تاريخ ابن خلدون

(الخبر عن أهل جبال درن بالمغرب الأقصى من بطون المصامدة وما كان لهم من الظهور والأحوال ومبادئ أمورهم وتصاريفها)
هذه الجبال بقاصية المغرب من أعظم جبال المعمور ربما أعرق في الثرى أصلها وذهبت في السماء فروعها، ومدّت في الجوّ هياكلها، ومثلت سياجا على ريف المغرب سطورها تبتدئ من ساحل البحر المحيط عند أسفى وما إليها، وتذهب في المشرق إلى غير نهاية. ويقال إنها تنتهي إلى قبلة برنيق من أرض برقة، وهي في الجانب مما يلي مراكش قد ركب بعضها بعضا متتالية على نسق من الصحراء إلى التل. يسير الراكب فيه متعرّضا من تامسنا وسواحل مراكش إلى بلاد السوس ودرعه من القبلة ثمان مراحل وأزيد، تفجّرت فيها الأنهار، وجلل الأرض، حمراء الشعراء [1] وتطابقت بينها ظلال الأدواح. وزكت فيها مواد الزرع والضرع، وانفسحت مسارح الحيوان ومراقع الصيد، وطابت منابت الشجر، ودرت أفاويق الجباية يعمرها من قبائل المصامدة أمم لا يحصيهم إلّا خالقهم، قد اتخذوا المعاقل والحصون وشيّدوا المباني والقصور واستغنوا بقطرهم عن سائر أقطار العالم، فرحل إليهم التجر من الآفاق، واختلفت إليهم أهل النواحي والأمصار، ولم يزالوا مذ أوّل الإسلام وما قبله معتمرين بتلك الجبال قد أوطنوا منها أقاليم تعدّدت فيها الممالك والعمالات بتعدد شعوبهم وقبائلهم، وافترقت أسماؤها بافتراق أجيالهم [2] .
تنتهي ديارهم من هذه الجبال إلى ثنية المعدن المعروفة ببني فازان حيث تبتدئ مواطن صنهاجة [3] ويحفّون بهم كذلك من ناحية القبلة إلى بلاد السوس وقبائل هؤلاء
__________
[1] وفي نسخة ثانية: خمر الشّعراء.
[2] وفي نسخة ثانية: أحيائهم.
[3] وفي نسخة ثانية: صناكة.

(6/298)


المصامدة بهذه المواطن كثيرة فمنهم: هرغة وهنتاتة وتين ملّل وكدموية وكنفيسة ووريكة وركراكة وهزميرة ودكالة وحاحة وأمادين [1] وازكيت [2] وبنو ماكر وإيلانة ويقال هيلانة. ويقال أيضا أن إيلان هو ابن بر، أصهر المصامدة فكانوا حلفاء لهم [3] .
ومن بطون أمادين مصفاوة وماغوس، ومن مصفاوة دغاغة وبوطنان، ويقال إن غمارة ورهون وأمل من أمادين والله أعلم.
ويقال إنّ من بطون حاحة زكن وولخصن الظواعن الآن بأرض السوس أحلافا لذوي حسّان المتغلّبين عليها من عرب المعقل. ومن بطون كنفيسة أيضا قبيلة سكسباوة [4] الموطنون بأمنع المعاقل بهذه الجبال المطل جبلهم على بسيط السوس من القبلة وعلى ساحل البحر المحيط من المغرب، ولهم بمنعة معقلهم ذلك اعتزاز على أهل جلدتهم نذكره بعد. وكان لهؤلاء المصامدة صدر الإسلام بهذه الجبال عدد وقوة وطاعة للدّين ومخالفة لإخوانهم برغواطة في نحلة كفرهم. وكان من مشاهيرهم كثير [5] بن وسلاس بن شملال بن أمادة وهو يحيى بن يحيى راوي الموطأ عن مالك. دخل الأندلس وشهد الفتح مع طارق في آخرين من مشاهيرهم استقرّوا بالأندلس. وكان لأعقابهم بها ذكر في الدولة الأموية. كان منهم قبل الإسلام ملوك وأمراء. ولهم مع لمتونة ملوك المغرب حروب وفتن سائر أيامهم حتى كان اجتماعهم على المهدي وقيامهم بدعوته فكانت لهم دولة عظيمة أدالت من لمتونة بالعدوتين، ومن صنهاجة بإفريقية حسبما هو مشهور ونأتي الآن بذكره إن شاء الله، وباللَّه التوفيق، لا رب سواه، ولا معبود إلّا إياه.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أصّادن.
[2] وفي النسخة الباريسية: واركيت.
[3] وفي نسخة أخرى: فكانوا خلفاءهم.
[4] وفي نسخة أخرى: سكسيوة.
[5] وفي نسخة ثانية: كسير وفي النسخة الباريسية: كير.

(6/299)


(الخبر عن مبدإ أمر المهدي ودعوته وما كان للموحدين القائمين بها على يد بني عبد المؤمن من السلطان والدولة بالعدوتين وإفريقية وبداية ذلك وتصاريفه)
لم يزل أمر هؤلاء المصامدة بجبال درن عظيما، وجماعتهم موفورة وبأسهم قويا، وفي أخبار الفتح من حروبهم عقبة بن نافع وموسى بن نصير حتى استقاموا على الإسلام ما هو معروف مذكور إلى أن أظلتهم دولة لمتونة فكان أمرهم فيها مستفحلا، وشأنهم على أهل السلطان والدولة مهما، حتى لما اختطّوا مدينة مراكش لنزلهم جوار

(6/300)


مواطنهم من درن ليتميزوا عمن سواهم [1] ويذللوا من صعابهم. وفي عنفوان تلك الدولة على عهد علي بن يوسف منها نجم إمامهم العالم الشهير محمد بن تومرت [2] صاحب دولة الموحّدين المشتهر بالمهديّ، أصله من هرغة من بطون المصامدة الذين عددناهم يسمّى أبوه عبد الله وتومرت، وكان يلقّب في صغره أيضا أمغار، وهو محمد ابن عبد الله بن وجلّيد ابن بامصال [3] بن حمزة بن عيسى فيما ذكر ابن رشيق وحقّقه ابن القطّان. وذكر بعض مؤرخي المغرب أنه محمد بن تومرت بن نيطاوس بن ساولا ابن سفيون بن الكلديس بن خالد [4] . وزعم كثير من المؤرّخين أن نسبه في أهل البيت، وأنه محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان ابن سفيان بن صفوان بن جابر بن عطاء بن رباح بن محمد من ولد سليمان بن عبد الله ابن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخي إدريس الأكبر. الواقع نسب الكثير من بيته في المصامدة وأهل السوس. كذا ذكر ابن نحيل في سليمان هذا، وأنه لحق بالمغرب إثر أخيه إدريس، ونزل تلمسان وافترق ولده في المغرب قال: فمن ولده كل طالبي بالسوس، وقيل بل هو من قرابة إدريس اللاحقين به إلى المغرب، وأن رباحا الّذي في عمود هذا النسب إنما هو ابن يسار العبّاس بن محمد بن الحسن، وعلى الأمرين فإن نسبة الطالبي وقع في هرغة من قبائل المصامدة ورسخت عروقه فيهم، والتحم بعصبيتهم فلبس جلدتهم، وانتسب بنسبتهم وصار في عدادهم.
وكان أهل بيته أهل نسك ورباط. وشبّ محمد هذا قارئا محبا للعلم، وكان يسمى أسافو، ومعناه الضياء لكثرة ما كان يسرج القناديل بالمساجد لملازمتها. وارتحل في طلب العلم إلى المشرق على رأس المائة الخامسة، ومرّ بالأندلس ودخل قرطبة وهي إذ ذاك دار علم. ثم أجاز إلى الإسكندرية وحجّ ودخل العراق ولقي جلّة من العلماء
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ليتمرّسوا بهم.
[2] يوجد شخص اسمه محمد بن عبد الله بن تومرت وهو صاحب كنز العلوم ودر المنظوم في حقائق علم الشريعة ودقائق علم الطبيعة. (توجد منه نسخة في المكتبة الخديوية) ويرى بروكلمان- في كتابه تاريخ الشعوب الإسلامية- أن اسمه الحقيقي هو محمد بن علي بن تومرت وأنه أندلسي توفي سنة 391 هـ، إلا أنه ينسب كنز العلوم هو وهوارت الى المهدي، وسبب الخلط ان في هذا الكتاب نقد نظرية التجسيم.
وقد ذكر ابن الأثير محمد بن تومرت كان معاصرا للمهدي وهو الّذي كان يقترف جرائم القتل الجماعي في عهد المهدي.
[3] وفي النسخة التونسية تامصال. وفي نسخة ثانية: يامصال.
[4] وفي نسخة أخرى: محمد بن تومرت بن تيطاوين بن سافلا بن مسيغون ابن ايكلديس بن خالد.

(6/301)


يومئذ وفحول النظار، وأفاد علما واسعا وكان يحدّث نفسه بالدولة لقومه على يده لما كان الكهّان والحزّاء يتحيّنون ظهور دولة يومئذ بالمغرب. ولقي فيما زعموا أبا حامد الغزالي، وفاوضه بذات صدره بذلك فأراده عليه لما كان فيه الإسلام يومئذ بأقطار المغرب من اختلال الدولة وتقويض أركان السلطان الجامع الأمة، المقيم للملّة بعد أن ساء له عمن له من العصابة والقبائل التي يكون بها الاعتزاز والمنعة، ونشأ بها يتم أمر الله في درك البغيّة وظهور الدعوة. وانطوى هذا الإمام راجعا إلى المغرب بحرا متفجّرا من العلم، وشهابا واريا من الدين. وكان قد لقي بالمشرق أئمة الأشعرية من أهل السنّة وأخذ عنهم واستحسن طريقهم في الانتصار للعقائد السلفيّة والذبّ عنها بالحجج العقليّة الدافعة في صدر أهل البدعة. وذهب إلى رأيهم في تأويل المتشابه من الآي والأحاديث بعد أن كان أهل المغرب بمعزل عن أتباعهم في التأويل والأخذ برأيهم فيه اقتداء بالسلف في ترك التأويل وإقرار التشابهات كما جاءت. ففطن أهل المغرب في ذلك وحملهم على القوم بالتأويل والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد، وأعلن بإمامتهم ووجوب تقليدهم وألف العقائد على رأيهم مثل المرشدة في التوحيد. وكان من رأيه القول بعصمة الإمام على رأي الإمامية من الشيعة، وألف في ذلك كتابه في الإمامية الّذي افتتحه بقوله: أعزّ ما يطلب وصار هذا المفتتح لقبا على ذلك الكتاب، وأحل [1] بطرابلس أول بلاد المغرب معنيا بمذهبه ذلك مظهرا النكير على علماء المغرب في عدولهم عنه، آخذا نفسه بتدريس العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطاع، حتى لقي بسبب ذلك أذيّات في نفسه احتسبها من صالح عمله [2] . ولما دخل بجاية وبها يومئذ العزيز بن المنصور بن الناصر بن علناس ابن حماد من أمراء صنهاجة. وكان من المترفين فأغلظ له ولأتباعه بالنكير. وتعرّض يوما لتغيير بعض المنكرات في الطرق، فوقعت بسببها هيعة نكرها السلطان والخاصة وائتمروا به، فخرج منها خائفا ولحق بملالة على فرسخ منها، وبها يومئذ بنو ورياكل من قبائل صنهاجة. وكان لهم اعتزاز ومنعة، فآووه وأجاروه وطلبهم السلطان صاحب بجاية بإسلامه إليه فأبوا وأسخطوه، وأقام بينهم يدرس العلم أياما. وكان يجلس إذا فرغ على صخرة بقارعة الطريق قريبا من ديار ملالة، وهي لهذا العهد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: احتلّ.
[2] وفي نسخة اخرى: اعماله.

(6/302)


معروفة. وهناك لقيه كبير صحابته عبد المؤمن بن علي حاجا مع عمه فأعجب بعلمه، وانتهى عزمه عن وجهه ذلك، واختصّ به وتشمّر للأخذ عنه. وارتحل المهدي إلى المغرب وهو في جملته. ولحق بوانشرس. وصحبه منها البشير من جملة أصحابه. ثم لحق بتلمسان وقد تسامع الناس بخبره فأحضره القاضي بها ابن صاحب الصلاة ووبّخه على منتحله ذلك، وخلافه لأهل قطره. وظنّ أن من العدل نزعه عن ذلك، فصمّ عن قبوله. واستمر على طريقه إلى فاس، ثم إلى مكناسة ونهى بها عن بعض المناكير فأوقع به الشرار من الغوغاء. فأوجعوه ضربا، ولحق بمراكش وأقام بها آخذا في شأنه. ولقي علي بن يوسف بالمسجد الجامع في صلاة الجمعة فوعظه وأغلظ له القول. ولقي ذات يوم الصورة أخت علي بن يوسف حاسرة قناعها على عادة قومها الملّثمين في زي نسائهم فوبخها، ودخلت على أخيها باكية لما نالها من تقريعه، ففاوض الفقهاء في شأنه بما وصل إليه من شهرته. وكانوا ملئوا منه حسدا وحفيظة لما كان ينتحل مذهب الأشعريّة في تأوي المتشابه وينكر عليهم جمودهم على مذهب السلف في إقراره كما جاء. ويرى أن الجمهور لقّنوه تجسيما، ويذهب إلى تكفيرهم بذلك أحد قولي الأشعرية في التكفير فمال الرأي فأغروا الأمير به فأحضره للمناظرة معهم فكان له الفتح والظهور عليهم، وخرج من مجلسه ونذر بالشر منهم فلحق من يومه بأغمات، وغيّر المناكير على عادته وأغرى به أهلها علي بن يوسف وطيّروا إليه بخبره فخرج عنها هو وتلميذه الذين كانوا في صحابته، ودعا إسماعيل بن أيكيك من أصحابه وهو من أنجاد قومه [1] ، وخرج به إلى منجاة من جبال المصامدة. لحق أولا بمسفيوه، ثم بهنتاتة. ولقيه من أشياخهم عمر بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي، وهو أبو حفص ويعرف بيته ابن هنتاتة ببني فاصكات.
وتقول نسّابتهم إن فاصكات هو جد وانودين، ويقال لهنتاتة بلسانهم هنتي فلذلك كان يعرف عمر بهنتي وسيأتي الكلام في تحقيق نسبهم عند ذكر دولتهم. ثم ارتحل المهدي عنهم إلى ايكيلين من بلاد هرغة، فنزل على قومه وذلك سنة خمس عشرة وخمسمائة. وبنى رابطة للعبادة اجتمعت إليه الطلبة والقبائل يعلّمهم المرشدة في التوحيد باللسان البربري. وشاع أمره في صحبته واستدرك فقيه العلمية بمجلس
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ودعا إسماعيل بن ايكيك من أصحابه مائتين من انجاد قومه.

(6/303)


الأمير علي بن يوسف وهو مالك بن وهيب أغراه به. وكان حزّاء ينظر في النجوم وكان الكهّان يتحدثون بأن ملكا كائن بالمغرب لأمة من البربر ويتغيّر فيه شكل السكة لقران بين الكوكبين العلويّين من السيارة يقتضي ذلك في أحكامهم، وكان الأمير يتوقّعها، فقال: احتفظوا بالدولة من الرجل فإنه صاحب القران.
والدرهم المربع في كلام سفساف بسجع سوقي يتناقلها الناس نصه وهو: أجعل على رجله كبلا لئلا يسمعك طبلا وأظنه صاحب الدرهم المربّع، فطلبه علي بن يوسف ففقده وسرّح الخيالة في طلبه ففاتهم، وداخل عامل السوس، وهو أبو بكر ابن محمد اللمتوني بعض هرغة في قتله، ونذر بهم إخوانهم فنقلوا الإمام إلى معقل أشياعهم [1] ، وقتلوا من داخل في أمره. ثم دعا المصامدة إلى بيعته على التوحيد، وقتال المجسمين دونه سنة خمسة عشر وخمسمائة، فتقدّم إليها رجالاتهم من العشرة وغيرها. وكان فيهم من هنتاتة أبو حفص عمر بن يحيى وأبو يحيى بن يكيبت ويونس [2] بن وانودين وابن يغمور، ومن تين ملّل أبو حفص عمر بن علي الصناكي ومحمد بن سليمان وعمرو بن تافراتكين [3] وعبد الله بن ملويات. وأهب [4] قبيلة هرغة فدخلوا في أمره كلهم، ثم دخل معهم كيدموية [5] وكنفيسة، ولما كملت بيعته لقّبوه بالمهديّ وكان لقبه قبلها الإمام. وكان يسمى أصحابه الطلبة، وأهل دعوته الموحّدين، ولمّا تمّ له خمسون من أصحابه سمّاهم ايت الخمسين. وزحف إليهم عامل السوس أبو بكر بن محمد اللمتوني بمكانهم من هرغة، فاستجاشوا بإخوانهم من هنتاتة وتين ملّل فاجتمعوا إليهم وأوقعوا بعسكر لمتونة فكانت مقدمة الفتح. وكان الإمام يعدهم بذلك فاستبصروا في أمره، وتسابق كافتهم إلى الدخول في دعوته، وتردّدت عساكر لمتونة إليهم مرّة بعد أخرى ففضّوهم، وانتقل لثلاث سنين من بيعته إلى جبل تين ملّل فأوطنه، وبنى داره ومسجده بينهم حوالي منبع وادي نفيس.
وقاتل من تخلّف عن بيعته من المصامدة حتى استقاموا فقاتل أولا هزرجة وأوقع بهم مرارا، ودانوا بالطاعة. ثم قاتل هسكورة ومعهم أبو دوقة اللمتوني فغلبهم وقفل فاتبعه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: امتناعهم.
[2] وفي نسخة أخرى: يوسف.
[3] وفي نسخة أخرى: تافركين.
[4] وفي نسخة أخرى: اوعب.
[5] وفي نسخة أخرى: كدميوه.

(6/304)


بنو واسكيت فأوقع بهم الموحّدون وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا. ثم غزا بلد غجرامة [1] وكان قد افتتحه وترك فيه الشيخ أبا محمد عطية من أصحابه فغدروا به، وقتلوه فغزاهم واستباحهم. ورجع إلى تين ملّل وأقام بها إلى أن كان شأن البشير وميز الموحد من المنافق. وكانوا يسمّون لمتونة الحشم فاعتزم على غزوهم، وجمع كافة أهل دعوته من المصامدة، وزحف إليهم فلقوه بكيك، وهزمهم الموحدون واتبعوهم الى أغمات فلقيهم هنالك زحوف لمتونة مع بكر [2] بن علي بن يوسف وإبراهيم بن تاعباشت فهزمهم الموحّدون. وقتل إبراهيم واتبعوهم إلى مراكش، فنزلوا البحيرة في زهاء أربعين ألفا كلهم راجلين إلّا أربعمائة فارس.
واحتفل علي بن يوسف الاحتشاد وبرز إليهم لأربعين من نزولهم خرج عليهم من باب إيلان فهزمهم وأثخن فيهم قتلا وسبيا، وفقد البشير من أصحابه. واستحرّ القتل في هيلانة، وأبلى عبد المؤمن في ذلك اليوم أحسن البلاء. وكانت وفاة المهدي لأربعة أشهر بعدها. وكان يسمّى أصحابه بالموحّدين تعريضا بلمتونة في أخذهم بالعدول عن التأويل وميلهم إلى التجسيم. وكان حصورا لا يأتي النساء. وكان يلبس العباءة المرقّعة. وله قدم في التقشّف والعبادة، ولم تحفظ عنه فلتة في البدعة إلا ما كان من وفاقه الإمامية من الشيعة في القول بالإمام المعصوم والله تعالى أعلم.
الخبر عن دولة عبد المؤمن خليفة المهدي والخلفاء الأربعة من بنيه ووصف أحوالهم ومصاير أمورهم
لما هلك المهدي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة [3] كما ذكرناه وقد عهد بأمره من بعده لكبير صحابته عبد المؤمن بن علي الكومي المتقدّم ذكره، ونسبه عند ذكر قومه، فقبره بمسجده لصق داره من تين ملّل. وخشي أصحابه من افتراق الكلمة وما يتوقع من سخط المصامدة ولاية عبد المؤمن بن علي لكونه من غير جلدتهم، فأرجئوا الأمر إلى أن تخالط بشاش الدعوة قلوبهم، وكتموا موته، زعموا ثلاث سنين
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: غجدامة.
[2] وفي النسخة الباريسية: نكو وفي نسخة ثانية مكر.
[3] وفد قبائل المغرب ان المهدي توفي سنة 524 هـ- 1130 م/ ص 127.

(6/305)


يموّهون بمرضه، ويقيمون سنّته في الصلاة والحزب الراتب. يدخل أصحابه إلى البيت كأنه اختصهم بعبادته، فيجلسون حوالي قبره ويتفاوضون في شئونهم بمحضر أخته زينب ثم يخرجون لإنفاذ ما أبرموه، ويتولّاه عبد المؤمن بتلقينهم حتى إذا استحكم أمرهم وتمكّنت الدعوة من نفوس كافتهم كشفوا حينئذ القناع عن حالهم، وتملأ من بقي من العشرة على تقديم عبد المؤمن. وتولّى كبر ذلك الشيخ أبو حفص، وأراد هنتاتة وسائر المصامدة غلبه فأظهروا للناس موت المهدي، وعهده لصاحبه وانقياد بقية أصحابه لذلك.
وروى يحيى بن يغمور أنه كان يقول في دعائه إثر صلواته: «اللَّهمّ بارك في الصاحب الأفضل» فرضي الكافة وانقادوا وأجمعوا على بيعته بمدينة تين ملّل سنة أربع وعشرين وخمسمائة فقام بأمر الموحّدين وأبعد في الغزوات فصبح تادلا، وأقام بها وأصاب منهم. ثم غزا درعة واستولى عليها سنة ست وعشرين وخمسمائة ثم غزا تاسعون [1] وافتتحها وقتل واليها أبا بكر بن مازرو [2] ومن كان معه من قومه غمارة بني وزار [3] وبني مزدرع ثم تسابق الناس إلى دعوتهم أفواجا، وانتقض البرابر في سائر أقطار المغرب على لمتونة، فسرّح علي بن يوسف ابنه تاشفين لقتالهم سنة ثلاث وستين وخمسمائة فجاءهم من ناحية أرض السوس، وأحشد معه قبائل كزولة وجعلهم في مقدّمته، فلقيهم الموحّدون بأوائل جبلهم وهزموهم. ورجع تاشفين ولم يلق حربا، ودخل كزولة من بعدها في دولة الموحّدين، وأجمع عبد المؤمن على غزو بلاد المغرب، فغزا غزاته الطويلة منذ سنة أربع وثلاثين وخمسمائة إلى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة ولم يراجع فيها تين ملّل حتى إذا انقضت بالفتح والاستيلاء على المغربين، خرج إليها من تين ملّل، وخرج تاشفين بعساكره يحاذيه في البسائط، والناس يفرّون منه إلى عبد المؤمن وهو ينتقل في الجبال في سعة من الفواكه للأكل والحطب للدفء إلى أن وصل إلى جبل غمارة، واشتعلت نار الفتنة والغلاء بالمغرب، وامتنعت الرعايا من المغرم وألح الطاغية على المسلمين بالعدوة.
وهلك خلال ذلك علي بن يوسف أمير لمتونة ملك العدوتين سنة سبع وثلاثين
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تاشعبوث وفي النسخة الباريسية تاسيغموت.
[2] وفي نسخة أخرى: مزروال.
[3] وفي نسخة أخرى: بني ونام، وفي النسخة الباريسية: وارنتي وفي نسخة ثانية: ونار.

(6/306)


وخمسمائة، وولّى أمرهم تاشفين ابنه، وهو في غزاته هذه، وقد أحيط به. وحزن بعد أبيه على فتنة بني لمتونة ومسوقة [1] ، ففزع أمراء مسوقة مثل بدران [2] بن محمد ويحيى بن تاكصتن [3] ويحيى بن إسحاق المعروف بأنكار، وكان والي تلمسان، ولحقوا بعبد المؤمن فيمن إليهم من الجملة، ودخلوا في دعوته، ونبذ إليهم لمتونة العهد، وإلى سائر مسوقة، واستمر عبد المؤمن على حاله فنازل سبتة وامتنعت عليه، وتولّى كبر دفاعه عنها القاضي عيّاض الشهير الذكر. كان رئيسها يومئذ بدينه وأبوّته ومنصبه.
ولذلك سخطته الدولة آخر الأيام حتى مات مغرّبا عن سبتة بتادلا مستعملا في خطة القضاء بالبادية، وتمادى عبد المؤمن في غزاته إلى جبال غياثه وبطوية فافتتحها، ثم نزل ملويّة فافتتح حصونها. ثم تخطي إلى بلاد زناتة فأطاعته قبائل مديونة. وكان بعث إليهم عساكر من الموحّدين إلى نظر يوسف بن وانودين وابن يرمور [4] فخرج إليهم محمد بن يحيى بن فانو عامل تلمسان فيمن معه من عساكر لمتونة وزناتة فهزمهم الموحّدون وقتل ابن فانو وانقضّ عسكر زناتة، ورجعوا إلى بلادهم.
وولّى ابن تاشفين على تلمسان أبا بكر بن مزدلي، ووصل إلى عبد المؤمن بمكانه من الريف أبو بكر بن ماخوخ ويوسف بن بدر أمراء بني مانو، فبعث معهم ابن يغمور وابن وانودين في عسكر من الموحّدين، فأثخنوا في بلاد بني عبد الواد، وبني باجدي [5] سبيا وأسرا، وأمدتهم عساكر لمتونة ومعهم الزبرتير قائد الروم وتزلوا منداماس [6] ، واجتمعت عليهم زناتة في بني يلومي وبني عبد الواد، وشيخهم حمامة ابن مطهر، وبني نيكاس وبني ورسفان وبني توجين، فأوقعوا في بني مانو واستنقذوا غنائمهم، وقتل أبو بكر بن ماخوخ في ستمائة من قومه، وتحصّن الموحّدون وابن وانودين بجبال سيرات، ولحق تاشفين بن ماخوخ بعبد المؤمن صريخا على لمتونة وزناتة، فارتحل معه إلى تلمسان. ثم أجاز إلى سيرات وقصد محلة ملتونة وزناتة،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مسوفة.
[2] وفي نسخة أخرى: برّاز وفي النسخة الباريسية: بران.
[3] وفي نسخة أخرى: تاكفت.
[4] وفي النسخة الباريسية: مرمور.
[5] وفي نسخة أخرى: يلومي.
[6] وفي نسخة أخرى: منداس.

(6/307)


فأوقع بهم ورجع إلى تلمسان فنزل ما بين الصخرتين من جبل بني ورتيك [1] ونزل تاشفين بأصطفصف ووصل مدد صنهاجة من قبل يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية لنظر طاهر بن كباب من قوّاده، أمدوا به تاشفين وقومه لعصبية الصنهاجيّة. وفي يوم وصوله أشرف على معسكر الموحّدين، وكان يدل باقدام وبأس فزاري بلمتونة وأميرهم لقعودهم عن مناجزة الموحّدين، وقال: إنما جئتكم أؤمنكم [2] من صاحبكم عبد المؤمن هذا، وأرجع إلى قومي، فامتعض تاشفين لكلمته وأذن له في المناجزة، فحمل على القوم فركبوا وصمّموا للقائه، فكان آخر العهد به وبعسكره.
وكان تاشفين بعث من قبل ذلك قائده على الروم الزبرتير في عسكر ضخم كما قلناه، فأغار على بني سندم [3] وزناتة الذين كانوا في بسيطهم ورجع بالغنائم فاعترضه الموحّدون من عسكر عبد المؤمن فقتلوهم، وقتل الزبرتير وصلب ثم بعث بعثا آخر إلى بلاد بني مانو، فلقيهم تاشفين بن ماخوخ ومن كان معه من الموحّدين وأوقعوا بهم.
واعترضوا عسكر بجاية عند رجوعهم فنالوا منهم أعظم النيل. وتوالت هذه الوقائع على تاشفين فأجمع الرحلة إلى وهران، وبعث ابنه إبراهيم وليّ عهده إلى مراكش في جماعة من لمتونة، وبعث كاتبا معه أحمد بن عطيّة، ورحل هو إلى وهران سنة تسع وثلاثين وخمسمائة فأقام عليها شهرا ينتظر قائد اسطوله محمد بن ميمون إلى أن وصله من المرية بعشرة أساطيل، فأرسى قريبا من معسكره وزحف عبد المؤمن من تلمسان وبعث في مقدمته الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى وبني مانو من زناتة، فتقدّموا إلى بلاد بني يلومي وبني عبد الواد وبني ورسيفين وبني توجين وأثخنوا فيهم حتى دخلوا في دعوتهم.
ووفد على عبد المؤمن برؤسائهم، وكان منهم سيّد الناس ابن أمير الناس شيخ بني يلومي فتلقّاهم بالقبول، وسار بهم في جموع الموحّدين إلى وهران ففجعوا لمتونة بمعسكرهم ففضّوهم، ولجأ تاشفين إلى رابية هناك فأحد قوابها وأضرموا النيران حولها حتى غشيهم الليل، فخرج تاشفين من الحصن راكبا على فرسه، فتردى من بعض حافات الجبل، وهلك لسبع وعشرين من رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بني ورنيد.
[2] وفي نسخة أخرى: لأمكنكم.
[3] وفي نسخة ثانية: سنوس.

(6/308)


وبعث برأسه إلى تين ملّل. ونجا فلّ العسكر إلى وهران فانحصروا مع أهلها حتى جهدهم العطش ونزلوا جميعا على حكم عبد المؤمن يوم الفطر من تلك السنة. وبلغ خبر مقتل تاشفين إلى تلمسان مع فلّ لمتونة وفيهم أبو بكر بن ولحف [1] وسير بن الحاج وعليّ بن فيلو في آخرين من أعيانهم، ففرّ معهم من كان بها من لمتونة. وقدم عبد المؤمن فقتل من وجد بتاكرارت بعد أن كانوا بعثوا ستين من وجوههم، فلقيهم يصليتن من مشيخة بني عبد الواد فقتلهم أجمعين.
ولما وصل عبد المؤمن إلى تلمسان استباح أهل تاكرارت لما كان أكثرهم من الحشم، وعفا عن أهل تلمسان، ورحل عنها لسبعة أشهر من فتحها بعد أن ولّى عليها سليمان ابن محمد بن وانودين، وقيل يوسف بن وانودين. وفيما نقل بعض المؤرّخين أنه لم يزل محاصرا تلمسان والفتوح ترد عليه، وهنالك وصلته بيعة سجلماسة. ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب، وترك إبراهيم بن جامع محاصرا لتلمسان، فقصد فاس سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقد تحصّن بها يحيى الصحراوي ولحق بها من فلّ تاشفين من تلمسان فنازلها عبد المؤمن، وبعث عسكرا لحصار مكناسة، ثم رحل في اتباعه وترك عسكرا من الموحّدين على فاس، وعليهم الشيخ أبو حفص وأبو إبراهيم وصحابة المهدي العشرة، فحاصروه سبعة أشهر.
ثم داخلهم ابن الجياني مشرف البلد وأدخل الموحّدين ليلا، وفرّ الصحراوي إلى طنجة، وأجاز منها إلى ابن غانية بالأندلس، وبلغ خبر فاس إلى عبد المؤمن وهو بمكانه من حصار مكناسة، فرجع إليها وولّى عليها إبراهيم بن جامع وولّى على مكناسة يحيى بن يغمور، ورحل إلى مراكش وكان إبراهيم بن جامع، لما افتتح تلمسان ارتحل إلى عبد المؤمن وهو محاصر لفاس فاعترضه في طريقه المخضّب بن عسكر أمير بني مرين ونالوا منه ومن رفقته، فكتب عبد المؤمن إلى يوسف بن وانودين عامل تلمسان أن يجهّز إليهم العساكر، فبعثها صحبة عبد الحق بن منقاد [2] شيخ بني عبد الواد، فأوقعوا ببني مرين وقتل المخضّب أميرهم.
ولمّا ارتحل عبد المؤمن من فاس إلى مراكش وصلته في طريقه بيعة أهل سبتة، فولّى عليهم يوسف بن مخلوف من مشيخة هنتاتة، ومرّ على سلا فافتتحها بعد مواقعة
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن نجي وفي نسخة ثانية: بن ويحى.
[2] وفي نسخة أخرى: منغفاد.

(6/309)


قليلة، ونزل منها بدار ابن عشرة، ثم تمادى إلى مراكش وسرّح الشيخ أبا حفص لغزو برغواطة فأثخن فيهم ورجع. ولقيه في طريقه ووصلوا جميعا إلى مراكش وقد ضمّوا إليها جموع لمطة، فأوقع بهم الموحّدون وأثخنوا فيهم قتلا، واكتسحوا أموالهم وظعائنهم، وأقاموا على مراكش تسعة أشهر [1] وأميرهم إسحاق بن علي بن يوسف، بايعوه صبيا صغيرا عند بلوغ خبر أبيه. ولما طال عليهم الحصار وجهدهم الجوع برزوا إلى مدافعة الموحّدين، فانهزموا وتتبعهم الموحّدون بالقتل، واقتحموا عليهم المدينة في أخريات شوّال سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقتل عامّة الملثّمين، ونجا إسحاق في جملته وأعيان قومه إلى القصبة حتى نزلوا على حكم الموحّدين وأحضر إسحاق بين جملته وأعيان قومه إلى القصبة حتى نزلوا على حكم الموحّدين وأحضر إسحاق بين يدي عبد المؤمن فقتله الموحّدون بأيديهم وتولى كبر ذلك أبو حفص بن واكاك منهم وامحى أثر الملثمين واستولى الموحدون على جميع البلاد.
ثم خرج عليهم بناحية السوس ثائر من سوقة سلا يعرف محمد بن عبد الله بن هود وتلقّب بالهادي، وظهر في رباط ماسة، فأقبل إليه الشراد [2] من كل جانب، وانصرفت إليه وجوه الأغمار من أهل الآفاق وأخذ بدعوته أهل سجلماسة ودرعة وقبائل دكالة وركراكة وقبائل تامسنا وهوّارة، وفشت ضلالته في جميع العرب، فسرّح إليه عبد المؤمن عسكرا من الموحّدين لنظر يحيى أنكمار اللمتوني النازع إليه من إيالة تاشفين بن علي. ولقي هذا الثائر المآسي، ورجع مهزوما إلى عبد المؤمن فسرّح الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى وأشياخ الموحّدين، واحتفل في الاستعداد فنهضوا إلى رابطة ماسة، وبرز إليهم الثائر في نحو ستين ألفا من الرجال وسبعمائة من الفرسان، فهزمهم الموحّدون، وقتل داعيتهم في المعركة مع كثرة أتباعه، وذلك في ذي الحجّة سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وكتب الشيخ أبو حفص بالفتح إلى عبد المؤمن من إنشاء أبي حفص بن عطيّة الشهير الذكر، كان أبوه أبو أحمد كاتبا لعلي بن يوسف وابنه تاشفين، وتحصل في قبضة الموحّدين فعفا عنه عبد المؤمن.
ولما نزل على فاس اعتزم أبو حفص [3] هذا على الفرار فتقبّض عليه في طريقه، واعتذر فلم يقبل عذره وقتل. وكان ابنه أحمد كاتبا لإسحاق بن علي بمراكش
__________
[1] وفي نسخة أخرى: سبعة أشهر.
[2] وفي النسخة التونسية الشرار والمقصود الأشرار أو المشردون.
[3] وفي نسخة أخرى: أبو أحمد.

(6/310)


فشمله عفو السلطان فيمن شمله من ذلك الفلّ، وخرج في جملة الشيخ أبي حفص في وجهته هذه وطلبه للكتاب في ذلك، فأجابه واستحسن كتابه عبد المؤمن لما وقف عليه فاستكتبه أولا. ثم ارتفع عنده مكانه [1] فاستوزره، وبعد في الدولة صيته، وقاد العساكر وجمع الأموال وبذلها، ونال من الرتبة عند السلطان ما لم ينله أحد في دولته إلى أن دبّت السعاية إلى مهاده الوثير، فكان فيها حتفه، ونكبه الخليفة سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة وقتله بمحبسه حسبما هو مشهور.
ولما انصرف الشيخ أبو حفص من غزاة ماسة أراح بمراكش أياما. ثم خرج غازيا إلى القائمين بدعوة الماسي بجبال درن، فأوقع بأهل نفيس وهيلانة وأثخن فيهم بالقتل والسبي حتى أذعنوا بالطاعة ورجع. ثم خرج إلى هسكورة وأوقع بهم وافتتح معاقلهم وحصونهم. ثم نهض الى سجلماسة فاستولى عليها ورجع إلى مراكش، ثم خرج ثالثة إلى برغواطة فحاربوه مدّة ثم هزموه، واضطرمت نار الفتنة بالمغرب، وانتقض أهل سبتة، وأخرجوا يوسف بن مخلوف التينمللي وقتلوه ومن كان معه من الموحّدين، وأجاز القاضي عيّاض البحر إلى يحيى بن علي بن غانية المسوقي الوالي بالأندلس، فلقيه بالخضراء وطلب منه واليا على سبتة فبعث معه يحيى بن أبي بكر الصحراوي الّذي كان بفاس منذ منازلة عبد المؤمن لها. وذكر أنه لحق بطنجة فأجاز البحر إلى الأندلس ولحق بابن غانية بقرطبة وصار في جملته.
وبعثه ابن غانية إلى سبتة مع القاضي عياض كما ذكرناه. وقام بأمرها ووصل يده بالقبائل الناكثة لطاعة الموحّدين من برغواطة ودكالة على حين هزيمتهم للموحّدين كما ذكرناه. ولحق بهم من مكانه بسبتة وخرج إليهم عبد المؤمن بن علي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة فدوّخ بلادهم واستأصل شأفتهم حتى انقادوا للطاعة وتبرّءوا من يحيى الصحراوي ولمتونة، ورجع إلى مراكش لستة أشهر من خروجه، ووصلته المرعبة [2] من مشيخة القبائل في يحيى الصحراوي فعفا عنه وصلحت أحوال المغرب. وراجع أهل سبتة طاعتهم فتقبّل منهم، وكذلك أهل سلا فصفح لهم وأمر بهدم سورهم والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بخلاله.
[2] وفي نسخة أخرى: الرغبة.

(6/311)


(فتح الأندلس وشئونها)
ثم صرف عبد المؤمن من قصره إلى الأندلس، وكان من خبرها أنه اتصل بالملثمين مقتل تاشفين بن عليّ، ومنازلة الموحّدين مدينة فاس. وكان علي بن عيسى بن ميمون قائد أسطولهم قد نزع طاعة لمتونة وانتزى بجزيرة قادس، فلحق بعبد المؤمن بمكانه من حصار فاس، ودخل في دعوته وخطب له بجامع فاس [1] أوّل خطبة خطبت لهم بالأندلس عام أربعين وخمسمائة. وبعث أحمد بن قيسي صاحب مرتلّة ومقيم الدعوة بالأندلس أبا بكر بن حبيس [2] رسولا إلى عبد المؤمن فلقيه على تلمسان وأدّى كتاب صاحبه فأنكر ما تضمّنه من النعت بالمهديّ، ولم يجاوب. وكان سدّراتي [3] بن وزير صاحب بطليوس وباجة وغرب الأندلس قد تغلّب على أحمد ابن قيسي هذا، وغلبه على مرتلة فأجاز أحمد بن قيسي البحر إلى عبد المؤمن من بعد فتح مراكش لمداخلة عليّ بن عيسى بن ميمون ونزل بسبتة، فجهّزه يوسف بن مخلوف، ولحق بعبد المؤمن، ورغّبه في ملك الأندلس، وأغراه بالملثّمين فبعث معه عساكر الموحّدين لنظر براز بن محمد المسوقي الناظر إلى عبد المؤمن من جملة تاشفين، وعقد له على حروب من بها من لمتونة والثّوار وأمدّه بعسكر آخر لنظر موسى بن سعيد، وبعده بعسكر آخر لنظر عمر بن صالح الصنهاجي، ولمّا أجازوا إلى الأندلس نازلوا بالغمر بن عزرون من الثّوار بشريش، وكانت له مع ولده [4] . ثم قصدوا لبلة وبها من الثّوار يوسف بن أحمد البطروجي [5] فأعطاهم الطاعة، ثم قصدوا مرتلة، وهي تحت الطاعة لتوحيد صاحبها أحمد بن قيسي. ثم قصدوا شلّب فافتتحوها، وأمكنوا منها ابن قيسي. ثم نهضوا إلى باجة وبطليوس فأطاعهم صاحب سدراتي بن وزير.
ثم براز في عسكر الموحّدين إلى مرتلة حتى انصرم فصل الشتاء فخرج إلى منازلة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: قادس.
[2] وفي نسخة أخرى: حيسن وفي نسخة ثانية قيسي وفي النسخة الباريسية حبيش.
[3] وفي نسخة أخرى: سدراي.
[4] وفي نسخة أخرى: ذندة.
[5] وفي النسخة الباريسية: البطروحي.

(6/312)


إشبيليّة فأطاعه أهل طليطلة [1] وحصن القصر، واجتمع إليه سائر الثّوار وحاصروا إشبيليّة برّا وبحرا إلى أن افتتحوها في شعبان من سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وفرّ الملثمون بها إلى قرمونة وقتل من أدرك منهم. وأتى القتل على عبد الله بن القاضي أبي بكر بن العربيّ في هيعة تلك الدخلة من غير قصد. وكتبوا بالفتح إلى عبد المؤمن بن عليّ. وقدم عليه وفودهم بمراكش يقدمهم القاضي أبو بكر فتقبّل طاعتهم وانصرفوا.
بالجوائز والأقطاعات لجميع الوفد سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.
وهلك القاضي أبو بكر في طريقه ودفن بمقبرة فاس. وكان عبد العزيز وعيسى أخوا المهدي من مشيخة العسكر بأشبيليّة ساء أثرهما بالبلد واستطالت أيديهما على أهله، واستباحوا الدماء والأموال. ثم اعتزما على الفتك بيوسف البطروجي صاحب لبلة فلحق ببلده وأخرج الموحّدين الذين بها، وحوّل الدعوة عنهم. وبعث إلى طليطلة وحصن القصر، ووصل يده بالملثّمين الذين كانوا بالعدوة وارتدّ ابن قيسي في مدينة شلف، وعلي بن عيسى بن ميمون بجزيرة قادس ومحمد بن الحجام بمدينة بطليوس وثبت أبو الغمر بن عزرون على طاعة الموحّدين بشريش [2] ورندة [3] وجهاتهما.
وتغلّب ابن غانية على الجزيرة الخضراء، وانتقض أهل سبتة كما ذكرناه، وضاقت أحوال الموحّدين بأشبيليّة، فخرج منها عيسى وعبد العزيز أخوا المهدي وابن عمهما يصليتن بمن كان معهم. ولحقوا بجبال بستر [4] وجاءهم أبو الغمر بن عزرون، واتصلت أيديهم على حصار الجزيرة حتى افتتحوها وقتلوا من كان بها من لمتونة، ولحق أخو المهدي بمراكش، وبعث عبد المؤمن على إشبيليّة يوسف بن سليمان في
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: طلياطلة.
[2] شريش. مدينة كانت تدعى عند القوط سرت
ceret.وبناحيتها وقعت المعركة الحاسمة بين طارق بن زياد وآخر ملوك الغوط سنة 711 م، وبعدها تم فتح المسلمين للأندلس، وكانت في أيام العرب مدينة مهمة ومركزا ثقافيا مشهورا، وهي اليوم كذلك من أهم مدن اسبانيا. استرجعها الاسبان نهائيا سنة 1264 م. بينها وبين إشبيليّة 97 كلم الى ناحية الجنوب. وكانت في أيام العرب من اعمال كورة البحيرة. (البيّنة/ 34) .
[3] رنده: اسمها اللاتيني روندا
ronda وهي من أقدم مدن اسبانيا، وكانت مزدهرة أيام العرب، تقدّم فيها أدباء وعلماء مشهورون، ولها تاريخ مجيد في الاستماتة دفاعا عن استقلالها. ولم يستطع الاسبان الاستيلاء عليها إلا بعد حصار دام عشرين يوما سنة 1485 قبل غرناطة بسبع سنوات. ونزح أهلها إلى المغرب العربيّ، وتوجد الى الآن عائلات الرندي بالمغرب. تبعد 108 كلم عن جبل طارق باتجاه الشمال وعن مالقة 96 كلم الى ناحية الشرق (البيّنة/ 27) .
[4] وفي نسخة ثانية: بيستر.

(6/313)


عسكر من الموحّدين وأبقى براز بن محمد على الجباية، فخرج يوسف ودوّخ أعمال البطروجي بلبلة وطليطلة وعمل ابن قيسي بشلب ثم أغار على جبيرة وأطاعه عيسى بن ميمون صاحب شنت مريّة، وغزا معهم وأرسل محمد بن عليّ بن الحاج صاحب بطليوس [1] بهداياه فتقبّلت ورعيت له، ورجع يوسف إلى إشبيليّة. وفي أثناء ذلك استغلظ الطاغية على يحيى بن عليّ بن غانية بقرطبة وألح على جهاته حتى نزل له عن بياسة [2] ورندة، وتغلّب على الاشبونة [3] وطرطوشة [4] ولاردة [5] وافراغة وشنت مريّة وغيرها من حصون الأندلس، وطالب ابن غانية بالزيادة في بيته أو الإفراج له عن قرطبة، فراسل ابن غانية براز بن محمد واجتمعا باستجة [6] وضمن له براز إمداد الخليفة على أن يتخلّى عن قرطبة وقرمونة ويدال منها بجيان فرضي بذلك وتمّ العقد ووصل حطاب عبد المؤمن بإمضائه فارتحل ابن غانية إلى جيان ونازلة الطاغية بها فغدر بأقماطه واقتلعهم بقلعة ابن سعيد وافرج الطاغية عن جيان ولحق هذا بغرناطة وبها ميمون بن بدر اللمتوني في جماعة من المرابطين، قصده ابن غانية ليحمله على مثل حاله مع الموحّدين فكان مهلكه بها في شعبان سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وقبره بها معروف لهذا العهد. وانتهز الطاغية فرصته في قرطبة فزحف إليها ودفع الموحّدون بأشبيليّة أبا الغمر بن عزرون لحمايتها، ووصل إليه مدد يوسف
__________
[1] بطليوس: اسمها القديم بتاليوم
Batallium:وهي مدينة على الحدود البرتغالية تبعد عن مجريط نحو 400 كلم. كانت عاصمة لبني الأفطس أيام ملوك الطوائف، وبالقرب منها كانت موقعة الزلاقة. ينسب إليها علماء وأدباء معروفون. وكانت تعتبر من كورة قصر ابن أبي وانس. (البينة/ 23) .
[2] بياسة: اسمها باللاتينية: فيفاتيا
Vivatia وكان لها شأن أيام العرب ونبغ فيها أدباء وعلماء. خرّبها الاسبان بعد استرجاعها سنة 1277 ثم أعيد تجديدها (البينة/ 24) .
[3] الاشبونة هي عاصمة البرتغال اليوم وكانت تسمى قبل الإسلام أوليسيبو.
Ulissipo افتتحها المسلمون سنة 711 وبقي نفوذهم بها إلى سنة 1147، وكانت من كورة البلاطة. (البينة/ 20) .
[4] طرطوشة، كانت أيام الرومان تدعى
tosajuliaAugusta مدينة على شاطئ البحر المتوسط. كانت مركزا بحريا هاما أيام العرب ومدينة علم وأدب استرجعها الاسبان سنة 1148 م وهي الى جنوب برشلونة. كانت تعتبر من كورة البورتات. (البيّنة/ 28) .
[5] لاردة: كانت تسمى ايلاردة.
Elerda فتحها العرب في القرن الثامن وهي على نهر شيقر. كانت من أهم الثغور الشرقية. (البيّنة/ 29) .
[6] استجة: اسمها في اللاتينية
Astigi تقع جنوبي قرطبة لا تزال بها اثار عربية قيّمة وهي على وادي شنيل. (البيّنة/ 20) .

(6/314)


البطروجي من لبلة [1] وبلغ الخبر عبد المؤمن فبعث إليها عسكرا من الموحدين لنظر يحيى بن يغمور في طلب الأمان من عبد المؤمن. ثم تلاحقوا به بمراكش فتقبّلهم وصفح لهم ونهض إلى مدينة سلا سنة خمس وأربعين وخمسمائة واستدعى منها أهل الأندلس فوفدوا عليه وبايعوه جميعا، وبايعه الرؤساء من الثوّار على الانخلاع من الأمر مثل سدراتي بن وزير صاحب باجة، وباثورة [2] والبطروجي صاحب لبلة، وابن عزرون صاحب شريش ورندة وابن الحجّام صاحب بطليوس، وعامل بن مهيب صاحب طلبيرة، وتخلّف ابن قيسي وأهل شلب عن هذا الجمع فكان سببا لقتله من بعد. ورجع عبد المؤمن إلى مراكش وانصرف أهل الأندلس إلى بلادهم واستصحب الثّوار فلم يزالوا بحضرته والله تعالى أعلم.
(فتح افريقية وشئونها)
ثم بلغ عبد المؤمن ما هي عليه إفريقية من اختلاف الأمراء واستطالة العرب عليها بالعيث والفساد، وأنهم حاصروا مدينة القيروان، وأنّ موسى بن يحيى الرياحي المرداسي دخل مدينة باجة وملكها، فأجمع الرحلة إلى غزو إفريقية بعد أن شاور الشيخ أبا حفص وأبا إبراهيم وغيرهما من المشيخة فوافقوه. وخرج من مراكش في أواخر سنة ست وأربعين وخمسمائة موريا بالجهاد حتى انتهى إلى سبتة واستوضح أحوال أهل الأندلس، ثم رحل عن سبتة موريا بمراكش، وأغذّ السير إلى باجة فدخل الجزائر على حين غفلة، وخرج إليه الحسن بن عليّ صاحب المهديّة، فصحبه واعترضه جيوش صنهاجة بأمّ العلو فهزمهم وصبح بجاية من الغد فدخلها.
وركب يحيى بن العزيز البحر في أسطولين كان أعدّهما لذلك، واحتمل فيهما ذخائره وأمواله والحق بقسنطينة إلى أن نزل بعد ذلك منها على أمان عبد المؤمن. واستقرّ
__________
[1] اسمها القديم
Ilipla:وهي من أعمال أونبة تبعد عن إشبيليّة 65 كلم استرجعها الاذفونش العاشر سنة 1257 وهي موطن العائلة الفاسية ومنها نزحوا الى مالقة ثم إلى إشبيليّة، ثم الى فاس، وكانوا يحملون بالأندلس اسم بني الجد (البيّنة/ 29- 30) .
[2] وفي نسخة أخرى: يابورة.

(6/315)


بمراكش تحت الجراية والعناية إلى أن هلك رحمه الله.
ثم سرّح عبد المؤمن عساكر الموحّدين وعليهم ابنه عبد الله إلى القلعة، وبها جوش بن عبد العزيز في جموع صنهاجة فاقتحمها واستلحم من كان بها منهم، وأضرم النار في مساكنها وقتل جوش. ويقال إنّ القتلى بها كانوا ثمانية عشر ألفا وامتلأت أيدي الموحّدين من الغنائم والسبي، وبلغ الخبر إلى العرب بإفريقية من الأثبج وزغبة ورياح وقسرة فعسكروا بظاهر باجة، وتآمروا على الدفاع عن ملكهم يحيى بن العزيز، وارتحلوا إلى سطيف وزحف إليه عبد الله بن عبد المؤمن في الموحّدين الذين معه وكان عبد المؤمن قد قفل إلى المغرب ونزل متيجة، فلما بلغه الخبر بعث المدد لابنه عبد الله، والتقى الفريقان بسطيف واقتتلوا ثلاثا، ثم انفضت جموع العرب واستلحموا وسبيت نساؤهم واكتسحت أموالهم وأسر أبناؤهم.
ورجع عبد المؤمن إلى مراكش سنة سبع وأربعين وخمسمائة ووفد عليه كبراء العرب من أهل إفريقية طائعين فوصلهم، ورجعوا إلى قومهم. وعقد على فاس لابنه السيد أبي الحسن، واستوزر له يوسف بن سليمان، وعقد على تلمسان لابنه السيد أبي حفص واستوزر له أبا محمد بن وانودين. وعلى سبتة لابنه السيد أبي سعيد واستوزر له محمد بن سليمان. وعلى بجاية للسيد أبي محمد عبد الله واستوزر له يخلف بن الحسين، واختص ابنه أبا عبد الله بولاية عهده. وتغير بذلك كله ضمائر عبد العزيز وعيسى أخوي المهدي فلحقا بمراكش مضمرين الغدر وأدخلوا بعض الأوغاد في شأنهم فوثبوا بعمر بن تافراكين وقتلوه بمكانه من القصبة. ووصل على أثرهما الوزير أبو حفص بن عطية وعبد المؤمن على أثره فأطفآ نار تلك الثورة وقتل أخو المهدي ومن داخلهم فيها والله أعلم.
(فتح بقية الأندلس)
وبلغه بمراكش سنة تسع وأربعين وخمسمائة أنّ يحيى بن يغمور صاحب إشبيليّة قتل أهل لبلة بما كان من غدر الوهبي لها. وتقبّل معذرتهم في ذلك فسخط يحيى بن يغمور وعزله عن إشبيليّة بأبي محمد عبد الله بن أبي حفص بن عليّ التينمللي، وعن

(6/316)


قرطبة بأبي زيد بن بكيت، وبعث عبد الله بن سليمان فجاء بابن يغمور معتقلا إلى الحضرة، وألزمه منزله إلى أن بعثه مع ابنه السيد أبي حفص إلى تلمسان واستقام أمر الأندلس. وخرج ميمون بن بدر اللمتوني عن غرناطة للموحّدين فملكوها، وأجاز إليها السيد أبا سعيد صاحب سبتة بعهد أبيه عبد المؤمن إليه بذلك، ولحق الملثّمون بمراكش، ونازل السيد أبو سعيد مدينة المريّة [1] حتى نزل من كان بها من النصارى على الأمان. وحضر لذلك الوزير أبو حفص بن عطيّة بعد أن أمدهم ابن مودهشي [2] الثائر بشرق الأندلس والطاغية معه، وعجزوا جميعا عن المدافعة. ثم وفد أشياخ إشبيليّة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ورغبوا من عبد المؤمن ولاية بعض أبنائه عليهم، فعقد لابنه السيد أبي يعقوب عليها، وافتتح أمره بمنازلة عليّ الوسيني الثائر بطلبيرة [3] ومعه الوزير أبو حفص بن عطيّة حتى استقام على الطاعة. ثم استولى على عمل ابن وزير وابن قيسي، واستنزل تاشفين اللمتوني من مرتلة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة وكان الّذي أمكن الملثّمين منها ابن قيسي واستتم الفتح. ورجع السيد إلى إشبيليّة وانصرف أبو حفص بن عطيّة إلى مراكش فكانت فيها نكبته ومقتله. واستوزر عبد المؤمن من بعده عبد السلام الكومي، كان يمت إليه بذمّة صهر فلم يزل على وزارته والله أعلم.
(بقية فتح إفريقية)
لما بلغ عبد المؤمن سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ما كان من إيقاع الطاغية بابنه السيد أبي يعقوب بظاهر إشبيليّة، ومن استشهد من أشياخ الموحّدين وحفاظهم، ومن الثّوار مثل ابن عزرون [4] وابن الحجّام، نهض يريد الجهاد، واحتل سلا، فبلغه
__________
[1] المرية: مدينة على البحر الأبيض المتوسط كانت موجودة قبل الفتح الإسلامي، لكن العرب وسّعوها وجعلوها مرسى تجاريا وسمّوها المرية بمعنى المرآة الصغيرة. كانت أيام ملوك الطوائف عاصمة بني تجيب وقد ازدهرت في أيامهم وكانت مركزا ثقافيا مهما، استرجعها الاسبان سنة 1489 م وهي في شرقي مالقة تبعد عنها 222 كلم، وكانت تعتبر أيام العرب من أعمال كورة بجانة (البيّنة/ 32) .
[2] وفي نسخة أخرى: ابن مردنيش وهو الأصح.
[3] هكذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بمنازلة علي الوهبي الثائر بطبيرة.
[4] وفي نسخة أخرى: ابن عزّون.

(6/317)


انتقاض إفريقية، وأهمه شأن النصارى بالمهديّة، فلما توافت العساكر بسلا استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب، وعقد ليوسف بن سليمان على مدينة فاس، ونهض يغذّ السير حتى نزل المهديّة وبها من نصارى أهل صقلّيّة [1] ، فافتتحها صلحا سنة خمس وخمسين وخمسمائة واستنقذ جميع البلاد الساحلية مثل صفاقس وطرابلس من أيدي العدوّ.
وبعث ابنه عبد الله من مكان حصاره للمهديّة إلى قابس فاستخلصها من يد بني كامل المتغلبين عليها من دهمان، بعض بطون رياح. واستخلص قفصة من يد بني الورد، وورغة من يد بني بروكسن وطبرقة من يد ابن علال وجبل زغوان من يد بني حماد بن خلفة [2] وشقبناريّة من يد بني عبّاد [3] ، بن نصر الله، ومدينة الأربص من يد من ملكها من العرب حسبما ذلك مذكور في أخبار هؤلاء الثوار في دولة صنهاجة.
ولما استكمل الفتح وثنى عنانه إلى المغرب سنة ست وخمسين وخمسمائة بلغه أنّ الأعراب بإفريقية انتقضوا عليه، فرجّع إليهم عسكرا من الموحّدين، فنهضوا إلى القيروان وأوقعوا بالعرب، وقتل كبيرهم محرز بن زياد الفارغي من بني عليّ إحدى بطون رياح والله تعالى أعلم.
(أخبار ابن مردنيش الثائر بشرق الأندلس)
كان بلغ عبد المؤمن وهو بإفريقية أنّ محمد بن مردنيش الثائر بشرق الأندلس خرج من مرسية ونازل جيان. وأطاعه واليها محمد بن عليّ الكومي، ثم نازل بعدها قرطبة ورحل عنها وغدر بقرمونة وملكها، ثم رجع إلى قرطبة وخرج ابن بكيت لحربه فهزمه وقتله، فكتب إلى عماله بالأندلس بفتح إفريقية، وأنه واصل إليهم. وعبر إلى جبل الفتح، واجتمع إليه أهل الأندلس ومن بها من الموحّدين، ثم رجع إلى مراكش وبعث عساكره إلى الجهاد، ولقيهم الطاغية فهزموه. وتغلّب السيد أبو يعقوب على
__________
[1] كان يحتل المهدية النورمانديون وقد استخلصها منهم عبد المؤمن سنة 1160 م- 555 هـ (قبائل المغرب ص 127) .
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بن خليفة.
[3] وفي نسخة أخرى بني عيّاد.

(6/318)


قرمونة من يد ابن همشك صهر ابن مردنيش. وكان السيدان أبو يعقوب صاحب إشبيليّة وأبو سعيد صاحب غرناطة ارتحلا لزيارة الخليفة بمراكش، فخالف ابن همشك إلى مدينة غرناطة وعلا ليلا بمداخلة من بعض أهلها. واستولى عليها وانحصر الموحّدون بقصبتها، وخرج عبد المؤمن من مراكش لاستنقاذها فوصل إلى سلا.
وقدّم السيد أبا سعيد فأجاز البحر ولقيه عامل إشبيليّة عبد الله بن أبي حفص بن علي، ونهضوا جميعا إلى غرناطة، فنهض إليهم ابن همشك وهزمهم. ورجع السيد أبو سعيد إلى مالقة، وردفه عبد المؤمن بأخيه السيد أبي يعقوب في عساكر الموحّدين، ونهضوا إلى غرناطة وكان قد وصلها ابن مردنيش في جموع من النصارى مددا لابن همشك، فلقيهم الموحّدون بفحص غرناطة وهزموهم. وفرّ ابن مردنيش إلى مكان في المشرق، ولحق ابن همشك بجيان فنازله الموحّدون. وأقبل السيدان إلى قرطبة فأقاما بها إلى أن استدعي السيد أبو يعقوب بمراكش سنة ثمان وخمسين وخمسمائة لولاية العهد والادالة به من أخيه محمد، فلحق بمراكش وخرج في ركاب أخيه الخليفة عبد المؤمن لما نهض للجهاد. وأدركته المنية بسلا في جمادى الأخيرة من هذه السنة ودفن بتينملل إلى جانب المهدي والله أعلم.
(دولة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن)
لما هلك عبد المؤمن أخذ البيعة على الناس السيد أبو حفص لأخيه أبي يعقوب باتفاق من الموحّدين كافة، ورضا من الشيخ أبي حفص خاصة. واستقل في رتبة وزارته ورجعوا إلى مراكش وكان السيد أبو حفص هذا وزيرا لأخيه عبد المؤمن، واستوزره عند نكبة عبد السلام الكومي، فرجّعه من إفريقية سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
وكان أبو عليّ بن جامع متصرفا بين يديه في رسم الوزارة إلى أن هلك عبد المؤمن فأخذ أبو حفص البيعة لأخيه أبي يعقوب. ثم هلك إثر وفاة عبد المؤمن ابنه السيد أبو الحسن صاحب فاس والسيد أبو محمد صاحب بجاية في طريقه إلى الحضرة. ثم استقدم أبو يعقوب السيد أبا سعيد من غرناطة سنة ستين وخمسمائة فقدم ولقيه السيد

(6/319)


أبو حفص بسبتة.
ثم صرّح الخليفة أبو يعقوب معه أخاه السيد أبا حفص إلى الأندلس في عسكر الموحّدين لما بلغه ان إلحاح ابن مردنيش على قرطبة، بعد أن احتشد معه قبائل العرب، زغبة ورياح والأثبج، فأجاز البحر وقصد ابن مردنيش، وقد جمع جموعه وأولياءه من النصارى، ولقيتهم عساكر الموحّدين بفحص مرسية، فانهزم ابن مردنيش وأصحابه وفرّ إلى مرسية من سبتة، ونازلة الموحّدون بها ودوّخوا نواحيه.
وانصرف السيد أبو حفص وأخوه أبو سعيد سنة إحدى وستين وخمسمائة إلى مراكش، وخمدت نار الفتنة من ابن مردنيش. وعقد الخليفة على بجاية لأخيه السيد أبي زكريا، وعلى إشبيليّة للشيخ أبي عبد الله بن إبراهيم. ثم أدال عنه بأخيه السيد أبي إبراهيم، وأقر الشيخ أبا عبد الله على وزارته، وعقد على قرطبة لأخيه السيد أبي إسحاق، وأثر السيد أبا سعيد على غرناطة. ثم نظر الموحدون في وضع العلامة في المكتوبات بخط الخليفة، فاختاروا الحمد للَّه وحده لما وقفوا عليها بخط الإمام المهدي في بعض مخاطباته، فكانت علامتهم إلى آخر دولتهم والله تعالى أعلم.
(فتنة غمارة)
وفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة تحرّك الأمير أبو يعقوب إلى جبال غمارة، لما كان ظهر بها من الفتنة التي تولّى كبرها سبع بن منغفاد ونازعهم في الفتنة صنهاجة جيرانهم فبعث الأمير أبو يعقوب عساكر الموحّدين لنظر الشيخ أبي حفص، ثم تعاظمت فتنة غمارة وصنهاجة فخرج إليهم بنفسه وأوقع بهم، واستأصلهم. وقتل سبع بن منغفاد وانحسم داؤهم، وعقد لأخيه السيد أبي علي الحسن على سبتة وسائر بلادهم. وفي سنة ثلاث وستين وخمسمائة اجتمع الموحّدون على تجديد البيعة واللقب بأمير المؤمنين، وخاطب العرب بإفريقية يستدعيهم إلى الغزو ويحرّضهم. وكتب إليهم في ذلك قصيدة ورسالة مشهورة بين الناس، وكان من إجابتهم ووفودهم عليه ما هو معروف
.

(6/320)


(أخبار الأندلس)
لما استوسق الأمر للخليفة أبي يعقوب بالعدوة وصرف نظره إلى الأندلس والجهاد، واتصل به ما كان من غدر العدو، دمّره الله بمدينة ترجالة [1] . ثم مدينة يابرة [2] ثم حصن شبرمة ثم حصن جلمانيه إزاء بطليوس، ثم مدينة بطليوس، فسرّح الشيخ أبا حفص في عساكر من الموحّدين احتفل في انتقائهم، وخرج سنة أربع وستين وخمسمائة لاستنقاذ بطليوس من هوة الحصار، فلما وصل إلى إشبيليّة بلغه أنّ الموحّدين وبطليوس هزموا ابن الرنك [3] الّذي كان يحاصرهم بإعانة ابن ادفونش، وأنّ ابن الرنك تحصل في قبضتهم أسيرا وفرّجوا ندة [4] الجلّيقي إلى حصنه، فقصد الشيخ أبو حفص مدينة قرطبة، وبعث إليهم إبراهيم بن همشك من جيان بطاعته وتوحيده ومفارقته صاحبه ابن مردنيش لما حدث بينهما من الشحناء والفتنة، فألحّ عليه ابن مردنيش بالحرب، وردّد إليه الغزو، فبعث إلى الشيخ أبي حفص بطاعته.
وكان الشيخ أبو حفص في عساكر الموحّدين، فنهض من مراكش سنة خمس وستين وخمسمائة وفي جملته السيد أبو سعيد أخوه، فوصل إلى إشبيليّة وبعث أخاه أبا سعيد إلى بطليوس، فعقد الصلح مع الطاغية وانصرف، ونهضوا جميعا إلى مرسية ومعهم ابن همشك فحاصروا ابن مردنيش. وثار أهل لورقة [5] بدعوة الموحدين، فملكها السيد أبو حفص. ثم افتتح مدينة بسطة [6] وأطاع ابن عمه محمد بن مردنيش
__________
[1] ترجالة: تقع في ناحية ماردة تبعد عنها حوالي 90 كلم شمالا (البينة/ 25) .
[2] يابرة: اسمها القديم: ايبورا، فتحها العرب سنة 715 م وصارت في أيامهم احدى المدن المهمة في ناحية الاشبونة، استرجعها النصارى سنة 1166 وهي على بعد 117 كلم من شرق الاشبونة (البينة/ 35) .
[3] وفي النسخة الباريسية الزيك وفي نسخة أخرى الرتك.
[4] وفي نسخة أخرى: جراندة.
[5] لورقة: مدينة ايبيرية قديمة كانت تدعى عند الرومان،
Ilucro فتحها العرب سنة 780 هـ وكانت عاصمة ناحية زراعية خصبة، استرجعها الإسبان سنة 1266 م وهي بين مرسية والمرية تبعد عن الاولى 62 كلم وعن الثانية 77 كلم وكانت أيام العرب من اعمال كورة تدمير (البينة/ 30) .
[6] بسطة: اسمها أيام الرومان بسطي
Basti وكانت من أخريات المدن التي استرجعها الاسبان في ناحية وادي آش سنة 1489. ولا تزال بها الى الآن اثار عربية. تبعد عن وادي آش 48 كلم شرقا (البينة/ 24) .

(6/321)


صاحب المريّة فحص [1] بذلك جناحه.
واتصل الحبر بالخليفة بمراكش، وقد توافت عنده جموع العرب من إفريقية صحبة أبي زكريا صاحب بجاية والسيد أبي عمران صاحب تلمسان، وكان يوم قدومهم عليه يوما مشهودا، فاعترضهم وسائر عساكره، ونهض إلى الأندلس. واستخلف على مراكش السيد أبا عمران أخاه فاحتلّ بقرطبة سنة سبع وستين وخمسمائة ثم ارتحل بعدها إلى إشبيليّة، ولقيه السيد أبو حفص هنالك منصرفا من غزاته. وكان ابن مردنيش لما طال عليه الحصار ارتاب ففتك بهم، وباد أخوه أبو الحجّاج وهلك هو في رجب من هذه السنة. ودخل ابنه هلال في الطاعة، وبادر السيد أبو حفص إلى مرسية فدخلها وخرج هلال في جملته، وبعثه إلى الخليفة بأشبيليّة. ثم ارتحل الخليفة غازيا إلى بلاد العدو فنازل رندة أياما وارتحل عنها إلى مرسية. ثم رجع إلى إشبيليّة سنان ثمان وستين وخمسمائة واستصحب هلال بن مردنيش واصهر له في ابنته، وولّى عمّه يوسف على بلنسية وعقد لأخيه السيد أبي سعيد على غرناطة.
ثم بلغه خروج العدو إلى أرض المسلمين مع القومس الأحدب، فخرج للقائهم وأوقع بهم بناحية قلعة رياح، وأثخن فيهم ورجع إلى إشبيليّة وأمر ببناء حصن القلعة ليحصّن جهاتها، وقد كان خرابا منذ فتنة أبي حجّاج فيه مع كريب بن خلدون بمدّة [2] ازمان المنذر بن محمد وأخيه عبد الله من أمراء بني أمية.
ثم انتقض ابن أذفونيش وأغار على بلاد المسلمين، فاحتشد الخليفة وسرّح السيد أبا حفص إليه فغزاه بعقر داره، وافتتح قنطرة بالسيف، وهزم جموعه في كلّ جهة.
ثم ارتحل الخليفة من إشبيليّة راجعا إلى مراكش سنة إحدى وسبعين وخمسمائة لخمس سنين من إجازته إلى الأندلس، وعقد على قرطبة لأخيه الحسن، وعلى إشبيليّة لأخيه عليّ، وأصاب مراكش الطاعون فهلك من السادات أبو عمران وأبو سعيد وأبو زكريا، وقدم الشيخ أبو حفص من قرطبة فهلك في طريقه، ودفن بسلّا.
واستدعى الخليفة أخويه السيدين أبا علي وأبا الحسن، فعقد لأبي علي على سجلماسة ورجع أبو الحسن إلى قرطبة، وعقد لابني أخيه السيد أبي حفص:
__________
[1] بمعنى نقص قدره.
[2] وفي نسخة أخرى: بمورة،

(6/322)


لأبي زيد منهما على غرناطة، ولأبي محمد عبد الله على مالقة. وفي سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة سطا بذرية [1] بني جامع وغرّبهم إلى ماردة [2] . وفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة عقد لقائم بن محمد بن مردنيش على أسطوله وأغزاه مدينة الأشبونة، فغنم ورجع. وفيه كانت وفاة أخيه السيد الوزير أبي حفص بعد ما أبلى في الجهاد وبالغ في نكاية العدوّ. وقدم ابناه من الأندلس وأخبر الخليفة بانتقاض الطاغية، واعتزم على الجهاد وأخذ في استدعاء العرب من إفريقية والله تعالى أعلم.
(الخبر عن انتقاض قفوصة واسترجاعها)
كان عليّ بن المعزوّ يعرف بالطويل، من أعقاب بني الرند ملوك قفصة قد ثار سنة خمس وسبعين [3] وخمسمائة كما ذكرناه في أخبارهم. وبلغ الخليفة خبره فنهض إليها من مراكش، وسار إلى بجاية وبقي عنده يعلى بن المنتصر الّذي كان عبد المؤمن استنزله من قفصة أنه يواصل قريبه الثائر بها ويخاطب العرب، فتقبّض عليه، ووجدت المخاطبات عنده شاهدة بتلك السعاية واستصفى ما كان بيده، وارتحل إلى قفصة ونزلها. ووفدت عليه مشيخة العرب من رياح بالطاعة فقتلهم [4] ولم يزل محاصرا لقفصة إلى أن نزل على ابن المعز، وانكفأ راجعا إلى تونس. وأنفذ عساكر العرب إلى المغرب، وعقد على إفريقية والزاب للسيد أبي علي أخيه، وعلى بجاية للسيد أبي موسى وقفل إلى الحضرة والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بوزرائه.
[2] اسمها الروماني
EmeritaAugusta وهي من تأسيسهم سنة 25 بعد المسيح وكانت من أعظم مدنهم وأجملها حتى أطلق عليها اسم رومة اسبانيا. فتحها العرب في زحفهم العظيم على الأندلس سنة 713 م واسترجعها الاسبان سنة 1228، يخترقها نهر وادي يانة، تبعد عن بطليوس 61 كلم. وكانت تعتبر أيام العرب من كورة مصر بن أبي دانس (البيّنة/ 30) .
[3] وفي النسخة الباريسية: سنة سبع وخمسين.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى فتقبلهم.

(6/323)


(معاودة الجهاد)
لما قفل من فتح قفصة سنة سبع وسبعين وخمسمائة وفد عليه أخوه السيد أبو إسحاق من إشبيليّة، والسيد أبو عبد الرحمن يعقوب من مرسية، وكافة الموحدين ورؤساء الأندلس يهنّونه بالإياب فأكرم موصلهم وانصرفوا إلى بلادهم. واتصل به أن محمد ابن يوسف بن وانودين غزا بالموحدين من إشبيليّة إلى أرض العدوّ فنازل مدينة يابرة وغنم ما حولها، وافتتح بعض حصونها ورجع إلى إشبيليّة، وأن عبد الله بن إسحاق بن جامع قائد الاسطول بأشبيليّة التقى بأسطول أهل أشبونة في البحر فهزموهم وأخذوا عشرين من قطائعهم مع السبي والغنائم.
ثم بلغ الخبر بأن أدفونش بن شانجة نازل قرطبة وشن الغارات على جهات مالقة ورندة وغرناطة. ثم نزل أستجة [1] وتغلّب على حصن شنغيلة. وأسكن بها النصارى وانصرف، فاستنفر السيد أبو إسحاق سائر الناس للغزو ونازل الحصن نحوا من أربعين يوما. ثم بلغه خروج أذفونش من طليطلة بمدده فانكفأ راجعا. وخرج محمد بن يوسف بن وانودين من إشبيليّة في جموع الموحدين ونازل طلبيرة [2] وبرز إليه أهلها، فأوقع بهم وانصرف بالغنائم، فاعتزم الخليفة أبو يعقوب على معاودة الجهاد، وولّى على الأندلس أبناءه وقدّمهم للاحتشاد، فعقد لابنه أبي إسحاق على إشبيليّة كما كان، ولابنه السيد أبي يحيى على قرطبة، ولابنه السيد أبي زيد الحصرصاني [3] على غرناطة. ولابنه السيد أبي عبد الله على مرسية.
ونهض سنة تسع وسبعين وخمسمائة إلى سلا، ووافاه بها أبو محمد بن أبي إسحاق بن جامع من إفريقية بحشود العرب. وسار إلى فاس وبعث في مقدّمته هنتاتة وتين ملّل
__________
[1] استجة: اسمها اللاتيني
Astigi وهي في جنوبي قرطبة بينهما 56 كلم ولا تزال بها آثار عربية قيمة وهي على وادي شنيل، كانت تعتبر أيام العرب من كورة قنبانية (البينة/ 20) .
[2] طلبيرة: كانت تسمى عند القدماء
Talabriga وهي على نهر تاجه في جنوبي غرب مجريط. كانت أيام العرب محصنة تحيط بها قلاع لا تزال آثارها قائمة الى الآن وهي عبارة عن ثمانية عشر برجا مربعا في غاية الجمال تسمى TorresAlbarranas وهي مشهورة بالفسيفساء الأزرق والأصغر. تبعد 85 كلم عن طليطلة وكانت تعتبر من كورة البشارات. (البينة/ 28) .
[3] وفي نسخة أخرى: الحرضاني.

