنها وشرّده في أقطارها. ورفع يده شيئا فشيئا عن النيل من أهلها ورعاياها. ولم يزل شريدا مع العرب بالقفار، فبلغ سجلماسة من أقصى المغرب والعقبة الكبرى من تخوم الديار المصرية. واستولى على ابن مذكور صاحب السويقة من تخوم برقة، وأوقع بمغراوة بواجر ما بين متيجة ومليانه، وقتل أميرهم منديل بن عبد الرحمن وصلب شلوه بسور الجزائر. وكان يستخدم الجند فإذا سئموا الخدمة تركهم لسبيلهم إلى أن هلك لخمسين سنة من إمارته سنة إحدى وثلاثين وستمائة وقيل ثلاث وثلاثين، ودفن وعفى أثر مدفنه. يقال بوادي الرجوان قتله الأريس يقال بجهة مليانة من وادي شلف، ويقال بصحراء باديس ومديد [3] من بلاد الزاب. وانقرض أمر الملثّمين من مسوقة ولمتونة ومن جميع بلاد إفريقية والمغرب والأندلس بمهلكه. وذهب ملك صنهاجة من الأرض بذهاب ملكه وانقطاع أمره. وقد خلّف بنات بعثهن [4] زعموا إلى الأمير أبي زكريا لعهده بذلك إلى علجه جابر [5] فوضعن في يده. وبلغه وفاة أبيهن وحسن ظنه في كفالته إياهنّ، فأحسن الأمير أبو زكريا كفالتهنّ، وبنى لهنّ بحضرته دارا لصونهنّ معروفة لهذا العهد
__________
[1] هكذا بالأصل وفي نسخة أخرى: وكان لهوارة يومئذ، وأميرهم حناش بن بعرة بن ونيفن في هذا الزحف اثر مذكور وبلاء حسن.
[2] وفي النسخة التونسية: من ملكة آل عبد المؤمن.
[3] وفي النسخة الباريسية: وتنومة. وفي النسخة التونسية: وبنومة.
[4] العبارة تكون أصح لو قال: وقد خلّف بنات زعموا بأنه بعثهن الى الأمير أبي زكريا.
[5] وفي النسخة التونسية صابر.

(6/262)


بقصر البنات. وأقمن تحت حراسته وفي سعة من رزقه موصولات لوصاة أبيهنّ بذلك منهنّ وحفظهنّ لوصاته. ولقد يقال أن ابن عم لهنّ خطب إحداهنّ، فبعث إليها الأمير أبو زكريا فقال لها: هذا ابن عمك وأحقّ بك، فقالت لو كان ابن عمّنا ما كفلنا الأجانب، إلى أن هلكن عوانس بعد أن متعن من العمر بحظ.
أخبرني والدي رحمه الله أنه أدرك واحدة منهنّ أيام حياته في سني العشر والسبعمائة تناهز التسعين من السنين. (قال) : ولقيتها وكانت من أشرف النساء نفسا وأسراهنّ خلقا وأزكاهنّ خلالا والله وارث الأرض ومن عليها.
ومضى هؤلاء الملثّمون وقبائلهم لهذا العهد بمجالاتهم من جوار السواد ان حجزا بينهم وبين الرمال التي هي تخوم بلاد البربر من المغربين وإفريقية، وهم لهذا العهد متّصلون من ساحل البحر المحيط في المغرب إلى ساحل النيل بالمشرق. وهلك من قام بالملك منهم بالعدوتين، وهم قليل من مسوقة ولمتونة كما ذكرناه، أكلتهم الدولة وابتلعتهم الآفاق والأقطار، وأفناهم الرقّ [1] واستلحمهم أمراء الموحدين [2] وبقي من أقام بالصحراء منهم على حالهم الأوّل من افتراق الكلمة واختلاف البين، وهم الآن يعطون طاعة لملوك السودان، يجبون إليهم خراجهم وينفرون في معسكرهم.
واتصل بنيانهم على بلاد السودان إلى المشرق مناظر السلع العرب على بلاد المغربين وإفريقية [3] فكدالة منهم في مقابلة ذوي حسّان بن المعقل عرب السوس الأقصى، ولمتونة وتريكة في مقابلة ذوي منصور وذوي عبد الله بن المعقل أيضا عرب المغرب الأقصى، ومسوقة في مقابلة زغبة عرب المغرب الأوسط، ولمطة في مقابلة رياح عرب الزاب وبجاية وقسنطينة، وتاركا في مقابلة سليم عرب إفريقية. وأكثر ما عندهم من المواشي الإبل لمعاشهم وحمل أثقالهم وركوبهم، والخيل قليلة لديهم أو معدومة. ويركبون من الإبل الفارهة ويسمّونها النجيب، ويقاتلون عليها إذا كانت بينهم حرب، وسيرها هملجة، وتكاد تلحق بالركض [4] وربما يغزوهم أهل القفر من العرب وخصوصا بنو سعيد من بادية رياح، فهم أكثر العرب غزوا إلى بلادهم
__________
[1] وفي النسخة التونسية: الترف.
[2] وفي النسخة التونسية: واستلحمهم آخرا الموحّدون.
[3] وفي النسخة التونسية: واتصل سياجهم على بلاد السودان الى المشرق، مناظرا لسياج العرب على بلاد المغربين وإفريقية.
[4] مقتضى السياق: وتكاد لا تلحق بالركض.

(6/263)


فيستبيحون من صحبوه منهم يرمونه في بطون مغاير [1] . فإذا اتصل الصائح بأحيائهم وركبوا في اتباعهم واعترضوهم على المياه قبل فصولهم من تلك البلاد فلا يكادون يخلصون، ويشتدّ الحرب بينهم فلا يخلص العرب من غوائلهم [2] إلّا بعد جهد، وقد يهلك بعضهم، وللَّه الخلق والأمر. وإذ عرض لنا ملوك السودان فلنذكر ملوكهم لهذا العهد المجاورين لملوك المغرب.
(ملوك السودان) (الخبر عن ملوك السودان المجاورين للمغرب من وراء هؤلاء الملثمين ووصف أحوالهم والإلمام بما اتصل بنا من دولتهم)
هذه الأمم السودان من الآدميين هم أهل الإقليم الثاني وما وراءه إلى آخر الأوّل بل وإلى آخر المعمورة متصلون ما بين المغرب والمشرق، ويجاورون بلاد البربر بالمغرب وإفريقية وبلاد اليمن والحجاز في الوسط، والبصرة وما وراءها من بلاد الهند بالمشرق، وهم أصناف وشعوب وقبائل أشهرهم بالمشرق الزنج والحبشة والنوبة، وأمّا أهل المغرب منهم فنحن ذاكروهم بعد ما ننسبهم، فبنو حام بن نوح بالحبش من ولد حبش بن كوش بن حام، والنوبة من ولد نوبة بن كوش بن كنعان بن حام فيما قاله المسعودي، وقال ابن عبد البر إنهم من ولد نوب بن قوط بن مصر [3] بن حام، والزنج من ولد زنجي بن كوش، وأمّا سائر السودان فمن ولد قوط بن حام فيما قاله ابن عبد البر، ويقال: هو قبط بن حام.
وعدّ ابن سعيد من قبائلهم وأممهم سبعة عشر أمّة، فمنهم في المشرق الزنج على بحر الهند، لهم مدينة فنقية [4] وهم مجوس، وهم الذين غلب رقيقهم بالبصرة على ساداتهم مع دعي الزنج في خلافة المعتمد. قال: ويليهم بربرا، وهم الذين ذكرهم
__________
[1] وفي النسخة التونسية: وينكفون مغزين.
[2] وفي النسخة التونسية: فلا يخلص العرب بغنائمهم.
[3] وفي النسخة التونسية: ابن ينصر.
[4] وفي النسخة التونسية: منبسة.

(6/264)


امرؤ القيس في شعره. والإسلام لهذا العهد فاش فيهم، ولهم يومئذ مقاشن [1] على البحر الهندي يعمرها تجار المسلمين ومن غربيهم وحولهم الدمادم وهم حفاة عراة.
قال: وخرجوا إلى بلاد الحبشة والنوبة عند خروج التتر إلى العراق، فعاثوا فيها ثم رجعوا. قال: ويليهم الحبشة وهم أعظم أمم السودان وهم مجاورون لليمن على شاطئ البحر الغربي ومنه غزو ملك اليمن ذي نواس وكانت دار مملكتهم كفرة [2] ، وكانوا على دين النصرانية، وأخذ بالإسلام واحد منهم زمن الهجرة على ما ثبت في الصحيح، والّذي أسلم منهم لعهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهاجر إليه الصحابة قبل الهجرة إلى المدينة فآواهم ومنعهم، وصلى عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ما نعي إليه، كان اسمه النجاشيّ وهو بلسانهم: أنكاش بالكاف المشمة بالجيم عرّبتها العرب جيما محضة وألحقتها ياء النسب، شأنها في الأسماء الأعجمية إذا تصرّفت فيها، وليس هذا الاسم سمة لكل من تملّك منهم كما يزعم كثير من الناس ممن لا علم له بهذا، ولو كان كذلك لشهروا اسمه إلى اليوم لأنّ ملكهم لم يتحوّل منهم، وملكهم لهذا العهد اسمه الخطى ما أدري اسم السلطان نفسه، أو اسم العشيرة الذين فيهم الملك. وفي غربيّه مدينة دامون وكان بها ملك من أعاظمهم وله ملك ضخم، وفي شماليه ملك آخر منهم اسمه حقّ الدين محمد بن علي بن واصمع [3] في مدينة أسلم أولوه في تواريخ مجهولة. وكان جدّه واصمع مطيعا لملك دامون، وأدركت الخطى الغيرة من ذلك فغزاه واستولى على بلاده. ثم اتصلت الفتنة وضعف أمر الخطى فاسترجع بنو واصمع بلادهم من الخطى وبنيه، واستولوا على وفاة وخرّبوها.
وبلغنا أنّ حق الدين هلك، وملك بعده أخوه سعد الدين وهم مسلمون ويعطون الطاعة للخطى أحيانا وينابذونه أخرى والله مالك الملك. (قال ابن سعيد) : ويليهم البجاوة وهم نصارى ومسلمون، ولهم جزيرة بسواكن في بحر السوس، ويليهم النوبة إخوة الزنج والحبشة ولهم مدينة دنقلة غرب النيل، وأكثرهم مجاورون للديار المصرية، ومنهم رقيق. ويليهم زغاوة وهم مسلمون، ومن شعوبهم تاجرة ويليهم الكانم وهم خلق عظيم، والإسلام غالب عليهم ومدينتهم حميمي [4] ولهم التغلّب
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مقدشوا.
[2] وفي نسخة أخرى: كعبر.
[3] وفي نسخة أخرى: ولصمع.
[4] وفي النسخة الباريسية: جنمي وفي النسخة التونسية حيمي.