(6/324)


وحشود العرب. وأجاز البحر من سبتة في صفر من سنة ثمانين وخمسمائة فاحتلّ جبل الفتح، وسار إلى إشبيليّة فوافته بها حشود الأندلس. وسخط محمد بن وانودين وغربة إلى حصن غافق، ورحل غازيا إلى شنترين فحاصرها أياما. ثم أقلع عنها واستمرّ الناس يوم إقلاعه، وخرج النصارى من الحصن فوجدوا الخليفة في غير أهبة ولا استعداد، فأبلى في الجهاد هو ومن حضره، وانصرفوا بعد جولة شديدة. وهلك في ذلك اليوم الخليفة، يقال من منهم أصابه في حومة القتال، وقيل من مرض طرقه عفا الله عنه.
(دولة ابنه يعقوب المنصور)
ولما هلك الخليفة أبو يعقوب على حصن شنترين سنة ثمانين وخمسمائة بويع ابنه يعقوب، ورجع بالناس إلى إشبيليّة فاستكمل البيعة. واستوزر الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص، واستنفر الناس للغزو مع أخيه السيد أبي يحيى فأخذ بعض الحصون وأثخن في بلاد الكفّار. ثم أجاز البحر إلى الحضرة ولقيه بقصر مصمودة السيد أبو زكريا ابن السيد أبي حفص قادما من تلمسان مع مشيخة زغبة، ومضى إلى مراكش فغير المناكير [1] وبسط العدل ونشر الأحكام، وكان من أوّل الأحداث في دولة شأن ابن غانية [2] .
(الخبر عن شأن ابن غانية)
كان علي بن يوسف بن تاشفين لما تغلّب الغدوّ على جزيرة ميورقة وهلك واليها من موالي مجاهد، وهو مبشّر، وبقي أهلها فوضى، وكان مبشّر بعث إليه بالصريخ، والعدوّ محاصر له، فلما أخذها العدوّ وغنم وأحرق وأقلع، وبعث علي بن يوسف واليا عليها وأنور بن أبي بكر من رجالات لمتونة، وبعث معه خمسمائة فارس من
__________
[1] المناكير بمعنى المنكرات وفي نسخة أخرى: فقطع المناكر.
[2] كذا وفي نسخة أخرى: وباشر الأحكام، وكان أول الأحداث في دولته شأن ابن غانية.

(6/325)


معسكره، فأرهب لهم حدّة، وأرادهم على بناء مدينة أخرى بعيدة من البحر فامتنعوا، وقتل مقدّمهم فثاروا به وحبسوه. ومضوا إلى علي بن يوسف فأعفاهم منه، وولّى عليهم محمد بن علي بن يحيى المسوقي المعروف بابن غانية. وكان أخوه يحيى على غرب الأندلس، وكان نزله بأشبيليّة. واستعمل أخاه على قرطبة فكتب إليه علي بن يوسف يأمره بصرف محمد أخيه إلى ولاية ميورقة فارتحل إليها من قرطبة ومعه أولاده عبد الله وإسحاق وعلي والزبير وإبراهيم وطلحة، وكان عبد الله وإسحاق في تربية عمهما يحيى وكفالته فتبناهما. ولما وصل محمد بن علي بن غانية إلى ميورقة قبض على وأنور وبعثه مصفدا إلى مراكش، وأقام على ذلك عشرا، وهلك يحيى بن غانية وقد ولّى عبد الله ابن أخيه محمد على غرناطة، وأخاه إسحاق بن محمد على قرمونة. ثم هلك علي وضعف أمر لمتونة، وظهر عليهم الموحّدون فبعث محمد عن ابنيه عبد الله وإسحاق فوصلا إليه في الأسطول وانقضى ملك لمتونة.
ثم عهد محمد إلى ابنه عبد الله فنافسه أخوه إسحاق، وداخل جماعة من لمتونة في قتله فقتلوه، وقتلوا أباه محمدا. ثم أجمعوا الفتك به فارتاب بهم وداخل لبّ بن ميمون قائد البحر في أمرهم فكبسهم في منازلهم وقتلهم سنة ست وأربعين وخمسمائة. وبقي أميرا لميورقة. واشتغل أوّل أمره بالبناء والغراسة، وضجر منه الناس لسوء ملكته. وفرّ عنه لبّ ميمون إلى الموحّدين. ثم رجع أخيرا إلى الغزو، وكان يبعث بالأسرى والعلوج للخليفة أبي يعقوب إلى أن هلك قبيل مهلكة سنة ثمانين وخمسمائة وخلّف من الولد: محمدا وعليّا ويحيى وعبد الله وسير والمنصور وجبارة وتاشفين وطلحة وعمر ويوسف والحسن، فولّى ابنه محمد وبعث إلى الخليفة أبي يعقوب بطاعته، فبعث هو علي بن الزبرتير لاختبار ذلك منه، وأحسّ بذلك إخوته فنكروه وتقبّضوا عليه.
وقدّموا عليّا منهم. وبلغهم مهلك الخليفة وولاية ابنه المنصور فاعتقلوا ابن الزبرتير وركبوا البحر في أسطولهم إلى بجاية، وولّى على ميورقة أخاه طلحة وطرق بجاية في وركبوا البحر في أسطولهم إلى بجاية، وولّى على ميورقة أخاه طلحة وطرق بجاية في أسطوله على حين غفلة، وعليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن وكان خارجها في بعض مذاهبه، فاستولوا عليه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وتقبضوا على السيد أبي الربيع والسيد أبي موسى عمران بن عبد المؤمن صاحب إفريقية، وكان بها مجتازا واستعمل أخاه يحيى على بجاية، ومضى إلى الجزائر فافتتحها، وولّى عليها يحيى ابن أخيه طلحة، ثم إلى مليانة فولّى عليها بدر بن عائشة. ونهض إلى القلعة،

(6/326)


ثم إلى قسنطينة فنازلها. واتصل الخبر بالمنصور وهو بسبتة مرجعه من الغزو، فسرّح السيد أبا زيد ابن عمّه السيد أبي حفص، وعقد له على حرب ابن غانية. وعقد لمحمد بن أبي إسحاق بن جامع على الأساطيل، وإلى نظره أبو محمد بن عطوش وأحمد الصقلي.
وانتهى السيد أبو زيد إلى تلمسان وأخوه يومئذ السيد أبو الحسن كان واليا وقد أمعن النظر في تحصينها، ثم ارتحل بعساكره من تلمسان ونادى بالعفو في الرعيّة، فثار أهل مليانة على ابن غانية فأخرجوه وسبقت الاساطيل إلى الجزائر فملكوها وقبضوا على يحيى بن طلحة وسيق بدر بن عائشة من أم العلو فقتلوا جميعا بشلف. وتقدّم القائد أحمد الصقلي بأسطوله إلى بجاية فملكها ولحق يحيى بن غانية بأخيه عليّ بمكانه من حصار قسنطينة فأقلع عنها. ونزل السيد أبو زيد الهكلان [1] وخرج السيد أبو موسى من اعتقاله فلقيه هنالك. ثم ارتحل في طلب العدوّ فأفرج عن قسنطينة، وخرج إلى الصحراء واتبعه الموحدون إلى مقرّه بفاس. ثم قفلوا إلى بجاية واستقرّ السيد أبو زيد بها، وقصد علي بن غانية قفصة فملكها، ونازل توزر فامتنعت عليه، ولحق بطرابلس. وخرج غزي الصنهاجي من جموع ابن غانية في بعض أحياء العرب فتغلّب على أشير وسرّح إليهم السيد أبو زيد ابنه أبا حفص عمر، ومعه غانم بن مردنيش فأوقعوا بهم واستولى على حللهم. وقتل غزّي وسيق رأسه إلى بجاية ونصب بها، وألحق به عبد الله أخوه. وغرّب بنو حمدون من بجاية إلى سلا لاتهامهم بالدخول في أمر ابن غانية. واستقدم الخليفة السيد أبا زيد من مكانه ببجاية، وقدم مكانه أخاه السيد أبا عبد الله وانصرف إلى الحضرة. وبلغ الخبر أثناء ذلك باستيلاء علي بن الزبرتير على ميورقة. وكان من خبره أن الأمير يوسف بن عبد المؤمن بعثه إلى ميورقة لدعاء بني غانية إلى أمره. لما كان أخوهم محمد خاطبه بذلك، فلمّا وصل ابن الزبرتير إليهم نكروا شأنه على أخيهم محمد واجتمعوا دونه وتقبّضوا عليه وعلى ابن الزبرتير في أمره، وداخل مواليهم من العلوج في تخلية سبيله من معتقله على أن يخلى سبيلهم بأهليهم وولدهم إلى أرضهم، فتمّ له مراده منهم وصار بالقصبة [2] واستنفذ
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: سكلات وفي نسخة أخرى سلات وفي نسخة ثانية تكلات.
[2] وفي نسخة أخرى: وثار بقفصة.

(6/327)


محمد بن أبي إسحاق من مكان اعتقاله، ولحقوا جميعا بالحضرة. وبلغ الخبر علي ابن غانية بمكانه من طرابلس فبعث أخاه عبد الله إلى صقلّيّة، وركب منها إلى ميورقة ونزل في بعض قراها. وأعمل الحيلة في تملك البلد فاستولى عليه وأضرم نار الفتنة بإفريقية.
ونازل علي بن غانية بلاد الجريد وتغلّب على الكثير منها، وبلغ الخبر باستيلائه على قفصة فخرج المنصور إليه من مراكش سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، ووصل فاس فأراح بها، وسار إلى رباط تازى، ثم سار على التعبية إلى تونس، وجمع ابن غانية من إليه من الملثّمين والأعراب، وجاء معه قراقش الغزّي صاحب طرابلس، فسرّح إليهم المنصور عساكره لنظر السيد أبي يوسف ابن السيد أبي حفص، ولقيهم بغمرة فانقضّ جموع الموحّدين وانجلت المعركة عن قتل علي بن الزبرتير وأبي علي بن يغمور، وفقد الوزير عمر بن أبي زيد، ولحق فلّهم بقفصة فأثخنوا فيهم قتلا، ونجا الباقون إلى تونس. وخرج المنصور متلافيا خبر الواقع في هذا الحال، ونزل القيروان، وأغذّ السير إلى الحامّة فتشاور الفريقان وتزاحفوا فكانت الدبرة على ابن غانية وأحزابه، وأفلت من المعركة بذماء نفسه ومعه خليلة قراقش، وأتى القتل على كثيرهم فصبح المنصور قابس فافتتحها ونقل من كان بها من حرم ابن غانية وذويه في البحر إلى تونس. وثنى العنان إلى تونس فافتتحها وقتل من وجد بها، ثم إلى قفصة فنازلها أياما حتى نزلوا على حكمه. وأمّن أهل البلد والأغراب أصحاب قراقش، وقتل سائر الملثمين ومن كان معهم من الحشود، وهدم أسوارها وانكفأ راجعا إلى تونس، فعقد على إفريقية للسيد أبي زيد، وقفل إلى المغرب سنة أربع وثمانين وخمسمائة ومرّ بالمهدية، واستجر [1] على طريق تاهرت، والعبّاس بن عطيّة أمير بني توجين دليله إلى تلمسان، فنكب بها عمّه السيد أبا إسحاق لشيء بلغه عنه وأحفظه.
ثم ارتحل إلى مراكش، ورفع إليه أنّ أخاه السيد أبا حفص والي مرسية الملقّب بالرشيد، وعمه السيد أبا الربيع والي تادلّا عند ما بلغهم خبر الوقيعة بغمرة، حدّثوا أنفسهم بالتوثّب على الخلافة، فلمّا قدموا عليه للتهنئة أمر باعتقالهما برباط الفتح خلال ما استجلى أمرهما، ثم قتلهما وعقد للسيد أبي الحسن ابن السيد أبي حفص
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وأصحر.

(6/328)


على بجاية، وقصد يحيى بن غانية قسنطينة فزحف إليه السيد أبو الحسن من بجاية فهزمه ودخل قسنطينة ودخل ابن غانية إلى بسكرة فقطع نخلها وافتتحها عنوة. ثم حاصر قسنطينة فامتنعت عليه فارتحل إلى بجاية وحاصرها، وكثر عيثه بإفريقية إلى أن كان من خبره ما يذكر إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
(اخباره في الجهاد)
لمّا بلغه تغلّب العدوّ على قاعدة شلّب، وأنه أوقع بعسكر إشبيليّة، وتردّدت سراياهم على نواحيها، واقتحم [1] كثيرا من حصونها، وخاطبه السيد أبو يوسف بن أبي حفص صاحب اشبيلية بذلك. استنفر الناس للجهاد وخرج سنة ست وثمانين وخمسمائة إلى قصر مصمودة فأراح به. ثم أجاز إلى طريف وأغذ السير منها إلى شلّب، ووافته بها حشود الأندلس فتركهم لحصارها. وزحف إلى حصن طرّش فافتتحه ورجع إلى إشبيليّة. ثم رجع إلى منازلة شلّب سنة سبع وثمانين فافتتحه.
وقدم عليه ابن وزير بعد أن كان افتتح في طريقه إليه حصونا أخرى. ثم قفل إلى حضرته بعد استكماله غزانة. وكتب بعهده لابنه الناصر.
وقدم عليه سنة ثمان وثمانين وخمسمائة السيد أبو زيد صاحب إفريقية، ومعه مشيخة العرب من هلال وسليم فتلقّاهم مبرّة وتكريما، وانقلب وفدهم إلى بلادهم. ثم بلغه سنة تسعين وخمسمائة استفحال ابن غانية بإفريقية وكثرة العيث والفساد بها، فاعتزم على النهوض إليها، ووصل إلى مكناسة فبلغه من أمر الأندلس ما أهمّه فصرف وجهه إليها، ووصل قرطبة سنة إحدى وتسعين وخمسمائة فأراح بها ثلاثا وإمداد الحشود تتلاحق به من كل ناحية. ثم ارتحل للقاء العدوّ ونزل بالأرك من نواحي بطليوس، وزحف إليه العدوّ من النصارى وأمراؤهم يومئذ ثلاثة: ابن أذفونش وابن الرند والبيّوح [2] . وكان اللقاء يوم كذا سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وأبو محمد بن أبي حفص يومئذ على المطوّعة، وأخوه أبو يحيى على العساكر والموحّدين، فكانت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وافتتح.
[2] وفي نسخة أخرى: الرنك ولبّبوج.

(6/329)


الهزيمة المشهورة على النصارى واستلحم منهم ثلاثون ألفا بالسيف.
واعتصم فلّهم بحصن الأرك، وكانوا خمسة آلاف من زعمائهم، فاستنزلهم المنصور على حكمه وفودي بهم عددهم من المسلمين. واستشهد في هذا اليوم أبو يحيى ابن الشيخ أبي حفص بعد أن أبلى بلاء حسنا، وعرف بنوه بعدها ببني الشهيد. وانكفأ المنصور راجعا إلى إشبيليّة. ثم خرج منها سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة غازيا إلى بلاد الجوف فافتتح حصونا ومدنا وخرّبها. كان منها ترجالة وطلبيرة. وأطلّ على نواحي طليطلة، فخرّب بسائطها واكتسح مسارحها، وقفل إلى إشبيليّة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة فرفع إليه في القاضي أبي الوليد بن رشد مقالات نسب فيها إلى المرض في دينه وعقله. وربما ألّف بعضها بخطه فحبس. ثم أطلق وأشخص إلى الحضرة وبها كانت وفاته.
ثم خرج المنصور من إشبيليّة غازيا إلى بلاد ابن أذفونش حتى احتل بساحة طليطلة، وبلغه أن صاحب برشلونة أمدّ ابن أدفونش بعساكره، وأنهم جميعا بحصن مجريط، فنهض إليهم. ولمّا أطلّ عليهم انفضّت جموع ابن أذفونش من قبل القتال، ثم انكفأ المنصور راجعا إلى إشبيليّة. ثم رغب إليه ملوك النصرانيّة في السلم فبذله لهم.
وعقد على إشبيليّة للسيد أبي زيد ابن الخليفة، وعلى مدينة بطليوس للسيد أبي الربيع ابن السيد أبي حفص، وعلى المغرب للسيد أبي عبد الله ابن السيد أبي حفص. وأجاز إلى حضرته سنة أربع وتسعين وخمسمائة فطرقه المرض الّذي كان منه حتفه، وأوصى وصيّته التي تناقلها الناس. وحضر لوصيّته عيسى ابن الشيخ أبي حفص، وهلك رحمه الله سنة خمس وتسعين وخمسمائة في آخر ربيعها، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن وصول ابن منقذ بالهدية من قبل صاحب الديار المصرية)
كان الفرنج قد ملكوا سواحل الشام في آخر الدولة العبيديّة منذ تسعين سنة وملكوا بيت المقدس، فلمّا استولى صلاح الدين بن أيوب على ديار مصر والشام اعتزم على جهادهم، وصار يفتح حصونها واحدا بعد واحد حتى أتى على جميعها. وافتتح

(6/330)


بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وهدم الكنيسة التي بنواحيها [1] ، وانفضّت أمم النصرانية من كل جهة واعترضوا أسطول صلاح الدين في البحر فبعث صريخه إلى المنصور سنة خمس وثمانين وخمسمائة يطلب إعانته بالأساطيل لمنازلة عكّا وصور وطرابلس. ووفد عليه أبو الحرث عبد الرحمن بن منقذ بقيّة أمراء شيزر من حصون الشام، كانوا أشروا به عند اختلال الدولة العبيدية. فلمّا استقام الأمر على يد صلاح الدين، وانتظم ملك مصر والشام واستنزل بني منقذ هؤلاء ورعى لهم سابقتهم، وبعثه في هذه إلى المنصور بالمغرب بهديّة تشتمل على مصحفين كريمين منسوبين، ومائة درهم من دهن البلسان، وعشرين رطلا من العود، وستمائة مثقال من المسك والعنبر، وخمسين قوسا عربية بأوتارها، وعشرين من النصول الهندية وسروج عدّة ثقيلة. ووصل إلى المغرب ووجد المنصور بالأندلس فانتظره بفاس إلى حين وصوله، فلقيه وأدى الرسالة فاعتذر له عن الأسطول وانصرف. ويقال إنه جهّز له بعد ذلك مائة وثمانين أسطولا، ومنع النصارى من سواحل الشام، والله تعالى أعلم.
(دولة الناصر بن المنصور)
لما هلك المنصور وأمر ابنه محمد وليّ عهده، وتلقّب الناصر لدين الله، واستوزر أبا زيد بن يوجان وهو ابن أخي الشيخ أبي حفص. ثم استوزر أبا محمد ابن الشيخ أبي حفص، وعقد للسيد أبي الحسن ابن السيد أبي حفص على بجاية، وفوّض إليه في شئونها. وبلغه سنة ست وتسعين وخمسمائة إجحاف العدوّ بإفريقية، وفساد الأعراب في نواحيها، ورجوع السيد أبي الحسن من قسنطينة منهزما أمام ابن غانية، فأنفذ السيد أبا زيد بن أبي حفص إلى تونس في عسكر من الموحّدين لسدّ ثغورها. وأنفذ أبا سعيد ابن الشيخ أبي حفص فتغلّب ابن غانية خلال ذلك على حصن المهديّة. وثار بالسوس سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ثائر من كزولة يعرف بأبي
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بنوها عليها.

(6/331)


قفصة، فسرّح الناصر إليه عساكر الموحّدين فقصدوا جموعه وقتل. وفي أيامه كان فتح ميورقة على ما نقلوا من خبرها.
(فتح افريقية)
وكان من خبرها أن محمد بن إسحاق لمّا فصل إخوته عليّ ويحيى إلى إفريقية، وولّى على ميورقة أخاهم طلحة، داخل محمد بعض الحاشية، وخرج من الاعتقال هو وابن الزبرتير، وقام بدعوة المنصور، وبعث بها مع ابن الزبرتير، فبعث المنصور أسطوله مع أبي العلا بن جامع لتملّك ميورقة، فأبى محمد عن ذلك، راسل طاغية برشلونة في المدد بجند من النصارى يستخدمهم فأجابه، وانتقض عليه أهل ميورقة لذلك، وخشوا عادية المنصور فطردوا محمد بن إسحاق وولّوا عليهم أخاه تاشفين.
وبلغ ذلك عليّا وهو على قسنطينة، فبعث إخوته عبد الله الغازي فداخلوا بعض أهل البلد وعزلوا تاشفين وولوا عبد الله، وبعث المنصور أسطوله مرارا مع أبي العلا بن جامع. ثم مع يحيى ابن الشيخ إبراهيم الهزرجي فامتنعوا عليهم، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وقوي أمره وذلك سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ثم لما هلك المنصور بعث الناصر أسطوله مع عمّه السيد أبي العلا والشيخ أبي سعيد بن أبي حفص فنازلوه وانخذل عنه أخوه تاشفين بالناس، ودخل البلد عنوة، واستفتحت وقتل. وانصرف السيد إلى مراكش وولّى عليها عبد الله بن طاع الله الكومي، ثم ولّى الناصر عليها عمّه السيد أبا زيد، وجعل ابن طاع الله على قيادة البحر. وبعد السيد أبي زيد وليها السيد أبو عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن، ثم أبو يحيى علي بن أبي عمران التينمللي، ومن يده أخذها النصارى سنة سبع وعشرين وستمائة، والله تعالى أعلم.
(خبر إفريقية وتغلب ابن غانية عليها ولاية أبي محمد بن أبي الشيخ أبي حفص)
لما هلك المنصور قوي أمر ابن غانية بإفريقية، وولّى الناصر السيد أبا زيد والشيخ أبا

(6/332)


سعيد بن أبي حفص، ويقال ان المنصور ولّاهما، وكثر الهرج بإفريقية وثار بالمهديّة محمد بن عبد الكريم الرجراجي، ودعا لنفسه، ونازع ابن غانية الموحّدين الأمر، وتسمّى صاحب قبة الأديم محمد بن عبد الكريم الركراكي. ونزل تونس وعاث في قراها سنة ست وتسعين وخمسمائة ونازل ابن غانية بفاس فامتنع عليه، وكان محمد ابن مسعود البلطي شيخ رياح من أشياعه فانتقض عليه، وراجع ابن غانية فأتيح له الظهور على محمد بن عبد الكريم وقصده وهو على قفصة فهزمه. واتبعه إلى المهديّة فنازله بها. وبعث إلى صاحب تونس في المدد بأسطوله فأمدّه، فضاقت حال ابن عبد الكريم، فسأل الأمان من ابن غانية فأمّنه، وخرج إليه فتقبض عليه واستولى على المهديّة سنة تسع وتسعين وخمسمائة وقتله.
وبعث الناصر أسطوله في البحر مع عمه أبي العلا وعساكر الموحّدين مع السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن. ونازلوا ابن عبد الكريم قبل استيلاء ابن غانية عليها، فادعى ابن عبد الكريم بأنه حافظ للحصن من العدو، ولا يمكنه إلّا لثقة الخليفة. وانصرف السيد أبو الحسن إلى بجاية موضع عمله، وقسّم العسكر بينه وبين أخيه السيد أبي زيد صاحب تونس وصلحت الأحوال. ثم أن ابن غانية لمّا تغلّب على المهديّة وعلى قراقش الغزّيّ صاحب طرابلس، وقد مرّت أخباره في أخبار ابن غانية. ثم تغلّب على بلاد الجريد، ثم نزل تونس تسع وتسعين وخمسمائة وافتتحها عنوة، وتقبّض على السيد أبي زيد، وطالب أهل تونس بالنفقة التي أنفق وبسط عليهم العذاب. وتولى ذلك فيهم كاتبه ابن عصفور حتى هلك في الامتحان كثير من بيوتاتهم. ثم دخل في دعوته أهل بونه وبنزرت وشقبناريّة والاربص والقيروان وسبتة وصفاقس وقابس وطرابلس. وانتظمت له أعمال إفريقية وفرّق العمّال وخطب للعبّاسي كما ذكرناه في أخباره. ثم ولّى على تونس أخاه الغازي ونهض إلى جبال طرابلس فأغرمهم ألف ألف دينار مكرّرة مرّتين ورجع إلى تونس. واتصل بالناصر كثرة الهرج بإفريقية واستيلاء ابن غانية عليها وحصول السيد أبي زيد في قبضته، فشاور الموحّدين في أمره، فأشاروا بمسالة ابن غانية. وأشار أبو محمد بن الشيخ أبي حفص بالنهوض إليها والمدافعة عنها فعمل على رأيه، ونهض من مراكش سنة إحدى وستمائة، وبعث الأسطول في البحر لنظر أبي يحيى بن أبي زكريا الهزرجيّ، فبعث ابن غانية ذخيرته وحرمه إلى المهديّة مع عليّ بن الغازي بن محمد بن علي. وانتقض

(6/333)


أهل طرابلس على ابن غانية وأخرجوا عاملهم تاشفين بن الغازي بن محمد بن علي ابن غانية، وقصدهم ابن غانية فافتتحها وخرّبها.
ووصل أسطول الناصر إلى تونس فدخلوها وقتلوا من كان بها من أتباع ابن غانية، ونهض الناصر في أتباع ابن غانية فأعجزه ونازل المهديّة، وبعث أبا محمد بن الشيخ أبي حفص للقاء ابن غانية فلقيه بتاجرا فأوقع به وقتل أخاه جبارة. وكاتبه ابن اللمطي وعامله الفتح بن محمد. قال ابن نخيل: وكانت الغنائم من عسكره يومئذ ثمانية عشر ألفا من أحمال المال والمتاع والخرثيّ والآلة. ونجا بأهله وولده فأطلق السيد أبا زيد من الاعتقال بعد أن همّ حرسه بقتله عند الهزيمة. ثم تسلّم الناصر المهديّة من يد علي بن الغازي المعروف بالحاج الكافي على أن يلحق بابن عمّه فقبل شرطه ومضى لوجهه. ثم رجع من طريقه واختار التوحيد فناله من الكرامة والتقريب ما لا فوقه.
وهلك في يوم العقاب الآتي ذكره. ثم فرض الناصر على المهديّة، واستعمل عليها محمد بن يغمور الهرغي، وعلى طرابلس عبد الله بن إبراهيم بن جامع، ورجع إلى تونس فأقام إلى سنة ثلاث وستمائة. وسرّح أخاه السيد أبا إسحاق في عسكر من الموحّدين لاتباع العدوّ فدوّخوا ما وراء طرابلس. واستأصلوا بني دمّر ومطماطة وجبال نفوسة وتجاوزوها إلى سويقة بني مذكور. وقفل السيد أبو إسحاق بهم إلى أخيه الناصر بتونس وقد كمل الفتح. ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب وأجمع رأيه على تولية أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص، وكان شيخ دولته وصاحب رأيه فامتنع إلى أن بعث إليه الناصر في ذلك بابنه يوسف، فأكبر مجيئه وأناب لذلك على أن يقيم بإفريقية ثلاث سنين خاصة خلاف ما يستحكم صلاحها، وأن يحكم فيمن يقيم معه من العسكر فتقبّل شرطه.
ورجع الناصر إلى مراكش فدخلها في ربيع سنة أربع وستمائة، وقدم عبد العزيز بن أبي زيد الهنتاتي على الأشغال بالعدوتين وكان على الوزارة أبو سعيد بن جامع، وكان صديقا لابن عبد العزيز. وعند مرجعه من إفريقية توفي السيد أبو الربيع بن عبد الله ابن عبد المؤمن صاحب بجاية، وقد كان أبو الربيع هذا ولي بجاية من قبل، وهو الّذي جدّد للربيع [1] . وكان بنو حمّاد شيّدوها من قبل، فأصابها الحريق وجدّدها
__________
[1] وفي نسخة أخرى: جدّد الرفيع والبديع من رياضها.

(6/334)


السيد أبو الربيع. وفي سنة خمس وستمائة بعدها عقد للسيد أبي عمران بن يوسف ابن عبد المؤمن على تلمسان، أدال به من السيد أبي الحسن فوصل إلى تلمسان في عساكر الموحّدين وتطوّف أقطارها، وزحف إليه ابن غانية هنالك فانفضّ الموحّدون وقتل السيد أبو عمران. وارتاع أهل تلمسان وأسرع السيد أبو زكريا من فاس إليها فسكن نفوسهم خلال ما عقد الناصر لأبي زيد بن يوجان على تلمسان، وسرّحه في العساكر فنزل بها. وفرّ ابن غانية إلى مكانه من قاصية إفريقية ومعه محمد بن مسعود البلط شيخ الزواودة [1] من رياح وغيره من أعراب رياح وسليم. واعترضهم أبو محمد بن أبي حفص فانكشفوا واستولى الموحّدون على محلاتهم وما بأيديهم، ولحقوا بجهات طرابلس. ورجع عنهم سير بن إسحاق آخذا بدعوة الموحّدين، وفي هذه السنة عقد الناصر على جزيرة ميورقة لأبي يحيى بن أبي الحسين بن أبي عمران، أدال به من السيد أبي عبد الله بن أبي حفص، وعقد على بلنسية وعلى مرسية لأبي عمران بن ياسين الهنتاتي، أدال به من أبي الحسن بن زاكاك [2] . وعقد للسيد أبي زيد على كورة جيان، أدال به من أبي موسى بن أبي حفص، وعقد للسيد أبي إبراهيم بن يوسف على إشبيليّة ولأبي عبد الله بن أبي يحيى بن الشيخ أبي حفص على غرناطة إلى أن كان ما يذكر إن شاء الله تعالى.
(أخباره في الجهاد)
لمّا بلغ الناصر تغلّب العدو على كثير من حصون بلنسية أهمه ذلك وأقلقه، وكتب إلى الشيخ أبي محمد بن أبي حفص يستشيره في الغزو، فأبى عليه فخالفه، وخرج من مراكش سنة تسع وستمائة ووصل إشبيليّة واستقرّ بها واستعدّ للغزو. ثم رجع من إشبيليّة وقصد بلاد ابن أذفونش فافتتح قلعة شلبطرة والبخ [3] في طريقه. ونازل الطاغية قلعة رياح وبها يوسف بن قادس وأخذ بمخنقه فصالحه على النزول، ووصل إلى الناصر فقتله وصار على التعبية إلى الموضع المعروف بالعقاب. وقد استعدّ له
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الدواودة.
[2] وفي نسخة أخرى: واكاك.
[3] وفي نسخة أخرى: واثلج وفي النسخة الباريسية والح وفي نسخة ثانية وانلج.

(6/335)


الطاغية، وجاءه طاغية برشلونة مددا بنفسه، فكانت الدبرة على المسلمين.
فانكشفوا في يوم بلاء وتمحيص أواخر صفر سنة تسع وستمائة. وانكفأ راجعا إلى مراكش فهلك في شعبان من السنة بعدها. وكان ابن أذفونش قد ناظر ابن عمه اليهوج [1] صاحب ليون في أن يوالي الناصر ويجرّ الهزيمة على المسلمين ففعل ذلك. ثم رجعوا إلى الأندلس بعد الكائنة للإغارة على بلاد المسلمين، فلقيهم السيد أبو زكريا ابن أبي حفص بن عبد المؤمن قريبا من إشبيليّة فهزمهم، وانتعش المسلمون بها، واتصلت الحال على ذلك والله أعلم.
(ثورة ابن الفرس)
كان عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الفرس من طبقة العلماء بالأندلس ويعرف بالمهر، وحضر مجلس المنصور في بعض الأيام وتكلّم بما خشي عاقبته في عقده وخرج من المجلس فاختفى مدّة، ثم بعد مهلك المنصور ظهر في بلاد كزولة وانتحل الإمامة وادّعى أنه القحطاني المراد في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يقود الناس بعصاه يملأها عدلا كما ملئت جورا» ، إلى آخر الحديث. وكان مما ينسب إليه من الشعر:
قولوا لأبناء عبد المؤمن بن علي ... تأهّبوا لوقوع الحادث الجلل
قد جاء سيّد قحطان وعالمها [2] ... ومنتهى القول والغلّاب للدول
والناس طوعا عصاه وهو سائقهم ... بالأمر والنهي بحر العلم والعمل
وبادروا [3] أمره فاللَّه ناصره ... والله خاذل أهل الزيغ والميل
فبعث الناصر اليه الجيوش فهزموه وقتل وسيق رأسه الى مراكش فنصب بها والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الببوج.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: وعاملها.
[3] وفي نسخة أخرى: تبادروا.

(6/336)


(دولة المستنصر بن الناصر)
لما هلك محمد الناصر بن المنصور بويع ابنه يوسف سنة إحدى عشرة وستمائة وهو ابن ست عشرة سنة ولقّب المستنصر باللَّه، وغلب عليه ابن جامع ومشيخة الموحّدين فقاموا بأمره. وتأخّرت بيعة أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص من إفريقية لصغر سنّ المستنصر. ثم وقعت المحاولة من الوزير ابن جامع صاحب الاشغال عبد العزيز بن أبي زيد فوصلت بيعته، واشتغل المستنصر عن التدبير بما يقتضيه الشباب، وعقد للسادة على عمالات ملكه، فعقد للسيد أبي إبراهيم أخي المنصور، وتلقّب بالظاهر على فاس، وهو أبو المرتضى. وعقد على إشبيليّة لعمّه السيد أبي إسحاق الأحول.
واستولى ألفنش على المعاقل التي أخذها الموحّدون، وهزم حامية الأندلس، ووفد رسوله ابن الفخار فحاوله ابن جامع في السلم فعقده ثم صرف ابن جامع عن الوزارة بعد مهلك ابن أبي زيد بسعاية أبي زيد بن يوجان، واستوزر أبا يحيى الهزرجي وولى على الأشغال أبا علي بن أشرفي ثم رضي عن ابن جامع وأعاده، وعزل أبا زيد ابن يوجان من ولاية تلمسان بأبي سعيد بن المنصور، وبعثه إلى مرسية فاعتقل بها.
واستمرّت أيام المنصور في هدنة وموادعة إلى أن ظهر بنو مرين بجهات فاس سنة ثلاث عشرة وستمائة، فخرج إليهم واليها السيد أبو إبراهيم في جموع الموحّدين فهزموه وأسروه. ثم عرفوه وأطلقوه، ثم وصل الخبر بمهلك أبي محمد بن أبي حفص صاحب إفريقية فولّى عليها أبا العلى أخا المنصور، وكان واليا بأشبيليّة فعزل. وولّى على إفريقية سعاية بن مثنّى خاصة السلطان فتوجه إليها كما يذكر في أخبار بني أبي حفص. وخرج بناحية فاس رجل من العبيديّين انتسب للعاضد، وتسمّى بالمهديّ، فبعث السيد أبو إبراهيم أخو المنصور والي فاس إلى شيعته وبذل لهم المال فتقبّضوا عليه، وساقوه إليه فقتل. وفي سنة تسع عشرة وستمائة عقد المستنصر لعمّه أبي محمد المعروف بالعادل على مرسية، وعزله عن غرناطة. وهلك سنة عشرين وستمائة وقد التاثت الأمور فكان ما نذكر، والله تعالى أعلم
.

(6/337)


(الخبر عن دولة المخلوع أخي المنصور)
لما هلك المستنصر في الأضحى من سنة عشرين وستمائة اجتمع ابن جامع والموحّدون وبايعوا للسيد أبي محمد عبد الواحد أخي المنصور، فقام بالأمر وأمر بمطالبة ابن أشرفي بالمال. وكتب أخوه لأبي العلا بتجديد الولاية على إفريقية بعد أن كان المستنصر أو عز بعزله، فأدركته الولاية ميتا فاستبدّ بها ابنه أبو زيد المشمّر كما نذكره في أخبار إفريقية. وأنفذ المخلوع أمره بإطلاق ابن يوجان فأطلق. ثم صدّه ابن جامع عن ذلك وأنفذ أخاه أبا إسحاق في الأسطول ليغرّبه إلى ميورقة كما كان المستنصر أنفذه قبل وفاته. وكان الوالي بمرسية أبو محمد عبد الله بن المنصور وأغراه ابن يوجان بالتوثّب على الأمر، وشهد له أنه سمع من المنصور العهد له بالخلافة من بعد الناصر. وكان الناس على كره ابن جامع. وولاة الأندلس كلّهم بنو منصور فأصغى إليه، وكان متردّدا في بيعة عمّه، فدعا لنفسه وتسمّى بالعادل. وكان إخوته أبو العلى صاحب قرطبة، وأبو الحسن صاحب غرناطة، وأبو موسى صاحب مالقة، فبايعوه سرّا.
وكان أبو محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن المعروف بالبياسي صاحب جيان وعزله المخلوع بعمّه أبي الربيع بن أبي حفص فانتقض وبايع للعادل وزحف مع أبي العلى صاحب قرطبة وهو أخو العادل إلى إشبيليّة، وبها عبد العزيز أخو المنصور والمخلوع فدخل في دعوتهم وامتنع السيد أبو زيد بن عبد الله أخي البياسي عن بيعة العادل، وتمسّك بطاعة المخلوع. وخرج العادل من مرسية إلى إشبيليّة فدخلها مع أبي زيد بن يوجان، وبلغ الخبر إلى مراكش فاختلف الموحّدون على المخلوع.
وبادروا بعزل ابن جامع وتغريبه إلى هسكورة. وقام بأمر هنتاتة أبو زكريا يحيى بن أبي يحيى السيد ابن أبي حفص، وبأمر تين ملّل يوسف بن علي، وبعث على اسطول البحر أبا إسحاق بن جامع، وأنفذه لمنع الجواز من الزقاق. وكان أسرّ إلى ابن جامع حين خرج إلى هسكورة أن يحاول عليه من هنالك فلم يتم أمره، وقتل بمكان خفي في ربيع سنة إحدى وعشرين وستمائة وبعث الموحّدون ببيعتهم إلى العادل، والله أعلم
.

(6/338)


(الخبر عن دولة العادل بن المنصور)
لما بلغت بيعة الموحّدين للعادل وكتاب ابن زكريا بن الشهيد بقصّة المخلوع، قارن ذلك تغييره للبيّاسي فانتقض عليه، ودعا لنفسه ببيّاسة، وتلقّب الظافر وشغل بشأنه، وبعث أخاه أبا العلى لحصاره فامتنع عليه، وبعث بعده ابنه أبا سعيد ابن الشيخ أبي حفص فامتنع عليه أيضا، واختلّت الأحوال بالأندلس على العادل وكثرت غارة النصارى على إشبيليّة ومرسية وهو مقيم بها. وانهزمت جيوش الموحّدين على طليطلة وأغراه خاصته بابن يوجان فأخذ إلى سبتة. وعظم أمر البيّاسي بالأندلس وظاهر النصارى على شأنه، فأجاز العادل إلى العدوة وولّى أخاه أبا العلى على الأندلس. ولما كان بقصر الحجاز دخل عليه عبّو بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص، فقال له كيف حالك فأنشده:
حال متى علم ابن منصور بها ... جاء الزمان اليه منها تائبا
فاستحسن ذلك وولّاه إفريقية. وكتب للسيد أبي زيد ابن عمه بالقدوم، ووصل إلى سلا فأقام بها. وبعث عن شيوخ جشم، وكان لابن يوجان عناية واختصاص يهلال بن حمدان بن مقدّم أمير الخلط، فتثاقل ابن جرمون أمير سفيان عن الوصول، وأقبل الخلط وسفيان، وبادر العادل إلى مراكش فدخلها واستوزر أبا زيد بن أبي محمد بن الشيخ أبي حفص، وتغيّر لابن يوجان ففسد باطنه. وتغلّب على الدولة ابن الشهيد ويوسف بن علي شيخا هنتاتة وتين ملّل. ثم خالفت هسكورة والخلط وعاثوا نواحي مراكش، وخرج إليهم ابن يوجان فلم يغن شيئا فخرّبوا بلاد دكالة فأنفذ إليهم العادل عسكرا من الموحّدين لنظر إبراهيم بن إسماعيل بن الشيخ أبي حفص وهو الّذي كان نازع أولاد الشيخ أبي محمد بإفريقية كما نذكره فانهزم وقتل.
وخرج ابن الشهيد ويوسف بن علي إلى قبائلها للحشد ومدافعة هسكورة، فاتفقا على خلع العادل والبيعة ليحيى بن الناصر، وقصدوا مراكش فاقتحموا عليه القصر ونهبوه، وقتل العادل خنقا أيام الفطر من سنة أربع وعشرين وستمائة والله تعالى أعلم.

(6/339)


(الخبر عن دولة المأمون بن المنصور ومزاحمة يحيى بن الناصر له)
كان المأمون لما بلغه انتقاض الموحّدين والعرب على أخيه، وتلاشى أمره لنفسه بأشبيليّة فبويع وأجابه أكثر الأندلس وبايع السيد أبو زيد صاحب بلنسية وشرق الأندلس.
ثم كان ما قدّمناه من انتقاض الموحّدين على العادل وقتله بالقصر وبيعتهم ليحيى ابن أخيه الناصر، فكاتب ابن يوجان سرّا وعمل على إفساد الدولة، فداخلهم هسكورة والعرب في الغارة على مراكش، وهزم عساكر الموحّدين وفطن ابن الشهيد لتدبير ابن يوجان فقتله بداره. وخرج يحيى بن الناصر إلى معتصمه كما ذكرناه فخلع الموحّدون العادل [1] وبعثوا بيعتهم إلى المأمون.
وتولّى كبر ذلك الحسن أبو عبد الله العريقي [2] والسيد أبو حفص بن أبي حفص فبلغ خبرهم إلى يحيى بن الناصر وابن الشهيد، فنزلوا إلى مراكش سنة ست وعشرين وستمائة وقتلوهم وبايع للمأمون صاحب فاس وصاحب تلمسان محمد بن أبي زيد بن يوجان، وصاحب سبتة أبو موسى بن المنصور، وصاحب بجاية ابن أخته ابن الأطامي [3] وامتنع صاحب إفريقية وكان ذلك سببا لاستبداد الأمير أبي زكريا على ما يذكر. ولم يبق على دعوة يحيى بن الناصر إلا إفريقية وسجلماسة.
وزحف البيّاسي إلى قرطبة فملكها، ثم زحف إلى إشبيليّة فنازل بها المأمون والطاغية معه، بعد أن نزل له عن مخاطة [4] وغيرها من حصون المسلمين فهزمهم المأمون بنواحي إشبيليّة ولحق البياسي بقرطبة فثاروا به إلى حصن المدور، فغدر به وزيره ميورك [5] ، وجاء برأسه إلى المأمون بأشبيليّة. ثم ثار محمد بن يوسف بن هود وملك مرسية واستولى على الكثير من شرق الأندلس كما ذكرناه في أخباره. وزحف إليه المأمون وحاصره وامتنع عليه فرجع إلى إشبيليّة، ثم خرج سنة ست وعشرين وستمائة
__________
[1] حسب مقتضى السياق: يحيى بن الناصر وهكذا في النسخة الباريسية.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الغريغر.
[3] وفي نسخة أخرى: الاطاس.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: قجاطة.
[5] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: يبورك.

(6/340)


إلى مراكش لما استدعاه أهل المغرب، وبعثوا إليه ببيعاتهم، وبعث إليه هلال بن حميد ان أمير الخلط يستدعيه. واستمدّ الطاغية عسكرا من النصارى وأمره على شروط تقبّلها منه المأمون، وأجاز إلى العدوة. وبادر أهل إشبيليّة بالبيعة لابن هود، واعترضه يحيى بن الناصر فهزمه المأمون واستلحم من كان معه من الموحّدين والعرب، ولحق يحيى بجبل هنتاتة. ثم دخل المأمون الحضرة وأحضر مشيخة الموحّدين وعدّد عليهم فعلاتهم وتقبّض على مائة من أعيانهم فقتلهم، وأصدر كتابه إلى البلدان بمحو اسم المهدي من السكّة والخطبة، والنعي عليه في النداء للصلاة باللغة البربرية، وزيادة النداء لطلوع الفجر وهو: «أصبح وللَّه الحمد» وغير ذلك من السنن التي اختصّ بها المهدي وعبد المؤمن، وجرى على سننها أبناؤه. فأوعز بالنهي عن ذلك كله. وشنّع عليهم في وصفهم الامام المهدي بالمعصوم، وأعاد في ذلك وأبدى.
وأذن للنصارى القادمين معه في بناء الكنيسة بمراكش على شرطهم، فضربوا بها نواقيسهم. واستولى ابن هود بعده على الأندلس، وأخرج منها سائر الموحّدين، وقتلهم العامّة في كل محل [1] . وقتل السيد أبو الربيع ابن أخي المنصور وكان المأمون تركه واليا بقرطبة. واستبد الأمير أبو زكريا بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص بإفريقية، وخلع طاعته سنة سبع وعشرين وستمائة للسيد أبي عمران ابن عمه محمد الخرصان [2] على بجاية مع أبي عبد الله اللحياني أخي الأمير أبي زكريا. وزحف إليه يحيى بن الناصر فانهزم، ثم ثانية كذلك، واستلحم من كان معه ونصبت رءوسهم بأسوار الحضرة. ولحق يحيى بن الناصر ببلاد درعة وسجلماسة.
ثم انتقض على المأمون أخوه أبو موسى ودعا لنفسه بسبتة وتسمّى بالمؤيد، فخرج المأمون من مراكش وبلغه في طريقه أنّ قبائل بني فازان ومكلاتة حاصروا مكناسة وعاثوا في نواحيها، فسار إليها وحسم عاملها [3] واستمرّ إلى سبتة فحاصرها ثلاثة أشهر، واستمدّ أخوه أبو موسى صاحب الأندلس لابن هود فأمدّه بأساطيله.
وخالف يحيى بن الناصر المأمون إلى الحضرة فاقتحمها مع عرب سفيان وشيخهم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: في كل مطر.
[2] وفي نسخة ثانية: الحرضاني وفي النسخة الباريسية الخرصاني.
[3] وفي النسخة الباريسية عللها وهي أصح حسب مقتضى السياق.

(6/341)


جرمون بن عيسى، ومعهم أبو سعيد بن وانودين شيخ هنتاتة، وعاثوا فيها، فأقلع المأمون عن سبتة يريد الحضرة وهلك في طريقه بوادي أمّ الربيع مفتتح سنة ثلاثين وستمائة وحين إقلاعه دخل أخوه السيد أبو موسى في طاعة ابن هود، وأمكنه من سبتة فأداله منها، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن دولة الرشيد بن المأمون)
لمّا هلك المأمون بويع ابنه عبد الواحد ولقّب الرشيد، وكتموا موت أبيه وأغذّوا السير إلى مراكش، ولقيهم يحيى بن الناصر في طريقهم بعد أن استخلف بمراكش أبا سعيد بن وانودين فهزموه، وقتل أكثر من معه. وصبّح الرشيد مراكش فامتنعوا عليه بأشياعهم، ثم خرجوا إليه واستقاموا على بيعته. وكان وصل في صحبته عمه السيد أبو محمد سعد فحلّ من الدولة بمكان، وكان إليه التدبير والحلّ والعقد، وبعد استقرار الرشيد بالحضرة وصل إليه عمر بن وقاريط كبير الهساكرة بمن كان عنده من أولاد المأمون السيّد وإخوته، جاءوا من إشبيليّة عند ثورة أهلها بهم، واستقرّوا بسبتة عند عمهم أبي موسى، ومنها إلى الحضرة عند استيلاء ابن هود على سبتة ومرّوا بهسكورة، وكان ابن وقاريط حذرا من المأمون ومعتقدا أن لا يعود إليه، فتذمّم بصحبة هؤلاء الأولاد، وقدم على الرشيد فتقبّله واعتلق بوصله من السيد أبي محمد سعد وصحبه [1] لمسعود بن حمدان كبير الخلط.
ولما هلك السيد أبو محمد لحق ابن وقاريط بقومه ومعتصمه، وكشف وجه الخلاف، وأخذ بدعوة يحيى بن الناصر، واستنفر له قبائل الموحّدين ونهض إليهم الرشيد سنة إحدى وثلاثين وستمائة واستخلف على الحضرة صهره أبا العلى إدريس وصعد إليهم الجبل، فأوقع بيحيى وجموعه بمكانهم من هزرجة واستولى على معسكرهم. ولحق يحيى ببلاد سجلماسة وانكفأ الرشيد راجعا إلى حضرته، واستأمن له كثير من الموحّدين الذين كانوا مع يحيى بن الناصر فأمّنهم ولحقوا بحضرته. وكان كبيرهم أبو عثمان سعيد بن زكريا الكدميوي، وجاء الباقون على أثره بسعيه بعد أن شرطوا عليه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وصحابة.

(6/342)


إعادة ما كان أزال المأمون من رسوم المهدي فأعيدت. وقدم فيهم أبو بكر بن يعزى التينمللي رسولا عن يوسف بن علي بن يوسف شيخ تين ملّل، ومحمد بن يوزيكن الهنتاني رسولا عن أبي علي بن عزوز، ورجعا إلى مرسليهما بالقبول، فقدما على الحضرة وقدم معهم موسى بن الناصر أخو يحيى وكبيره. وجاء على أثرهم أبو محمد ابن أبي زكريا وأنسوا لإعادة رسوم الدعوة المهدية.
وكان مسعود بن حمدان الخلطي قد أغراه عمر بن وقاريط بالخلاف لصحبة بينهما، وكان مدلّا ببأسه وكثرة جموعه. يقال: إنّ الخلط كانوا يومئذ يناهزون اثني عشر ألفا سوى الرّجل والأتباع والحشود، فمرض في الطاعة وتثاقل عن الوفادة، ولمّا علم بمقام الموحدين أجمع اعتراضهم وقتلهم تمكينا للفرقة والشتات في الدولة فأعمل الرشيد الحيلة في استدعائه، وصرف عساكره إلى باجة [1] لنظر وزيره السيد أبي محمد، حتى خلا لابن حمدان الحوّ وذهب عنه الريب، واستقدمه فأسرع اللحاق بالحضرة، وقدم معه معاوية عم عمر بن وقاريط، فتقبّض عليه وقتل لحينه.
واستدعى مسعود بن حمدان إلى المجلس الخلافي للحديث فتقبّض عليه وعلى أصحابه وقتلوا ساعتئذ بعد جولة وهيعة، وقضى الرشيد حاجة نفسه فيهم. واستقدم وزيره وعساكره من باجة فقدموا، ولما بلغ خبر مقتلهم إلى قومهم قدّموا عليهم يحيى ابن هلال بن حمدان [2] ، وأجلبوا على سائر النواحي، وأخذوا بدعوة يحيى واستقدموه من مكانه بقاصية الصحراء.
وداخلهم في ذلك عمرو بن وقاريط، وزحفوا لحصار الحضرة، وخرجت العساكر لقتالهم ومعهم عبد الصمد بن يلولان فدفع [3] ابن وقاريط في جموعه من العساكر فانهزموا، وأحيط بجند النصارى فقتلوا وتفاقم الأمر بالحضرة، وعدمت الأقوات.
واعتزم الرشيد على الخروج إلى جبال الموحّدين فخرج إليها. وسار منها إلى سجلماسة فملكها، واشتدّ الحصار على مراكش وافتتحها يحيى بن الناصر وقومه من هسكورة والخلط، وسار أمرهم [4] فيها وتغيّرت أحوال الخلافة. وتغلّب على السلطان السيد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حاجة.
[2] وفي نسخة أخرى: جميدان.
[3] وفي نسخة أخرى: فرجع.
[4] وفي نسخة أخرى: أثرهم.

(6/343)


أبو إبراهيم بن أبي حفص الملقّب بأبي حاقة، وفي سنة ثلاث وثلاثين وستمائة خرج الرشيد من سجلماسة بقصد مراكش، وخاطب جرمون بن عيسى وقومه من سفيان، فأجازوا وادي أم الربيع وبرز إليه يحيى في جموعه، والتقى الفريقان فانهزمت جموع يحيى واستحرّ القتل فيهم، ودخل الرشيد إلى الحضرة ظافرا.
وأشار يحيى بن وقاريط على الخلط بالاستصراخ بابن هود صاحب الأندلس، والأخذ بدعوته، فنكثوا بيعة يحيى وبعثوا وفدهم إلى ابن هود صحبة عمر بن وقاريط على الخلط بالاستصراخ فاستقرّ هنالك. وخرج الرشيد من مراكش وفرّ الخلط أمامه، وسار إلى فاس وسرّح وزيره السيد أبا محمد إلى غمارة وفازاز لجباية أموالها، وكان يحيى بن الناصر لما نكث الخلط بيعته لحق بعرب المعقل فأجاروه ووعدوه النصرة، واشتطّوا عليه في المطالب، وأسف بعضهم بالمنع فاغتاله في جهة تازى، وسيق رأسه إلى الرشيد بفاس فبعثه إلى مراكش، وأوعز إلى نائبة بها أبي علي ابن عبد العزيز بقتل العرب الذين كانوا في اعتقاله وهم: حسن بن زيد شيخ العاصم، وقائد وفائد ابنا عامر شيخا بني جابر، فقتلهم وانكفأ الرشيد راجعا إلى حضرته سنة أربع وثلاثين وستمائة وبلغه استيلاء صاحب درعة أبي محمد بن وانودين على سجلماسة، وذلك أنّ الرشيد لما فصل من سجلماسة استخلف عليها يوسف بن علي التينمللي، فاستعمل ابن خالته من بني مردنيش، وهو يحيى بن أرقم بن محمد بن مردنيش، فثار عليه ثائر من صنهاجة وقتله في خبائه. قام ابنه أرقم يطلب الثأر، ولو بلغ منه ما أراد. ثم حدّثته نفسه بالانتقاض خوفا من عزل الرشيد إيّاه فانتقض.
ونهض إليه الرشيد سنة اثنتين وثلاثين وستمائة فلم يزل أبو محمد بن وانودين يعمل الحيلة في استخلاصها حتى تمكّن منها وعفا عن أرقم. وكان ابن وقاريط لمّا فصل إلى ابن هود سنة أربع وثلاثين وستمائة ركب البحر في أسطول ابن هود، وقصد لسلا وبها السيد أبو العلى صهر الرشيد، فكاد ان يغلب عليها. وفي سنة خمس وثلاثين وستمائة بايع أهل إشبيليّة للرشيد ونقضوا طاعة ابن هود، وتولّى كبر ذلك أبو عمر بن الجدّ، واستخفّ [1] بنو حجاج إلى سبتة ووصل وفدهم إلى الحضرة ومرّوا في طريقهم بسبتة، فاقتدى أهلها بهم في بيعة الرشيد، وخلعوا أميرهم اليانشي [2] الثائر بها على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أشخص.
[2] وفي النسخة الباريسية: البانشتي.

(6/344)


ابن هود وقدموا على الحضرة، وولّى عليهم الرشيد أبا علي بن خلاص منهم. ولأيام من مقدمهم وصل عمر بن وقاريط معتقلا من إشبيليّة، أغراهم بالقبض عليه القاضي أبو عبد الله المؤمناني، كان توجّه رسولا إلى ابن هود عن الرشيد، فأمكنهم من ابن وقاريط. وبعث إلى الرشيد في وفد من رسله فاعتقله بأزمور وقتل وصلب برباط هسكورة، بعد أن طيف به على جمل. وانصرف وفد إشبيليّة وسبتة، واستقدم الرشيد رؤساء الخلط فتقبّض عليهم، وبعث عساكره فاستباحوا حللهم وأحياءهم. ثم أمر بقتل مشيختهم وقتل معهم ابن وقاريط، وقطع دابرهم. وفي سنة ست وثلاثين وستمائة وصلت بيعة محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر الثائر بالأندلس على ابن هود. وفي سنة سبع وثلاثين وستمائة اشتدّت الفتنة بالمغرب، وانتشر بنو مرين وقتلوهم قتلا ذريعا. وكان الرشيد استقدم أبا محمد بن وانودين من سجلماسة سنة خمس وثلاثين وستمائة وعقد له على فاس وسجلماسة وغمارة ونواحيها من أرض المغرب، فكان هنالك. ولما انتشر بنو مرين بالمغرب زحف إليهم فهزموه، ثم زحف ثانية وثالثة فهزموه، وأقام في محاربتهم سنتين ورجع إلى الحضرة. واشتدّ عدوان بني مرين بالمغرب، وألحّوا على مكناسة حتى أعطوا الإتاوة لبني حمامة منهم، فأسفوا بني عسكر بذلك، واتصل عيثهم في نواحيها. وفي سنة سبع وثلاثين وخمسمائة قتل الرشيد كاتبه ابن المؤمناني [1] لمداخلة له مع بعض السادة، وهو عمر بن عبد العزيز أخي المنصور، وقف على كتابه إليه بخطه. وغلط الرسول بها فدفعها بدار الخليفة.
وفي سنة أربعين وستمائة بعدها كانت وفاة الرشيد غريقا، زعموا في بعض حوائز [2] القصر. ويقال إنه أخرج من الماء وحمّ لوقته، وكان فيها مهلكه، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن دولة السعيد بن المأمون) لمّا هلك الرشيد بويع أخوه أبو الحسن السعيد بتعيين أبي محمد بن وانودين، وتلقّب المقتدر باللَّه [3] واستوزر السيد أبا إسحاق بن السيد أبي إبراهيم ويحيى بن عطوش.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن المأموني.
[2] وفي النسخة الباريسية: جزاء وفي نسخة أخرى: حوائر، ولعله يقصد أحواز جمع حوز، وهي بركة الماء.
[3] وفي نسخة أخرى: المعتضد باللَّه.

(6/345)


وتقبّض على جملة من مشيخة الموحّدين واستصفى أموالهم واستخلف لنفسه رؤساء العرب من جشم. واستظهر بجموعهم على أمره وكان شيخ سفيان كانون بن جرمون كبير مجكسة [1] ولأوّل بيعته انتقض عليه أبو علي بن الخلاص البلنسي صاحب سبتة، وكذلك أهل إشبيليّة وبايعوا جميعا للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية.
ثم انتقض عليه بسجلماسة عبد الله بن زكريا الهزرجي لمقالة كانت منه يوم بيعة الرشيد اسرّها له فبايع للأمير أبي زكريّا. ثم وصلته في هذه السنة هدية يغمراسن بن زيّان صاحب تلمسان، فنهض الأمير أبو زكريّا صاحب إفريقية بسبب ذلك إلى تلمسان، واستولى عليها. ثم عقد عليها ليغمراسن حسبما نذكر في أخباره. وخرج السعيد من مراكش لتمهيد بلاد المغرب سنة اثنتين وأربعين وتغيّر لسعيد بن زكريّا الكدميوي فتقبّض عليه من معسكره بتانسفت وفرّ أخوه أبو زيد ومعه أبو سعيد العود الرطب، ولحقوا بسجلماسة فاستصفى أموالهم بمراكش، وارتحل بقصد سجلماسة وأخذ واليها عبد الله الهزرجي في أسباب الامتناع، فغدر به أبو زيد بن زكريّا الكدميوي، وداخل أهل سجلماسة في الثورة عليه وملك البلد. واستدعى السيد لها فوصل وقتل الهزرجي. وفرّ أبو سعيد العود الرطب إلى تونس. ثم رجع السعيد إلى المغرب وقتل سعيد بن زكريّا ونزل المقرمدة من أحواز فاس. وعقد المهادنة مع بني مرين وقفل إلى مراكش فتقبّض على أبي محمد بن وانودين واعتقله بأزمور. واعتقل معه يحيى بن مزاحم ويحيى بن عطّوش لنظر ابن ماكسن، فأعمل الحيلة في الفرار من معتقله.
وخلص ليلا إلى كانون بن جرمون فأركبه وبعث معه من عرب سفيان من أوصله إلى قومه هنتاتة. وراسله السعيد على أثرها وسكنه واعتذر له، وأسعفه بسكنى تافيّوت من حصون عمله [2] بأهله وولده.
ثم انتقض على السعيد كانون بن جرمون وسفيان، وخالفهم إليه بنو جابر والخلط، وخرج من مراكش واستوزر السيّد أبا إسحاق ابن السيّد أبي إبراهيم إسحاق أخي المنصور. واستخلف أخاه أبا زيد على مراكش، وأخاهما أبا حفص عمر على سلا وفصل من مراكش سنة [3] وجمع له أبو يحيى بن عبد الحق جموع بني
__________
[1] وفي نسخة أخرى: كبير مجلسه.
[2] وفي نسخة أخرى: جبله.
[3] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد السنة في المراجع التي بين أيدينا.

(6/346)


راشد وبني ورا وسفيان، حتى إذا تراءى الفريقان للقاء، خالف كانون بن جرمون الموحّدين إلى أزمور. واستولى عليها ورجع السعيد أدراجه في أتباعه، ففرّ كانون واعترضه السعيد فأوقع به، واستلحم كثيرا من سفيان قومه، واستولى على ماله من مال وماشية، ولحق كانون في فلّ بني مرين ورجع السعيد إلى الحضرة. وفي ثلاث وأربعين وستمائة ثارت العامة بمكناسة على واليها من قبل السعيد فقتلوه. وحذر مشيختها من سطوته فحوّلوا الدعوة إلى الأمير أبي زكريا بن أبي حفص صاحب إفريقية، وبعثوا إليه ببيعتهم، وكانت من إنشاء أبي مطرف بن عميرة، وذلك بمداخلة أبي يحيى بن عبد الحق أمير بني مرين ووفاقه لهم على ذلك. وشارطوا أبا يحيى بن عبد الحق بمال دفعوه إليه على الحماية.
ثم راجعوا أمرهم [1] وأوفدوا صلحاءهم ببيعتهم فرضي عنهم السعيد ورضوا عنه، وفي هذه السنة بعث أهل إشبيليّة وأهل سبتة بطاعتهم للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية.
وبعث ابن خلاص بهديته مع ابنه في أسطول أنشأه لذلك فغرق عند إقلاعه من المرسي. وفي سنة ست وأربعين كان استيلاء الطاغية على إشبيليّة لسبع وعشرين من رمضان ولمّا بلغ السيّد بيعة أهل إشبيليّة وسبتة للأمير أبي زكريا إلى ما كان من تغلّبه على تلمسان، وأخذ يغمراسن بدعوته، ثم ما كان من بيعة أهل مكناسة وأهل سجلماسة أعمل نظره في الحركة إلى تلمسان ثم إلى إفريقية. وخرج إلى مراكش في ذي الحجّة من سنة خمس وأربعين وستمائة ووافاه كانون بن جرمون فعاوده الطاعة واستحشد سفيان وجاء في جملة السعيد مع سائر القبائل من جشم.
ولمّا احتلّ السعيد بتازي وافاه وفد بني مرين عن أميرهم أبي يحيى بن عبد الحق، فأعطوه الطاعة وبعثوا معه عسكرا من قومهم مددا له.
ثم ثار السعيد إلى تلمسان فكان مهلكه بتامزردكت على يد بني عبد الواد في صفر سنة ست وأربعين وستمائة حسبما يشرح في أخبارهم. ويقال إنّ ذلك كان بمداخلة من الخلط فاستولوا على المحلة وقتلوا عدوّهم كانون، وانفضّ العسكر إلى المغرب وقد اجتمعوا الى عبد الله بن السعيد واعترضهم بنو مرين بجهات تازي، فقتلوا عبد الله بن السعيد ولحق الفلّ بمراكش فبايعوا المرتضى كما نذكر إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: رأيهم.

(6/347)


(الخبر عن دولة المرتضى ابن أخي المنصور)
لما لحق فلّ العسكر بعد مهلك السعيد بمراكش، اجتمع الموحّدون على بيعة السيّد أبي حفص عمر بن السيد أبي إبراهيم إسحاق أخي المنصور، واستقدموه لها من سلا، فلقيه وافدهم بتامسنا من طريقه ومعه أشياخ العرب فبايعوه وتلقّب المرتضى، وعقد ليعقوب بن كانون على بني جابر ولعمّه يعقوب بن جرمون على عرب سفيان بعد أن كان قومه قدّموه عليهم، ودخل الحضرة فاستوزر أبا محمد بن يونس وتقبّض على حاشية السعيد، ثم وصل أخوه السيد أبو إسحاق من الفلّ آخذا على طريق سجلماسة فاستوزره واستبدّ عليه واستولى أبو يحيى بن عبد الحق وبنو مرين إثر مهلك السعيد على رباط تازي من يد السيد أبي علي أخي أبي دبّوس وأخرجوه فلحق بمراكش.
ثم استولوا بعدها على مدينة فاس سنة سبع وأربعين وستمائة كما يذكر في أخبارهم بعد. وفي هذه السنة ثار بسبتة أبو القاسم العزفي وأخرج ابن الشهيد الوالي على سبتة من قرابة الأمير أبي زكريّا صاحب إفريقية، وحوّل الدعوة للمرتضى حسبما يذكر في أخبار الدولة الحفصية وأخبار بني العزفي [1] وفي سنة تسع وأربعين وستمائة وفد على المرتضى موسى بن زيّان الونكاسي وأخوه علي من قبائل بني مرين وأغروه بقتال بني عبد الحق فخرج إليهم ولما انتهى إلى أمان إيملولي [2] أشاع يعقوب بن جرمون قضية الصلح بينهما فأصبحوا راحلين، وقد استولى الجزع على قلوبهم فانفضّوا ووقعت الهزيمة من غير قتال. ووصل المرتضى إلى الحضرة فعزل أبا محمد بن يونس عن الوزارة لشيء بلغه عنه، وأسكنه بحملته مع حاشيته، وفرّ من حملته عليّ بن بدر إلى السوس سنة إحدى وخمسين وستمائة، وجاهر بالعناد. وسرّح إليه السلطان عسكرا من الجند فرجعوا عنه ولم يظفروا به، وتفاقم أمره سنة اثنتين وخمسين وستمائة. وجمع أعراب الشبانات وبني حسّان وحمل أموال ونازل تارودانت فحاصر من كان بها. وسرّح المرتضى إليه عسكرا من الموحّدين فأفرج عنها. ثم رجع بعد قفولهم إلى حاله، وعثر المرتضى على خطابه لقريبة ابن يونس وكتاب ابن يونس إليه بخطه، فاعتقل هو
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الغزى.
[2] وفي نسخة أخرى: يملّولن.

(6/348)


وأولاده ثم قتل.
وفي هذه السنة استدعى مشيخة الخلط إلى الحضرة وقتلوا لما كان منهم في مهلك السعيد. وفيها خرج أبو الحسن بن يعلو في عسكر من الموحّدين إلى تامسنا ليكشف أحوال العرب، ومعه يعقوب بن جرمون، وعهد إليه المرتضى بالقبض على يعقوب ابن محمد بن قيطون شيخ بني جابر، فتقبّض عليه وعلى وزيره ابن مسلم وطيّر بهما إلى الحضرة معتقلين.
وفي سنة ثلاث وخمسين وستمائة خرج المرتضى من مراكش لاسترجاع فاس ونواحيها من يد بني مرين المتغلّبين عليها، فوصل إلى بني بهلول، وزحف إليه بنو مرين وأميرهم أبو يحيى فكانت الهزيمة على الموحّدين بذلك الموضع. ورجع المرتضى مفلولا إلى مراكش، ورعى [1] بني مرين من بعد ذلك سائر أيامه. واستبدّ العزفي بسبتة، وابن الأمير بطنجة كما نذكره في أخبارهم.
وفي سنة خمس وخمسين وستمائة بعث المرتضى إلى السوس عسكرا من الموحّدين لنظر أبي محمد بن أصناك فلقيهم عليّ بن بدر وهزمهم واستبدّ بأمره في السوس. وفي هذه السنة استولى أبو يحيى بن عبد الحق على سجلماسة وتقبّض على واليها عبد الحق بن أصكو بمداخلة من خديم له يعرف بمحمد القطراني بنواحي سلا، فصرف عبد الحق ابنه محمد هذا في مهمّة وقرّبه من بين أهل خدمته، وحدّثته نفسه بالثورة فاستمال عرب المعقل أوّلا بالمشاركة في حاجاتهم عند مخدومه، والإحسان إليهم حتى اشتملوا عليه.
ثم داخل أبا يحيى بن عبد الحق في تمكينه من البلد فجاء بجملته، وقدم وفده إلى البلد رسلا في بعض الحديث فتقبّض محمد القطراني على عبد الحق بن أصكو وأخرجه إلى أبي يحيى بن عبد الحق فقاده وسرّحه إلى مراكش. وكان القطراني شرط على أبي يحيى أن يكون والي سجلماسة فأمضى له شرطه، وأنزل معه بها من رجالات بني مرين حتى إذا هلك أبو يحيى بن عبد الحق أخرجهم محمد القطراني واستبدّ بأمر سجلماسة، وراجع دعوة المرتضى واعتذر إليه واشترط عليه الاستبداد فأمضى له شرطه إلّا في أحكام الشريعة [2] .
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مروادع.
[2] وفي نسخة أخرى: الأحكام الشرعية.

(6/349)


وبعث أبا عمر بن حجّاج قاضيا من الحضرة، وبعض السادات للنظر في القضيّة [1] ، وقائدا من النصارى بعسكر للحماية، فأعمل ابن الحجّاج الحيلة في قتل القطراني وتولّاه قائد النصارى. واستبدّ السيّد بأمر سجلماسة بدعوة المرتضى، واستفحل أمر بني مرين أثناء ذلك. ونزل يعقوب بن عبد الحق بسائط تامسنا، فسرّح إليهم المرتضى عساكر الموحّدين لنظر يحيى بن وانودين فأجفلوا إلى وادي أمّ ربيع، فاتبعهم الموحّدون فرجعوا إليهم، وغدر بهم بنو جابر فانهزم الموحّدون بأمر الرجلين [2] . ولحق شيخ الخلط عيسى بن علي ببني مرين وارتحلوا إلى أوطانهم.
وكان المرتضى قدّم يعقوب بن جرمون على قبائل سفيان، وكان محمد ابن أخيه كانون يناهضه في رياسة قومه، وغصّ به فقتله، وثأر به أخواه مسعود وعليّ بفدفد فقتلاه. وولّى المرتضى مكانه ابنه عبد الرحمن فاستوزر يوسف بن وازرك ويعقوب ابن علوان. وشغل بلذّاته وتصدّى لقطع السابلة، ثم نكث الطاعة ولحق ببني مرين، فولّى مكانه عمّه عبد الله بن جرمون ويكنّى بأبي زمّام. وعقد له المرتضى، ثم أدال منه بأخيه مسعود لعجزه. ووفد على المرتضى عواج بن هلال من أمراء الخلط نازعا إلى طاعته ومفارقا لبني مرين، فأنزل معه أصحابه بمراكش وجاء على أثره عبد الرحمن بن يعقوب بن جرمون، فتقبّض على عواج ودفعه إلى علي بن أبي علي فقتله، وكان تقبّض معه على عبد الرحمن بن يعقوب ووزيره فقتلوا جميعا، واستبدّ برياسة سفيان مسعود بن كانون، وبرياسة بني جابر إسماعيل بن يعقوب بن قيطون.
وفي سنة ستين وستمائة عند رجوع يحيى بن وانودين من واقعة أمّ الرجلين، خرج عسكر من الموحّدين إلى السوس لنظر محمد بن علي الزلماط [3] ولقيه علي بن بدر فهزم جموعه وقتله، وعقد المرتضى من بعده على حرب علي بن بدر للوزير أبي زيد بن بكيت، وسرّح معه عسكرا من الجند، وكان فيهم دنلب من زعماء النصرانيّة، فدارت الحرب بين الفريقين، ولم يكن للموحّدين فيها ظهور على كثرتهم وقوّة جلدهم وحسن بلائهم، فسلبهم عن ذلك تكاسل دنلب وخروجه عن طاعة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: للسكنى في القصبة.
[2] وفي نسخة أخرى: بأم الرجلين.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: أزلماط

(6/350)


الوزير. وكتب بذلك للمرتضى فاستقدمه، وأمر أبو زيد بن يحيى الكدميوي باعتراضه في طريقه وقتله. وفي سنة اثنتين وستين وستمائة أقبل يعقوب بن عبد الحق في جموع بني مرين فنازلوا مراكش واتصلت الحرب بينهم وبين الموحّدين بظاهرها أياما هلك فيها عبد الله أنعجوب بن يعقوب، فبعث المرتضى إلى أبيه بالتعزية ولاطفه وضرب له أتاوة يبعث بها إليه في كل عام، فرضي وارتحل عنهم، والله أعلم.
(الخبر عن انتقاض أبي دبوس وتغلبه على مراكش ومهلك المرتضى وما كان في دولته من الأحداث)
لما ارتحل بنو مرين عن مراكش بعد مهلك أنعجوب فرّ من الحضرة قائد حروبه السيد أبو العلى الملقّب بأبي دبوس ابن السيد أبي عبد الله محمد بن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن لسعاية تمكّنت فيه عند المرتضى، وصحبه ابن عمه السيّد أبو موسى عمران بن عبد الله بن الخليفة، فلحقا بمسعود بن كلداسن كبير هسكورة فأجاره.
ثم لحق بيعقوب بن عبد الحق بفاس صريخا به على شأنه. واشترط له المقاسمة في العمالة والذخيرة فأمدّه بالمال، يقال خمسة آلاف دينار عشرية. وأوعز إلى ابن أبي عليّ الخلطي بمظاهرته وإعطائه الآلات. ورجع إلى علي بن أبي علي الخلطي فأمدّه بقومه. ثم سار إلى هسكورة ونزل على صاحبه مسعود بن كلداسن فأطاعه قبائل هسكورة وهزوجة.
وبعثوا إليه عزوز بن ببورك كبير صنهاجة في ناحية أزمور، وكان منحرفا عن طاعة المرتضى إلى جملة يعقوب بن عبد الحق، ووفد عليه جماعة من السادة الموحّدين والجند والنصارى، وارتاب المرتضى بمسعود بن كانون شيخ سفيان، وبإسماعيل بن قيطون شيخ بني جابر، فتقبّض عليهما واعتقلهما، وصار الكثير من قومهما إلى أبي دبوس. وقتل إسماعيل بن قيطون في معتقله، فانتفض أخوه ثائرا ولحق بهم، وحذّر علوش بن كانون مثلها على أخيه فاتبعهم، وزحف أبو العلى إلى مراكش. ولما بلغ أغمات وجد بها الوزير أبا يزيد بن بكيت في عساكر لحمايتها فناجزه الحرب فانهزم ابن بكيت وقتل عامّة أصحابه. وسار أبو دبوس إلى مراكش، وأغار علوش بن كانون على باب الشريعة والناس في صلاة الجمعة، وركّز رمحه بمصراعه.

(6/351)


ودخلت سنة خمس وستين وستمائة والمرتضى بمراكش غافل عن شأن أبي دبوس والأسوار خالية من الحراس والحامية، وقصد أبو دبوس باب اغمات فتسور البلد من هنالك ودخلها على حين غفلة. وقصد القصبة فدخلها من باب الطبول وفرّ المرتضى ومعه الوزير أبو زيد بن يعلو الكومي، وأبو موسى بن عزوز الهنتاتي، فلحقوا بهنتاتة وألفوهم قد بعثوا بطاعتهم فرحل إلى كدميوة، ومرّ في طريقه بعلي بن زكدان الونكاسي [1] كان نزع إليه عن قومه، ولم يفد عليه بعد، فنزل به المرتضى ورحل معه عليّ بمن معه إلى كدميوة، وكان فيها وزيره أبو زيد عبد الرحمن بن عبد الكريم، فأراد النزول عليه فمنعه ابن سعد الله، وسار إلى شفشاوة، ووجد بها عددا من الظهر فمنحها علي بن زكدان. وكتب إلى ابن وانودين بمعسكره من حاجة. وإلى ابن عطوش [2] بمعسكره من ركراكة باللحاق به فأقلعا إلى الحضرة.
وخاطب أبو دبوس علي بن زكدان يرغبه في القدوم عليه، فارتاب المرتضى لذلك ولحق بأزمور فتقبّض عليه واليها ابن عطوش. وكذا صهره [3] واعتقله، وطيّر بالخبر إلى أبي دبوس، فأمر وزيره السيد أبا موسى ان يكاتبه في كشف أماكن الذخيرة، فأجابه بإنكار أن يكون ذخر شيئا عندهم، والحلف على ذلك. وسألهم بالرحم، فعطف أبو دبوس عليه وجنح إلى الإبقاء. وبعث وزيره السيد أبا موسى ومسعود بن كانون في إزعاجه إليه. ثم بدا له في استحيائه بإشارة بعض السادة، فكتب خطه إلى السيد أبي موسى بقتله، فقتله واستقل أبو دبوس بالأمر، وتلقّب الواثق باللَّه والمعتمد على الله. واستوزر السيد أبا موسى وأخاه السيد أبا زيد، وبذل العطاء ونظر في الولايات ورفع المكوس عن الرعيّة، وحدث بينه وبين مسعود بن كلداسن وحشة فارتحل إليه لإزالتها. وقدم عبد العزيز بن عطّوش سفيرا إليه في ذلك. وبلغه أنّ يعقوب بن عبد الحق نزل تامسنا فأوفد عليه حميد [4] بن مخلوف الهسكوري بهديّة فقبلها، وأكد بينهما العهد وانكفأ راجعا إلى وطنه. ورجع حميد إلى الواثق، ووافق وصول عبد العزيز بن عطوش بطاعة مسعود بن كلداسن، فرجع أبو دبوس إلى
__________
[1] وفي نسخة أخرى: علي بن زكداز الونكاسي.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: عصّوش.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: وكان أصهره.
[4] وفي نسخة أخرى: حيمدي.

(6/352)


مراكش بعد أن عقد لأبي موسى بن عزوز على بلاد حاحة. وبلغه في طريقه عن عبد العزيز بن السعيد أنه حدّث نفسه بالملك، وانّ ابن بكيت وابن كلداسن داخلوه في ذلك. وساءل عن ذلك السيد أبا زيد بن السيّد أبي عمران خليفته، وأخبره بما سمع، وأمره بالقبض عليه وقتله، فأنفذ ذلك.
ثم ارتحل إلى السوس لتمهيده، وحسم علل ابن بدر فيه. وقدم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة ولمطة وكنفيسة وصناكة وغيرهم، وسار يتقرى المنازل ويستنفر القبائل، ومرّ بتارودنت فوجدها قفرا خلاء إلا قلائل من الدور بخارجها. ونزل على حميدي صهر علي بن بدر وقريبه بحصن تيسخت على وادي السوس، كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن بدر وملكه منازله أبو دبوس وحاصره أياما، وهزم فيها جموعه وداخل حميدي علي بن زكداز في إفراج أبي دبوس على سبعين ألف دينار يؤدّيها إليه، فأعجله الفتح عن ذلك ونجا بدمائه إلى بيته. وطولب بالمال، وبقي معتقلا عند ابن زكداز، وامتنع ابن بدر بحصنه. ثم أطاع ووصلت رسله بطاعته، فانصرف الواثق إلى حضرته ودخلها سنة خمس وستين وستمائة. وبلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق وأنه زاحف إلى [1] فبعث بهديته إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطرال وابن أبي عثمان رسول يغمراسن، وخرج بهم من مراكش ابن أبي مديون السكاسني [2] دليلا. وسلك بهم على القفر إلى سجلماسة، وبها يحيى بن يغمراسن، فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه فألفوه بجهة مليانة، فأقام ابن قطرال بتلمسان ينتظره. وكان يعقوب بن عبد الحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني مرين وعسكر المغرب، ونزل بضواحي مراكش وأطاعه أهل النواحي ونهض إليه أبو دبوس في عساكر الموحّدين فاستجره يعقوب إلى وادي اغفو، ثم ناجزه الحرب فاختلّ مصافه وفرّ عسكره. وانهزم يريد مراكش، والقوم في اتباعه فأدرك وقتل. وبادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرّم فاتح سنة ثمان وستين وستمائة وفرّ بقية المشيخة من الموحّدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا بايعوا عبد الواحد بن أبي دبوس، وسمّوه المعتصم مدة خمسة أيام وخرج في جملتهم، وانقرض أمر بني عبد المؤمن، والبقاء للَّه وحده.
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد البلد في المراجع التي بين أيدينا.
[2] وفي النسخة الباريسية: المساكني وفي نسخة أخرى: الونكاسي.

(6/353)


(وأمّا هسكورة)
وهم أكثر قبائل المصامدة، وفيهم بطون كثيرة أوسعها بطن هسكورة. وأمّا سواهم من بطون كنفيسة فأنفقتهم الدولة بما تولوا من مشايعتها، وإبرام عقدتها، فهلك رجالاتهم في إنفاقها سبل الأمم قبلهم في دولهم، وأمّا هسكورة فكان لهم بين الموحّدين مكان واعتزاز بكثرتهم وغلبهم إلّا أنهم كانوا أهل بدو ولم يخالطوهم في ترفهم ولا انغمسوا في نعيمهم. وكان جبلهم الّذي أوطنوه من حاله دون القنة منها والذروة. واعتصموا منه بالآفاق الفدد واليفاع الأشمّ والطود الشاهق، قد لمس الأفلاك بيده ونظم النجوم في مفرقه. وتلفّع بالحساب في مروطه، وآوى الرياح العواصف الدجوة وألقى إلى خبر السماء باذنه، وأظل على البحر الأخضر بشماريخه، واستدبر القفر من بلاد السوس بظهره، وأقام سائر جبال درن في حجره. ولما انقرض أمر الموحّدين وتغلب بنو مرين على المصامدة أجمع، وساموهم خطة الخسف في وضع الضرائب والمغارم عليهم، فاستكانوا لعزهم وأعطوهم يد الطواعية، واعتصم هسكورة هؤلاء بمعقلهم واعتزّوا فيه بمنعتهم، فلم يغمسوا في خدمتهم يدا، ولا أعطوهم مقادا، ولا رفعوا بدعوتهم راية، إنما هي منابذة لأمرهم وامتناع عليهم سائر الأيام. فإذا زحفت الحشود وتمرّست بهم العساكر دافعوهم بطاعة معروفة وأتاوة غير ملتزمة، ورئيسهم مع ذلك يستخلص جبايتهم لنفسه ويدفعهم في المضايق لحمايته، وربّما تخطّاهم إلى بعض قبائل الجبل ومن قاربه من أهل بسائط السوس يعسكر بذلك للرجل من قومه هسكورة وكنفيسة، وبالحشد من العرب الموطنين بأرض السوس.
وسفيان وهم بطن الحارث ومن المعقل وهم بطن الثبانات، وكان رئيسهم في ذكرنا بعد انقراض عبد المؤمن بن يوسف، وحرّروا لسان الأعجمين، هو عبد الواحد، وكان له في الاستبداد والصرامة ذكر. وهلك سنة ثمانين وستمائة وكان منتحلا للعلم واعية له جمّاعة لكتبه ودواوينه، حافظا لفروع الفقه. يقال إن المدوّنة كانت من محفوظاته، محبّا في الفلسفة مطالعا لكتبها، حريصا على نتائجها من علم الكيمياء والسيمياء والسحر والشعوذة، مطلعا على الشرائع القديمة والكتب المنزّلة بكتب

(6/354)


التوراة. ويجالس أحبار اليهود حتى لقد اتهم في عقيدته ورمي بالرغبة عن دينه، ثم ولي من بعده ابنه عبد الله، وكان مقتفيا سنن أبيه في ذلك وخصوصا في انتحال السحر والاستشراف إلى صنعة الكيمياء. ولما فرغ السلطان أبو الحسن من شأن أخيه عمر، وسكن فتنة المغرب ودوّخ أقطاره وحلّ معتصمه بالعساكر وأوطأ ساحاته لكتائب رجاله دون من يمدّه من أعراب السوس من ورائه، بما كان من تغلّبه على بلادهم واقتضائه بطاعتهم وإنزال عماله بالعساكر بينهم، فلاذ منه عبد الله السكسيوي بطاعة معروفة رهن فيها ابنه، واشترط للسلطان الهديّة والضيافة، فتقبّل منه ومنحه جانب الرضى.
ولما كانت نكبة السلطان بالقيروان، واضطرب المغرب فتنة وخلا جوّ البلاد المراكشية من المشايخ اجتمع رأي الملأ من المصامدة على النزول إلى مراكش، وأحكموا عقد الاتفاق بينهم وأجمعوا تخريبها بما كانت دارا للأمرة ولمقام الكتائب المجمّرة، وزعم عبد الله السكسيوي هذا بإنفاذ ذلك فيها، وضمن هو تخريب المساجد لتجافيهم عنها فكانت مذكورة على الأيام. ثم انحلّ عزمهم وافترقت جماعتهم وكلمتهم بما كانت من استقامة الدولة بفاس واجتماع بني مرين على السلطان أبي عنّان كما يذكر بعد فانحجر كل منهم بوجاره.
ولما فرغ أبو عنّان من شأن أبيه واستولى على المغرب الأوسط وغلب عليه بنو عبد الواد، ولحق أخوه أبو الفضل بن مطرح اغترابه في الأندلس بالطاعة يروم الإجازة إلى المغرب لطلب حقّه، فأركبه السفير إلى مراحل السوس فنزل به، ولحق بعبد الله السكسيوي فآواه وظاهره على أمره. فجرّد أبو عنّان العزائم إليهم وعقد لوزيره فارس ابن ميمون بن وادرار على حربهم. واستخرج جيوش المغرب وأناخ بساحته سنة أربع وخمسين وستمائة واختطّ بسفح الجبل مدينة لحصاره سمّاها القاهرة. وأخذت بمخنقه وزاحمت بمناكبها أركان معقلة حتى لاذت للسلم، واشترط أن ينبذ العهد إلى أبي الفضل المصري عنده يذهب حيث يشاء فتقبل منه. وعقد له سلما على عادته وأفرج عنه. وخرج على عبد الله السكسيوي لأيام السلطان أبي سالم ابنه محمد المعروف في لغتهم ايزم ومعناه الأسد، فغلبه على أمره ولحق عبد الله بعامر بن محمد الهنتاتي كبير المصامدة لعهده، وعامل السلطان عليهم، فاستجاش به ووعده عامر النصرة وأمهله عاما ونصفه حتى وفد على السلطان، واستوهب في ذلك. ثم أجمع

(6/355)


على نصره من عدوه فجمع له الناس وخاطب أهل ولايته أن يكون معه يدا. وزحف عبد الله حتى نزل بالقاهرة وأخذ بمخنق أبيه وأشياعه. ثم داخله بعض بطانته ودلّه على بعض العورات اقتحم منها الجبل وثاروا بابنه ايزم فصاح به عبد الله وقومه. وفرّ محمد أمامهم فأدرك بتلاسف من نواحي الجبل وقتل واسترجع عبد الله ملكه، واستقلّت قدمه إلى أن مكر به ابن عمه يحيى بن سليمان حين بلغ استبداد الوزير عمر ابن عبد الله على سلطان المغرب واستبداد عامر بن محمد بولاية مراكش، وثأر منه يحيى هذا بأبيه سليمان وهو عمّ عبد الله، كان قتله أيام إمارته الأولى وأقام مملكا على سكسيوة إلى سني خمس وسبعين وستمائة، فثار عليه أبو بكر بن عمر بن خرو فقتله بأخيه عبد الله، واستقلّ بأمر سكسيوة ومن إليهم. ثم خرج عليهم لأعوام من استقلاله ابن عمّ له من أهل بيته لم ينقل لي من تعريفه إلّا أنّ اسمه عبد الرحمن، لأن ثورته كانت بعد رحلتي الثانية من المغرب سنة ست وسبعين وستمائة، فأخبرني الثقة بأمره وأنه ظفر بأبي بكر بن عمر وقتله. واستبدّ بأمر الجبل إلى هذا العهد فيما زعم وهو سنة تسع وسبعين وستمائة ثم بلغني سنة ثمان وثمانين وستمائة أنّ عبد الرحمن هذا ويعرف بأبي زيد بن مخلوف بن عمر آجليد قتله يحيى بن عبد الله بن عمر، واستبدّ بأمر هذا الجبل وهو الآن مالكه، وهو أخو ايزم بن عبد الله والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
(وأما بقية قبائل المصامدة) من سوى هؤلاء السبع مثل هيلانة وحاحة ودكالة وغيرهم ممن أوطن هضاب الجبل أو ساحته فهم أمم لا تنحصر. ودكالة منهم في ساحة الجبل من جانب الجوف مما يلي مراكش إلى البحر من جانب الغرب. وهناك رباط آسفي المعروف ببني ماكر من بطونهم وبين الناس اختلاف في انتسابهم في المصامدة أو صنهاجة، ومجاورهم من جانب الغرب في بسيط ينعطف ما بين ساحل البحر وجبل درن في بسيط هناك يقضي إلى السوس، يعمّره من حاحة هؤلاء خلق أكثرهم في خمر الشعراء من الشجر المعروف بأرجان، يتحصّنون بملتقها وأدواحها ويعتصرون الزيت لادامهم من ثمارها. وهو زيت شريف طيب اللون والرائحة والطعم يبعث منه العمّال إلى دار الملك في هداياهم فيطرفون به.
وبآخر مواطنهم مما يلي أرض السوس وفي القبلة عن جبل درن بلدة دنست وبها معظم هذه الشعراء ينزلها رؤساؤهم، ورياستهم في بطن منهم يعرفون بمغراوة وكان شيخهم

(6/356)


لعهد السلطان أبي عنان إبراهيم بن حسين بن حماد بن حسين، وبعده ابنه محمد بن إبراهيم بن حسين وبعده ابن عمّهم خالد بن عيسى بن حمّاد واستمرّت رياسته عليهم إلى أعوام ست وسبعين وسبعمائة أيام استيلاء السلطان عبد الرحمن بن بطوسن على مراكش، فقتله شيخ بن مرين علي بن عمر الورتاجي من بني ويغلان منهم وما أدري لمن صارت رياستهم من بعده، وهم دكالة جميعا أهل مغرم واسع وجباية موفورة فيما علمناه، وللَّه الخلق والأمر وهو خير الوارثين.
كان الواثق جهّز لحرب أحد أمراء المصامدة، فكان وزيره داخله في ذلك وسائل من ذلك السيد أبا زيد ابن السيد أبي عمران خليفته وأخبره بما سمع، وأمره بالقبض عليه وقتله فأنفذ ذلك. ثم ارتحل الى السوس لتمهيده، وحسم هلال بن بدر فيه وقدّم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة ولمطة وكنفيسة وصناكة وغيرهم، وسار يتعدّى المنازل ويستنفر القبائل وهو بتارودنت فوجدها قفرا خلاء إلّا قليلا من الدور بخارجها، ونزل على حميدين صهر علي بن بدر وقريبه بحصن تيسخت على وادي السوس، كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن بدر وملكه فنازله أبو دبّوس وحاصره أياما وهزم فيها جموعه.
وداخل محمد بن علي بن زكدان في إفراج أبي دبّوس على سبعين ألف دينار يؤدّيها إليه، فأعجله الفتح من ذلك ونجا بدمائه إلى بيته، وطولب بالمال وبقي معتقلا عند ابن زكدان، وامتنع على ابن بدر بحصنه، ثم أطاع ووصلت رسله بطاعته فانصرف الواثق إلى حضرته ودخلها سنة خمس وستين وستمائة وبلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق وأنهى إليه فبعث بمرتبة إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطرال وابن أبي عثمان رسول يغمراسن. خرج إليهم من مراكش ابن أبي مديون الونكاسي دليلا وسلك بهم على الثغر إلى سجلماسة، وبها يحيى بن يغمراسن فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه، وألفوه بجهة مليانة فأقام ابن قطرال بتلمسان ينتظره. وكان يعقوب بن عبد الحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني مرين ونزل بضواحي مراكش، وأطاعه أهل النواحي ونهض إليه أبو دبّوس بعساكر الموحّدين فاستجرّه يعقوب إلى وادي أعفر. ثم ناجزه الحرب فاختلّ مصافه وفرّ عسكره وانهزم يريد مراكش والقوم في اتباعه، فأدرك وقتل وبادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرّم فاتح سنة ثمان وستين وستمائة، وفرّ بقية المشيخة من الموحّدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا

(6/357)


بايعوا عبد الحق أحد بني أبي دبّوس وسمّوه المعتصم مدّة من خمسة أيام وخرج في جملتهم وانقرض أمر بني عبد المؤمن والبقاء للَّه وحده أهـ.

(6/358)


(الخبر عن بقايا قبائل الموحدين من المصامدة بجبال درن بعد انقراض دولتهم بمراكش وتصاريف أحوالهم)
هذا العهد لما دعا المهدي إلى أمره في قومه من المصامدة بجبال درن وكان أصل دعوته نفي التجسيم الّذي آل إليه مذهب أهل المغرب باعتمادهم ترك التآويل في المتشابه من الشريعة، وصرّح بتكفير من أبى ذلك آخذا بمذهب التكفير بالمثال فسمّى لذلك دعوته بدعوة التوحيد، وأتباعه بالموحّدين نعيا على الملثّمين مثال مذاهبهم إلى اعتقاد الجسمية، وخصّ بالمزية من دخل في دعوته قبل تمكنها، وجعل علامة تمكنها فتح مراكش، فكان إنما اختصّ بهذا اللقب أهل السابقة قبل ذلك الفتح، وكان أهل تلك السابقة قبل فتح مراكش ثماني قبائل سبعة من المصامدة: هرغة وهم قبيلة الإمام المهدي وهنتاتة وتين ملّل وهم الذين بايعوه مع هرغة على الإجارة والحماية، وكنفيسة وهزرجة وكدميوة ووريكة. وثمانية قبائل الموحّدين: كومية قبيلة عبد المؤمن كبير صحابته، دخلوا في دعوته قبل الفتح فكانت لهم المزية بسابقة عبد المؤمن وسابقتهم فاختص هؤلاء القبائل بمزية هذه السابقة واسمها. وقاموا بالأمر وحملوا سريره وأنفقوا في مذاهبه وممالكه في سائر الأقطار على نسبة قربهم من صاحب الأمر وبعدهم. وبقي من بقي منهم بمحالهم ومعاقلهم بقية حتوف. وجرت عليهم ذيل زناتة من بعد الملك أذيال الغلب والقهر حتى أبقوهم بالاتاوات، وانتظموا في عدد الغارمين من الرعايا، وصاروا يولّون عليهم من زناتة تارة ومن رجالاتهم أخرى، وفي ذلك عبرة وذكرى لأولي الألباب، والملك للَّه يورثه من يشاء.
(هرغة)
فأما هرغة وهم قبيل الإمام المهدي قد دثروا وتلاشوا وانتفقوا في القاصية من كل وجه لما كانوا أشد القوم بلاء في القيام بالدعوة، وأصلاهم لنارها بقرابتهم من صاحبها

(6/359)


وتعصّبهم على أمره. ولم يبق منهم إلّا أخلاط وأوشاب أمرهم إلى غيرهم من رجالات المصامدة لا يملكون عليهم منه شيئا.
(تين ملّل)
وكذا تين ملّل إخوتهم في التعصّب على دعوة المهدي والاشتمال عليه والقيام بأمره حتى تحيّز إليهم وبنى داره ومسجده بينهم، فكان يعطيهم من الفيء بقدر عظمهم من الابتلاء [1] ، وأبعدوا في ممالك الدولة وعمالاتها فانقرض رجالاتهم، وملك غيرهم من المصامدة أمرهم عليهم، وقبر الإمام بينهم بهذا العهد على حاله من التجلّة والتعظيم وقراءة القرآن عليه أحزابا بالغدوّ والعشيّ، وتعاهده بالزيارة وقيام الحجّاب دون الزائرين من الغرباء لتسهيل الإذن، واستشعار الأبّهة وتقديم الصدقات بين يدي زناتة على الرسم المعروف في احتفال الدولة، وهم مصمّمون مع كافة المصامدة أن الأمر سيعود وأن الدولة ستظهر على أهل المشرق والمغرب وتملأ الأرض كما وعدهم المهدي، لا يشكّون في ذلك ولا يستريبون فيه.
(هنتاتة)
وأما هنتاتة وهم تلو القبيلتين في الأمر، وكل من بعدهم فإنما جاءوا على أثرهم وتبعا لهم، لما كانوا عليه من الكثرة والبأس، ومكان شيخهم أبي حفص عمر بن يحيى من صحابة الإمام والاعتزاز على المصامدة. وكانت لهم بإفريقية دولة كما نذكرهم، فاتفقت الدولتان منهم عوالم في سبيل الاستظهار بهم، وبقي بموطنهم المعروف بهم من جبال درن، وهو الجبل المتاخم لمراكش على توسّط من الاستبداد والخضوع ولهم في قومهم مكان بامتناع معقلهم وإطلاله على مراكش. ولما تغلّب بنو مرين على المصامدة، وقطعوا عنهم أسباب الدعوة كان لرؤسائهم أولاد يونس انحياش إليهم بما
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فكان حظّهم من الغناء بمقدار حظهم من الاستيلاء.

(6/360)


كانوا مسخوطين في آخر دولة بني عبد المؤمن، فاختصّوهم بالإثرة والمخالصة.
وكان علي بن محمد كبيرهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق خالصة له من بين قومه. وهلك سنة سبعين وستمائة [1] على يد ابن الملياني الكاتب بكتاب لبس فيه، وأنفذه على السلطان لابنه أمير مراكش فقتل رهط من مشيخة المصامدة في اعتقاله، كان منهم: علي بن محمد فقام السلطان لها في ركائبه، وندم على ما فرّط من أمره في إفلات ابن الملياني على ما يذكر من أمر هذه الواقعة في أخبار السلطان يوسف بن يعقوب. ولما ولي السلطان أبو سعيد وانقطع عن المصامدة ما كان لهم من أثر الملك والسلطان، وانقادوا للدولة رجع بنو مرين إلى التولية عليهم من رجالاتهم، ودالوا بينهم في ذلك وأخبار السلطان بعد صدر من دولة موسى بن علي بن محمد للولاية على المصامدة وجبايتهم، فعقد له وأنزله مراكش فاضطلع بهذه الولاية سنين ورسخت فيها قدمه، وأورثها أهل بيته، وصار لهم بها في الدولة مكان انتظموا له في الولاية، وترشّحوا للوزارة. ولما هلك موسى عقد السلطان من بعده لأخيه محمد، وأجراه على سننه إلى أن هلك فاستعمل السلطان بنيه في وجوه خدمته، وعقد لعامر منهم على قومه. ولما ارتحل السلطان أبو الحسن إلى إفريقية صحبه عامر فيمن صحبه من أمراء المصامدة وكافة الوجوه، حتى إذا كانت نكبة القيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة عقد له على الشرطة بتونس على رسم الموحّدين من بيوت الخطة وسعة الرزق. وأسام إليه فيها فكفاه همّها، ولما فصل من تونس ركب الكثير من حرمه وخطاياه السفن لنظر عامر هذا، حتى إذا غرق الأسطول بالسلطان أبي الحسن بما أصابهم من عاصف الريح رمى الموج بالسفينة التي كانوا بها إلى المريّة من ثغور الأندلس، فأنزل بها كرائم السلطان لنظره وبعث عنهنّ ابنه أبو عنّان المستبدّ على أبيه بملك المغرب، فامتنع من إسلامهنّ إليه وفاء بأمانته في خدمتهم.
وخلص السلطان أبو الحسن بعد النكبة البحريّة إلى الجزيرة سنة خمسين وسبعمائة وزحف إلى بني عبد الواد ففلّوه ونهض إلى المغرب، وسلك إليه القفر حتى نزل سجلماسة فقصده أبو عنّان فخرج منها إلى مراكش وقام بدعوته المصامدة وعرب جشم، فاحتشد، ولقي ابنه بأغمات بجهات أمّ ربيع فكانت الدبرة عليه، ونجا إلى
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: تسع وتسعين وفي نسخة اخرى: سبع وسبعين والنسخة الباريسية: أصح.

(6/361)


جبل هنتاتة. وكان عبد العزيز بن محمد شيخا عليهم منذ مغيب عامر، وكان في جملته، وخلص معه فأنزله عبد العزيز بداره، وتآمر هو وقومه على إجارته والموت دونه فاعتصم بمعقلهم. وجاء السلطان أبو عنان في كافة بني مرين إلى مراكش فخيم بظاهرها واحتشد لحصارهم أشهرا حتى هلك السلطان أبو الحسن كما نذكره بعد، فحملوه على الأعواد ونزلوا على حكم أبي عنّان فأكرمهم ورعى لهم وسيلة هذا الوفاء، وعقد لعبد العزيز على إمارته، واستقدم عامرا كبيرهم من مكانه بالمرية، فقام بهنّ لأمانته من حظايا السلطان وحرمه فلقاه السلطانة مبرّة وتكريما، وأناله من اعتنائه حظا.
وتخلّى له أخوه عبد العزيز عن الأمر فأقرّه نائبا. ثم عقد السلطان لعامر سنة أربع وخمسين وسبعمائة على سائر المصامدة واستعمله لجبايتهم فقام بها مضطلعا، وكفاه هم الأعمال المراكشية حتى عرف عناءه فيها وشكر له كفايته. وهلك السلطان أبو عنّان واستبدّ على ابنه السعيد ووزيره الحسن بن عمر المودودي [1] . وكان ينفس عليه ما كان له من الترشيح للرتبة، وبينهما في ذلك شحناء، فخشي بادرته وخرج من مراكش، إلى معقلة في جبل هنتاتة، وحمل معه ابن السلطان أبي عنّان الملقّب بالمعتمد. وكان أبوه عقد له يافعا قبيل وفاته على مراكش لنظر عامر فخلص به إلى الجبل، حتى إذا استوت قدم السلطان أبي سالم في الأمر واستقل بملك المغرب سنة ستين وسبعمائة وفد عليه عامر بن محمد مع رسله إليه، وأوفد ابن أخيه محمد المعتمد فتقبّل السلطان وفادته، وشكر وفاءه، وأقام ببابه مدّة. ثم عقد له على قومه، ثم استنفره معه إلى تلمسان، ولم يزل مقيما ببابه إلى قبيل وفاته فأنفذه لمكان إمارته.
ولما هلك السلطان أبو سالم واستبد بالمغرب بعده عمر بن عبد الله بن عمر على ما نذكره، وكانت بينه وبين عامر بباب السلطان صداقة وملاطفة، وصل يده بيده، وأكد العهد معه على سد تلك الفرجة، وحوّل عليه في حوط البلاد المراكشيّة وأن لا يؤتى من قبله، وكان زعيما بذلك. وعقد له على الأعمال المراكشيّة وما إليها إلى وادي أم ربيع. وفوّض إليه أمر تلك الناحية، واقتسما المغرب شق الأبلّمة [2] وخلص إليه الأعياص من ولد السلطان أبي سعيد أبو الفضل بن السلطان أبي سالم، وعبد
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الغودودي.
[2] وفي النسخة الباريسية: الأبلة.

(6/362)


المؤمن بن السلطان أبي علي، فاعتقل عبد المؤمن وأمكن أبا الفضل من إمارته على ما نذكر بعد. وساءت الحال بينه وبين عمر ونهض إليه من فاس بجموع بني مرين وكافة العساكر، واعتصم بجبله وقومه واستبد على الأمر من بعده [1] . ووصل عبد المؤمن من معتقله يجأجئ به بنو مرين لما كانوا يؤملون من ولايته واستبداده لما آسفهم من حجر الوزراء لملوكهم. فلما رأوا استبداد عامر عليه أعرضوا عنه، وانعقد السلم بينه وبين عمر بن عبد الله على ما كان عليه من مقاسمته إياه في أعمال المغرب، ورجع واستقل عامر بناحية مراكش وأعمالها، حتى إذا هلك عمر بن عبد الله بيد عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن كما نذكره، حدثت أبا الفضل بن السلطان أبي سالم نفسه بالفتك بعامر بن محمد كما فتك عمه بعمر بن عبد الله. ونذر بذلك فاحتمل كرائمه وصعد إلى داره بالجبل، ففتك أبو الفضل بعبد المؤمن ابن عمه لأنه كان معتقلا بمراكش. واستحكمت لذلك النقرة بينه وبين عامر بن محمد. وبعث إلى السلطان عبد العزيز فنهض من فاس في جموعه سنة تسع وستين وسبعمائة.
وفرّ أبو الفضل فلحق بتادلّا، وتقبّض عليه عمه السلطان عبد العزيز وقتله كما نذكر في أخباره. وطلب عامرا في الوفادة فخشيه على نفسه، واعتصم بمعقله فرجع إلى حضرته، واستجمع عزائمه. وعقد على مراكش وأعمالها لعلي بن أجانا من صنائع دولتهم، وأوعز إليه بمنازلة عامر فدافعه عامر وقومه عن معتصمه، وأوقع به وتقبّض على طائفة من بني مرين وصنائع السلطان في المعركة أودعهم سجنه، فحرّك بها عزائم السلطان، ونهض إليه في قومه من بني مرين وعساكر المغرب وأحاط به ونازلة حولا كريتا [2] . ثم تغلب عليه سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، وانفضّت جموعه.
وتقبّض عليه عند اقتحام الجبل فسيق أسيرا إلى السلطان فقيّده، وقفل به إلى الحضرة. ولما قضى نسك الفطر من سنته أحضره ووبّخه. ثم أمر به فتلّ إلى مصرعه، واثخن جلدا بالسياط وضربا بالمقارع حتى فاض عفا الله عنه. وعقد السلطان على قومه لفارس ابن أخيه عبد العزيز، كان نزع إليه بين يدي مهلك عمّه، وعفا عن ابنه أبي يحيى بسابقته إلى الطاعة قبيل اقتحام الجبل عليهم، أشار
__________
[1] وفي نسخة أخرى: على الأميرين عنده.
[2] هكذا في النسخة التونسية وبياض في النسخة المصرية. ومقتضى السياق حولا كاملا.

(6/363)


عليه بذلك أبوه نظرا له فظفر بالسلامة والحظ [1] ، وأصاره السلطان في جملته. ثم هلك بعد ذلك فارس بن عبد العزيز، واضطرم المغرب فتنة بعد مهلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة وصارت أعمال مراكش في إيالة السلطان عبد الرحمن بن علي الملقّب بأبي يفلّوسن ابن السلطان أبي علي. ونزع إليه أبو يحيى بن عامر فعقد له على قومه. ثم أتّهمه باحتمال الأموال منذ عهد أبيه وشره إلى اسطفائه، ونذر به ابن عامر فلحق ببعض قبائل المصادمة جيرانهم بأطراف السوس، ونزل عليهم. وكان مهلكه فيهم أعوام ثمانين وسبعمائة، والله وارث الأرض ومن عليها.
(كدميوة)
وأما كدميوة وكانوا تبعا لهنتاتة وتين ملّل في الأمر، وجبلهم بصدف [2] جبل هنتاتة، وكان رؤساءهم لعهد الموحّدين بنو سعد الله. ولما تغلّب بنو مرين على المصامدة ووضعوا عليهم الضرائب امتنع يحيى بن سعد الله بعض الشيء بحصن تافرجا وتيسخنت من جبلهم [3] وخالفه عبد الكريم بن عيسى وقومه إلى طاعة بني مرين، واختلفت إليهم العساكر إلى أن هلك يحيى بن سعد الله سنة أربع وتسعين وستمائة، وعساكر يوسف بن يعقوب مجمّرة على حصاره، فهدموا حصونه، وأذلّوا من قومه.
واستخلص السلطان يوسف بن يعقوب عبد الكريم بن عيسى منذ عهد أبيه فعقد له عليهم. ثم تقبّض على أمراء المصامدة واعتقله فيمن اعتقل منهم، حتى إذا فعل ابن الملياني فعلته في استهلاكهم لعداوة عمه بما لبس [4] الكتاب على لسان السلطان لابنه على أمير مراكش، فقتل عبد الكريم فيمن قتل منهم، وقتل معه بنوه عيسى وعليّ ومنصور، وابن أخيه عبد العزيز بن محمد. وامتعض السلطان لذلك وأفلت ابن الملياني من معسكره لحصار تلمسان فدخلها.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فظفر من السلامة بحظ.
[2] وفي نسخة أخرى: لصق.
[3] وفي نسخة أخرى: تيسخت.
[4] وفي نسخة أخرى: بتلبيس.

(6/364)


ثم قام بأمر كدميوة عبد الحق بن [1] الملياني سعد الله أيام السلطان أبي الحسن وابنه أبي عنّان، وكانت بينه وبين عامر بن محمد فتنة جرّها منصب العمالة، شأن المجاورين من القبائل، وقديم العداوة بين السلف. فلما استفحل أمر عامر بالولاية على مراكش وسائر المصامدة، نبذ إلى عبد الحق العهد ونحلة الخلاف والمداخلة للسكسيوي شيخ الفتنة المستعصي منذ أوّل الدولة، فصمد إليه سنة سبع وخمسين وسبعمائة في قومه ومشايخ السلطان التي كانت بمراكش لنظره فاقتحم عليه معقلة عنوة وقتله. واستولى على كدميوة ولحق بنو سعد الله بفاس، فأقاموا بها حتى إذا خاض السلطان أبو سالم البحر إلى ملكه بعد أخيه أبي عنّان ونزل بغمارة، نزل [2] إليه يوسف بن سعد الله واعتقد منه ذمّة سابقيته تلك. فلما استولى على البلد الجديد واستقل سلطانه، عقد له على قومه رعيا لوسيلته، فأقام في ولايته مدّة السلطان أبي سالم.
وكان عامل مراكش محمد بن أبي العلى من حاشية السلطان وبيوت الولاة بالمغرب معوّلا فيها على مظاهرته.
ولما هلك السلطان ابو سالم واستبدّ عمر بن عبد الله على الملوك بعده، بادر لحين ثورته بالعقد لعمر على أعمال مراكش ليستظهر به، وطيّر إليه الكتاب بذلك، ونزل إلى مراكش وقتل بها يوسف بن سعد الله، ونكث ابن أبي العلى، ثم قتله وألحقه بابنه عبد الحق [3] ، وذهبت الرئاسة من كدميوة برهة من الدهر، ثم رجعت إليهم في بني سعد الله، والله تعالى قادر على ما يشاء، وبيده تصاريف الأمور لا ربّ سواه، ولا معبود إلا إيّاه.
(وريكة)
فهم مجاورون لهنتاتة، وبينهم فتنة قديمة وحروب متصلة ودماء مطلولة، كانت بينهم سجالا، وهلك فيها من الفريقين أمم إلى أن غلبهم هنتاتة باعتزازهم بالولاية،
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة اسم أبيه من المراجع التي بين أيدينا. ولكن يبدو أن والده يدعى يوسف بن سعد الله وذلك حسبما يأتي في آخر هذا الموضع من هذه النسخة.
[2] وفي نسخة أخرى: نزع.
[3] وفي نسخة أخرى: وقتل بها يوسف بن سعد الله، ونكب بأبي العلى ثم قتله وألحقه بأبيه عبد الحق.

(6/365)


فخضدوا منهم الشوكة وأصاروهم في الجملة، والله وارث الأرض ومن عليها. والله تعالى أعلم بغيبه وهو على كل شيء قدير
.

(6/366)


(الخبر عن بني يدر [1] أمراء السوس من الموحدين بعد انقراض بني عبد المؤمن وتصاريف أحوالهم)
كان أبو محمد بن يونس من جملة وزراء الموحدين من هنتاتة، وكان المرتضى قد استوزره ثم سخطه، وعزله سنة خمسين وستمائة وألزمه داره بتاء مصلحت، وفرّ عنه قومه وحاشيته وقرابته. وكان من أهل قرابته علي بن يدر من بني باداسن ففرّ إلى السوس وجاهر بالخلاف سنة إحدى وخمسين وستمائة ونزل بحصن تانصاحت بسفح الجبل حيث يدفع وادي السوس من درن، وشيّده وحصّنه وتغلّب على حصن تيسخت من أيدي صنهاجة وشيده، وأنزل فيه ابن عمه بوحمدين [2] . ثم تغلّب على بسيط السوس، وجأجأ بني حسان من أعراب المعقل من مواطنهم بنواحي ملوية إلى بلاد الريف، فارتحلوا إليه وعاث بهم في نواحي السوس، وأطاع له كثير من قبائله فاستوفى جبايتهم. وأجلب على عامل الموحدين بتار ودانت وضيّق عليه المسالك، وتفاقم أمره. واتهم الوزير أبو محمد بن يونس بمداخلته وعثر على كتابه إلى علي بن يدر فأمر المرتضى باعتقاله وقتله سنة اثنتين وخمسين وستمائة وأغزى أبا محمد ابن أصال [3] إلى بلاد السوس في عسكر الموحدين والجند، وعقد له عليها فنزل تارودانت وتحصّن علي بن يدر في تيونودين [4] . وزحف إليه ابن أصناك في عسكره فهزمه ابن يدر وقتل كثيرا منهم، ورجع إلى مراكش مفلولا. وأقام علي بن يدر على حاله من الخلاف، وأغزاه المرتضى محمد بن علي أزلماط في عسكر من الموحدين سنة ستين وستمائة فهزمهم، وقتل ابن أزلماط فعقد المرتضى من بعده على السوس لوزيره أبي زيد بن بكيت فزحف إليه ودارت الحرب بينهما مليا، وانقلب من غير ظفر، واستفحل ابن يدر ببلاد السوس واستخدم الأعراب من الشبانات وذوي حسّان.
وأطاعته القبائل من كزولة ولمطة وزكن ولخس من شعوب لمطة وصناكة. وجبى الأموال واستخدم الرجال، يقال كان جنده ألف فارس، وكان بينه وبين كزولة فتن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يدر.
[2] وفي نسخة أخرى: ابن عمه حمدين.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: ابن أصناك.
[4] وفي نسخة أخرى: ثيوينون.

(6/367)


وحروب يستظهر في أكثرها بدّوي حسّان.
ولمّا استولى أبو دبّوس على مراكش سنة خمس وستين وستمائة وفرغ من تمهيد ملكه بها، اعتزم على الحركة إلى السوس، ورحل من مراكش، وقدّم بين يديه يحيى بن وانودين لاحتشاد القبائل ومن بالجبل، ثم أسهل من تامسكروط إلى بسيط السوس، ونزل على بني باداسن وقبيلة ابن يدر على فرسخين من تيونودين. وقصد تيزخت ومرّ بتارودنت وعاين آثار الخراب الّذي بها من عيث ابن يدر، ولما بلغ حصن تيزخت خيّم بساحته وحشد أمما من القبائل لحصاره، وكان بو حمدين [1] ابن عم علي بن يدر فحاصره أياما. ولما اشتدّ عليه الحصار داخل علي بن زكدان من مشيخة بني مرين، كان في جملة أبي دبّوس فداخله في الطاعة، وتقبّل السلطان طاعته على النزول عن حصنه.
ثم أعجله الحرب واقتحم عليهم الجلب ولجئوا إلى الحصن وفرّ حمدين إلى بيت علي بن زكدان فأمره السلطان باعتقاله. واستولى السلطان على الحصن، وأنزل به بعض السادة لولايته. وارتحل أبو دبّوس إلى محاصرة علي بن يدر فحاصره أياما، ونصب عليه المجانيق. ولما اشتدّ عليه الحصار رغب في الإقالة ومعاودة الطاعة، فتقبّل وأقلع السلطان عن حصاره، وقفل إلى حضرته. ولما استولى بنو مرين على مراكش سنة ثمان وستين وستمائة استبدّ علي بن يدر وتملّك سوس واستولى على تارودنت ايغري وسائر أمصاره وقواعده ومعاقلة، وأرهف حدّه للأعراب فزحفوا إليه. وكانت عليه الدبرة، وقتل سنة ثمان وستين وستمائة وقام بأمره علي ابن أخيه عبد الرحمن بن الحسن مدّة. ثم هلك وقام بأمرهم علي بن الحسن بن بدر. ولمّا صار أبو علي بن السلطان أبي سعيد إلى ملك سجلماسة يصلح عقده مع أبيه كما يذكر في أخبارهم، فنزلها وشيّد ملكه بها، واستخدم كافة عرب المعقل فرغّبوه في ملك السوس وأطمعوه في أموال ابن يدر فغزاه من سجلماسة، وفرّ ابن يدر أمامه إلى جبال نكيسة. واستولى السلطان أبو علي على حصنه نانصاصت وسائر أمصار السوس، واستصفى ذخيرته وأمواله، ورجع إلى سجلماسة.
ثم استولى السلطان أبو الحسن من بعد ذلك عليه وانقرض ملك بني يدر. ولحق به
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وكان به حمدين.

(6/368)


عبد الرحمن بن علي بن الحسن، وصار في جملته. وأنزل السلطان بأرض السوس مسعود بن إبراهيم بن عيسى البريتاني [1] من طبقة وزرائه، وعقد له على تلك العمالة إلى أن هلك، وعقد لأخيه حسّون من بعده إلى أن كانت نكبة القيروان. وهلك حسّون وانقضّ العسكر من هنالك، وتغلّب عليه العرب من بني حسّان والشبانات، ووضعوا على قبائله الأتاوات والضرائب. ولما استبدّ أبو عنّان بملك المغرب من بعد أبيه أغزى عساكره السوس لنظر وزيره فارس بن ودرار سنة ست وخمسين وستمائة فملكه واستخدم القبائل والعرب من أهله، ورتّب المشايخ بأمصاره، وقفل إلى مكان وزارته، فانفضّت المشايخ ولحقت به.
وبقي عمل السوس ضاحيا من ظلّ الملك لهذا العهد، وهو وطن كبير في مثل عرض البلاد الجريدية وهوائها المتّصل من لدن البحر المحيط إلى نيل مصر الهابط من وراء خط الاستواء في القبلة إلى الاسكندريّة. وهذا الوطن قبلة جبال درن وعمائر وقرى ومزارع ومدن [2] وأمصار وجبال وحصون، ويحدّق به وادي السوس ينصبّ من باطن الجبل إلى ما بين كلاوة وسيكسيوة، ويدفع إلى بسيطه، ثم يمرّ مغرّبا إلى أن ينصب في البحر المحيط والعمائر متصلة حفا في هذا الوادي ذات المدن والمزارع، وأهلها يتّخذون فيها قصب السكر. وعند مصبّ هذا الوادي من الجبل في البسيط مدينة تارودنت وبين مصبّ هذا الوادي في البحر ومصب وادي آش [3] مرحلتان إلى ناحية الجنوب على ساحل البحر، وهناك رباط ماسة الشهير المعروف بتردّد الأولياء وعبادتهم. وتزعم العامة أنّ خروج الفاطمي منه.
ومنه أيضا إلى زوايا أولاد بو نعمان مرحلتان في الجنوب كذلك على ساحل البحر، وبعدها على مراحل عصب الساقية الحمراء وهي منتهى مجالات المعقل في مشايتهم وفي رأس وادي السوس جبل زكنون [4] قبلة جبل الكلاوي، وفي قبلة جبال درن جبال نكيسة تنتهي إلى جبال درعه ويعرف الآخر منها في الشرق بابن حميدي ويصب من جبال نكيسة وادي نول ويمرّ مغرّبا إلى أن يصبّ في البحر. وعلى هذا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: اليرنياني وفي النسخة الباريسية: البرنياني.
[2] وفي نسخة أخرى: فدن.
[3] وفي نسخة أخرى: ماسة.
[4] وفي نسخة أخرى: جبل زكندر.

(6/369)


الوادي بلدتا كاوصت محطّ الرفاق والبضائع بالقبلة، وبها سوق في يوم واحد يقصده التجار من الآفاق، وهو من الشهرة لهذا العهد بمكان. وبلد إيفري بسفح جبال نكيسة بينها وبين تاكاوصت مرحلتان، وأرض السوس مجالات لنزول لمطة [1] ، فلمطه منهم مما يلي درن وكزولة مما يلي الرمل والقفر. ولما تغلّب المعقل على بسائطه اقتسموها مواطن، فكان الشبانات أقرب إلى جبال درن. وصارت قبائل لمطة من أحلافهم، وصارت كزولة من أحلاف ذوي حسّان. والأمر على ذلك لهذا العهد، وبيد الله تصاريف الأمور، لا رب سواه، ولا معبود إلّا إيّاه.
علي عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الرحمن علي بن بدر من بني باداسن
(الخبر عن دولة بني حفص ملوك افريقية من الموحدين ومبدإ أمرهم وتصاريف أحوالهم)
قد قدّمنا أنّ قبائل المصامدة بجبل درن وما حوله كثير مثل: هنتاتة وتين ملّل وهرغة وكنفيسة وسكسيوة وكدميوة وهزرجة ووريكة وهزميرة وركراكة وحاحة وبني ماغوس وكلاوة وغيرهم ممن لا يحصى. وكان منهم قبل الإسلام وبعده رؤساء وملوك. وهنتاتة هؤلاء من أعظم قبائلهم وأكثرها جمعا وأشدّها قوّة، وهم السابقون للقيام بدعوة المهديّ والممهّدون لأمره وأمر عبد المؤمن من بعده، كما ذكرنا في أخباره. واسم هنتات جدّهم بلسان المصامدة حتى كان كبيرهم لعهد الإمام المهديّ الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى، ونقل البيذق أنّ اسمه بلسانهم فارصكات [2] .
وهنتاتة لهذا العهد تقول إنه اسم جدّهم، وكان عظيما فيهم متبوع غير مدافع، وهو أوّل من بايع الإمام المهدي من قومه، فجاء يوسف بن وانودين وأبو يحيى بن بكيت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وأرض السوس مجالات لكزولة ولمطة.
[2] وفي نسخة أخرى: فاصكات.

(6/370)


وابن يغمور وغيرهم منهم على أثره. واختصّ بصحابة المهديّ فانتظم في العشرة السابقين إلى دعوته. وكان تلو عبد المؤمن فيهم، ولم تكن مزية عبد المؤمن عليه إلّا من حيث صحابة المهدي.
وأمّا في المصامدة فكان كبيرهم غير مدافع، وكان يسمى بين الموحّدين بالشيخ كما كان المهديّ يسمى بالإمام، وعبد المؤمن بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي بن أحمد بن والال بن إدريس بن خالد بن اليسع بن إلياس بن عمر بن وافتن بن محمد ابن نجية بن كعب بن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، هكذا نسبه ابن نخيل وغيره من الموحّدين. ويظهر منه أنّ هذا النسب القرشيّ وقع في المصامدة والتحم بهم، واشتملت عليه عصبيّته شأن الأنساب التي تقع من قوم إلى قوم وتلتحم بهم كما قلناه أوّل الكتاب. ولما هلك الإمام وعهد بأمره الى عبد المؤمن، وكان بعيدا عن عصبية المصامدة إلا ما كان له من أثرة المهديّ واختصاصه فكتم موت المهدي وعهد عبد المؤمن ابتلاء لطاعة المصامدة. وتوقّف عبد المؤمن عن ذلك ثلاث سنين، ثم قال له أبو حفص نقدّمك كما كان الإمام يقدّمك فعلم أنّ أمره منعقد. ثم أعلن ببيعته وأمضى عهد الإمام بتقديمه وحمل المصامدة على طاعته، فلم يختلف عليه اثنان. وكان الحل والعقد في المهمات إليه سائر أيام عبد المؤمن وابنه يوسف، واستكفوا به نوائب الدعوة فكفاهم همّها. وكان عبد المؤمن يقدّمه في المواقف فبلى فيها [1] . وبعثه على مقدّمته حين زحف إلى المغرب الأوسط قبل فتح مراكش سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وزناتة كلّهم مجتمعون بمنداس لحرب الموحّدين مثل بني ومانو وبني عبد الواد وبني ورسيغان وبني توجين وغيرهم، فحمل زناتة على الدعوة بعد أن أثخن فيهم. ولأوّل دخول عبد المؤمن لمراكش خرج عليه الثائر بماسة، وانصرفت إليه وجود الغوغاء وانتشرت ضلالته في النواحي وتفاقم أمره، فدفع لحربه الشيخ أبا حفص فحسم داءه ومحا أثر غوايته.
ولما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية حركته الأولى لم يقدّم شيئا على استشارة أبي حفص. ولما رجع منها وعهد إلى ابنه محمد خالفه الموحّدون، ونكروا ولاية ابنه، فاستدعى أبا حفص من مكانه بالأندلس، وحمل الموحّدين على البيعة له.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فيجلي فيهم.

(6/371)


وأشار بقتل يصلاتي الهرغي رأس المخالفين في شأنه فقتله، وتمّ أمر العهد لابنه محمد. ولما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية سنة أربع وخمسين وخمسمائة وحركة الثانية لفتح المهديّة استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب، وينقل من وصاة عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية لبنيه أنه لم يبق من أصحاب الإمام إلّا عمر بن يحيى ويوسف بن سليمان، فأما عمر فإنه من أوليائكم، وأما يوسف فجهزه بعسكره إلى الأندلس تستريح منه. وكذلك فافعل بكل من تكرهه من المصامدة. وأما ابن مردنيش فأتركه ما تركك وتربّص به ريب المنون، وأخل إفريقية من العرب وأجلهم إلى بلاد المغرب، وأدّخرهم لحرب ابن مردنيش إن احتجت إلى ذلك.
ولما ولي يوسف بن عبد المؤمن تخلّف الشيخ أبو حفص عن بيعته، ووجم الموحّدون لتخلّفه حتى استنبل غرضه في حكم أمضاه بمقعد سلطانه، وأعجب بفضله وأعطاه صفقة يمينه، وأعلن بالرضا بخلافته فكانت عند يوسف وقومه من أعظم البشائر، وتسمّى بأمير المؤمنين سنة ثلاث وستين وخمسمائة. ولما ولي يوسف بن عبد المؤمن وتحرّكت الفتنة بجبال غمارة وصنهاجة التي تولى كبرها سبع بن منقفاد سنة اثنتين وستين وخمسمائة عقد للشيخ أبي حفص على حربهم فجلى في ذلك. ثم خرج بنفسه فأثخن فيهم وكمل الفتح كما ذكرناه. ولمّا بلغه سنة أربع وستين وخمسمائة تكالب الطاغية على الأندلس وغدره بمدينة بطليوس، واعتزم على الإجازة لحمايتها قدم عساكر الموحدين إليها لنظر الشيخ أبي حفص، ونزل قرطبة وأمر من كان بالأندلس من السادة أن يرجعوا إلى رأيه، فاستنفذ بطليوس من هذا الحصار، وكانت له في الجهاد هنالك مقامات مشهورة. ولما انصرف من قرطبة إلى الحضرة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة هلك عفا الله عنه في طريقه بسلا ودفن بها، وكان ابناؤه من بعده يتداولون الإمارة بالأندلس والمغرب وإفريقية مع السادة من بني عبد المؤمن، فولّى المنصور ابنه أبا سعيد على إفريقية لأوّل ولايته، وكان من خبره مع عبد الكريم المنتزي بالمهديّة ما ذكرناه في أخباره. واستوزر أبا يحيى بن أبي محمد بن عبد الواحد، وكان في مقدّمته يوم المعركة سنة إحدى وتسعين وخمسمائة فجلى عن المسلمين، وكان له في ذلك الموقف من النصرة والثبات ما طار له به ذكر. واستشهد في ذلك الموقف، وعرف أعقابه ببني الشهيد آخر الدهر، وهم لهذا العهد بتونس.
ولما نهض الناصر إلى إفريقية سنة إحدى وستمائة، لما بلغه من تغلّب ابن غانية على

(6/372)


تونس فاسترجعها، ثم نازل المهديّة فتعاونت عليه ذئاب الأعراب. وجمعهم ابن غانية ونزل قابس فسرّح الناصر، اليهم أبا محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص في عسكر من الموحدين، فأوقع بابن غانية بتاجرا من نواحي قابس سنة اثنتين وستمائة، وقتل جبارة أخو ابن غانية، وأثخن فيهم قتلا وسبيا، واستبعد منهم السيد أبا زيد بن يوسف بن عبد المؤمن الوالي كان بتونس، وأسره ابن غانية ورجع إلى الناصر بمكانه من حصار المهدية. فكان سببا في فتحها. وكان ذلك مما حمل الناصر على ولاية الشيخ أبي محمد بإفريقية حسبما يذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن إمارة أبي محمد بن الشيخ أبي حفص بإفريقية وهي أولية أمرهم بها)
لمّا تكالب ابن غانية واتباعه على إفريقية واستولى على أمصارها، وحاصر تونس وملكها، وأسر السيد أبا زيد أميرها، ونهض الناصر من المغرب سنة إحدى وستمائة كما ذكرناه فاسترجعها من أيديهم وشرّدهم عن نواحيها. وخيم على المهديّة يحاصرها، وقد أنزل ابن غانية ذخيرته وولده بها وأجلب في جموعه خلال ذلك على قابس، فسرّح الناصر إليه الشيخ أبا محمد هذا في عساكر الموحدين. وزحف إليهم بتاجرا من جهات قابس فهزمهم واستولى على معسكرهم وما كان بأيديهم، وأثخن فيهم بالقتل والسبي واستنفذ السيد أبا زيد من أسرهم، ورجع إلى الناصر بمعسكره من حصار المهديّة ظافرا ظاهرا. وعاين أهل المدينة يوم هزمه بالغنائم والأسرى فبهتوا وسقط في أيديهم، وسألوا النزول على الأمان. وكمل فتح المهديّة ورجع الناصر إلى تونس فأقام.
بها حولا إلى منتصف سنة ثلاث وستمائة. وسرّح أثناء ذلك أخاه السيد أبا إسحاق ليتتبّع المفسدين، ويمحو مواقع عيثهم، فدوّخ ما وراء طرابلس، وأثخن في بني دمّر ومطماطة ونفوسه، وشارف أرض سرت وبرقة، وانتهى إلى سويقة ابن مذكور. وفرّ ابن غانية إلى صحراء برقة وانقطع خبره. وانكفأ السيد راجعا إلى تونس. واعتزم الناصر على الرحلة إلى المغرب وقد أفاء على إفريقية ظلّ الرضى [1] وضرب عليهم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ظل الأمر.

(6/373)


سرادق الحماية. وبدا له أن ابن غانية سيخالفه إليها، وأن مراكش بعيدة عن الصريخ، وأنه لا بدّ من رجل يسدّ فيها مسدّ الخلافة، ويقيم بها شئون الملك، فوقع اختياره على أبي محمد بن الشيخ أبي حفص، ولم يكن ليعدوه [1] لما كان عليه هو وأبوه في دولتهم من الجلالة، وأنّ أمر بني عبد المؤمن إنما تمّ بوفاق الشيخ أبي حفص ومظاهرته، وأن أباه المنصور كان قد أوصى الشيخ أبا محمد به وبإخوته. وكان يولّيه صلاة الصبح إذا حضره شغل وأمثال ذلك.
وسار الخبر بذلك إلى أبي محمد [2] فامتنع، وشافهه الناصر به فاعتذر، فبعث إليه ابنه يوسف فأكرم موصله. وأجاب على شريطة اللحاق بالمغرب بعد قضاء مهمات إفريقية في ثلاث سنين، وأن يختار عليهم من رجالات الموحّدين وأن لا يتعقب عليه في تولية ولا عزل، فقبل شرطه ونودي في الناس بولايته، ورفعت بين الموحدين رايته. وارتحل الناصر إلى المغرب ورجع عنه الشيخ أبو محمد من بجاية [3] فقعد مقعد الإمارة بقصبة تونس في السبت العاشر من شوّال سنة ثلاث وستمائة، وأنفذ أوامره، واستكتب أبا عبد الله محمد بن أحمد بن نخيل ورجع ابن غانية إلى نواحي طرابلس، فجمع أحزابه واتباعه من العرب من سليم وهلال.
وكان فيهم محمد بن مسعود في قومه من الزواودة، وعاودوا عيثهم، وخرج إليهم أبو محمد سنة أربع وستمائة في عساكر الموحدين. وتحيّز إليه بنو عوف من سلم وهم مرداس وعلاق فلقيهم بشير [4] فتواقعوا واحتربوا عامة يومهم، ونزل الصبر. ثم انفض عسكر ابن غانية آخر النهار واتبعهم الموحّدون والعرب واكتسحوا أموالهم، وأفلت ابن غانية جريحا إلى أقصى مفرّة ورجع أبو محمد إلى تونس بالظفر والغنيمة.
وخاطب الناصر بالفتح واستنجاز وعده في التحوّل عن الولاية فخاطبه بالشكر والعذر بمهمات المغرب عن إدالته، وأنه يستأنف النظر في ذلك. وبعث إليه بالمال والخيل والكسى للإنفاق والعطاء. كان مبلغها مائة ألف ألف [5] دينار اثنتان وألف وثمانمائة كسوة، وثلاثمائة سيف، ومائة فرس، غير ما كان أنفذ إليه من سبتة وبجاية، ووعده
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ليبعدوه.
[2] وفي النسخة الباريسية: أبي عمرو.
[3] وفي نسخة أخرى: باجة.
[4] وفي نسخة أخرى: شبرو.
[5] وفي نسخة أخرى: مائتا ألف دينار.

(6/374)


بالزيادة. وكان تاريخ الكتب سنة خمس وستمائة فاستمر أبو محمد على شأنه وترادفت الوقائع بينه وبين يحيى الميورقي كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(وقيعة تاهرت وما كان من أبي محمد في تلافيها واستنفاذ غنائمها)
كان يحيى بن غانية لما أفلت من وقيعة أشير [1] بدا له ليقصدنّ بلاد زناتة بنواحي تلمسان، وقارن ذلك وصول الشيخ أبي عمران بن موسى بن يوسف بن عبد المؤمن واليا عليها من مراكش، وخروجه إلى بلاد زناتة لتمهيد أنحائهم وجباية مغارمهم.
وكتب إليه الشيخ أبو محمد نذيرا بشأنه، وأن لا يعرض له وأنه في اتباعه فأبى من ذلك، وارتحل إلى تاهرت وصبحه بها ابن غانية فانفضّ معسكره. وفرّت زناتة إلى حصن بها، وقتل السيد أبو عمران. واستبيحت تاهرت، فكان آخر العهد بعمرانها، وامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي، وانقلبوا إلى إفريقية فاعترضه الشيخ أبو محمد في موضع [2] فأوقع بهم واستنفذ الأسرى من أيديهم، واكتسح سائر مغانمهم، وقتل فيها كثير من الملثّمين ولحق فلّهم بناحية طرابلس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(واقعة نفوسة ومهلك العرب والملثمين بها)
كان ابن غانية بعد واقعة أشير واستنفاذ [3] أبي محمد تاهرت من يده خلص إلى جهة طرابلس، وتلاحق به فلّ الملثّمين وأولياؤه من العرب. وكان المجلي معه في مواقف الزواودة [4] من رياح، وكبيرهم محمد بن مسعود فتدامروا واعتزموا على معاودة الحرب، وتعاقدوا على الثبات والصبر، وانطلقوا يستألفون الأعراب من كل ناحية،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: شبرو.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد المكان في المراجع التي بين أيدينا
[3] وفي نسخة أخرى: واستفتاح.
[4] وفي نسخة أخرى: في مواقفة الدواودة.

(6/375)


حتى اجتمع إليهم من ذلك أمم كان فيهم رياح ورغب والشريد وعوف ودباب ونغات. واحتلفوا في الاحتشاد وأجمعوا دخول إفريقية، فبادرهم أبو محمد قبل وصولهم إليه. وخرج من تونس سنة ست وستمائة وأغذّ السير إليهم، وتزاحفوا عند جبل نفوسة، واشتدت الحرب، ولما حمي الوطيس ضرب أبو محمد أبنيته وفسطاطه، وتحيّزا إليه بعض الفرق من بني عوف بن سليم واختلّ مصاف ابن غانية واتبعه الموحّدون إلى أن دخل في غيابات الليل وامتلأت أيديهم بالأسرى والغنائم، وسيقت ظعائن العرب. وقد كانوا قدّموها بين أيديهم للحفيظة أفذاذا في الكرّ والفرّ، فأصبحت مغنما للموحّدين وربات خدورها سبيا.
وهلك في المعركة خلق من الملثّمين وزناتة والعرب، وكان فيهم عبد الله بن محمد بن مسعود البليط بن سلطان شيخ الزواودة، وابن عمه حركات بن الشيخ بن عساكر ابن السلطان [1] وشيخ بني قرّة وجرار بن ويفرن كبير مغزاوة ومحمد بن الغازي بن غانية في آخرين من أمثالهم. وانصرف ابن غانية مهيض الجناح مفلول الحدّ عفوفا باليأس من جميع جهاته، وانقلب أبو محمد والموحّدون أعزّة ظاهرين، واستفحل أمر أبي محمد بإفريقية وحسم علل الفساد واستوفى جبايتها وطالت مواقف حروبه، ولم تهزم له راية. وهلك الناصر وولي ابنه يوسف المستنصر واستبدّ عليه المشيخة لمكان صغره، وشغلوا بفتنة بني مرين وظهورهم بالمغرب، فاستكفى بالشيخ أبي محمد في إفريقية وعوّل على غنائه فيها، وضبطه لأحوالها وقيامه بملكها فأبقاه على أعمالها، وسرّب إليه الأموال لنفقاتها وأعطياتها، ولم يزل بها إلى أن هلك سنة ثمان عشرة وستمائة والله أعلم.
(الخبر عن مهلك الشيخ أبي محمد بن الشيخ أبي حفص وولاية عبد الرحمن ابنه)
كانت وفاة الشيخ أبي محمد فاتح سنة ثمان عشرة وستمائة ولما هلك ارتاع الناس لمهلكه، وافترق أمر الموحّدين في الشورى فريقين بين عبد الرحمن بن الشيخ أبي
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حركات بن أبي شيخ بن عساكر بن سلطان.

(6/376)


محمد وإبراهيم ابن عمّه إسماعيل بن الشيخ أبي حفص، فتردّدوا مليا ثم اتفقوا على الأمير أبي زيد عبد الرحمن ابنه، وأعطوه صفقة إيمانهم، وأقعدوه بمجلس أبيه في الإمارة، فسكن الثائرة وشمّر للقيام بالأمر عزائمه. وأفاض العطاء وأجاز الشعراء، واستكتب أبا عبد الله ابن أبي الحسن، وخاطب المستنصر بالشأن. وخرج في عساكره لتمهيد النواحي وحماية الجوانب إلى أن وصل كتاب المستنصر بعزله لثلاثة أشهر من ولايته حسبما نذكره فارتحل إلى المغرب ومعه إخوانه وكاتبه ابن أبي الحسين ولحق بالحضرة.
(الخبر عن ولاية السيد أبي العلا على افريقية وابنه أبي زيد من بعده وأخبارهم فيها واعتراضهم في الدولة الحفصية)
لما بلغ الخبر إلى مراكش بمهلك أبي محمد بن أبي حفص، وقارن ذلك عزله السيد أبي العلا من إشبيليّة، ووصوله إلى الحضرة مسخوطا: وهو أبو العلا إدريس بن يوسف عبد المؤمن أخو يعقوب المنصور، وعبد الواحد المخلوع المبايع له بعد ذلك.
وعوّل على الوزير ابن المثنّى في جبر حاله، فسعى له عند الخليفة، وعقد له على إفريقية. ووصل الخطاب بولايته ونيابة إبراهيم بن إسماعيل بن الشيخ أبي حفص عنه خلال ما يصل، واستقدام أبناء الشيخ أبي محمد إلى الحضرة. وقرئ الكتاب شهر ربيع الأول من سنة ثماني عشرة وستمائة، فقام الشيخ بالنيابة في أمره، واستعمل أحمد المشطب في وزارته، وغلب عليه بطانته، وأساء في الموالاة لقرابته.
واختصّ أبناء الشيخ أبا محمد بقبيحة، وظنّ امتداد الدولة له. ووصل السيد أبو العلا شهر ذي القعدة من السنة، فنزل بالقصبة [1] ونزل ابنه السيّد أبا زيد بقصر ابن فاخر من البلد، ورتّب الأمور ونهج السنن.
ولشهر من وصوله تقبّض علي محمد بن نخيل كاتب الشيخ أبي محمد، وعلى أخويه
__________
[1] هي قصبة تونس كما في قبائل المغرب ص 160

(6/377)


أبي بكر ويحيى، واستصفى أموالهم واحتاز عقارهم وضياعهم. وكان المستنصر عهد إليه بذلك، لما كان أسفه بفلتات من القول والكتاب تنمى إليه أيام رياسته في خدمة أبي محمد، فاعتقلهم السيّد أبو العلا، ثم قتله وأخاه يحيى لشهر من اعتقالهما بعد أن فرّ من سجنه وتقبّض فقتل. ونقل أبو بكر إلى مطبق المهديّة فأردع به [1] .
وخرج السيّد أبو العلا من تونس سنة تسع عشرة وستمائة في عساكر الموحدين إلى نواحي قابس لقطع أسباب ابن غانية منها، فنزل قصر العروسيين، وسرّح ولده السيد أبا زيد في عسكر من الموحدين إلى درج وغدامس من بلاد الصحراء لتمهيدها وجبايتها. وقدّم بين يده عسكرا آخرا لمنازلة ابن غانية بودّان، وواعدهم هناك منصرفة من غدامس فأرجف بهم العرب في طريقهم بمداخلة ابن غانية. ومال بذله في ذلك فانفضّ العسكر، وزحفوا إلى قابس. وأهمل السيد ابو زيد في غدامس إليهم فلقيه خبر مفرّهم. فلحق بأبيه وأخبره بالجليّ في أمرهم، فسخط قائد العسكر وهمّ بقتله. وطرق السيّد أبا العلا المرض فرجع إلى تونس. وبلغه أن ابن غانية نهض من ودّان إلى الزاب، وأن أهل بسكرة أطاعوه، فسرح السيد أبا زيد في عساكر الموحّدين إليه، ودخل ابن غانية الرمل فأعجزهم.
ورجع السيد أبو زيد إلى بسكرة فأنزل بهم عقابه من النهب والتخريب، ورجع إلى تونس. ثم بلغه أنّ ابن غانية قد رجع إلى جوانب إفريقية، واجتمع إليه أخلاط من العرب والبربر، فسرّح السيد أبا زيد إليه في العساكر ونزل بالقيروان، وخالفه ابن غانية إلى تونس فقصده السيد أبو زيد ومعه العرب وهوّارة بظعائنهم ومواشيهم.
وتزاحفوا بمجدول فاتح إحدى وعشرين وستمائة، واشتدّ القتال وعضّت الموحدون الحرب، وأبلى هوّارة وشيخهم بعرة بن حنّاش بلاء جميلا. وضرب ابنتيه وتناغوا في الثبات والصبر فانهزم الملثّمون وانجلت المعركة عن حصيد من القتلى من أصحاب ابن غانية، واستولى الموحّدون على معسكرهم.
وكان بلغ السيد أبا زيد خبر مهلك أبيه السيّد أبي العلا بتونس في شعبان سنة عشرين وستمائة. فلما فرغ من مواقعة ابن غانية رجع إلى تونس واقصر عن متابعته. وخاطب المستنصر بمهلك أبيه وواقعة الملثمين، وكان المستنصر قد عزله واستبدل منه بأبي
__________
[1] كذا بالأصل، والأصح: فردع به بمعنى: صرع.

(6/378)


يحيى بن أبي عمران التينمللي صاحب ميورقة، ولم يصل إليه الخبر بعزله بعد.
وهلك الملك المستنصر إثر ذلك سنة عشرين وستمائة، وولي عبد الواحد المخلوع بن يوسف بن عبد المؤمن فنقض تلك العقدة، وكتب إلى السيد أبي زيد بالإبقاء على عمله، ونقض ما أصدر المستنصر من عزله، فأرسل عنانه في الولاية، وبسط يده في الناس بمكروهه، وتنكّرت له الوجوه، وانحرف عنه الناس، بما كانوا عليه من الصاغية لأبي محمّد بن أبي حفص وولده، الى أن عزل واستبدل بهم كما نذكره، وركب البحر بذخائره وأهله فلحق بالحضرة.
(الخبر عن ولاية أبي محمد عبد الله بن أبي محمد بن الشيخ أبي حفص وما كان فيها من الأحداث)
لما هلك المخلوع وولي العادل، ولّى على إفريقية أبا محمد عبد الله بن أبي محمد عبد الواحد. وولّى على بجاية يحيى بن الأطّاس التينمللي، وعزل عنها ابن يغمور.
وكتب إلى السيد أبي زيد بالقدوم. وكتب أبو محمد عبد الله إلى ابن عمّه موسى بن إبراهيم بن الشيخ أبي حفص بالنيابة عنه خلال ما يصل، فخرج السيد أبو زيد في ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة، واستقل أبو عمران موسى بأمر إفريقية، واستمرّت نيابته عليها زهاء ثمانية أشهر. وخرج أبو محمد عبد الله من مراكش إلى إفريقية.
ولما انتهى إلى بجاية قدّم بين يديه أخاه الأمير أبا زكريّا ليعترضه طبقات الناس للقائه، فوصل إلى تونس في شعبان من هذه السنة بعد أن أوقع في طريقه بولهاصة. وكان أولاد شدّاد رؤساؤهم قد جمعوا لاعتراضه بناحية بونة، فسرّح أخاه الأمير أبا زكريّا لحسم دائهم ولخروج الطبقات من أهل الحضرة للقائه فكان كذلك. وخرج في رمضان من سنته، وخرج معه الناس على طبقاتهم فلقوه بسطيف، ووصل إلى الحضرة في ذي القعدة من آخر السنة، وتزحزح أبو عمران عن النيابة. ثم لحقه من المغرب أخوه أبو إبراهيم في صفر سنة أربع وعشرين وستمائة، فعقد له على بلاد قسطيلية وعقد لأخيه الأمير أبي زكريا على قابس وما إليها، وذلك في جمادى من

(6/379)


هذه السنة.
وبعد استقراره بتونس بلغه أنّ ابن غانية دخل بجاية عنوة، ثم تخطّى كذلك إلى تدلس، وأنه عاث في تلك الجهات فرحل من تونس وعقد لأخويه كما ذكرناه.
وأغذّ السير إلى فحص أبة فصبح به هوّارة، وقد كان بلغه عنهم السعي في الفساد، فأطلق فيهم أيدي عسكره، واعتقل مشايخهم وأنفذهم إلى المهديّة. ثم مرّ في اتباع ابن غانية، فانتهى إلى بجاية، وسكّن أحوالها، ثم إلى متيجة ومليانة فأدركه الخبر أنّ ابن غانية قصد سجلماسة فانكفأ راجعا إلى تونس، ودخلها في رمضان سنة أربع وعشرين وستمائة، ولم يزل مستبدا بإمارته إلى أن ثار عليه الأمير أبو زكريا، وغلبه على الأمر كما نذكر.
(الخبر عن ولاية الأمير أبي زكريا ممهد الدولة لآل أبي حفص بإفريقية ورافع الراية لهم بالملك واولية ذلك وبدايته)
لما قتل العادل بمراكش سنة أربع وعشرين وستمائة، وبويع المأمون بالأندلس بعث إلى أبي محمد عبد الله بتونس ليأخذ له البيعة على من بها من الموحّدين. وكان المأمون قد فتح أمره بالخلاف، ودعا لنفسه قبل موت أخيه العادل بأيام، فامتنع أبو محمد وردّ رسله إليه، فكتب بذلك لأخيه الأمير أبي زكريّا وهو بمكانه من ولاية قابس.
وعقد له على إفريقية فأخذ له البيعة على من إليه، وداخله في شأنها ابن مكّي كبير المشيخة بقابس. واتصل ذلك بأبي محمد فخرج من تونس إليهم. ولما انتهى إلى القيروان نكر عليه الموحّدون نهوضه إلى حرب أخيه، وانتقضوا عليه وعزلوه. وطيّر بالخبر إلى أخيه في وفد منهم فألفوه معملا في اللحاق برحاب بن محمد [1] وأعراب طرابلس، فبايعوه ووصلوا به إلى معسكرهم. وخلع أبو محمد نفسه، ثم ارتحل الأمير أبو زكريا إلى تونس فدخلها في رجب من سنة خمس وعشرين [وستمائة] ، وأنزل أخاه
__________
[1] وفي مكان آخر: رحاب بن محمود وهو أمير دباب.