(6/265)


على بلاد الصحراء إلى فزّان. وكانت لهم مهادنة مع الدولة الحفصيّة مذ أوّلها، ويليهم من غربهم كوكو، وبعدهم نغاله والتكرور ولمى وتميم وجاى [1] وكورى وأفكزار، ويتّصلون بالبحر المحيط إلى غانية في الغرب. أهـ كلام ابن سعيد.
ولما فتحت إفريقية المغرب دخل التجّار بلاد المغرب فلم يجدوا فيهم أعظم من ملوك غانية، كانوا مجاورين للبحر المحيط من جانب الغرب، وكانوا أعظم أمّة ولهم أضخم ملك، وحاضرة ملكهم غانية مدينتان على حافتي النيل من أعظم مدائن العالم وأكثرها معتمرا، ذكرها مؤلف كتاب رجار وصاحب المسالك والممالك.
وكانت تجاورهم من جانب الشرق أمّة أخرى فيما زعم الناقلون تعرف صوصو بصادين مضمومتين أو سينين مهملتين، ثم بعدها أمّة أخرى تعرف مالي ثم بعدها أمّة أخرى تعرف كوكو ويقال كاغو ثم بعدها أمّه أخرى تعرف بالتكرور.
(وأخبرني) الشيخ عثمان فقيه أهل غانية وكبيرهم علما ودينا وشهرة، قدم مصر سنة تسع وتسعين وستمائة حاجا بأهله وولده ولقيته بها فقال: إنهم يسمّون التكرور زغاي ومالي انكاويه أهـ.
ثم أنّ أهل غانية ضعف ملكهم وتلاشى أمرهم واستفحل أمر الملثّمين المجاورين لهم من جانب الشمال مما يلي البربر كما ذكرناه، وعبروا على السودان واستباحوا حماهم وبلادهم واقتضوا منهم الاتاوات والجزى، وحملوا كثيرا منهم على الإسلام فدانوا به. ثم اضمحلّ ملك أصحاب غانية وتغلّب عليهم أهل صوصو المجاورون لهم من أمم السودان واستعبدوهم وأصاروهم في جملتهم. ثم أنّ أهل مالي كثروا أمم السودان في نواحيهم تلك، واستطالوا على الأمم المجاورين لهم فغلبوا على صوصو أو ملكوا جميع ما بأيديهم من ملكهم القديم، وملك أهل غانية إلى البحر المحيط من ناحية الغرب وكانوا مسلمين، يذكرون أن أوّل من أسلم منهم ملك اسمه برمندان [2] هكذا ضبطه الشيخ عثمان. وحج هذا الملك واقتفى سننه في الحج ملوكهم من بعده.
وكان ملكهم الأعظم الّذي تغلّب على صوصو وافتتح بلادهم وانتزع الملك من أيديهم اسمه ماري جاطة، ومعنى ماري عندهم الأمير الّذي يكون نسل السلطان وجاطة الأسد، واسم الحافد عندهم تكن، ولم يتّصل بنا نسب هذا الملك. وملك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تمنم وجالي.
[2] وفي نسخة أخرى: برمندانة.

(6/266)


عليهم خمسا وعشرين سنة فيما ذكروه. ولما هلك ولي عليهم من بعده منسا ولي، ومعنى منسا السلطان، ومعنى ولي بلسانهم علي، وكان منسا ولي هذا من أعاظم ملوكهم. وحج أيام الظاهر بيبرس، وولي عليهم من بعده أخوه وأتى. ثم بعده أخوهم خليفة وكان محمقا راويا، فكان يرسل السهام على الناس فيقتلهم مجانا، فوثبوا عليه فقتلوه. وولي عليهم من بعده سبط من أسباط ماري جاطة يسمّى أبا بكر، وكان ابن بنته فملّكوه على سنن الأعاجم في تمليك الأخت وابن الاخت. ولم يقع إلينا نسبه ونسب أبيه.
ثم ولي عليهم من بعده مولى من مواليهم تغلّب على ملكهم اسمه ساكورة. وقال الشيخ عثمان: ضبطه بلسانهم أهل غانية سيكرة، وحجّ أيام الملك الناصر وقتل عند مرجعه بتاجورا، وكانت دولته ضخمة اتسع فيها نطاق ملكهم وتغلّبوا على الأمم المجاورة لهم. وافتتح بلاد كوكو وأصارها في ملكة أهل مالي. واتصل ملكهم من البحر المحيط وغانة بالمغرب إلى بلاد التكرور في المشرق، واعتز سلطانهم وهابتهم أمم السودان، وارتحل إلى بلادهم التجّار من بلاد المغرب وإفريقية.
وقال الحاج يونس ترجمان التكروري إن الّذي فتح كوكو هو سغمنجة من قوّاد منسا موسى، وولي من بعده ساكورة وهذا هو ابن السلطان ماري جاطة. ثم من بعده ابنه محمد بن قو، ثم انتقل ملكهم من ولد السلطان ماري جاطة إلى ولد أخيه أبي بكر فولى عليهم منسا موسى بن أبي بكر، وكان رجلا صالحا وملكا عظيما، له في العدل أخبار تؤثر عنه. وحج سنة أربع وعشرين وسبعمائة، لقيه في الموسم شاعر الأندلس أبو إسحاق إبراهيم الساحلي المعروف بالطونجق [1] وصحبه إلى بلاده. وكان له اختصاص وعناية ورثها من بعده ولده إلى الآن، وأوطنوا والاتر من تخوم بلادهم من ناحية المغرب، ولقيه في منصرفه صاحبنا المعمّر أبو عبد الله بن خديجة الكومي من ولد عبد المؤمن، كان داعية بالزاب للفاطمي المنتظر، وأجلب عليهم بعصائب من العرب فمكر به واركلا واعتقله، ثم خلّى سبيله بعد حين، فحاض إلى السلطان منسا موسى مستجيشا به عليهم، وقد كان بلغه توجّهه للحج، فأقام في انتظاره ببلد غدامس يرجو نصرا على عدوّه ومعونة على أمره لما كان عليه منسا موسى من استفحال
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الطوبجن.

(6/267)


ملكه بالصحراء الموالية لبلد واركلا وقوّة سلطانه فلقي منه مبرّة وترحبا ووعده بالمظاهرة والقيام بثأره واستصحبه إلى بلدة أخرى وهو الثقة.
(قال: كنا نواكبه أنا وأبو إسحاق الطونجق دون وزرائه ووجوه قومه نأخذ بأطراف الأحاديث، نتمتع وكان متحفا) [1] في كل منزل بطرف المآكل والحلاوات قال:
والّذي تحمل آلته وحربته [2] من الوصائف خاصة اثنا عشر ألفا لابسات أقبية الديباج والحرير اليماني.
(قال الحاج يونس ترجمان هذه الأمّة بمصر) : جاء هذا الملك منسا موسى من بلده بثمانين حملا من التبر، كل حمل ثلاثة قناطير، قال: وإنما يحملون على الوصائف والرجال في أوطانهم فقط، وأمّا السفر البعيد كالحج فعلى المطايا.
(قال أبو خديجة) : ورجعنا معه إلى حضرة ملكه فأراد أن يتخذ بيتا بمقعد [3] سلطانه محكم البناء مجللا لغرابته بأرضهم، فأطرفه أبو إسحاق الطونجق ببناء قبّة مربّعة الشكل استفرغ فيها إجادته. وكان صناع اليدين واضفى عليها من الكلس ووالي عليها بالأصباغ المشبّعة [4] فجاءت من أتقن المباني، ووقعت من السلطان موقع الاستغراب لفقدان صنعة البناء بأرضهم، ووصله باثني عشر ألفا من مثاقيل التبر مثوبة عليها، إلى ما كان له من الاثرة والميل إليه والصلات السنية. وكان بين هذا السلطان منسا موسى وبين ملك المغرب لعهده من بني مرين السلطان أبي الحسن مواصلة ومهاداة سفرت بينهما فيها الأعلام من رجال الدولتين، واستجاد صاحب المغرب من متاع وطنه وتحت ممالكة ممّا تحدّث عنه الناس على ما نذكره عند موضعه، بعث بها مع عليّ بن غانم المغفل وأعيان من رجال دولته. وتوارثت تلك الوصلة أعقابهما كما سيأتي واتصلت أيام منسا موسى هذا خمسا وعشرين سنة. ولمّا هلك ولي أمر مالي من بعده ابنه منسا مغا، ومغا عندهم محمد، وهلك لأربع سنين من ولايته، وولي أمرهم من بعده منسا سليمان بن أبي بكر وهو أخو موسى، واتصلت أيامه أربعا وعشرين سنة. ثم هلك فولي بعده ابنه منسا بن سليمان وهلك لتسعة من ولايته،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حيث يتسع المقام، وكان يتحفنا.
[2] وفي النسخة التونسية: وخرثية.
[3] وفي نسخة أخرى: في قاعدة.
[4] وفي النسخة التونسية: وعالى عليها بالأصباغ المنمقة.

(6/268)


فولي عليهم من بعده ماري جاطه بن منسا مغا بن منسا موسى واتصلت أيامه أربعة عشر عاما وكان أشر وال عليهم بما سامهم من النكال والعسف وإفساد الحرم. وأتحف ملك المغرب لعهده السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن بالهدية المذكورة سنة اثنتين وستين وسبعمائة وكان فيها الحيوان العظيم الهيكل المستغرب بأرض المغرب المعروف بالزرافة، تحدث الناس بما اجتمع فيه من مفترق الجلي والشبه في جثمانه ونعوته دهرا.
(وأخبرني القاضي الثقة أبو عبد الله محمد بن وانسول من أهل سجلماسة. وكان أوطن بأرض كوكو من بلادهم واستعملوه في خطّة القضاء بما لقية منذ سنة ست وسبعين وسبعمائة، فأخبرني عن ملوكهم بالكثير مما كتبته وذكر لي عن هذا السلطان جاطه أنه أفسد ملكهم وأتلف ذخيرتهم، وكاد أن ينتقض شأن سلطانهم. (قال) : ولقد انتهى الحال به في سرفه وتبذيره أن باع حجر الذهب الّذي كان في جملة الذخيرة عن أبيهم، وهو حجر يزن عشرين قنطارا منقولا من المعدن من غير علاج بالصناعة ولا تصفية بالنار، كانوا يرونه من أنفس الذخائر والغرائب لندور مثله في المعدن، فعرضه جاطه هذا الملك المسرف على تجّار مصر المتردّدين إلى بلده وابتاعوه منه بأبخس ثمن إذ استهلك من ذخائر ملوكهم سرفا وتبذيرا في سبيل الفسوق والتخلّف.
(قال) : وأصابته علّة النوم، وهو مرض كثيرا ما يطرق أهل ذلك الإقليم وخصوصا الرؤساء منهم يعتاده غشي النوم عامّة أزمانه حتى يكاد أن لا يفيق ولا يستيقظ إلّا في القليل من أوقاته، ويضرّ صاحبه ويتصل سقمه إلى أن يهلك. (قال) : ودامت هذه العلّة بخلطه مدّة عامين اثنين وهلك سنة خمس وسبعين [وسبعمائة] وولّوا من بعده ابنه موسى فأقبل على مذاهب العدل والنظر لهم، ونكب عن طرق أبيه جملة وهو الآن مرجو الهداية ويغلب على دولته وزيره ماري جاطه، ومعنى ماري عندهم الوزير وجاطه تقدّم وهو الآن قد حجر السلطان واستبد بالأمر عليه، ونظر في تجهيز العساكر وتجهيز الكتائب، ودوّخ أقطار الشرق من بلادهم وتجاوز تخوم كوكو وجهّز إلى منازلة تكرت بما وراءها من بلاد الملثّمين، كتائب نازلتها الأوّل الدولة، وأخذت بمخنقها، ثم أفرجت عنها وحاطهم الآن هدنة.
وتكرت هذه على سبعين مرحلة من بلد واركلا في الجانب القبلي الغربي وفيها من الملثّمين يعرف بالسلطان، وعليهم طريق الحاج من السودان، وبينه وبين أمير الزاب

(6/269)


وواركلا مهاداة ومراسلة. (قال) : وحاضرة الملك لأهل مالي هو بلد بني [1] بلد متسع الخطة معين على الزرع مستبحر العمارة نافق الأسواق، وهو الآن محط لركاب البحر من المغرب وإفريقية ومصر، والبضائع مجلوبة إليها من كل قطر. ثم بلغنا لهذا العهد أن منسا موسى توفي سنة تسع وثمانين وسبعمائة وولي بعده أخوه منسا مغا ثم قتل لسنة أو نحوها، وولي بعده صندكي زوج أمّ موسى صندكي الوزير. ووثب عليه بعد أشهر رجل من بيت ماري جاطة. ثم خرج من بلاد الكفرة وراءهم وجاءهم رجل اسمه محمود ينسب إلى منساقو بن منسا ولي بن ماري جاطه الأكبر، فتغلّب على الدولة وسلك أمرهم سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ولقبه منسا مغا، والخلق والأمر للَّه وحده.
(الخبر عن لمطة وكزولة وهسكورة بني تصكي وهم إخوة هوّارة وصنهاجه)
هؤلاء القبائل الثلاث قد تقدّم لنا أنهم إخوة لصنهاجة، وأنّ أمّ الثلاثة تصكي العرجاء بنت زحيك بن مادغيس، فأما صنهاجة فمن ولد عاميل بن زعزاع، وأمّا هوّارة فمن ولد أوريغ وهو ابنها ابن برنس، وأمّا الآخرون فلا تحقيق في نسبهم. (قال ابن حزم) : إنّ صنهاجة ولمطة لا يعرف لهما أب، وهذه الأمم الثلاث موطنون بالسوس وما يليه من بلاد الصحراء وجبال درن ملئوا بسائطه وجباله. (فأمّا لمطة) فأكثرهم مجاورون الملثمين من صنهاجة ولهم شعوب كثيرة، وأكثرهم ظواعن أهل وبر ومنهم بالسوس قبيلتا زكن ولخس، صاروا في عداد ذوي حسّان من معقل، وبقايا لمطة بالصحراء مع الملثّمين ومعظمهم قبيلة بين تلمسان وإفريقية [2] وكان منهم الفقيه وكاك بن زيرك صاحب أبي عمران الفاسي [3] وكان نزل سجلماسة. ومن تلميذه كان عبد الله بن ياسين صاحب الدولة اللمتونية على ما مرّ.
__________
[1] بياض بالأصل في جميع النسخ، ولعلها بلاد بني وارثين وقد ذكرها ابن خلدون من قبل، وسترد معنا في الطبقة الثالثة من صنهاجة.
[2] وفي النسخة التونسية ومعظمهم في قبلة تلمسان وإفريقية.
[3] هكذا بالأصل وفي كتاب قبائل المغرب ص 332: «واليهم نسبة الفقيه واكاك بن زولو صاحب أبي عمران الفاسي وشيخ عبد الله بن ياسين داعية المرابطين، منهم اليوم فرقة مستقرّة بجبل زالغ المطل على فاس» .

(6/270)


(وأمّا كزولة [1] ) فبطونهم كثيرة، ومعظمهم بالسوس ويجاورون لمطة ويحاربونهم.
ومنهم الآن ظواعن بأرض السوس، وكان لهم مع المعقل حروب قبل أن يدخلوا السوس، فلما دخلوه تغلّب عليهم، وهم الآن من خولهم وأخلافهم ورعاياهم.
(وأمّا هسكورة) وهم لهذا العهد في عداد المصامدة وينسبون إلى دعوة الموحّدين، وهم أمم كثيرة وبطون واسعة ومواطنهم بجبالهم متّصلة من درن إلى تادلّا من جانب الشرق إلى درعة من جانب القبلة وكان دخول بعضهم في دعوة المهدي قبل فتح مراكش، ولم يستكملوا الدخول في الدعوة إلّا من بعده، فلذلك لا يعدّهم كثير من الناس في الموحّدين، وإن عدّوا فليسوا من أهل السابقة منهم لمخالفتهم الإمام أوّل الأمر، وما كان من حروبهم معه ومع أوليائه وشيعته. وكانوا ينادون بخلافهم وعداوتهم ويجهرون بلعنهم، فتقول خطباؤهم في مجامع صلواتهم: لعن الله هنتاتة وتين ملّل وهرنة وهرزجة [2] ، فلما استقاموا من بعد ذلك لم يكن لهم مزية السابقة كما كانت لهنتاته وتين ملّل وهرغة وهزرجة فاستقامتهم على الدعوة كان بعد فتح مراكش.
وبطون هسكورة هؤلاء متعدّدون فمنهم مصطاوة وعجرامة وزمراوة وانتيفت وبنو نفال وبنو رسكونت إلى آخرين لم يحضرني أسماؤهم. وكانت الرئاسة عليهم آخر دولة الموحّدين لعمر بن وقاريط المنتسب، وذكره في أخبار المأمون والرشيد من بني عبد المؤمن خلاف الموحّدين بمراكش. ثم كان من بعده مسعود بن كلداسن، وهو القائم يأمر دبوس والمظاهر له على شأنه، وأظنّه جد بني مسعود، الرؤساء عليهم لهذا العهد من فطواكة المعروفين ببني خطّاب لاتصال الرئاسة في هذا البيت، ولما انقرض أمر الموحّدين استعصوا على بني مرين مدّة واختلف حالهم معهم في الاستقامة والنفرة، وكانوا ملجأ النازعين عن الطاعة من عرب جشم، ومأوى للثائرين منهم. ثم استقاموا وأذعنوا لأداء الضرايب والمغارم وجبايتها من قومهم، والخفوف إلى العسكرة مع السلطان متى دعوا إليها شأن غيرهم من سائر المصامدة.
__________
[1] وفي قبائل المغرب/ 331: «جزولة بجيم بدوي. اخوة لصنهاجة لأم، فلذلك أضيفوا اليهم في الترتيب، ويدرجهم بعض النسابين والمؤرخين في مصمودة لغرب مواطن الفريقين، فقد كانت مصمودة تسكن جبال درن وجزولة تسكن قربهم باقليم سوس، وبجهاته كانوا يظعنون حتى زاحمهم به عرب معقل وغلبوهم عليه بعد حروب، فصارت جزولة لهم خولا وأحلافا. وكانت منهم اوزاع بوسط العطر الجزائري أيضا، واليهم ينسب جبل اكرول منه» .
[2] وفي النسخة التونسية: لعن الله منتاتة وتين ملّل وشيخهم الضال المضل.

(6/271)


(وأمّا انتيفت فكانت رياستهم في أولاد هنّوا، وكان يوسف بن كنون [1] منهم اتخذ لنفسه حصن تاقيّوت، وامتنع به، ولم يزل ولده علي ومخلوف يشيد أنه من بعده، وهلك يوسف وقام بأمره ابنه مخلوف، وجاهر بالنفاق سنة اثنتين وسبعمائة. ثم راجع الطاعة وهو الّذي تقبّض على يوسف بن أبي عياد المتعدي على مراكش أيام أبي ثابت سنة سبع وسبعمائة كما نذكر في أخباره، لما أحيط به، فتقبّض عليه مخلوف وأمكن منه. وكانت وسيلته من الطاعة وكان من بعده ابنه هلال بن مخلوف، والرئاسة فيهم متصلة لهذا العهد.
(وأمّا بنو نفال) فكانت رياستهم لأولاد تروميت، وكان منهم لعهد السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن، كبيرهم عليّ بن محمد، وكان له في الخلاف والامتناع ذكر، واستنزله السلطان أبو الحسن من محلّه لأوّل ولايته بعد حصاره بمكانه، وأصاره في جملته تحت عنايته وإمرائه إلى أن هلك بتونس بعد واقعة القيروان في الطاعون الجارف. وولي بنوه من بعده أمر قومهم إلى أن انقرضوا، والرئاسة لهذا العهد في أهل بيتهم ولأهل عمومتهم.
(وأمّا فطواكة) وهم أوسع بطونهم وأعظمهم رياسة فيهم وأقربهم اختصاصا بصاحب الملك واستعمالا في خدمته. وكان بنو خطّاب منذ انقراض أمر الموحّدين قد جنحوا إلى بني عبد الحق، وأعطوهم المقادة واختصّوا شيوخهم في بني خطّاب بالولاية عليهم. وكان شيخهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب محمد بن مسعود، وابنه عمر من بعده. وهلك عمر سنة أربع وسبعمائة بمكانه من محلّه، وولي بعده عمّه موسى بن مسعود وسخطه السلطان لتوقع خلافه، فاعتقله. وكان خلاصه من الاعتقال سنة ست وسبعمائة، وقام بأمر هسكورة من بعده محمد بن عمر بن محمد بن مسعود.
ولما استفحل ملك بني مرين وذهب أثر الملك من المصامدة وبعد عهدهم صار بنو مرين إلى استعمال رؤسائهم في جباية مغارمهم لكونهم من جلدتهم. ولم يكن فيهم أكبر رياسة من أولاد تونس في هنتاتة. وبني خطّاب هؤلاء في هسكورة فداولوا بينهم ولاية الأعمال المراكشيّة وليها محمد بن عمر هذا من بعد موسى بن علي وأخيه محمد
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: منكون، وفي النسخة التونسية مكبول.

(6/272)


شيوخ هنتاتة. فلم يزل واليا منها إلى أن هلك قبيل نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان. ولحق ابنه إبراهيم بتلمسان ذاهبا إلى السلطان أبي الحسن. فلمّا دعا أبو عنّان إلى نفسه رجع عنه إلى محلّه، وتمسّك بما كان عليه من طاعة أبيه، ورعاه أبو عنّان لعمّه عبد الحق، وقلّده الأعمال المراكشية فلم يغن في منازعة إلى أن لحق السلطان أبو الحسن بمراكش، فكان من أعظم دعاته، وأبلى في مظاهرته. فلما هلك السلطان أبو الحسن اعتقله أبو عنّان وأودعه السجن، ثم قتله بين يدي نهوضه إلى تلمسان سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وقام بأمره من بعده أخوه منصور بن محمد إلى أن ملك الأمير عبد الرحمن بن أبي يغلوسن مراكش سنة ست وسبعين وسبعمائة فاستقدمه وتقبّض عليه، واعتقله بدار ابن عمّه نحوا من العام ابن مسعود بن خطّاب كان في جملته، وكان هو وأبوه نازعا إلى بني مرين خوفا على أنفسهم من أولاد محمد بن عمر لترشحهم للأمر، فلما استمكن منه بداره معتقلا وثب عليه فقتله واستلحم بنيه معه، وسخطه السلطان لها فاعتقله قليلا ثم أطلقه، واستقلّ برياسة هسكورة لهذا العهد والله قادر على ما يشاء.
(الطبقة الثالثة من صنهاجة)
وهذه الطبقة ليس فيها ملك، وهم لهذا العهد أوفر قبائل المغرب، فمنهم الموطنون بالجانب الشرقي من جبال درن ما بين تازى وتادلّا ومعدن بني فازان حيث الثنيّة المفضية إلى آكرسلوين [1] من بلاد النخل ومقصد تلك الثنية من بلادهم وبلاد المصامدة في المغرب من جبال درن. ثم اعتمروا قنن تلك الجبال وشواهقها، وتنعطف مواطنهم في تلك الثنية إلى ناحية القبلة إلى أن ينتهي إلى آكرسلوين. ثم ترجع مغرّبا من آكرسلوين إلى درعه إلى ضواحي السوس الأقصى، وأمصاره من تارودانت وأيفري الى فوتان وغيرها. ويعرف هؤلاء كلهم باسم صناكة حرفت إليها من اسم صنهاجة، وأسموا صاده زايا وأبدلوا الجيم بالكاف المتوسطة المخرج عند العرب لهذا العهد بين الكاف والقاف أو بين الكاف والجيم، وهي معرّبة النطق.
__________
[1] آكرسلوين بناحية سجلماسة حيث تبتدأ مواطن الزناكة أو صنهاجة الجنوب قبائل المغرب/ 322.