(6/380)


أبا محمد بقصر ابن فاخر، وتقبّض على كاتبه أبي عمرو طرا من الأندلس. واستكتبه ابو محمّد فغلب على هواه، وكان يغريه بأخيه، فبسط الأمير أبو زكريا عليه العذاب إلى أن هلك. ثم بعث أخاه أبا محمد في البحر إلى المغرب فاستبدّ بملكه، واستوزر ميمون بن موسى الهنتاتي، واستقامت أموره.
(الخبر عن استبداد الأمير أبي زكريا بالأمر لبني عبد المؤمن)
لما اتّصل به ما أتاه المأمون من قتل الموحّدين بمراكش، وخصوصا هنتاتة وتين ملّل.
وكان منهم أخواه أبو محمد عبد الله المخلوع وإبراهيم، وأنه أشاع النكير على المهديّ في العصمة، وفي وضع العقائد والنداء للصلوات باللسان البربري، وإحداث النداء لصبح وتربيع شكل الدرهم وغير ذلك من سننه. وأنّه غيّر رسوم الدعوة، وبدّل صول الدولة. وأسقط اسم الإمام من الخطبة والسكّة وأعلن بلعنه. ووافق بلوغ الخبر بذلك وصول بعض العمّال إلى تونس بتولية المأمون فصرفهم، وأعلن بخلعه سنة ست وعشرين وستمائة. وحوّل الدعوة إلى يحيى ابن أخيه الناصر المنتزي عليه بجبال الهساكرة. ثم اتصل به بعد ذلك عجز يحيى واستقلاله، فأغفله واقتصر على ذكر الإمام المهديّ، وتلقّب بالأمير ورسم علامته به في صدور مكتوباته. ثم جدّد البيعة لنفسه سنة أربع وثلاثين وستمائة، وثبت ذكره في الخطبة بعد ذكر الإمام مقتصرا على لفظ الأمير، لم يجاوزه إلى أمير المؤمنين. وخاض أولياء دولته في ذلك حتى رفع إليه بعض شعرائه في مفتتح كلمة مدحه بها:
الأصل بالأمير المؤمنينا ... فأنت بها أحق العالمينا
فزحزحهم عن ذلك وأبي عنه، ولم يزل على ذلك إلى آخر دولته.
(الخبر عن فتح بجاية وقسنطينة)
لما استقلّ الأمير أبو زكريا بالأمر بتونس، وخلع بني عبد المؤمن، نهض إلى قسنطينة

(6/381)


سنة ست وعشرين وستمائة، فنزل بساحتها وحاصرها أياما. ثم داخله ابن علناس في شأنها وأمكنه من غرّتها فدخلها، وتقبّض على واليها السيد [1] ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني بن يوسف العشري. وولّى عليها ابن النعمان. ورحل إلى بجاية فافتتحها، وتقبّض على واليها السيد أبي عمران ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني وصيّرهما معتقلين في البحر إلى المهديّة. وأجريت عليهما هنالك الأرزاق، وبعث بأهلهما وولدهما مع ابن أوماز [2] إلى الأندلس، فنزلوا بأشبيليّة. وبعث معهما إلى المهديّة في الاعتقال محمد بن جامع وابنه وابن أخيه جابر بن عون بن جامع من شيوخ مرداس عوف، وابن أبي الشيخ بن عساكر من شيوخ الدواودة، فاعتقلوا بمطبق المهديّة وكان أخوه أبو عبد الله اللحياني صاحب أشغال بجاية فصار في جملته، وولّاه بعدها الولايات الجليلة، وكان يستخلفه بتونس في مغيبه. وفي هذه السنة تقبّض على وزيره ميمون بن موسى واستصفى أمواله، وأشخصه إلى قابس فاعتقل بها مدة. ثم غرّبه إلى الإسكندريّة، واستوزر مكانه أبا يحيى بن أبي العلا بن جامع، إلى أن هلك، فاستوزر بعده أبا زيد ابن أخيه الآخر محمد إلى أن هلك.
(الخبر عن مهلك ابن غانية وحركة السلطان الى بجاية وولاية ابنه الأمير أبي يحيى زكريا عليها)
لما استقل الأمير أبو زكريا بإفريقية وخلع طاعة بني عبد المؤمن صرف عزمه أولا إلى مدافعة يحيى بن غانية عن نواحي أعماله، فكانت له في ذلك مقامات مذكورة، وشرّده عن جهات طرابلس والزاب وواركلا. واختطّ بواركلا المسجد لما نزلها في أتباعه، وأنزل بالأطراف عساكره وعمّاله لمنعها دونه. ولم يزل ابن غانية وأتباعه من العرب من أفاريق سليم وهلال وغيرهم على حالهم من التشريد والجلاء، إلى أن هلك سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وانقطع عقبه فانقطع ذكره، ومحا الله آثار فتنته من الأرض. واستقام أمر الدولة ونبضت منها عروق الاستيلاء واتساع نطاق الملك.
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذا السيد.
[2] كذا، وفي ب: أومازير.

(6/382)


ونهضت عزائمه إلى تدويخ أرض المغرب فخرج من تونس سنة اثنتين وثلاثين وستمائة يؤمّ بلاد زناتة بالمغرب الأوسط. وأغذّ السير إلى بجاية فتلوّم بها. ثم ارتحل إلى الجزائر فافتتحها وولّى عليها. ثم نهض منها إلى بلاد مغراوة فأطاعه بنو منديل بن عبد الرحمن. وجاهر بنو توجين بخلافه، فنزل البطحاء وأوقع بهم. وتقبّض على رئيسهم عبد القوي بن العبّاس فاعتقله، وبعث به إلى تونس ودوّخ المغرب الأوسط وقفل راجعا إلى حضرته. وعقد مرجعه من المغرب لابنه الأمير أبي يحيى زكريا على بجاية وأنزله بها. واستوزر له يحيى بن صالح بن إبراهيم الهنتاتي وجعل شواره لعبد الله بن أبي تهدى، وجبايته لعبد الحق بن ياسين، وكلّهم من هنتاتة. وكتب إليه بوصيّته مشتملة على جوامع الخلال في الدين والملك والسياسة، يجب إثباتها لشرف مغزاها وغرابة معناها ويأتي نصّها فيما بعد.
(الخبر عن سطوة السلطان بهوارة)
كان لهوّارة هؤلاء بإفريقية ظهور وعدد منذ عهد الفتح، وكانت دولة العبيديّين قد جرت عليهم بكلكلها لما كان منهم في فتنة أبي يزيد كما نذكره في أخبارهم. وبقي منهم فلّ بجبل أوراس وما بعده من بلاد إفريقية وبسائطها إلى أبّة ومر ماجنّة وسبّيبة وتبرسق. ولما انقرض ملك صنهاجة بالموحّدين وتغلّب الأعراب من هلال وسليم على سائر النواحي بإفريقية، وكثّروا ساكنها، وتغلّبوا عليهم أخذ هذا الفلّ بمذهب العرب وشعارهم وشارتهم في اللبوس والزي والظعون وسائر العوائد. وهجروا لغتهم العجميّة إلى لغتهم، ثم نسوها كأن لم تكن لهم، شأن المغلوب في الاقتداء بغالبه. ثم كان لهم انحياش أول الدولة إلى الطاعة بغلب عبد المؤمن وقومه. فلما استبدّ الأمير أبو زكريا، وانقلبت الدولة إلى بني أبي حفص ظهر منهم التياث في الطاعة، وامتناع عن المغرم، وأضرار بالسابلة، فاعتمل السلطان في أمرهم. وخرج من تونس سنة ست وثلاثين وستمائة موريا بالغزو إلى أهل أوراس، وبعث في احتشادهم فتوافدوا في معسكره. ثم صبحهم في عسكره من الموحّدين والعرب ففتك بهم قتلا وسبيا، واكتسح أموالهم وقتل كبيرهم أبو الطيّب بعرّة بن حنّاش وأفلت من أفلت منهم ناجيا

(6/383)


بنفسه، عاريا من كسبه، فألانت هذه البطشة من حدّهم وخضّدت من شوكتهم، واستقاموا على الطاعة بعد.
(الخبر عن ثورة الهرغي بطرابلس ومنال أمره)
كان هذا الرجل من مشيخة الموحّدين وهو يعقوب بن يوسف بن محمد الهرغي ويكنّى بأبي عبد الرحمن، وكان الأمير أبو زكريا وقد عقد له على طرابلس وجهاتها، وسرّح معه عسكرا من الموحّدين من أعراب دباب من بني سليم، فقام بأمرها واضطلع بجباية رعاياها. واستخدم العرب والبربر الذين بساحتها وكان بينه وبين الجواهري مصدوقة ود. فلما قتل الجواهري سنة تسع وثلاثين وستمائة كما قدّمناه استوحش لها يعقوب الهرغي واستقدمه السلطان فتلكّأ، وبعث عنه أخاه ابن أبي يعقوب فازداد نفاره، وحدّثته نفسه بالاستبداد لما كان أثرى من الجباية وشعر لها أهل البلد. فانطلقوا وهم يتخافون أن يعاجلوه قبل مداخلته العرب في أمره، فتقبّضوا عليه وعلى أخيه وعلى أتباعهما ليلة أجمعوا الثورة في صباحها. وطيّروا بالخبر إلى الحضرة فنفذ الأمر بقتلهم فقتلوا، وبعث برءوسهم إلى باب السلطان، ونصبت أشلاؤهم بأسوار طرابلس، وأصبحوا عبرة للمعتبرين وأنشد الشعراء في التهنية بهم وقامت للبشائر سوق لكائنتهم.
وكان ممن قتل معه محمد ابن قاضي القضاة بمراكش أبي عمران بن عمران. وصل علقا [1] إلى تونس وقصد طرابلس فاتصل بهذا الهرغي، ونمي عنه أنه أنشأ خطبة ليوم البيعة فكانت سائقة حتفه. وكان بالمهديّة رجل من الدعاة يعرف بأبي حمراء [2] اشتهر بالنجدة في غزو البحر، وقدّم على الأسطول فردّد الغزو حتى هابه الغزّى من أمم الكفر، وأمنت سواحل المسلمين من طروقهم. وطار له فيها ذكر ونمي أنه كان مداخلا للجواهري والهرغي، وأن القاضي بالمهديّة أبا زكريا البرقي اطلع على دسيستهم في ذلك، فنفذ الأمر السلطاني للوالي بها أبي علي بن أبي موسى بن أبي
__________
[1] كذا، ولا معنى لها، وفي ب: غلقا بمعنى: غضبان.
[2] كذا، وفي ب: ابن أبي الأحمر.

(6/384)


حفص بقتل ابن أبي الأحمر، وإشخاص القاضي إلى الحضرة معتقلا، فأمضى عهده. ولما وصل البرقي إلى تونس فحص السلطان عن شأنه فبرئ من مداخلتهم، فسرّحه وأعاده إلى بلده. وقتل بالحضرة رجل آخر من الجند أتهم بمداخلتهم وسعايته في قيامهم، وكان له تعلّق برحاب بن محمود أمير دباب، فأوعز السلطان إلى بعض الدعّار من زناتة، فقتله غيلة ثم أهدر دمه. وتتبّع أهل هذه الخائنة بالقتل حتى حسم الداء، ومحا شوائب الفتنة.
(الخبر عن بيعة بلنسية ومرسية وأهل شرق الأندلس ووفدهم)
لما استقلّ أبو جميل زيّان بن أبي الحملات مدافع بن أبي الحجّاج بن سعد بن مردنيش بملك بلنسية، وغلب عليها السيّد أبا زيد بن السيد أبي حفص، وذلك عند خمود ريح بني عبد المؤمن بالأندلس، وخروج ابن هود على المأمون، ثم فتنته هو مع ابن هود، وثورة ابن الأحمر بأرجونة، واضطراب الأندلس بالفتنة. وأسف الطاغية إلى ثغور الأندلس من كل جانب. وزحف ملك أرغون إلى بلنسية فحاصرها، وكانت للعدو سنة ثلاث وثلاثين وستمائة سبع محلّات لحصار المسلمين:
اثنتان منها على بلنسية، وجزيرة شقر وشاطبة. ومحلة بجيان ومحلة بطبيرة ومحلة بمرسية ومحلة بلبلة، وأهل جنوة من وراء ذلك على سبتة.
ثم تملّك طاغية قشتالة مدينة قرطبة، وظفر طاغية أرغون بالكثير من حصون بلنسية والجزيرة، وبنى حصن أنيشة لحصار بلنسية. وأنزل بها عسكره وانصرف، فاعتزم زيّان بن مردنيش على غزو من بقي بها من عسكره، واستنفر أهل شاطبة وشقر وزحف إليهم فانكشف المسلمون، وأصيب كثير منهم. واستشهد أبو الربيع بن سالم شيخ المحدّثين بالأندلس، وكان يوما عظيما، وعنوانا على أخذ بلنسية ظاهرا. ثم تردّدت عليها سرايا العدو. ثم زحف إليها طاغية أرغون في رمضان سنة خمس وثلاثين وستمائة فحاصرها واستبلغ في نكايتها. وكان بنو عبد المؤمن بمراكش قد فشل ريحهم، وظهر أمر بني أبي حفص بإفريقية، فأمّل ابن مردنيش وأهل شرق

(6/385)


الأندلس الأمير أبا زكريا للكرّة، وبعثوا إليه بيعتهم، وأوفد عليه ابن مردنيش كاتبه الفقيه أبا عبد الله بن الأبار صريخا، فوفد وأدّى بيعتهم في يوم مشهود بالحضرة، وأنشد في ذلك المحفل قصيدته على روي السين، يستصرخه فيها للمسلمين وهي هذه:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست ... فلم يزل منك عزّ النصر ملتمسا
عاش مما تعانيه حشاشتها ... فطالما ذاقت البلوى صباح مسا
يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا ... للنّائبات وأمسى جدّها تعسا
في كلّ شارقة إلمام بائقة ... يعود مأتمها عند العدا عرسا
وكلّ غاربة إجحاف نائبة ... تثني الأمان حذارا والسرور أسا
تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... إلّا عقائلها المحجوبة الأنسا
وفي بلنسية منها وقرطبة ... ما يذهب النفس أو ما ينزف النفسا
مدائن حلّها الإشراك مبتسما ... جذلان وارتحل الإيمان منبئسا
وصيّرتها العوادي عائثات بها ... يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا
ما للمساجد عادت للعدى بيعا ... وللنّداء يرى أثناءها جرسا
لهفا عليها إلى استرجاع فائتها ... مدارسا للمثاني أصبحت درسا
وأربعا غنمت أيدي الربيع بها ... ما شئت من خلع موشيّة وكسا
كانت حدائق للأحداق مونقة ... فصوّح النصر من أدواحها وعسا
وحال ما حولها من منظر عجب ... يستوقف الركب أو يستركب الجلسا
سرعان ما عاث جيش الكفر واحربا ... عيث الدبا في مغانيها التي كبسا [1]
وابتزّ بزّتها مما تحيّفها ... تحيّف الأسد الضاري لما افترسا [2]
__________
[1] وفي نسخة أخرى:
سرعان ما عاد جيش الكفر محتربا ... بعث الربا في مغانيها الّذي كبسا
[2] وفي نسخة أخرى: وابتز بزتها تخيف خائف الأسد الضاريات بها لكل ما افترسا

(6/386)


فأين عيش جنيناه بها خضرا [1] ... وأين غصن جنيناه بها سلسا
محا محاسنها طاغ أتيح لها ... ما نام عن هضمها حينا وما نعسا
ورجّ [2] أرجاءها لمّا أحاط بها ... فغادر الشمّ من أعلامها خنسا
خلا له الجوّ وامتدّت يداه إلى ... إدراك ما لم تنل رجلاه مختلسا
وأكثر الزعم بالتثليث منفردا ... ولو رأى راية التوحيد ما نبسا
صل حبلها أيّها المولى الرحيم فما ... أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا
وأحي ما طمست منها العداة كما ... أحييت من دعوة المهديّ ما طمسا
أيام صرت لنصر الحقّ مستبقا ... وبتّ من نور ذاك الهدي مقتبسا
وقمت فيها لأمر الله منتصرا ... كالصارم اهتزّ أو كالعارض انبجسا
تمحو الّذي كتب التجسيم من ظلم ... والصبح ماحية أنواره الغلسا
هذي رسائلها تدعوك من كتب ... وأنت أفضل مرجوّ لمن يئسا
وافتك جارية بالنجح راجية ... منك الأمير الرضى والسيّد الندسا [3]
خاضت خضارة يعلوها ويخفضها ... عبابه فتعاني اللين والشرسا
وربما سبحت والريح عاتية ... كما طلبت بأقصى شدة الفرسا
تؤمّ يحيى بن عبد الواحد بن أبي ... حفص مقبّلة من تربه القدسا
ملك تقلّدت الأملاك طاعته ... دينا ودنيا فغشّاها الرضى لبسا [4]
من كلّ غاد على يمناه مستلما [5] ... وكل صاد إلى نعماه ملتمسا
مؤيّد لو رمى نجما لأثبته ... ولو دعا أفقا لبّى وما احتبسا [6]
إمارة تحمل المقدار [7] رايتها ... ودولة عزّها يستصحب القعسا
يبدي النهار بها من ضوئه شنبا ... ويطلع الليل من ظلمائه لعسا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: سمرا.
[2] وفي نسخة أخرى: وريح.
[3] وفي نسخة أخرى: السيد الرئسا.
[4] وفي نسخة أخرى: يئسا.
[5] وفي نسخة أخرى: ملتثما.
[6] وفي نسخة أخرى:
مؤيد نورها نجما لأثبته ... ولو دعا آبقا ولّى وما احتسبا
[7] وفي نسخة أخرى: الأقدار.

(6/387)


كأنّه البدر والعلياء هالته ... تحفّ من حوله شهب القنا حرسا
له الثرى والثريّا خطّتان فلا ... أعزّ من خطّتيه ما سما ورسا
يا أيّها الملك المنصور أنت لها ... علياء توسع أعداء الهدى تعسا
وقد تواترت الأنباء أنّك من ... يحيى بقتل [1] ملوك الصفر أندلسا
طهّر بلادك منهم إنّهم نجس ... ولا طهارة ما لم تغسل النجسا
وأوطئ الفيلق الجرّار أرضهم ... حتّى يطأطئ رأس كل من رأسا
وانصر عبيدا بأقصى شرقها شرقت ... عيونهم أدمعا تهمي زكاء وخسا
هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت ... داء متى لم تباشر حسمه انتكسا
املأ هنيئا لك التمكين ساحتها ... جردا سلاهب أو خطّية دعسا
واضرب لها موعدا بالفتح ترقبه [2] ... لعلّ يوم الأعادي قد أتى وعسا
فأجاب الأمير أبو زكريا داعيتهم، وبعث إليهم أسطوله مشحونا بمدد الطعام والأسلحة والمال، مع أبي يحيى بن يحيى بن الشهيد أبي إسحاق بن أبي حفص. وكانت قيمة ذلك مائة ألف دينار. وجاءهم الأسطول بالمدد وهم في هذا الحصار، فنزل بمرسى دانية واستفرغ المدد بها ورجع بالناضّ إذا لم يخلص إليه من قبل ابن مردنيش من يتسلّمه. واشتدّ الحصار على أهل بلنسية، وعدمت الأقوات وكثر الهلاك من الجوع، فوقعت المراودة على إسلام البلد فتسلّمها جاقمة ملك أرغون في صفر سنة ست وثلاثين وستمائة، وخرج عنها ابن مردنيش إلى جزيرة شقر، فأخذ البيعة على أهلها للأمير أبي زكريّا. ورجع ابن الأبّار إلى تونس، فنزل على السلطان وصار في جملته، وألحّ العدوّ على حصار ابن مردنيش بجزيرة شقر، وأزعجه عنها إلى دانية فدخلها في رجب من سنته، وأخذ عليهم البيعة للأمير أبي زكريا.
ثم داخل أهل مرسية، وقد كان بويع بها أبو بكر عزيز بن عبد الملك ابن خطّاب في مفتتح السنة، فافتتحها عليه في رمضان من سنته وقتله، وبعث ببيعتهم إلى الأمير أبي زكريا. وانتظمت البلاد الشرقية في طاعته، وانقلب وفد ابن مردنيش إليه من تونس بولايته على عمله سنة سبع وثلاثين وستمائة، ولم يزل بها إلى أن غلبه ابن هود
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تقبل.
[2] وفي نسخة أخرى: للفتح نرقبه.

(6/388)


على مرسية، وخرج عنها إلى لقنت [1] الحصون سنة ثمان وثلاثين وستمائة، إلى أن أخذها طاغية برشلونة من يده سنة أربع وأربعين وستمائة، وأجاز إلى تونس، والبقاء للَّه.
(الخبر عن الجوهري وأوليته ومآل أمره)
اسم هذا الرجل: محمّد بن محمد الجوهري، وكان مشتهرا بخدمة ابن أكمازير الهنتاتي والي سبتة وغمارة من أعمال المغرب. وكان حسن الضبط متراميا إلى الرئاسة. ولمّا ورد على تونس وتعلّق بأعمال السلطان نظر فيما يزلفه ويرفع من شأنه، فوجد جباية أهل الخيام بإفريقية من البرابرة الموطّنين مع الأعراب غير منضبطة ولا محصلة [2] في ديوان، فنبّه على أنها مأكلة للعمّال ونهبة للولاة، فدفع إليها فأنمى [3] جبايتها وقرّر ديوانها، وصارت عملا منفردا يسمّى عمل العمود وطار له بذلك بين العمال ذكر، جذب له السلطان أبو زكريا بضبعه، وعوّل على نصيحته واثره باختصاصه. ووافق ذلك موت أبي الربيع الكنفيتي المعروف بابن الغريغر [4] صاحب الأشغال بالحضرة، فاستعمل مكانه، وكان لا يلي تلك الخطّة إلا كبير من مشيخة الموحّدين، فرشّحه السلطان لها لكفايته وغنائه، فظفر منها بحاجة نفسه، واعتدّها ذريعة إلى أمنيّته، فاتّخذ شارة أرباب السيوف، وارتبط الخيل واتخذ الآلة في حروبه مع أهل البادية إذا احتاج إليها.
وأسف أثناء ذلك أبا علي بن النعمان وأبا عبيد الله بن أبي الحسن بعدم الخضوع لهما، فنصبا له، واغريا به السلطان، وحذّراه غائلة عصيانه. وكان فيه إقدام أوجد به السبيل على نفسه، ويحكى أن السلطان استشاره ذات يوم في تقويم بعض أهل الخلاف والعصيان، فقال له: عندي ببابك ألف من الجنود أرم بها من تشاء من أمثالهم، فأعرض عنه السلطان واعتدّها عليه. وجعلها مصداقا لما نمي عنه. ولمّا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: لمنت.
[2] وفي نسخة أخرى: محصيّة.
[3] وفي نسخة أخرى: فأنهى.
[4] وفي نسخة أخرى: موت أبي الربيع الكنفيسي المعروف بابن القريقر.

(6/389)


قدم عنه عبد الحق بن يوسف بن ياسين على الأشغال ببجاية مع زكريا بن السلطان، أظهر له الجوهري أنّ ذلك بسعايته، وعهد إليه بالوقوف عند أمره والعمل بكتابه، فألقى عبد الحق ذلك إلى الأمير أبي زكريا فقام لها وقعد، وأنف من استبداد الجوهري عليه. ولم تزل هذه وأمثالها تعدّ عليه حتى حقّ عليه القول فسطا به الأمير أبو زكريا وتقبّض عليه سنة تسع وثمانين وستمائة، ووكل امتحانه إلى أعدائه ابن لمان [1] والندرومي، فتجلّد على العذاب وأصبح في بعض أيامه ميتا بمحبسه. ويقال خنق نفسه وألقي شلوه بقارعة الطريق فتفنن أهل الشمات في العبث به، وإلى الله المصير.
(الخبر عن فتح تلمسان ودخول بني عبد الواد في الدعوة الحفصية)
كان الأمير أبو زكريّا منذ استقل بأمر إفريقية واقتطعها عن بني عبد المؤمن كما ذكرناه متطاولا إلى ملك الحضرة بمراكش والاستيلاء على كرسي الدعوة. وكان يرى أن بمظاهرة زناتة له على شأنه يتم له ما يسمو إليه من ذلك، فكان يداخل أمراء زناتة فيه ويرغّبهم ويراسلهم بذلك على الأحياء من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة.
وكان يغمراسن منذ تقلّد طاعة آل عبد المؤمن أقام دعوتهم بعمله متحيزا إليهم سلما لوليهم وحربا على عدوهم. وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البرّ والخلوص، وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة، وعاوده الإتحاف بأنواع الألطاف والهدايا تيمما [2] لمسراته، وميلا إليه عن جانب أقتاله بني مرين المجبلين على المغرب والدولة، فاستكبر السلطان أبو زكريا اتصال الرشيد هذا يغمراسن وألزمهم من جواره بالمحل القريب.
وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القوي أمير بني توجين وبعض ولد منديل [3] بن عبد الرحمن أمراء مغراوة صريخا على يغمراسن فسهّلوا له أمره، وسوّلوا له الاستبداد على تلمسان. وجمع كلمة زناتة، واغداد [4] ذلك ركابا لما يرومه من امتطاء ملك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بعض وفد بني منديل.
[2] وفي نسخة أخرى: واعتداد.
[3] كذا، وفي ب: ابن برتمار، وفي نسخة: أخرى برعان.
[4] وفي النسخة الباريسية: تضمنا وفي نسخة أخر تغمنا وهذا تحريف ظاهر.

(6/390)


الموحّدين بمراكش، وانتظامه في أمره، وسلّما لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه، وبابا لولوج المغرب على أهله، فحرّكه إملاؤهم وهزّه إلى النعرة [1] صريخهم، وأهاب بالموحّدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان. واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في طاعته من بني سليم ورياح بظعنهم، فاهطعوا لداعيه [2] .
ونهض سنة تسع وثلاثين وستمائة في عساكر ضخمة وجيوش وافرة. وسرّح إمام حركته عبد القوي بن العبّاس وأولاد منديل بن محمد لحشد من وافى بأوطانهم من أحياء زناتة وذؤبان قبائلهم، وأحياء زغبة أحلافهم من العرب. وضرب معهم موعدا لموافاتهم في تخوم بلادهم. ولما نزل صحراء زاغر قبلة تيطري منتهى مجالات رياح وبني سليم من المغرب، تثاقل العرب عن الرحلة بظعنهم في ركاب السلطان، وتلووا بالمعاذير فألطف الأمير أبو زكريا الحيلة. زعموا في استنهاضهم وتنبيه عزائمهم، فارتحلوا معه حتى نازل تلمسان بجميع عساكر الموحّدين وحشود زناتة وظعن العرب بعد أن كان قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة بالأعذار والدعاء إلى الطاعة، فرجّعهم بالخيبة. ولما حلّت عساكر الموحّدين بساحة البلد، وبرز يغمراسن وجموعه للّقاء بصحبتهم ناشية السلطان بالنبل، فانكشفوا ولاذوا بالجدران وعجزوا عن حماية الأسوار، فاستمكنت المقاتلة من الصعود. ورأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتفا في ذويه وخاصته. واعترضه عساكر الموحدين فصمم نحوهم وجندل بعض أبطالهم فأفرجوا له، ولحقوا بالصحراء وتسللت الجيوش إلى البلد من كل حدب، فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان واكتساح الأموال.
ولما تجلى غشي تلك الهيعة، وخسر تيّار الصدمة، وخمدت نار الحرب، راجع الموحدون بصائرهم وأنعم الأمير أبو زكريا نظره فيمن يقلّده أمر تلمسان والمغرب الأوسط، وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة بني عبد المؤمن والمدافعة عنها.
واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه وتبرّأ أمراء زناتة ضعفا عن مقاومة يغمراسن علما بأنّه الفحل الّذي لا يقرع أنفه، ولا يطرق غيله ولا يصد عن فريسته.
وسرّح يغمراسن الغارات في نواحي المعسكر فاختطف الناس من حوله، واطلعوا من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: النفرة.
[2] وفي نسخة أخرى: فأهبطوا الحامية.

(6/391)


المراقب عليه. ثم بعث وفده متطارحين على السلطان في الملامة والاتفاق، واتصال اليد على صاحب مراكش طالب الوتر في تلمسان وإفريقية. وان يفرده بالدعوة الموحدية فأجابه إلى ذلك. ووفدت أمّه سوط النساء للاشتراط والقبول فأكرم موصلها وأسنى جائزتها، وأحسن وفادتها ومنقلبها، وسوّغ ليغمراسن في شرطه بعض الأعمال بإفريقية، وأطلق أيدي عماله على جبايته، وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله.
وفي أثناء طريقه وسوس إليه الموحدون باستبداد يغمراسن، وأشاروا بإقامة منافسيه من زناتة وأمراء المغرب الأوسط شجى في صدره، ومعترضا عن مرامه، وإلباسهم ما لبس من شارة السلطان وزيّه، فأجابهم وقلّد كلّا من عبد القوي بن عطية التوجيني، والعبّاس بن منديل المغراوي ومنصور المليكشي أمر قومه ووطنه، وعهد إليهم بذلك وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم، فاتخذوه بحضرته وبمشهد من ملأ الموحدين. وأقاموا مراسمها ببابه. وأغذّ السير إلى تونس قرير العين بامتداد ملكه، وبلوغ وطره والإشراف على إذعان المغرب لطاعته وانقياده لحكمه، وإدالة دعوة بني عبد المؤمن فيه بدعوته، فدخل الحضرة واقتعد أريكته وأنشده الشعراء في الفتح، وأسنى جوائزهم وتطاولت إليه أعناق الآفاق نذكره. الله أعلم.
(الخبر عن دخول أهل الأندلس في الدعوة الحفصية ووصول بيعة إشبيلية وكثير من أمصارها)
كان بأشبيليّة أبو مروان أحمد الباجي من أعقاب أبي الوليد وأبو عمرو بن الجدّ من أعقاب الحافظ أبي بكر الطائر الذكر، ورثا التجلّة عن جدّهما وأجراهما الخلفاء على سننهم. وكانا مسمتين وقورين متبوعين من أهل بلدهما مطاعين في أفقهما. وكان السادة من بني عبد المؤمن يعوّلون على شوراهما في مصرهما. وكان بعدوة الأندلس التياث في الملك منذ وفاة المستنصر، وانتزى بها السادة وافترقوا. وثار بشرق الأندلس ابن هود وزيّان بن مردنيش، وبغربها ابن الأحمر. وغلب ابن هود الموحدين

(6/392)


وأخرجهم عنها. وملك ابن هود إشبيليّة سنة ست وعشرين وستمائة واعتقل من كان بها من الموحدين. ثم انتقضوا عليه سنة تسع وعشرين وستمائة بعدها وأخرجوا أخاه أبا النجاة سالما، وبايعوا الباجي وتسمّى بالمعتضد، واستوزر أبا بكر بن صاحب الرد، ودخلت في بيعته قرمونة، وحاصره ابن هود فوصل الباجي يده بمحمد بن الأحمر الثائر بأرجونة وجيان بعد أن ملك قرطبة.
وزحف ابن هود إليهم فلقوه وهزموه، ورجعوا ظافرين، فدخل الباجي إلى إشبيليّة وعسكر بخارجها، ثم انتهز فرصته في إشبيليّة وبعث قريبه ابن اشقيلولة مع أهل أرجونة والنصارى إلى فسطاط الباجي فتقبّضوا عليه وعلى وزيره وقتلوهما سنة إحدى وثلاثين وستمائة. ودخل ابن الأحمر إشبيليّة، ولشهر من دخوله إليها ثار عليه أهلها ورجعوا إلى طاعة ابن هود، وولى عليهم أخاه أبا النجاة سالما. ولما هلك محمد بن هود سنة خمس وثلاثين وستمائة صرف أهل إشبيليّة طاعتهم إلى الرشيد بمراكش، وولوا على أنفسهم محمد بن السيد أبي عمران الّذي قدّمنا أنه كان واليا بقسنطينة، وأن الأمير أبا زكريا غلبه عليها واعتقله، وبعث ولده إلى الأندلس فربي محمد هذا في كفالة أمه بأشبيليّة. ولما سار أهل إشبيليّة للرشيد قدّموه على أنفسهم، وتولّى كبر ذلك أبو عمرو بن الجد، وبعثوا وفدهم إلى الحضرة فأقرّ السيد أبا عبد الله على ولايتهم. واستمرت في دعوة الرشيد إلى أن هلك سنة أربعين وستمائة. وقد ملك الأمير أبو زكريا تلمسان وأشرف على أعمال المغرب، فاقتدوا بمن تقدّم إلى بيعته من أهل شرق الأندلس ببلنسية ومرسية، وبايعوا للأمير أبي زكريا بن أبي محمد بن أبي حفص واقتدى بهم أهل شريش وطريف، وبعثوا إليه وفدهم ببيعته سنة إحدى وأربعين وستمائة. وسألوا منه ولاية بعض أهل قرابته فولّى عليهم أبا فارس ابن عمه يونس بن الشيخ أبي حفص، فقدم إشبيليّة وقام بأمرها، وسلّم له ابن الجد في نقضها وإبرامها.
ثم انتقض عليه سنة ثلاث وأربعين وستمائة وطرده من البلد إلى سبتة واستبد بأمر إشبيليّة، ووصل يده بالطاغية. وعقد له السلم وضرب على أيدي أهل المغاورة من الجند وأسقطهم من ديوانه فقتلوه بإملاء قائدهم شفاف [1] واستقلّ بأمر إشبيليّة.
__________
[1] كذا، وفي ب: شقاف.

(6/393)


ورجّع أبا فارس بن أبي حفص وولّاه بدعوة الأمير أبي زكريا فسخطهم الطاغية لذلك وانتقض عليهم وملك قرمونة ومرشانة. ثم زحف إلى حصرهم وسألوه الصلح فامتنع. وصار أمر البلد شورى بين القائد شفاف وابن شعيب ويحيى بن خلدون ومسعود بن خيار وأبي بكر بن شريح، ويرجعون في أمرهم آخرا إلى الشيخ أبي فارس بن أبي حفص.
وأقاموا في هذا الحصار سنتين ونازلهم ابن الأحمر في جملة الطاغية، وبعث إليهم الأمير أبو زكريّا المدد، وجهّز له الأسطول لنظر أبي الربيع بن الغريغر التينمللي.
وأوعز له إلى سبتة بتجهيز أسطولهم معه فوصل إلى وادي إشبيليّة، وغلبهم أسطول الطاغية على مرسية فرجع. واستولى العدو عليها صلحا سنة ست وأربعين وستمائة بعد أن أعانهم ابن الأحمر بمدده وميرته. وقدم الطاغية على أهل الدخن بها عبد الحق بن أبي محمد البياسي من آل عبد المؤمن، والأمر للَّه.
(الخبر عن بيعة أهل سبتة وطنجة وقصر ابن عبد الكريم وتصاريف أحوالهم ومال أمرهم)
كان أهل سبتة بعد إقلاع المأمون عنهم، ونزول أخيه موسى عنها لابن هود قد انتقضوا وأخرجوا عنهم القشتيني والي ابن هود، وقدّموا عليهم أحمد الينشتي وتسمّى بالموفق.
ثم رجعوا إلى طاعة الرشيد عند ما بايعه أهل إشبيليّة سنة خمس وثلاثين وستمائة.
وتقبّضوا على الينشتي وابنه وأدخلوا السيد أبا العباس ابن السيّد أبي سعيد، كان واليا بغمرة فولّوه عليهم. ثم عقد الرشيد على ديوان سبتة لأبي عليّ بن خلاص، كان من أهل بلنسية واتصل بخدمة الرشيد فجلّى فيها. ودفعه إلى الأعمال فضبطها، فولّاه سبتة فاستقل بها. وولّى على طنجة يوسف ابن الأمير قائدا على الرحل الأندلسي وضابطا لقصبتها. حتى إذا هلك الرشيد سنة أربعين وستمائة، وقد استفحل أمر الأمير أبي زكريا بإفريقية، واستولى على تلمسان وبايعه الكثير من أمصار الأندلس، فصرف ابن خلاص وجهه إليه.
وكان قد اقتنى الأموال واصطنع الرجال، فدخل في دعوته، وبعث الوفد ببيعته.
واقتدى به في ذلك أهل قصر ابن عبد الكريم فبعثوا بيعتهم للأمير أبي زكريا. وعقد

(6/394)


لابن خلاص على سبتة وما إليها، فبعث بالهدية إليه في أسطول أنشأه لذلك سمّاه الميمون، وأركب ابنه أبا القاسم فيه وافدا على السلطان، ومعه الأديب إبراهيم بن سهل، فعطب عند إقلاعه. ولما رجع الأسطول من إشبيليّة كما قدّمناه على بقية هذا العطب وحزن أبي عليّ بن خلاص على ابنه، رغب من قائده أبي الربيع بن الغريغر أن يحمله بجملته إلى الحضرة، فانتقل بأهله واحتمل ذخيرته. ولمّا مرّ الأسطول بمرسي وهران نزل بساحلها فأراح، وأحضر له تين فأكله فأصابه مغص في معاه هلك منه فجأة سنة ست وأربعين وستمائة. وعقد السلطان على سبتة لأبي يحيى ابن زكريا ابن عمّه أبي يحيى الشهيد بن الشيخ أبي حفص. وبعث معه على الجباية أبا عمر بن أبي خالد الإشبيلي، كان صديقا لشفاف وعدوّا لابن الجد. ولما قتل شفاف لحق بالحضرة فولّاه الأمير أبو زكريا أشغال سبتة، استمرت الحال إلى أن كان من استبداد العزفي بسبتة ما نذكره.
(الخبر عن بيعة المرية)
لما هلك محمد بن هود بالمريّة سنة خمس وثلاثين وستمائة كما ذكرناه واستبدّ وزيره أبو عبد الله محمد بن الرميمي بها، وضبطها لنفسه وضايقه ابن الأحمر فبعث ببيعته سنة أربعين إلى الأمير أبي زكريا حين أخذ أهل شرق الأندلس بطاعته. ولم يزل ابن الأحمر يحاصره إلى أن تغلّب عليه سنة ثلاث وأربعين وستمائة كما ذكرناه في أخباره.
وخرج منها إلى سبتة بأهله وذخيرته، وأحلّه أبو علي ابن خلاص محل البرّ والتكرمة، وأنزله خارج المدينة في بساتين بنيونش، وأجمع الثورة بأبي خلاص، فنذر به وتغيّر له. فلما رجع الأسطول من إشبيليّة ركبه الرميمي ولحق بتونس، فنزل على الأمير أبي زكريا وحل من حضرته محل التكرمة. واستوطن تونس، وتملّك بها الضياع والقرى، وشيّد القصور إلى أن هلك والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن بيعة ابن الأحمر)
كان محمد بن الأحمر قد انتزى على ابن هود ببلده أرجونة، وتملّك جيّان وقرطبة

(6/395)


وإشبيليّة وغرب الأندلس وطالت فتنته مع ابن هود وراجع طاعته. ثم انتقض عليه وبايع للرشيد سنة ست وثلاثين وستمائة عند ما بايعه أهل إشبيليّة وسبته، فلم يزل على ذلك إلى أن هلك الرشيد على حين استفحال ملك الأمير أبي زكريا بإفريقية وتأميله للنصرة والكرة، فحول ابن الأحمر إليه الدعوة، وأوفد بها أبا بكر بن عيّاش من مشيخة مالقة فرجعهم الأمير أبو زكريا بالأموال للنفقات الجهادية. ولم يزل يواصلها لهم من بعد ذلك إلى أن هلك سنة سبع وأربعين وستمائة، فأطلق ابن الأحمر نفسه من عقال الطاعة واستبدّ بسلطانه.
(الخبر عن بيعة سجلماسة وانتقاضها)
كان عبد الله بن زكريا الهزرجي من مشيخة الموحّدين واليا بسجلماسة لبني عبد المؤمن.
ولما هلك الرشيد وبويع أخوه السعيد سنة أربعين وستمائة، ونميت إليه عن الهزرجي عظيمة من القول خشن بها صدره وبعث إليه مستعتبا فلم يعتبه. ومزّق كتابه فخشيه الهزرجي على نفسه، واتصل به ما كان من استيلاء الأمير أبي زكريا على تلمسان ونواحيها، فخاطبه بطاعته وأوفد عليه بيعته، فعقد له الأمير أبو زكريا على سجلماسة وأنحائها، وفوّض إليه في أمرها ووعده بالمدد من المال والعسكر لحمايتها. وخطب له عبد الله بسجلماسة، وفرّ إليه من مراكش أبو زيد الكدميوي بن واكاك، وأبو سعيد العود الرطب، فلحق بتونس. وأقام أبو زيد معه بسجلماسة. وزحف إليه السعيد سنة إحدى وأربعين وستمائة، وقيل سنة أربعين، ومن معسكره كان مفرّ أولئك المشيخة.
وخاطب السعيد أهل سجلماسة وداخلهم أبو زيد الكدميوي فغدروا بالهزرجي وثاروا به، فخرج من سجلماسة وأسلمها، وقام بأمرها أبو زيد الكدميوي. وطيّر بالخبر إلى السعيد فشكر له فعلته، وغفر له سالفته. وتقبّض على عبد الله الهزرجي بعض الأعراب، وأمكن منه السعيد فقتله وبعث برأسه إلى سجلماسة فنصب بها، ورجع من طريقه إلى مراكش وأقامت سجلماسة على دعوة عبد المؤمن إلى أن كان من خبرها ما نذكره في موضعه
.

(6/396)


(الخبر عن بيعة مكناسة وما تقدمها من طاعة بني مرين)
كان بين بني عبد الواد وبين بني مرين منذ أوليتهم وتقلّبهم في القفار فتن وحروب، ولكل منهما أحلاف في المناصرة وأشياع. فلمّا التاثت دولة بني عبد المؤمن غلب كل منهما على موطنه، وكانت السابقة في ذلك لبني عبد الواد ليعدهم عن حضرة مراكش حيث محشر العساكر ويعسوب القبائل. ولما استبدّ الأمير أبو زكريا بأمر إفريقية، ودوّخ المغرب الأوسط وافتتح تلمسان، وأطاعه بنو عبد الواد، حذّر بنو مرين حينئذ غائلتهم. وخافوا أن يظاهرهم الأمير أبو زكريا عليهم، فألانوا له في القول ولاطفوه على البعد بالطاعة، وخاطبوه بالتمويل، وأوجبوا له حق الخلافة، ووعدوه أن يكونوا أنصارا لدعوته وأعوانا في أمره، ومقدّمة في عسكره إلى مراكش وزحفه. وحملوا من تحت أيديهم من قبائل المغرب وأمصاره على طاعتهم، والاعتصام ببيعتهم. ولم تزل المخاطبات بينهم وبين الأمير أبي زكريا في ذلك من أميرهم عثمان بن عبد الحق وأخيه محمد من بعده. ورسلهم تفد عليه بذلك مرّة بعد أخرى إلى أن هلك الرشيد. وقد استولى الأمير أبو زكريا على تلمسان، ودخل في دعوته قبائل زناتة بالمغرب الأوسط واستشرف أهل الأمصار من العدوتين إلى إيالته.
وكان أهل مكناسة قد اعتصموا بوصلة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق، وجاءهم وال من مراكش وأساء فيهم السيرة فتوثّبوا به وقتلوه. وبعثوا إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق، فحملهم على بيعة الأمير أبي زكريا فأنفذوها من إنشاء قاضيهم أبي المطرف بن عميرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة. وضمن أبو يحيى بن عبد الحق حمايتهم خلال ما يأتيهم أمر السلطان من تونس ومدده وبلغ الخبر إلى السعيد فأرهف حدّه واعتزم على النهوض إليهم فخامرهم الرعب، وراجعوا طاعته وأوفدوا صلحاءهم وعلماءهم في الإقالة واغتفار الجريرة، فتقبّل ذلك إلى أن كان من حركته بعد ذلك ومهلكه ما هو معروف
.

(6/397)


(الخبر عن مهلك الأمير أبي يحيى زكريا ولي العهد بمكان إمارته من بجاية وتصيير العهد الى أخيه محمد)
كان الأمير أبو زكريا قد عقد لابنه أبي يحيى زكريا على ثغر بجاية قاعدة ملك بني حمّاد، وجعل إليه النظر في سائر أعمالها من الجزائر وقسنطينة وبونة والزاب سنة ثلاث وثلاثين وستمائة كما ذكرناه، فاستقل بذلك، وكان بمكان من الترشيح للخلافة بنفسه وجلاله، وانتظامه في سلك أهل العلم والدين وإيناس العدل. فولّاه الأمير أبو زكريا عهده سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وأحضر الملأ لذلك وأشهدهم في كتابه، وأوعز بذكره في الخطبة على المنابر مع ذكره. وكتب إليه بالوصيّة التي تداولها الناس من كلامه ونصها:
أعلم سدّدك الله وأرشدك، وهداك لما يرضيه وأسعدك، وجعلك محمود السيرة، مأمون السريرة. إن أول ما يجب على من استرعاه الله في خلقه، وجعله مسئولا عن رعيته في جل أمرهم ودقه، أن يقدّم رضي الله عز وجل في كل أمر يحاوله، وأن يكل أمره وحوله وقوّته للَّه، ويكون عمله وسعيه وذبّه عن المسلمين، وحربه وجهاده للمؤمنين، بعد التوكل عليه، والبراءة من الحول والقوة إليه. ومتى فاجأك أمر مقلق، أو ورد عليك نبأ مرهق، فريّض لبّك، وسكن جأشك، وارع عواقب أمر تأتيه، وحاوله قبل أن ترد عليه وتغشيه. ولا تقدم إقدام الجاهل، ولا تحجم إحجام الأخرق المتكاسل. وأعلم أن الأمر إذا ضاق مجاله، وقصر عن مقاومته رجاله، فمفتاحه الصبر والحزامة والأخذ مع عقلاء الجيش ورؤسائهم، وذي التجارب من نبهائهم. ثم الإقدام عليه، والتوكّل على الله فيما لديه، والإحسان لكبير جيشك وصغيره الكثير على قدره، والصغير على قدره. ولا تلحق الحقير بالكبير فتجري الحقير على نفسك، وتغلّطه في نفسه وتفسد نيّة الكبير وتؤثره عليك، فيكون إحسانك إليه مفسدة في كلا الوجهين، ويضيع إحسانك وتشتت نفوس من معك.
واتّخذ كبيرهم أبا وصغيرهم ابنا، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ من الرَّحْمَةِ 17: 24 وَشاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله، إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ 3: 159. واتخذ نفسك صغيرة، وذاتك حقيرة، وحقّر أمورك، ولا تستمع أقوال الغالطين المغلطين، بأنّك

(6/398)


أعظم الناس قدرا، وأكثرهم بذلا، وأحسنهم سيرة وأجملهم صبرا، فذاك غرور وبهتان وزور.
واعلم أنّ من تواضع للَّه رفعه الله. وعليك بتفقّد أحوال رعيّتك والبحث عن عمّالهم والسؤال عن سير قضاتهم فيهم، ولا تنمّ عن مصالحهم، ولا تسامح أحدا فيهم.
ومهما دعيت لكشف ملمّة فاكشفها عنهم، ولا تراع فيهم كبيرا ولا صغيرا إذا عدل عن الحق. ولا تراع في فاجر ولا متصرف إلّا ولا ذمّة، ولا تقتصر على شخص واحد في رفع مسائل الرعيّة والمتظلمين. ولا تقف عند مراده في أحوالهم.
واتخذ لنفسك ثقات صادقين مصدقين، لهم في جانب الله أوفر نصيب، وفي مسائل خلقه، إليك أسرع مجيب. وليكن سؤالك لهم افذاذ [1] ، فأنك متى اقتصرت على شخص واحد في نقله ونصحه، حمله الهوى على الميل، ودعته الحميّة إلى تجنّب الحق، وترك قول الصدق. وإذا رفع إليك أحد مظلمة، وأنت على طريق، فأدعه إليك وسله حتى يوضح قصته لك. وجاوبه جواب مشفق مصغ إلى قوله، مصيخ إلى نازلته ونقله، ففي إصاختك له وحنّوك عليه أكبر تأنيس، وللسياسة والرئاسة في نفوس الخاصّة والعامّة، والجمهور أعظم تأسيس.
وأعلم أن دماء المسلمين وأموالهم حرام على كل مؤمن باللَّه واليوم الآخر إلّا في حق أوجبه الكتاب والسنّة، وعضّدته أقاويل الشرعية والحجة، أو في مفسد عاثت في طرقات المسلمين وأموالهم جار على غيه في فساد صلاحهم وأحوالهم، فليس إلّا السيف فإن أثره عفاء ووقعه لداء الأدمغة الفاسدة دواء، ولا تقل عثرة حسود على النعم، عاجز عن السعي، فإن إقالته تحمله على القول، والقول يحمله على الفعل، ووبال عمله عائد عليك. فاحسم داءه قبل انتشاره، وتدارك أمره قبل إظهاره، واجعل الموت نصب عينيك، ولا تغتر بالدنيا وان كانت في يديك. لا تنقلب إلى ربك إلا بما قدمته من عمل صالح ومتجر في مرضاته رابح.
واعلم أن الإيثار أربح المكاسب وأنجح المطالب، والقناعة مال لا ينفد. وقد قال بعض المفسرين في قوله عزّ من قائل: «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ في الْآخِرِينَ» 37: 78 إنه النبأ الحسن في الدنيا على ما خلّد فيها من الأعمال المشكورة، والفعلات الصالحة المذكورة.
__________
[1] الفذ: الفرد. جمع افذاذ وفذوذ.

(6/399)


فليكفك من دنياك ثوب تلبسه وفرس تذبّ به عن عباده. وأرجو بك متى جعلت وصيّتي هذه نصب عينيك، لم تعدم من ربّك فتحا ييسّره على يديك، وتأييدا ملازما لا يبرح عنك إلّا إليك، بمنّ الله وحوله وطوله. والله يجعلك ممن سمع فوعى، ولبّى داعي الرشد إذ دعا، أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، 22: 6 وبالإجابة جدير، ولا حول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تمت الوصيّة المباركة، فعظم ترشيح الأمير أبي يحيى لذلك، وعلا في الدولة كعبه، وقوي عند الكافة تأميله، وهو بحالة من النظر في العلم والجنوح للدين، إلى أن هلك سنة ست وأربعين وستمائة، فأسى له السلطان، واحتفل الشعراء في رثائه وتأبينه، فكانوا يثيرون بذلك شجو السلطان، ويبعثون حزنه، وعقد العهد من بعده لأخيه الأمير أبي عبد الله محمد، بحضور الملأ، وإيداع الخاصّة كتابهم بذلك في السجل، إلى أن كان من خلافته ما نذكره بعده.
(الخبر عن مهلك السلطان أبي زكريا وما كان عقبه من الاحداث)
كان السلطان أبو زكريا قد خرج من تونس إلى جهة قسنطينة للاشراف على أحوالها، ووصل إلى باغاية فعرض العساكر بها، ووافته هنالك الدواودة، وشيخهم موسى بن محمّد. وكان منه اضطراب في الطاعة فاستقام. وأصاب السلطان هنالك المرض فرجع إلى قسنطينة. ثم أبلّ من مرضه، ووصل منها إلى بونة، فراجعه المرض. ولما نزل بظاهر بونة اشتدّ به مرضه. وهلك لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وستمائة لاثنتين وعشرين سنة من ولايته، ودفن بجامع بونة. ثم نقل شلوه بعد ذلك إلى قسنطينة سنة ست وستين وستمائة بين يدي حصار النصارى تونس. وبويع إثر مهلكه ابنه وليّ عهده أبو عبد الله محمد كما نذكره. وطار خبر مهلكه في الآفاق، فانتقض كثير من أهل القاصية، ونبذوا الدعوة الحفصيّة، وعطل ابن الأحمر منابره من الدعوة الحفصيّة. وتمسّك بها يغمراسن بن زيّان صاحب المغرب الأوسط، فلم

(6/400)


يزالوا عليها حينا من الدهر، إلى أن انقطعت في حصار تلمسان كما نذكره. ولمّا بلغ الخبر بمهلكه إلى سبتة، وكان بها أبو يحيى بن الشهيد من قبل الأمير أبي زكريا كما نذكره، وأبو عمرو بن أبي خالد، والقائد شفاف، فثارت العامة وقتل ابن أبي خالد وشفاف، وطردوا ابن الشهيد فلحق بتونس. وتولّى كبر هذه الثورة حجبون الرنداحي بمداخلة أبي القاسم العزفي.
واتفق الملأ على ولاية العزفي، وحوّلوا الدعوة للمرتضى، وذلك سنة سبع وأربعين وستمائة. وتبعهم أهل طنجة في الدعوة، واستبدّ بها ابن الأمير، وهو يوسف بن محمد بن عبد الله أحمد الهمدانيّ، كان واليا عليها من قبل أبي علي بن خلاص. فلما صار الأمر للعزفي والقائد حجبون الرنداحي، خالفهم هو إلى الدعوة الحفصيّة، واستبدّ عليهم. ثم خطب للعبّاسي وأشرك نفسه معه في الدعاء، إلى أن قتله بنو مرين غدرا كما نذكره، وانتقل بنوه الى تونس ومعهم صهرهم القاضي أبو الغنم [1] عبد الرحمن بن يعقوب من جالية شاطبة، انتقل هو وقومه إلى طنجة أيام الجلاء، فنزلوا بها وأصهر إليهم بنو الأمير [2] ، وارتحلوا معهم إلى تونس. وعرف دين القاضي أبي القاسم وفضله ومعرفته بالأحكام والوثائق، واستعمل في حطة القضاء بالحضرة أيام السلطان، وكان له فيها ذكر.
ولمّا بلغ الخبر بمهلك الأمير أبي زكريا إلى صقلّيّة أيضا، وكان المسلمون بها في مدينة بلرم قد عقد لهم السلطان مع صاحب الجزيرة على الإشراك في البلد والضاحية، فتساكنوا حتى إذ بلغهم مهلك السلطان بادر النصارى إلى العيث فيهم فلجئوا إلى الحصون والأوعار، ونصبوا عليهم ثائرا من بني عبس، وحاصرهم طاغية صقلّيّة بمعقلهم من الجبل. وأحاط بهم حتى استنزلهم. وأجازهم البحر إلى عدوته، وأنزلهم بوجاره من عمائرها. ثم تعدى إلى جزيرة مالطة فأخرج المسلمين الذين كانوا بها، وألحقهم بإخوانهم. واستولى الطاغية على صقلّيّة وجزائرها. ومحا منها كلمة الإسلام بكلمة كفره، والله غالب على أمره.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أبو الصنم.
[2] وفي نسخة أخرى: بنو الأمين.

(6/401)


(الخبر عن بيعة السلطان أبي عبد الله المستنصر وما كان في أيامه من الحوادث)
لما هلك الأمير أبو زكريا بظاهر بونة سنة سبع وأربعين وستمائة كما قدمناه اجتمع الناس على ابنه الأمير أبي عبد الله، وأخذ له البيعة عمّه محمد اللحياني على الخاصة وسائر أهل المعسكر، وارتحل إلى تونس فدخل الحضرة ثالث رجب من السنة، فجدّد بيعته يوم وصوله وتلقّب المستنصر باللَّه. ثم جدّد البيعة بعد حين، واختار لوضع علامته: «الحمد للَّه، والشكر للَّه» وقام بأعباء ملكه، وتقبّض على خاصة أبيه الخصي كافور، كان قهرمان داره، فأشخصه إلى المهديّة، وأوعز إلى الجهات بأخذ البيعة على أهل العمالات فترادفت من كل جانب. واستوزر أبو عبد الله بن أبي مهدي، واستعمل على القضاء أبا زيد التوزري وكان يعلّم ولد عمّه اللحياني الثائر عليه كما نذكره، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن ثورة ابن عمه محمد اللحياني ومقتله ومقتل أبيه)
كان للأمير أبي زكريا من الإخوة اثنان: محمد وكان أسنّ منه ويعرف باللحياني لطول لحيته، والآخر أبو إبراهيم، وكان بينهم من المخالصة والمصافاة ما لا يعبر عنه.
ولما هلك الأمير أبو زكريا، وقام بالأمر ابنه أبو عبد الله المستنصر، واستوزر محمد بن أبي مهدي الهنتاتي، وكان عظيما في قومه، فأمل أن يستبدّ عليه لمكان صغره، إذ كان في سنّ العشرين ونحوها. واستصعب عليه حجر السلطان بما كان له من الموالي العلوجيين [1] ، والصنائع من بيوت الأندلس. فقد كان أبوه اصطنع منهم رجالا، ورتّب جندا كثروا الموحدين وزاحموهم في مراكزهم من الدولة. فداخل ابن أبي مهدي السلطان، وبعث عندهما الأسف على ما فاتهما من الأمر، فلم يجد عندهما ما
__________
[1] وفي نسخة ثانية: العلوج.

(6/402)


أمل من ذلك. فرجع إلى ابن محمد اللحياني، فأجابه إلى ذلك. وبايعه ابن أبي مهدي سرا، ووعده المظاهرة. ونمي الخبر بذلك إلى السلطان من عمّه محمد اللحياني وحذّره من غائلة ابنه، وأبلغه ذلك أيضا القاضي أبو زيد التوزري منتصحا.
وباكر ابن أبي مهدي مقعده للوزارة بباب السلطان لعشرين من جمادى سنة ثمان وأربعين وستمائة، وتقبّض على الوزير أبي زيد بن جامع. وخرج ومشيخة الموحّدين معه، فبايعوا لابن محمد اللحياني بداره، واستركب السلطان أولياءه. وعقد للقائد ظافر على حربهم فخرج في الجند والأولياء، ولقي [1] الموحدين بالمصلّى خارج البلد، ففضّ جمعهم، وقتل ابن أبي مهدي وابن وازكلدن وسار ظافر مولى السلطان إلى دار اللحياني عمّ السلطان فقتله وابنه صاحب البيعة، وحمل رءوسهما إلى السلطان.
وقتل في طريقه أخاه أبا إبراهيم وابنه، وانتهب منازل الموحّدين وخرّبت. ثم سكنت الهيعة وهدأت الثورة، وعطف السلطان على الجند والأولياء وأهل الاصطناع، فأدرّ أرزاقهم ووصل تفقّدهم. وأعاد عبد الله بن أبي الحسين إلى مكانه بعد أن كان هجره أول الدولة، وتزحزح لابن مهدي عن رتبته، وتضاءل لاستطالته، فرجع إلى حاله واستقامت الأمور على ذلك. ثم سعى عند السلطان بمولاه الظافر، وقبّحوا عنده ما أتاه من الافتيات في قتل عميه من غير جرم. ونذر بذلك فخشي البادرة ولحق بالدواودة، وكان المتولي لكبر هذه السعاية هلال مولاه، فعقد له مكانه واستنفر ظافر في جوار العرب طريدا، إلى أن كان من أمره ما كان.
(الخبر عن الآثار التي أظهرها السلطان في أيامه)
فمنها شروعه في اختطاط المصانع الملوكيّة، وأولها المصيد بناحية بنزرت. اتخذه للصيد سنة خمسين وستمائة، فأدار سياجا على بسيط من الأرض قد خرج نطاقه عن التحديد، بحيث لا يراع فيه سرب الوحش، فإذا ركب للصيد تخطّى ذلك السياج إلى قوراء في لمّة من مواليه المتخصين [2] وأصحاب بيزرته [3] ، بما معهم من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ولحق.
[2] كذا، والأصح: خصية أو خصيان جمع خصي. وفي نسخة ثانية: المختصين.
[3] وفي نسخة ثانية: وأصحاب يبرزون.

(6/403)


الجوارح بزاة وصقورا وكلابا سلوقية وفهودا، فيرسلونها على الوحش في تلك القوراء، وقد وثقوا باعتراض البناء لها من أمام فيقضي وطرا من ذلك القنيص سائر يومه، فكان ذلك من أفخم ما عمل في مثلها. ثم وصل ما بين قصوره ورياض رأس الطائبة [1] بحائطين ممتدّين يجوزان عرض العشرة أذرع أو نحوها طريقا سالكا ما بينهما، وعلى ارتفاع عشرة أذرع يحتجب به الحرم في خروجهنّ إلى تلك البساتين عن ارتفاع العيون عليهنّ، فكان ذلك مصنعا فخما وأثرا على أيام الدولة خالدا.
ثم بنى بعد ذلك الصرح العالي بفناء داره ويعرف بقبة أساراك. وأساراك باللسان المصمودي هو القوراء الفسيحة. وهذا الصرح هو إيوان مرتفع السماك متباعد الأقطار متّسع الأرجاء يشرع منه إلى الغرب، وجانبيه ثلاثة أبواب لكل باب منها مصرعان من خشب مؤلف الصنعة ينوء كل مصراع منها في فتحه وغلقه بالعصبة أولي القوة.
ويفضي بابها الأعظم المقابل لسمت الغرب الى معارج قد نصبت للظهور عليها عريضة ما بين الجوف إلى القبلة بعرض الإيوان، يناهز عددها الخمسين أو نحوها، ويفضي البابان عن جانبيه إلى طريقين ينتهيان إلى حائط القوراء. ثم ينعطفان إلى ساحة القوراء يجلس السلطان فيها على أريكته مقابل الداخل أيام العرض والفود [2] ومشاهد الأعياد، فجاءت من أضخم الأواوين وأحفل المصانع التي تشهد بأبّهة الملك وجلالة الدولة.
واتخذ أيضا بخارج حضرته البستان الطائر الذكر المعروف بأبي فهر، يشتمل على جنّات معروشات وغير معروشات، اغترس فيها من شجره كلّ فاكهة من أصناف التين والزيتون والرمّان والنخيل والأعناب، وسائر الفواكه وأصناف الشجر. ونضّد كل صنف منها في دوحة حتى لقد اغترس من السدر والطلح والشجر البريّ، وسمّى دوح هذه بالشعراء واتخذ وسطها البساتين والرياض بالمصانع والحوائز [3] وشجر النور والنزه من الليم والنارنج والسرو والرّيحان، وشجر الياسمين، والخيريّ والنيلوفر وأمثاله. وجعل وسط هذه الرياض روضا فسيح الساحة، وصنع فيه للماء حائزا من عداد البحور [4] ، جلب إليه الماء في القناة القديمة، كانت ما بين عيون زغوان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الطالبية، وفي النسخة الباريسية: الطابية.
[2] كذا، وفي ب: والقود. وفي نسخة أخرى: والوفود.
[3] كذا، وفي ب: والحدائق. وفي نسخة أخرى: والجرار.
[4] وفي نسخة أخرى: وصنع فيه للماء حاجزا من أعواد الحور.

(6/404)


وقرطاجنة تسلك بطن الأرض في أماكن، وتركب البناء العاديّ ذا الهياكل الماثلة والقسي القائمة على الأرجل الضخمة في أخرى، فعطف هذه القناة من أقرب السموات [1] إلى هذا البستان. وأمطاها حائطا وصل ما بينهما حتى ينبعث من فوهة عظيمة إلى جب عميق المهوى، رصيف البناء متباعد الأقطار مربّع القنا مجلّل بالكلس، إلى أن يغمره الماء فيرسله في قناة أخرى قريبة الغاية، فينبعث في الصهريج إلى أن يعبق حوضه، وتضطرب أمواجه يترفه الحظايا عن السعي بشاطئه لبعد مداه فيركبن في الجواري المنشئات ثبجه فيتبارى بهنّ تباري الفتح، ومثلت بطرفي هذا الصهريج قبّتان متقابلتان كبرا وصغرا على أعمدة المرمر، مشيّدة جوانبها بالرخام المنجّد، ورفعت سقفها من الخشب المقدّر بالصنائع المحكمة والأشكال المنمّقة، إلى ما اشتملت عليه هذه الرياض من المقاصير والأواوين والحوائز والقصور غرفا من فوقها غرف مبنيّة تجري من تحتها الأنهار، وتأنّق في مبانيه هذه واستبلغ وعدل عن مصانع سلفه ورياضهم إلى متنزّهاته من هذه، فبلغ فيها الغاية في الاحتفال وطار لها ذكر في الآفاق.
(الخبر عن فرار أخيه أبي إسحاق وبيعة رياح له وما قارن ذلك من الأحداث)
كان الأمير أبو إسحاق في إيالة أخيه المستنصر، وكان يعاني من خلقه وملكته عليه شدة، وكان السلطان يخافه على أمره وخرج سنة إحدى وخمسين وستمائة لبعض الوجوه السلطانيّة، ففرّ الأمير أبو إسحاق من معسكره، ولحق بالدواودة من رياح، فبايعوه بروايا من نواحي نقاوس، واجتمعوا على أمره. وبايع له ظافر مولى أبيه النازع إليهم واعتقد منه الذمّة والرتبة، وقصدوا بسكرة وحاصروها، ونادى بشعار طاعتهم فضل بن علي ابن الحسن بن مزني من مشيختها. وائتمر به الملأ ليقتلوه، ففرّ إليه وصار في جملته. ثم بايع له أهل بسكرة ودخلوا في طاعته. ثم ارتحلوا إلى قابس فنازلوها، واجتمعت عليه الأعراب من كل أوب. وأهمّ السلطان شأنه، وتقبّض
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الثمرات.

(6/405)


على ولده فحبسهم بالقصبة جميعا. ووكّل بهم من يحوطهم وألطف ابن أبي الحسين الحيلة في فساد ما بين الأمير أبي إسحاق ومولاه ظافر، بتحذير ألقاه إلى أخته بالحضرة تنصّحا، فبعثت به إلى أخيها، فتنكّر لظافر وفارقه، وسار إلى المغرب. ثم لحق بالأندلس، وافترق جموع الأمير أبي إسحاق فلحق بتلمسان، وأجاز منها إلى الأندلس. ونزل على السلطان محمد بن الأحمر فرعى له عهد أبيه، وأسنى له الجراية. وشهد هنالك الوقائع، وأبلى في الجهاد. ولم يزل السلطان المستنصر يتاحف ابن الأحمر ويهاديه، ويوفد عليه مشيخة الموحّدين مصانعة في شأن أخيه واستجلاء لحاله، إلى أن هلك. وكان من ولاية أخيه أبي إسحاق ما نذكر. ولحين مهلكه أجاز ظافر من الأندلس إلى بجاية. وأوفد ولده علي الواثق مستعتبا وراغبا في السبيل إلى الحجّ. وقلق المستولي على الدولة بمكانه، وراسل شيخ الموحّدين أبا هلال عياد [1] بن محمد الهنتاتيّ صاحب بجاية في اغتياله عن قصده، فذهب دمه هدرا وبقي ولده عند بني توجين حتى جاءوا في جملة السلطان أبي إسحاق، وبيد الله تصاريف الأمور.
(الخبر عن بني النعمان ونكبتهم والخروج أثرها إلى الزاب)
كان بنو النعمان هؤلاء من مشيخة هنتاتة ورؤسائهم، وكان لهم في دولة الأمير أبي زكريا ظهور ومكان، وخلصت ولاية قسنطينة لهم يستعملون عليها من قرابتهم.
واتصل لهم ذلك أول دولة المستنصر، وكان كبيرهم أبو علي وتلوه ميمون وعبد الواحد، وكان لهم في مداخلة اللحياني أثر. فلما استوسق [2] للسلطان أمره، وتمهّدت دولته نكبهم وتقبّض عليهم سنة إحدى وخمسين وستمائة، فأشخص أبا علي إلى الإسكندريّة، وقتل ميمون وانقرض أمرهم. وظهر أثر ذلك بالزاب خارج تسمّى بأبي حمّارة، فخرج السلطان من تونس وقصده بالزاب، فأوقع به وبجموعه وتقبّض عليه، وسيق إلى السلطان فقتله، وبعث برأسه إلى تونس فنصب
__________
[1] كذا، وفي ب: عباد.
[2] استوسق الأمر: انتظم. (قاموس) .

(6/406)


بها. وقفل السلطان إلى مقرّه فنزل بها، وسخط وجوها من سليم: من مرداس ودباب، كان فيهم رحاب بن محمود وابنه، فاعتقلهم واشخصهم إلى المهديّة فأودعهم بمطبقها ورجع إلى تونس ظافرا غانما.
(الخبر عن دعوة مكة ودخول أهلها في الدعوة الحفصية)
كان صاحب مكّة ومتولّي أمرها من سادة الخلق وشرفائهم ولد فاطمة، ثم من ولد ابنها الحسن صلوات الله عليهم أجمعين، أبو نمى وأخوه إدريس، وكانوا قائمين بالدعوة العباسيّة منذ حوّلها إليهم بمصر والشام والحجاز صلاح الدين يوسف بن أيّوب الكردي، وأمر الموسم وولايته راجعة إليه، وإلى بنيه ومواليه من بعده إلى هذا العهد. وجرت بينهم وبين الشريف صاحب مكة مغاضبة وافقها استيلاء الططر على بغداد، ومحوهم رسم الخلافة بها، وظهور الدعوة الحفصيّة بإفريقية، وتأميل أهل الآفاق فيها وامتداد الأيدي إليها بالطاعة. وكان أبو محمد بن سبعين الصوفي نزيلا بمكة، بعد أن رحل من بلده مرسية إلى تونس، وكان حافظا للعلوم الشرعية والعقلية، وسالكا مرتاضا بزعمه على طريقة الصوفية. ويتكلم بمذاهب غريبة منها، ويقول برأي الوحدة كما ذكرناه في ذكر المتصوّفة الغلاة، ويزعم بالتصوّف في الأكوان على الجملة، فأرهق في عقيدته، ورمي بالكفر أو الفسق في كلماته، وأعلن بالنكير عليه والمطالبة له شيخ المتكلمين بأشبيليّة. ثم بتونس أبو بكر بن خليل السكونيّ، فتنمّر له المشيخة من أهل الفتيا وحملة السنّة وسخطوا حالته.
وخشي أن تأسره البيّنات فلحق بالمشرق ونزل مكة، وتذمّم بجوار الحرم الأمين، ووصل يده بالشريف صاحبها. فلما أجمع الشريف أمره على البيعة للمستنصر صاحب إفريقية، داخله في ذلك عبد الحق بن سبعين وحرّضه عليه، وأملى رسالة بيعتهم، وكتبها بخطه تنويها بذكره عند السلطان والكافة، وتأميلا للكرة ونصها:
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 صلى الله على الإسوة المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، وَيَنْصُرَكَ الله نَصْراً

(6/407)


عَزِيزاً، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَكانَ الله عَلِيماً حَكِيماً 48: 1- 4.
هذا النوع من الفتح أعني المبين هو من كل الجهات داخل الذهن وخارجة، وهو الّذي خصّت به مكة، وهو أعظم فتح نذر في أيام الدهر والزمان الفرد منه خير من أيام الشهر، وبه تتم النعمة، ويستقيم صراط الهداية، وتحفظ النهاية، وتغفر ذنوب البداية، ويحصل النصر العزيز، ونور السكينة، وتتمكن قواعد مكة والمدينة.
وكلمة الله عاملة في الموجودات بحسب قسمة الزمان. ثم لا يقال إنها متوقفة على شيء، ولا في مكان دون مكان.
وهذا الفتح قد كان بالقصد الأول والقدر الأكمل، للمتبوع الّذي أفاد الكمال الثاني كالسبع المثاني، فإنه هو الإسوة صلّى الله عليه وسلم، وكل نعمة تظهر على سعيد ترجع إليه مثل التي ظهرت على خليقته وعلى يديه. وإن كانت نصبة مولده صلّى الله عليه وسلم ورسالته تقتضي ختم الأنبياء بهذا القرن الّذي نحن فيه، وأمامنا فيه هو ختم الأولياء. فمن فتح عليه بفتح مكة تمّت له النعمة، ورفعت له الدرجة، وضفت عليه الرحمة. ومن وصل سلطانه إليها فقد هدي الرشد وسار على صراطه، ورجح ميزان ترجيحه على أقرانه وأرهاطه. ومن حرم هذا فقد حرم من ذلك، والأمر هكذا.
وسنة الله كذلك، وصلى الله على رسوله الّذي طلع المجد من مدينته بعد ما أطلعه من بلده، ورضي الله عن خليفته المنتخب من عنصر خليفة عمر صاحب نبيه، ثم من عمر صاحبه ووليّه والحمد للَّه على نعمه.
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 وصلى الله على سيد ولد آدم محمد. «حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْراً من عِنْدِنا، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً من رَبِّكَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» 44: 1- 6. قد صح أن هذه الليلة فيها تنزل الآيات وترتقب البيّنات، وفيها تخصيص القضايا الممكنة وأحكام الأكوان ويفرق الأمر، ويفسّر الملك الموكل بقبض الأرواح بحمل الآجال في الأزمان، وفيها تقرر خطة الإمامة والملك، وتقيض الإمامة بالهلك، وهي في القول الأظهر في أفضل الشهور، وفي السابع والعشرين منه كما ورد في الحديث المشهور. ثم هي في أمّ القرى وفي حرمها تقدّر بقدر زائد، ويعم فضلها إلّا للحائد عن الفائد،

(6/408)


وإنما قلت هذا ورسمته ليعلم من وقف على الخطبة التي اقتضبتها، والليلة التي فيها قرأتها، أنها من أفضل المطالب التي قصدت، وأن القرائن التي اجتمعت فيها ولها، زادت على الفضائل التي لأجلها رصدت، وأيضا تأخّر فيها مجد إمام عن إمام، وبعد مجد إمامه وراء إمام هو وراء الإمام، ورحمت فيها نفس خليفة عبرت وتلقّب وعظمت فيها ذات خليفة تحيي التي سلفت، فهذه نعمة بركة ينبغي أن يقرّر حدها ويتحقّق مجدها، ولا يقدر قدرها فإنّها ليلة قدر، ليلة قدرها.
والحمد للَّه حمدا وأصلا: بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1، وصلى الله على واحد الله في عنايته سيّدنا محمد طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ 28: 1- 2 إلى قوله مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ 28: 6 الحق الشاهد لنفسه المتفق من جميع جهاته، وفي سنّة الله التي لا تحول ولا تبدّل والمتعارف من عادته التي ربطها بحكمته التي تعدّل ولا تعدّل، أن لكل هداية نبويّة ضلالة فرعونيّة، وكذا الحال في الأولياء، ومع كل مصيبة فرج، ولا ينعكس الأمر في الأتقياء. ولكلّ ظلم ظالم متجبّر قهر قاهر متكبّر، وعند ظهور ظفر المبطل يظهر قصد المحق المفضل. وفي عقب كل فترة أو فيها كلمة قائم بحق يغلب لا يغلب، وفي كل دور أو قرن أمامة تطلب بشخصها ولا تطلب، وكواكب الكفر إذا طلعت على أفق الإيمان فيه نكب آفلة، وكلمة الله إذا عورضت تكر معارضتها قافلة. وإنما ذكرت ذلك بعد الذكر المحفوظ ليتذكّر بالآيات الظاهرة إلى الآيات القاهرة. وليعلم كل مؤمن أن كلمة الله متّصلة الاستصحاب والسبب، وعاملة في الأشياء مع الأزمان والحقب، وأن رجال الملّة الحنفية أعلى المنازل والرتب. ولذلك يقول في نوع فرعون الأذل، ونوع موسى الأجل: أشخاصها متعددة، وأكوانها متّحدة، والله غالب على أمره. وقد قيل إن الملّة الحنفيّة المضريّة تنصرها السيرة العمريّة المحمديّة المستنصريّة.
ولعلّ الّذي أقام الدين وأطلعه من المشرق وأتلفه منه، يجيره من المغرب ولا ينقله عنه، فينبغي لمن آمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسوله، وبما يجب كما يجب أن لا يتغير قصده ولا يتوقف عند سماع المهلكات حمده، قد قيّدت أقدام قوم بشرك الشرك، وحملهم الضجر إلى الهلك بطاعة الترك وكع [1] كيد الكنود هلك كنعان وكل بصر
__________
[1] كذا، وفي ب: وكم.

(6/409)


بصيرته، ولبس لهم ثوب الذلّ بالعرض، وجعل مصيبة الدين تفئته مع جحوده لسلطان السنّة والفرض. وأما هامان المرتدّين فليس هم بالمؤمنين، وعلا فرعون الشر في الأرض، والله يمنّ على المستضعفين في الأرض بنصر من عنده، ويهلك المفسدين بجند من رفده. وينبغي أو يجب أن نضرب عن ذكر كائنة مدينة السلام، فإنّها تزلزل الطبع وتحمل الروح إلى ساحة الشام أو تفزع في صلاة كسوف شمس سرورها إلى التسليم بالاستسلام وتكبر أربع تكبيرات على الأنس ويودع بعد ذلك وعد وسلام، وينتظر قيامه بقيام أمر محيي الدين والإسلام، والحمد للَّه على كل حال.
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 وصلى الله على الّذي أعجزت خصاله العدّ والحدّ، مسلم والطبقة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيا لا يعدّه عدا. وقال صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعد. زاد أبو العبّاس الهمدانيّ، وأشار بيده إلى المغرب. وذكر بهاء الدين التبريزي في ملحمته التي زعم أنه لا يثبت فيها من الأخبار إلا ما صحّحته روايته، ولا يذكر من الأحكام المنسوبة إلى الصنائع العمليّة إلّا ما أبرزته درايته. ولا يعتبر من الأعلام الدينيّة إلى ما أدركته هدايته. قال في الترجمة الأولى: إذا خرجت نار الحجاز يقتل خليفة بغداد، ويستقيم ملك المغرب وتبسط كلمته في الأقطار، ويخطب له على منابر خلفاء بني العبّاس، ويكثر الدر بالمعبر من بلاد الهند.
ذكرت هذا ليعلم المقام أيّده الله أنه هو المشار إليه، وأنه الّذي يعوّل في إصلاح ما فسد بحول الله عليه. ومن تأمّل قوله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر الزمان الحديث، تبين له ما أردناه وذلك يظهر من وجوه، منها: أن الخليفة المذكور لم يسمع به فيما تقدم، ولا ذكر في الدول الماضية، ولو ذكر لرددنا القول به وأهملناه لأجل تقييده بآخر الزمان. والثاني: أن آخر الزمان الّذي يراد به ظهور الشروط المتوسطة، وأكثر العلامات المنذرة بالساعة هو هذا بعينه. الثالث: لا خليفة لأهل الملة في وقتنا هذا غير الّذي قصدناه.
وهذه أقطار الملّة منحصرة ومعلومة لنا من كل الجهات، والّذي يشاركه في الاسم ويقاسمه في إطلاقه فقط لا يصدق عليه، إذ هو أضعف من ذرّة في كرّة، ومن نملة في رملة. وأفقر من قصد طالب السراب، ويده مع هذا أيبس من التراب فصحّ

(6/410)


السبر والتقسيم، وبتصفح الموجودات والأزمان والدول والمراتب والنعوت إنه هو لا شريك له فيها، والمصحّح لذلك كله، والّذي يصدق وينطبق عليه مدلول الحديث كرمه الّذي يعجز عنه الحدّ، ولا يتوقّف فيه العد. وهذا خليفة الملّة كذلك، وهذه دلائله هي أوضح من نار على علم. وهذه خصاله شاهدة له بفضائل السيف والقلم، وهذه خزائنه تغلب الطالب وتعجز عن الدافع، وهذه سعوده في صعوده، وهذه متاجر تعويله على الله رابحة وهذه أخواله بالكلية صالحة، وهذه سعايته ناجحة.
ثم هذه موازين ترجيحه راجحة، والحمد للَّه كما يجب.
وما النصر إلا من عند الله وصلى الله على عبده محمد بن عبد الله إنه من بكة وإنه للحق وإنه بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1، وإنه إلى خضر لا تحصر الحصر ويحدر فيها الندر [1] ويحافظ على سنّة الرؤوف الرحيم. صلّى الله عليه وسلّم أمّا بعد فبهداهم اقتده، الحمد للَّه الّذي أحسن بمقام الإحسان وتمّم النعمة، وبيّن لمن تبيّن علم البيان، وحكم لمن أحكم الحكمة وسبقت في صفات أفعاله صفة الرحمة وذكر الهداية في كتابه بعد ذكر النعمة، هو الرؤوف بالبرية وهو الرحيم والحفي بالحنفية، وهو القاهر الماضي المشيئة الّذي يقبض ويبسط ويمضي المشيئة. شهد له بالكمال الممكن الّذي أبرزه وخصّصه وعرّفه بالجلال من يسره لذلك وخلصه. هو الّذي استعمل عليها من اختاره لإقامة النافلة والفرض، وأعمى من أهلها من توسّل له بنيّة العرض وأعتق العقاب وسر العقاب وأهمل العقاب بطاعة من يستعمر به الربع المعمور، وأنعم على المستضعفين في الأرض بإمام نجر المجد في بحر خصاله يعد بعض البعض.
سنته محمديّة، وسيرته بكريّة وسريرته علويّة، وسلالته عمريّة. فهذه ذرّية وأنواع مجد بعضها من بعض، بل هذه خطوط فصل الطول فيها مثل العرض. عرف بالرياسة العالية، ووصف بالنفاسة السالية، وشهد له بذلك الخاص والعام ونزه من النقائص. النزيه النفس ومن نزهه في سلطانه علمه العام. صلى الله على الإسوة الرؤوف بالمؤمنين، سيّدنا محمد الّذي أنزل عليه التنزيل، وكتب اسمه في صحيح القصص والنصوص، ونبي الله به وبأئمة أمّته الذين شبّههم بالبنيان المرصوص،
__________
[1] كذا، وفي ب: النذر.

(6/411)


وعلى آله وصحبه الكرام البررة الذين اصطفاهم وطهّرهم، ثم أيّدهم فطهّروا الأرض من الكفرة الفجرة. وأخرج من ظهورهم ذرياتهم بالدين أظهرهم، ويسّر بهم السبيل ثم السبيل يسّرهم.
ومنهم الخليفة المستنجد باللَّه المفضّل على الناس، ولكن أكثرهم ورضي الله عنهم وعنه، وضاعف للمحب الثواب الدائم منهم ومنه. وبعد خدمة يتقدم فيها بعد الحمد والتصلية والدعاء للدولة الدالة على قبول الدعوة أصلية، تحيّة بعضها مكية وكلها ملكوتيّة، وروضة ريحها حضرة القدس ونشرها يدرك فيه صحبة النفث، روح القدس. وتكبر عن أن تشتبه بالعنبر والند والورد وأزهار الربى والرياض. لأن المفارق للمادة مفارق لغير المفارق لها مفارقة السواد للبياض. ثم هي مع هذا واجبة القصد عذبة الورد، تذكر الذاكر الذكي بعرفها الذكي لمدركات جنّة الخلد والنعيم. وفي مثل هذه فليتنافس المتنافسون.
وتدرك النفس النفيسة لذة النعيم لأنها ظاهرة طيبة، وكريمة صبيّة، واقفة على حضرة الملك والسلطان، ومدار فلك النسك ومستقر الإمامة والجلالة، ومعقل الهداية والدلالة، وأصل الأصالة ودار المتقين، وبيت العدالة وحزب اليقين. وإنسانها الأعظم معلي الموحدين على الملحدين وقائم الدين وقيمه، ومقر الإسلام ومقدّمه، القائم بالدعوة العامّة بعد أبيه إمام المجد والفخر، ثم الأمّة الّذي إذا عزم أوهم بتخصيص مهمل، اتخذ في خلده ما هو بالفعل مع ما هو بالقوّة، وأن يعرض له في طريق إعراضه الممكن العسير يسره سعده وساعده ساعد القوة وإن سمع بالحمد في جهة حد به [1] بخاصة خصاله بعد مجد الأبوّة وفخر النبوّة، لا يذكر معه ولا عنده صعب الأمور إلّا بالضد، فإنه مظهر العناية الإلهية، ومرآة المجد والجد.
هو علم العلم ثم هو محل الحلم، اسمه متوحّد في مدلوله كالاسم العلم، وعهده لا يتوقّف على اللسان ولا على رسوم القلم.
كتب في السماء وسمع به في الكرسي وكذلك العرش، وما هنا إنما هو مما هنالك فهو الأعلى. وإن كان في الفرش هو شامخ القدر ظاهر الفضل شديد البطش. ثم هو مما ظهر عليه علم أن الشجاعة لم تتنقل من الإنسان إلى الأسد. ولا يقال هذا بحر العلم
__________
[1] كذا، وفي ب: حد له.

(6/412)


فينقل من الطبيعة إلى بحر الخلد، لأن ذلك كله فيه بوجه أكمل وبه وعليه، وفي يديه بنوع أفضل بلغ ذروة النهاية المخصوصة، بالمطالب العالية وحصل في الزمان الفرد ما حصله الفرد في الأيام الخالية. وبلغ في تبليغ حمده بصفاته ما بلغ الأشد عمره ونال غاية الإنسان، ويتعجّب منه في القيامة عمره، ويسره أمره طلعت سعوده على مولده، ومطالعه كلمة مجده لأحكام الفلك وطالعة. إن حرّر القول فيه وفهم شأنه، قيل هو من فوق الأطلس والمكوكب، وإن قيس سعده بالكمالات الثلاثة كان كالبسيط مع المركّب.
أي غاية تطلب بعد طاعته، وأي تجارة تنظر مع بضاعته، له الحمد بيده الملك والأمانة، بل له الكل بفضل الله وفيه المقصد والسلامة، لا بل له الفتح المبين وتتميم النعمة والهداية ونور السكينة، وفيه الإمارة والعلامة. منير مكة بإزاء بيت بكة خطب بخطبته، والّذي ذهب بالمدينة يطلب فلعله يسعفه في خطبته أفئدة السرّ تطير إذا سمعت بذكره، والمهندات البتر تلين لباس ساعده. ويقول طباع أربابها بشكره دولة التوحيد، توحّدت له إذ هو واحدها الأوحد، وسياسة التسديد تحكمت له فهو مدبّرها الأرشد. ومع هذا كتابته أهملت صيت الصادين، وكورت شمس الفتح، ثم الفتح والصادين.
وكذلك الثلاثة الذين من قبلهم لا نذكر معه الأديب حبيب في رد الأعجاز على الصدور، فإنه الّذي يعتبر في ذلك والّذي يصدر عنه هو واقع في الصدور، وأفعل في طباع المهرة وفي نفوس الصدور يتأخر عن شعره شعر الرجلين. وبعده نذكر الطبقة، ثم شعراء نجد، والخبب والجبليّ والولد بعده والهذلي، والمؤكد هو تقديمه في المغرب من ذلك. والهذلي علوم الأدب، الخمسة تممها وسادسها وسابعها زاده من عند نفسه. وخليل النحو لو حضر عنده كان خليله في تحصيل نوعه وجنسه، والفارسيّ تلميذه ثم الآخر بعده والأخفش الكبير ثم الصغير ما ضرب لهم من قبل في مثله بنصيب. وأقام أئمّة النحو تنحو نحوه بنحو ينحوه نحو نحوه، ثم لا يكون كالمصيب. وكل كوفي بل كل بصري يحب الظهور إذا سمع به اختفى، والمنصف منهم هو الّذي بنحوه اكتفى. أقيسة الفقه الثلاثة هذّبها وحصّلها، وأصوله كما يجب علمها وفصلها. والمسائل الطبولية تكلم على مفصلها ومجملها، وسهّل الصعب من مخصّصها ومهملها.

(6/413)


وإن فسّر كتاب الله المعجز عجز أرباب البلاغة بإعجاز بعد إعجازه، وإن تعرّض لعوارض ألفاظه أظهر العجب في اختصاره [1] وإيجازه. وإن شرع في شرح قصصه وجدله، وفي تفسير ترغيبه وترهيبه. ومثله يبصر الناظر فيه والمستمع لما لم يسمع وما لم يبصر، فإنه سلك بقدم كماله وتكميله على قنطرة بعد لم تعبر ويضطر الزعيم به بتحصيله إلى تجديد قنطرة أخرى، وبعد هذا يفتقر في بيانه إليه في الأولى وإلى الله في الأخرى. وإن تكلّم على متشابهه ومحكمه علم الاصطلاح. ثم بيان النوع للخبير به وبمحكمه، وكذلك القول على الناسخ والمنسوخ والوعد والوعيد. وإن يشاء طول في مطولاتهم واختصر من مختصراتهم، فبيده الزيادة وضد المزيد، وأما تحرير أمره ونهيه وأسراره ورقائقه، وفواتح سوره وحقائقه. والّذي يقال إنه لا من جنس الّذي يكتسب والّذي هو أعظم من الّذي يرد، وإليه الأحوال تنتسب فهو الشارح لها والخبير بها، وإن تأخّر. وينوّع في ذلك ويزيد غير الأول وإن تكرّر. وأما علوم الحديث وأنواعها السبعة فهو بعلمها، وصناعته بجملتها للعلماء يعلمها. والوراقة والضبط والخط وقفت عليه مهنة غايتها، وحمله الأمر علوم الشريعة كلّها عرفها ووعاها ورعاها حق رعايتها. وكل العلوم العقليّة والنقليّة ورجالها على ذهنه الطاهر من دنس النسيان، والمقامات السنيّة المستنزلات العلويّة أدركها بعد التبيان. فمن أراد أن يمدحه ويعدل عن إطلاق القول فقد اقترف أعظم الذنب. ومن ذكره ولم يتلذّذ بذلك فقد جاء بما ينضح حمله الخبب، ونعوت جمالها يمنع عن إدراكها نور المتصل، وحضرة جلاله محفوظة بجدّها وجدّها وقاطعها المنفصل. ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ من يَشاءُ، 5: 54 قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ 3: 26 الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ. 6: 124 هذه كلّها. آياته والرابعة: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوها 16: 18 فإنّها هباته إن حدّث المحدّث بكرمه يقول، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده، ونصر الله إذا جاء لا يردّه، وفتحه من ذا الّذي عن السعيد يصدّه، والمؤرّخ يتذكّر بتذكره الكلمات الهذلي من حيث المطالب، إذ قال: وقد سئل عن الإمام علي بن أبي طالب هو الإمام وفيه أربعة وهو واحدها حتى في رفع التشبيه وقطع السبب، العلم والحلم والشجاعة وفضل الحسب، يسرّ
__________
[1] كذا، وفي ب: اختياره، وهو تحريف.

(6/414)


بحكمته ويغتبط بها متى يتبع جملته، الباحث الحكيم ولا يشعر بشعره إذا تصفّح نعوته الشاعر العليم، وينشد طبعه في الحين والوقت والحزّة ويخرج الحروف من مخارج الهمزة.
شهدت لقد أوتيت جامع فضله ... وأنت على علمي بذاك شهيد
ولو طلبت في الغيب منك سجيّة ... لقد فرّ [1] موجود وعزّ وجود
أدام الله له المجد الّذي يسلك به على النجدين، وحفظ عليه مقامه الّذي لا يحتقر فيه إلّا جوهر النقدين، وبسط له في العلم والقدرة، وبارك له في نصيب النصرة، وجهّز به العسرة، وردّ به على الشرك والفتن الكرّة، وعرفه في كل ما يعتزمه صعا جميلا، ولطفا خفيا جليلا. وكفاه الشرّ المحض وخير الشرين، كما كشف له عن الخير المحض وعلم السريّن، وأيّده بروح منه في السّر والسريرة، وحفظه في حركاته وسكناته من الصغيرة والكبيرة. وجعل كلمته غالبة للضد والجند، وبلغ صيته الجزائر والبربر، ثم الى السند والهند. وخلّد ملكه وسلّم فلكه، ورفعه على أوج المجد بحدّه الطويل العريض. وأهبط عدوّه من الشرف الأعلى إلى الحضيض.
وفتح الله به باب الفتح في المشرق والمغرب بعد فتح الثغور، وشرح بنصره وفتحه أوساط الصدور، وما استنبطته الضمائر من نفثات الصدور وجبر به كسر الظفر، ووصل به ما انقطع من الأسباب. وعصم جنده من ضد الدنف الأنف، وردّهم إلى ردم الأبواب وقدّس كلمته بعد الحرمين في البيت المقدّس، وسلك به مسالك السبل في المقيل والمعرس. وبعد هذا فهذه أدعيتنا، بل هذه أوديتنا، وهذه مسائلنا بل هذه وسائلنا، وهذه تحيّة حيّاها ذو الفطرة السليمة، وهذه خدمة يفتخر بها طبيعة النفس العليمة. واستنبت فيها الكتاب واستثبت فيها الجواب، والموجب لإصدارها محبّة أصلها ثابت وفرعها في العلى وحفز عليها حافزان: شوق قديم، ورعاية الآخرة والأولى، بل الأمر الّذي هو في خير الأمور من أوسطها، وإذا نظم في عقد الأسباب الموجبة لهذه الخطابة يكون في وسطها، فإنه يحكي أحكام الشأن والقصّة، ويعلم المقام أيّده الله الّذي حصل له في حرم الله وحرم نبيه من النصيب والحصّة، وفيه ينبغي أن تذهب الألفاظ وتلحظ عيون الأغراض وينفح المقاصد ويحمل على جواهر
__________
[1] كذا. وفي ب: قر.

(6/415)


الكمالات كالأعراض، فمن ذلك ذكر الملّة التي كملت وكبرت، والأخرى التي كانت ثم غمرت وصغرت. والمنبر الّذي صعد خطب خطبته على الخطيب، وعرج إلى سماء السموّ وهو على درجه، والآخر الّذي درج عنه خطيبه وضاق صدره الأمر حرجه، وقرئت سورة الإمام بحرف المستنجد المستبصر، لا بحرف المستعصم بن المستنصر.
بسط القول وأطلق ترجمة عبد الله بعد ما قبضه الّذي أمات وأحيا، وقبض على مقامه ودفع للإمام محمد بن يحيى، وكان ذلك في يوم وصول الخبر بمصيبة الاختبار، ثم في ليلة الآيات والاعتبار. ومن ذلك أيضا بعمة الحمد والدعاء الظاهر القول والمقبول في الحرم الشريف، وانقياد الّذي ظهر على طائفة الحق والسيد والشريف. ومن ذلك صعود علم الأعلام على جبل معظم الحجّ ومقرّ وفوق الحاج، ووقف به المتكلم في مقام من كانت له سقاية الحاج، وذكر كما يجب بما يجب في موقف الإمام مالك، وعرف هنالك أنه الإمام والمالك لكل مالك، وتعرّفت نكرة دعوة التوحيد بتخصيص خصوصية المخصوص بعرفة، وتعارف بها من تعارف معه هناك ونعم التعارف والمعرفة.
ثم ذكر عند المشعر الحرام وفي جهات حدود حرم المسجد الحرام، وعظم اسمه بعد ذكر الله وذكر الوالدين، وطلع الذاكر بالتركيب إلى الجدّين الساكنين في الخلد والخالدين. فلمّا وصل الحجيج إلى عقبة الجمرات، ذكر مع السبع الأولى سبع مرّات. وكذلك عند الركوع في مسجد الخيف، وكل كلمات تمجيده بالكم والكيف، وعند التوجّه من هناك ويوم النفر قرّرت آياته المذكورة في كتاب الجفر.
ثم جدد الذكر حول البيت العتيق بالحمد والشكر. فلمّا وصل العلم بانتقال بيت الملك والسلطان من بغداد في شهر رمضان، أظهر الخفي المكنون فكان ذلك مع التسبيح والقرآن، وكان الخادم في الزمان الأول وفي الذاهب ينتظر الخطفة من نحو عراق والمغرب. والآن وجد نفسها من نحو اليمن إقليم الأعراب والعرب.
والّذي حمل على هذا كلّه طاعة كاملة وغبطة عاملة، والله تعالى بفضله يعصمه من كيد المعاند، فإنه في إظهار دعوة التوحيد كالمجاهد والمكابد، ومعاد التحيّة على المقام الأرفع والمقرّ الأنفع، وعلى خدام حضرته العلية، وأرباب دعوته الجليّة وأنواع رحمته تعالى وبركاته. والحمد للَّه كما يجب وصلى الله على نبيّه محمد وعلى آله وسلّم.

(6/416)


كتب تجاه الكعبة المعظمة في الجانب الغربي من الحرم الشريف، والحمد للَّه ربّ العالمين. ولما وصلت هذه البيعة استحضر لها السلطان الملأ والكافة، وقرئت بمجمعهم وقام خطيبهم القاضي أبو البراء في ذلك المحفل فاسحنفر في تعظيمها والإشادة بحسن موقعها، وإظهار رفعة السلطان ودولته بطاعة أهل البيت والحرم ودخولهم في دعوته. ثم جار بالدّعاء للسلطان وانفضّ الجمع فكان من الأيام المشهودة في الدولة.
(الخبر عن الوفود من بني مرين والسودان وغيرهم)
كان بنو مرين كما قدّمناه قد تمسّكوا بطاعة الأمير أبي زكريا ودخلوا في الدعوة الحفصيّة، وحملوا عليها من تحت أيديهم من الرعايا مثل: أهل مكناسة وتازى والقصر، وخاطبوا السلطان بالتمويل والخضوع. ولمّا هلك السلطان وولي ابنه المستنصر، وقارن ذلك ولاية المرتضى بمراكش. ثم كان بينهم وبين المرتضى من الفتنة والحرب ما ذكرناه ونذكره، فاتصل ذلك بينهم وبعث الأمير أبو يحيى بن عبد الحق بيعة أهل فاس، وأوفد بها مشيخة بني مرين على السلطان وذلك سنة اثنتين وخمسين وستمائة فكان لها موقع من السلطان والدولة. وقابلهم من الكرامة كل على قدره، وانصرفوا محبورين إلى مرسلهم. ولما هلك أبو يحيى بن عبد الحق، واستقل أخوه يعقوب بالأمر أوفد إليه ثانية رسله وهديّته، وطلب الإعانة من السلطان على المرتضى وأمر أهل مراكش على أن يقيموا بها الدعوة له عند فتحها. ولم يزل دأبهم إلى أن كان الفتح.
وفي سنة خمس وخمسين وستمائة وصلت هديّة ملك كانم من ملوك السودان، وهو صاحب برنو مواطنه قبلة طرابلس، وكان فيها الزرافة وهو الحيوان الغريب الخلق المنافر الحلي والشيات، فكان لها بتونس مشهد عظيم برز إليها الجفلى من أهل البلد حتى غصّ بها الفضاء، وطال إعجابهم بشكل هذا الحيوان وتباين نعوته، وأخذها من كل حيوان بشبه. وفي سنة ثمان وخمسين وستمائة وصل دون الرنك أخو ملك قشتالة مغاضبا لأخيه، ووفد على السلطان بتونس فتلقّاه من المبرّة والحباء بما يلقى به

(6/417)


كرام القوم وعظماء الملوك، ونزل من دولته بأعزّ مكان. وكان تتابع هذه الوافدات مما شاد بذكر الدولة ورفع من قدرها.
(الخبر عن مقتل ابن الأبار وسياقة أوليته)
كان هذا الحافظ أبو عبد الله بن الأبار من مشيخة أهل بلنسية، وكان علّامة في الحديث ولسان العرب، وبليغا في الترسيل والشعر. وكتب عن السيد أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن ببلنسية. ثم عن ابنه السيد أبي زيد. ثم دخل معه دار الحرب حين نزع إلى دين النصرانية، ورجع عنه قبل أن يأخذ به. ثم كتب عن ابن مردنيش. ولمّا دلف الطاغية إلى بلنسية ونازلها بعث زيّان بوفد بلنسية وبيعتهم إلى الأمير أبي زكريا، وكان فيهم ابن الأبار هذا الحافظ، فحضر مجلس السلطان وأنشد قصيدته على رويّ السين يستصرخه، فبادر السلطان بإغاثتهم وشحن الأساطيل بالمدد إليهم من المال والأقوات والكسى فوجدهم في هوّة الحصار، إلى أن تغلّب الطاغية على بلنسية. ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس غبطة بإقبال السلطان عليه، فنزل منه بخير مكان، ورشّحه لكتب علامته في صدور رسائله ومكتوباته، فكتبها مدّة. ثم إن السلطان أراد صرفها لأبي العبّاس الغسّاني لما كان يحسن كتابتها بالخط المشرقي، وكان آثر عنده من الخطّ المغربي فسخط ابن الأبار أنفة من إيثار غيره عليه، وافتأت على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه، وأن يبقى مكان العلامة منه لواضعها فجاهر بالردّ ووضعها استبدادا وأنفة، وعوتب على ذلك فاستشاط غضبا ورمى بالقلم وأنشد متمثّلا.
واطلب العزّ في لظى وذر الذل ... ولو كان في جنان الخلود
فنمى ذلك إلى السلطان فأمر بلزومه بيته، ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه إليه عدّ فيه من عوتب من الكتاب، واعتب. وسمّاه أعتاب الكتاب. واستشفع فيه بابنه المستنصر فغفر السلطان له وأقال عثرته، وأعاده إلى الكتابة. ولما هلك الأمير أبو زكريا رفعه المستنصر إلى حضور مجلسه مع الطبقة الذين كانوا يحضرونه من أهل الأندلس

(6/418)


وأهل تونس، وكان في ابن الأبار أنفة وبأو [1] وضيق خلق، فكان يزري على المستنصر في مباحثه ويستقصره في مداركه، فخشن له صدره مع ما كان يسخط به السلطان من تفضيل الأندلس وولايتها عليه.
وكانت لابن أبي الحسين فيه سعاية لحقد قديم، سببه أن ابن الأبار لما قدم في الأسطول من بلنسية نزل ببنزرت، وخاطب ابن أبي الحسن بغرض رسالته، ووصف أباه في عنوان مكتوبة بالمرحوم. ونبّه على ذلك فاستضحك وقال: إن أبا لا تعرف حياته من موته لأب خامل. ونميت إلى ابن أبي الحسين فأسرّها في نفسه، ونصب له إلى أن حمل السلطان على إشخاصه من بجاية. ثم رضي عنه واستقدمه ورجّعه إلى مكانه من المجلس. وعاد هو إلى مساءة السلطان بنزعاته إلى أن جرى في بعض الأيام ذكر مولد الواثق وساءل عنه السلطان فاستبهم، فعدا عليه ابن الأبار بتاريخ الولادة وطالعها، فاتّهم بتوقّع المكروه للدولة والتربّص بها كما كان أعداؤه يشنّعون عليه، لما كان ينظر في النجوم فتقبّض عليه. وبعث السلطان إلى داره فرفعت إليه كتبه أجمع، وألقى أثناءها فيما زعموا رقعة بأبيات أوّلها:
طغى بتونس حلف سموه ظلما خليفة
فاستشاط لها السلطان وأمر بامتحانه، ثم بقتله قعصا بالرماح، وسط محرم من سنة ثمان وخمسين وستمائة، ثم أحرق شلوه وسيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه.
(الخبر عن مقتل اللياني وأوليته وتصاريف أحواله)
أصل هذا الرجل من لليانة قرية من قرى المهديّة، مضمومة اللام مكسورة الثانية، وكان أبوه عاملا بالمهديّة، وبها نشأ ابنه أبو العبّاس. وكان ينتحل القراءة والكتاب حتى حذق في علوم اللسان. وتفقّه على أبي زكريّا البرقي، ثم طالع مذاهب الفلاسفة، ثم صار إلى طلب المعاش من الإمارة فولي أعمال الجباية. ثم صودر في ولايته على مال أعطاه وتخلّص من نكبته، فنهض في الولايات حتى شارك كل عامل
__________
[1] بأي، بأوا- عليهم: فخر، تكبر- قاموس.

(6/419)


في عمله بما أظهر من كفايته وتنميته للأموال حتى قصر بهم وأديل منهم.
وكان الكثير منهم متعلّقا من ابن أبي الحسين رئيس الدولة بذمّة خدمة، فأسفه بذلك وأغرى به بطانة السلطان ومواليه، حتى سعوا به عند السلطان، وأنه يروم الثورة بالمهديّة، حتى خشن له باطن السلطان. فدخل عليه ذات يوم أبو العبّاس الغسّاني فاستجازه السلطان في قوله: «اليوم يوم المطر» فقال الغسّاني: «ويوم رفع الضرر» فتنبّه السلطان واستزاده فأنشد: «والعام تسعة كمثل عام الجوهري» فكانت إغراء باللياني، فأمر أن يتقبّض عليه وعلى عدوه ابن العطّار، وكان عاملا. وأمر أبا زيد بن يغمور بامتحانهما فعذّبهما حتى استصفى أموالهما، والميل في ذلك على اللياني. وكان في أيام امتحانه يباكر موضع عمله. ثم نمي عنه أنه يروم الفرار إلى صقلّيّة، وبوحث بعض من داخله في ذلك فأقرّ عليه، فدفع إلى هلال كبير الموالي من العلوج فضربه إلى أن قتله، ورمى بشلوه إلى الغوغاء فعبثوا به وقطعوا رأسه، ثم تتبع أقاربه وذووه بالنكال إلى ان استنفدوا.
(الخبر عن انتقاض أبي علي الملياني بمليانة على يد الأمير أبي حفص)
كان المغرب الأوسط من تلمسان وأعمالها إلى بجاية في طاعة السلطان منذ تغلّب أبوه الأمير أبو زكريا عليه، وفتح تلمسان وأطاعه يغمراسن وكان بين زناتة بتلك الجهات فتن وحروب شأن القبائل اليعاسيب، وكانت مليانة من قسمة مغراوة بني ورسيفان، وكانوا أهل بادية. وتقلّص ظل الدولة عن تلك الجهات بعض الشيء. وكان أبو العبّاس الملياني من مشيخة مليانة صاحب فقه ورواية وسمت ودين، رحل إليه الأعلام وأخذ عنه العلماء، وانتهت إليه رئاسة الشورى ببلده. ونشأ ابنه أبو عليه علي من الخلال متهالكا في الرئاسة متبعا غواية الشبيبة، فلما رأى تقلّص ظل الدولة وفتن مغراوة مع يغمراسن ومزاحمته لهم، حدّثته نفسه بالاستبداد فخلع طاعة آل أبي حفص ونبذ دعوتهم، وانبرى بها داعيا لنفسه. وبلغ الخبر إلى السلطان فسرّح إليه أخاه الأمير أبا حفص، ومعه الأمير أبو زيد بن جامع، ودن الرنك أخو الفنش،

(6/420)


وطبقات الجند. فخرج من تونس سنة تسع وخمسين وستمائة وأغذّ السير إلى مليانة فنازلها مدة، وشد حصارها حتى اقتحموها غلابا. وفر أبو علي الملياني ولحق ببني يعقوب من آل العطاف أحد شعوب زغبة فأجاروه وأجازوه الى المغرب الأقصى، إلى أن كان من خبره ما نذكره بعد.
ودخل الأمير أبو حفص مليانة ومهّد نواحيها وعقد عليها الى ابن منديل أمير مغراوة فملكها مقيما فيها لدعوة السلطان شأن غيرها من عمالات مغراوة. وقفل الأمير أبو حفص إلى تونس، ولقيه بطريقة كتاب السلطان بالعقد له على بجاية وإمارتها، فكره ذلك غبطة بجوار السلطان. وتردّدت في ذلك رغبته فأديل منها بالشيخ أبي هلال عياد بن سعيد الهنتاتيّ، وعقد له على بجاية. ولحق الأمير أبو حفص بالحضرة إلى أن كان من خلافته ما نذكر بعد. وهلك شقيقه أبو بكر بن الأمير أبي زكريا ثانية مقدمه إلى تونس سنة إحدى وستين وستمائة، فتفجّع له الخليفة والقرابة والناس وشهد السلطان جنازته، والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن فرار أبي القاسم بن أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد وخروجه في رياح)
كان أبو القاسم بن أبي زيد هذا في جملة ابن عمه الخليفة، وتحت جرايته، وأبوه أبو زيد هو القائم بالأمر بعد أبيه الشيخ أبي محمد. ولحق بالمغرب. وجاء أبو القاسم في جملة الأمير أبي زكريا، وأوصى به ابنه إلى أن حدّثته نفسه بالتوثّب والخروج.
وخامرة الرعب من إشاعة تناقلها الدهماء، سببها أن السلطان استحدث سكّة من النحاس مقدرة على قيمته من الفضة، حاكى بها سكّة الفلوس بالمشرق تسهيلا على الناس في المعاملات بإسرافها وتيسيرا لاقتضاء حاجاتهم. ولما كان لحق سكّة الفضة من غش اليهود المتناولين لصرفها وصوغها، وسمى سكّته التي استحدثها بالحندوس.
ثم أفسدها الناس بالتدليس وضربها أهل الريب ناقصة عن الوزن، وفشا فيها الفساد. واشتد السلطان في العقوبة عليها فقطّع وقتل، وصارت ريبة لمن تناولها.
وأعلن الناس بالنكير في شأنها وتنادوا بالسلطان في قطعها وكثر الخوض في ذلك وتوقّعت الفتنة. وأشيع من طريق الحدثان الّذي تكلف به العامة أن الخارج الّذي

(6/421)


يثير الفتنة هو أبو قاسم بن أبي زيد، فأزال السلطان تلك السكّة وعفا عليه، وأهمّه شأن أبي القاسم ابن عمه، وبلغه الخبر فخامره الرعب الى ما كان يحدّث نفسه من الخروج، ففرّ من الحضرة سنة إحدى وستين وستمائة، ولحق برياح ونزل على أميرهم شبل بن موسى بن محمد رئيس الدواودة، فبايع له وقام بأمره. ثم بلغه اعتزام السلطان على النهوض إليه فخشي بادرته واضطرب أمر العرب من قبيله. ولما أحسّ أبو القاسم باضطرابهم وخشي أن يسلّموه إذا أزادهم السلطان عليها، تحوّل عنهم ولحق بتلمسان وأجاز البحر منها إلى الأندلس، وصحب الأمير أبا إسحاق ابن عمه في مثوى اغترابهما بالأندلس. ثم ساءت أفعاله وعظم استهتاره. وفشا النكير عليه من الدولة فلحق بالمغرب وأقام بتينملل مدة. ثم رجع إلى تلمسان، وبها مات. وقام الأمير أبو إسحاق بمكانه من جوار ابن الأحمر إلى أن كان من أمره ما نذكره.
(الخبر عن خروج السلطان الى المسيلة)
لما اتصل بالسلطان شأن أبي قاسم ابن عمه أبي زيد وفصاله عن رياح إلى المغرب بعد عقدهم معه، خرج من تونس سنة أربع وستين في عساكر الموحدين وطبقات الجند لتمهيد الوطن، ومحو آثار الفساد منه، وتقويم العرب على الطاعة. وتنقّل في الجهات الى أن وصل بلاد رياح فدوخها ومهد أرجاءها، وفرّ شبل بن موسى وقومه الدواودة الى القفر، واحتل السلطان بالمسيلة آخر وطن رياح. ووافاه هنالك محمد من عبد القوي أمير بني توجين من زناتة مجددا لطاعته، ومتبرّكا بزيارته، فتلقّاه من البرور تلقي أمثاله، وأثقل كاهله بالحباء والجوائز، وجنب له الجياد المقربات بالمراكب المثقلة بالذهب، واللجم المحلات. وضرب له الفساطيط الفسيحة الارجاء من ثياب الكتان وجدل القطن، الى ما يتبع ذلك من المال والظهر والكراع والأسلحة. واقطع له مدينة مقرة وبلد أوماش من عمل الزاب، وانقلب عنه الى وطنه.
ورجع السلطان إلى تونس وفي نفسه من رياح ضغن إلى أن صرف إليهم وجه تدبيره كما نذكره، ولثانية احتلاله في الحضرة كان مهلك مولاه هلال، ويعرف بالقائد،

(6/422)


وكان له في الدولة مكان بمكان تلادا للسلطان، وكان شجاعا جوادا خيّرا محببا سهلا مقبلا على أهل العلم وذوي الحاجات، وله في سبل الخير آثار منقولة صار له بها ذكر، فارتمض السلطان لمهلكه، والله أعلم.
(الخبر عن مقتل مشيخة الدواودة)
كان شبل بن موسى وقومه من الزواودة فعلوا الأفاعيل في اضطراب الطاغية، ونصب من لحق بهم من أهل هذا البيت للملك، فبايعوا أوّلا للأمير أبي إسحاق كما ذكرناه، ثم بعده لأبي القاسم ابن عمّه أبي زيد، وخرج إليهم السلطان سنة أربع وستين وستمائة ودوّخ أوطانهم، ولحقوا بالصحراء ودافعوه على البعد بطاعة ممرضة فتقبّلها، وطوى لهم على البتّ [1] . ورجع إلى تونس فأوعز إلى أبي هلال عبّاد عامل بجاية من مشيخة الموحّدين باصطناعهم واستئلافهم لتكون وفادتهم عليه من غير عهد، وجمع السلطان أحلافه من كعوب بني سليم ودباب وأفاريق بني هلال، وخرج من تونس سنة ست وستين وستمائة في عساكر الموحّدين وطبقات الجند، ووافاه بن عساكر ابن السلطان إخوة بني مسعود ابن السلطان من الزواودة فعقد لمهدي ابن عساكر عن إمارة قومه وغيرهم من رياح، وفرّ بنو مسعود ابن السلطان مصحرين والسلطان في أثرهم حتى نزل نقاوس وعسكروا بثنايا الزاب، ورسلهم تختلف إلى أبي هلال إيناسا للمراجعة على يده للدخلة في الساحة [2] ، فأشار عليهم بالوفادة على السلطان وفاء بقصده من ذلك، فتقبّلوا إشارته. ووفد أميرهم شبل بن موسى بن محمد بن مسعود وأخوه يحيى، وبنو عمّهما أولاد زيد بن مسعود: سباع بن يحيى بن دريد وابنه، وطلحة بن ميمون بن دريد، وحداد بن مولاهم بن خنفر بن مسعود وأخوه، فتقبّض عليهم لحينهم، وعلى دريد ابن تازير من شيوخ كرفة. وانتهبت أسلابهم وضربت أعناقهم ونصبت أشلاؤهم بزوايا من جهات نقاوس حيث كانت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: النثا ولا معنى لها هنا، والبت كما في القاموس بث الأمر: قطعه وأمضاه. وبث الوعد: أكد إنجازه. ولعلها: طوى لهم على الثناء.
[2] وفي نسخة أخرى: السابقة.

(6/423)


بيعتهم لأبي القاسم بن أبي زيد، وبعث برءوسهم إلى بسكرة فنصبها بها، وأغذّ السير غازيا إلى أحيائهم وأحلّهم [1] بمكانها من ثنايا الزاب.
وصحبهم هنالك فأجفلوا وتركوا الظهر والكراع والأبنية، فامتلأت أيدي وسدويكش منها، ونجوا بالعيال والولد على الأقتاب، والعساكر في أتباعهم إلى أن أجازوا وادي شدى قبلة الزاب وهو الوادي الّذي يخرج أصله من جبل راشد قبلة المغرب الأوسط ويمرّ إلى ناحية الشرق مجتازا بالزاب إلى أن يصبّ في سبخة نفزاوة من بلاد الجريد.
فلمّا جاز فلّهم الوادي أصحروا إلى المفازات المعطشة والأرض الحرّة السوداء المستحجرة المسمّاة بالحمادة، فرجعت العساكر عنهم، وانقلب السلطان من غزاتة ظافرا، ظاهرا وأنشده الشعراء في التهنئة، ولحق فلّ الزواودة بملوك زناتة فنزل بنو يحيى بن دريد على يغمراسن بن زيّان، وبنو محمد بن مسعود على يعقوب بن عبد الحق، فأجازوهم وأوسعوهم حباء وملئوا أيديهم بالصلات، ومرابطهم بالخيل، وأحياءهم بالإبل ورجعوا إلى مواطنهم فتغلّبوا على واركلة وقصور ريغة واقتطعوها من إيالة السلطان. ثم انحرفوا إلى الزاب فجمع لهم عامله ابن عتّو وكان موطنا بمقرة، ولقيهم على حدود أرض الزاب فهزموه واتبعوه إلى بطاوة [2] فقتلوه عندها، واستطالوا على الزاب وجبل أوراس وبلاد الحصنة إلى أن اقتطعتهم الدول إيّاها من بعد ذلك، فصارت ملكا لهم، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن طاغية الافرنجة ومنازلته تونس في أهل نصرانيته)
هذه الأمة المعروفة بالإفرنجة وتسمّيها العامة بالإفرانسيس نسبة إلى بلد من أمهات أعمالهم تسمى إفرانسة، ونسبهم إلى يافث بن نوح، وهم بالعدوة الشمالية من عدوتي هذا البحر الرومي الغربي ما بين جزيرة الأندلس وخليج القسنطينة، مجاورون الروم من جانب الشرق والجلالقة من جانب الغرب. وكانوا قد أخذوا بدين النصرانية مع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حللهم.
[2] وفي نسخة أخرى: قطاوة.

(6/424)


الروم، ومنهم لقّنوا دينها. واستفحل ملكهم عند تراجع ملك الروم وأجازوا البحر إلى إفريقية مع الروم فملكوها ونزلوا أمصارها العظيمة مثل سبيطلة وجلولا [1] وقرطاجنّة ومرناق وباغاية ولمس وغيرها من الأمصار وغلبوا على من كان بها من البربر حتى اتبعوهم في دينهم وأعطوهم طاعة الانقياد.
ثم جاء الإسلام وكان الفتح بانتزاع الأعراب من أيديهم سائر أمصار إفريقية، والعدوة الشرقية والجزر البحرية مثل أقريطش ومالطة وصقلّيّة وميورقة ورجوعهم إلى عدوتهم. ثم أجازوا خليج طنجة وغلبوا القوط والجلالقة والبشكنس، وملكوا جزيرة الأندلس وخرجوا من ثناياها ودورها إلى بسائط هؤلاء الإفرنجة فدوّخها وعاثوا فيها.
ولم تزل الصوائف تتردّد إليها صدرا من دولة بني أميّة بالأندلس، وكان ولاة إفريقية من الأغالبة ومن قبلهم أيضا يردّدون عساكر المسلمين وأساطيلهم من العدوة حتى غلبوهم على الجزر البحرية، ونازلوهم في بسائط عدوتهم فلم تزل في نفوسهم من ذلك ضغائن، فكان يخالجها الطمع في ارتجاع ما غلبوا عليه منها.
وكان الربع أقرب إلى سواحل الشام وطمع فيها. فلمّا وصل أمر الروم بالقسطنطينة ورومة، واستفحل ملك الفرنجة هؤلاء، وكان ذلك على هيئة سموّ الخلافة بالمشرق.
فسموا حينئذ إلى التغلّب على معاقل الشام وثغوره، وزحفوا إليها وملكوا الكثير منها واستولوا على المسجد الأقصى وبنو فيه الكنيسة العظمى بدل المسجد، ونازلوا مصر والقاهرة مرارا حتى جاد الله للإسلام من صلاح الدين أبي أيوب الكردي صاحب مصر والشام في أواسط المائة السادسة جنّة واقية، وعذابا على أهل الكفر مصبوبا، فأبلى في جهادهم وارتجع ما ملكوه، وطهّر المسجد الأقصى من إفكهم وكفرهم، وهلك على حين غرّة من الغزو والجهاد. ثم عاودوا الكرّة ونازعوا مصر في المائة السابعة على عهد الملك الصالح صاحب مصر والشام، وأيام الأمير أبي زكريا بتونس، فضربوا أبنيتهم بدمياط وافتتحوها وتغلّبوا في قرى مصر. وهلك الملك الصالح خلال ذلك، وولي ابنه المعظّم وأمكنت المسلمين في الغزو فرصة أيام فيض النيل، ففتحوا الغياض وأزالوا مدد الماء فأحاط بمعسكرهم وهلك منهم عالم، وقيد سلطانهم أسيرا
__________
[1] ورد في المقدمة ان المدن الحافلة التي كانت بالغرب أيام القرطاجنيين هي: سبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة. ومدينة جلولا تبعد عن القيروان أربعة وعشرين ميلا فتحها عبد الملك بن مروان في جيش معاوية بن حريج (المعجم التاريخي/ 23) .

(6/425)


من المعركة إلى السلطان فاعتقله بالإسكندرية، حتى مرّ عليه بعد حين من الدهر وأطلقه على أن يمكّنوا المسلمين من دمياط فوفّوا له. ثم على شرط المسالمة فيما بعد فنقضه لمدة قريبة، واعتزم على الحركة إلى تونس متجنّيا عليهم فيما زعموا بمال أدعياء تجّار أرضهم، وأنهم أقرضوا اللياني فلما نكبه السلطان طالبوه بذلك المال وهو نحو ثلاثمائة دينار بغير موجب يستندون إليه، فغضبوا لذلك واشتكوا إلى طاغيتهم فامتعض لهم ورغّبوه في غزو تونس لما كان فيها من المجاعة والموتان.
فأرسل الفرنسيس طاغية الإفرنج واسمه سنلويس بن لويس وتلقّب بلغة الإفرنج روا فرنس ومعناه ملك إفرنس، فأرسل إلى ملوك النصارى يستنفرهم إلى غزوها، وأرسل إلى القائد [1] خليفة المسيح بزعمهم فأوعز إلى ملوك النصرانية بمظاهرته، وأطلق يده في أموال الكنائس مددا له. وشاع خبر استعداد النصارى للغزو في سائر بلادهم، وكان الذين أجابوه للغزو ببلاد المسلمين من ملوك النصرانية ملك الإنكتار وملك اسكوسيا وملك نزول [2] وملك برشلونة واسمه ريدراكون وجماعة آخرون من ملوك الإفرنج، هكذا ذكر ابن الأثير وأهم المسلمين بكل ثغر شأنهم وأمر السلطان في سائر عمالاته بالاستكثار من العدّة، وأرسل في الثغور لذلك بإصلاح الأسوار واختزان الحبوب، وانقبض تجّار النصارى عن تعاهد بلاد المسلمين. وأوفد السلطان رسله إلى الفرنسيس لاختبار رحاله ومشارطته على ما يكف عزمه. وحملوا ثمانين ألفا من الذهب لاستتمام شروطهم فيما زعموا، فأخذ المال من أيديهم وأخبرهم أنّ غزوة إلى أرضهم. فلما طلبوا المال اعتلّ عليهم بأنه لم يباشر قبضه ووافق شأنهم معه وصول رسول عن صاحب مصر، فأحضر عند الفرنسيس واستجلس فأبى وأنشده قائلا من قول أبي مطروح شاعر السلطان بمصر:
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق من وزير نصيح [3]
آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد نصارى المسيح
أتيت مصرا تبتغي ملكها ... تحسب ان الزمر بالطبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح
__________
[1] هو بابا رومة.
[2] وفي نسخة أخرى: ملك تورك.
[3] وفي نسخة أخرى: من قؤول فصيح.

(6/426)


وكل أصحابك أودعتهم ... بسوء تدبيرك بطن الضريح
سبعون ألفا لا يرى منهم ... إلّا قتيل أو أسير جريح
ألهمك الله إلى مثلها ... لعلّ عيسى منكم يستريح
إن كان باباكم بذا راضيا ... فربّ غشّ قد أتى من نصيح [1]
فاتخذوه كاهنا إنه ... أنصح من شقّ لكم أو سطيح
وقل لهم إن أزمعوا عودة ... لأخذ ثار أو لشغل قبيح
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح
يعني بدار ابن لقمان موضع اعتقاله بالإسكندرية والطواشي في عرف أهل مصر هو الخصي. فلما استكمل إنشاده لم يزد ذلك الطاغية إلا عتوّا واستكبارا، واعتذر عن نقض العهد في غزو تونس بما يسمع عنهم من المخالفات، عذرا دافعهم به، وصرف الرسل من سائر الآفاق ليومه. فوصل رسل السلطان منذرين بشأنهم وجمع الطاغية حشده وركب أساطيله إلى تونس آخر ذي القعدة سنة ثمان وستين وستمائة فاجتمعوا بسردانية وقيل بصقلية. ثم وأعدهم بمرسى تونس وأقلعوا ونادى السلطان في الناس بالنذير بالعدو والاستعداد له، والنفير إلى أقرب المدائن، وبعث الشواني لاستطلاع الخبر واستفهم أياما [2] .
ثم توالت الأساطيل بمرسى قرطاجنّة وتفاوض السلطان مع أهل الشورى من الأندلس والموحّدين في تخليتهم وشأنهم من النزول بالساحل أو صدّهم عنه، فأشار بعضهم بصدّهم حتى تنفد ذخيرتهم من الزاد والماء فيضطرون إلى الإقلاع. وقال آخرون إذا أقلعوا من مرسى الحضرة ذات الحامية والعدد صبحوا بعض الثغور سواها فملكوه واستباحوه، واستصعبت مغالبتهم عليه فوافق السلطان على هذا وخلوا وشأنهم من النزول فنزلوا بساحل قرطاجنة بعد أن ملئت سواحل رودس بالمرابطة بجند الأندلس والمطوعة زهاء أربعة آلاف فارس لنظر محمد بن الحسين رئيس الدولة.
ولما نزل النصارى بالساحل وكانوا زهاء ستة آلاف فارس، وثلاثين ألفا من الرجّالة فيما حدثني أبي عن أبيه رحمهما الله قال: وكانت أساطيلهم ثلاثمائة بين كبار وصغار،
__________
[1] وفي النسخة التونسية: إن يكن البابا بذا راضيا فربّ عسر قد أتى من نصيح.
[2] وفي نسخة أخرى: واستبهم أياما. وفي النسخة التونسية عبارة زائدة وهي: «ثم كان عينه فراره» وهذا المثل يضرب لمن يدل ظاهره على باطنه.

(6/427)


وكانوا سبعة يعاسيب كان فيهم الفرنسيس وإخوة جرون [1] صاحب صقلّيّة وصاحب الجزر، والعلجة زوج الطاغية تسمى الرينة، وصاحب البر الكبير، وتسميهم العامة من أهل الأخبار ملوكا ويعنون أنهم متباينون ظاهروا على غزو تونس وليس كذلك.
وإنما كان واحدا وهو طاغية الفرنجة وإخوته وبطارقته، عدّ كل واحد منهم ملكا لفضل قوّته وشدّة بأسه، فأنزلوا عساكرهم في المدينة القديمة من قرطاجنة. وكانت ماثلة الجدران اضطرم المعسكر بداخلها، ووصلوا ما فصله الخراب من أسوارها بألواح الخشب ونضّدوا شرفاتها وأداروا على السور خندقا بعيد المهوى وتحصّنوا. وندم السلطان على إضاعة الحزم في تخريبها أو دفاعهم عن نزلها. وأقام ملك الفرنجة وقومه متمرسين بتونس ستة أشهر والمدد يأتيه في أساطيله من البحر من صقلّيّة والعدوة بالرجل والأصلحة والأقوات.
وسلك بعض المسلمين طريقا في البحيرة واتبعهم العرب فأصابوا غرّة في العدوّ فظفروا وغنموا وشعروا بمكانهم، فكلّفوا بحراسة البحيرة وبعثوا فيها الشواني بالرماة ومنعوا الطريق إليهم، وبعث السلطان في ممالكه حاشدا فوافته الأمداد من كل ناحية، ووصل أبو هلال صاحب بجاية وجاءت جموع العرب وسدويكش وولهاصة وهوّارة حتى أمدّه ملوك المغرب من زناتة، وسرّح إليه محمد بن عبد القوى عسكر بني توجين لنظر ابنه زيّان وأخرج السلطان أبنيته [2] وعقد لسبعة من الموحّدين على سائر الجند من المرتزقة والمطوّعة وهم: إسماعيل بن أبي كلداسن وعيسى بن داود ويحيى بن أبي بكر ويحيى بن صالح وأبو هلال عياد صاحب بجاية ومحمد بن عبو، وأمرهم كلّهم راجع ليحيى بن صالح ويحيى بن أبي بكر منهم.
واجتمع من المسلمين عدد لا يحصى، وخرج الصلحاء والفقهاء والمرابطون لمباشرة الجهاد بأنفسهم والتزم السلطان القعود بإيوائه مع بطانته وأهل اختصاصه وهم:
الشيخ أبو سعيد المعروف بالعود، وابن أبي الحسين، وقاضيه أبو القاسم بن البراء، وأخو العيش. واتصلت الحرب والتقوا في منتصف محرم سنة تسع بالمنصف، فزحف يومئذ يحيى بن صالح وجرون فمات من الفريقين خلق، وهجموا على المعسكر بعد العشاء وتدامر المسلمون عنده، ثم غلبوا عليه بعد أن قتل من النصارى زهاء
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: جرول.
[2] لا معنى لهذه الجملة وربما تكون: وخرج السلطان من أبنيته، أو أخرج السلطان من في.

(6/428)


خمسمائة، فأصبحت أبنيته مضروبة كما كانت. وأمر بالخندق على المعسكر فتعاورته الأيدي، واحتفر فيه الشيخ أبو سعيد بنفسه، وابتلي المسلمون بتونس، وظنّوا الظنون واتّهم السلطان بالتحوّل عن تونس إلى القيروان.
ثم إنّ الله أهلك عدوّهم وأصبح ملك الفرنجة ميتا يقال حتف أنفه، ويقال أصابه سهم غرب في بعض المواقف فأبته [1] ويقال أصابه مرض الوباء، ويقال وهو بعيد أنّ السلطان بعث إليه مع ابن جرام الدلاصي بسيف مسموم وكان فيه مهلكه. ولما هلك اجتمع النصارى على ابنه دمياط سمي بذلك لميلاده بها فبايعوه، واعتزموا على الإقلاع. وكان أمرهم راجعا إلى العلجة فراسلت المستنصر أن يبذل لها ما خسروه في مؤنة حركتهم، وترجع بقومها فأسعفها السلطان لما كان العرب اعتزموا على الانصراف إلى مشاتيهم.
وبعث مشيخة الفقهاء لعقد الصلح في ربيع الأوّل سنة تسع وستين وستمائة فتولّى عقده وكتابه القاضي ابن زيتون لخمسة عشر عاما. وحضر أبو الحسن علي بن عمرو وأحمد بن الغماز وزيان بن محمد بن عبد القوى أمير بني توجين، واختصّ جرون صاحب صقلّيّة بسلم عقده على جزيرته. وأقلع النصارى بأساطيلهم وأصابهم عاصف من الريح أشرفوا منه على العطب، وهلك الكثير منهم وأغرم السلطان الرعايا ما أعطى العدو من المال فأعطوه طواعية. يقال إنه عشرة أحمال من المال وترك النصارى بقرطاجنّة تسعين منجنيقا. وخاطب السلطان صاحب المغرب وملوك النواحي بالخبر ودفاعه عن المسلمين وما عقده من الصلح، وأمر بتخريب قرطاجنّة وأن يؤتي بنيانها من القواعد، فصيّر أبنيتها طامسة ورجع الفرنجة إلى دعوتهم فكان آخر عهدهم بالظهور والاستفحال ولم يزالوا في تناقص وضعف إلى أن افترق ملكهم عمالات.
واستبدّ صاحب صقلّيّة لنفسه، وكذا صاحب نايل وجنوده وسردانية، وبقي بيت ملكهم الأقدم لهذا العهد على غاية من الفشل والوهن. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
__________
[1] هكذا بالأصل وفي النسخة التونسية: فأثبته بمعنى أماته.

(6/429)


(الخبر عن مهلك رئيس الدولة أبي عبد الله بن أبي الحسين وأبي سعيد العود الرطب)
أصل هذا الرجل من بني سعيد رؤساء القلعة المجاورة لغرناطة، وكان كثير منهم قد استعملوا أيام الموحّدين بالعدوتين، وكان جدّه أبو الحسن سعيد صاحب الأشغال بالقيروان. ونشأ حافده محمد هذا في كفالته. ولما عزل وقفل إلى المغرب هلك ببونة سنة أربع وستمائة ورجع حافده محمد إلى تونس والشيخ أبو محمد بن أبي حفص صاحب إفريقية لذلك العهد فاعتلق بخدمة ابنه أبي زيده. ولمّا ولي الأمر بعد وفاة أبيه غلب محمد هذا على هواه. ثم جاء السيد أبو علي من مراكش وعلى إفريقية محمد ابن أبي الحسين في جملته إلى أن هلك في حصار هسكورة بمراكش كما قدّمناه ورجع ابن أبي الحسين إلى تونس واتصل بالأمير أبي زكريا لأوّل استبداده فغلب على هواه، وكان مبختا في صحابة الملوك. ولمّا ولي المستنصر أجراه على سنته برهة.
ثم تنكر له إثر كائنة اللحياني، وعظمت سعاية أعدائه من الباطنية [1] وأشاعوا مداخلته لأبي القاسم بن عزومة [2] أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد فنكبه السلطان واعتقله بدارة تسعة أشهر. ثم سرّحه وأعاده إلى مكانه وثأر من أعدائه، واستولى على أمور السلطان إلى أن هلك سنة إحدى وسبعين وستمائة وكلّف ابن عمه سعيد بن يوسف بن أبي الحسن أشغال الحضرة، وكان قد اقتنى مالا جسيما ونال من الحضرة منالا عظيما. وكان الرئيس أبو عبد الله متفنّنا في العلوم مجيدا في اللغة والشعر ينظم فيجيد وينثر فيحسن [3] ، وله من التآليف: كتاب ترتيب المحكم لابن سيده على نسق الصحاح للجوهري واختصاره، وسمّاه الخلاصة. وكان في رياسته صليب الرأي قوى الشكيمة عالي المهمة، شديد المراقبة والحزم في الخدمة، وله شعر نقل منه التيجاني وغيره، ومن أشهره ما نقل له يخاطب عنّان بن جابر عن الأمير أبي زكريا لما خالف واتبع ابن غانية، وهي على روي الراء، وكان قبلها أخرى على روي
__________
[1] وفي نسخة أخرى: البطانة وهي الأصح.
[2] وفي نسخة أخرى: ابن محذومه.
[3] وفي نسخة أخرى: يقرض الشعر فيحسن، ويرسل فيجيد.

(6/430)


الدال. وكان له ولد اسمه سعيد وترقّى في حياة أبيه في المراتب السلطانية. ثم اغتبط دون غايته وفي ثالث مهلكه كان مهلك الشيخ أبي سعيد عثمان بن محمد الهنتاني المعروف بالعود الرطب، ويعرف أهل بيته بالمغرب ببني أبي زيد. وكان منهم عبد العزيز المعروف بصاحب الأشغال كان فرّ من المغرب أيام السعيد لجفوة نالته، ولحق بسجلماسة سنة إحدى وأربعين وقد كان انتزى بها عبد الله الهزرجي، وبايع للأمير أبي زكريا فأجازه عبد الله إلى تونس، ونزل على الأمير أبي زكريا ونظّمه في طبقات مشيخة الموحّدين وأهل مجلسه. ثم حظي عند ابنه المستنصر بعد نكبة بني النعمان حظوة لا كفاء لها. واستولى على الرأي والتدبير إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين وستمائة فشيع طيّب الذكر ملحقا بالرضوان من الخاصة والعامة، والله مالك الأمور.
(الخبر عن انتقاض أهل الجزائر وفتحها)
كان أهل الجزائر لما رأوا تقلّص ظلّ الدولة عن زناتة وأهل المغرب الأوسط حدّثوا أنفسهم بالاستبداد والقيام على أمرهم، وخلع ربقة الطاعة من أعناقهم فجاهروا بالخلعان. وسرّح السلطان إليهم العساكر سنة تسع وستين وستمائة وأوعز إلى صاحب القفر صاحبه وهو أبو هلال عياد بن سعيد الهنتاتي فقدم إليها في عساكر الموحدين سنة إحدى وسبعين وستمائة ونازلها مدّة حول، وامتنعت عليه فأقلع عنها ورجع إلى بجاية، وهلك بمعسكر ببني ورا سنة ثلاث وسبعين وستمائة.
ثم إن السلطان صرف عزمه إلى منازلتهم سنة أربع وسبعين وستمائة وسرّح إليهم العساكر في البر وأنفذ الأساطيل في البحر وعقد على عسكر تونس لأبي الحسن بن ياسين وأوعز إلى عامل بجاية بإنفاذ عسكر آخر فأنفذه لنظر أبي العبّاس بن أبي الأعلام، ونهضت هذه العساكر برا وبحرا إلى أن نازلتها وأحاطت بها من كل جانب، واشتدّ حصارها. ثم افتتحها عنوة وأثخن فيهم القتل وانتهبت المنازل وافتضح الكرائم في أبكارهنّ. وتقبّض على مشيخة البلد فنقلوا إلى تونس وصفدين، واعتقلوا بالقصبة إلى أن سرّحهم الواثق بعد مهلك السلطان والله تعالى أعلم
.

(6/431)


(الخبر عن مهلك السلطان المستنصر ووصف شيء من أحواله)
كان السلطان بعد فتح الجزائر قد خرج من تونس للصيد وتفقد العمالات، فأصابه في سفره مرض ورجع إلى داره، واشتدّت علّته وكثر الإرجاف بموته، وخرج يوم الأضحى سنة خمس وخمسين وستمائة يتهادى بين رجلين، ورجلاه تخطّان في الأرض [1] وجلس للناس على منبر متجلدا. ثم دخل بيته وهلك لليلته تلك رضوان الله عليه، وكان شأن هذا السلطان في ملوك آل حفص عظيما. وشهرته طائرة الذكر بما انفسح من أمر سلطانه، ومدت إليه ثغور القاصية من العدوتين يد الاعتصام به.
وما اجتمع بحضرته من أعلام الناس الوافدين على ابنه وخصوصا الأندلس من شاعر مفلق وكاتب بليغ وعالم نحرير وملك أورع وشجاع أهيش متفيئين ظلّ ملكة متناغين في اللياذ به لطموس معالم الخلافة شرقا، وغربا على عهده، وخفوت صوت الملك إلّا في إيوانه [2] .
فقد كان الطاغية التهم قواعد الملك بشرق الأندلس وغربها، فأخذت قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وبلنسية سنة ست وثلاثين وستمائة بعدها وإشبيليّة سنة ست وأربعين وستمائة، واستولى التتر على بغداد دار خلافة العرب بالمشرق وحاضرة الإسلام سنة ست وخمسين وستمائة، وانتزع بنو مرين ملك بني عبد المؤمن، واشتملوا على حضرة مراكش دار خلافة الموحدين سنة ثمان وستين وستمائة، كل ذلك على عهده وعهد أبيه ودولتهم أشدّ ما كانت قوّة وأعظم رفاهية وجباية وأوفر قبيلا وعصابة، وأكثر عساكر وجندا، فأمّله أهل العلم للكرّة، وأجفلوا إلى الإمساك بحقويه. وكان له في الأبّهة والجلال أخبار، وفي الحروب والفتوح آثار مشهودة، وفي أيامه عظمت حضارة تونس، وكثر ترف ساكنها. وتأنّق الناس في المراكب والملابس والمباني
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ورجلاه لا يخطّان الأرض «وهي أصح» .
[2] بعد وفاة أبو زكريا سنة 647 هـ 1249 م تولى ابنه المستنصر الحكم الّذي ازدادت في عهده الدولة قوة ومهابة والرعية رفاهية وهناء، لكنه كان شديد البطش غير متوقف في سفك الدماء، ومن ضحاياه الكاتب الكبير أبو عبد الله بن الأبار القضاعي صاحب المؤلفات الأدبية النفيسة. (قبائل المغرب ص 170) .

(6/432)


والماعون والآنية، فاستجادوا وتناغوا في اتخاذها وانتقائها إلى أن بلغت غايتها رجعت من بعده أدراجها، والله مالك الأمور ومصرّفها كيف يشاء.
(الخبر عن بيعة الواثق يحيى بن المستنصر وهو المشهور بالمخلوع وذكر أحواله)
لما هلك السلطان المستنصر سنة خمس وسبعين وستمائة كما قدّمناه، اجتمع الموحّدون وسائر الناس على طبقاتهم إلى ابنه يحيى، فبايعوه ليله مهلك أبيه، وفي غدها وتلقّب الواثق. وافتتح أمره برفع المظالم وتسريح أهل السجون وافاضة العطاء في الجند وأهل الديوان، وإصلاح المساجد، وإزالة كثير من الوظائف عن الناس. وامتدحه الشعراء فأسنى جوائزهم، وأطلق عيسى بن داود من اعتقاله وردّه إلى حاله. وكان المتولّي لأخذ البيعة عن الناس والقائم بأمره سعيد بن يوسف بن أبي الحسين لمكانه من الدولة ورسوخه في الشهرة، فقام بالأمر ولم يزل على ذلك إلى أن نكبه وأدال منه بالحببّر والله أعلم.
(الخبر عن نكبة ابن أبي الحسين واستبداد ابن الحببر على الدولة)
هذا الرجل اسمه يحيى بن عبد الملك الغافقي وكنيته أبو الحسن أندلسيّا من أعمال مرسية، وفد مع الجالية من شرق الأندلس أيام استيلاء العدو، وكان يحسن الكتابة ولم يكن له من الخلال سواها، فصرف في الأعمال، ثم ارتقى إلى خدمة أبي الحسين فاستكتبه، ثم رقّاه إلى ولاية الديوان فعظمت حالته، وكانت له أثناء ذلك مداخلة للواثق ابن السلطان، واعتدّها له سابقة. فلما استوثق الأمر للواثق رفع منزلته واختصّه بالشورى، وقلّده كتاب علامته. وكان سعيد بن أبي الحسين مزاحما له؟ منافسا لما كان أسف من تقديمه. فأغرى به السلطان ورغّبه في ماله فتقبّض على أبي سعيد بن أبي الحسين لستة أشهر من الدولة سنة ست وسبعين وستمائة واعتقل

(6/433)


بالقصبة. واستقل على معلة [1] ابن ياسين وابن صياد الرجّالة وغيرهم. وقدم على الأشغال مدافعا في الموالي المعلوجين. ووكّل أبا زيد بن أبي الأعلام من الموحّدين بمصادرة ابن أبي الحسين على المال وامتحانه.
ولم يزل يستخرج منه حتى ادّعى الاملاق واستحلف فخلف. ثم ضرب فادعى مؤتمنا من ماله عند قوم استكشفوا عنه فأدّوه. ثم دلّ بعض مواليه على ذخيرة بداره دفينة فاستخرج منه زهاء ستمائة ألف من الدنانير، فلم يقبل بعدها مقاله، وبسط عليه العذاب إلى أن هلك في ذي الحجة من سنته، ودفن شلوه بحيث لم يعرف مدفنه.
واستبدّ أبو الحسن الحببّر على الدولة والسلطان، وبعث أخاه أبا العلاء واليا على بجاية، وأسف المشيخة والبطانة بعتوّه واستبداده وما يتجشمونه من مكابرة بابه إلى أن عاد وبال ذلك على الدولة كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن إجازة السلطان أبي إسحاق من الأندلس ودخول أهل بجاية في طاعته)
كان السلطان المستنصر قد عقد على بجاية سنة ستين وستمائة لأبي هلال عياد بن سعيد الهنتاتي، وأدال به من أخيه الأمير أبي حفص، فأقام واليا عليها إلى أن هلك ببني ورا سنة ثلاث وسبعين وستمائة كما قدّمنا وعقد عليها من بعده لابنه محمد، وكان له غناء في ولايته واضطلع بأمره إلى أن هلك المستنصر وولي ابنه الواثق، فبادر إلى انقياد [2] طاعته، وبعث وفد بجاية ببيعتهم. ثم قلّد أبو الحسن القائم بالدولة أخاه إدريس ولاية الأشغال ببجاية، فقام بها وأفنى الأموال وتحكّم في المشيخة. وأنف محمد بن أبي هلال من استبداده عليه فهمّ إدريس بنكبته، فخشي محمد بن أبي هلال بادرته وداخل بعض بطانته في قتله. وفاوض الملأ فيه فعدوا عليه لأوّل ذي القعدة سنة سبع وسبعين وستمائة بمقعده من باب السلطان فقتلوه ورموا برأسه إلى الغوغاء والزعانف فبعثوا به.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وتقبّض على نقله. ومقتضى السياق واستقلّ بنقله ابن ياسين وابن صيّاد.
[2] وفي نسخة أخرى: إيتاء.

(6/434)


ووافق ذلك حلول السلطان أبي إسحاق بتلمسان، وكان عند بلوغ الخبر إليه بمهلك أخيه المستنصر أجمع أمره على الإجازة لطلب حقّه بعد ما تردّد برهة. ثم اعتزم وعاد إلى تلمسان، ونزل على يغمراسن بن زيّان فقام لمورده، واحتفل في مبرّته، وفعل أهل بجاية وابن أبي هلال فعلتهم وخشوا بوادر السلطان بالحضرة فخاطب السلطان أبا إسحاق وأتوه ببيعتهم، وبعثوا وفدهم يستحثّونه للملك، فأجابهم ودخل إليها آخر ذي القعدة من سنته، فبايعه الموحّدون والملأ من أهل بجاية. وقام بأمره محمد بن هلال. ثم زحف في عساكره إلى قسنطينة فنازلها، وبها عبد العزيز بن عيسى بن داود، فامتنعت عليه فأقلع عنها إلى أن كان من أمره ما نذكره.
(الخبر عن خروج الأمير أبي حفص بالعساكر للقاء السلطان أبي إسحاق ثم دخوله في طاعته وخلع الواثق)
لما بلغ الخبر إلى الواثق ووزيره المستبدّ عليه ابن الحببّر بدخول السلطان أبي إسحاق بجاية، شيّع العساكر إلى حربه، وعقد عليها لعمّه أبي حفص. واستوزر له أبا زيد بن جامع، فخرج من تونس واضطرب معسكره بجباية. وعقد الواثق على قسنطينة لعبد العزيز بن عيسى بن داود لذمّة صهر كانت له من ابن الحببّر، فتقدّم إلى قسنطينة، ومانع عنها الأمير أبا إسحاق كما ذكرناه. ثم اضطرب رأي ابن الجيد في خروج الأمير أبي حفص، وأراد انفضاض عسكره فكتب الواثق إلى أبي حفص ووزيره ابن جامع يغري كل واحد منهما بصاحبه، فتفاوضا واتفقا على الدعاء للأمير أبي إسحاق، وبعثوا إليه بذلك. واتصل الخبر بالواثق وهو بتونس منتبذا عن الحامية والبطانة. فاستيقن ذهاب ملكه، وأشهد الملأ، وانخلع عن الأمر لعمّه السلطان أبي إسحاق غرّة ربيع الأوّل من سنة ثمان وسبعين وستمائة وتحوّل عن قصور الملك بالقصبة إلى دار الأقورى وانقرضت دولته وأمره، والبقاء للَّه وحده
.

(6/435)


(الخبر عن استيلاء السلطان أبي إسحاق على الحضرة)
لما بلغ السلطان أبا إسحاق كتاب أخيه الأمير أبي حفص وابن جامع من بجاية، يادر مغذّا إليهم. ثم وافاه خبر انخلاع الواثق ابن أخيه بتونس، فارتحلوا جميعا وسائر أهل الحضرة على طبقاتهم إلى لقائه، وآتوا طاعتهم ودخل الحضرة منتصف الحجة آخر سنة ثمان وسبعين وستمائة ومحمد بن هلال شيخ دولته. وعقد على حجابته لأبي القاسم بن الشيخ كاتب أبي الحسين، وعلى خطة الأشغال لابن أبي بكر بن الحسن ابن خلدون [1] . كان وفد مع أبيه الحسن على الأمير أبي زكريا من إشبيليّة لذمّة رعاها لهم، لما كانت أمّ ولده أمّ الخلائف من هدايا ابن المحتسب أبي زكريا محلهم.
ورحل الحسن إلى المشرق ومات هنالك، وبقي ابنه أبو بكر بالحضرة فاستعمله الأمير أبو إسحاق لأوّل دخوله في خطة الأشغال، ولم يكن يليها إلا الموحّدون كما قلناه.
وعقد لفضل بن علي بن مزني على الزاب، ولم يكن أيضا يليها إلا الموحّدون. لكن رعى لفضل بن مزني ذمّة اغترابه معه إلى الأندلس، فعقد له على الزاب، ولأخيه عبد الواحد على بلاد قسطيلية. ثم تقبّض على أبي الحببّر وأمر باعتقاله ودفعه إلى موسى بن محمد بن ياسين للمصادرة والامتحان. ووجد مكان التمائم عليه طوابع وطلسمات مختلفة الأشكال والصور، وتسحر بها فيما زعموا مخدومه فحاق به وبالها.
وكان شأنه في الامتحان والاستحلاف والهلاك بالعذاب شأن سعيد بن أبي الحسين أيام صولته [2] ، إلى أن هلك في شهر جمادى الأولى من سنته، والله لا يظلم مثقال ذرة.
ولما اعتقد السلطان أبو إسحاق كرسيّ ملكه، واستوثق عرى خلافته، تقبّض على محمد بن أبي هلال وقتله بجرّ [3] نكبته سنة ست وسبعين وستمائة لما كان يتوقع منه من المكروه في الدولة وما عرف به من المساعي في الفتنة والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وعلى خطة الأشغال لابن أبي الحسن بن خلدون.
[2] وفي نسخة أخرى: شأن سعيد بن أبي الحسن منكوبه أيام دولته.
[3] وفي نسخة أخرى: لحين.

(6/436)


(الخبر عن مقتل الواثق وولده)
لما انخلع الواثق عن الأمر وتحوّل إلى دار الأقوري فأقام بها أياما. وكان له ثلاثة من الولد أصاغر: الفضل والطاهر، والطيب، فكانوا معه. ثم نمي عنه للسلطان أبي إسحاق أنه يروم الثورة وأنه داخل في ذلك بعض رؤساء النصارى من الجند، فأقلق مكان ترشيحه واعتقله بمكان اعتقال بنيه، وهو من القصبة أيام أخيه المستنصر. ثم بعث إليهم ليلتهم فذبحوا جميعا في شهر صفر سنة تسع وسبعين وستمائة واستوثق له الأمر وأطلق من عنان الإمارة لولده إلى أن كان من شأنهم ما يذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن ولاية الأمير أبي فارس ابن السلطان أبي إسحاق على بجاية بعهد أبيه والسبب في ذلك)
كان للسلطان أبي إسحاق من الأبناء خمسة: أبو فارس عبد العزيز وكان أكبرهم، وأبو محمد عبد الواحد، وأبو زكريا يحيى، وخالد، وعمر، وكان السلطان المستنصر قد حبسهم عند فرار أبيهم إلى رياح في أيامه ببعض حجر القصر، وأجرى عليهم رزقا فنشئوا في ظل كفالته وجميم رزقه، إلى أن استولى أبوهم السلطان أبو إسحاق على الملك فطلعوا بآفاقه. وطالت فروعهم في دوحه، واشتملوا على العز واصطنعوا أهل السوابق من الرجال، وأرخى السلطان لهم ظلهم في ذلك. وكان المجلّي فيها كبيرهم أبو فارس لما كان مرشّحا لولاية العهد، وكان ممن اصطنعه وألقى عليه رداء محبته في الناس وعنايته أحمد بن أبي بكر بن سيد الناس اليعمري، وأخوه أبو الحسين لسابقة رعاها لهما، وذلك أنّ أباهما أبا بكر بن سيد الناس، كان من بيوت إشبيليّة حافظا للحديث راوية له، ظاهريّا في فقهه على مذهب داود وأصحابه. وكانت لأهل إشبيليّة خصوصا من بين الأندلس وصلة بالأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص وبنيه، منذ ولايته غرب الأندلس.