(6/273)


ولصنهاجة هؤلاء بين قبائل المغرب أوفر عدد وشدّة بأس ومنعة، وأعزّهم جانبا أهل الجبال المطلّة على تادلّا ورياستهم لهذا العهد في ولد عمران الصناكي ولهم اعتزاز على الدولة ومنعة عن الهضيمة والانقياد للمغرم. وتتصل بهم قبائل خباتة [1] منهم ظواعن يسكنون الخص وينتجعون مواقع القطر في نواحي بلادهم بتيغانيمين من قبيلة مكناسة إلى وادي أمّ ربيع من تامسنا [2] في الجانب الشمالي من جانبي جبل درن ورياستهم في ولد هيدي [3] من مشاهيرهم ولهم اعتياد بالمغرم وروم على الذلّ.
وتتصل بهم قبائل دكالة في وسط المغرب من عدوة أمّ ربيع إلى مراكش، ويتصل بهم من جهة المغرب على ساحل البحر قبيلة بناحية آزمور [4] ، وأخرى وافرة العدد مندرجة في عداد المصامدة وطنا ونحلة وجباية وعمالة، ورياستهم لهذا العهد في دولة عزيز بن يبروك [5] ، ورئيسهم لأوّل دولة زناتة، ويأتي ذكره ويعرف عقبه الآن ببني بطال، ومن قبائل صنهاجة بطون أخرى بجبال تازى وما والاها مثل بطوية وبخاصة وبني وارتين إلى جبل لكائي من جبال المغرب معروف ببني الكائي إحدى قبائلهم، يعطون المغرم عن عزّة، وبطوية منهم ثلاثة بطون: بطوية [6] على تازى، وبني ورياغل على ولد المزمة، وأولاد علي بتافرسيت. وكان لأولاد علي ذمّة مع بني عبد الحق ملوك بني مرين، وكانت أمّ يعقوب بن عبد الحق منهم فاستوزرهم. وكان منهم طلحة بن علي وأخوه عمر على ما يأتي ذكره في دولتهم.
ويتّصل ببسيط بالمغرب ما بين جبال درن وجبال الريف من ساحل البحر الرومي حيث مساكن حمّاد [7] الآتي ذكرهم قبائل أخرى من صنهاجة موطنون في عضاب وأودية وبسائط يسكنون بيوت الحجارة والطين مثل قشتالة وسطه وبنو ورياكل وبنو
__________
[1] وفي النسخة التونسية جاناته.
[2] وردت في طبعة بولاق المصرية تامستا وتامسنا وفي النسخة التونسية تامسنا والصحيح تامستا وقد مرّت معنا من قبل.
[3] وفي نسخة أخرى: هبيرة.
[4] ازمور: مدينة صغرى على شاطئ المحيط الاطلنطي بين الدار البيضاء والجديدة على ضفة وادي أم الربيع تعتبر مركزا مهما لقبائل الحوزية وشتوكه بدكاله ويرجع تاريخها الى العصور القديمة حيث عرفها الفينيقيون (كتاب المغرب ص 42) وقد سمّاها ياقوت أزمورة بثلاث ضمات.
[5] وفي نسخة أخرى: عزيز بن يبورك،
[6] وفي نسخة أخرى: بقوية.
[7] وفي النسخة التونسية: غمارة.

(6/274)


حميد وبنو مز جلدة وبنو عمران وبنو دركول [1] وورتزر وملواتة وبني وامرد. ومواطن هؤلاء كلّهم بورغة، وأمركو يحترفون بالحياكة والحراثة، ويعرفون لذلك صنهاجة البزّ، وهم في عداد القبائل المغارمة ولغتهم في الأكثر عربية لهذا العهد وهم مجاورون بجبال غمارة.
ويتصل بجبال غمارة من ناحيتهم جبل سريف موطن بني زروال من صنهاجة وبني مغالة لا يحترفون بمعاش ويسمّون صنهاجة العزّ لما اقتضته منعة جبالهم. ويقولون لصنهاجة آزمور الذين قدمنا ذكرهم صنهاجة الذلّ، لما هم عليه من الذلّ والمغرم.
والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وقد يقال في بعض مزاعم البربر أنّ بني وديد من صنهاجة وبنو يزناسن وباطويه هم أخوال واصل بن ياسن أجناسن ومعناه بلغة الغرب الجالس على الأرض [2] .
(الخبر عن المصامدة من قبائل البربر وما كان لهم من الدولة والسلطان بالمغرب ومبدإ ذلك وتصاريفه)
وأمّا المصامدة وهم من ولد مصمود بن يونس بربر فهم أكثر قبائل البربر وأوفرهم، من بطونهم: برغواطة وغمارة وأهل جبل درن. ولم تزل مواطنهم بالمغرب الأقصى منذ الأحقاب المتطاولة. وكان المتقدّم فيهم قبيل الإسلام وصدره برغواطة. ثم صار التقدّم بعد ذلك لمصامدة جبال درن إلى هذا العهد. وكان لبرغواطة في عصرهم دولة، ولأهل درن منهم دولة أخرى ودول حسبما نذكر، فلنذكر هذه الشعوب وما كان فيها من الدول بحسب ما بدا إلينا من ذلك.
__________
[1] بني دركون: بجيم بدوي ونون، وينطق أيضا دركول بكاف ولام، منهم فرقة مستقرة بناحية ازمورة القريبة من غليزان من المغرب الأوسط، وبطون مندرجة في بعض القبائل الصنهاجية بشمال المغرب الأقصى/ قبائل المغرب/ 331.
[2] وفي النسخة التونسية: اجلس على الأرض.

(6/275)


(الخبر عن برغواطة من بطون المصامدة ودولتهم ومبدإ أمرهم وتصاريف أحوالهم)
وهم الجيل الأوّل منهم، كان لهم في صدر الإسلام التقدّم والكثرة وكانوا شعوبا كثيرة مفترقين، وكانت مواطنهم خصوصا من بين المصامدة في بسائط تامسنا وريف البحر المحيط من سلا وأزمور وأنقى وأسقى. وكان كبيرهم لأوّل المائة الثانية من الهجرة طريف أبو صبيح [1] وكان من قوّاد ميسرة الخفير طريف المضفري [2] القائم بدعوة الصفريّة ومعها معزوز بن طالوت. ثم انقرض أمر ميسرة والصفريّة، وبقي طريف قائما بأمرهم بتامسنا، ويقال أيضا إنه تنبّأ وشرّع لهم الشرائع. ثم هلك وولي مكانه ابنه صالح، وقد كان حضر مع أبيه حروب ميسرة وكان من أهل العلم والخير فيهم.
ثم انسلخ من آيات الله، وانتحل دعوى النبوّة، وشرّع لهم الديانة التي كانوا عليها من بعده، وهي معروفة في كتب المؤرّخين. وأدعى أنه نزل عليه قرآن كان يتلو عليهم سورا منه، يسمي منها سورة الديك وسورة الجمل وسورة الفيل وسورة آدم وسورة نوح وكثير من الأنبياء، وسورة هاروت وماروت وإبليس، وسورة غرائب الدنيا، وفيها العلم العظيم بزعمهم، حرّم فيها وحلّل، وشرّع قصّ، وكانوا يقرءونه في صلواتهم، وكانوا يسمّونه صالح المؤمنين كما حكاه البكري عن زمور بن صالح بن هاشم بن وراد الوافد منهم على الحاكم المستنصر الخليفة بقرطبة من قبل ملكهم أبي عيسى بن أبي الأنصاري سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة.
وكان يترجم عنه بجميع خبره داود [3] بن عمر المسطاسي. قال: وكان ظهور صالح هذا في خلافة هشام بن عبد الملك من سنة سبع وعشرين من المائة الثانية من الهجرة. وقد قيل إنّ ظهوره كان لأوّل الهجرة، وأنه إنما انتحل ذلك عنادا ومحاكاة لما بلغه شأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والأوّل أصح. ثم زعم أنه المهدي الأكبر الّذي يخرج في آخر الزمان، وأنّ عيسى يكون صاحبه ويصلّي خلفه، وأنّ اسمه في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: طريف ابو صالح وكذلك في قبائل الغرب/ 322.
[2] المضغري أو المطغري ويجوز الوجهين.
[3] وفي النسخة الباريسية: ذلواد وفي النسخة التونسية داورد.

(6/276)


العرب صالح وفي السريان مالك وفي الأعجمي عالم وفي العبراني روبيا وفي البربري وربا [1] ومعناه الّذي ليس بعده نبي، وخرج إلى المشرق بعد ان ملك أمرهم سبعا وأربعين سنة، ووعدهم أنه يرجع إليهم في دولة السابع منهم، وأوصى بدينه إلى ابنه إلياس، وعهد إليه بموالاة صاحب الأندلس من بني أميّة، وبإظهار دينه إذا قوي أمرهم.
وقام بأمره بعده ابنه إلياس ولم يزل مظهرا للإسلام مسرا لما أوصاه به أبوه من كلمة كفرهم. وكان طاهرا عفيفا زاهدا [2] . وهلك لخمسين سنة من ملكه، وولي أمرهم من بعده ابنه يونس، فأظهر دينهم ودعا إلى كفرهم وقتل من لم يدخل في أمره حتى حرق مدائن تامسنا وما والاها، يقال إنه حرق [3] ثلاثمائة وثمانين مدينة، واستلحم أهلها بالسيف لمخالفتهم إياه، وقتل منهم بموضع يقال له تاملوكاف، هو حجر عال نابت وسط الطريق [4] فقتل سبعة آلاف وسبعمائة وسبعين.
(قال زمور) : ورحل يونس إلى المشرق وحجّ، ولم يحج أحد من أهل بيته قبله ولا بعده، وهلك لأربع وأربعين سنة من ملكه، وانتقل الأمر عن بنيه، وولي أمرهم أبو غفير محمد بن معاد بن اليسع بن صالح بن طريف، فاستولى على ملك برغواطة وأخذ بدين آبائه واشتدّت شوكته وعظم أمره، وكانت له في البربر وقائع مشهورة وأيام مذكورة أشار إليها سعيد بن هشام المصمودي في قوله:
قفي قبل التفرّق وأخبرينا ... وقولي واخبري خبرا يقينا
وهذي أمّة هلكوا وضلّوا ... وغاروا [5] لاسقوا ماء معينا
يقولون: النبيّ أبو غفير ... فأخزى الله أمّ الكاذبينا
ألم تسمع ولم تر لؤم بيت [6] ... على آثار خيلهم ربينا [7]
وهنّ الباكيات فبين ثكلى ... وعادمة [8] ومسقطة جنينا
__________
[1] وفي النسخة التونسية: وريا.
[2] وفي النسخة التونسية: زاهدا في الدنيا.
[3] وفي النسخة التونسية: ضرب.
[4] وفي النسخة الباريسية: وسط السوق.
[5] وفي النسخة التونسية: وخابوا.
[6] وفي النسخة الباريسية: يهث بيت وفي التونسية يوم بيت.
[7] وفي النسخة التونسية: رنينا.
[8] وفي النسخة التونسية: وعاوية.

(6/277)


ستعلم أهل تامسنا إذا ما ... أتوا يوم القيامة مقطعينا
هنالك يونس وبنو أبيه ... يقودون البرابر حائرينا
إذا زر ياور طافت عليهم ... جبهتهم بأيدي المنكرينا [1]
فليس اليوم يومكم ولكن ... ليالي كنتم متيسّرينا
واتخذ أبو غفير من الزوجات أربعا وأربعين، وكان له من الولد مثلها وأكثر. وهلك أخريات المائة الثالثة لتسع وعشرين سنة من ملكه، وولي بعده ابنه أبو الأنصار عبد الله فاقتفى سننه وكان كثير الدّعة مهابا عند ملوك عصره يهادونه ويدافعونه بالمواصلة، وكان يلبس الملحفة والسراويل ويلبس المخيط، ولا يعتم أحد في بلاده إلّا الغرباء. وكان حافظا للجار وفيا بالعهد، وتوفي سنة إحدى وأربعين من المائة الرابعة لأربع وأربعين سنة من ملكه، ودفن بأمسلاخت وبها قبره. وولي بعده ابنه أبو منصور عيسى ابن اثنتين وعشرين سنة، فسار سير آبائه وادّعى النبوّة والكهانة، واشتد أمره وعلا سلطانه ودانت له قبائل المغرب.
(قال زمور) : وكان فيما أوصاه به أبوه: يا بني! أنت سابع الأمراء من أهل بيتك، وأرجو أن يأتيك صالح بن طريف. قال زمور: وكان عسكره يناهز الثلاثة آلاف من برغواطة وعشرة آلاف من سواهم مثل جراوة وزواغة والبرانس ومجاصة [2] ومضغرة ودمّر ومطماطة وبنو وارزكيت. وكان أيضا بنو يفرن وآحدة وركامة [3] وايزمنّ ورصافة ورغصرارة على دينهم، ولم تسجد ملوكهم إلا له منذ كانوا أهـ. كلام زمور وكان لملوك العدوتين في غزو برغواطة هؤلاء وجهادهم أثناء هذا وبعده آثار عظيمة من الأدارسة والأموية والشيعة. ولما أجاز جعفر بن علي من الأندلس إلى المغرب وقلّده المنصور بن أبي عامر عمله سنة ست وستين وثلاثمائة فنزل البصرة، ثم اختلف ذات بينه وبين أخيه يحيى واستمال عليه أخوه الجند وأمراء زناتة، فتجافى له جعفر عن العمل وصرف وجهه إلى جهاد برغواطة معتدّه من صالح عمله، وزحف إليهم في أهل المغرب وكافة الجند الأندلسيّين فلقوه ببسيط [4] بلادهم، وكانت عليه الدبرة،
__________
[1] وفي النسخة التونسية: إذا وريا ورى رمت عليهم جهنم قائد المستكبرينا.
[2] وفي نسخة أخرى: مجكصة.
[3] وفي نسخة أخرى: إصادة وركانة.
[4] وفي نسخة ثانية: وسط.

(6/278)


ونجا بنفسه في فلّ من جنده، ولحق بأخيه بالبصرة. ثم أجاز بعدها إلى المنصو باستدعائه، وترك أخاه يحيى على عمل المغرب. ثم حاربتهم أيضا صنهاجة لمّا غزا بلكّين بن زيري المغرب سنة ثمان وستين وثلاثمائة بعدها وأجفلت زناتة أمامه وانزووا إلى حائط سبتة، وامتنعوا منه بأعوادها فانصرف عنهم إلى جهاد برغواطة، وزحف إليهم فلقيه أبو منصور عيسى بن أبي الأنصار في قومه، وكانت عليهم الهزيمة.
وقتل أبو منصور وأثخن فيهم بلكّين بالقتل، وبعث سبيهم إلى القيروان وأقام بالمغرب يردّد الغزو فيهم إلى سنة اثنتين وسبعين [وثلاثمائة] وانصرف من المغرب فهلك في طريقه إلى القيروان. ولم أقف على من ملك أمرهم بعد أبي منصور. ثم حاربتهم أيضا جنود المنصور بن أبي عامر لما عقد عبد الملك بن المنصور لمولاه واضح إمرة برغواطة هؤلاء فيمن قبله من الأجناد وأمراء النواحي وأهل الولاية، فعظم الأثر فيهم بالقتل والسبي. ثم حاربهم أيضا بنو يفرن لما استقل أبو يعلى بن محمد اليفرني من بعد ذلك بناحية سلا من بلاد المغرب. واقتطعوهم من عمل زيري بن عطية المغراوي بعد ما كان بينهما من الحروب.
وانتساب أولاد يعلى هؤلاء إلى تميم بن زيري بن يعلى في أوّل المائة الخامسة، وكان موطنا بمدينة سلا ومجاورا لبرغواطة، فكان له أثر كبير في جهادهم، وذلك في سني عشرين وأربعمائة، فغلبهم على تامسنا وولّى عليها من قبله بعد أن أثخن فيهم سبيا وقتلا. ثم تراجعوا من بعده إلى أن جاءت دولة لمتونة وخرجوا من مواطنهم بالصحراء إلى بلاد المغرب، وافتتحوا الكثير من معاقل السوس الأقصى وجبال المصامدة. ثم بدا لهم جهاد برغواطة بتامسنا وما إليها من الريف الغربي فزحف إليهم أبو بكر بن عمر أمير لمتونة في المرابطين من قومه، وكانت له فيهم وقائع استشهد في بعضها صاحب الدعوة عبد الله ابن ياسين الكبروي [1] سنة خمسين وأربعمائة، واستمرّ أبو بكر وقومه من بعده على جهادهم حتى استأصلوا شأفتهم ومحوا من الأرض آثارهم وكان صاحب أمرهم لعهد انقراض دولتهم أبو حفص عبد الله من أعقاب أبي منصور عيسى بن أبي الأنصار عبد الله بن أبي غفير محمد بن معاد بن اليسع بن صالح بن طريف، فهلك في حروبهم وعليه كان انقراض أمرهم وقطع دابرهم على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الكزولي أو الجزولي كما في قبائل المغرب/ 323.

(6/279)


يد هؤلاء المرابطين [1] ، والحمد للَّه رب العالمين. وقد نقل بعض الناس في نسب برغواطة فبعضهم يعده في قبائل زناتة، وآخرون يقولون في صالح إنه يهوديّ من ولد شمعون بن يعقوب نشأ برباط ورحل إلى المشرق، وقرأ على عبد الله المغربي واشتغل بالسحر، وجمع فنونا وقدم المغرب ونزل تامسنا فوجد بها قبائل جهّالا من البربر فأظهر لهم الزهد وسحرهم بلسانه، وموّه عليهم فقصدوه واتّبعوه، فادّعى النبوّة وقيل له برباطي نسبة إلى الموطن الّذي نشأ به، وهو برباط واد بحصن شريش من بلاد الأندلس، فعرّبت العرب هذا الاسم وقالوا برغواط، ذكر ذلك كلّه صاحب كتاب الجوهر وغيره من النسّابين للبربر وهو من الأغاليط البيّنة. وليس القوم من زناتة ويشهد لذلك موطنهم وجوارهم لإخوانهم المصامدة. وأمّا صالح بن طريف فمعروف منهم وليس من غيرهم، ولا يتم الملك والتغلّب على النواحي والقبائل لمنقطع جذمة دخيل في نسبه. سنة الله في عباده وإنما نسب الرجل برغواطة وهم شعب من شعوب المصامدة شعب معروف كما ذكرناه والله ولي المتقين.
(الخبر عن غمارة من بطون المصامدة وما كان فيهم من الدول وتصاريف أحوالهم)
هذا القبيل من بطون المصامدة من ولد غمار بن مصمود، وقيل غمار بن مسطاف [2] ابن مليل بن مصمود وقيل غمار بن أصاد بن مصمود. ويقول بعض العامّة أنهم
__________
[1] كانت المنطقة التي شاعت فيها ديانة برغواطة هي منطقة تامسنا بالمغرب الأقصى الممتدة من نهر سلا (أحد روافد نهر أبي رقراق الحالي) الى نهر أم الربيع، أي ما يعادل المنطقة التي تسكن فيها حاليا قبائل الشاوية وزعير، وكانت في الأصل موطنا لزناتة وزواغة حتى نزل بها طريف صاحب ميسرة الحقير الّذي سنّ لأهلها مذهبا لم يلبث ابنه صالح ان صيّره ديانة، فانضمت اليهم قبائل أخرى عرفوا وإياهم باسم المذهب الّذي يدينون به، وقد استمر هذا المذهب قائما الى منتصف القرن الخامس الهجريّ، ولكن أتباعه بقوا منذ تأسيسه معرّضين لهجمات الإمارات والممالك الإسلامية بالمغرب والأندلس وتنكيلها، ومن أشهر الأمراء والقواد الذين فتكوا بهم الأمير تميم اليفرني بعد سنة 420 هـ والفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي داعية الموحدين الّذي استشهد وهو يقاتلهم بكريغلة من أرض زعير سنة 450 هـ. وقد اندثر اسم برغواطة منذ ذلك التاريخ وحلّ محل أتباعه في مواطنهم وشاركهم فيها قبائل عربية طارئة وأخرى بربرية متعرّبة مثل مالك وسفيان وعامر وحصين، والشاوية وزعير. (قبائل المغرب/ 323) .
[2] سطاف: قبائل المغرب/ 325.

(6/280)


عرب غمروا في تلك الجبال فسمّوا غمارة، وهو مذهب عاميّ، وهم شعوب وقبائل أكثر من أن تحصر. والبطون المشهورة منهم بنو حميد ومثيوه وبنو فال وأغصاوه، وبنو وزروال ومجكسة، وهم آخر مواطنهم يعتمرون رحاب [1] الريف بساحل بحر الدر من عن يمين بسائط المغرب، من لدن غساسة فتكرّر [2] فبادس فتبكيساس فتيطّاوين فسبتة فالقصر الى طنجة خمس مراحل أو أزيد، أوطنوا منها جبالا شاهقة اتصل بعضها ببعض سياجا بعد سياج خمس مراحل أخرى في العرض إلى أن يتخطّى بسائط قصر كتامة ووادي ورغة من بسائط المغرب، ترتدّ عنها الأبصار وتنزل في حافاتها الطيور لا بل الهوام وينفسح في رءوسها وبين قننها الفجاج، سبل السفر ومراتع السائمة وفدن الزراعة وادواح الرياض.
ويتبين لك أنهم من المصامدة بقاء هذا النسب المحيط سمة لبعض شعوبهم يعرفون بمصمودة ساكنين ما بين سبتة وطنجة، وإليهم ينسب قصر المجاز الّذي يعبر منه الخليج البحري إلى بلد طريف، ويعضده أيضا اتصال مواطنهم بمواطن برغواطة من شعوب المصامدة بريف البحر الغربي وهو المحيط، إذ كان بنو حسّان منهم موطنين بذلك الساحل من لدن آزغر وأصيلا إلى أنفى، من هنالك تتصل بهم مواطن برغواطة ودوكالة إلى قبائل درن من المصامدة فما وراءها من بلاد القبلة.
فالمصامدة هم أهل الجبال بالمغرب الأقصى إلّا قليلا منها وغيرهم في البسائط. ولم تزل غمارة هؤلاء بمواطنهم هذه من لدن الفتح، ولم يعلم ما قبل ذلك.
وللمسلمين فيهم أزمان الفتح وقائع الملاحم وأعظمها لموسى بن نصير وهو الّذي حملهم على الإسلام واسترهن أبناءهم وأنزل منهم عسكرا مع طارق بطنجة. وكان أميرهم لذلك العهد يليان وهو الّذي وفد عليه موسى بن نصير وأعانه في غزو الأندلس، وكان منزله سبتة كما نذكره، وذلك قبل استحواء تاتكور [3] وكانت في غمارة هؤلاء بعد الإسلام دول قاموا بها لغيرهم وكان فيهم متنبئون، ولم تزل الخوارج تقصد جبالهم للمنعة فيها، كما نذكره إن شاء الله تعالى [4] .
__________
[1] وفي نسخة ثانية: جبال الريف بساحل البحر الرومي.
[2] وفي نسخة ثانية: فتكوّر.
[3] وفي نسخة أخرى نكور.
[4] كانت مواطن غمارة تمتد على ساحل البحر المتوسط من حد بلاد الريف الى المحيط الأطلسي، ثم تمتد على

(6/281)


(الخبر عن سبتة ودولة بني عصام بها)
نت سبتة هذه من الأمصار القديمة قبل الإسلام، وكانت يومئذ منزل يليان ملك ارة، ولما زحف إليه موسى بن نصير صانعه بالهدايا وأذعن للجزية، فأقرّه عليها سترهن ابنه وأبناء قومه، وأنزل طارق بن زياد بطنجة للجزية، وضرب عليهم مسكر للنزول معه. ثم كانت إجازة طارق إلى الأندلس فضرب عليهم البعوث، كان الفتح لا كفاء له كما مرّ في موضعه. ولما هلك يليان استولى العرب على مدينة سبتة صلحا من أيدي قومه فعمّروها. ثم كانت فتنة ميسرة الحقير وما دعا إليه من سلالة الخارجيّة، وأخذ بها الكثير من البرابرة من غمارة وغيرهم، فزحف من برابرة سنجة إلى سبتة وأخرجوا العرب منها وسبوها وخرّبوها فبقيت خلاء.
نزل بها ماجكس من رجالاتهم ووجوه قبائلهم، وبه سميت مجكسة فبناها ورجع إليها الناس وأسلم. وسمع من أهل زمانه إلى أن مات فقام بأمره ابنه عصام ووليها هرا. ولما هلك قام بأمره ابنه مجير فلم يزل واليا عليها إلى أن هلك، ووليها أخوه يرضي ويقال إنه ابنه، وكانوا يعطون لبني إدريس طاعة مضعفة كما نذكره. ولما سما لناصر أمل في ملك المغرب، وتناول حبله من أيدي بني إدريس المالكين ببلاد لهبط وغمارة حين أجهضتهم كتامة [1] وزناتة عن ملكهم بفاس، وقاموا بدعوة لناصر وبثوها في أعمالهم نزلوا حينئذ للناصر عن سبتة، وأشاروا له إلى تناولها من بني عاصم، فسرّح إليها عساكره وأساطيله مع قائده نجاح بن غفير، فكان فتحها سنة
__________
[ () ] السهول الساحلية حيث كان يسكن بنو حسان منهم قبل دخول العرب الهلاليين حتى تصل الى تامسنا، حيث مواطن قبائل برغواطة. ثم حدثت تغيرات كثيرة في مساكن القبائل المصمودية منذ القرن السادس الهجريّ الّذي غمرت فيه المغرب موجات من العرب الهلاليين والمنضافين اليهم، فزاحموا قبائل البربر ومنهم غمارة بالسهول وألجئوها إلى الجبال، واضطر من بقي منها في غير الجبل الى التعرّب والاندماج فيهم، وقد تضاءلت المنطقة التي تسكنها القبائل المسماة اليوم غمارة وهي واقعة الى الجنوب الشرقي من تطواف على ساحل البحر ولكن قبائل غمارة المعروفة بأسمائها الفرعية ما زالت تعمر منطقة أوسع وأكبر. كما ان قبائل أخرى معروفة بالاسم الأصلي أو الأسماء الفرعية انتقلت من مواطنها الاولى الى مواطن جديدة بالمغرب الأقصى والمغرب الأوسط (قبائل المغرب/ 325- 326) .
[1] وفي نسخة ثانية: مكناسة.