(6/437)


فلمّا تكالب الطاغية على الدولة [1] والتهم ثغورها واكتسح بسائطها، وأشفّ إلى قواعدها وأمصارها، أجاز الأعلام وأهل البيوت إلى أرض المغربين وإفريقية. وكان قصدهم إلى تونس أكثر لاستفحال الدولة الحفصية بها. فلما رأى الحافظ أبو بكر اختلال أحوال الأندلس وقبح مصايرها، وخفّة ساكنها، أجمع الرحلة عنها إلى ما كان بتونس من سابقته عند هؤلاء الخلفاء. فأجاز البحر ونزل بتونس فلقاه السلطان تكرمه، وجعل إليه تدريس العلم بالمدرسة عند حمام الهواء التي أنشأتها [2] أمّه أمّ الخلائف.
ونشأ بنوه أحمد وأبو الحسين في جوّ الدولة وحجر كفالتها للاختصاص الّذي كان لأبيهم بها. وعدلوا عن طلب العلم إلى طلب الدنيا، وتشوّقوا إلى مراتب السلطان، واتصلوا بأبناء السلطان أبي إسحاق بمكانهم من حجر القصر حيث أنزلهم عمهم بعد ذهاب أبيهم، فخالطوهم واستخدموا لهم. ولما استولى السلطان على الأمر ورشّح ابنه أبا فارس للعهد، وأجراه على سنن الوزارة فاصطنع أحمد بن سيّد الناس، ونوّه باسمه وخلع عليه ملبوس كرامته. واختصه بلقب حجابته، وأخوه أبو الحسين يناهضه في ذلك عنوة. ونفس ذلك عليهما البطانة فأغروا السلطان أبا إسحاق بابنه وخوّفوه شأنه. وأن أحمد بن سيّد الناس داخله في التوثّب بالدولة. وتولّى كبر هذه السعاية عبد الوهاب بن قائد الكلاعي من علية الكتاب ووجوههم. كان يكتب للعامّة يومئذ، فسطا السلطان بابن سيّد الناس سنة تسع وستين وستمائة آخر ربيع، استدعى إلى باب القصر فتعاورته السيوف هبرا. ووري شلوه ببعض الحفر. وبلغ الخبر إلى الأمير أبي فارس فركب إلى أبيه في لبوس الحزن، فعزّاه أبوه عن ذلك بأنه ظهر لابن سيّد الناس على المكر والخديعة بالدولة. وأماط سواده بيده، ونجا أبو الحسين من هذه المهلكة. واعتقل في لمة من رجال الأمير أبي فارس بعد أن توارى أياما إلى أن أطلق من محبسه، وكان من أمره ما نذكره بعد. واستبلغ السلطان في تأنيس ابنه، ومسح الضغينة عن صدره، فعقد له على بجاية وأعمالها، وأنفذه إليها أميرا مستقلا. وأنفذ معه في رسم الحجابة جدي محمد ابن صاحب أشغاله أبي بكر بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: العدوة.
[2] وفي نسخة أخرى: أسستها.

(6/438)


الحسن بن خلدون، فخرج إليها سنة تسع وستين وستمائة وقام بأمرها، ولم يزل أميرا بها إلى آخر دولته كما نذكر والله أعلم.
(الخبر عن ثورة ابن الوزير بقسنطينة ومقتله)
اسم هذا الرجل أبو بكر بن موسى بن عيسى، ونسبته في كوميه من بيوت الموحدين.
كان مستخدما لابن كلداسن الوالي بقسنطينة بعد ابن النعمان من مشيخة الموحدين أيام المستنصر. ووفد ابن كلداسن على الحضرة، وأقام ابن وزير نائبا عنه بقسنطينة، فكان له غناء وصداقة [1] . وولاه السلطان أبو إسحاق حافظا على قسنطينة. واتصلت ولايته، وهلك المستنصر واضطربت الأحوال. ثم ولّاه الواثق، ثم السلطان أبو إسحاق وكان ابن وزير هذا طموحا جموعا لأموال [2] الناس لا يمل.
وعلم أن قسنطينة معقل ذلك القطر وحصنه فحدّثته نفسه بالامتناع بها، والاستبداد على الدولة. وساء أثره في أهلها فرفعوا أمرهم إلى السلطان أبي إسحاق، واستعدوه فلم يعدهم لما رأى من مخايل الحرابة من الطاغية [3] . وكتب هو بالاعتذار والنكير لما جاء به، فتقبّله وأغضى له عن هناته. ولما مرّ به الأمير أبو فارس إلى محل إمارته من بجاية سنة تسع وسبعين وستمائة قعد عن لقائه وأوفد إليه جمعا من الصلحاء بالمعاذير والاستعطاف، فمنحه من ذلك كفاء مرضاته، حتى إذا أبعد الأمير أبو فارس إلى بجاية، اعتزم على الانتزاء. وكاتب ملك أرغون في جيش من النصارى يكون معهم في ثغره يردّد بهم الغزو على أن يكون فيما زعموا داعية له فأجابه ووعده ببعث الأسطول إليه، فجاهر بالخلعان، وانتزى بثغر. قسنطينة داعيا لنفسه آخر سنة ثمانين وستمائة.
وزحف إليه الأمير أبو فارس من بجاية في عساكره، واحتشد الأعراب وفرسان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فكان له غنا وصرامة.
[2] وفي نسخة ثانية: طموحا جموح الأمل.
[3] وفي نسخة ثانية: من مخايل انحرافه عن الطاعة.

(6/439)


القبائل إلى أن احتل بميلة. ووفد عليه من أهل قسنطينة جمع من الرعية [1] بعثهم ابن وزير فأعرض عنهم، وقصد قسنطينة في أوّل ربيع سنة إحدى وثمانين وستمائة فثار بها وجمع الأيدي على حصارها. ونصب المجانيق وقرّب قواعد الرماة، وقاتلها يوما أو بعض يوم، وتسوّر عليهم المعقل من بعض جهاته. وكان المتولي لتسوّره صاحبه محمد ابن أبي بكر بن خلدون، وأبلى بن وزير عند الصدمة حتى أحيط به، وقتل هو وأخوه وأشياعهما، ونصبت رءوسهم بسور البلد. وتمشّى الأمير في سكك البلد مسكّنا ومؤنسا، وأمر برمّ ما تثلّم من الأسوار وبإصلاح القناطر. ودخل إلى القصر وبعث بالفتح إلى أبيه بالحضرة. وجاء أسطول النصارى إلى مرسى القل في مواعدة ابن وزير، فأخفق مسعاهم، وارتحل الأمير أبو فارس ثالثة الفتح إلى بجاية، فدخلها آخر ربيع من سنته، والله أعلم.
(الخبر عن قيادة ابن السلطان العساكر إلى الجهاد)
كان السلطان يؤثر أبناءه بمراتب ملكه، ويوليهم خطط سلطانه شغفا بهم وترشيحا لهم، فعقد في رجب سنة إحدى وثمانين لابنه الأمير زكريا على عسكر من الموحدين والجند، وبعثه إلى قفصة للإشراف على جهاتها. وضمّ جبايتها [2] فخرج إليها وقضى شأنه من حركته، وانصرف إلى تونس في رمضان من سنته. ثم عقد لابنه الآخر أبي محمد عبد الواحد على عسكره، وأنفذه إلى وطن هوّارة لانقضاء مغارمهم وجباية ضرائبهم وفرائضهم، وبعث معه عبد الوهاب بن قائد الكلاعي مباشرا لذلك وواسطة بينه وبين الناس، فانتهى إلى القيروان، وبلغه شأن الدعي وظهوره في دباب بنواحي طرابلس، فطيّر بالخبر إلى السلطان وأقبل على شأنه. ثم انتشر أمر الدعي وانكفأ راجعا إلى تونس، والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بمكر من الرغبة والتوسل.
[2] وفي نسخة ثانية: مجابيها.

(6/440)


(الخبر عن صهر السلطان مع عثمان بن يغمراسن)
كان السلطان لما أجاز البحر من الأندلس لطلب ملكه، ونزل على يغمراسن بن زيان بتلمسان، فاحتفل لقدومه وأركب الناس للقائه، وأتاه ببيعته على عادته من سلفه لما علم أنه أحق بالأمر، ووعده النصرة من عدوّه والمؤازرة على أمره، وأصهر إليه في إحدى بناته المقصورات في خيام الخلافة بابنه عثمان تشريفا خطبه منه، فأولاه إسعافا به [1] . ولما استولى السلطان على حضرته واستبدّ بأحوال ملكه بعث يغمراسن ابنه إبراهيم المكنّى بأبي عامر في وفد من قومه لإتمام ذلك العقد، فاعتمد السلطان مبرّتهم وأسعف طلبتهم، وأقاموا بالحضرة أياما، وظهر من إقدامهم في فتن الدعي مقامات، وانصرفوا بظعينتهم سنة إحدى وثمانين وستمائة مجبورين محبورين. وابتغى بها عثمان لحين وصولها فكانت من عقائل قصورهم ومفاخر دولتهم، وذكرا لهم ولقومهم إلى آخر الأيام.
(الخبر عن ظهور الدعي أبي عمارة وما وقع من الغريب في أمره)
كان أحمد بن مرزوق أبو عمارة من بيوتات بجاية الطارئين عليها من المسيلة، نشأ ببجاية وسيما محترفا بصناعة الخياطة غرّا غمرا. وكان يحدّث نفسه بالملك لما كان يزعم أن العارفين يخبرونه بذلك. وكان هو يخط فيريه خطه ذلك. ثم اغترب عن بلده ولحق بصحراء سجلماسة واختلط بعرب المعقل وانتمى إلى أهل البيت، وادّعى أنه الفاطمي المنتظر عند الأغمار، وانه يحيل المعادن إلى الذهب بالصناعة، فاشتملوا عليه وحدّثوا بشأنه أياما. أخبرني طلحة بن مظفّر من شيوخ العماريّة إحدى بطون المعقل أنه رآه أيام ظهوره بالمعقل ملتبسا بتلك الدعوى حتى فضحه العجز. ثم لمّا زهدوا فيه لعجز مدّعاه ذهب يتقلّب في الأرض حتى وصل إلى جهات طرابلس، ونزل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فولّاه الإسعاف به.

(6/441)


على دباب وصحب منهم الفتى نصيرا مولى الواثق بن المستنصر، ويلقّب بري [1] ولما رآه تبين فيه شبها من الفضل ابن مولاه فطفق يبكي ويقبّل قدميه، فقال له ابن أبي عمارة: ما شأنك؟ فقصّ عليه الخبر، فقال: صدقتني في هذه الدعوى وأنا أثئرك من قاتلهم.
وأقبل نصير على أمراء العرب مناديا بالسرور بابن مولاه، حتى خيّل عليهم. ثم نزل بادس إلى ابن أبي عمارة من محاورات وقعت بين العرب وبين الواثق، قصّها عليهم ابن أبي عمارة نفيا للريب بأمره، فصدّقوا واطمأنّوا، وأتوه ببيعتهم. وقام بأمره صرغم [2] بن صابر بن عسكر أمير دياب وجمع له العرب ونازلوا طرابلس، وبها يومئذ محمد بن عيسى الهنتاتي وشهر بعنق الفضة، فامتنعت عليهم، ورحلوا إلى بحر بين [3] الموطنين بزيزور وجهاتها من هوارة فأوقعوا بهم. ثم سار في تلك النواحي واستوفى جباية لماية وزواوة وزواغة، وأغرم نفوسة وغريان ونفزة من بطون هوارة وضائع ألزمهم إيّاها واستوفاها. ثم زحف إلى قابس فبايع له عبد الملك بن مكي في رجب سنة إحدى وثمانين وستمائة وأعطاه صفقته طواعية، وفاه بحق آبائه فيما طوّقوه وذريعة إلى الاستقلال الّذي كان يؤمّله، وأعلن بخلافته ونادى بقومه واستخدم له بني كعب بن سليم ورياستهم في بني شيخة [4] لعبد الرحمن بن شيخة، فأجابوا داعيه وأنابوا إلى خدمته، وتوافت إليه بيعة أهل حزبه والحامية [5] وقرى نفزاوة. ثم زحف إلى توزر وبلاد قسطيلية فأطاعوه. ثم رجع إلى قفصة فبايع له أهلها، وعظم أمره وعلا صيته. فجهز إليه السلطان أبو إسحاق العساكر من تونس كما نذكره. والله تعالى أعلم.
(الخبر عن انفضاض عساكر السلطان وتقويضه عن تونس)
لما تفاقم أمر الدعي بنواحي طرابلس، ودخل الكثير من أهل الأنصار في طاعته،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وتلقّب نوبى.
[2] وفي نسخة أخرى: مرعم.
[3] وفي نسخة أخرى: ورحلوا إلى مجريس الموطنين بزنزور.
[4] وفي نسخة أخرى: بني شيحة.
[5] وفي نسخة أخرى: بيعة أهل جربه والحامه وقرى نفزاوة.

(6/442)


جهّز السلطان عساكره وعقد لابنه الأمير أبي زكريا على حربه، فخرج من تونس ونزل القيروان، واقتضى منها غرائم ووضائع استأثر منها بأموال. ثم ارتحل إلى لقاء الدعي وانتهى إلى تموده، وبلغه هنالك ما كان من استيلاء الدعي على قفصة فأرجف به العسكر وانفضّوا من حوله، ورجع إلى تونس فدخلها آخر يوم من رمضان من سنته، وارتحل الدعي على أثره من قفصة واحتل بالقيروان، فبايع له أهلها واقتدى به أهل المهديّة وصفاقس وسوسة فبايعوا له، وكثر الإرجاف بتونس، فاضطرب السلطان وأخرج معسكره بظاهر البلد في وسط شوّال. وضرب الغزو على الناس واستكثر من العدد، وخرج إلى معسكره بالمهديّة وتلوّم بها لإزاحة العلل.
وارتحل الدعي من القيروان زاحفا إليه فتسرّبت إليه طبقات الجنود ومشيخة الموحّدين، رضي الله عنهم بمكانه وطاغية [1] بني المستنصر خليفتهم الطويل أمدّ الولاية عليهم، ورحمة لما نال الواثق وأبناءه من عملهم [2] ثم انفض عن السلطان كبير الدولة موسى بن ياسين في معظم الموحّدين، ولحق الدعي بطريقة، فاحتل أمر السلطان وانتقضت عرى ملكه، وفرّ إلى بجاية كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن لحاق السلطان أبي إسحاق بجاية ودخول الدعي بن أبي عمارة الى تونس وما كان من أمره بها)
لما انفض معسكر السلطان أبي إسحاق آخر شوّال من سنة إحدى وثمانين وستمائة ركب في خاصّته وبعض جنوده ذاهبا إلى بجاية، ومرّ بتونس فوقف عندها ثم احتمل أهله وولده وسار في كلب البرد، فكان يعاني من قلّة الأقوات وتعاور المطر والثلج شدّة.
وكان يصانع القبائل في طريقه سلما له [3] . ثم مرّ بقسنطينة فمنعه عاملها عبد الله بن توفيان [4] الهرغي من دخولها وقرّب إليه بعض القرى من الأقوات، وارتحل إلى بجاية
__________
[1] وفي نسخة ثانية: رضي بمكانه وصاغية الى بني المستنصر.
[2] وفي نسخة ثانية: عمّهم.
[3] وفي نسخة ثانية: يبذل ماله.
[4] وفي نسخة ثانية: عبد الله بن يوقيان الهرغي.

(6/443)


وكان من أمره ما يذكر. ودخل الدعي بن أبي عمارة إلى الحضرة، وقلد موسى بن ياسين وزارته، وأبا القاسم أحمد بن الشيخ حجابته، وتقبّض على صاحب الأشغال أبي بكر بن الحسن بن خلدون فاستصفاه وصادره على مال امتحنه عليه. ثم قتله خنقا، وصرف خطة الجباية إلى عبد الملك بن مكي رئيس قابس. واستكمل ألقاب الملك، وقسّم الخطط بين رجال الدولة، وصرف همّه إلى غزو بجاية، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن استبداد الأمير أبي فارس بالأمر عند وصول أبيه إليه)
لما وصل السلطان أبو إسحاق إلى بجاية في شهر ذي القعدة من سنته طريدا عن ملكه غافلا عن كرسي [1] سلطانه، انتقض عليه ابنه الأمير أبو فارس ومنعه من الدخول إلى قصره، فنزل بروض الرفيع، وأراده على الخلع فانخلع له. وأشهد الملأ من الموحّدين ومشيخة بجاية بذلك، وأنزله قصر الكوكب ودعا الناس إلى بيعته آخر ذي القعدة، فبايعوه وتلقّب المعتمد على الله. ونادى في أوليائه من رياح وسدويكش.
وخرج من بجاية زاحفا إلى الدعيّ، واستخلف عليها أخاه الأمير أبا زكريا. وخرج معه الأمير أبو حفص وأخواه، فكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن زحف الأمير أبي افرس للقاء الدعي ثم انهزامه أمامه واستلحامه وإخوته في المعركة وما كان أثر ذلك من مهلك أبيهم السلطان أبي إسحاق وفرار أخيهم الأمير أبي زكريا الى تلمسان)
لما بلغ الخبر إلى الدعيّ باستبداد الأمير أبي فارس على أبيه واستعداده للقائه،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: حلى.

(6/444)


تقبّض على أهل البيت الحفصي، فاعتقلهم بعد أن همّ بقتلهم. وخرج من تونس في عساكر من الموحّدين وطبقاتهم الجند في صفر اثنتين وثمانين وستمائة فانتهى إلى مر ماجنّة، وتراءى الجمعان ثالث ربيع الأوّل فاقتتلوا عامّة يومهم. ثم اختلّ مصاف الأمير أبي فارس، وتخاذل أنصاره فقتل في المعركة، وانتهب معسكره وقتل إخوته صبرا: عبد الواحد قتله الدعي بيده، وعمر وخالد وأبو محمد بن عبد الواحد وبعث برءوسهم إلى تونس فطيف بها على الرماح ونصبت بأسوار البلد. وتخلّص عمه الأمير أبو حفص من الواقعة إلى أن كان من أمره ما نذكر.
وبلغ خبر الواقعة إلى بجاية فاضطرب أهلها وماج بعضهم في بعض، وخرج السلطان أبو إسحاق وابنه الأمير أبو زكريا إلى تلمسان، فقدّم أهل بجاية عليهم محمد بن السيد قائما فيهم بطاعة الدعيّ، وخرج في أتباع السلطان فأدركه بجبل بني غبرين من زواوة، فتقبّض عليه، ونجا الأمير أبو زكريا إلى تلمسان، وبقي السلطان أبو إسحاق ببجاية معتقلا ريثما بلغ الخبر إلى تونس، وأرسل الدعيّ محمد بن عيسى بن داود فقتله آخر ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين وستمائة وانقضى أمره وللَّه عاقبة الأمور، لا ربّ غيره ولا معبود سواه.
(الخبر عن ظهور الأمير أبي حفص وبيعته وما كان على أثر ذلك من الأحداث)
قد ذكرنا أنّ الأمير أبا حفص حضر واقعة بني أخيه مع الدعيّ بمرماجنّة، فخلص من المعركة راجلا، ونجا إلى قلعة سنان معقل هوّارة القريب من مكان الملحمة، ولاذ به في ذهابه إلى منجاته ثلاثة من صنائعهم: أبو الحسين بن أبي بكر بن سيّد الناس، ومحمد بن القاسم بن إدريس الفازازي، ومحمد بن أبي بكر بن خلدون، وهو جدّ المؤلف الأقرب. وربما كانوا يتناقلونه على ظهورهم إذا أصابه الكلال. ولما نجا إلى قلعة سنان تحدّث به الناس وشاع خبر منجاته إليها. وكان الدعيّ قد أشف العرب وثقلت وطأته عليهم بما كان يسيء الملكة فيهم، فليوم دخوله شكا إليه الناس

(6/445)


عيثهم فتقبّض على ثلاثة منهم وقتلهم وصلبهم. ثم سرّح شيخ الموحّدين عبد الحق تافراكين لحسن عللهم وأوعز إليه بالإثخان فيهم. فاستلحم من لقي منهم. ثم تقبّض على مشايخ بني علاق وأودع سجونه منهم نحوا من الثمانين [1] ، فساء أثره فيهم وتطلّبوا أعياص البيت، وتسامعوا بخبر الأمير أبي حفص بمكانه من قلعة سنان، فرحلوا إليه وأتوه ببيعتهم في ربيع سنة ثلاث وثمانين وستمائة وجمعوا له شيئا من الآلة والأخبية، وقام بأمره أبو ليل بن أحمد أميرهم. وبلغ الخبر إلى الدعيّ فداخلته الظنّة في أهل دولته. وتقبّض على أبي عمران بن ياسين شيخ دولته، وعلى أبي الحسن بن ياسين وابن وانودين، وعلى الحسين بن عبد الرحمن يعسوب زناتة فامتحنهم واستصفى أموالهم. ثم قتلهم آخرا وتوجّع لهم الناس واضطرب أمر الدعيّ إلى أن كان ما نذكره انتهى.
(الخبر عن خروج الدعي ورجوعه واستيلاء السلطان أبي حفص على ملكه وغلبه ومهلكه)
لما ظهر السلطان أبو حفص وبايعه العرب تسامع به أهل الحضرة واجتمع إليه الناس وأوقع الدعيّ بأهل الدولة فمقتوه، وخرج من تونس يريد قتاله فأرجف به أهل العسكر ورجع منهزما، ودخلت البلاد في طاعة السلطان أبي حفص ونهض إلى تونس فنزل بسحوم قريبا منها. وعسكر الدعيّ بظاهر البلد تجاهه وطالت بينهما الحرب أياما والناس كل يوم يستوضحون خبء الدعيّ ومكره إلى أن تبرّؤا منه وأسلموه، ورحل من مكان معسكره ولاذ بالاختفاء، ودخل السلطان البلد في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة واستولى على سرير ملكه، وطهّر من الدنس قاصية ودانية [2] ، واختفى الدعيّ بتونس وغاص في لجّة ساكنيها وأحاط به البحث فعثر عليه لليال من مدخل السلطان بدور بعض السوقة يعرف بأبي قاسم القرمادي فهدمت لحينها. وثلّ إلى السلطان فأحضر له الملأ، ووبّخه وساء له فاعترف بإدعائه في نسبهم فأمر بامتحانه وقتله. وذهب في غير سبيل مرحمة، وطيف بشلوه ونصب
__________
[1] وفي نسخة أخرى: نيفا على ثمانين
[2] وفي نسخة أخرى: وطهّره من دنس فاضحه ودعيّه.

(6/446)


رأسه. وكان عبد الله بن يغمور المباشر لقتله، وكان خبره من المثلات. واستبدّ السلطان بملكه وتلقّب المستنصر باللَّه، وبادر الناس إلى الدخول في طاعته. وبعث أهل القاصية ببيعتهم من طرابلس وتلمسان وما بينهما. وعقد للشيخ أبي عبد الله الفازازي على عساكره على الحروب والضاحية، وأقطع البلاد والمغارم للعرب رعيا لذمّة قيامهم بأمره، ولم يكن لهم قبلها أقطاع، وكان الخلفاء قبله يتحامون عن ذلك لا يفتحون فيه على أنفسهم بابا، وأقام متمتعا في ماله وفي حضرته [1] إلى أن كان ما نذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن استيلاء العدو على جزيرة جربة وميورقة ومنازلته المهديّة واجلابه على السواحل)
كان من أعظم الحوادث، تكالب العدوّ في أيام هذا السلطان على الجزر البحريّة، فاستولت أساطيلهم على جزيرة جربة في رجب من سنة ثمان وثمانين وستمائة ورياستها يومئذ من محمد بن مهو بن شيخ الوهبيّة [2] . ويخلف ابن امغار شيخ النكازة [3] وهما فرقتا الخوارج. وزحف إليها المراكيا صاحب صقلّيّة نائبا عن الغدريك بن الريداكون ملك برشلونة في أساطيله البحرية وكانوا فيما قيل سبعين أسطولا من غربان وشواني، وضايقهم مرارا. ثم تغلّبوا عليها فانتهبوا أموالها وحملوا أهلها أسرا وسبيا.
فقيل إنهم بلغوا ثمانية آلاف بعد أن رموا بالرضّع في الجبوب [4] ، فكانت هذه الواقعة من أشجى الوقائع للمسلمين. ثم بنوا بساحلها حصنا واعتمروه وشحنوه حامية وسلاحا. وفرض عليهم المغرم مائة ألف دينار كل سنة، وأقام على ذلك المراكيا إلى رأس المائة. وبقيت الجزيرة في ملك النصارى إلى أن عادوا إلى مالقة أواخر [5] الأربعين والسبعمائة كما نذكره.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: واقام متحليا ملكه وادعا في حضرته.
[2] وفي نسخة أخرى: محمد بن سمّون شيخ الوهبيّة.
[3] وفي النسخة الباريسية: ويخلف بن أومغار شيخ النكارة.
[4] يقتضي أن يقول: أجباب أو جباب أو جببه وهي جمع جب أي البئر العميقة (قاموس) .
[5] وفي نسخة أخرى: إلى أن أعادها الله في أواخر الأربعين والسبعمائة.

(6/447)


وفي سنة خمس وثمانين وستمائة ظفر العدوّ بجزيرة ميورقة، ركب إليها طاغية برشلونة أساطيله في عشرين ألفا من الرجال المقاتلة ومروا بميورقة كأنهم سفر من التجّار وطلبوا من أبي عمر بن حكم ورئيسها النزول للاستسقاء فأذن لهم. فلمّا تساحلوا آذنوا أهلها بالحرب فتزاحفوا ثلاثا يثخن فيهم المسلمون في كلّها قتلا وجراحة بما يناهز آلافا، والطاغية في بطارقته قاعد عن الزحف، فلمّا كان اليوم الثالث واستولت الهزيمة على قومه زحف الطاغية في العسكر فانهزم المسلمون، ولجئوا إلى قلعتهم فانحصروا بكعابها، وعقدوا لابن حكم ذمة في أهله وحاشيته، فخرجوا إلى سبتة ونزل الباقون على حكم العدوّ، وسار إلى ميورقة [1] واستولى على ما فيها من الذخيرة والعدّة والأمر بيد الله وحده.
وفي سنة ست وثمانين وستمائة بعدها غدر النصارى بمرسى الخزور فاقتحموها بعد أن ثلموا أسوارها واكتسحوا ما فيها، واحتملوا أهلها أسرى وأضرموا بيوتها نارا. ثم مرّوا بمرسى تونس وانصرفوا إلى بلادهم. وفيها أو في سنة تسع وثمانين وستمائة بعدها نازل أسطول العدوّ مدينة المهديّة، وكان فيها الفرسان لقتالها فزحفوا إليها ثلاثا ظفر بهم المسلمون في كلّها. ثم جاء مدد أهل الأجم فانهزم العدوّ حتى اقتحموا عليهم الأسطول، وانقلبوا خائبين وتمت النعمة.
(الخبر عن استيلاء الأمير أبي بكر زكريا على الثغر المغربي بجاية والجزائر وقسنطينة وأولية ذلك ومصايره)
كان للأمير أبي بكر زكريا ابن السلطان من الترشيح للأمل بهداه وشرف همّته وحسن ملكته، ومخالطته أهلا لعلم ما يشهد له بحسن [2] حاله، وهو الّذي اختطّ المدرسة للعلم بإزاء دار الأقوري حيث كان سكناه بتونس، ولما لحق بتلمسان بعد منجاته من مهلك أبيه ببجاية، نزل على صهره عثمان بن يغمراسن بتلمسان، وجاء في أثره أبو الحسن بن أبي بكر بن سيّد الناس صنيعة أبيه وأخيه بعد أن خلص مع السلطان أبي حفص من الواقعة إلى مرماجنّة. فلما بايع له العرب وبدت مخايل الملك، رأى أبو
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: فأجازهم الى جارتهم منورقة.
[2] وفي نسخة أخرى: بمغبّة.

(6/448)


الحسن إيثار السلطان للفازازي عليهم فنكب عنه، ولحق بالأمير أبي زكريا بتلمسان واستحثّه لطلب ملكه. واستقرض من تجّار بجاية مالا أنفقه في إقامة أبّهة الملك له، وجمع الرجال واصطنع الأولياء.
وفشا الخبر بما يرومه من ذلك، فصدّه عثمان بن يغمراسن عنه بما كان تقلّد من طاعة السلطان أبي حفص على سننهم من الخلفاء بالحضرة قبله، فاعتزم الأمير أبو زكريا على شأنه، وخرج من تلمسان مورّيا بالصيد الّذي كان ينتحله أيام قيامه بينهم، ولحق بداود بن هلال بن عطاف أمير بني يعقوب، وكافة بني عامر من زغبة، أوعز عثمان بن يغمراسن إلى داود بردّه إليه فأبي من إخفار ذمّته، وارتحل معه بقومه إلى آخر بلاد زغبة، ونزلوا على عطية بن سليمان بن سباع من رؤساء الزواودة، فتلقّاه بالطاعة وارتحلوا جميعا إلى ضواحي قسنطينة فدخل العرب سدويكش في طاعته.
ونزل البلد سنة ثلاث وثمانين وستمائة وعاملها يومئذ أبو نوفيان [1] من مشيخة الموحّدين، وكان صاحب بجاية بها أبو الحسن بن طفيل. كان له من العامل صهر فداخل الأمير أبا زكريا في شأن البلد، وشرط لنفسه وصهره فأمضى السلطان شرطهم وأمكنوه من البلد. وأقاموا بها دعوته، وارتحل إلى بجاية وكان قد حدث فيها اضطراب بين أهلها أدّى إلى الخلاف والتباين، واستحثوا الأمير أبا زكريا فأغذّ السير إليهم ودخلها سنة أربع وثمانين وستمائة ويقال إنّ ملكه ببجاية كان سابقا على ملكه بقسنطينة وهو الأصح فيما سمعناه من شيوخنا. وبعث إليهم أهل الجزائر بطاعتهم فاستولى على هذه الثغور القريبة [2] ، وتلقّب المنتخب لإحياء دين الله. وأغفل ذكر أمير المؤمنين أدبا مع عمّه الخليفة بالحضرة، حيث مالأ الموحّدين أهل الحلّ والعقد من الجماعة. ونصب للحجابة أبا الحسين بن سيّد الناس فقام بها، ورسخ ملكه وملك بنيه بهذه الناحية الغربية، وانقسمت به الدولة إلى أن خلص الأمر للملوك من عقبه واستولوا على الحضرة كما نذكره إن شاء الله تعالى والله ولي التوفيق.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابن يوقيان وقد مرّ معنا من قبل.
[2] وفي نسخة أخرى: الغربية.

(6/449)


(الخبر عن حركة الأمير أبي زكريا الى ناحية طرابلس ومنازلة عثمان بن يغمراسن بجاية في مغيبه)
لما استولى الأمير أبو زكريا على الناحية الغربيّة، واقتطعا من أعمال الحضرة اعتمد في الحركة على تونس، فنهض إليها في عساكره سنة خمس وثمانين وستمائة ووفد عليه عبد الله بن رحاب بن محمود من مشيخة ذباب ومانعه الفازازي عن أحواز تونس فنازل قابس وحاصرها، وكان له في قتالها أثر واستولت الهزيمة على مقاتلتها ذات يوم فأثخن فيهم قتلا وأسرا، وهدم ربضها وأحرق المنازل والنخل، وارتحل إلى مسراته وانتهى الى الأبيض وأطاعه الجواري والمحاميد وآل سالم وعرب برقة، وبلغه بمكانه من مسراته أن عثمان بن يغمراسن أسف الى منازلة بجاية وكان من خبره أنّ الأمير أبا زكريا لما فصل من تلمسان لطلب ملكه على كره منه، وامتنع جاره داود بن عطاف من ردّه، وامتلأ له عداوة وحقدا، وجدّد البيعة لصاحب تونس، وأوفد بها علي ابن محمد الخراساني من صنائعه. وكان له أثناء ذلك ظهور على بني توجين ومغراوة بالمغرب الأوسط وضاق ذرع أهل الحضرة بمكان الأمير أبي زكريا من مطالبتهم وتدويخه لقاصيتهم، فداخلوا عثمان بن يغمراسن في منازلة معقلة بعد [1] بجاية ليردّوه على عقبه عنهم، فزحف إلى بجاية سنة ست وثمانين وستمائة ونازلها أياما وامتنع عليه سائر ضواحيها فلم يظفر بأكثر من الأطلال عليها. وانكفأ الأمير أبو زكريا راجعا إلى بجاية سنة ست وثمانين وستمائة إلى أن كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن فاتحة استبداد أهل الجزيرة)
كان في بعض الأيام بين سدّادة وكثّومه [2] من عمل تقيوس فتنة قتل فيها ابن شيخ سداده، وأقسم ليثأرنّ فيه بشيخ كثومة نفسه، وكان عامل توزر محمد بن يحيى بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ثغر بجاية.
[2] وفي نسخة أخرى: كنومة.

(6/450)


أبي بكر التينمللي من مشيخة الموحّدين فتذمّم شيخ كثومة به، وبذل له مالا على نصره من عدوّه، فكاتب الحضرة وأعلن بخلاف أهل سداده واحتشد لهم أهل نفطة وتقيوس، وخرج في حشد أهل توزر وغزاهم في بلدهم ولاذ بإعطاء الرهن، وبذل المال فلم يقبل فأمدّهم أهل نفزاوة وزحفوا إليه، فانهزمت جموعه وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا إلى توزر، وذلك سنة ست وثمانين وستمائة. ثم عاود غزوهم عقب ذلك ففتحوا عليه [1] ثم عقد لهم سلما على الوفاء بمغارمهم واشترطوا أن لا حكم عليهم في سواها، وأنّ رؤساء نفزاوة منهم، فأمضى شرطهم وكان أوّل استبداد أهل الجريه كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن خروج عثمان ابن السلطان أبي دبوس داعيا لنفسه بجهات طرابلس)
كان أبو دبّوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش لما قتل سنة ثمان وخمسين وستمائة، وافترق بنوه وتقلّبوا في الأرض، لحق منهم عثمان بشرق الأندلس، ونزل على طاغية برشلونة فأحسن تكريمه، ووجد هنالك أعقاب عمّه السيّد أبي زيد المتنصّر أخي أبي دبوس في مثواهم من إيالة العدوّ. وكان لهم هنالك مكان وجاه لنزوع أبيهم السيّد أبي زيد عن دينه إلى دينهم، فاستبلغوا في مساهمة قريبهم هذا الوافد، وخطبوا له عن الطاعة خطبا [2] . ووافق ذلك حصول مرغم بن صابر بن عسكر شيخ الجواري من بني دياب في قبضة أسره، وكان قد أسره الغزى [3] من أهل صقلّيّة بنواحي طرابلس سنة اثنتين وثمانين وستمائة وباعوه من أهل برشلونة فاشتراه الطاغية، وقام عنده أسيرا إلى أن نزع إليه عثمان بن أبي دبّوس هذا كما ذكرناه. وشهّر بطلب حق الدعوة الموحّدية [4] وأمّل الظفر في القاصية لبعدها عن الحامية، فعبر البحر إلى طرابلس، وكان من حظوظ كرامته عند الطاغية أن أطلق له مرغم بن صابر، وعقد له حلفا معه على مظاهرته، وجهّز له أساطيل وشحنها بالمدد
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى فبلخوا عليه. وبلخ: تكبّر وحمق.
[2] وفي نسخة ثانية: وخطبوا له من الطاغية حظا. وفي نسختنا تحريف ظاهر.
[3] وفي نسخة ثانية: العدي.
[4] وفي نسخة ثانية: وشمر بطلب حقه في الدعوة الموحدية.

(6/451)


من المقاتلة والأقوات على مال شرطوه، فنزلوا على طرابلس سنة ثمان وثمانين وستمائة واحتشد مرغم قومه وحملهم على طاعة ابن أبي دبّوس، ونازلوا البلد معه ومع جنده من النصرانية فحاصروها ثلاثا، وساء أثرهم فيها. ثم رحل النصارى بأسطولهم وسروا بأقرب السواحل إلى البلد وتنقّل ابن أبي دبّوس ومرغم في نواحي طرابلس بعد أن أنزلوا عليها عسكرا للحصار، فاستوفوا جباية المغارم والوضائع مالا دفعوه للنصارى في شرطهم، وانقلبوا في أسطولهم، وأقام ابن أبي دبّوس يتقلّب مع العرب. واستدعاه ابن مكّي من بعد ذلك لأن يشتدّ به في استبداده [1] ، فلم يتم أمره إلى أن هلك بجربة، والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن مهلك أبي الحسين بن سيّد الناس حاجب بجاية وولاية ابن أبي حي [2] مكانه)
قد قدّمنا سلف هذا الرجل وأوليته، وأنه لحق بالأمير أبي زكريا بتلمسان، وأبلى في خدمته، فلما استولى الأمير أبو زكريا على الثغر الغربي واقتطعه عن أعمال الحضرة، ونزل بجاية وظاهر بها تونس، عقد لأبي الحسين بن سيّد الناس على حجابته، وفوّض إليه فيما وراء بابه وأجراه في رياسته على سنن أبي الحسين الرئيس قبله في دولة المستنصر الّذي كانوا يتلقّنون طرقه، وينزعون إلى مراميه، بل كانت رياسة هذا في حجابته أبلغ من رياسة ابن أبي الحسين لجلاء جوّ الدولة ببجاية من مشيخة الموحّدين الذين يزاحمونه، كما كان ابن أبي الحسين مزاحما بهم، فاستولى أبو الحسين بن سيّد الناس على الدولة ببجاية، وقام بأمر مخدومه أحسن قيام، وصار إلى الحلّ والعقد وانصرفت إليه الوجوه وتمكّن في يده الزمام، إلى أن هلك سنة تسعين وستمائة أعظم ما كان رياسة وأقرب من صاحبه مكانا وشرفا [3] ، فأقام الأمير أبو زكريا مكانه كاتبه أبا القاسم بن أبي حيّ ولا أدري من أوليته أكثر من أنه من جالية الأندلس، وردّ على الدولة، وتصرّف في أعمالها، واتصل بأبي الحسين بن سيّد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: لأنه يشبه به في استبداده.
[2] وفي نسخة أخرى: ابن أبي جبى.
[3] وفي نسخة أخرى: سرا.

(6/452)


الناس فاستكتبه، ثم رقّاه واستخلصه لنفسه، وأجرّه رسنه، وتناول زمام الدولة من يد سيّد الناس، فقادها في يد مظفّر [1] خدمته حتى اجتمعت عليه الوجوه وأمّله الخاصّة، وأطلع السلطان على اضطلاعه وكفايته في أمور مخدومه. وهلك أبو الحسين ابن سيّد الناس، فرشّحه السلطان بخطته فقام بها سائر أيامه وصدرا من أيام ابنه الأمير أبي البقاء حتى كان من أمره ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى من أمره.
(الخبر عن خروج الزاب عن طاعة الأمير أبي حفص الى طاعة الأمير أبي زكريا وانتظام بسكرة في جماعته)
كان السلطان أبو إسحاق قد عقد على الزاب لفضل بن علي بن مزني من مشيخة بسكرة كما قدمناه، فقام بأمره. ولما هلك السلطان عدا عليه بعض أفاريق العرب الموطّنين قرى الزاب بمداخلة قوم من أعدائه، وقتلوه سنة ثلاث وثمانين وستمائة كما نذكره، وأمّلوا الاستبداد بالبلد فدفعهم عنها المشيخة من بني زيّان [2] ، واستقلوا بأمر بلدهم وبايعوا للأمير أبي حفص صاحب الحضرة ودانوا بطاعته على السنن.
وتوقعوا عادية منصور بن فضل بن مزني. وكان لحق بالحضرة عند مهلك أبيه فخاطبوا فيه السلطان أبا حفص ورموه بالدواهي فأمر باعتقاله، وأودع السجن سبع سنين إلى أن فرّ منه ولحق بكوفة من أحياء هلال بن عامر، وهم العرب المتولون أمر جبل أوراس، ونزل على الشبه بأفاريقهم فأركبوه وكسبوه ولحق ببجاية سنة اثنتين وتسعين وستمائة فنزل بباب السلطان، ورغّبه في ملك الزاب، وصانع الحاجب ابن أبي حي بأنواع التحف، وضمن له تحويل الدعوة بالزاب للسلطان الأمير أبو زكريا وتسريب جبايته إليه، فاستماله بذلك وعقد له على الزاب وأمدّه بالعسكر، ونازل بسكرة فامتنعت عليه ورأى مشيختها بنو رمان بعدهم عن صريخ تونس. وإلحاح عدوّهم منصور بن فضل عليهم فأعلنوا بطاعة الأمير أبي زكريا وبعثوا إليه ببيعتهم ووفدهم ودفع عادية بن مزني عنهم، فأرجعهم بما أمّلوه من القبول، وأن تكون
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: مظهر وفي نسخة ثانية مطهر.
[2] وفي نسخة أخرى: بني رمان.

(6/453)


أحكامهم إلى قائد عسكره. ونظر ابن مزني مصروفا إلى بجاية [1] ولما وصل الوفد إلى بسكرة خرجوا إلى القائد ومنصور بن مزني، فأدخلوه البلد ودانوا بالطاعة، وتصرّفت الأمور على ذلك إلى أن كان من أمر منصور بن مزني ما نذكره في أخباره، ولم يزل الزاب في دعوة الأمير أبي زكريا وبنيه إلى أن استولى على الحضرة بعده بنوة لهذا العهد، كما تراه في الأخبار بعد إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مهلك عبد الله الفازازي شيخ الموحدين والحاجب أبي القاسم بن الشيخ رؤساء الدولة)
كان أبو عبد الله الفازازي من مشيخة الموحّدين، وكان خالصة للسلطان أبي حفص، وعقد له على العساكر كما قدّمناه ودفعه إلى الحروب وتمهيد النواحي، فقام في ذلك المقام المحمود، ودوّخ الجهات واستنزل الثّوار ودفعهم، وجبى الخراج وكانت له في ذلك آثار مذكورة، وفي بلاد الجريد ومشيختها تصاريف وأحوال، وهو الّذي امتحن أحمد بن بهلول [2] بسعاية المشيخة من أهل توزر، وكبح عنانه من مراميه إلى الرئاسة عليهم، وهلك آخر حركاته إلى بلاد الجريد على مرحلتين من تونس سنة ثلاث وتسعين وستمائة ولسنة منها كان مهلك الحاجب أبي القاسم بن الشيخ، وكان من خبر أوليته أنه قدم من بلده دانية إلى بجاية سنة ست وعشرين وستمائة واتصل بعاملها محمد بن ياسين فاستكتبه وغلب عليه.
واستدعى ابن ياسين إلى الحضرة وابن الشيخ في جملته، والتمس السلطان من يرشحه لكتابته ويخف عليه، فاطنب ابن ياسين في وصف كاتبه أبي القاسم بن الشيخ وحلاه، وابتلاه السلطان فلم يرضه وصرفه، ثم راجع رأيه فيه واستحسنه ورسمه في خدمته، وأمر ابن أبي الحسين بتلقينه الآداب وتصريفه في وجوه الخدمة ومذاهبها.
فكان له في ذلك غناء وخفّة على مخدومه إلى أن هلك ابن أبي الحسين. وكان الخراج بدار السلطان موقوفا على نظره من جملة ما إليه، وكان قلمه عاملا فيه، فأفرد ابن الشيخ بذلك بعد مهلكه إلى آخر أيام السلطان المنتصر. ولمّا ولي السلطان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الى الجباية فقط.
[2] وفي نسخة أخرى: أحمد بن يملول.

(6/454)


الواثق استبدّ ابن أبي الحسين [1] عليه كما قلناه، فأبقاه على خطته واختصه لنفسه ودرجه في جملته. ثم جاءت دولة السلطان أبي إسحاق فأقامه في رسمه وزاحمه بأبي بكر بن خلدون صاحب أشغاله. وكانت الرئاسة الكبرى على عهده لبنيه أبي فارس، ثم أبي زكريا عبد المؤمن من بعده. ثم كانت قضية الدعي [2] ، فاستولى على ملكهم فاستخلص أبا القاسم بن الشيخ، واستضاف له إلى خطّة التنفيذ كتاب العلامة في فواتح السجلات. فلما ارتجع للسلطان أبي حفص ملكه وقتل الدعيّ، خافه ابن الشيخ لما كان من رتبته عند الدعيّ، فلاذ بالصلحاء لإثارة من الخير والعبادة وصلت بينهم وبينه فشفعوا له وتقبّلها السلطان، وأظهر لهم ذات نفسه في الحاجة إلى استعماله، وقلّده حجابته مجموعة الى تنفيذ كتاب العلامة في فواتح السجلات. فلما ارتجع السلطان أبو حفص ملكه وقتل الخارج وصرف العلامة إلى غيره من طبقة الدولة، فلم يزل على ذلك إلى أن هلك سنة أربع وتسعين وستمائة وبقي اسم الحجابة من بعده في هذه الخطط الثلاث وأمر التدبير والحرب ورياستهما راجع إلى مشيخة الموحّدين إلى أن تصرفت الأحوال، وأديل بعضها من بعض كما يأتيك أثناء الأخبار، وقلّد السلطان من بعد ابن الشيخ حجابته لأبي عبد الله المحبي [3] من طبقة الجند فقام بها إلى آخر الدولة، والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن مهلك السلطان أبي حفص وعهده بالأمر من بعده)
لم يزل السلطان أبو حفص على أكمل حالات الظهور والدعة إلى أن استوفى مدّته، وأصابه وجع أوّل ذي الحجّة من سنة أربع وتسعين وستمائة ثم اشتدّ به الوجع وأهمّه أمر المسلمين وما قلّده من عدّتهم فعهد لابنه عبد الله بالخلافة ثاني أيام التشريق ونكره الموحدون لتخلّفه عن المراتب لصغره وأنه لم يحتلم وتحدّثوا في ذلك. وأفضى الخبر إلى السلطان فأسخطه، وعدل عنهم إلى الشورى مع الوليّ أبي محمد المرجاني. وكان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابن الحببّر.
[2] وفي نسخة أخرى: ثم كانت مضلّة الدعيّ.
[3] وفي النسخة الباريسية: الشخشي وفي نسخة ثانية التحتي.

(6/455)


رأيه فيه جميلا وظنّه به صالحا. وكان الواثق بن المستنصر لما قتل هو وبنوه بمحبسهم فرّت إحدى جواريه، وقد اشتملت على حمل منه إلى رباط هذا الولي فوضعته في بيته، فسمّاه الشيخ محمدا، وعقّ عليه وأطعم الفقراء يومئذ عصيدة الحنطة، فلقّب بأبي عصيدة إلى آخر الدهر. ثم صار بعد الاختفاء ودواعيه إلى قصورهم ونشأ في ظل الخلفاء من قومه، حيث شب وبقيت له مع الولي أبي محمد ذمّة يثابر كل منهما على الوفاء بها، فلما فاوضه السلطان أبو حفص في شأن العهد وقصّ نكير الموحّدين لولده، أشار عليه الشيخ بصرف العهد إلى محمد بن الواثق فتقبّل إشارته وعلم ترشيحه، وأنفذ بذلك عهده بمحضر الملأ ومشيخة الموحّدين، وهلك آخر ذي الحجة سنة أربع وتسعين وستمائة وإلى الله المصير أهـ.
(الخبر عن دولة السلطان أبي عصيدة وما كان على أثرها من الأحوال)
لما هلك السلطان أبو حفص اجتمع الملأ من الموحّدين والأولياء والجند والكافة إلى القصبة، فبايعوا بيعة عامة لوليّ عهده السلطان أبي عبد الله محمد، ويلقّب كما ذكرناه بأبي عصيدة ابن السلطان الواثق في الرابع والعشرين لذي الحجة سنة أربع وتسعين وستمائة فانشرحت ببيعته الصدور، ورضيته الكافة، وتلقب المستنصر باللَّه.
وافتتح أمره بقتل عبد الله ابن السلطان أبي حفص لمكان ترشيحه، وقلّد وزارته محمد ابن يرزيكن من مشيخة الموحّدين، وأبقى محمد الشخشي على خطّة الحجابة وصرف التدبير والعساكر ورياسة الموحدين إلى أبي يحيى زكريا بن أحمد بن محمد اللحياني قتيل السلطان المستنصر، عند تعرّض ابنه للبيعة، واستنامة الخلافة فقام بما دفع إليه من ذلك. وضايقه فيه عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين قبله، حتى إذا نكب وهلك استبدّ هو على الدولة، واستقل الشخشي بحجابته. وكان محمد بن إبراهيم بن الدبّاغ رديفا له فيها.
وكان من خبر ابن الدبّاغ هذا أنّ إبراهيم أباه وفد على تونس في جالية إشبيليّة سنة ست وأربعين وستمائة فولد هو بتونس ونشأ بها، وأفاد صناعة الديوان وحسباته من المبرزين كان فيه أبي الحسن وأبي

(6/456)


الحكم ابني مجاهد، وأصهر إليهما في ابنة أبي الحسن فانكحاه ورشحاه للأمانة على ديوان الأعمال. ولما استقل أبو عبد الله الفازازي بالرياسة استكتبه وكان طياشا مستعصيا على الخليفة، فكان كاتبه محمد بن الدبّاغ يروّضه لأغراض الخليفة إذا دسّها إليه الحاجب ابن الشيخ، فيقع ذلك من الخليفة أحسن الموقع.
ولما ولي السلطان أبو عصيدة وكانت له عنوة سابقة رعاها، وكان حاجبه الشخشي بهمة غفلا عن أدوات الكتاب فاستكتب السلطان ابن الدبّاغ ثم رقّاه إلى كتابة علامته سنة خمس وتسعين وستمائة وكان يتصرّف فيها فأصبح رديفا للشخشي في حجابته، وجرت أمور الدولة على ذلك إلى أن هلك الشخشي سنة تسع وتسعين وستمائة فقلّده السلطان حجابته فاستقلّ بها على ما قدّمناه من أنّ التدبير والحرب مصروف إلى مشيخة الموحّدين.
(الخبر عن نكبة عبد الحق بن سليمان وخبر بنيه من بعده)
كان أبو محمد عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين لعهد السلطان أبي حفص، وأصله من تين ملّل الموطّنين بتبرسق مذ أوّل الدولة، كانت له ولسلفه الرئاسة عليهم، وصارت إليه رياسة الموحّدين كافة بالحضرة أيام هذا السلطان وكان له خالصة وشيعة، وكان حريصا على ولاية ابنه عبد الله للعهد. وكان يدافع نكير الموحدين في ذلك، فأسرّ هاله السلطان أبو عصيدة. ولما استوثق له الأمر، وقتل عبد الله بمحبسه، تقبّض على أبي محمد بن سليمان واعتقله في صفر سنة خمس وتسعين وستمائة. ولم يزل معتقلا إلى أن قتل بمحبسه على رأس المائة، وفرّ عند نكبته ابناه محمد وعبد الله، فأما عبد الله فلحق بالأمير أبي زكريا، وصار في جملته إلى أن دخل تونس مع ابنه السلطان أبي البقاء خالد. وأمّا محمد فأبعد المفرّ ولحق بالمغرب الأقصى، ونزل على يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين بمعسكره من حصار تلمسان، فاستبلغ في تكريمه وأقام عنده مدّة. ثم عاود وطنه ونزل عن طريقه إلى النسك ولبس الصوف. وصحب الصالحين وقضى فريضة الحج، وامتدّ عمره وحسنت فيه ظنون الكافة، واعتقدوا فيه وفي دعائه، وكثرت غاشيته لالتماس البركة

(6/457)


منه. وأوجب الخلفاء إزاء ذلك تجلّة أخرى، وأوفدوه على ملوك زناتة مرّة بعد مرّة في مذاهب الودّ وقصود الخير. وحضر في بعض الجهاد بجبل الفتح عند ما نازلته عساكر السلطان أبي الحسن، ولم يزل هذا دأبه إلى أن هلك في الطاعون الجارف في منتصف المائة الثامنة. والله تعالى أعلم.
(الخبر عن مراسلة يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين ومهاداته)
كان السلطان أبو عصيدة لما استفحل أمره واستوسق ملكه حدّث نفسه بغزو الناحية الغربية وارتجاع ثغورها من يد الأمير أبي زكريا، وكان الأمير أبو زكريا قد انتقض عليه أهل الجزائر بعد مهلك عاملها عليها من الموحدين من بني الكمازير، انبرى بها بعده محمد بن علّان من مشيختها، واستفحل أمر عثمان بن يغمراسن وبني عبد الواد من ورائه، وتغلّبوا على توجين ومغراوة، وبلكّين [1] ، وكان شيعة لصاحب الحضرة بما كان متمسّكا بدعوتهم ومتقبّلا مذهب أبيه في بيعتهم، فقويت عزائم السلطان أبي عصيدة لذلك، ونهض من الحضرة سنة خمس وتسعين وستمائة وتجاوز تخوم عمله إلى أعمال قسنطينة، وأجفلت أمامه الرعايا والقبائل وانتهى إلى ميلة، وفيها كان منقلبة إلى حضرته في رمضان من سنته.
ولما ضايق عمل بجاية بغزوه أعمل الأمير أبو زكريا نظره في تسكين الناحية الغربية ليتفرّغ عنها إلى مدافعة السلطان صاحب الحضرة، فوصل يده بعثمان بن يغمراسن وأكّد معه قديم الصهر بحادث الود والمواصلة. وفي خلال ذلك زحف يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين إلى تلمسان، وألقى عليها بكلكله، واستجاش عثمان بن يغمراسن بالأمير أبي زكريا فأمدّه بعسكر من الموحّدين لقيهم عسكر من بني مرين بناحية تدلس فهزموهم وأثخنوا فيهم قتلا. ورجع فلّهم إلى بجاية وسرّح يوسف بن يعقوب عساكر بني مرين إلى بجاية وعقد عليها لأخيه أبي يحيى بعد أن كان عثمان بن سبّاع وفد عليها نازعا عن صاحب بجاية إليه، ومرغّبا له في ملكها، فأوسع له في الحباء
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مليكش.

(6/458)


والكرامة ما شاء، وبعث معه هذا العسكر فانتهوا إلى بجاية، وضايقوها ثم جاوزوها إلى تاكرارت وبلاد سدويكش، وعاثوا في تلك الجهات ودوّخوها وانقلبوا راجعين إلى السلطان يوسف بن يعقوب بمعسكره من تلمسان.
وكان السلطان أبي عصيدة صاحب الحضرة لما علم بإمداد الأمير أبي زكريا لعثمان بن يغمراسن بعث إلى يوسف بن يعقوب عدوّهم وحرّضه على بجاية ونواحيها، وسفر له [1] في ذلك رئيس الموحّدين أبا عبد الله بن الكجار أولى سفارته. ثم سفر ثانية سنة ثلاث وسبعمائة بهدية ضخمة فأغرب فيها بسرج وسيف ومهماز من الذهب من صنعة الحلي الفاخر من حصى الياقوت والجوهر. ورافقه في هذه السفارة الثانية وزير الدولة أبو عبد الله بن يرزيكن ورجعا بهدية ضخمة من يوسف بن يعقوب كان من جملتها ثلاثمائة من البغال، واتصلت المخاطبات والسفارات والهدايا والملاطفات. وكان يوسف بن يعقوب يكاتب السلطان في تلك الشؤون تعريضا ويكاتب رئيس الموحّدين أبا يحيى اللحياني وتردّد عساكر بني مرين إلى نواحي بجاية إلى أن هلك يوسف بن يعقوب كما يأتي في أخباره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مقتل هداج وفتنة الكعوب وبيعتهم لابن أبي دبوس وما كان بعد ذلك من نكبتهم)
كان هؤلاء الكعوب قد عظمت ثروتهم واصطناعهم منذ قيامهم بأمر الأمير أبي حفص [2] ، فعمّروا ونموا وبطروا النعمة، وكثر عيثهم وفسادهم وطال إضرارهم بالسابلة وحطمهم للجنات، وانتهابهم للزرع، فاضطغن لهم العامّة وحقدوا عليهم سوء آثارهم. ودخل رئيسهم هداج بن عبيد سنة خمس وسبعمائة إلى البلد فحضرته [3] العيون وهمّت به العامة. وحضر المسجد لصلاة الجمعة فتجنّوا عليه بأنه وطئ المسجد بخفّيه. وقال لم أنكر عليه ذلك: «إني أدخل مجلس السلطان بهما»
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وسفر بينهما من ذلك رئيس الموحّدين أبو عبد الله بن اكمارير أولى سفاراته.
[2] وفي نسخة أخرى: كان هؤلاء الكعوب قد أثرتهم الدولة واصطنعتهم منذ قيامهم بأمر الأمير أبي حفص.
[3] وفي نسخة أخرى: فخزرته: من خزر أي نظر بمؤخر عينه.

(6/459)


فثاروا به عقب الصلاة وقتلوه، وجروا شلوه في سكك المدينة، فزاد عيثهم وأجلابهم على السلطان، واستقدم أحمد بن أبي الليل شيخ الكعوب لذلك العهد عثمان بن أبي دبوس من مكانه بنواحي طرابلس، ونصّبه للأمر، وأجلب به على الحضرة ونازلها.
وخرج إليهم الوزير أبو عبد الله بن برزيكن في العساكر فهزمهم، وسار بالعساكر لتمهيد الجهات وتسكين ثائرة العرب، وفد عليه أحمد بن أبي الليل ومعه سليمان بن جامع من رجالات هوّارة بعد أن راجع الطاعة. وصرف ابن أبي دبّوس إلى مكانه فتقبّض عليهما، وبعث بهما إلى الحضرة فلم يزالا معتقلين إلى أن هلك أحمد بمحبسه سنة ثمان وسبعمائة وقام بأمر الكعوب محمد بن أبي الليل ومعه حمزة ومولاهم ابنا أخيه عمر رديفين له. ثم خرج الوزير بعساكره سنة سبع وسبعمائة، واستوفد مولاهم ابن عمر وتقبّض عليه وبعث به إلى الحضرة فاعتقل مع عمّه أحمد. وجاهر أخوه حمزة بالخلاف وأتبعه عليه قومه فكثر عيثهم، وأضروا بالرعايا وكثرت الشكاية من العامة، ولغطوا بها في الأسواق وتصايحوا. ثم نفروا إلى باب القصبة يريدون الثورة فسدّ الباب دونهم فرموا بالحجارة، وهم في ذلك يعتدون ما نزل بهم من الحاجب ابن الدبّاغ ويطلبون شفاء صدورهم بقتله. ورفع أمرهم الحاجب واستلحمهم جميعا [1] فأبى من ذلك السلطان وأمره بملاطفتهم إلى أن مكنت بيعتهم [2] . ثم تتبع بالعقاب من تولى كبر ذلك منهم، وانحسم الداء. وكان ذلك في رمضان من سنة ثمان وسبعمائة واستمرّ العرب في غلوائهم إلى أن هلك السلطان فكان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
(الخبر عن انتقاض أهل الجزائر واستبداد ابن علان بها)
قد قدمنا ما كان من انتقاض الجزائر أيام المستنصر ودخول عساكر الموحّدين عليهم عنوة، واعتقال مشيختهم بتونس حتى أطلقوا بتونس بعد مهلكه، ولما استقلّ الأمير
__________
[1] العبارة غير واضحة وسياق المعنى: ورفع الحاجب أمرهم الى السلطان لاستلحامهم ...
[2] وفي نسخة أخرى: الى أن سكنت هيعتهم.

(6/460)


أبو زكريا الأوسط بملك الثغور الغربية من بجاية وقسنطينة. وكان الوالي على الجزائر ابن الحكم زمن الموحّدين [1] فبادر إلى طاعته باتفاق من مشيخة الجزائر، ووفد عليه. وكتب ابن أكمار بولايتها، فلم يزل واليا عليهم إلى أن نشأت [2] بنو مرين وزحفوا إلى بجاية. وكان ابن أكمار قد أسنّ وهرم فأدركته الوفاة خلال ذلك. وكان ابن علّان من مشيخة الجزائر مختصّا به متصرّفا بأوامره ونواهيه ومصدرا لإمارته.
حصلت له بذلك الرئاسة على أهل الجزائر سائر أيامه. ويقال كان له معه صهر، فلما وصل ابن اكمار حدّثته نفسه بالاستبداد والانتزاء بالجزائر، فبعث عن أهل الشوكة من نظرائه ليلة هلاك أميره، وضرب أعناقهم وأصبح مناديا بالاستبداد. وشغل الأمير أبو زكريا عنه بما كان من منازلة بني مرين ببجاية إلى أن هلك، وبقيت في انتقاضها على الموحدين آخر الدهر إلى أن تملّكها بنو عبد الواد كما يذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مهلك الأمير أبي زكريا وبيعة ابنه الأمير أبي البقاء خالد)
كان الأمير أبو زكريا قد استولى على الثغور الغربية كما قلنا، واقتطعها من أعمال الحضرة، وقسّم الدعوة الحفصية بدولتين. وكان على غاية من الحزم والتيقّظ والصرامة لم يبلغها سواه. وكان كثير الإشراف على وطنه والمباشرة لأعماله بنفسه وسدّ خلله. ولم يزل على ذلك إلى أن هلك على رأس المائة السابعة. وكان قد عهد بالأمر لابنه الأمير أبي البقاء خالد سنة ثمان وتسعين وستمائة وعقد له على قسنطينة وأنزله بها. فلمّا هلك الأمير أبو زكريا جمع الحاجب أبو القاسم بن أبي حي مشيخة الموحدين وطبقات الجند، وأخذ بيعتهم للأمير أبي البقاء وطيّر له بالخير واستقدمه فقدم، وبويع البيعة العامّة، وابقى ابن أبي حي على حجابته واستوزر يحيى بن أبي الأعلام، وقدّم على صنهاجة أبا عبد الرحمن بن يعقوب بن حلوب منهم،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابن اكمازير من مشيخة الموحدين وفي النسخة الباريسية ابن أكمار.
[2] وفي نسخة أخرى: إلى أن كان شأن بني مرين وزحفهم إلى بجاية.

(6/461)


ويسمى المزدار [1] . وقلّد رياسة الموحّدين أبا زكريا يحيى بن زكريا من أهل البيت الحفصيّ واستمرّ الأمر على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن سفارة القاضي الغبريني ومقتله)
قد قدمنا ما كان من زحف بني مرين إلى بجاية بمداخلة صاحب تونس. ولما ولي السلطان أبو البقاء اعتزم على المواصلة مع صاحب تونس قطعا للزبون عنه، وعيّن للسفارة في ذلك شيخ القرابة ببابه أبا زكريا يحيى بن زكريا الحفصي [2] ليحكم شأن المواصلة بينهما. وبعث معه القاضي أبا العبّاس الغبريني كبير بجاية وصاحب شوراها، فأدوا رسالتهم وانقلبوا إلى بجاية، ووجد بطانة السلطان السبيل في الغبريني فأغروه به، وأشاعوا أنه داخل صاحب الحضرة في التوثّب بالسلطان. وتولى كبر ذلك ظافر الكبير وذكّره بحديثه [3] ، وما كان منه في شأن السلطان أبي إسحاق وأنه الّذي أغرى بني غبرين به، فاستوحش منه السلطان وتقبّض عليه سنة أربع وسبعمائة. ثم أغروه بقتله فقتل بمحبسه في سنته تلك، وتولّى قتله منصور التركي، والله غالب على أمره.
(الخبر عن سفارة الحاجب بن أبي حي [4] الى تونس وتنكر السلطان له بعدها وعزله)
ولما ولي السلطان أبو البقاء كانت عساكر بني مرين متردّدة إلى أعمال بجاية بمداخلة صاحب تونس كما ذكرناه، فدوّخوا نواحيها. وكان ابن أبي حي مستبدّا على الدولة في حجابته، فضاق ذرعه بشأنهم وأهمته حال الدولة معهم. ورأى أنّ اتصال اليد بصاحب الحضرة مما يكف عن عزمهم، فعزم على مباشرة ذلك بنفسه لوثوقه من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المزوار.
[2] وفي نسخة أخرى: أبا زكريا الحفصي.
[3] وفي نسخة أخرى: ذكره بجرائره.
[4] وفي نسخة أخرى: ابن أبي جبى.

(6/462)


سلطانه. فخرج من بجاية سنة خمس وسبعمائة وقدم على الحضرة رسولا عن سلطانه، فاهتزّت له الدولة ولقي بما يجب له ولمرسله من البرّ، وأنزله شيخ الموحدين ومدبّر الدولة أبو يحيى زكريا بن اللحياني بداره استبلاغا في تكريمه. وقضى من أمر تلك الرسالة حاجة صدره، وكانت بطانة الأمير أبي البقاء لما خلا لهم وجه سلطانهم منه تهافتوا على النصح إليه والسعاية بابن أبي حي عنده.
وشمّر لذلك يعقوب بن عمر وجلّى فيه وتابعه عليه عبد الله الرخامي من كاتب ابن أبي حي وصديقه بما كان ابن طفيل قريبه يسخط عليه الناس، ويوغر له صدورهم ببأوه وتحقيره بهم، فالحّ له العداوة في كل جانحة وأسخطه على عبد الله الرخامي.
وكان صديقه ومداخلة فتولّى من السعاية فيه مع يعقوب بن عمر كبرها، وألقى إلى السلطان أنّ ابن أبي حي داخل صاحب الحضرة في تمكينه من ثغور قسنطينة وبجاية، بما كان على الأمير [1] العامل بقسنطينة صهرا لابن أبي حي، وهو الّذي ولّاه عليها فاستراب السلطان به، وتنكّر له بعد عوده من تونس. وخشي كل منهما بادرة صاحبه. ثم رغب ابن أبي حي في قضاء فرضه وتخلية سبيله إليه، فأسعف وخرج من بجاية ذاهبا إلى الحج، ولحق بالقبائل من ضواحي قسنطينة وبجاية فنزل عليهم وأقام بينهم مدّة. ثم لحق بتونس وأقام بها إلى حين مهلك السلطان أبي عصيدة وبيعة أبي بكر الشهيد، وحضر دخول الأمير أبي البقاء عليه بتونس، وخلص من تيّار تلك الصدمة فلحق بالمشرق وقضى فرضه. ثم عاد إلى المغرب ومرّ بإفريقية ولحق بتلمسان وأغرى أبا حمو بالحركة على بجاية فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن حجابة أبي عبد الرحمن بن عمر ومصاير أمره)
هو يعقوب بن أبي بكر بن محمد بن عمر السلميّ، وكنيته أبو عبد الرحمن. كان جدّه محمد فيما حدّثني أهل بيتهم قاضيا بشاطبة، وخرج مع الجالية أيام العدوّ إلى
__________
[1] في نسخة أخرى: بما كان علي بن الأمين العامل بقسنطينة.

(6/463)


تونس، ونزل بالربع الجوفي أيام السلطان أبي عصيدة، وانتقل ابناه أبو بكر ومحمد إلى قسنطينة ونزلا على ابن أوقيان العامل عليها من مشيخة الموحدين لعهد الأمير أبي زكريا الأوسط، فأوسعهما عناية وتكريما. وولّى أبا بكر على الديوان واستخلصه لنفسه. وكان يتردّد إلى الحضرة ببجاية في شئونه فاتصل بمرجان الخصيّ من موالي الأمير أبي زكريا وخواص داره، واستخدم على يد الأمير خالد وأمه من كرائم السلطان، فحظي عندهم وتزوّج ابنه يعقوب من بنات [1] القصر، وخوله، ونشأ في جوّ تلك العناية. وأعلقوا بصحبة الحاج فضل قهرمان دار السلطان وخاصته فاستخدم له سائر أيامه إلى أن هلك. وكان الحاج فضل كثيرا ما يتردّد إلى الأندلس لاستجلاب الثياب الحريرية من هنالك وانتقاء أصنافها. وكذلك إلى تونس لاستجادة الثياب منها. وبعثه السلطان آخر أمره إلى الأندلس فاستصحب ابن عمر وهلك الحاج فضل هنالك، فعدل السلطان عن خطاب ابنه محمد إلى خطاب ابن عمر، فأمره بإتمام ذلك العمل والقدوم به، فقدم هو وابن الحاج فضل وساء لهما السلطان عن عملهما، فكان ابن عمر أوعى من صاحبه فحلي بعينه وخفّ عليه، واعتلق بذمة من خدمته أحظته عند السلطان ورقته فاستعمل في الجباية. ثم قلّد أعمال الأشغال وزاحم ابن أبي حي وعبد الله الرخامي، وغصّوا به فأغروا السلطان بنكبته، فنكبه وأشخصه إلى الأندلس فأقام هنالك، واستعطف السلطان أبا البقاء بعد مهلك أبيه، وتشفّع بوسائل خدمته فاستقدمه. وقدم مع علي وحسين ابني الرنداحي، وركب معهما البحر إلى بجاية في مغيب ابن أبي حي عن الحضرة فصادف من السلطان قبولا، وشمّر في السعاية بابن أبي حي مع مرجان إلى أن تم له ما أراد من ذلك. وصرف ابن أبي حي كما ذكرناه، فقلّد السلطان حجابته ليعقوب بن عمر، وقدّم على الأشغال عبد الله الرخامي، وكان ناهضا في أمور الحجابة لمباشرتها مع مخدومه، فأصبح رديفا لابن عمر وغصّ بمكانه فأغرى به السلطان ودلّه على مكامن ثورته وعلى عداوته، فنكب وصودر وامتحن وغرّب إلى ميورقة، حتى افتداه يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين من أسره، واستقدمه ليقلّده أشغاله عند تنكّره لعبد الله
__________
[1] وفي نسخة أخرى: من ربيبات القصر.

(6/464)


ابن أبي مدين كما نذكره في أخباره، فهلك يوسف بن يعقوب دون ما أمل من ذلك، وأقام الرخامي بتلمسان وبها كان مهلكه. واستقل يعقوب بن عمر بأعباء خطّته واضطلع بها، وقوّض إليه السلطان في الإبرام والنقض، فحوّل المراتب بنظره وأجرى الأمور على غرضه. وكان أوّل ما أتاه صرعته لمرجان مصطنعه ملأ صدر السلطان عليه، وحذّره مغبّته فتقبّض عليه وألقي في البحر فالتقمه الحوت، فخلا وجه السلطان لابن عمر وتفرّد بالعقد والحلّ إلى أن استولى السلطان أبو البقاء على الحضرة وكان من أمره ما يذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن ثورة ابن الأمير [1] بقسنطينة وبيعة السلطان أبي عصيدة ثم فتح السلطان أبي البقاء خالد لها وقتله)
كان يوسف بن الأمير الهمدانيّ بعد أن قتله بطنجة أبناء أبي يحيى من بني مرين كما يأتي في أخبارهم، انتقل بنوه إلى تونس أيام المستنصر ورعى لهم السلطان وسيلة قيامهم بالدعوة الحفصية أيام أبي علي بن خلاص بسبتة وبعدها إلى أن غلبهم عليها العز في كما نذكره في أخباره فلقّاهم مبرّة وتكريما، ونزلوا من الحضرة خير نزل تحت جراية ونعمة وعناية. وكان كبيرهم متحمّقا متعاظما فربما لقي في الدولة لذلك عسفا إلا أن الإبقاء عليهم كان مانعا من اضطهادهم. ونشأ بنوهم في ظل ذلك النعيم.
ثم هلك السلطان واضطربت الأمور وضرب الدهر ضرباته، ولحق عليّ منهم بالثغر الغربي، وتأكّدت له مع ابن أبي حي لحمة نسب وذمة صهر ووشجت بينهما عروقها. فلما استقل ابن أبي حي بحجابة الأمير أبي زكريا لم يأل جهدا في مشاركة علي بن الأمير وترقيته المنازل إلى أن ولّاه ثغر قسنطينة مستقلا بها وحاجبا للسلطان أبي بكر بن الأمير أبي زكريا، وأنزله معه فقام بحجابته وأظهر فيها غناءه وحزمه، حتى إذا سخط السلطان ابن أبي حي وصرفه عن حجابته تنكر أبو الحسن بن الأمير وخشي بوادر السلطان فحوّل الدعوة إلى صاحب الحضرة وطيّر إليه بالبيعة، واستدعى المدد والنائب فوصله رئيس الموحدين والدولة أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ابن الأمين.

(6/465)


اللحياني، وعقد البيعة لسلطانه سنة أربع وسبعمائة.
وبلغ الخبر إلى السلطان أبي البقاء ببجاية فنهض إليه بالعساكر آخر سنة أربع وسبعمائة، ونازلة أياما فامتنع عليه، وهمّ بالإفراج عنه. ثم داخل رجل من بطانة ابن الأمير يعرف بابن موزة أبا الحسن بن عثمان من مشيخة الموحدين، وكان معسكره بباب الوادي فناجزهم الحرب من هنالك حتى انتهى إلى السور، فتسنّمه المقاتلة باغضاء ابن موزة لهم عنه، وركب السلطان في العساكر عند الصدمة ووقف على باب البلد، وقد استكمن أولياؤه منه فخرج إليه بنو المعتمد [1] وبنو باديس ومشيخة البلد، فاقتحم البلد عنوة ومضى أبو محمد الرخامي واستنزله. ثم حمله في رجال السلطان إلى دار ابن الأمير فغشيه بها وقد انفضّ عنه الناس واستخفى [2] بغرفة من غرف داره واستمات، فلاطفه الرخامي واستنزله. ثم حمله على برذون مستدبرا، وأحضره بين يدي السلطان فقتل، ونصب شلوه وأصبح آية للمعتبرين والله أعلم.
(الخبر عن حركة السلطان أبي البقاء إلى الجزائر)
قد قدمنا ما كان من خبر انتقاض الجزائر على الأمير أبي زكريا واستبداد ابن علان بها. فلما استولى السلطان أبو البقاء على الأمر وتمهّدت له الأحوال وأقلع بنو مرين بعد مهلك يوسف بن يعقوب عن تلمسان، أعمل السلطان نظره في الحركة إليها، فخرج إليهم سنة سبع وسبعمائة أو ست وسبعمائة وانتهى إلى متيجة ودخل في طاعته منصور بن محمد شيخ ملكين [3] وجمع قومه ولجأ إليه راشد بن محمد بن ثابت بن منديل أمير مغراوة هاربا أمام بني عبد الواد، فآواه إلى ظلّه وألقى عليه جناح حمايته. واحتشد جميع من في تلك النواحي من القبائل وزحف إلى الجزائر وأقام عليها أياما فامتنعت عليه، وانكفأ راجعا إلى حضرته ببجاية، وأقام ملكين على طاعته ومطاولته الجزائر بالقتال إلى أن كان من أمرها. وتغلّب بنو عبد الواد عليها كما نذكره في أخبارهم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بنو المغفل وفي النسخة الباريسية: بنو الغنفذي.
[2] وفي نسخة ثانية: استحصن.
[3] وفي نسخة أخرى ملكيش.