(6/282)


تسع عشرة وثلاثمائة، ونزل له الرضي بن عصام عنها وآتاه طاعته وانقرض أمر بني عصام. وصارت سبتة إلى الناصر حتى استولى عليها بعد حين بنو حمّاد واستحدثوا بعدها دولة أخرى كما نذكره.
(الخبر عن بني صالح بن منصور ملوك نكور ودولتهم في غمارة وتصاريف أحوالهم)
لما استولى المسلمون أيام الفتح على بلاد المغرب وعمالاتها واقتسموه وأمدّهم الخلفاء بالبعوث إلى جهاد البربر، وكان فيهم من كل القبائل من العرب. وكان صالح بن منصور الحميري من عرب اليمن في البعث الأوّل. وكان يعرف بالعبد الصالح فاستخلص نكور لنفسه، واقطعه إياها الوليد بن عبد الملك في أعوام إحدى وتسعين من الهجرة، قاله صاحب المقياس، وبلد نكور ينتهي من المشرق إلى زواغة وجراوة ابن أبي الحفيظ [1] مسافة خمسة أيام وتجاوره من هنالك مطماطة، وأهل كدالة، ومرنيسة وغساسة أهل جبل مزك [2] وقلوع جاره التي لبني ورتندي، ولميد وزناتة، وينتهي من المغرب إلى مروان من غمارة، وبني حميد إلى مسطاسة وصنهاجة ومن ورائهم أوربة، حزب فرحون وبني ولميد وزناتة وبني يرنيان وبني واسن حزب قاسم صاحب صا والبحر جوفي نكور على خمسة أميال، فأقام صالح هنالك لما اقتطع أرضها وكثر نسله واجتمع إليه قبائل غمارة وصنهاجة مفتاح وأسلموا على يده وقاموا بأمره، وملك تكسامان [3] ، وانتشر الإسلام فيهم. ثم ثقلت عليهم الشرائع والتكاليف وارتدّوا وأخرجوا صالحا وولّوا عليهم رجلا من نفزة يعرف بالرندي.
ثم تابوا وراجعوا الإسلام وراجعوا صالحا فأقام فيهم إلى أن هلك بتلمسان [4] سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وولي أمره من بعده ابنه المعتصم بن صالح، وكان شهما شريف النفس كثير العبادة. وكان يلي الصلاة والخطبة لهم بنفسه، ثم هلك لأيام
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابن أبي السميع.
[2] وفي نسخة أخرى: جبل هرك.
[3] وفي نسخة أخرى: تمسامان.
[4] وفي نسخة أخرى: بتمسامان.

(6/283)


يسيرة وولي من بعده أخوه إدريس، فاختطّ مدينة نكور في عدوة الوادي ولم يكملها. وهلك سني ثلاث وأربعين ومائة وولي من بعده ابنه سعيد، واستفحل أمره، وكان ينزل مدينة تكسامان، ثم اختط مدينة نكور لأوّل ولايته ونزلها وهي التي تسمى لهذا العهد المزمة بين نهرين أحدهما نكور مخرجه من بلاد كزنارية [1] ومخرجه من مخرج وادي ورغة واحد، والثاني غيس [2] ومخرجه من بلد بني ورياغيل، يجتمع النهران في آكال [3] ، ثم يفترقان إلى البحر ويقال نكور من عدوة الأندلس بزليانة.
وغزا المجوس نكور هذه في أساطيلهم سنة أربع وأربعين ومائة فغلبوا عليها واستباحوها ثمانيا. ثم اجتمع إلى سعيد البرانس، وأخرجوهم عنها، وانتقضت غمارة بعدها على سعيد فخلعوه وولّوا عليهم رجلا منهم اسمه مسكن [4] وتزاحفوا فأظهره الله عليهم وفرّق جماعتهم وقتل مقدّمهم واستوسق أمره إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين ومائة لسبع وثلاثين من أيامه. وقام بأمره ابنه صالح بن سعيد فتقبّل مذهب سلفه في الاستقامة والاقتداء وكان له مع البربر حروب ووقائع إلى أن هلك سنة خمسين ومائتين لاثنتين وسبعين سنة من ملكه.
وقام من بعده ابنه سعيد بن صالح وكان أصغر ولده فخرج إليه أخوه عبد الله وعمّه الرضي وظفر بهما بعد حروب كثيرة، فغرّب أخاه إلى المشرق ومات بمكة وأبقى على عمّه الرضي لذمة صهر بينهما. وقتل سائر من ظفر به من عمومته وقرابته، وأنهض لهما [5] سعادة الله بن هارون منهم، ولحق ببني يصليتن أهل جبل أبي الحسن ودلّهم على عورته. وبيّتوا معسكره واستولوا عليه، وأخذوا الآلة، وقتل منهم خلقا، ونجا سعادة الله بتلمسان [6] وتقبّض على أخيه ميمون فضرب عنقه. ثم سار سعادة الله إلى طلب الصلح فأسعفه وأنزله معه مدينة نكور، ثم غزا سعيد بقومه وأهل إيالته من غمارة بلاد بطوية ومرنيسة وقلوع جاره ورتندي وأصهر بأخيه إلى أحمد بن إدريس
__________
[1] وفي نسخة أخرى: كزناية وفي النسخة الباريسية: كزيانة.
[2] وفي النسخة الباريسية: عيش. وفي نسخة ثانية: عيس.
[3] وفي نسخة أخرى: آكدال.
[4] وفي نسخة أخرى: مسكن.
[5] وفي نسخة أخرى: وامتعض لهم.
[6] وفي نسخة أخرى: الى تمسامان

(6/284)


بن محمد بن سليمان صاحبه. وأنزله مدينة نكور معه. وتوطأ الأمر لسعيد في تلك النواحي إلى أن خاطبه عبد الله المهدي يدعوه إلى أمره وفي أسفل كتابه لهم:
وإن تستقيموا أستقم بصلاحكم ... وإن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا
وأعلو بسيفي قاهرا لسيوفكم ... وأدخلها عفوا واملؤها قتلا
فكتب إليه شاعره الأحمس الطليطلي بأمر يوسف بن صالح أخي الأمير سعيد:
كذبت وبيت الله ما تحسن العدلا ... ولا علم الرحمن من قولك الفضلا
وما أنت إلّا جاهل ومنافق ... تمثّل للجهّال في السنّة المثلى
وهمّتنا العليا لدين محمّد ... وقد جعل الرحمن همّتك السفلى
فكتب عبد الله إلى مصالة بن حبّوس صاحب تاهرت، وأغزى إليه فغزاه سنة أربع وثلاثمائة لأربع وخمسين من دولته، فغلبهم سعيد وقومه أياما. ثم غلبهم مصالة وقتلهم، وبعث برءوسهم إلى رقادة، فطيف بها وركب بقيتهم البحر إلى مالقة، فتوسّع الناصر في إنزالهم إجارتهم واستبلغ في تكريمهم وأقام مصالة بمدينة نكور ستة أشهر. ثم قفل إلى تاهرت وولّى عليها دلول من كتامة، فانفضّ العسكر من حوله، وبلغ الخبر إلى بني سعيد بن صالح وقومهم بمالقة، وهمّ إدريس والمعتصم وصالح، فركبوا السفن إليها، وسبق صالح إليها منهم، فاجتمع البربر بمرسى تكسامان وبايعوه سنة خمس وثلاثمائة، ولقّبوه القيّم لصغره، وزحفوا إلى دلول فظفروا به وبمن معه وقتلوهم، وكتب صالح بالفتح إلى الناصر، وأقام دعوته بأعماله وبعث إليه الناصر بالهدايا والتحف والآلة، ووصل إليه إخوته وسائر قومه وأتوا طاعة.
ولم يزل على هدى أوّليه من الاقتداء إلى أن هلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة وولي بعده ابنه عبد البديع، ولقّب المؤيد، وزحف إليه موسى بن أبي العافية القائم بدعوة العبيديين بالمغرب، فحاصره وتغلّب عليه فقتله، واستباح المدينة وخرّبها سنة سبع عشرة وثلاثمائة. ثم راجع إليها وقام بأمرهم أبو نور [1] إسماعيل بن عبد الملك بن عبد الرحمن بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور وأعاد المدينة التي بناها صالح بن منصور وعمّرها وسكنها ثلاثا. ثم أغزى ميسور مولى أبي القاسم بن عبد الله صندلا مولاه عند ما أناخ على فاس، فبعث عسكرا مع صندل هذا فحاصر جراوة، ثم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أبو أيوب.

(6/285)


عطف على نكور وتحصّن منه إسماعيل بن عبد الملك بفلعة اكدى. وبعث إليه صندل رسله من طريقه فقتلهم فأغذّ السير وقاتله ثمانية أيام.
ثم ظفر به فقتله واستباح القلعة وسباها، واستخلف عليها من كتامة رجلا اسمه مرمازو، ووصل صندل إلى فاس فترافع أهل نكور وبايعوا الموسى بن المعتصم بن محمد بن قرّة بن المعتصم بن صالح بن منصور وكان عند أبي الحسن عند يصليتن وكان يعرف بابن رومي.
وقال صاحب المقياس: هو موسى بن رومي بن عبد السميع بن رومي بن إدريس بن صالح بن إدريس بن صالح بن منصور، وأخذ مرمازو ومن معه وضرب أعناقهم، وبعث برءوسهم إلى الناصر. ثم ثار عليه من أعياص بيته عبد السميع بن جرثم بن إدريس بن صالح بن منصور، فخلعه وأخرجه عن نكور سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ولحق موسى بالأندلس ومعه أهله وولده وأخوه هارون بن رومي وكثير من عمومته وأهل بيته، فمنهم من نزل معه المريّة ومنهم من نزل مالقة. ثم انتقض أهل نكور على عبد السميع وقتلوه. واستدعوا من مالقة جريج [1] بن أحمد بن زيادة الله بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور، فبادر إليهم وبايعوه سنة ست وثلاثين وثلاثمائة فاستقامت له الأمور وكان على مذهب سلفه في الاقتداء والعمل بمذهب مالك إلى أن مات آخر سنة ستين وثلاثمائة لخمس وعشرين سنة من ملكه، واتصلت الولاية في بنيه إلى أن غلب عليهم أزداجة المتغلّبون على وهران، وزحف أميرهم يعلى بن أبي الفتوح الأزداجي سنة ست وأربعمائة، وقتل سنة عشر فغلبهم على نكور وخرّبها، وانقرض ملكهم بعد ثلاثمائة سنة وأربعة عشر سنة من لدن ولاية صالح، وبقيت في بني يعلى بن أبي الفتوح وأزداجة إلى أعوام ستين وأربعمائة والله مالك الأمور لا إله إلا هو أهـ.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: جرثم.

(6/286)


(الخبر عن حاميم المتنبي من غمارة)
كان غمارة هؤلاء عريقين في الجاهلية بل الجهالة والبعد عن الشرائع بالبداوة والانتباذ عن مواطن الخير، وتنبّأ فيهم من مجكسة حاميم بن من الله بن جرير بن عمر بن رحفو [1] بن آزوال [2] بن مجكسة يكنّى أبا محمد وأبوه أبو خلف. تنبّأ سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة بجبل حاميم المشتهر به قريبا من تطوان، واجتمع إليه كثير منهم وأقرّوا بنبوّته وشرع لهم الشرائع والديانات من العبادات والأحكام، وصنع لهم قرآنا كان يتلوه عليهم بلسانه. فمن كلامه: «يا من يخلى البصر، ينظر في الدنيا، خلني من الذنوب يا من أخرج موسى من البحر آمنت بحاميم وبأبيه أبي خلف من الله وآمن رأسي وعقلي وما يكنّه صدري، وما أحاط به دمي ولحمي، وآمنت تبانعنت [3] عمّة حاميم أخت أبي خلف من الله» ، وكانت كاهنة ساحرة إلى غير هذا، وكان يلقّب المفتري، وكانت أخته دبّو ساحرة كاهنة، وكانوا يستغيثون بها في الحروب والقحوط، وقتل في حروب مصمودة بأحواز طنجة سنة خمسة عشر وثلاثمائة، وكان لابنه عيسى من بعده قدر جليل في غمارة، ووفد على الناصر. ورهطهم بنو زحفوا موطنون وادي لاو ووادي راس قرب تطوان، وكذلك تنبّأ منهم بعد ذلك عاصم بن جميل اليزدجومي، وله أخبار مأثورة، وما زالوا يفعلون السحر لهذا العهد. وأخبرني المشيخة من أهل المغرب أن أكثر منتحلي السحر منهم النساء العواتق. قال: ولهم علم استجلاب روحانية ما يشاؤنه من الكواكب، فإذا استولوا عليه وتكنّفوا بتلك الروحانية تصرّفوا منها في الأكوان بما شاءوا والله أعلم.
(الخبر عن دولة الادارسة وهي غمارة وتصاريف أحوالهم)
كان عمر بن إدريس عند ما قسّم محمد بن إدريس أعمال المغرب بين إخوته برأي
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: وصفوال.
[2] وفي نسخة أخرى: آزروال.
[3] وفي نسخة أخرى: بنابعيت وفي النسخة الباريسية: بتايغيت.

(6/288)


جدّته كثيرة [1] أمّ إدريس اختصّ منها بتكيباس [2] وترغه وبلاد صنهاجة وغمارة، واختص القاسم بطنجة وسبتة والبصرة وما إلى ذلك من بلاد غمارة. ثم غلب عمر عليها عند ما تنكّر له أخوه محمد واستضافها إلى عمله كما ذكرنا في أخبارهم. ثم تراجع بنو محمد بن القاسم من بعد ذلك إلى عملهم الأول فملكوه، واختص منهم محمد بن إبراهيم بن محمد بن القاسم قلعة حجر النسر الدانية وسبتة معقلا لهم وثغرا لعملهم. وبقيت الإمارة بفاس وأعمال المغرب في ولد محمد بن إدريس. ثم أدالوا منهم بولد عمر بن إدريس، وكان آخرهم يحيى بن إدريس بن عمر وهو الّذي بايع لعبيد الله الشيعي على يده مصالة بن حبّوس قائده، وعقد له على فاس، ثم نكبه سنة تسع وثلاثمائة.
وخرج عليها سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة من بني القاسم الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس وتلقّب الحجّام لطعنه في المحاجم، وكان مقداما شجاعا، وثار أهل فاس بريحان وملّكوا الحسن، وزحف إليه موسى ففلّه ومات. واستولى ابن أبي العافية على فاس وأعمال المغرب، وأجلى الأدارسة وأحجرهم بحصنهم حجر النسر، وتحيّزوا إلى جبال غمارة وبلاد الريف، وكان لغمارة في التمسّك بدعوتهم آثار ومقامات، واستجدوا بتلك الناحية ملكا توزّعوه قطعا، كان أعظمها لبني محمد هؤلاء ولبني عمر بتيكيسان [3] ونكور وبلاد الريف. ثم سما الناصر عبد الرحمن إلى ملك العدوة ومدافعة الشيعة فنزل له بنو محمد عن سبتة سنة تسع وثلاثمائة وتناولها من يد الرضي بن عصام رئيس محكمة، وكان يقيم فيها دعوة الأدارسة فأفرجوا له عنها ودانوا بطاعته وأخذها من يده ولما أغزا أبو القاسم ميسورا إلى المغرب لمحاربة ابن أبي العافية حين نقض طاعتهم ودعا للمروانية وجدّ بنو محمد السبيل إلى الانتصار والانتقام منه بمظاهرة ميسور عليه، وما لأهم على ذلك بنو عمر صاحب نكور.
ولما استقل ابن أبي العافية من نكسته ورجع من الصحراء سنة خمس وعشرين
__________
[1] وفي نسخة أخرى: كنزة.
[2] وفي نسخة أخرى: تيكيساس.
[3] وفي نسخة أخرى: بتيكيساز وقد مرت معنا من قبل تيكيساس وهو الاسم الصحيح، وقد وردت في المعجم التاريخي تيجيساس: مدينة صغيرة ومرسى بحري وأنها محاطة بالحدائق الغنّاء.

(6/289)


وثلاثمائة منصرف ميسور من المغرب نازل بني محمد وبني عمرو هلك بعد ذلك. وأجاز الناصر وزيره قاسم بن محمد بن طملس سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة لحربهم، وكتب إلى ملوك مغراوة محمد بن خزر وابنه الخير بمظاهرة عساكره مع ابن أبي العيش عليهم، فتسارع أبو العيش بن إدريس بن عمر المعروف بابن وصالة، الى الطاعة، وأوفد رسله إلى الناصر فعقد له الأمان، وأوفد ابنه محمد بن أبي العيش مؤكدا للطاعة، فاحتفل لقدومه وأكّد له العقد، وتقبّل سائر الادارسة من بني محمد مذهبهم.
وسألوا مثل سؤالهم، فعقد لجميع بني محمد أيضا، وكان وفد منهم محمد بن عيسى ابن أحمد بن محمد والحسن بن القاسم بن إبراهيم بن محمد، وكان بنو إدريس يرجعون في رياستهم إلى بني محمد هؤلاء منذ استبدّ بها آخرهم الحسن بن محمد الملقّب بالحجّام في ثورته على ابن أبي العافية، فقدّموا على أنفسهم القاسم بن محمد الملقّب بكنّون بعد فرار موسى بن أبي العافية، وملك بلاد المغرب ما عدا فاس مقيما لدعوة الشيعة إلى أن هلك بقلعة حجر النسر سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وقام بأمرهم من بعده أبو العيش أحمد بن القاسم كنّون، وكان فقيها عالما بالأيام والأخبار شجاعا ويعرف بأحمد الفاضل، وكان منه ميل للمروانية فدعا للناصر، وخطب له على منابر عمله ونقض طاعة الشيعة. وبايعه أهل المغرب كافة إلى سجلماسة.
ولما بايعه أهل فاس استعمل عليهم محمد بن الحسن ووفد محمد بن أبي العيش بن إدريس بن عمر بن مصالة على الناصر عن أبيه سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة فاتصل به وفاة أبيه وهو بالحضرة فعقد له الناصر على عمله وسرّحه، وهجم عيسى ابن عمه أبي العيش أحمد بن القاسم كنّون على عمله بتيكيسان في غيبة محمد، فملكها واحتوى على مال ابن مصالة ولما أقبل محمد من الحضرة زحف برابرة غمارة إلى عيسى المذكور ابن كنّون ففظّعوا به وأثخنوه جراحة، وقتلوا أصحابه ببلاد غمارة. وأجاز الناصر قوّاده إلى المغرب، وكان أوّل من أجاز إلى بني محمد هؤلاء سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة أحمد بن يعلى من طبقة القوّاد، أجازه إليهم في العساكر ودعاهم إلى هدم تطوان فامتنعوا، ثم انقادوا وتنصّلوا وأجابوا إلى هدمها.
ورجع عنهم فانتقضوا فسرّح إليهم حميد بن يصل [1] المكناسي في العساكر سنة تسع
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: نصل وفي نسخة ثانية: مصل.

(6/290)


وثلاثين وثلاثمائة وزحفوا إليه بوادي لاو فأوقع بهم فأذعنوا من بعدها، وتغلّب الناصر على طنجة من يد أبي العيش أمير بني محمد وبقي يصل على بيعة الناصر. ثم تخطّت عساكر الناصر إلى بسائط المغرب فأذعن له أهله، وأخذ بدعوته فيه أمراء زناتة من مغراوة وبني يفرن ومكناسة كما ذكرناه، فضعف أمر بني محمد واستأذنه أميرهم أبو العيش في الجهاد فأذن له وأمر ببناء القصور له في كل مرحلة من الجزيرة إلى الثغر، فكانت ثلاثين مرحلة، فأجاز أبو العيش واستخلف على عمله أخاه الحسن بن كنّون، وتلقّاه الناصر بالمبرّة وأجرى له ألف دينار في كل يوم، وهلك شهيدا في مواقف الجهاد سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة ولما أغزا معدّ قائده جوهرا الكاتب الى المغرب واستنزل عماله، وتحصّن الحسن بن كنّون منه بقلعة النسر معقلهم. وبعث إليه بطاعته فلم يعرض له جوهر. ولما قفل من المغرب راجع الحسن الطاعة للناصر إلى أن هلك سنة خمسين وثلاثمائة فأشحذ الحكم عزمه في سد ثغور المغرب وإحكام دعوتهم فيه. وشحذ لها عزائم أوليائهم من ملوك زناتة، فكان بينهم وبين زيري وبلكّين ما ذكرناه. ثم أغزى معدّ بلكّين بن زيري المغرب سنة اثنتين وستين وثلاثمائة أولى غزواته، فأثخن في زناتة وأوغل في ديار المغرب. وقام الحسن بن كنّون بدعوة الشيعة ونقض طاعة المروانية، فلما انصرف بلكّين أجاز الحكم عساكره إلى العدوة مع وزيره محمد بن قاسم بن طملس سنة اثنتين وستين وثلاثمائة لقتال الحسن بن كنّون وبني محمد، فكان الظهور والفلاح للحسن على عسكر الحكم.
وقتل قائده محمد بن طملس وخلقا كثيرا من عسكره وأوليائه. ودخل فلّهم إلى سبتة واستصرخوا الحكم، فبعث غالبا مولاه البعيد الصيت المعروف بالشهامة، وأمدّه بما يعينه على ذلك من الأموال والجنود، وأمره باستنزال الأدارسة وأجاز بهم إليه، وقال سريا غالب مسير من لا إذن له في الرجوع إلّا حيّا منصورا أو ميتا معذورا. واتصل خبره بالحسن بن كنّون فأفرج عن مدينة البصرة واحتمل منها أمواله وحرمه وذخيرته إلى حجر النسر معقلهم القريب من سبتة، ونازلة غالب بقصر مصمودة فاتصلت الحرب بينهم أياما.
ثم بثّ غالب المال في رؤساء البربر من غمارة ومن معه من الجنود وفرّوا وأسلموه، وانحجز بقلعة جبل النسر [1] ونازلة غالب وأمدّه الحكم بعرب الدولة ورجال الثغور،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حجر النسر. وهو الأصح. كما في قبائل المغرب/ 116.