(6/466)


وجاء معه راشد بن محمد إلى بجاية متذمّما لخدمته إلى ان قتله عبد الرحمن بن خلوف كما يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن السلف وشروطه بين صاحب تونس وصاحب بجاية)
لما افتتح السلطان أبو البقاء خالد قسنطينة وقتل ابن الأمير وفرغ من ذلك الشأن أدرك أهل الحضرة الندم على ما استدبروا من مهادنة صاحب الثغر، وقارن ذلك مهلك يوسف بن يعقوب الّذي كانوا يرجونه شاغلا له فجنحوا إلى السلم، وبعثوا وفدهم في ذلك إليه فأسدوا وألحموا. وشرط عليهم السلطان أبو البقاء أن من هلك منهما قبل صاحبه فالأمر من بعده للآخر والبيعة له، فتقرّر [1] الشرط وحضر الملأ والمشيخة من الموحّدين ببجاية، ثم بتونس، فأشهدوا به على أنفسهم، وربط ذلك العهد وأحكمت أو أخيه إلى أن نقضها أهل الحضرة عند مهلك السلطان أبي عصيدة كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن سفر شيخ الدولة بتونس ابن اللحياني لحصار جربة ومضيه منها الى الحج)
لما انعقد أمر هذا الصلح واستتم، راجع رئيس الدولة أبو يحيى زكريا بن اللحياني نظره لنفسه، وأعمل فكره في الخلاص ممن استوطنه [2] ، وكان يؤمل رجوع الوفد المقربين بالمهديّة من أمراء الديار المصرية إلى يوسف بن يعقوب فيصحبهم لقضاء فرضه، وأبطأ عليه شأنهم فاعتزم على قصده وورّى بحركته إلى جزيرة جربة لاسترجاعها من أيدي النصارى والرجوع عنها من بعد ذلك إلى الجريد لتمهيد أحواله.
وتناول الرأي في الظاهر من أمره مع السلطان فأذن له وسرّح معه العساكر فخرج من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فتقبلوا.
[2] وفي نسخة أخرى: من انشوطته.

(6/467)


تونس في جمادى سنة ست وسبعمائة غازيا إلى جربة. ولم يزل يغذّ السير حتى انتهى إلى مجازها. ثم عبر منه إلى الجزيرة، وكان النصارى لما تغلبوا عليها سنة ثمان وثمانين وستمائة شيّدوا بها حصنا لاعتصام الحامية سمّوه بالقشتيل، فنزلت العساكر عليه.
وأنفذ الشيخ أبو يحيى عمّاله للجباية وأقام في منازلته شهرين. ثم انقطعت الأقوات واستعصى الحصن إلّا بالمطاولة فرجع إلى قابس. ثم ارتحل إلى بلاد الجريد وانتهى إلى توزر ونزلها، وأعمل في خدمته أحمد بن محمد بن بهلول [1] من مشيختها، فاستوفى جباية الجريد وعاد إلى قابس.
وأنزله عبد الملك بن عثمان بن مكي بداره، وصرّح بما روى عنه من حجّه. وصرف العساكر إلى الحضرة وولي بعده رياسة الموحدين وتدبير الدولة أبو يعقوب بن يزدوتن، وتحوّل عن قابس إلى بعض جبالها تجافيا عن هوائها الوخم. وأقام في انتظار الركب الحجازي، وكان مريضا فتحوّل إلى طرابلس فأقام بها عاما ونصفه إلى أن وصل وفد الترك من المغرب الأقصى آخر سنة ثمان وسبعمائة فخرج معهم حاجّا، ثم قضى فرضه وعاد فكان من شأنه واستيلائه على منصب الخلافة ما يأتي ذكره. ووصل مدد النصرانية إلى قشتيل سنة ثمان وسبعمائة بعد منصرف العساكر عنهم، وفيهم فردريك ابن الطاغية صاحب صقلّيّة، فقاتلهم أهل الجزيرة من المكارية [2] لنظر أبي عبد الله ابن الحسين من مشيخة الموحدين ومعه ابن أومغار في قومه من أهل جربة فأظفرهم الله بهم. ولم يزل شأن هذه الجزيرة من المكان مع العدوّ كذلك منذ نشأت دولة صنهاجة، وربما وقعت الفتنة بين المكارية فتصل إحدى الطائفتين يدها بالنصارى إلى أن كان ارتجاعها في هذه النوبة سنة [3] وأربعين لعهد مولانا السلطان أبي يحيى كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مهلك السلطان أبي عصيدة وخبر أبي بكر الشهيد)
كان السلطان أبو عصيدة بعد تهيؤ سلطانه [4] ، وتمهيد ملكه، طرقه مرض الاستسقاء
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أحمد بن محمد بن يملول.
[2] وفي نسخة ثانية: النكارين.
[3] بياض بالأصل ولم نهتد إلى تحديد هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا
[4] وفي نسخة أخرى: بعد تملّي سلطانه.

(6/468)


فأزمن به. ثم مات على فراشه في ربيع الآخر سنة تسع وسبعمائة، ولم يخلف ابنا، وكان بقصرهم سبط من أعقاب الأمير أبي زكريا جدّهم من ولد أبي بكر ابنه الّذي ذكرنا وفاته في خبر شقيقه أبي حفص في فتح مليانة أيام السلطان المستنصر، فلم يزل بنوه في قصورهم وفي ظل ملكهم. ونشأ منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر في إيالة السلطان أبي عصيدة، وربي في جميم نعمته. فلما هلك السلطان أبو عصيدة ولم يعقب، وكان السلطان أبو البقاء خالد قد نزع إليه حمزة بن عمر عند إياسه من خروج أخيه من محبسه فرغّبه في ملك الحضرة واستحثه عليها. ثم وصل أبو عبد الله بن يرزيكن السلطان أبا عصيدة واستنهض السلطان أبا البقاء لملك تونس، فنهض كما نذكر. واستراب الموحدون بتونس في شأن حركته فخافوه على أنفسهم، فبايعوا لهذا الأمير أبي بكر الّذي عرف بالشهيد بما كان من قبله لسبع عشرة ليلة من بيعته، وأبقى أبا عبد الله بن يرزيكن على وزارته وزحزح محمد بن الدباغ عن رتبة الحجابة. فتوعّده لما كان يحقد عليه من التقصير به أيام سلطانه، فكان عونا عليه إلى أن هلك عند استيلاء السلطان أبي البقاء كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن استيلاء السلطان أبي البقاء على الحضرة وانفراده بالدعوة الحفصية)
لما بلغ السلطان أبا البقاء بمكانه من بجاية وأعمالها الخبر بمرض السلطان أبي عصيدة مع ما كان من العقد بينهما بأنّ من مات قبل صاحبه جمع الأمر بعده للآخر، داخلته الظنّة أن ينتقض أهل الحضرة في هذا الشرط واعتزم على النهوض لمشارفة الحضرة، ووصل إليه حمزة بن عمر نازعا عنهم، فرغّبه واستحثّه، وخرج من بجاية في عساكره، وورى بالحركة إلى الجزائر لما كان من انتقاضهم على أبيه، واستبداد ابن علّان بها. ثم ارتحل إلى قصر جابر وعند بلوغه إليه ورد الخبر بمهلك السلطان أبي عصيدة وبيعة الموحدين بعده لأبي بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر ابن الأمير أبي زكريا، فاضطغنها على الموحدين.
وأغذّ السير وانحاش إليه كافة أولاد أبي الليل واجتمع أمثالهم أولاد مهلهل إلى

(6/469)


صاحب تونس، وخرج معهم شيخ الدولة أبو يعقوب بن يزدوتن والوزير أبو عبد الله ابن يرزيكن في العساكر للّقاء، ووقّوا سلطانهم بأنفسهم. فلما زحف إليهم السلطان أبو البقاء اختلّ مصافهم وانهزموا وانتهب المعسكر، وقتل الوزير ابن يرزيكن، وأجفلت أحياء العرب إلى القفر، ودخل العسكر إلى البلد واضطرب الأمر، وخرج الأمير أبو بكر بن عبد الرحمن فوقف بساحة البلد قليلا، ثم تفرّق عنه العسكر وتسايلوا إلى السلطان أبي البقاء. وفر أبو بكر ثم أدرك ببعض الجهات فثلّ إلى السلطان فاعتقله في بعض الفازات، وغدا على السلطان أهل الحضرة من المشيخة والموحدين والفقهاء والكافة فعقدوا بيعته. وقتل الأمير فسمّي الشهيد آخر الدهر، وباشر قتله ابن عمه أبو زكريا يحيى بن زكريا شيخ الموحدين. ودخل السلطان من الغد إلى الحضرة واستقل بالخلافة، وتلقّب بالناصر لدين الله المنصور. ثم استضاف إلى لقبه المتوكل. وأبقى أبا يعقوب بن يزدوتن في رياسته على الموحدين مشاركا لأبي زكريا يحيى بن أبي الأعلام الّذي كان رئيسا عنده قبلها واستمرّ على خطة الحجابة أبو عبد الرحمن يعقوب بن عمر، وولّى على الأشغال بالحضرة منصور بن فضل بن مزني، وجرت الحال على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن بيعة ابن مزني يحيى بن خالد ومصاير أموره)
كان يحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحاق في جملة السلطان أبي البقاء خالد، وتنكّرت له الدولة لبعض النزغات فخشي البادرة وفرّ فلحق بمنصور بن مزني. وكان منصور قد استوحش من ابن عمر فدعاه إلى القيام بأمره فأجاب، وعقد له على حجابته، وجمع له العرب وأجمع على قسنطينة أياما، وبها يومئذ ابن طفيل، وكانت قد اجتمعت ليحيى بن خالد زعنفة من الأوغاد اشتملوا عليه واشتمل عليهم، وأغروه بابن مزني فوعدهم إلى حين ظفره، واطلع ابن مزني على سوء دغلته فنفض يده من طاعته، وانصرف عنه إلى بلده، فانفضّت جموعه ابن مزني على سوء دغلته فنفض يده من طاعته، وانصرف عنه إلى بلده، فانفضّت جموعه وراجع ابن مزني طاعة السلطان أبي البقاء ومخالصة بطانته وحاجبه فتقبّلوه، ولحق

(6/470)


يحيى بن خالد بتلمسان مستجيشا، ونزل على أميرها أبي زيّان محمد بن عثمان بن يغمراسن فهلك لأيام من قدومه. وولي بعده أخوه أبو حمو موسى بن عثمان فأمدّه وزحف إلى محاربة قسنطينة فامتنعت عليه. ثم استدعاه ابن مزني إلى بسكرة فأقام عنده وأسنى له الجراية، ورتّب عليه الحرس. وكان السلطان ابن اللحياني يبعث إليه من تونس بالجائزة مصانعة له في شأنه، حتى لقد أقطع له بتونس من قرى الضاحية ما كان للسلطان وابنه، فلم يزل في إسهامه وإسهام بنيه من بعده إلى أن هلك يحيى ابن خالد بمكانه عنده سنة إحدى وعشرين وسبعمائة والله تعالى أعلم.
(الخبر عن بيعة السلطان أبي بكر بقسنطينة على يد الحاجب ابن عمر وأوّلية ذلك)
لما نهض السلطان أبو البقاء إلى الحضرة عقد على بجاية لعبد الرحمن بن يعقوب بن مخلوف [1] مضافا إلى رياسته في قومه كما كانوا يستخلفون أباه عليها عند سفرهم عنها، وكان يلقّب المزوار، وجعله حاجبا لأخيه الأمير أبي بكر على قسنطينة فانتقل إليها.
وعكف السلطان أبو البقاء في تونس على لذّاته وأرهف حدّه وعظم بطشه فقتل عدوان بن المهدي من رجالات سدويكش ودعار بن حريز [2] من رجالات الأثابج فتفاوض رجال الدولة في شأنه وخشوا غدرته [3] وأعمل الحاجب ابن غمر وصاحبه منصور بن فضل عامل الزاب الحيلة في التخلّص من إيالته، واستعصب [4] راشد بن محمد أمير مغراوة، كان نزع إليهم عند استيلاء بني عبد الواد على وطنه فتلقّوه من الكرامة بما يناسبه واستقرّ في جملتهم، وعليه وعلى قومه كانت تدور رحى حروبهم.
واستصحبه السلطان أبو البقاء خالد إلى الحضرة أميرا على زناتة فدفع بعضهم حشمه إلى الحاجب في مقعد حكمه، وقد استعدى عليه بعض الخدم فأمر بقتله لحينه.
وأحفظ ذلك الأمير راشد بن محمد فرتب لها عزائمه، وقوّض خيامه لحينه مغاضبا،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المخلوف.
[2] وفي نسخة أخرى: دعا بن حريز وفي النسخة الباريسية ابن جرير.
[3] وفي نسخة أخرى: بادرته.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى واستغضب.

(6/471)


فوجد الحاجب بذلك سبيلا إلى قصده وتمت حيلته صاحبه. وأهمّ السلطان شأن بجاية ونواحيها، وخشي عليها من راشد بما كان صديقا ملاطفا لعبد الرحمن بن مخلوف وفاوضهما فيمن يدفعه إليها، فأشار عليه الحاجب بمنصور بن مزني، وأشار منصور بالحاجب، وتدافعاها أياما حتى دفعاها جميعا إليه [1] . وطلب ابن غمر من السلطان العقد لأخيه أبي بكر على قسنطينة فعقد له، وولّى عليا ابن عمه الحجابة بتونس نائبا عنه. وفصل من الحضرة ولحق بقسنطينة، وصرف منصور بن فضل إلى عمله بالزاب فكان من خلافه ما يذكر. وقام ابن عمر بخدمة السلطان أبي بكر فتصرّف في حجابته. ثم داخله في الانتقاض على أخيه، وبدت مخايل ذلك عليهم فارتاب لهم السلطان أبو البقاء وأحسّ علي بن الغمر بارتيابه فلحق بقسنطينة. وجهّز السلطان أبو البقاء عسكرا وعقد عليه لظافر مولاه المعروف بالكبير، وسرّحه إلى قسنطينة فانتهى إلى باجة وأناخ [2] بها الى أن كان من أمره ما يذكر.
وبادر ابن غمر إلى المجاهرة بالخلعان ودعا مولانا السلطان أبا بكر إليه فأجابه، وأخذ له البيعة على الناس فتمت سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وتلقّب بالمتوكل وعسكر بظاهر قسنطينة إلى أن بلغه مجاهرة ابن مخلوف بخلافهم، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن استيلاء السلطان على بجاية ومقتل ابن مخلوف وما كان من الادارة في ذلك)
كان يعقوب بن مخلوف ويكنى أبا عبد الرحمن كبير صنهاجة من جند السلطان الموطّنين بنواحي بجاية، وكان له مكان في الدولة وغناء في حروبهم ودفاع عدوّهم. ولما نزلت عساكر بني مرين على بجاية مع أبي يحيى بن يعقوب بن عبد الحق سنة ثلاث وسبعمائة، كان له في حروبهم مقامات مذكورة وآثار معروفة. وكان الأمير أبو زكريا وابنه يستخلفونه ببجاية أزمان سفرهم عنها، وكان يلقّب بالمزوار. ولما هلك خلفه في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حتى دفعهما جميعا إليها.
[2] وفي نسخة أخرى: أراح.

(6/472)


سبيله تلك ابنه عبد الرحمن واستخلفه السلطان أبو البقاء خالد على بجاية عند ما نهض إلى تونس سنة تسع وسبعمائة وأنزله بها، وكان طموحا لجوجا مدلا ببأسه وقدمه ومكانه من الدولة. فلما دعا السلطان أبو بكر لنفسه وخلع طاعة أخيه، وأخذ له أبو عبد الرحمن بن غمر البيعة على الناس وخاطبوه بأخذ البيعة له على من يليه ببجاية وأعمالها فأبى منها، وتمسّك بدعوة صاحبه، ونفس على ابن عمر ما تحصّل له من ذلك من الحظ فجاهر بخلافهم.
وجمع واحتشد وتقبّض على صاحب الأشغال عبد الواحد ابن القاضي أبي العباس الغماري وعلى صاحب الديوان محمد بن يحيى القالون مصطنع الحاجب ابن غمر من أهل المريّة كان أسدى إليه عند اجتيازه به معروفا، ورحل إليه عند ما استولى على الرتبة ببجاية، فكافأه عن معروفه واصطنعه وألقى عليه محبته ورقاه إلى الرتب، وصرّفه في أعمال الجباية وقلّده ديوان بجاية، فتقبّض عبد الرحمن بن مخلوف عليه وعلى صاحبه. وجمع الناس وأعلن بالدعوة للسلطان أبي البقاء خالد وارتحل السلطان أبو بكر من معسكر بظاهر قسنطينة وأغذّ السير إلى بجاية، ونزل مطلّا عليها وأمهل الناس عامة يومهم [1] وشرط ابن مخلوف على السلطان عزل ابن غمر، وتردّدت الرسل بينهم في ذلك. وكان الوزير أبو زكريا بن أبي الأعلام من الساعين في هذا الإصلاح بما كان له من الصهر مع ابن مخلوف. وحين رجع إليه بامتناع السلطان عن شرطه منعه من الرجوع إليهم وحبسه عنده، وزحف أهل المعسكر بالسلطان وخاموا عن لقاء صنهاجة ومن معهم من مغراوة أهل الشوكة والعصبية والعدد والقوّة.
وأجفل السلطان من معسكره فانتهب وأخذت آلته، وسلب من كان في المعسكر من أخلاط الناس. ودخل السلطان إلى قسنطينة في فلّ من عسكره، وبعث ابن مخلوف عسكرا في اتباعه فوصلوا إلى ميلة فدخلوها عنوة. ثم وصلوا إلى قسنطينة فقاتلوها أياما، ثم رجعوا إلى بجاية. وأقام السلطان واضطرب أمره، وتوقع زحف ظافر إليه من باجة، واتصل به أنّ أبا يحيى زكريا بن أحمد اللحياني قفل من المشرق، وأنه لما انتهى إلى طرابلس دعا لنفسه لما وجد بإفريقية من الاضطراب، فبويع وتوافت إليه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: واقتتل الناس عامة يومهم.

(6/473)


العرب من كل جهة، فرأى السلطان من مذاهب الحزم أن يبعث إليه بالحاجب ابن أبي عبد الرحمن بن غمر ليشيد من سلطانه، ويشتغل أهل الحضرة عنه، فورّى بالفرار عن السلطان وتواطأ معه على المكر بابن مخلوف في ذلك.
ولحق ابن عمر باللحياني واستحثّه لملك تونس وهوّن عليه الأمر، وغدا السلطان عند فصول ابن غمر على منازله فكبسها وسطا بحاشيته، وولّى حجابته حسن بن إبراهيم ابن أبي بكر بن ثابت رئيس أهل الجبل المطل على قسنطينة والفل من كتامة، يعرف قومه ببني نهلان [1] ، وكان قد اصطنعه من قبل، وارتحل بالعساكر إلى بجاية سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، واستخلف على قسنطينة عبد الله بن ثابت أخا الحاجب.
وأشيع بالجهات أن السلطان تنكّر لابن غمر وسخطه، وأنه ذهب إلى ابن اللحياني واستجاشه على الحضرة، وبلغ ذلك ابن مخلوف واستيقن اضطراب حال السلطان خالد بتونس فطمع في حجابة السلطان أبي بكر، وتوثّق لنفسه منه بالعهد بمداخلة عثمان بن شبل بن عثمان بن سبّاع بن يحيى من رجالات الزواودة والولي يعقوب الملاذي [2] من نواحي قسنطينة. وأغذّ السير من بجاية ولقي السلطان بغرجيوه من بلاد سدويكش فلقّاه مبرّة ورحبا. ثم استدعاه من جوف الليل إلى رواقه في سرب من مواليه فعاقرهم الخمر إلى أن ثمل، واستغضبوه ببعض النزعات فغضب وأقزع فتناولوه طعنا بالخناجر إلى أن قتلوه، وجرّوا شلوه فطرحوه بين الفساطيط، وتقبّض على سائر قومه وحاشيته، وفرّ كاتبه عبد الله بن هلال فلحق بالمغرب. وارتحل السلطان مغذّا إلى بجاية فدخلها وظفر بها، وتملّك بها حتى ربا ملكه وعلا، وكان دخوله إلى بجاية على حين غفلة من أهلها واستولى السلطان على سائر المملكة التي كانت تحت إيالة أبيه بالجهة المعروفة بالناحية الغربية، وتكمل واستوثق له أمرها، وأقام في انتظار صاحبه ابن غمر إلى أن كان من الأمر ما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ضيلان وفي نسخة أخرى نليلان وفي نسخة ثانية: تيلان.
[2] وفي نسخة ثانية: الملاري.

(6/474)


(الخبر عن مهلك السلطان أبي البقاء خالد واستيلاء السلطان أبي يحيى بن اللحياني على الحضرة)
كان السلطان أبو البقاء خالد بعد بيعة السلطان أبي بكر بقسنطينة قد اضطربت أحواله وجهّز إليه العساكر لمنازلة قسنطينة، وعقد عليها لمولاه ظافر المعروف بالكبير فعسكر ببجاية [1] وأراح ينتظر أمر السلطان. وكان أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد ابن اللحياني ابن أبي محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص قد بويع بطرابلس لما قفل من المشرق، ورأى اضطراب الأحوال ووفد عليه هنالك الحاجب أبو عبد الرحمن بن عمر بهدية من السلطان أبي بكر، وأنّه يمدّه ويظاهره على شأنه، فأحكم ذلك من عقدته وشدّ من أمره، وتوافت إليه رجالات الكعوب أولاد أبي الليل، ومعهم شيخ دولته أبو عبد الله محمد بن محمد المزدوري فأغذّوا السير إلى الحضرة. وبعث السلطان إلى مولاه ظافر بمكانه من باجة مستجيشا به، فاعترضوه قبل وصوله وأوقعوا به واعتقلوا ظافرا وصبحوا تونس ثامن جمادى سنة إحدى عشرة وسبعمائة ووقفوا بساحتها فكانت هيعة بالبلد قتل فيها شيخ الدولة أبو زكريا الحفصي، وعدا القاضي أبو إسحاق بن عبد الرفيع على السلطان. وكان متبوعا صارما قويّ الشكيمة، فأغراه بمدافعة العدوّ فخام عن لقائه، واعتذر بالمرض وأشهد بالانخلاع عن الأمر وحل البيعة. ودخل أبو عبد الله المزدوري القصر فاستمكن من اعتقاله.
ثم جاء السلطان أبو يحيى زكريا بن اللحياني على أثره بلا تأخر ثاني رجب فبويع البيعة العامّة بظاهرها ودخل إلى البلد، واستولى عليها، وولّى على حجابته كاتبه أبا زكريا يحيى بن علي بن يعقوب، وعلى الاشغال بالحضرة ابن عمه محمد بن يعقوب وبنو يعقوب هؤلاء أهل بيت بشاطبة من بيوت العلم والقضاء، قدموا إلى الحضرة مع الجالية، وكان منهم أبو القاسم عبد الرحمن بن يعقوب، وفد مع ابن الأمين صاحب طنجة كما قدّمناه. وتصرّف في القضاء بإفريقية، وولّاه السلطان المستنصر قضاء الحضرة. وسافر عنه إلى ملوك مصر، وكان بنو علي هؤلاء عبد الواحد ويحيى ومحمد من أقاربه، فكان لهم ظهور في دولة السلطان أبي حفص وبعدها، وكان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: باجة

(6/475)


عبد الواحد منهم صاحب جباية الجريد، وهلك بتوزر سنة اثنتين وسبعمائة. وكان السلطان أبو يحيى بن اللحياني قد استكتب أخاه أبا زكريا يحيى أيام رياسته على الموحّدين فحظي عنده واختصّه ولازمه وحج معه. فلما ولي الخلافة أحظاه وولّاه حجابته. ولما استقرّ بتونس استوثق له الأمر أعاد الحاجب أبا عبد الرحمن بن غمر إلى مرسلة السلطان ابن بكر بعد أن وثق معه العهد إلى أبي يحيى على المعاهدة [1] ، وضمن له ابن غمر من ذلك ما رضيه وتمسّك بابن عمّه على ابن غمر فأقام عنده مكرما متسع الجراية والإسهام إلى أن كان من الأمر ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
(الخبر عن قدوم ابن عمر على السلطان ببجاية ونكبة ابن ثابت وظافر الكبير)
لما قدم ابن غمر على بجاية استبدّ بحجابته وكفالته كما كان، وليوم وصوله فرّ عبد الله ابن هلال كاتبه ابن مخلوف، ولحق بتلمسان وشمّر ابن غمر عزائمه للاطلاع بأمره، ودفع حسن بن إبراهيم بن ثابت عن الرتبة فلم يتزحزح يوما [2] ، وخرج لجباية الوطن. ثم أغرى به السلطان وحذّره من استبداده بقسنطينة لمكان معقلة المجاور لها وسعايات تنصّح بها حتى صادفت القبول لمكانه والوثوق بنصائحه. وخرج السلطان في العساكر من بجاية إلى قسنطينة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة للنظر في أحوالها. فلما انتهى إلى فرجيوه لقيه عبد الله بن ثابت فتقبّض عليه وعلى أخيه حسن بن الحاجب سنة ثلاث عشرة وسبعمائة بعد أن استصفى أموالهما، ويقال إنه بعد خروج حسن بن ثابت إلى عمل قسنطينة بعث في أثره بعض مواليه، وأوعز معهم إلى عمل عبد الكريم بن منديل ورجالات سدويكش فقتلوه بوادي القطن. وأنّ السلطان لم يباشر نكبته، وكان ظافر الكبير بعد انهزامه وحصوله في أسر العرب كما قدّمناه أنعموا عليه وأطلقوه، ولحق بالسلطان أبي بكر فآثره واستخلصه كما كان لأخيه، وولّاه على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أعاد الحاجب أبا عبد الرحمن بن غمر الى مرسلة السلطان أبي يحيى بعد أن وثق العهد معه على المهادنة.
[2] وفي نسخة ثانية: فلم يتزحزح له.

(6/476)


قسنطينة عند نكبة ابن ثابت. واستكتب أبا القاسم بن عبد العزيز لخلوّه من الولايات فأقام ظافرا واليا بقسنطينة. ثم استقدمه السلطان إلى بجاية وقد غصّ ابن غمر بمكانه، فأغرى به السلطان فتقبّض عليه وأشخصه في السعية [1] إلى الأندلس والله أعلم.
(الخبر عن منازلة عساكر بني عبد الواد ببجاية وما كان في أثر ذلك من الاحداث)
كان السلطان أبو يحيى بعد انهزام جنده عن بجاية سنة عشر وسبعمائة بعث سعيد بن بشر بن يخلف عن مواليه إلى أبي حموّ موسى بن عثمان بن يغمراسن. وكان قد أتيح له في زناتة المغرب الأوسط ظفر واعتزاز. فملك أمصارهم من أيدي بني مرين من بعد مهلك يوسف بن يعقوب على تلمسان ودوّخ جهاته، واستولى على أعمال مغراوة وتوجين، وملك الجزائر، واستنزل منها ابن علّان الثائر بها وملك تدلس من يد ابن مخلوف فبعث إليه السلطان في المواصلة والمظافرة، وأن تكون يدهما على ابن مخلوف واحدة، فطمع لذلك موسى بن عثمان في ملك بجاية. ثم بلغه مهلك ابن مخلوف فبعث إليه السلطان في المواصلة واستيلاء السلطان على ثغره فاستمرّ على المطالبة.
وادّعى أنّ بجاية له في شرطه، وقارن ذلك لحاق صنهاجة إليه عند مهلك صاحبهم فرغّبوه في ملك بجاية وضمنوا له أمرها. ثم قدم عثمان بن سبّاع بن يحيى مغاضبا للسلطان بما كان من إساءته عليه في ابن مخلوف وإخفار ذمّته وعهده فيه، واستقرّ عنده ابن أبي يحيى بعد منصرفه عن الحجابة [2] ، ورجوعه من الحج فرغّبوه في ذلك واستحثّوه لطلب بجاية، فسرّح العساكر إليها لنظر محمد ابن عمه يوسف بن يغمراسن ومسعود ابن عمّه أبي عامر إبراهيم ومولاه مسامح. وبعث معهما أبا القاسم ابن أبي يحيى الحاجب ففصلوا عنه بدار مقامه بشلف، فأغذّوا السير. وهلك ابن أبي يحيى في طريقه بجبل الزاب ونازلوا البلد. ثم جاوزوها إلى الجهات الشرقية
__________
[1] وفي نسخة ثانية: السفين.
[2] وفي نسخة ثانية: واستقر عنده ابن أبي جبى منذ منصرفه عن الحجابة.

(6/477)


فأثخنوا فيها ودخلوا جبل ابن ثابت، واستولوا عليه واستباحوه سنة ثلاث عشرة وسبعمائة ونالت منهم الحامية في المدافعة بالقتل والجراحات أعظم النيل، وقفلوا راجعين فشيّدوا حصنا بأصفون وشحنوه بالأقوات. ولما وصل محمد بن يوسف ومسامح وبّخهما وطوفهما ذنب القصور والعجز وعزلهما. وبعث السلطان عسكرا في البر وأسطولا في البحر بعد رجوعه من قسنطينة سنة أربع عشرة وسبعمائة لهدم حصن بني عبد الواد بأصفون، فخرّب وانتهبت أقواته وعدده، وسرّح أبو حمو عسكرا آخر لحصار بجاية عقد عليه لمسعود ابن عمّه ابن أبي عامر بن إبراهيم بن يغمراسن، فنازلوها سنة خمس عشرة وسبعمائة واتصل بهم خروج محمد بن يوسف بن يغمراسن بني توجين معه على أبي حموّ، وأنهم أوقعوا به وهزموه، واستولوا على معسكره، فأجفل مسعود بن أبي عامر وعسكره وأفرجوا عن بجاية. ووصل على أثرها خطاب محمد بن يوسف بالطاعة والانحياش فبعث السلطان إليه صنيعته محمد ابن الحاج فضل بالهدية والآلة، ووعده بالمظاهر وتسويغ السهام التي كانت ليغمراسن بإفريقية. وشغل ابن عبد الواد عن بجاية، وخرج السلطان في عساكره للإشراف على وطنه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن استبداد ابن غمر ببجاية)
لم يزل ابن غمر مستبدّا على السلطان في حجابته يرى أنّ زمامه بيده وأمره متوقف على إنفاذه. وصار يغريه ببطانته فيقتلهم ويغرّمهم [1] ، وربما كان السلطان يأنف من استبداده عليه. وداخله بعض أهل قسنطينة سنة ثلاث عشرة وتسعمائة في اغتياله ابن غمر فهمّوا بذلك، ولم يتم ففطن لها ابن غمر فأوقع بهم وقسّمهم بين النكال والعذاب فرقا. ثم رجع السلطان إلى بجاية سنة ثلاث عشرة وسبعمائة لما أهمهم من حصاره، واتصلت حاله معه على ذلك النحو من الاستبداد إلى أن بلغ السلطان أشدّه وأرهف حدّه وسطا محمد بن فضل فقتلهم في خلوة معاقرته من غير مؤامرة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يغرّبهم.

(6/478)


الحاجب. وباكر ابن غمر مقعدة بباب دار السلطان فوجد شلوه ملقى في الطريق مضرّجا في ثيابه، وأخبر أنّ السلطان سطا به فداخله الريب من استبداد السلطان وإرهاف حدّه، وخشي بوادره، وتوقّع سعاية البطانة وأهل الخلوة. فتحيّل في بعده عنه واستبداده بالثغر دونه فأغراه بطلب إفريقية من يد ابن اللحياني، وجهّزه بما يصلح من الآله والفساطيط والعساكر والخدام، ورتّب له المراتب. وارتحل السلطان إلى قسنطينة سنة خمس عشرة وسبعمائة ثم تقدّم غازيا إلى بلاد هوّارة، وأجفل عنها ظافرا بهم [1] وكان قائدها من مواليهم. فاستوفى جباية هوّارة، وقفل إلى قسنطينة سنة ست عشرة وسبعمائة واستبدّ ابن غمر ببجاية ومدافعة العدوّ من زناتة عنها.
واستخلف على حجابة السلطان محمد بن قالون، وقرّت عينه بما كان يؤمّل من استبداده إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن سفر السلطان أبي يحيى اللحياني الى قابس وتجافيه عن الخلافة)
كان هذا السلطان أبو يحيى اللحياني قد طعن في السنّ، وكان بصيرا بالسياسة مجرّبا للأمور، وكان يرى من نفسه العجز عن حمل الخلافة واستحقاقها مع أبناء الأمير أبي زكريا الأكبر. وعلم مع ذلك استفحال صاحب الثغور الغربية الأمير أبي بكر واستغلاظ أمره بمن انتظم في ملكه [2] ، وارتسم في ديوان جنده من أعياص زناتة وفحول شولهم من توجين ومغراوة وبني عبد الواد وبني مرين. كانوا يفزعون إليه مع الأيام عن ملوكهم خشية على أنفسهم، لما قاسموهم في النسب وساهموهم في يعسوبيّة القبيل وفحوليّة الشول، ومنهم من غلبوا على مواطنهم فملكوها عليهم مثل مغراوة وبني نوجين وملكيش، فاستكشف بذلك جند السلطان وكثرت جموعه وهابه الملوك.
ونهض سنة ست عشرة وسبعمائة إلى إفريقية وجال في بلاد هوّارة وأخذ جبايتها كما ذكرنا، فتوقّع السلطان ابن اللحياني زحفه إليه بتونس. وكانت إفريقية مضطربة عليه، وكان تعويله في الحامية والمدافعة على أوليائه من العرب، تولى منهم حمزة بن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية ثم. وفي نسخة أخرى. وأجفل عنها ظافرا ممن تعاطى قائدها من مواليهم.
[2] وفي النسخة الباريسية: في جملته.

(6/479)


عليّ بن عمر بن أبي الليل فحكمه في أمره وأشركه في سلطانه، وأفرده برياسة العرب وأجرّه الرسن، وسرّب إليه الأموال، وكثر بذلك زبون العرب واختلافهم عليه، فاجتمع على التقويض عن إفريقية ونفض اليد من الخلافة، فجمع الأموال والذخيرة، وباع ما كان بمودعاتهم من الآنية والفرش والخرثيّ والماعون والمتاع، حتى الكتب التي كان الأمير أبو زكريا الأكبر جمعها واستجاد أصولها ودواوينها، أخرجت للورّاقين فبيعت بدكاكين سوقهم. فجمع من ذلك زعموا قناطير من الذهب تجاوز العشرين قنطارا وجوالقين من حصى الدرّ والياقوت، وخرج من تونس إلى قابس موريا بمشارفة عملها فاتح سنة سبع عشرة وسبعمائة بعد أن رتّب الحامية بالحضرة وباجة والحمامات، واستخلف بالحضرة أبا الحسن بن وانودين وانتهى إلى قابس فأقام بها، وصرف القمال في جهاتها إلى أن كان من بيعة ولده بتونس كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن نهوض السلطان أبي بكر الى الحضرة ورجوعه إلى قسنطينة)
لما رجع [1] السلطان من هوّارة إلى قسنطينة سنة ست عشرة وسبعمائة كما قدّمناه استبلغ في جهاد حركة أخرى إلى تونس، فاحتشد وقسّم العطاء وأزاح العلل، واعترض الجنود على طبقاتهم من زناتة والعرب وسدويكش. واستخلف على قسنطينة الحاجب محمد بن القالون وبعث إلى حاجبه الأعظم أبي عبد الرحمن بن عمر [2] بمكانه من إمارة بجاية في مدد المال للنفقات والأعطيات. فبعث إليه منصور بن فضل بن مزني عامل الزاب، وكان ابن عمر لما رأى من كفايته وأنه جمّاعة للمال، استضاف له عمل جبل أوراس والحصنة وسدويكش وعياض وسائر أعمال الضاحية، فكانت أعمال الجباية كلّها لنظره، وأموالها في حساب دخله وخرجه، فبعثه ابن عمر ليقيم إنفاق السلطان. واستخلفه على خطة حجابته، وارتحل السلطان من قسنطينة في جمادى سنة سبع عشرة وسبعمائة يطوي المراحل. ولقيه في طريقه وفود العرب،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: خرج.
[2] وفي النسخة الباريسية ابن عمرو في النسخة التونسية ابن غمر

(6/480)


وانتهى إلى باجة مستغيثا [1] حاميتها إلى تونس.
وكان السلطان أبو يحيى اللحياني قد خرج عنها إلى قابس كما قدّمناه، واستخلف عليها أبا الحسن بن وانودين، وبعث إليه بنهوض السلطان أبي بكر إلى تونس، وأنه محتاج إلى المدافعة، فاعتذر لهم اللحياني بما قبله من الأموال، وأطلق يدهم في الجيش والمال، فأركبوا واستلحقوا ورتّبوا الديوان، وأخرجوا ابنه محمدا ويكنى أبا ضربة فأطلقوه من اعتقاله.
ولقيهم الخبر بإشراف السلطان أبي بكر على باجة، فخرجوا جميعا من تونس، وخالفهم إلى السلطان مولاهم ابن عمر بن أبي الليل. كان مضطغنا على الدولة متربّصا بها، لما كان اللحياني يؤثر عليه أخاه حمزة، فلقي السلطان في دوين باجة، فأعطاه صفقته واستحثّه، ووصل إلى تونس، فنزل روض السنافرة [2] من رياض السلطان في شعبان من سنة سبع عشرة وسبعمائة وخرج إليه الملأ وتردّدوا في البيعة بعض الشيء انتظارا لشأن أبي ضربة وأصحابه. وكان من خبرهم أنّ السلطان لما أغذ السير من باجة بادر حمزة بن عمر إلى بطانة اللحياني وأوليائه بتونس، فلقيهم وقد خرجوا عنها، فأشار عليهم ببيعة أبي ضربة ابن السلطان اللحياني ومزاحفة القوم به، فبايعوه وزحفوا إلى لقاء السلطان.
ودسّ حمزة إلى أخيه مولاهم أن يزحف بالمعسكر فأجفل السلطان عن مقامته بروض السنافرة لسبعة أيام من احتلاله قبل أن يستكمل البيعة، وارتحل إلى قسنطينة ورجع عنه مولاهم من تخوم وطنه، وسرّح منصور بن مزني إلى عمر ابن عمر بباجة ودخل أبو ضربة بن اللحياني والموحّدون إلى تونس منتصف شعبان من سنته. وبويع بالحضرة البيعة العامّة وتلقّب المستنصر. وأراد أهل تونس على إدارة سور بالأرباض فيكون سياجا عليها، فأجابوه إلى ذلك وشرع فيه، وأوهنه العرب في مطالبهم واشتطّوا عليه في شروطهم إلى أن عاود مولانا السلطان حركته كما نذكر إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فانفضّت.
[2] وفي نسخة أخرى: روض السناجرة.

(6/481)


(الخبر عن استيلاء السلطان أبي بكر على الحضرة وإيقاعه بأبي ضربة وفرار أبيه من طرابلس الى المشرق)
لما قفل السلطان من تونس إلى قسنطينة بعث قائد محمد بن سيّد الناس بين يديه إلى بجاية فارتاب لذلك ابن عمر بوصول أمره [1] ، وتنكّر له وشعر السلطان بذلك.
وأغضى له وطالبه في المدد، فاحتفل في الحشد والآلة والأبنية. وبعث إليه سبعة من رجال الدولة بسبعة عساكر وهم: محمد بن سيّد الناس، ومحمد بن الحكم، وظافر السنّان وأخوه من موالي الأمير أبي زكريا الأوسط، ومحمد المديوني ومحمد المجرسي ومحمد البطوي [2] . وبعث له من فحول زناتة وعظمائهم عبد الحق بن عثمان من أعياص بني مرين، كان ارتحل إليه من الأندلس كما نذكر في خبره، وأبا رشيد بن محمد بن يوسف من أعياص بني عبد الواد فيمن كان معهم من قومهم وحاشيتهم.
توافوا بعساكرهم عند السلطان بقسنطينة، فاعتزم على معاودة الزحف إلى تونس، وكان قد اختبر أحوال إفريقية وأحسن في ارتيادها، فخرج في صفر من سنة ثماني عشرة وسبعمائة واستعمل على حجابته أبا عبد الله بن القالون، ويرادفه أبو الحسن بن عمرو وافاه بالأندلس وفد هوّارة وكبيرهم سليمان بن جامع، وأخبروه بأنّ ضربة بن اللحياني انتقل [3] من باجة بعد أن نازلها معتزما على اللقاء، فارتحل مولانا السلطان مغذّا ولقيه مولاهم بن عمر فراجع الطاعة، وارتحلوا في أتباع أبي ضربة وجموعه حتى شارفوا على القيروان، فخرج إليه عاملها ومشيختها فألقوا إليه باليد وأعطوا الطاعة.
وارتحل السلطان راجعا عن اتباع عدوّه إلى الحضرة وقد نزل بها أبو ضربة بن اللحياني من بطانة محمد بن الغلاق ليمانع دونها، فأخرج الرماة إلى ساحتها وقفل العساكر ساعة من النهار. ثم اقتحموها عليه، واستبيح عامّة أرباضها وقتل ابن الغلاق ودخل السلطان إلى الحضرة في ربيع من سنته، فأقام خلالا انعقدت بين العامّة. وقدّم على
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: فارتاب ابن غمر بوصوله.
[2] وفي نسخة أخرى: محمد البطوني.
[3] وفي نسخة أخرى: أجفل.

(6/482)


الشرطة ميمون بن أبي زيد واستخلفه على البلد. ورحل في اتباع أبي ضربة بن اللحياني وجموعه فأوقع بهم بمصبوح [1] من جهات بلاد هوارة.
وقتل من مشيخة الموحّدين أبو عبد الله بن الشهيد من أهل البيت الحفصي، وأبو عبد الله بن ياسين. ومن طبقات الكتّاب أبو الفضل البجائي [2] وتقبّض على شيخ الدولة أبي محمد عبد الله بن يغمور. وقيد إلى السلطان فعفا عنه وقومه [3] ليومه. ثم أعاده إلى خطته بعد ذلك. ورجع السلطان إلى تونس من سنته. وكان السلطان أبو عيسى بن اللحياني لما بلغه الخبر بنهوض السلطان إلى تونس حركته الثانية سنة سبع عشرة وسبعمائة وما كان من بيعة الموحّدين والعرب لابنه أبي ضربة، وارتحل من مقامه بقابس إلى نواحي طرابلس. ثم بلغه رجوع السلطان إلى قسنطينة فأوطن طرابلس فبنى مقعدا لملكه بسور البلد مما يلي البحر سمّاه الطارمة، وبعث العمّال في الجهات لجباية الأموال، وبعث على جبال طرابلس أبا عبد الله بن يعقوب قريب حاجبه ومعه هجرس بن مرغم كبير الجواري من ذئاب [4] فدوّخ البلاد وفتح المعاقل وجبى الأموال وانتهى إلى برقة. واستخدم آل سالم وآل سليمان من عرب ذئاب، ورجع إلى سلطانه بطرابلس ووافاه الجند بانهزام أبي ضربة ابنه، فبعث حاجبه أبا زكريا بن يعقوب ووزيره أبا عبد الله بن ياسين بالأموال لاحتشاد العرب، ففرّقوها في علّاق وذئاب وزحف أبو ضربة إلى القيروان. وبلغ خبره إلى السلطان أبي بكر فخرج من تونس آخر شعبان من سنة ثمان عشرة وسبعمائة فأجفلوا عن القيروان. ثم تذامروا وعقلوا رواحلهم مستميتين بزعمهم حتى أطلّت عليهم العساكر بمكان فجّ النعام، فانفضت جموعهم وشرّدت رواحلهم وارتحلوا منهزمين، والقتل والنهب يأخذ منهم مأخذه. ولجأ أبو ضربة في فلّه إلى المهديّة، وكانوا مقيمين على دعوة أبيه فامتنع منها إلى أن كان من شأنه ما نذكره.
وبلغ خبره إلى أبيه بمكانه من طرابلس فاضطرب معسكره وبعث إلى النصارى في أسطول يحمله إلى الإسكندرية فوافوه بستة أساطيل فاحتمل أهله وولده، وركب
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بمصرح وفي نسخة ثانية بمصوح.
[2] وفي النسخة الباريسية: التجاني.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية ونوهه.
[4] وفي نسخة أخرى: دبّاب وهي الأصح.

(6/483)


البحر ومعه حاجبه أبو زكريا بن يعقوب إلى الإسكندرية، واستخلف على طرابلس أبا عبد الله بن أبي عمران من ذوي قرابته وصهره، فلم يزل بها إلى أن استدعاه الكعوب ونصّبوه للأمر، وأجلبوا به على السلطان مرارا كما نذكره بعد. وركب السلطان أبو يحيى بن اللحياني البحر إلى الاسكندرية فنزل بها على السلطان محمد بن قلاون من ملوك الترك بمصر والشام واستقدمه إلى مصر فعظّم من مقدمه واهتزّ للقائه ونوّه من مجلسه، وأسنى من جرايته وأقطاعه إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ورجع السلطان أبو بكر إلى تونس بعد الواقعة على أبي ضربة وقومه بفجّ النعام، فدخلها في شوّال من سنته. واستقامت إفريقية على طاعته، وانتظمت أمصارها وثغورها في دعوته إلى المهديّة وطرابلس كما ذكرناه إلى أن كان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مهلك الحاجب ابن عمر ببجاية وولاية الحاجب محمد بن القالون عليها ثم الادالة منه بابن سيد الناس)
كان الحاجب بن عمر لما استبدّ ببجاية سنة خمس عشرة وسبعمائة، انتقل السلطان إلى قسنطينة ولم يراجعها بعد. ثم لما رجع من تونس ثانية حركته سنة سبع عشرة وسبعمائة صرف إليه منصور بن فضل وبعث في أثره قائده أبا عبد الله محمد ابن حاجب أبيه محمد [1] بن سيد الناس يهيئ له قصوره ببجاية للتحوّل إليها، فردّه ابن عمر وتنكّر له وطالبه السلطان في المدد فبادر به فأقطعه جانب الرضا. وعقد له على بجاية وقسنطينة كما ذكرنا ذلك كله قبل. فاستبدّ ابن عمر بالثغر وما إليه من الأعمال مقتصرا على ذكر السلطان في الخطبة واسمه في السكّة. وأقام على ذلك إلى أن ملك السلطان تونس واستولى على جهاتها، وبعث إليه بان عمّه علي بن محمد بن عمر فعقد له أبو عبد الرحمن الحاجب على قسنطينة فمضى إليها، وهو في خلال ذلك كلّه يدافع عساكر زناتة عن بجاية.
وقد كان أبو حمّو صاحب تلمسان بعد ظهوره على محمد بن يوسف واسترجاعه بلاد مغراوة وتوجين من يده كما قدّمناه يسرّب العساكر لحصارها. وابتنى بالوادي على مرحلتين منها قلعة بكر يجهّز [2] بها الكتائب لحصارها. ثم هلك أبو حمّو وولي ابنه أبو
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حاجب أبيه أبي الحسن.
[2] وفي نسخة أخرى: قلعة تكر ليجمرّ بها الكتائب.

(6/484)


تاشفين من بعده سنة ثمان عشرة وسبعمائة فتنفّس مخنق الحصار عن بجاية ريثما كانت حركة السلطان إلى تونس وفتحها. ثم خرج أبو تاشفين من تلمسان لتمهيد أعماله، وقتل محمد بن يوسف بمعقله من جبل وانشريس كما نذكره في أخبارهم، فارتحل من هنالك غازيا إلى بجاية، فاطلّ عليه في سنة تسع عشر وسبعمائة وبدا له من حصنها وكثرة مقاتلتها وامتناعها ما لم يحتسب فانكفأ راجعا إلى تلمسان، وأصاب ابن عمر المرض فبعث عن عليّ ابن عمّه بمكان عمله بقسنطينة، وعهد إليه بأمره والقيام بولاية بجاية إلى أن يصل أمر السلطان.
وهلك لأيام على فراشه في شوّال من سنة تسع عشرة وسبعمائة، وقام علي بن عمر بأمر بجاية، واتصل الخبر بالسلطان فأهمّه شأن الثغر. وطيّر ابن سيّد الناس إليه مع قهرمانة داره لتحصيل تراثه والبحث عن ذخيرته فاستوفى من ذلك فوق الكثرة من الصامت والذخيرة، وقدم معه علي بن غمر، فأولاه السلطان من رضاه ما أحسب أمله، وأقام بالحضرة إلى أن كان منه خلاف مع ابن أبي عمران. ثم راجع الطاعة وقد أحفظ السلطان بولاية عدوّه. فلما عاد إلى تونس أوعز إلى مولاه نجاح هلال بقتله، فاغتالوه خارجا من بستانه فأشووه، وهلك من جراحته، والله أعلم.
(الخبر عن إمارة الأمير أبي عبد الله على قسنطينة وأخيه الأمير أبي زكريا على بجاية وتولية ابن القالون على حجابتها)
لما هلك ابن عمر أهمّ السلطان شأن بجاية لما كانت عليه من حال الحصار، ومطالبة بني عبد الواد لها فرأى أي أن يكشف الحامية بالثغور الغربية وينزل بها أبناءه للمدافعة والحماية، وعقد على قسنطينة لابنه الأمير أبي عبد الله وعقد على بجاية لابنه الآخر الأمير أبي زكريا وجعل حجابتها لأبي عبد الله بن القالون مستبدّا عليها لمكان صغرهما. وأكثف له الجند وأمره بالمقام ببجاية للممانعة من العدّ والملح على حصارها وارتحلوا من تونس فاتح سنة عشرين وسبعمائة في احتفال من العسكر والأصحاب والأبّهة. وأبقى خطة الحجابة خلوا ممن يقوم بها. وأبقى على ابن القالون. وبقي للتصرّف في الأمور من رجالات السلطان أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الكردي الملقّب بالمزوار. وكان مقدّما على بطانة السلطان المعروف بالدخلة. وعلى الأشغال

(6/485)


الكاتب أبو القاسم بن عبد العزيز، وسنذكر أوليتهما بعد. وانصرف إلى بجاية رافلا في حلل العزّ والتنويه إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
(الخبر عن استقدام ابن القالون والادالة منه بابن سيّد الناس في بجاية وبظافر الكبير في قسنطينة)
لما انصرف أبو عبد الله بن يحيى بن قالون إلى بجاية، وخلا وجه السلطان فيه لبطانته عند ولايته ببجاية، بثوا فيه السعايات ونصبوا الغوائل، وتولى كبر ذلك المزوار بن عبد العزيز بمداخلة أبي القاسم بن عبد العزيز صاحب الأشغال. وعظمت السعاية فيه عند السلطان حتى داخلته فيه الظنّة، وعقد لمحمد بن سيّد الناس على بجاية، وقام بأمر حصارها وحجابة أميرها إلى أن استقدم للحجابة، وكان من أمره ما نذكره. ومرّ ابن قالون بقسنطينة في طريقه إلى الحضرة فحدّثته نفسه بالامتناع بها، وداخل مشيختها في ذلك فأبوا عليه، فأشخصهم إلى الحضرة نكالا بهم. ونمي الخبر بذلك إلى السلطان فأسرّها لابن القالون وعزم على استضافة الحجابة بقسنطينة لابن سيّد الناس، فأستعفى مشيختها من ذلك وأروه أن ابن الأمين قريبه وابن أخيه، وذكّروه ثروة أبيه فأقصر عن ذلك، وصرف اعتزامه إلى مولاه ظافر الكبير وذلك عند قدومه من المغرب، وكان من خبره أنه كان من موالي الأمير أبي زكريا، وكان له في دولة ابنه السلطان أبي البقاء ظهور، وزحف هو بالعساكر عند ما استراب السلطان أبو البقاء بأخيه السلطان أبي بكر فأقام بباجة. وجاء المزدوري والعرب إلى تونس في مقدّمة ابن اللحياني فزحف إليهم ففضّوه وتقبّضوا عليه كما ذكرنا ذلك كله. ثم لحق بعدها بمولانا السلطان أبي يحيى وأعاده إلى مكانه من الدولة، وولّاه قسنطينة عند مهلك ابن ثابت سنة ثلاث عشرة وسبعمائة.
ثم غصّ به ابن عمر وأغرى به السلطان فأشخصه في السفين إلى الأندلس، وجاز إلى المغرب. ونزل على السلطان أبي سعيد إلى أن بلغه الخبر بمهلك ابن عمر فكرّ راجعا إلى تونس، ولقاه السلطان مبرة وتكريما. ووافق ذلك وصول الحاجب ابن قالون من بجاية، فعقد السلطان لظافر هذا على حجابة ابنه بقسنطينة الأمير أبي عبد الله فقدمها وقام بأمرها، واستعمل ذويه وحاشيته في وجوه خدمتها وصرف من كان هنالك من

(6/486)


الخدّام أهل الحضرة إلى بلدهم. وكان بها أبو العبّاس بن ياسين متصرّفا بين يدي الأمير أبي عبد الله، والكاتب أبو زكريا بن الدبّاغ على أشغال الجباية، وكانا قدما من الحضرة في ركاب الأمير أبي عبد الله فصرفهما القائد ظافر لحين وصوله، واستقلّ بأمره إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى
(الخبر عن ظهور ابن أبي عمران وفرار ابن قالون إليه على عينه)
كان محمد بن أبي عمران هذا من أعقاب أبي عمران موسى بن إبراهيم ابن الشيخ أبي حفص، وهو الّذي ولي إفريقية نائبا عن أبي محمد عبد الله ابن عمه الشيخ أبي محمد عبد الواحد، كتب له بها من مراكش لأوّل ولايته، فأقام واليا عليها ثمانية أشهر إلى ان قدم آخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وأقام أبو عمران هذا في جملتهم إلى أن هلك ونشأ بنوه في ظلّ دولتهم إلى أن كان من عقبه أبو بكر والد محمد هذا، فكان له صيت وذكر. وكان السلطان أبو يحيى زكريا بن اللحياني قد رعى له ذمّة قرابته، ووصله بصهر عقده لابنه محمد على ابنته. واستخلفه على تونس عند خروجه عنها.
ثم استخلفه على طرابلس عند ركوبه السفينة إلى الإسكندرية. وكان أبو ضربة بعد انهزامه وافتراق جموعه اعتصم بالمهديّة، ونازلة بها السلطان أبو بكر فامتنعت عليه وأقلع عنها على سلم عقده لأبي ضربة وأقام حمزة بن عمر في سبيل خلافه على السلطان يتقلّب في نواحي إفريقية حتى عظم زبونه على السلطان ونزع إليه الكثير من الأعراب وكثرت جموعه، فاستقدم محمد بن أبي عمران من مكان ولايته لثغر طرابلس.
وزحف إلى تونس معارضا للسلطان قبل اجتماع عساكره وكمال تعبيته، فخرج السلطان أبو بكر عن تونس في رمضان من سنة إحدى وعشرين وسبعمائة ولحق بقسنطينة وصحبه إليها مولاهم ابن عمر وكان الحاجب محمد بن يحيى بن القالون قد غصّته البطانة والحاشية بالمعاية فيه عند السلطان، وتبين له انحرافه عنه. وكان معن ابن مطاع [1] الفزاري وزير حمزة بن عمرو صاحب شواره صديقا لابن القالون
__________
[1] وفي نسخة ثانية: معن بن وطاعن.

(6/487)


ومخالصا، فداخله في الاجلاب بابن أبي عمران. فلما خرج السلطان أمام زحفهم تخلّف ابن القالون بتونس، وركب من الغد في البلد مناديا بدعوة ابن أبي عمران.
ودخل محمد بن أبي عمران ثانية خروج السلطان، واستولى على الحضرة وأقام بها بقية سنته، وصدرا من أخرى، ولحق السلطان بقسنطينة فجمع عساكره واحتشد جموعه، وأزاح العلل واستكمل التعبية وزحف منها في صفر سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة وخرج ابن أبي عمران للقائه مع حمزة بن عمر في جموع العرب ولقيهم السلطان أولى وثانية بالرجلة وأوقع بهم، وقتل شيخ الموحّدين أبا عبد الله بن أبي بكر. وكان على مقدّمتهم محمد بن أبي منصور بن مزني وغيره. أثخنت العساكر فيهم قتلا وأسرا، وكان للسلطان فيها ظهور لا كفاء له. ثم تقبّض على مولاهم ابن عمر فكان من خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مقتل مولاهم بن عمر وأصحابه بن الكعوب)
لما أتيح للسلطان من الظهور على ابن أبي عمران وأتباعه والظفر بهم ما أتيح، وصنع لهم فيه رغم أنف مولاهم ابن عمر، وظهرت مع أصحابه كلمات أنبأت بفاسد دخلتهم. ثم نمي للسلطان أنّ مولاهم داخل في الفتك به ابنه منصور وربيبه جعدان [1] ومعدان ابني عبد الله بن أحمد بن كعب، وسليمان بن جامع من شيوخ هوارة. وشى بذلك عنهم ابن عمّهم عون ابن عبد الله بن أحمد بعد أن داخلوه فيها، فتنصّح بها للسلطان. فلمّا عدوا على السلطان تقبّض عليهم وبعثهم إلى تونس فاعتقلوا بها، ورجع هو إلى الحضرة فدخلها في جمادى من سنته. وجدّد البيعة على الناس، وزحفت العرب في اتباعه حتى نزلوا بظاهر البلد وشرطوا عليه إطلاق مولاهم وأصحابه، فأنفذ السلطان قتلهم فقتلوا بمحبسهم، وبعث بأشلائهم إلى حمزة فعظم عنده موقع هذا الحزن، وصرخ في قومه وتآمروا أن يثأروا بصاحبهم [2] .
وأغذّ السير إلى الحضرة وابن أبي عمران معهم على حين افتراق وازاحة السلطان.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زعدان.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: وتدامروا ان يثيروا بصاحبهم.

(6/488)


وظنوا أنهم ينتهزون الفرصة، وخرج السلطان عن تونس لأربعين يوما من دخوله ولحق بقسنطينة ودخل ابن أبي عمران إلى تونس فأقام بها ستة أشهر خلال ما احتشد السلطان جموعه واستكمل تعبيته. ونهض من قسنطينة وزحف إليه ابن أبي عمران وهزمه ابن عمر في جموعه. فأوقع السلطان بهم وأثخن فيهم وشرّدهم في النواحي وعاد إلى تونس فدخلها في صفر سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ومضى حمزة لوجهه إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن واقعة رغيس مع ابن اللحياني وزناتة وواقعة الشقة مع ابن أبي عمران)
لما انهزم حمزة بن عمرو ابن أبي عمران عن تونس مرة بعد أخرى ورأى حمزة ابن أبي عمران غير مغن عنه فصرفه إلى مكان عمله بطرابلس، وبعث إلى أبي ضربة ابن السلطان اللحياني بمكانه من المهديّة فداخله في الصريخ بزناتة والوفود على سلطان بني عبد الواد فرحل معه أبو ضربة ووفدوا على أبي تاشفين صاحب تلمسان ورغّبوه في الظفر ببجاية، وأن يشغل صاحب تونس عن مددها بترديد البعوث وتجهيز العساكر إليه، فسرّح معهم السلطان آلافا من العسكر وعقد عليها لموسى بن علي الكردي صاحب الثغر بتيمرزدكت، وكثير الحاشية والرجالات. وارتحلوا من تلمسان يغذّون السير، وبلغ السلطان خبر فصولهم بتلمسان فبرز للقائهم من تونس في عساكره حتى انتهى إلى رغيس بين بونة وقسنطينة.
ولما أطلّت عساكر زناتة والعرب اختل مصاف السلطان، وانهزمت المجنّبات وثبت في القلب وصدق العزيمة واللقاء، فاختلّ مصافّهم وانهزموا في شعبان سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة وامتلأت أيدي العساكر من أسلابهم والسبايا من نساء زناتة، ومن عليهنّ السلطان وأطلقهنّ. ورجع أبو ضربة وموسى بن علي الكردي في فلّهم إلى تلمسان، وعاد السلطان إلى حضرته لأيام من هزيمتهم. ولقيه الخبر في طريقه باجتماع العرب بنواحي القيروان، فتخطّى الحضرة إليهم ولقيهم بالشقّة، وأوقع بهم ورجع إلى تونس في شوّال من سنة أربع وعشرين. فاتبعه حمزة ومن معه إلى تونس عند ما افترقت العساكر، ومعه إبراهيم بن الشهيد الحفصي.

(6/489)


وسبق إليه بخبرهم عامر أبو علي [1] ابن كثير وسحيم بن [2] فخرج للقائهم من يومه في خفّ من الجنود بعد أن بعث عن عسكر باجة، وقائدها عبد الله العاقل مولاه فصبحه العرب بنواحي شاذلة فقاتلوه صدرها وحمى الوطيس، ووصل عبد الله العاقل والناس متواقفون، واشتدّت الحرب ثم كانت الهزيمة على العرب، واستبيحت حرماتهم وافترقت جموعهم، ورجع السلطان إلى البلد واستقرّ بالحضرة والله تعالى أعلم.
(الخبر عن إجلاب حمزة بإبراهيم بن الشهيد وتغلبه على الحضرة)
لما انهزم أبو ضربة بن اللحياني وحمزة بن عمر وعساكر بني عبد الواد لحق أبو ضربة بتلمسان فهلك بها، ولقي حمزة بعده من الحروب مع السلطان ما لقي، ويئس الكعوب من غلابه وتذامر والفتنة والإجلاب عليه، فوفد حمزة بن عمر على ابن تاشفين صريحا ومعه طالب بن مهلهل، قرنه في قومه، ومحمد بن مسكين شيخ بني حكيم من أولاد القوس وكلّهم من سليم ومعهم الحاجب ابن القالون، فاستحثّوا عساكره لصريخهم فكتب لهم السلطان كتيبة عقد عليها لموسى بن علي الكردي وأعاده معهم. ونصب لهم لملك تونس من أعياص أبي حفص إبراهيم بن الشهيد منهم، وأبوه الشهيد هو أبو بكر بن أبي الخطّاب عبد الرحمن الّذي نصّب للأمر عند مهلك السلطان أبي عصيدة، وقتله السلطان أبو البقاء خالد كما ذكرناه. وكان أبوهم هذا قد لحق بالعرب ونصّبوه للأمر وأجلبوا به على تونس أثر واقعة رغيس وبرزت إليهم العساكر فانهزموا كما ذكرناه، ولحق بتلمسان وجاء هذا الوفد على أثره فنصبه السلطان أبو تاشفين لهم واستعمل على حجابته محمد بن يحيى بن القالون، وبعث معهم العساكر لنظر موسى بن علي الكردي وزحفوا إلى إفريقية. وخرج السلطان أبو بكر من تونس لمدافعتهم في ذي القعدة من سنة أربع وعشرين وسبعمائة وانتهى إلى قسنطينة وعاجلوه قبل استكمال التعبية فنزل بساحتها. وأقام موسى بن عليّ على منازلتها بعساكر بني عبد الواد. وتقدّم إبراهيم بن الشهيد وحمزة بن عمر إلى تونس
__________
[1] وفي نسخة أخرى: عامر بن بو علي بن كثير.
[2] بياض بالأصل، ولم نستطع تحديد هذا الاسم في المراجع التي بين أيدينا.

(6/490)


فدخلها في رجب سنة خمس وعشرين وسبعمائة واستمكن منها، وعقد على باجة لمحمد بن داود من مشيخة الموحدين وثار عليه في بعض ليالي رمضان بعض بطانة السلطان كانوا بالبلد في غيابات الاختفاء، وكان منهم يوسف بن عامر بن عثمان، وهو ابن أخي عبد الحق بن عثمان من أعياص بني مرين، وفيهم القائد بلاط من وجوه الترك المرتزقة بالحضرة، وابن حسّان [1] نقيب الشرفاء فاعتدّوا واجتمعوا من جوف الليل وهتفوا بدعوة السلطان وطافوا بالقصبة فامتنعت عليهم، فعمدوا إلى دار كشلي من الترك المرتزقة، وكان بطانة لابن القالون فقاتلوها وامتنعت عليهم. ثم أعجلهم الصباح عن مرامهم وتتبعوا بالقتل، وفرغ من شأنهم، وكان موسى بن علي ومن معه من العساكر لمّا تخلّف عن ابن الشهيد لحصار قسنطينة أقام عليها أياما، ثم أقلع عنها لخمس عشرة ليلة من منازلته ورجع إلى صاحبه بتلمسان. وخرج السلطان من قسنطينة فاستكمل الحشد والتعبية، ونهض إلى تونس فأجفل منها ابن الشهيد وابن القالون، ودخلها السلطان في شوّال سنة خمس وعشرين وسبعمائة واستولى على دار ملكه، وأقام بها إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن حصار بجاية وبناء تيمرزدكت وانهزام عساكر السلطان عنها)
كان أبو تاشفين منذ خلاله الجوّ وتمكن في الأمر من القوم [2] يلحّ على بجاية بترديد البعوث ومطاولة الحصار، والسلطان أبو بكر يدفع لحمايتها والممانعة دونها من رجالات دولته وعظماء وزرائه الأول، فالأوّل من أهل الكفاية والاضطلاع بما يدفع إليه من ذلك. وسرّب إليهم المدد من الأموال والأسلحة والجنود وتعهّد إليهم بالصبر والثبات في المواطن ونظراؤه من وراء ذلك. وكان أبو تاشفين كلما أحس من السلطان أبي بكر بنهوضه إلى المدافعة عنها، أو عزم على غزو كتائبه المجمّرة عليها رماه بشاغل يوهن من عزمه ويسكّن [3] عنان بطشه. وكان فتنة ابن عمر من أدهى الشواغل في ذلك بما
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابن جسّار.
[2] وفي نسخة أخرى: وتمكنت في الأمر منه القدم
[3] وفي نسخة أخرى: يمسك.

(6/491)


كان يجنب العرب عن الطاعة، ويجمع الأعراب للإجلاب على الحضرة، وينصّب الأعياص يطمعهم فيما ليس لهم من نيل الخلافة. كان ذلك ديدنا متصلا أزمان تلك المدّة.
ولما سرّح أبو تاشفين العساكر سنة خمس وعشرين وسبعمائة إلى إبراهيم بن الشهيد وحمزة بن عمر وأوليائهم من أهل إفريقية، وعقد عليها لموسى بن علي من رجالاته، فنازل قسنطينة ثم أقلع عنها وعاود حصارها سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. وشنّ الغارة في نواحيها، واكتسح الأموال ورجع إلى وادي بجاية فاختطّ مدينة بتيكلات على مرحلة منها، وعلى قارعة الطريق الشارع من الغرب إلى الشرق بما كانت بجاية زائغة عنه إلى البحر، فاختطّوا تلك المدينة وشيّدوها وجمعوا الأيدي عليها، وقسّموها مسافات على جيوشهم فاستتمت لأربعين يوما سمّوها تيمرزدكت باسم حصنهم الأقدم بالجبل قبالة وجدة، حيث امتنع يغمراسن على السعيد ونازلة وهلك عليه كما ذكرناه في أخباره. وشحنوا هذه المدينة بالأقوات والعدد وعمّروها بالمقاتلة من الرجل والفرسان والقبائل، وأخذت بمخنق البلد.
وقلق السلطان بمكانها فأوعز إلى قوّاد عساكره وأصحاب عمالاته من مواليه وصنائعه أن يفرّوا بعساكرهم إلى صاحب الثغر محمد بن سيّد الناس ويزحفوا معه إلى هذا البلد المخروب، ويستميتوا دون تخريبه، فنهض ظافر الكبير من قسنطينة وعبد الله العاقل من هوّارة وظافر السنان من بونة، وتوافر ببجاية سنة سبع وعشرين وسبعمائة وبلغ موسى بن علي خبرهم فاستنفر من عساكر بني عبد الواد، وخرجت العساكر جميعا من بجاية تحت لواء ابن سيّد الناس. وزحف إلى العدوّ بمحلّهم من تيكلات فكانت الدبرة عليه وعلى أصحابه، وقتل ظافر الكبير ورجع فلّهم إلى بجاية. وداخلت ابن سيّد الناس فيهم الظنّة كما تداخل موسى بن علي ابن زبون كل واحد منهما بصاحبه على سلطانه [1] . فمنعهم من دخول البلد ليلتئذ وأسحروا قافلين إلى أعمالهم، وعقد السلطان على قسنطينة لأبي القاسم بن عبد العزيز أياما. ثم استقدمه إلى الحضرة ليستعين به محمد بن عبد العزيز المزوار في خطة حجابته بما كان غفلا من الأدوات التي تحتاج إليها الحجابة. وعقد على حجابة الأمير أبي عبد الله بقسنطينة لمولاه ظافر السنان إلى أن كان من تحويل شأنه ما نذكره أهـ.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بما كان يداخل موسى بن عيسى في الزبون كل واحد منهما لصاحبه على سلطانه.

(6/492)


(الخبر عن مهلك الحاجب المزوار وولاية ابن سيد الناس مكانه ومقتل ابن القالون)
هذا الرجل محمد بن القالون المعروف بالمزوار، لا أدري من أوّليته أكثر من أنه كرديّ من الأكراد الذين وفد رؤساؤهم على ملوك المغرب أيام أجلاهم التتر عن أوطانهم بشهرزور عند تغلّبهم على بغداد سنة ست وخمسين وستمائة، فمنهم من أقام بتونس، ومنهم من تقدّم إلى المغرب فنزلوا على المرتضى بمراكش فأحسن جوارهم. وصار قوم منهم إلى بني مرين وآخرون إلى بني عبد الواد حسبما يذكر في أخبارهم.
ومن المقيمين بالحضرة كان سلف ابن عبد العزيز هذا إلى أن نشأ هو في دولة الأمير أبي زكريا الأوسط صاحب الثغور الغربية، وتحت كنف من اصطناعه. واختلط بأبنائه وقدم في جملة ابنه السلطان أبي بكر إلى تونس مقدّما في بطانته ورئيسا على الحاشية المتسمين بالدخلة، وكان يعرف لذلك بالمزوار. وكان شهما وقورا متديّنا وله في الدولة حظ من الظهور، وهو الّذي تولى كبر السعاية في الحاجب بن القالون حتى ارتاب بمكانه. ووفد إلى أبي عمران سنة إحدى وعشرين وسبعمائة كما قدّمناه. وولّاه السلطان الحجابة مكانه فقام بها مستعينا بالكاتب أبي القاسم بن عبد العزيز لخلوّة هو من الأدوات. وإنما كان شجاعا ذا همة. ولم يزل على ذلك إلى أن هلك في شعبان سنة سبع وعشرين وسبعمائة وأراد السلطان على الحجابة محمد بن خلدون جدّنا الأقرب فأبى، ورغب في الإقالة فأجيب جنوحا لما كان بسبيله منذ سنين من الصاغية في السكون والفرار من الرتب. وأشار على السلطان بصاحب الثغر محمد بن أبي الحسين بن سيّد الناس لتقدمة سلفه مع سلف السلطان، وكثرة تابعه وخاشيته وقوّة شكيمته في الاضطلاع بما يدفع إليه. أخبرني بهذا الخبر أبي رحمه الله وصاحبنا محمد بن منصور بن مزني، قال لي: حضرت لاستدعاء جدّكم إلى معسكر السلطان بباجة يوم مهلك المزوار، وأدخله السلطان إلى رواقه، وغاب مليّا ثم خرج وقد استفاض بين البطانة والحاشية أنه دعي إلى الخطة فاستنكرها، وأقام السلطان يومئذ في خطة الحجابة الكاتب أبا القاسم بن عبد العزيز يقيم الرسم، واستقدم خالصته محمد ابن حاجب أبيه أبي الحسين ابن سيّد الناس، فقدم في محرّم فاتح ثمان

(6/493)


وعشرين وسبعمائة وولّاه حجابته فاضطلع بها، وجدّد له العقد على بجاية وحجابة ابنه بها، فدفع إليها للنيابة عنه في الحجابة صنيعته محمد بن فرحون، ومعه كاتبه أبو القاسم بن المريد. وجرى الحال على ذلك ببجاية وعساكر زناتة تجوس خلالها ومعاقلهم تأخذ بمخنقها. وقدم ابن القالون دوين مقدّم ابن سيّد الناس بشفاعة من نزيله علي بن أحمد سيد الزواودة، وطمع في عوده إلى الخطّة.
وكان من خبره أنه لما تخلف عن السلطان بتونس في خدمة ابن أبي عمران رأى ركوب السفن إلى الأندلس، فأعجلهم السلطان عن ذلك وخرج ابن أبي عمران فأجلب معه على الحضرة مرارا، ولحق بتلمسان. ثم جاء مع ابن الشهيد وفعل الأفاعيل، ثم انحلّ أمر ابن الشهيد، ولحق هو بالزواودة من رياح. ونزل على عليّ ابن أحمد رئيسهم لذلك العهد فأجاره وأنزله بطولقة من بلاد الزاب، وخاطب السلطان في شأنه واقتضى له الأمان حتى أسعف ووفد على الحضرة مع أخيه موسى بن أحمد، وفي نفس ابن القالون طمع في الخطة. وسبقه ابن سيّد الناس إلى السلطان فأشغل بها. وجاء ابن القالون من بعده فأوصله السلطان إلى نفسه، واعتذر إليه ووعده وعقد له على قفصة فسار إليها وصحب موالي السلطان من المعلوجين بشهير وفارح [1] وأوعز ابن سيّد الناس إلى مشيخة قفصة يتقبّضون على حاميته ليتمكن الموالي منه. فلما نزل بساحة البلد دخل كشلي من جند الترك المرتزقة كان في جملته منذ أيام حجابته وكان يستظهر بمكانه. فلما دخل إلى البلد قتل في سككها فكانت لقتله هيعة تسامع الناس بعظمها [2] من خارج البلد، وبرز ابن القالون من فسطاطه وقد كرّ [3] فتقدّم إليه الموالي الذين جاءوا معه وتناولوه طعنا بالخناجر إلى أن هلك. والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن ولاية الفضل على بونة)
كان السلطان عقد على بونة منذ أوّل دولته لمولاه مسرور المعلوجي فقام بأمرها فاضطلع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المعلوجي بشير وفارح.
[2] وفي نسخة أخرى: لغطها.
[3] وفي نسخة أخرى: وقد جث للرعب.