(6/291)


وأجازهم مع وزيره صاحب الثغر الأعلى يحيى بن محمد بن إبراهيم التجيبي فيمن معه من أهل بيته وحشمه سنة ثلاث وستين وثلاثمائة فاجتمع مع غالب على القلعة، واشتدّ الحصار على الحسن، وطلب من غالب الأمان فعقد له وتسلّم الحصن من يده. ثم عطف على من بقي من الأدارسة ببلاد الريف فأزعجهم وسيرهم شردا، واستنزل جميع الأدارسة من معاقلهم وسار إلى فاس فملكها واستعمل عليها محمد بن علي بن قشوش في عدوة القرويين، وعبد الكريم بن ثعلبة الجذامي في عدوة الأندلس. وانصرف غالب إلى قرطبة ومعه الحسن بن كنّون وسائر ملوك الأدارسة، وقد مهّد المغرب وفرّق عماله في جهاته، وقطع دعوة الشيعة، وذلك سنة أربع وستين وثلاثمائة، وتلقّاهم الحكم وأركب الناس للقائهم. وكان يوم دخولهم إلى قرطبة أحفل أيام الدولة.
وعفا عن الحسن بن كنّون ووفّى له بالعهد، وأجزل له ولرجاله العطاء والخلع والجعالات، وأوسع عليه الجراية وأسنى لهم الأرزاق ورتّب من حاشيتهم في الديوان سبعمائة من أنجاد المغاربة. وتجنّى عليه بعد ثلاث سنين بسؤاله من الحسن قطعة عنبر عظيمة تأدّت إليه من بعض سواحل عمله بالمغرب أيام ملكه، فاتخذ منها أريكة يرتفقها ويتوسّدها، فسأله حملها إليه على أن يحكمه في رضاه، فأبى عليه مع سعاية بني عمّه فيه عند الخليفة، وسوء خلق الحسن ولجاجته، فنكبه واستصفى ما لديه من قطعة العنبر وسواها.
واستقام المغرب للحكم وتظافر أمراؤه على مدافعة بلكّين، وعقد الوزير المنصوري [1] لجعفر بن علي على المغرب، واسترجع يحيى بن محمد بن هاشم وغرب الحسن بن كنّون الأدارسة جميعا إلى المشرق استثقالا لنفقاتهم، وشرط عليهم أن لا يعودوا، فعبروا البحر من المريّة سنة خمس وستين وثلاثمائة، ونزلوا من جوار العزيز معدّ بالقاهرة خير نزل، وبالغ في الكرامة ووعد بالنصرة والترة. ثم بعث الحسن بن كنّون إلى المغرب وكتب له إلى آل زيري بن مناد بالقيروان بالمظاهرة، فلحق بالمغرب ودعا لنفسه. وبعث المنصور بن أبي عامر العساكر لمدافعته فغلبوه وتقبّضوا عليه، وأشخصوه إلى الأندلس فقتل في طريقه كما ذكرناه في أخبارهم. وانقرض ملك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المصحفي.

(6/292)


الأدارسة من المغرب أجمع إلى أن كان رجوع الأمر لبني حمّود منهم ببلاد غمارة وسبتة وطنجة كما نذكره إن شاء الله تعالى.

(6/293)


(الخبر عن دولة حمّود ومواليهم بسبتة وطنجة وتصاريف أحوالهم وأحوال غمارة من بعدهم)
كان الأدارسة لمّا أجلاهم الحكم عن العدوة إلى المشرق، ومحا آثارهم من سائر بلاد المغرب واستقامت غمارة على طاعة المروانية، وأذعنوا لجند الأندلسيّين، ورجع الحسن بن كنّون لطلب أمرهم، فهلك على يد المنصور بن أبي عامر فانقرض أمرهم، وافترقت الأدارسة في القبائل ولاذوا بالاختفاء إلى أن خلعوا شارة ذلك النسب، واستحالت صبغتهم منه إلى البداوة. ولحق بالأندلس في جملة البرابرة من ولد عمر بن إدريس رجلان منهم وهم عليّ والقاسم ابنا حمّود بن ميمون بن أحمد ابن عليّ بن عبيد الله بن عمر بن إدريس، فطار لهما ذكر في الشجاعة والإقدام. ولما كانت الفتنة البربريّة بالأندلس بعد انقراض الدولة العامريّة، ونصب البرابرة سليمان ابن الحكم ولقّبوه المستعين، واختصّ به أبناء حمّود هذان، وأحسنوا العناء في ولايته، حتى إذا استولى على ملكه بقرطبة وعقد للمغاربة الولايات، عقد لعليّ بن حمود هذا على طنجة وأعمال غمارة فنزلها وراجع عهده معهم فيها.
ثم انتقض ودعا لنفسه وأجاز إلى الأندلس، وولي الخلافة بقرطبة كما ذكرناه فعقد على عمله بطنجة لابنه يحيى. ثم أجاز يحيى إلى الأندلس بعد مهلك أبيه عليّ منازعا لعمّه القاسم، واستقل أخوه إدريس من بعده بولاية طنجة وسائر أعمال أبيه بالعدوة من مواطن غمارة. ثم أجاز بعد مهلك أخيه يحيى بمالقة فاستدعى رجال دولتهم، وعقد لحسن ابن أخيه يحيى على عملهم بسبتة وطنجة، وأنفذ نجا الخادم معه ليكون تحت نظره واستبداده. ولمّا هلك إدريس واعتزم ابن بقيّة على الاستبداد بمالقة أجاز نجا الخادم لحسن بن يحيى من طنجة فملك مالقة ورتّب أمره في خلافته ورجع إلى سبتة. وعقد لحسن على عملهم في مواطن غمارة حتى إذا هلك حسن أجاز نجا إلى الأندلس يروم الاستبداد. واستخلف على العمل من وثق به من الموالي الصقلبية، فلم يزل إلى نظرهم واحدا بعد آخر إلى أن استقلّ بسبتة وطنجة من موالي بني حمّود هؤلاء الحاجب سكوت البرغواطي، كان عبدا للشيخ حداد من مواليهم اشتراه من سبي برغواطة في بعض أيام جهادهم. ثم صار إلى عليّ بن حمّود فأخذ

(6/295)


النجابة بطبعه إلى أن استقلّ بأمرهم واقتعد كرسي عملهم بطنجة وسبتة، وأطاعته قبائل غمارة.
واتصلت أيام ولايته إلى أن كانت دولة المرابطين، وتغلّب ابن تاشفين على مغراوة بفاس. ونجا فلّهم إلى بلاد الدمنة من آخر بسيط المغرب مما يلي بلاد غمارة، ونازلهم يوسف بن تاشفين سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ودعا الحاجب سكوت إلى مظاهرته عليهم، فهمّ بالانحياش ومظاهرته على عدوّه. ثم ثنّاه عن ذلك ابنه القائل الرأي.
فلما فرغ يوسف بن تاشفين من أهل الدمنة وأوقع بهم وافتتح حصن علودان من حصون غمارة من ورائه، وانقاد المغرب لحكمه، صرف وجهه إلى سكوت فجهّز إليه العساكر وعقد عليها للقائد صالح بن عمران من رجال لمتونة، فتباشرت الرعايا بمقدمهم وانثالوا عليهم. وبلغ الخبر الى الحاجب سكوت فأقسم أن لا يسمع أحدا من رعيته هدير طبولهم، ولحق هو بمدينة طنجة ثغر عمله. وقد كان عليه من قبله ابنه ضياء الدولة المعز، وبرز للقائهم فالتقى الجمعان بظاهر طنجة وانكشفت عساكر سكوت، وطحنت رحى المرابطين، وسالت نفسه على ظباهم، ودخلوا طنجة واستولوا عليها، ولحق ضياء الدولة بسبتة.
ولما تكالب الطاغية على بلاد الأندلس، وبعث ابن عبّاد صريخه إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين مستنجزا وعده في جهاد الطاغية والذبّ عن المسلمين، وكاتبه أهل الأندلس كافة بالتحريض إلى الجهاد، وبعث ابنه المعزّ سنة ست وسبعين وأربعمائة في عسكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز، فنازلها برّا وأحاطت بها أساطيل ابن عبّاد بحرا، واقتحموها عنوة. وتقبّض على ضياء الدولة، واقتيد إلى المعزّ فطالبه بالمال لانحائه فأساء إيجابه فقتله لوقته، وعثر على ذخائره وفيها خاتم يحيى بن عليّ بن حمّود. وكتب إلى أبيه بالفتح، وانقرضت دولة بني حمّود وانمحى آثارهم وسلطانهم من بني غمارة [1] ، وأقاموا في طاعة لمتونة سائر أيامهم.
ولما نجم [2] المهدي بالمغرب واستفحل أمر الموحّدين بعد مهلكه، تنقّل خليفته عبد المؤمن في بلادهم في غزاته الكبرى ففتح المغرب سنة سبع وثلاثين وما بعدها قبل استيلائه على مراكش كما نذكره في أخبارهم، واتبعوا أثره ونازلوا سبتة في عساكره.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وامّحى أثر سلطانهم من بلاد غمارة.
[2] يقال: «نجم في بني فلان شاعر أو فارس» إذا نبع (القاموس) .

(6/296)


وامتنعت عليهم، وتولّى كبر امتناعها قائدهم عيّاض الطائر الذكر رئيسهم لذلك العهد بدينه وأبوّته وعلمه ومنصبه. ثم افتتحت بعد فتح مراكش سنة إحدى وأربعين فكانت لغمارة هؤلاء السابقة التي رعيت لهم سائر أيام الدولة.
ولما فشل أمر بني عبد المؤمن وذهبت ريحهم، وكثر الثوار بالقاصية، ثار فيهم ابن محمد الكتامي سنة خمس وعشرين، كان أبوه من قصر كتامة منقبضا عن الناس وكان ينتحل الكيميا وتلقّنه عنه ابنه محمد هذا. وكان يلقّب أبا الطواحن فارتحل إلى سبتة ونزل على بني سعيد وادّعى صناعة الكيميا فاتبعه الغوغاء. ثم ادّعى النبوّة وشرّع شرائع، وأظهر أنواعا من الشعوذة فكثر تابعه. ثم اطلعوا على خبثه ونبذوا إليه عهده. وزحفت عساكر سبتة إليه ففرّ عنها، وقتله بعض البرابرة غيلة.
ثم غلب بنو مرين على بسائط المغرب وأمصاره سنة أربعين وستمائة، واستولوا على كرسي الأمر بمراكش سنة ثمان وستين وستمائة فامتنع قبائل غمارة من طاعتهم واستعصوا عليهم، وأقاموا بمنجاة من الطاعة، وعلى ثبج من الخلاف، وامتنعت سبتة من ورائهم على ملوك بني مرين بسبب امتناعهم وصار أمرها إلى الشورى، واستبدّ بها الفقيه أبو القاسم العزفي من مشيختهم، كما سنذكر ذلك كله، إلى أن وقع بين قبائل غمارة ورؤسائهم فتن وحروب، ونزعت إحدى الطائفتين إلى طاعة السلطان بالمغرب من بني مرين فأتوها طواعية.
وأدخل الآخرون في الطاعة تلوهم طوعا أو كرها، فملك بنو مرين أمرهم، واستعملوا عليهم، وتخطّوا إلى سبتة من ورائهم فملكوا أمر العزفيّين سنة سبع وعشرين وسبعمائة على ما نذكره بعد عند ذكر دولتهم. وهم الآن على أحسن أحوالهم من الاعتزاز والكثرة يؤتون طاعتهم وجبايتهم عند استقلال الدولة، ويمرضون فيها عند التياثها بفشل واشتغال بمحاربها [1] فتجهّز البعوث إليهم من الحضرة حتى يستقيموا على الطاعة، ولهم بوعورة جبالهم عزّ ومنعة وجوار لمن لحق بهم من أعياص الملك، ومستأمني الخوارج إلى هذا العهد. ولبني يكم من بينهم الحظ الوافر من ذلك لإشراف جبلهم على سائرها وسموه بقلاعه [2] إلى مجاري السحب دونها وتوعّر مسالكه بهبوب الرياح فيها. وهذا الجبل مطل على سبتة من غربيها ورئيسه منهم وصاحب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أو شغل بخارج.
[2] وفي نسخة ثانية: سموّ بقاعه.

(6/297)


أمره يوسف بن عمر وبنوه، ولهم فيه عزّة وثروة، وقد اتخذوا به المصانع والغروس وفرض لهم السلطان بديوان سبتة العطاء، وأقطعهم ببسيط طنجة الضياع استئلافا لهم وحسما لزبون سائر غمارة بإيناس طاعتهم، وللَّه الخلق والأمر بيده ملكوت السموات والأرض.