(6/494)


بولايتها، وكان من الغلظة ومراس الحروب بمكان. وكان مع ذلك غشوما جبارا وخرج إلى ولهاصة سنة [1] فاضطرّهم ونهضوا إلى مدافعته عن أموالهم فحاربهم. وبلغ خبر مهلكه إلى السلطان فعقد على بونة لابنه أبي العبّاس الفضل، وبعثه إليها. وولّى على حجابته وقيادة عسكره ظافر السنان من مواليه المعلوجين [2] فقام بما دفع إليه من ذلك أحسن قيام إلى أن كان من أمرهم ما نذكره.
(الخبر عن واقعة الرياس وما كان قبلها من مقتل الأمير أبي فارس أخي السلطان)
كان السلطان أبو بكر لما قدم إلى تونس قدم معه إخوته الثلاثة محمد وعبد العزيز وعبد الرحمن، وهلك عبد الرحمن منهم وبقي الآخران. وكانا في ظلّ ظليل من النعمة، وحظ كبير من المساهمة في الجاه. وكان في نفس الأمير أبي فارس تشوّق إلى نيل الرتبة وتربّص بالدولة. وكان عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من فحول بني مرين وأعياص ملكهم قدم على الحضرة نازعا إليها من الأندلس، فنزل على ابن عمر ببجاية قبيل مهلكه سنة ثمان عشر وسبعمائة ثم لحق بالسلطان فلقاه مبرّة ورحبا، ووفّر حظّه وحظ حاشيته من الجرايات والاقطاع، وجعل له أن يستركب ويستلحق، وكان يستظهر به في مواقف حروبه، ويتجمل في المشاهد بحركاته [3] بما كان سيّدا في قومه. وكان قد انعقدت له بيعة على أهل وطنه، وكانت فيه غلظة وأنفة وإباء. وغدا في بعض أيامه على الحاجب بن سيّد الناس فتلقّاه الإذن بالعذر [4] ، فذهب مغاضبا، ومرّ بدار الأمير أبي فارس فحمله على ذات صدره من الخروج والثورة، وخرجا من يومهما في ربيع سنة سبع وعشرين وسبعمائة ومرّا ببعض أحياء العرب فاعترضهما أمير الحيّ فعرض عليهما النزول، فأمّا عبد الحق فأبى وذهب لوجهه إلى أن لحق بتلمسان، وأمّا الأمير أبو فارس فأجاب ونزل، وطيّروا بالخبر إلى السلطان
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى المعلوجي.
[3] وفي نسخة أخرى: بمكانه من سريره.
[4] وفي نسخة أخرى: الإذن بالغدر.

(6/495)


فسرّح لوقته محمد بن الحكيم من صنائعه وقوّاد دولته في طائفة من العسكر والنصارى، فصبحوه في الحيّ وأحاطوا ببيت نزله فامتنع من الإلقاء باليد، ودافع عن نفسه مستميتا فقتلوه قعصا [1] بالرماح، وجاءوا بشلوه إلى الحضرة فدفن بها.
ونزل عبد الحق بن عثمان على أبي تاشفين حين نزل، ورغّبه فيما كان بسبيله من مطالبة الدولة الحفصيّة وتدويخ ممالكها، ووفد على أثر، حمزة بن عمر ورجالات سليم صريحا على عادتهم. فأجاب أبو تاشفين صريخهم ونصب لهم محمد بن أبي عمران وكان من خبره أنه تركه السلطان اللحياني عاملا على طرابلس. فلما انهزم أبو ضربة وانحلّ أمره استقدمه العرب وأجلبوا به على الحضرة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة فملكها ستة أشهر. ثم أجفل عنها عند رجوع السلطان إليها، ولحق بطرابلس إلى أن انتقض عليه أهلها سنة أربع وعشرين وسبعمائة وثاروا به وأخرجوه فلحق بالعرب وأجلبوا به على السلطان مرارا ينهزمون عنه في كلها.
ثم لحق بتلمسان واستقرّ بها عند أبي تاشفين في خير جوار وكرامة وجراية إلى أن وصل هذا الوفد إليه سنة تسع وعشرين وسبعمائة فنصبه للأمر بإفريقية. وأمدّهم بالعساكر من زناتة. عقد عليهم ليحيى بن موسى من بطانته وصنائع أبيه. ورجع معهم عبد الحق بن عثمان بمن في جملته من بنيه وعشيرته ومواليه وحاشيته. وكانوا أحلاس حرب وفتيان كريهة، فنهضوا جميعا إلى تونس فزحف السلطان للقائهم وتراءى الجمعان بالرياس من نواحي هوّارة آخر سنة تسع وعشرين [2] وسبعمائة، فدارت الحرب واختل مصاف السلطان، وفلّت جموعه. وأحيط به فأفلت بعد عصب الريق، وأصابته في حومة الحرب جراحة وهن لها، وقتل كثير من بطانته وحاشيته، كان من أشهرهم محمد المديوني. وانتهب المعسكر وتقبّض على أحمد وعمر ابني السلطان فاحتملا إلى تونس [3] حتى أطلقهما أبو تاشفين بعد ذلك في مراسلة وقعت بينه وبين السلطان فاتحه فيها أبو تاشفين، وجنح إلى السلم وأطلق الابنين ولم يتمّ شأن الصلح من بعد ذلك. وتقدّم ابن أبي عمران بعد الواقعة إلى تونس فدخلها في صفر سنة ثلاثين وسبعمائة واستبدّ عليه يحيى بن موسى قائد بني عبد الواد، وحجب التصرّف
__________
[1] قوصا: أي قتله في مكانه، أجهز عليه.
[2] وفي نسخة أخرى: سبع وعشرين.
[3] وفي نسخة أخرى: تلمسان.

(6/496)


في شيء من أمره، ثم عاد يحيى بن موسى إلى سلطانه. ونهض السلطان أبو بكر من قسنطينة إلى تونس بعد أن استكمل الحشد والتعبية، فأجفل ابن أبي عمران عنها، ودخل إليها السلطان في رجب من سنته إلى أن كان ما نذكره.
(الخبر عن مراسلة ملك المغرب في الاستجاشة على بني عبد الواد وما يتبع ذلك من المصاهرة)
كان السلطان أبو بكر لما خلص من واقعة الرياس نجا إلى بونة، وركب منها البحر إلى بجاية، وقد ضاق ذرعه بإلحاح بني عبد الواد على ممالكه وتجهيز الكتائب على ثغره وترديد البعوث إلى وطنه، فأعمل نظره في الوفادة على ملك المغرب السلطان أبي سعيد ليذكره ما بين سلفه وسلفهم من السابقة، وما لهم عند بني عبد الواد من الأوتار والإحف، ليبعث بذلك دواعيهم على مطالبة بني عبد الواد: فيأخذ بحجزتهم عنه.
ثم عيّن للوفادة عليه ابنه الأمير أبا زكريا، وبعث معه أبا محمد عبد الله بن تافراكين من مشيخة الموحّدين لسانا لخطابه ونجيا لشوراه. وركبوا البحر من بجاية فنزلوا بمرسى غساسة، واهتز صاحب المغرب لقدومه وأكرم وفادته واستبلغ في القرى والاجارة، وأجاب دعاءهم إلى محاربة عدوّهم وعدوّه على شريطة اجتماع اليد عليها وموافاة السلطان أبي سعيد والسلطان أبي يحيى بعساكرهما تلمسان لموعد ضربوه لذلك.
وكان السلطان أبو سعيد بعث سنة إحدى وعشرين وسبعمائة يحيى الرنداحي [1] قائد الأسطول بسبتة إلى مولانا السلطان أبي بكر في الإصهار على إحدى كرائمه، وشغل عن ذلك بما وقع من شأن ابن أبي عمران. فلما وفد عليه ابن السلطان وأولياؤه أعاد الحديث في ذلك، وعين للنيابة عنه في الخطبة من السلطان إبراهيم بن أبي حاتم العزفي وصرفه مع الوفد، فوافوا السلطان بتونس آخر سنة ثلاثين وسبعمائة وقد طرد عدوّه وشفى نفسه، فجاءوه بأمنيته من حركة صاحب المغرب على تلمسان. وخطب منه إبراهيم للأمير أبي الحسن ابن السلطان أبي سعيد، فعقد على ابنته فاطمة شقيقة الأمير أبي زكريا السفير إليهم وزفّها إليه في أساطيله سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة وأنفذ
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الزنداجي.

(6/497)


لزفافها من مشيخة الموحدين أبا القاسم بن عتو ومحمد بن سليمان الناسك، وقد مرّ ذكره، فنزلت على وثير من الغبطة والعزّ، وكان الشأن في مهرها وزفافها ومشاهد أعراسها وولائمها وجهازها كله من المفاخر للدولتين، ولم يزل مذكورا على الأيام.
(الخبر عن حركة السلطان الى المغرب وفرار بني عبد الواد وتخريب تيمرزدكت)
مات السلطان أبو سعيد على تفيئة ما قدّمناه من الأخبار آخر سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة وولي السلطان أبو الحسن من بعده فبعث إلى أبي تاشفين يخاطبه في الغض عن عنان عيثه ببلاد الموحدين وطغيانه عليها، فلج واستكبر وأساء الردّ، فنهض إليه على سبيل الصريخ لهم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وطوى البلاد طيا إلى تلمسان، وأفرجت عساكرهم عن بجاية إلى سلطانهم. وتقدّم السلطان أبو الحسن عن تلمسان لمشارفة أحوال بجاية والأخذ بحجزة العدوّ لمحاصرتها وبعث عسكرا من قومه مددا لهم عقد عليهم لمحمد البطوي، وأركبهم أساطيله من سواحل وهران فدخلوا إليها وقوبلوا بما يناسبهم من الكرامة والجراية. واستنهض السلطان أبو الحسن أبا بكر لحصار تلمسان معه كما كان الشرط بين أبيه وبين ابنه الأمير أبي زكريا، فشرع السلطان في جهاز حركته وإزاحة علله. وأقام السلطان أبو الحسن في تاسالة في انتظاره شهرا حتى انصرف فصل الشتاء. وبلغه بمعسكره من تاسالة أنّ أخاه السلطان أبا علي صاحب سجلماسة انتقض عليه وخرج إلى درعة، فقتل عامله عليها بعد أن كان داخله وعقد له على المهادنة والتجافي عنه بمكانه من سجلماسة. فلما بلغه هذا الخبر كرّ راجعا إلى المغرب لإصلاح شأنه. وكان السلطان أبو بكر قد خرج من تونس واحتفل في الحشد والتعبية فانتهى إلى بجاية وبعث مقدّماته إلى ثغور بني عبد الواد المحيطة ببجاية فهزموا كتائبها. ثم زحف بجملته إلى تيمرزدكت، وفرّت عنها الكتائب المجهّزة [1] بها، فأناخ عليها حتى خرّبها وانتهب أموالها وأسلحتها، ونسف آثارها وقفل عنها إلى بلد المسيلة أختها في الغيّ، وموطن أولاد سبّاع بن يحيى من الزواودة، كانت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المجمّرة.

(6/498)


مشيختهم سليمان ويحيى ابنا علي بن سباع وعثمان بن سبّاع عمهم وابنه سعيد، قد تمسكوا بطاعة أبي تاشفين وحملوا عليها قومهم، ونهجوا لعساكره السبيل إلى وطء بلاد الموحدين والعيث فيها ومجاذبة حبلها.
وأقطعهم أبو تاشفين بلاد المسيلة وجبال مشنان ووانوغة وجبل عياض فأصاروها من أعمالها، فلما شرّد السلطان عساكرهم عن بجاية وهدم ثغرهم عليها واسترجع أعمال بجاية إليها سار بجموعه إلى هذا الوطن ليسترجع أعماله ويجدّد به دعوته. وزاد في إغرائه بذلك علي بن أحمد كبير أولاد محمد لقتال أولاد سبّاع هؤلاء ونظرائهم وأهل أوتارهم ودخولهم، فارتحل غازيا إلى المسيلة حتى نزلها، واصطلم نعمها وخرّب أسوارها، وبلغه بمكانه منها شأن عبد الواحد ابن السلطان اللحياني واجلابه على تونس، وكان من خبره أنه قدم من المشرق بعد مهلك أبيه السلطان أبي يحيى زكريا سنة تسع وعشرين وسبعمائة فنزل على دباب وبايع له عبد الملك بن مكي رئيس المشيخة بقابس، وتسامع به الناس وإفريقية شاغرة من الحامية والعساكر لنهوضهم مع السلطان، فاغتنم حمزة بن عمر الفرصة، واستقدمه فبايع له ورحل به إلى الحضرة، فنزل بساحتها، ودخل عبد الواحد بن اللحياني بصحابة ابن مكي إلى البلد فأقاموا بها ريثما بلغ الخبر إلى السلطان، فقفل من الحضرة وبعث في مقدّمته محمد بن البطوي من بطانته في عسكر اختارهم لذلك، فأجفل ابن اللحياني وجموعه عن تونس لخمس عشرة ليلة من نزولهم، ودخل البطوي إليها وجاء السلطان على أثره أيام عيد الفطر سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
(الخبر عن نكبة الحاجب ابن سيد الناس وولاية ابن عبد العزيز وابن عبد الحكم من بعده)
قد قدّمنا أوّلية هذا الرجل وأنّ أباه الحسن كان حاجبا للأمير أبي زكريا ببجاية. ولما هلك سنة تسعين وستمائة خلف ابنه محمدا هذا في كفالة السلطان ومرعى نعمته، فاشتمل كرسيهم [1] عليه وآواه إلى حجره وأرضهم مع الكثير من بنيه، ونشأ في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: قصرهم.

(6/499)


كنفه. وكان الحجاب للدولة من بعد أبيه مثل ابن أبي حيّ والرخامي صنائع لأبيه فكانوا يعرفون حقه ويؤثرونه على أنفسهم في التجلّة. ولم يدرأ في سنّ الرجولية والسعي في المجد إلا أيام ابن عمر آخرهم، فكان له منه مكان حتى إذا ارتحل السلطان أبو يحيى إلى قسنطينة لطلب تونس، وجهّز له ابن عمر الآلات والعساكر، وأقام له الحجّاب والوزراء والقوّاد، كان فيمن سرّح معه محمد بن سيد الناس قائدا على عسكر من عساكره. وكان سفيرا للسلطان فكانت له عنده أثره واختصاص، وعقد له من بعد مهلك ابن عمر على بجاية لما عزل عنها ابن القالون كما قدّمناه، فاستبدّ بها على السلطان وحماها دون عساكر زناتة، ودفع في صدورهم عنها وكان له في ذلك كلّه مقامات مذكورة. وكانت بينه وبين قائد زناتة موسى بن علي بن زبون مداخلة [1] كل واحد منهما في مكان صاحبه على سلطانه، وفطن لأمرهما. فأما أبو تاشفين فنكب موسى بن علي كما نذكره في أخباره، وأما السلطان أبو بكر فأغضى لابن سيّد الناس عنها. ثم استدعاه وقلّده حجابته سنة سبع وعشرين وسبعمائة كما قدّمناه، واستخلف على مكانه ببجاية صنيعته محمد بن فرحون وأحمد بن مزيد للقيام بما كان يتولاه من مدافعة العدوّ وكفالة الأمير أبي زكريا ابن السلطان. وقدم هو على السلطان وأسكنه بقصور ملكه، وفوّض إليه أمور سلطانه، تفويض الاستقلال، فجرى في طلق الاستبداد عليه وأرخى له السلطان حبل الإمهال واعتدّ عليه فلتات الدالة على ما كانت الظنون ترجم فيه بالمداهنة في شأن العدوّ والزبون على مولاه باستغلاظهم. وأمهله السلطان لمكانه من حماية ثغر بجاية والاشتغال [2] به دونه، حتى إذا تجلّت غمامتهم، وأطلّ أبو الحسن عليهم من مرقبه ونهض السلطان أبو بكر إلى بجاية وخرّب تيمرزدكت، فأغراه البطانة حينئذ بالحاجب محمد بن سيّد الناس، وتنبه له السلطان فأحفظ له استبداده وتقبّض عليه مرجعه من هذه الحركة في ربيع سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة واعتقله. ثم امتحنه بأنواع العذاب لاستخراج المال منه فلم ينبس بقطرة، وما زال يستغيث ويتوسّل بسوابقه من الرضاع والمربى، وسوابق أبيه عند سلفه حتى لدغه العذاب فأفحش، ونال من السلطان وأقذع فقتل
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وكانت بينه وبين قائد زناتة موسى بن علي مداخلة في زبون.
[2] وفي نسخة أخرى: من حماية الثغر ببجاية والاستقلال به دونه

(6/500)


شدخا بالعصي وجرّ شلوه فأحرق خارج الحضرة وعفا رسمه كأن لم يكن، وإلى الله عاقبة الأمور.
ولما تقبّض السلطان على ابن سيّد الناس ومحا أثر استبداده قلّد حجابته الكاتب أبا القاسم بن عبد العزيز، وقد كان قدم من الحج عند مبايعة ابن مكي لعبد الواحد بن اللحياني فلحق بالسلطان في طريقه إلى تيمرزدكت، فلم يزل معه إلى أن دخل حضرته، وتقبض على ابن سيّد الناس فولّاه الحجابة، وكان مضعّفا لا يقوم بالحرب، فعقد السلطان على الحرب والتدبير لصنيعته وكبير بطانته يومئذ محمد بن الحكيم وفوّض له فيما وراء الحضرة، وهو محمد بن علي بن محمد بن حمزة بن إبراهيم بن أحمد اللخمي، ونسبه في بني العز في الرؤساء بسبتة. وجدّه أحمد هو أبو العبّاس المذكور بالعلم والدين والرأي ابن القاسم [1] المستقل برياسة سبتة من بعد الموحدين، وكان من خبر أوّليته فيما حدّثني به محمد بن يحيى بن أبي طالب العزفي آخر رؤساء العزفيين بسبتة، والمنقضي أمرهم بها بانقضاء رياسته، وحدّثني أيضا بها حسين ابن عمه عبد الرحمن بن أبي طالب، وحدّثني بها أيضا الثقة عن إبراهيم ابن عمهما أبي حاتم قالوا جميعا: إنّ أبا القاسم العزفي كان له أخ يسمّى إبراهيم، وكان مسرفا على نفسه وأصاب دما في سبتة، وحلف أخوه أبو القاسم ليقتادنّ منه، ففرّ ولحق بديار المشرق. هذا آخر خبرهم. وأنّ محمدا هذا من بنيه. وبقية الخبر عن أهل هذا البيت من سراتهم أنّ إبراهيم أنجب محمدا، وأنجب محمد حمزة، ثم أنجب حمزة عليا فكلف بالقراءة واستظهر علم الطبّ في إيالة السلطان أبي بكر [2] بالثغور الغربية وأصاب السلطان وجع في بعض أزمانه وأعياه دواؤه فجمع له الأطباء وكان فيهم عليّ هذا فحدس على المرض وأحسن المداواة، فوقع من السلطان أحسن المواقع واستخلصه لنفسه وخلطه بخاصته وأهل خلوته، وصار له من الدولة مكان لا يجاريه أحد فيه. وكان يدعى في الدولة بالحكيم وبه عرف ابنه من بعده، وأصهر إلى أحد بيوت قسنطينة فزوّجوه وخلط أهله بحرم السلطان. وولد له محمد ابنه بقصره، ورضع مع الأمير أبي بكر ابنه، ونشأ في حجر الدولة وكفالتها على أحسن الوجوه من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: والد أبي القاسم.
[2] وفي نسخة أخرى: أبي زكريا.

(6/501)


تربيتها. ولما بلغ الحدّ وصرف إليه رئيس الدولة يعقوب بن عمر وجه إقباله واختصاصه، فكان له منه مكان أكسبه ترشيحا للرئاسة فيما بعد من بين خواص السلطان وخلصائه.
ولما نهض السلطان إلى إفريقية قلّده قيادة بعض العساكر، ثم عقد له بعد مهلك ابن عمر على عمل باجة حين رقى ابن سيّد الناس عنها إلى بجاية، وكان عمل باجة من أعظم الولايات في الدولة فأضطلع به، ثم لما آمر السلطان بطانته في نكبة ابن سيّد الناس دفعه لذلك، فولي القبض عليه كمن له في عصبة من البطانة في بعض الحجر من رياض رأس الطابية. واستدعى ابن سيّد الناس إلى السلطان ومرّ بمكانهم، فلما انتهى إليهم توثّبوا به وشدّوه كتافا وتلّوه إلى محبسه بالبرج المعدّ لعقاب أمثاله بالقصبة.
وتولّى ابن الحكيم من امتحانه وعذابه ما ذكرناه إلى أن هلك، وعقد له السلطان مكانه على الحرب والتدبير من خططه، وفوّض إليه فيما وراء الحضرة كما قلناه.
وجعل تنفيذ الأموال والكتب على الأوامر لابن عبد العزيز، فكان عدله في حمل الدولة، إلا أنّ ابن عبد الحكيم كان أشفّ فيه لما كان إليه من التدبير في الحرب والرئاسة على الكتابة، لرياسة السيف على القلم فاضطلع برياسته وأحسن الغناء والولاية إلى أن كان من خبره وخبر الدولة ما نذكر.
(الخبر عن فتح قفصة وولاية الأمير أبي العباس عليها)
كان أهل الجريد منذ تقلّص عنهم ظل الدولة عند انقسام الملك بين الثغور الغربية والحضرة وما إليها، وصار أمرهم إلى الشورى من المشيخة إلا في الأحايين يؤمّلون الاستبداد كما كانوا عليه من قبل الموحدين، فقدم عبد المؤمن إلى إفريقية وبنو الرند على قفصة وقسنطينة [1] ، وابن واطاس على توزر، وابن مطروح على طرابلس فأمّلوا فتكها [2] ، وشغل مولانا السلطان أبو بكر عنهم بعد استقلاله بالأمر وانفراده بالدعوة الحفصية شأن الفتنة مع آل يغمراسن بن زيّان واجلاب عساكرهم مع حمزة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: قسطيلية.
[2] وفي نسخة أخرى: مثلها.

(6/502)


ابن عمر على أوطانه. حتى إذا أخذ السلطان أبو الحسن بحجزتهم وأطل عليهم من مراقبة فعادوا إلى أوكارهم بعد أن استبدّوا [1] ، وتنفّس مخنق الثغور الغربية من حصارهم، وزال عن كاهل الدولة إصر معاناتهم وسكن اضطراب الخوارج على الدولة خفتت أصوات المرجفين في ممالكها، وصرف السلطان نظره في أعطاف ملكه ومحو الشقاق من سائر أعماله، وسمت همّته إلى تدويخ القاصية من بلاد الجريد واستنقاذ أهلها من أيدي الذئاب الغاوية والكلاب العاوية زعماء أمصارها وأعراب فلاتها، فنهض إلى قفصة سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وقد كان استبدّ بشوراها يحيى ابن محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد الشريدي من بيوتاتها، فنازلها أياما والعساكر تلجّ عليها بأنواع القتال، ونصب عليها المجانيق فامتنعوا. ثم جمع الأيدي حتى قطع تحيّلهم وامتناع صرائحهم [2] فنادوا بالأمان فأمّنهم. وخرج إليه ابن عبد الجليل رئيسهم الآخر من سنته، فأشخصه إلى الحضرة وأنزله بها ورجالات من قومه بني العابد. وفرّ سائرهم إلى قابس فنزل في جوار ابن مكي ودخل أهل البلد في حكمه، وتفيئوا بعد أن كانوا ضاحين من الملك كله فأحسن التجاوز عنهم، وبسط المعدلة فيهم. وأحسن أمل ذوي الحاجات منهم بالإسهام والإقطاع وتجديد ما بأيديهم من المكتوبات السلطانية. ثم آثرهم بسكنى بلده المخصوص بعديد لعهد الأمير أبي العبّاس، وأنزله بين ظهرانيهم وأوصاه بهم، وعقد له على قسنطينة وما إليها. وجعل معه على حجابته أبا القاسم ابن عتو من مشيخة الموحدين، وقفل إلى حضرته فدخلها في رمضان من سنته، والله أعلم.
(الخبر عن ولاية الأميرين أبي فارس عزوز وأبي البقاء خالد سوسة ثم اضافة المهدية اليهما)
لما نكب السلطان حاجبه ابن سيّد الناس، وولّى محمد بن فرحون على حجابة ابنه الأمير أبي زكريا، وقرب [3] ذلك ما نزل بآل يغمراسن من عدوّهم وتفرغ السلطان
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بعد أن اسفوا.
[2] هكذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: حتى قطع نخيلهم وإقلاع شجرائهم.
[3] وفي نسخة أخرى: وقارن.

(6/503)


للنظر في ملكه وتمهيد أحواله، وأن يرسي قواعد أعماله بنجباء أبنائه. فعقد على سوسة والبلاد الساحلية لولديه الأميرين عزوز وخالد شريكين في الأمر، وأنزلهما بسوسة، وأنزل معهما محمد بن طاهر من صنائع الدولة ومن بيوت أهل الأندلس القادمين في الجالية، ورياسة سلفهم بمرسية معروفة في أخبار الطوائف. وكان أخوه أبو القاسم صاحب الأشغال بالحضرة فأقاما كذلك. ثم هلك محمد بن طاهر فاستقدم السلطان محمد بن فرحون من بجاية معه باستبداد ابنه وأن يولّي من شاء على حجابته وأنزل ابن فرحون مع هذين الأميرين لصغرهما سنة خمس وثلاثين وسبعمائة. ثم استدعاه الأمير أبو زكريا فرجع إليه وأقام هذان الأميران بسوسة حتى إذا نكب السلطان قائده محمد بن الحكيم واستنزل قريبه محمد بن الزكزاك [1] من المهدية كان أنزله بها ابن الحكيم لما افتتحها من يد المتغلب عليها من أهل رجيس، ويعرف بابن عبد الغفّار سنة [2] واتخذها حسنا لنفسه، وأنزل بها قريبه هذا وشحنها بالعدد والأقوات فلم يغن عنه. ولما هلك استنزل ابن الزكزاك وبعث السلطان عليهما ابنه الأمير أبا البقاء، وأفرد الأمير أبا فارس بولاية سوسة فأقاما كذلك إلى أن كان من خبر مهلكهما ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن ولاية الأمير أبي عبد الله صاحب قسنطينة من الأبناء وولاية بنيه من بعده)
كان الأمير أبو عبد الله مخصوصا من أبيه من بين ولده بالأثرة والعناية قد صرف إليه إقباله وأوقع [3] عليه محبته لما كان يتوسم في شواهده من الترشيح، وما تحلّى به من خلال الملك. وكان الناس يعرفون له حق ذلك. وذلك أنّ ابن عمر كان مستبدّا بالثغور الغربية ببجاية وقسنطينة ومدافعا عنها العدو من زناتة المطالبين لها. فلما هلك ابن عمر سنة تسع عشرة وسبعمائة كما قدّمناه صرف السلطان نظره إلى ثغوره، فعقد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: محمد بن الركراك.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد السنة في المراجع التي بين أيدينا.
[3] وفي نسخة أخرى: وألقى.

(6/504)


على بجاية لابنه الأمير أبي زكريا وعقد على حجابته لابن القالون وسرّحه معه لمدافعة العدوّ، وعقد على قسنطينة للأمير أبي عبد الله ومعه أحمد بن ياسين. وخرجوا جميعا من تونس سنة عشرين وسبعمائة ونزل كل بعمله. وقدّم ظافر الكبير من الغرب فولّاه السلطان حجابة ابنه بقسنطينة وأنزله بها إلى أن هلك سنة سبع وعشرين وسبعمائة على تيمرزدكت كما ذكرناه، فجاء لحجابته من تونس أبو القاسم بن عبد العزيز الكاتب فأقام أربعين يوما. ثم رجع إلى الحضرة وأضاف السلطان حجابة قسنطينة لابن سيّد الناس إلى حجابة بجاية، وبعث إليها نائبا عنه مولاه هلالا النازع إليه عن موسى بن علي قائد بني عبد الواد فقام بخدمة الأمير أبي عبد الله إلى أن كانت نكبة ابن سيّد الناس عند ما بلغ الأمير أبا عبد الله أثره [1] وجرى في طلق استبداده ففوّض له في عمله السلطان وأطلق من عنانه، وكان يؤامره في شأنه ويناجيه في خلوته. وأنزل معه بقسنطينة نبيلا من المعلوجين يقيم له رسم الحجابة. ثم استدعى ظافر السنان من تونس سنة أربع وثلاثين وسبعمائة لقيادة الأعنّة والحرب، فقدم لذلك وأقام سنة ونصفها. ثم رجع وقام نبيل لحجابته كما كان ودفع يعيش بن [2] من صنائع الدولة لقيادة العساكر وحماية الأوطان فقاسمه لذلك مراسم الخدمة ورتب الدولة واستمرّت حال الأمير أبي عبد الله على ذلك والأيام تزيده ظهورا ومساعيه الملوكية تكسبه جلالا وترشيحا إلى أن أسقط [3] دون غايته واغتاله الأجل عن مداه، فهلك رضوان الله عليه آخر سبع وثلاثين وسبعمائة وقام بأمره من بعده كبير بنيه الأمير أبو زيد عبد الرحمن، فعقد له السلطان أبو بكر على عمل أبيه لنظر نبيل مولاهم لمكان صغره، واستمرّت حالهم على ذلك إلى آخر الدولة، وكان من أمره ما نذكر بعد والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: عند ما بلغ الأمير أبو عبد الله أشده.
[2] بياض بالأصل ولم نعثر على هذا الاسم في المراجع التي بين أيدينا.
[3] وفي نسخة أخرى: اغتبط.

(6/505)


(الخبر عن شأن العرب ومهلك حمزة ثم إجلاب بنيه على الحضرة وانهزامهم ومقتل معزوز بن همر وما قارن ذلك من الأحداث)
لما ملك السلطان أبو الحسن تلمسان وأعمالها، وقطع دابر آل زيّان واجتثّ أصلهم وجمع كلمة زناتة على طاعته، واستتبعهم عصابة تحت لوائه، ودانت القبائل بالانقياد له ورجفت القلوب لرعبه، ووفد عليه حمزة بن عمر يرغّبه في ممالك إفريقية ويستحثّه لها ديدنه مع أبي تاشفين من قبله، فكفّ بالبأس من غلوائه، وزجره عن خلافه على السلطان وشقاقه. ونهج له بالشفاعة سبيلا إلى معاودة طاعته والعمل بمرضاته، فرجع حمزة إلى السلطان عائذا بحلمه متوسّلا بشفاعة صاحبه راغبا بإذعانه، وقلعه مواد [1] الخلاف من العرب باستقامته فتلقّاه السلطان بالقبول وأسعاف الرغبة والجزاء على المناصحة والمخالصة. ولم يزل حمزة بن عمر من لدن رضى مولانا السلطان عنه وإقباله عليه صحيح الطاعة خالص الطوية مناديا بمظاهرة محمد بن الحكيم قائد عسكره [2] ، وشهاب دولته على تدويخ إفريقية وتدويخ أعمالها وحسم أدواء الفساد منها.
وأخذ الصدقة من جميع ظواعن البدو الناجعة في أقطارها، وجمع الطوائف المتعاصين بالثغور على إلقاء اليد للطاعة والكفّ عن أموال الجباية فكانت لهذا القائد آثار لذلك مهّدت من الدولة وأرغمت أنوف المتعاصين بالاستبداد [3] في القاصية حتى استقام الأمر وانمحت آثار الشقاق فاستولى على المهديّة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وغلب عليها ابن عبد الغفّار المنتزي عليها من أهل رحيش [4] واستولى على تبسة وتقبّض على صاحبها محمد بن عبدون من مشيختها وأودعه سجن المهديّة إلى أن أطلق
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زعيما باذعانه وقطع مواد.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: قائد حربه.
[3] وفي نسخة أخرى: المتعاطين للاستبداد.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى رجيس.

(6/506)


بعد نكبته، ونازل توزر من بعد ذلك حتى استقام ابن بهلول على طاعته للعصبية، واسترهن ولده، ونازل بسكرة غير مرّة يدافعه يوسف بن منصور من بني مزني بذمّة يدّعيها من السلطان أبي بكر وسلفه. ويعطيه الجباية بدفع ما كان من الاعتلاق بخدمة السلطان أبي الحسن فتجافى عنه ابن الحكيم لذلك بعد استيفاء مغارمه، وزحف إلى بلاد ريغة [1] فافتتح قاعدتها تغرت واستولى على أموالها وذخيرتها وسار إلى جبل أوراس فافتتح الكثير من معاقلة. وعصفت ريح الدولة بأهل الخلاف من كل جانب وجاست عساكر السلطان خلال كل أرض. وفي أثناء ذلك هلك حمزة بن عمر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة على يد ابن عون بن أبي علي من بني كثير [2] أحد بطون بني كعب بطعنة طعنه غيلة فأشواه [3] وقام بأمره من بعده بنوه، وكبيرهم يومئذ عمر، وداخلتهم الظنّة بأن قتله بإملاء الدولة فاعصوصبوا وتآمروا واستجاشوا بأقتالهم أولاد مهلهل فجيّشوا معهم وزحف إليهم ابن الحكيم في عساكر السلطان من زناتة والجند ففلوه واستلحموا كثيرا من وجوههم. ورجع إلى الحضرة فتحصّن بها واتبعوه فنزل بساحتها ثلاثين وسبعمائة وقاتلوا العساكر سبع ليال. ثم اختلفوا ونزل طالب بن مهلهل إلى طاعة السلطان فأجفلوا وخرج السلطان في جمادى من سنته في عساكره وأحزابه من عرب هوّارة فأوقع بهم برقادة من ضواحي القيروان ورجع إلى حضرته آخر رمضان من سنته. وذهبوا مفلولين إلى القفر ومرّوا في طريقهم بالأمير أبي العبّاس بقفصة فرغّبوه بالخلاف على أبيه، وأن يجلبوا به على الحضرة فأملى لهم في ذلك حتى ظفر بالمعز بن مطاع وزير حمزة وكان رأس النفاق والغواية فتقبّض عليه وقتله، وبعث برأسه إلى الحضرة ونصب بها. ووقع ذلك من مولانا السلطان أحسن المواقع.
ووفد بعدها على الحضرة فبايع لها بالعهد في آخر سنته في محفل أشهده الملأ من الخاصة والكافة بإيوان ملكه. وكان يوما مشهودا قرئ فيه سجل العهد على الكافة، وانفصلوا منه داعين للسلطان. وراجع بنو حمزة الطاعة بعدها واستقاموا عليها إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] يقال لشعب اوريغة وريغة أو ريغة اختصارا، ويقال لهم هوّارة تغلبيا، وهم بنو اوريغ بن برنس.
[2] وفي نسخة أخرى: أبي عون علي بن كبير.
[3] أشواه: أصاب شواه أي أطرافه ولم يصب مقتله، على أنه أراد هنا بمعنى قتله، وجاء بها بمعنى قتله في مواضع أخرى من هذا الكتاب. قال عمر بن الغارض: سهم شهم القوم أشوى وشوى سهم أمحا حكم أحشاي شي. (قاموس)

(6/507)


(الخبر عن مهلك الحاجب ابن عبد العزيز وولاية أبي محمد بن تافراكين من بعد وما كان على تفيئة ذلك من نكبة ابن الحكيم)
هذا الرجل اسمه أحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز الغسّاني وكنيته أبو القاسم، وأوصل سلفه من الأندلس انتقلوا إلى مراكش واستخدموا بها للموحّدين، واستقرّ أبوه إسماعيل بتونس. ونشأ أبو القاسم بها واستكتبه الحاجب ابن الدبّاغ ولما دخل السلطان أبو البقاء خالد إلى تونس، ونكب ابن الدبّاغ لجأ ابن عبد العزيز إلى الحاجب ابن عمر، وخرج من تونس إلى قسنطينة واستقرّ ظافر الكبير هنالك فاستخدمه إلى أن غرّب إلى الأندلس كما قدّمناه. واستعمله ابن عمر على الأشغال بقسنطينة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة فقام بها وتعلّق بخدمة ابن القالون بعد استبداد ابن عمر ببجاية. فلما وصل السلطان أبو بكر إلى تونس سنة ثمان عشرة وسبعمائة استقدمه ابن القالون واستعمله على أشغال تونس. ثم كانت سعايته في ابن القالون مع المزوار بن عبد العزيز إلى أن فرّ ابن القالون سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وولي الحجابة المزوار بن عبد العزيز، وكان أبو القاسم بن عبد العزيز هذا رديفه لضعف أدواته.
ولما هلك ابن عبد العزيز المزوار بقي أبو القاسم بن عبد العزيز يقيم الرسم إلى أن قدم ابن سيّد الناس، من بجاية، وتقلّد الحجابة كما قدّمناه فغصّ بمكان ابن عبد العزيز هذا وأشخصه عن الحضرة وولّاه أعمال الحامّة [1] ثم استقدم منها عند ما ظهر عبد الواحد اللحياني بجهات قابس فلحق بالسلطان في حركته إلى تيمرزدكت، وأقام في جملة السلطان إلى أن نكب ابن سيّد الناس، وولي الحجابة بالحضرة كما ذكرت ذلك كله من قبل إلى أن هلك فاتح سنة أربع وأربعين وسبعمائة فعقد السلطان على حجابته لشيخ الموحدين أبي محمد بن عبد الله بن تافراكين.
وكان بنو تافراكين هؤلاء من بيوت الموحدين في تين ملّل ومن آيت الخميس. وولي عبد المؤمن كبيرهم عمر بن تافراكين على قابس أوّل ما ملكها الموحدون سنة أربعين
__________
[1] الحامة: خاصة الرجل من أهله وولده (القاموس) .

(6/508)


وخمسمائة إلى أن فتحوا مراكش، فكان عبد المؤمن يستخلفه عليها أيام مغيبه عنها على الإمارة والصلاة. ولما ثار بمراكش عبد العزيز وعيسى ابنا أومغار أخو الإمام المهدي سنة إحدى وخمسين كان مغيبه عنها على أوّل ثورتهم أن اعترضوا عمر بن تافراكين عند ندائه بالصلاة فقتلوه، وفضحهم الصبح فاستلحمهم العامّة، ثم كان ابنه عبد الله بن عمر من بعده من رجالات الموحّدين ومشيختهم. ولما عقد الخليفة يوسف بن عبد المؤمن على قرطبة لأخيه السيّد أبي إسحاق أنزله معه عبد الله بن عمر ابن تافراكين للمشورة مع جماعة من الموحدين كان منهم يوسف بن وانودين، وكان عبد الله المقدّم فيهم وجاء ابنه عمر من بعده مشتغلا بمذهبه مرموقا بتجلته [1] . ولمّا ولي السيد أبو سعيد بن عمر بن عبد المؤمن على إفريقية ولّاه قابس وأعمالها إلى أن استنزله عنها يحيى بن غانية سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.
ثم كان منهم بعد ذلك عظماء في الدولة وكبراء من المشيخة آخرهم عبد العزيز بن تافراكين، خالف الموحّدين بمراكش لما نقضوا بيعة المأمون، فاغتالوه في طريقه إلى المسجد عند الآذان للصبح، بما كان محافظا على شهود الجماعات. ورعاها له المأمون في أخيه عبد الحق وبنيه أحمد ومحمد وعمر فلما استلحم الموحّدون وعمهم الجزع ارتحل عبد الحق موريا بالحج ونزل على السلطان المستنصر فأنزله بمكانه من الحضرة وسرّحه بعض الأحايين إلى الحامة لحسم الداء فيها. وقد كان توقّع الخلاف من مشيختها فحسن غناؤه فيها، وقتل أهل الخلاف وحسم العلل، وولّاه السلطان أبو إسحاق على بجاية بعد مقتل محمد بن أبي هلال فاضطلع بها. ولما ولي الدعيّ ابن عمارة أنه سرّحه في عسكر من الموحّدين لقهر العرب وكفّ عداوتهم فأثخن فيهم ما شاء. ولم يزل معروفا بالرياسة مرموقا بالتجلة إلى أن هلك. وكان بنو أخيه عبد العزيز وهم: أحمد ومحمد وعمر جاءوا على أثره من المغرب فنزلوا بالحضرة خير منزل، وغذوا بلبان النعمة والجاه فيها. وكان أحمد كبيرهم، وولّاه السلطان أبو حفص على قفصه ثم على المهدية، ثم استعفى من الولاية فعوفي.
وكان السلطان أبو عصيدة يستخلفه على الحضرة إذا أخرج منها على ما كان لأوّله إلى أن هلك الأوّل المائة الثامنة سنة ثلاث. ونشأ ابناه أبو محمد عبد الله وأبو العبّاس
__________
[1] وفي نسخة أخرى: متقبلا مذهبه مرموقا تجلّته.

(6/509)


أحمد في حجر الدولة وجوّ عنايتها وأصهر عبد الله منهما إلى أبي يعقوب بن زذوتين شيخ الدولة في ابنته فعقد عليها. وأصهر من بعده أخوه أحمد بن أبي محمد بن يعمور في ابنته فعقد له أيضا عليها، واستخلص أبو ضربة بن اللحياني كبيرها أبا محمد عبد الله وآثره بصحبته، فلم يزل معه إلى أن كانت الواقعة عليه بمصوح، وتقبّض على كثير من الموحدين فكان في جملتهم. ومن عليه السلطان أبو بكر ورقّاه في رتب عنايته إلى أن ولّاه الوزارة بعد الشيخ أبي محمد بن القاسم. ثم قدّمه شيخا على الموحّدين بعد مهلك شيخهم أبي عمر بن عثمان سنة اثنتين وأربعين وبعثه إلى ملك المغرب مع ابنه الأمير أبي زكريا صاحب بجاية صريخا على بني عبد الواد فجلّى في خدمة السلطان وعرض سفارته. وتوجّه للإيثار بعدها إليه. واختصّ بالسفارة إلى ملك المغرب سائر أيامه. وغصّ الحاجب ابن سيّد الناس بمكانه، وهمّ بمكروهه فكبح السلطان عنانة عنه، ويقال إنه أفضى إليه بذات صدره من نكبته. ولما انقسمت خطط الدولة من الحرب والتدبير ومخالصة السلطان وتنفيذ أوامره بين ابن عبد العزيز الحاجب وابن الحكيم القائد. كان له هو القدح المعلى في المشورة والتدبير، وكانوا يرجعون إليه ويعوّلون على رأيه، وكان ثالث أثافيهم ومصقلة آرائهم.
ولما هلك ابن عبد العزيز، وكان السلطان قد أضمر نكبة ابن الحكيم، لما كان يتعاطاه من الاستبداد ويحتجنه من أموال السلطان، وأسرّ الحاجب ابن عبد العزيز إلى السلطان زعموا بين يدي مهلكه بالتحذير من ابن الحكيم وسوء دخلته، وأنه فاوضه أيام نزول العرب عليه بساح تونس سنة اثنتين وأربعين كما قدّمناه في الادالة من السلطان ببعض الأعياص من بني أبي دبوس، كانوا معتقلين بالحضرة، ألقاها الغدر على لسانه ضجرا من قعود السلطان عن الخروج بنفسه إلى العرب وسآمة ما هو فيه من الحصار واعتدّها عليه ابن عبد العزيز حتى ألقاها إلى السلطان عند موته، وبريء منها إليه فأودعها إذنا واعية وكان حتف ابن الحكيم فيها. ولمّا هلك وولي شيخ الموحدين أبو محمد بن تافراكين فاوضه في نكبة ابن الحكيم، وكان يتربّض به لما كان بينهما من المنافسة.
وكان ابن الحكيم غائبا عن الحضرة في تدويخ القاصية، وقد نزل جبل أوراس فاقتحمه واقتضى مغارمه وتوغّل في أرض الزاب واستوفى جباية من عامله يوسف بن منصور، وتقدّم إلى ريغة ونازل تغرت وافتتحها، وامتلأت أيدي العساكر من

(6/510)


مكاسبهم وخيلهم [1] . واتصل به خبر مهلك ابن عبد العزيز وولاية أبي محمد بن تافراكين الحجابة فنكر ذلك لما كان يظنّ أنّ السلطان لا يعدل بها عنه. وكان يرشح له كاتبه أبا القاسم وازار [2] ، ويرى أنّ ابن عبد العزيز قبله لم يتميز بها إيثارا عليه، فبدا له ما لم يحتسبه فظنّ الظنون وجمع أصحابه، وأغذّ السير إلى الحضرة وقد آمر السلطان أبا محمد بن تافراكين في نكبته وأعدّ البطانة للقبض عليه. وقدم على الحضرة منتصف ربيع من سنة أربع وأربعين وجلس له السلطان جلوسا فخما فعرض عليه هديّته من المقرّبات والرقيق والأنعام، حتى إذا انفضّ المجلس وشيّع السلطان وزراؤه وانتهى إلى بابه أشار إلى البطانة فلحقوا به ونقلوه إلى محبسه [3] . وبسط عليه العذاب لاستخراج الأموال فأخرجها من مكان احتجانها وحصل منها في مودع السلطان أربعمائة ألف من الذهب العين أو مثالها أو ما يقاربها قيمة من الجوهر والعقار إلى أن استصفى. ولما افتك عظمه ونفد ماله خنق بمحبسه في رجب من سنته وذهب مثلا في الأيام. وغرب ولده مع أمّه إلى المشرق، وطوح بهم الاغتراب إلى أن هلك منهم من هلك، وراجع الحضرة علي وعبيد منهم في آخرين من أصاغرهم بعد أيام وأحوال والله يحكم لا معقب لحكمه.
(الخبر عن شان الجريد واستكمال فتحه وولاية أحمد بن مكي على جزيرة جربة)
كان أمر الجريد قد صار إلى الشورى منذ شغلت الدولة بمطالبة زناتة بني عبد الواد وما نالها لذلك من الاضطراب، واستبدّ مشيخة كل بلد بأمره، ثم انفرد واحد منهم بالرياسة، وكان محمد بن بهلول من مشيخة توزر هم القائم فيها والمستبد بأمرها كما سنذكره. ولما نزعت الدولة إلى الاستبداد وأرهف السلطان حدّه للثّوار وعفى على آثار المشيخة بقفصة وعقد لابنه الأمير أبي العبّاس على قسطيلية. ونزل بقفصة فأقام بها
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حليهم.
[2] وفي نسخة أخرى: أبا القاسم بن واران.
[3] وفي نسخة أخرى: فأحدقوا به وتلّوه الى محبسه.

(6/511)


ممهدا لإمارته، ومردّدا بعوثه إلى البلاد اختبارا لما يظهرون من طاعته. وزحف حاجبه أبو القاسم بن عتوّ سنة [1] بالعساكر إلى نفطة ابتلاء لطاعة رؤسائها بني مدافع المعروفين ببني الخلف، وكانوا إخوة أربعة استبدوا برياستها في شغل الدولة عنهم فسامهم سوء العذاب، ولاذوا منه بجدران الحصون التي ظنوا أنها مانعتهم وتبرأت منهم الرعايا فأدركهم الدهش، وسألوا النزول على حكم السلطان فجذبوا إلى مصارعهم وصلبوا على جذوعهم آية للمعتبرين، وأفلت السيف عليّا صغيرهم لنزوعه إلى العسكر قبل الحادثة، فكانت له ذمّة واقية من الهالكة. فانتظم الأمير أبو العباس بلد نفطة في مملكته وجدّد له العقد عليها أبوه. وتملّك الكثير من نفزاوة.
ولما استبيحت نفطة ونفزاوة سمت همته إلى ملك توزر جرثومة الشقاق وعش الخلاف والنفاق، وخشي مقدّمها محمد بن بهلول عيث [2] حاله فذهب إلى مصانعة قائد الدولة محمد بن الحكيم بذات صدره فتجافى عنه إلى أن كان مهلكهما في سنة واحدة، واضطرب أمر توزر وتواثب بنوه وإخوته وقتل بعضهم بعضا. وكان أخوه أبو بكر معتقلا بالحضرة فأطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذ عليه المواثيق بالطاعة والجباية، ومضى إلى توزر فملكها وطالبه الأمير أبو العباس صاحب قفصة وبلاد قسطيلية بالانقياد الّذي عاهد عليه فنازعه ما كان في نفسه من الاستبداد وصارت لذلك شجا معترضا في صدر إمارته فخاطب أباه السلطان أبا بكر وأغراه به فنهض إليه سنة خمس وأربعين والتقى به ففرّ عنه وانتهى إلى قفصة وصار الخبر إلى أبي بكر ابن بهلول رئيسها يومئذ فأدركه الدهش وانفضّ من حوله الأولياء، وجاهر بطاعة السلطان ولقائه ففرّ عنه كاتبه وكاتب أبيه المستولي على أمره علي بن محمد المعمودي المعروف الشهرة، ولحق ببسكرة في جوار يوسف بن مزني وأغذّ السلطان السير إلى توزر فخرج إليه أبو بكر بن بهلول وألقى إليه يده وخلط نفسه بجملته.
ثم ندم على ما فرّط من أمره وأحس بالنكير من الدولة، وأنذر بالهلكة فلحق بالزاب ونزل على يوسف بن منصور ببسكرة فتلقاه من الترحيب والقرى بما تحدّث به الناس ولما استولى السلطان على توزر وانتظمها في أعماله عقد عليها لابنه الأمير أبي العبّاس وأنزله بها وأمكنه من رمتها ورجع السلطان إلى الحضرة ظافرا عزيزا، واتصلت [3]
__________
[1] بياض بالأصل ولم تستطع تحديد السنة في المراجع التي بين أيدينا.
[2] وفي نسخة أخرى: مغبّة.
[3] وفي نسخة أخرى: وتملأ.

(6/512)


أيام ملكه إلى أن هلك على فراشه كما نذكر. واتصلت ممالك الأمير أبي العبّاس في بلاد الجريد وساور أبو بكر بن بهلول [1] توزر مرارا يفلت في كلّها من الهلكة إلى أن مات ببسكرة سنة سبع وأربعين قبيل مهلك الناس كما نذكر. وأقام أبو العباس بمحل إمارته ولم يزل يمهّد الأحوال ويستنزل الثوّار. وكان أبو مكي قد امتنع عليه بقابس، وكان من خبره أنه لما رجع عبد الملك من تونس مع عبد الواحد بن اللحياني الّذي كان حاجبا له وذهب ابن اللحياني إلى المغرب وأقام هو بقابس. ثم استراب بمكان أمره مع السلطان حين ذهب ملك آل زيّان فأوفد أخاه أحمد بن مكي على السلطان أبي الحسن متنصّلا من ذنوبه متذمّما بشفاعته منه إلى السلطان أبي بكر فشفع له وأعاده السلطان إلى مكان رياسته. واستقام هو على الطاعة ونكب عن سنن العصيان والفتنة.
وكان لأحمد بن مكي حظ من المال والأدوات ونفس مشغوفة بالرياسة والشرف [2] ، وكان يقرض الشعر فكان يجيد ويرسل فيحسن، وكان خط كتابته أنيقا ينحو به منحى الخط الشرقيّ شأن أهل الجريد فيمتع ما شاء، فكانت لذلك كلّه في نفس الأمير أبي العبّاس صاغية إليه. وكان هو مستريبا بالمخالطة لما شاء من آثاره السالفة. ولم يزل الأمير أبو العبّاس يفتل له في الذروة والغارب إلى أن جلبه إلى مجلس السيدة أمّه الواحدة [3] أخت مولانا السلطان قافلة من حجهّا فمسح ما كان بصدره، وأحكم له عقد مخالصته واصطنعه لنفسه فحل من إمارته بمكان غبطة واعتزاز. وعقد له السلطان على جزيرة جربة، واستضافها إلى عمله وأنزل عنها مخلوف بن الكماد من صنائعه كان افتتحها سنة ثمان وثمانين وعقد له السلطان عليها فنزلها أحمد بن مكي. واستقل عبد الملك أخوه برياسة قابس فقاما على ذلك وجرّدا عزائمهما في ولاية أبي العبّاس صاحب أعمال الجريد فلم يزالوا كذلك إلى أن كان من أمر الجميع ما نذكر إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أبو بكر يملول.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بالرياسة والسرو.
[3] وفي النسخة الباريسية: أمة الواحد.

(6/513)


(الخبر عن مهلك الوزير أبي العباس بن تافراكين)
كان السلطان أبو بكر عند نكبة القائد ابن الحكيم استعمل على حجابته شيخ الموحدين أبا محمد بن تافراكين كما ذكرناه، وفوّض إليه فيما وراء بابه وعقد على الوزارة لأخيه أبي العبّاس أحمد وكان أبو محمد جليس الباب لمكان الحجابة فرفع إلى الحرب وقود العساكر، وإمارة الضاحية أخاه أبا العبّاس فقام بما دفع إليه من ذلك. وكان بنو سليم بعد مهلك حمزة بن عمر نقموا ما كان عليه من الإذعان وسموا إلى الخلاف والعناد فكان من أبناء حمزة في ذلك من الاجلاب على الحضرة ما ذكرناه وكان سحيم بن [1] من أولاد القوس بن حكيم بينه وبينهم غدر وخلاف وعناد [2] ، وكان السلطان قد ولّى على حجابة ابنه الأمير أبي العبّاس في أعمال الجريد أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وكان يناهض بني تافراكين بزعمه في الشرف، وينفس عليهم ما آتاهم الله من الرتبة والحظ، فلمّا ولي أبو محمد الحجابة مليء منه حسدا وحقدا [3] ، وداخل فيما زعموا سحيما هذا الغوي في النيل من أبي العبّاس بن تافراكين صاحب العساكر وشارطه على ذلك بما أدّاه إليه وتكاتموا أمرهم. وخرج أبو العبّاس بن تافراكين فاتح سنة سبع في العساكر لجباية هوّارة فوفد عليه سحيم هذا وقومه وضايقوه في الطلب. ثم انتهزوا الفرصة بعض الأيام وأجلبوا عليه، فانفضّ معسكره وكبابه فرسه فقتل وحمل شلوه إلى الحضرة فدفن بها وجاهر سحيم بالخلاف، وخرج إلى الرمال فلم يزل كذلك إلى مهلك السلطان كما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد اسم والده في المراجع التي بين أيدينا.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بهمة غوار ومارد خلاف وعناد.
[3] وفي نسخة ثانية: حسدا وحفيظة.

(6/514)


(الخبر عن مهلك الأمير أبي زكريا صاحب بجاية من الانباء وما كان بعد ذلك من ثورة أهل بجاية بأخيه الأمير أبي حفص وولاية ابنه الأمير أبي عبد الله)
كان السلطان أبو بكر لما هلك الحاجب بن عمر عقد على بجاية لابنه الأمير أبي زكريا كبير ولده، وأنفذه إليها مع حاجبه محمد بن القالون كما ذكرناه وجعل أموره تحت نظره. ثم رجع القالون إلى تونس فأنزل معه ابن سيّد الناس كذلك، فلما استبدّ سيّد الناس بحجابة الحضرة جعل على حجابته أبا عبد الله بن فرحون. ثم لما تقبّض على ابن سيّد الناس وعلي ابن فرحون وقد استبدّ الأمير أبو زكريا بأمره، وقام على نفسه فوض إليه السلطان الأمر في بجاية وبعث إليه ظافرا السنان مولى أبيه الأمير أبي زكريا الأوسط قائدا على عسكره. والكاتب أبا إسحاق بن علاق [1] متصرّفا في حجابته فأقاما ببابه مدة ثم صرفهما إلى الحضرة، وقدّم لحجابته أبا العباس أحمد بن أبي زكريا الرندي، كان أبوه من أهل العلم وكان ينتحل مذهب الصوفية الغلاة، ويطالع كتب عبد الحق بن سبعين. ونشأ أحمد هذا ببجاية واتصل بخدمة السلطان وترقّى في الرتب إلى أن استعمله الأمير أبو زكريا كما قلناه. ثم هلك وقد أنف السلطان أبو بكر من الأمراء هؤلاء على حجابة ابنه [2] فأنفذ لها من حضرته كبير الموحدين يومئذ وصاحب السفارة أبا محمد بن تافراكين سني أربعين وسبعمائة فأقام أحوال ملكه، وعظم أبّهة سلطانه، وجهّز العساكر لسفره وأخرجه إلى أعماله فطاف عليها وتفقّدها، وانتهى إلى تخومها من المسيلة ومقرة. ولم يستكمل الحول حتى سخطه المشيخة من أهل بجاية لما نكروا من الأبهة والحجاب حتى استغلظ عليهم باب السلطان، وتولى كبر ذلك القاضي ابن يوسف تعنّتا وملالا، واستعفى هو من ذلك فأعفي وعاد إلى مكانه بالحضرة.
ثم استقدم الأمير أبو زكريا حاجبه الأوّل بعهد ابن سيّد الناس، وهو أبو عبد الله محمد ابن فرحون، وقد كان السلطان بعثه في غرض الرسالة إلى ملك المغرب في الأسطول
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: علان، وفي نسخة أخرى: غلان.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: من انتزاء هؤلاء السوقة على حجابة ابنه.

(6/515)


الّذي بعثه مددا للمسلمين عند إجازة السلطان أبي الحسن إلى طريف. وكان أخوه زيد بن فرحون قائد ذلك الأسطول بما كان قائده ببحر بجاية، فلما رجع أبو عبد الله ابن فرحون من سفارته تلك أذن له في المقام عند الأمير أبي زكريا واستعمله على حجابته إلى أن هلك فولي من بعده في تلك الخطة ابن القشاش من صنائع دولته. ثم عزله وولّى عليها أبا القاسم بن علناس من طبقة الكتّاب، واتصل بدار هذا الأمير وترقّى في ديوانه إلى أن ولّاه خطة الحجابة. ثم عزله وولى يحيى بن محمد بن المنت الحضرميّ [1] . كان أبوه وعمّه قدما على جالية الأندلس وكانا ينتحلان القراءات.
وأخذ أهل بجاية عن عمّه أبي الحسن علم القراءات، وكان خطيبا بجامع السلطان ونشأ علي ابن أخيه واستعمل في الديوان، وكان طموحا للرئاسة واتصل بحظية كانت للمولى أبي زكريا تسمّى أمّ الحكم قد غلبت على هواه، فرسمت على ابن المنت هذا بخطة الحجابة [2] واستعمله فيها فقام بها وأصلح معونات السلطان وأحوال مقاماته في سفره، وجهّز له العساكر وجال في نواحي أعماله.
وهلك هذا الأمير في إحدى سفراته وهو على حجابته بتاكرارت من أعمال بجلية من مرض كان أزمن به في ربيع الأوّل سنة سبع وأربعين وسبعمائة وكان ابنه الأمير أبو عبد الله في حجر مولاه فارح بن معلوجي ابن سيّد الناس. وكان اصطنعه فألفاه قابلا للترشيح فأقام مع ابن مولاه ينتظر أمر الخليفة، وبادر حاجبه الأوّل أبو القاسم بن علناس إلى الحضرة وأنهى الخبر إلى الخليفة فعقد على بجاية لابنه الأمير أبي حفص كان معه بالحضرة، وهو من أصاغر ولده، وأنفذه إليها مع رجاله وأولى اختصاصه.
وخرج معه أبو القاسم بن علناس فوصل إلى بجاية ودخلها على حين غفلة. وحمله الأوغاد من البطانة على إرهاف الحدّ وإظهار السطو فخشي الناس البوادر وائتمروا. ثم كانت في بعض الأيام هيعة تمالأ فيها الكافة على التوثّب بالأمير القادم فطافوا بالقصبة في سلاحهم ونادوا بإمارة ابن مولاهم. ثم تسوّروا جدرانها واقتحموا داره وملكوا أمره وأخرجوه برمّته بعد أن انتهبوا جميع موجودة، وتسايلوا إلى دار الأمير أبي عبد الله محمد ابن أميرهم ومولاهم بعد أن كان معتزما على التقويض عنهم واللحاق بالخليفة جدّه. وأذن له في ذلك عمه القادم فبايعوه بداره من البلد. ثم نقلوه من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ثم عزله بعلي بن محمد بن المنت الحضرميّ.
[2] وفي نسخة ثانية: فرسخت على ابن المنت هذا خطة الحجابة.

(6/516)


الغد إلى قصره بالقصبة وملّكوه أمرهم. وقام بأمره مولاه فارح ولقبه باسم الحجابة واستمرّ حالهم على ذلك. ولحق الأمير أبو حفص بالحضرة آخر جمادى الأولى من سنته لشهر يوم ولايته إلى أن كان من شأنه بعد مهلك مولانا السلطان ما نذكره. وتدارك السلطان أمر بجاية وبعث إليهم أبا عبد الله بن سليمان من كبار الصالحين ومشيخة الموحدين يسكنهم ويؤنسهم وبعث معه كتاب العقد عليها لحافده الأمير أبي زكريا طالبا مرضاتهم [1] فسكنت نفوسهم وأنسوا بولاية ابن مولاهم، وجاءت الأمور إلى مصايرها كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى والله وليّ التوفيق.
(الخبر عن مهلك مولانا السلطان أبي بكر وولاية ابنه الأمير أبي حفص)
بينما الناس في غفلة من الدهر وظلّ ظليل من العيش وأمن من الخطوب تحت سرادق من العز وذمّة وافية من العدل، إذ ريع بالسرف وتكدّر الشرق [2] وتقلّصت ظلال العز والأمن، وتعطّل فناء الملك ونعي السلطان أبو بكر بتونس فجأة من جوف الليل ليلة الأربعاء ثاني رجب من سنة سبع وأربعين وسبعمائة، فهبّ الناس من مضاجعهم متسايلين إلى القصر يستمعون نبأ النعي وأطافوا به سائر ليلتهم تراهم سكارى وما هم بسكارى. وبادر الأمير أبو حفص عمر من داره إلى القصر فملكه وضبط أبوابه واستدعى الحاجب أبا محمد بن تافراكين من داره، ودعوا المشيخة من الموحّدين والموالي وطبقات الجند، وأخذ الحاجب عليهم البيعة للأمير أبي حفص. ثم جلس من الغد جلوسا فخما على الترتيب المعروف في الدولة أحكمه الحاجب أبو محمد لمعرفته لعوائدها وقوانين ترتيبها، تلقّنه عن أشياخه أهل الدولة من الموحدين، وغدا عليه الكافة في طبقاتهم فبايعوا له وأعطوه صفقة إيمانهم. وانفضّ المجلس وقد انعقدت بيعته وأحكمت خلافته.
وكان الأمير خالد ابن مولانا السلطان مقيما بالحضرة قدمها رائدا [3] منذ أشهر وأقام
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: ذهابا مع مرضاتهم.
[2] وفي نسخة أخرى: إذ ريع السرب وتكدّر الشرب.
[3] وفي نسخة أخرى: زائرا.

(6/517)


متهنئا [1] من الزيارة، فلما سمع النعي فرّ من ليلته، وتقبّض عليه أولاد منديل من الكعوب وردّوه إلى الحضرة فاعتقل بها. وقام أبوه محمد بن تافراكين بخطة الحجابة كما كان وزيادة تفويض واستبداد إلّا أن بطانة السلطان كانوا يكثرون السعاية فيه ويوغرون صدره عليه يذكرون منافساته ومناقشة سابقة بين الحاجب والأمير أيام أبيه، واتصل ذلك منهم غصا لمكانه، وأنذر الحاجب بذلك منهم فأعمل الحيلة في الخلاص من صحابتهم كما يذكر بعد أهـ، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن زحف الأمير أبي العباس وليّ العهد من مكان إمارته بالجريد الى الحضرة وما كان من مقتله ومقتل أخويه الأميرين أبي فارس عزوز وأبي البقاء خالد)
كان السلطان أبو بكر قد عهد إلى ابنه الأمير أبي العبّاس صاحب أعمال الجريد كما ذكرناه سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، فلمّا بلغه خبر مهلك أبيه وما كان من بيعة أخيه، حقد على أهل الحضرة ما جاءوا به من نقض عهده. ودعا العرب إلى مظاهرة أمره، فأجابوه ونزعوا جميعا إلى طاعته عن طاعة أخيه بما كان مرهفا لحده في الاستبداد والضرب على أيدي أهل الدولة من العرب وسواهم. وزحف إلى الحضرة ولقيه أخوه أبو فارس صاحب عمل سوسة لقيه بالقيروان فآتاه طاعته وصار في جملته، وجمع السلطان أبو حفص عمر جموعه واستركب واستلحق وأزاح العلل، وخرج غرّه شعبان وارتحل عن تونس، وحاجبه أبو محمد بن تافراكين قد أنذر منه بالهلكة، واعتمل في أسباب النجاة، حتى إذا تراءى الجمعان رجع الحاجب إلى تونس في بعض الشغل وركب الليل ناجيا إلى المغرب. وبلغ خبر مفرّة إلى السلطان فأجفل واختلّ مصادفه، وتحيّز إلى باجة فتلوم بها وتخلّف عنه أهل المعسكر فلحقوا بالأمير أبي العباس، وملك الحضرة ثامن رمضان ونزل برياض رأس الطابية وأطلق أخاه أبا البقاء من معتقله.
ثم دخل إلى قصره لسبع ليال من ملكه وصبحه الأمير أبو حفص في ثامنها فاقتحم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: متمليا.

(6/518)


عليه البلد لضاغنة كانت له في قلوب الغوغاء من غشيانه نساءهم [1] وطروقه منازلهم أيام جنون الشباب وقضاء لذاته في مرباه. وفتك بأخيه الأمير أبي العبّاس.
ولسرعان ما نصب رأسه على القناة، وداست شلوه هنالك سنابك العسكر، وأصبح آية للمعتبرين. وثارت العامّة بمن كان بالبلد من وجوه العرب ورجالاتهم فقتلوا في تلك الهيعة من كتب عليه القتل. وتلّوا كثيرا منهم إلى السلطان فاعتقلهم، وقتل أبا الهون [2] بن حمزة بن عمر بن بينهم، وتقبّض على أخويه خالد وعزوز، فأمر بقطعهم من خلاف فقطعوا وكان فيه مهلكهم. واستوسق ملكه بالحضرة واستعمل على حجابتها أبا العبّاس أحمد بن علي بن زين من طبقة الكتّاب، وكان كاتبا للضحشى [3] الحاجب وبعده للقائد ظافر الكبير. واتصل السلطان أبو بكر لأوّل ملكه بالحضرة فأسف عليّ بن عمر بولاية ابن القالون الحاجب فخاطب السلطان فيه ونكبه. ثم أطلق من محبسه ومضى إلى المغرب ونزل على السلطان ابن سعيد فأجمل نزله، ثم رجع إلى الحضرة ولم يزل مشرّدا أيام السلطان كلّها واستكتب الأمير أبو حفص ولده محمدا وكانت له به وصلة، فلما استوسق له الملك بعد مفرّ أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه، وولّى أباه أبا العبّاس هذا على حجابته، وعقد على حربه وعساكره لظافر مولى أبيه وجدّه المعروف بالسّنان، واستخلص لنجواه وسرّه كاتبه أبا عبد الله محمد بن الفضل ابن نوّار [4] من طبقة الفقهاء والقضاة ومن أهل البيوت النابهة بتونس، كان له بها سلف مذكور، واتصل بدار السلطان وارتسم بها مكتبا لولده. وقرأ عليه هذا الأمير أبو حفص فيمن قرأ عليه منهم فكانت له من أجل ذلك يد [5] ومزيد عناية عنده. ولما استبدّ بأمره كان هو مستبدّا بشوراه، وجرت الحال على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أسمارهم.
[2] وفي نسخة ثانية: أبو الهول.
[3] وفي نسخة ثانية: للشخشي الحاجب
[4] وفي نسخة ثانية: ابن نزار.
[5] وفي نسخة ثانية: خصوصية به.

(6/519)


(الخبر عن استيلاء السلطان أبي الحسن على افريقية ومهلك الأمير أبي حفص وانتقال الأبناء من بجاية وقسنطينة الى المغرب وما تخلل ذلك من الاحداث)
كان السلطان أبو الحسن يحدّث نفسه منذ ملك تلمسان وقبلها بملك إفريقية، ويتربّص بالسلطان أبي بكر ويسرّ له حسدا في ارتقاء [1] ، فلما لحق به حاجبه أبو محمد بن تافراكين بعد مهلكه رغبه في سلطانها واستحثّه بالقدوم عليها، وجدّد له الجوار [2] فتنبهت لذلك عزائمه. ثم وصل الخبر بمهلك وليّ العهد وأخويه وخبر الواقعة، فأحفظه لذلك بما كان من رضاه بعهده، وخطه بالوفاق على ذلك بيده في سجله. وذلك أنّ حاجب الأمير أبي العبّاس وهو أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحّدين كان سفر عن السلطان لآخر أيامه إلى السلطان أبي الحسن بهدية. وحمل سجل العهد فوقف عليه السلطان أبو الحسن، وسأل منه إمضاء لمولاه وكتب ذلك بخطه في سجله، فخطّه بيمينه وأحكم له عقده. فلما بلغه مهلك وليّ العهد تعلّل بأنّ النقض أتى على ما أحكمه فأجمع غزو إفريقية ومن بها، فعسكر بظاهر تلمسان، وفرّق الأعطيات، وأزاح العلل. ثم رحل في صفر من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة يجرّ الدنيا بما حملت. وأوفد عليه أبناء حمزة بن عمر أمراء البدو بإفريقية، ورجالات الدنيا بما حملت. وأوفد عليه أبناء حمزة بن عمر أمراء البدو بإفريقية، ورجالات الكعوب أخاهم خالدا يستصرخه لثأر أخيهم أبي الهول الهالك يوم الواقعة فأجابهم.
ونزع إليهم أيضا أهل القاصية من إفريقية بطاعتهم فجاءوا في وفد واحد مع ابن مكي صاحب قابس وابن يملول صاحب توزر وابن العابد صاحب قفصة ومولاهم ابن أبي عنّان صاحب الحامة وابن الخلف صاحب نفطة، فلقوه بوهران وآتوه بيعتهم رغبة ورهبة. وأدّوا بيعة ابن ثابت صاحب طرابلس، ولم يتخلّف عنهم إلا من بعد داره. ثم جاء من بعدهم وعلى أثرهم صاحب الزاب يوسف بن منصور بن مزني ومعه مشيخة الموحدين الزواودة، وكبيرهم يعقوب بن علي فلقيه بنو حسن من أعمال بجاية
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ويسرّ له حسوا في ارتغاء.
[2] وفي نسخة ثانية: وحرّك له الحوار.

(6/520)


فأوسع الكل حبا وتكرمة، وأسنى الصلات والجوائز وعقد لكل منهم على بلده وعمله. وبعث مع أهل الجزائر الولاة للجباية لنظر مسعود بن إبراهيم اليرنياوي [1] من طبقة وزرائه، وأغذّ السير إلى بجاية، فلما أطلت عساكره عليها توافر أهلها في الامتناع، ثم أنابوا وخرج أميرها أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا فآتاه طاعته، وصرفه إلى المغرب مع إخوانه، وأنزله ببلد ندرومة. وأقطع له الكفاية من جبايتها وبعث على جباية عمّاله وخلفائه [2] . وسار إلى قسنطينة فخرج إليه أبناء الأمير أبي عبد الله يقدمهم كبيرهم الأمير أبو زيد وآتوه طاعتهم، وأقبل عليهم وصرفهم إلى المغرب وأنزلهم بوجدة وأقطعهم جبايتها، وأنزل بقسنطينة خلفاء وعمّاله، وأطلق القرابة من مكان اعتقالهم بها، وفيهم أبو عبد الله محمد أخو السلطان أبي بكر وبنوه، ومحمد ابن الأمير خالد وإخوانه وبنوه، وأصارهم في جملته حتى صرفهم إلى المغرب من الحضرة من بعد ذلك.
ووفد عليه هنالك بنو حمزة بن عمرو مشايخ قومهم الكعوب فأخبروه باجفال المولى أبي حفص من تونس مع ظواعن أولاد مهلهل، واستحثّوه باعتراضهم قبل لحاقهم بالقفر، وسرّح معهم العساكر في طلبه لنظر حمو العشري من مواليه، وسرّح عسكرا آخر إلى تونس لنظر يحيى بن سليمان من بني عسكر ومعه أبو العبّاس بن مكي، وسارت العساكر لطلب الأمير أبي حفص فأدركوه بأرض الحامة من جهات قابس، وضبحوهم فدافعوا عن أنفسهم بعض الشيء، ثم انفضّوا وكبابا لأمير أبي حفص جواده في بعض نافقاء اليرابيع [3] ، وانجلت الغيابات عنه وعن مولاه ظافر راجلين فتقبّض عليهما، وأوثقهما قائد الكتائب بيده، حتى إذا جنّ الليل وتوقّع أن يفلتهما العرب من أساره قبل أن يصل بهما إلى مولاه فذبحهما، وبعث برءوسهما إلى السلطان أبي الحسن فوصلا إليه بباجة.
وخلص الفلّ من الواقعة إلى قابس، فتقبّض عبد الملك بن مكي على رجالات من أهل الدولة، كان فيهم أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وصخر بن موسى بن رجالات سدويكش وغيرهما من أعيان الدولة، فبعث بهم ابن مكي إلى السلطان.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اليرنياني.
[2] وفي نسخة ثانية: الكفاف من جبايتها وبعث على بجاية عماله وخلفاءه.
[3] كذا في النسخة الباريسية ونافقاء اليربوع: جحره. وفي نسخة أخرى تافقاء الجرابيع.

(6/521)


فأمّا ابن عتو وصخر بن موسى وعلي بن منصور فقطّعهم من خلاف، واعتقل الباقي، وسيقت العساكر إلى تونس. ثم جاء السلطان على أثرهم ودخل الحضرة في الزي والاحتفال في جمادى الآخرة من سنته، وخفتت الأصوات وسكنت الدهماء وانقبضت أيدي أهل الفساد، وانقرض أمر الموحدين إلّا أذيالا في بونة فإنه عقد عليها للمولى الفضل ابن مولانا أبي بكر لمكان صهره ووفادته عليه بين يدي مهلك أبيه. ثم ارتحل السلطان إلى القيروان ثم إلى سوسة والمهديّة وتطوّف على المعالم التي بها، ووقف على آثار ملوك الشيعة وصنهاجة في مصانعها ومبانيها، والتمس البركة في زيارة القبور التي تذكر للصحابة والسلف من التابعين والأولياء في ساحتها، وقفل إلى تونس فدخلها آخر شعبان والله تعالى أعلم.
(الخبر عن ولاية الأمير أبي العباس الفضل على بونة وأوّلية ذلك ومصايره)
كان السلطان أبو الحسن قد أصهر إلى السلطان أبي بكر قبيل مهلكه في إحدى كرائمه، وأوفد عليه في ذلك عريف بن يحيى كبير بني سويد من زغبة وصاحب شواره وخالصة سرّه وفد من رجالات دولته من طبقات الفقهاء والكتاب والموالي كان فيهم صاحب الفتيا بمجلسه أبو عبد الله السطي وكاتب دولته أبو الفضل عبد الله بن أبي مدين وأمير الحرم عنبر الخصيّ، فاسعفه السلطان وعقد له على حظيته عزونة شقة ابنه الفضل وزفها إليه بين يدي مهلكه مع أخيها الفضل، ومعه أبو محمد عبد الواحد ابن الجماز [1] من مشيخة الموحّدين، وأدركهم الخبر بمهلك السلطان في طريقهم. فلما قدموا على السلطان أبي الحسن تقبلهم بقبول حسن، ورفع مجلس الفضل، واستتبّ له ملكها فأعرض عن ذكر ذلك، إلّا أنه رعى له ذمّة الصهر وسابقة الوعد فأسعفه [2] بالعقد على بونة مكان عملة منذ أيام أبيه، وأنزله بها عند ما رحل عنها إلى تونس. وانقمع [3] المولى الفضل من ذلك حقدا لما يرجوه من تجافيهم له عن ملك
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أكمازير وفي نسخة ثانية أكماز.
[2] وفي نسخة أخرى: فأقنعه.
[3] وفي نسخة أخرى: واضطغن.

(6/522)