تاريخ ابن خلدون
الخبر عن القرابة
المرشحين من آل عبد الحق من الغزاة المجاهدين بالأندلس الذين قاسموا
ابن الأحمر في ملكه وانفردوا برياسة جهاده
كانت الجزيرة الأندلسية وراء البحر منذ انقراض [1] أمر بني عبد المؤمن
وقيام ابن الأحمر بأمرها، قليلة الحامية، ضعيفة الأحوال إلّا من يلهمه
الله لعمل الجهاد من قبائل زناتة المؤمّلين كرّة الملك والمقتسمين
ممالك المغرب، وخصوصا بني مرين أهل المغرب الأقصى لاتّصال عدوة الأندلس
ببسائطه ولتعدّد الفراض ببحر الزقاق القريب العدوتين. وما زال أهل
الزقاق على قديم الزمان لأجل ذلك فرضة دون سواحل المغرب.
(ولما استولى) بنو مرين على ممالكه، وضاقت أحوال المسلمين بالأندلس،
وأخذ بمخنقهم الطاغية حتى ألجأهم إلى سيف البحر واستأثر بالقوسرة [2]
وما وراءها.
واستأثر بنو القمص أهل برشلونة وقطلوسة بشرق الأندلس. وانتشر في
الأقطار ما كان من أمر قرطبة وأضنيها إشبيلية وبلنسية، وامتعض لذلك
المسلمون وتنافسوا في الجهاد وإمداد الأندلس بأموالهم وأنفسهم، وسابق
الناس إلى ذلك الأمير ابو زكريا بن أبي حفص بما كان صاحب الوقت
والمؤمّل للكرّة، فاستنفذ الكثير من أمواله ومقرّباته في إمدادهم بعد
أن كانوا آثروا القيام بدعوته، وأوفدوا عليه المشيخة ببيعتهم. وكان
ليعقوب بن عبد الحق أمل في الجهاد وحرص عليه. فاعتزم في سلطان أخيه أبي
يحيى على الإجازة لذلك، فمنعه ضنّة به عن الاغتراب عنه. وأوعز إلى صاحب
سبتة يومئذ أبي علي بن خلاص بمنعه منها، فوعّر له السبيل وسدّ عليه
المذاهب.
ولم ينشب يعقوب بن عبد الحق أن قام بسلطان المغرب بعد أخيه أبي يحيى
وشغل بشأنه. وأهمّه شأن ابن أخيه إدريس منهم في الجهاد بعد العدوة،
فاغتنمها منه وعقد له من مطوعة زناتة على ثلاثة آلاف أو يزيدون. وأجاز
معه رحّو ابن عمه عبد الله بن عبد الحق. وفصلوا إلى الأندلس سنة إحدى
وستين وستمائة فحسنت
__________
[1] وفي النسخة المصرية: انقضاء.
[2] وفي الطبعة المصرية: الفرنتيرة.
(7/485)
آثارهم في الجهاد وكرمت مقاماتهم. ثم رجع
عامر بن إدريس إلى المغرب وكثر انتقاض القرابة. ونافسهم أقيال زناتة في
مثلها، فاجتمع أبناء الملوك بالمغرب الأوسط مثل عبد الملك ويغمراسن بن
زيان وعامر بن منديل بن عبد الرحمن وزيان بن محمد ابن عبد القوي
فتعاقدوا على الإجازة إلى الأندلس إلى الجهاد، وأجازوا فيمن خفّ معهم
من قومهم سنة ست وسبعين وستمائة، فامتلأت الأندلس بأقيال زناتة وأعياص
الملك منهم. وكان فيمن أجاز من أعياصهم بنو عيسى بن يحيى بن وسناف بن
عبّو ابن أبي بكر بن حمامة. ومنهم سليمان وإبراهيم [1] وكانت لهما آثار
في الجهاد ومقامات محمودة، وكان موسى بن رحّو لما نازلة السلطان وبني
أبيه عبد الله بن عبد الحق بحصن علودان ونزلوا على عهده لحق بتلمسان.
وكان بنو عبد الله بن عبد الحق وإدريس بن عبد الحق عصبة من بين سائرهم،
لأنّ عبد الله وإدريس كانا شقيقين لسوط النساء بنت عبد الحق، فاقتفى
أثر يعقوب بن عبد الحق بن عبد الله محمدا ابن عمّه إدريس، وخرج على
السلطان بقصر كتامة سنة ثلاث وستين وستمائة، ثم استرضاه عمّه واستنزله.
وبقي يعقوب بن عبد الله في انتقاضه ينتقل في الجهات إلى أن قتله طلحة
بن محلى من أولياء السلطان سنة ثلاث وستين وستمائة بجهات سلا، فكفى
السلطان شأنه. ولما كان من عهد السلطان لابنه أبي مالك ما قدّمناه نفّس
عليه هؤلاء القرابة هذا الشأن، فانتفضوا ولحق ابن إدريس بحصن علودان.
ولحق موسى بن رحّو بن عبد الله بجبال غمارة ومعه أولاد عمه أبي عياد بن
عبد الحق، ونازلهم السلطان حتى نزلوا على عهده، وأجازهم إلى الأندلس
سنة سبعين وستمائة، فأقاموا بها للجهاد سوقا ونافسهم أقيال زناتة في
مثلها بتلمسان، وأجاز منها إلى الأندلس سنة سبعين وستمائة، فولاه
السلطان ابن الأحمر على جميع الغزاة المجاهدين هنالك، لما كان كبيرهم
ومحلّ سؤلهم [2] . ولم يلبث أن عاد إلى المغرب، فولّى السلطان مكانه
أخاه عبد الحق. ثم رجع عنه مغاضبا إلى تلمسان، فولي مكانه على الغزاة
المجاهدين إبراهيم بن عيسى بن يحيى بن وسناف إلى أن كان ما نذكره إن
شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي الطبعة المصرية: ومنهم سليمان بن إبراهيم.
[2] وفي نسخة ثانية: فحل شولهم.
(7/486)
الخبر عن موسى بن
رحو فاتح هذه الرئاسة بالأندلس وخبر أخيه عبد الحق من بعده وابنه حمو
بن عبد الحق بعدهما
لما هلك السلطان الشيخ بن الأحمر وولي ابنه السلطان الفقيه، ووفد على
السلطان يعقوب بن عبد الحق صريخا للمسلمين، فأجاز إليه أوّل إجازته سنة
ثلاث وسبعين وستمائة وأوقع بجيوش النصرانية. وقتل الزعيم دنّنه واستولى
له الغلب على الأندلس، وبدا لابن الأحمر في أمره وخشي مغبته، وتوقع أن
يكون شأنه معه شأن يوسف بن تاشفين والمرابطين مع ابن عياد. وكان
بالأندلس قرابته بنو أشقيلولة قد قاسموه في ممالكها، وانفردوا بوادي آش
ومالقة وقمارش حسبما ذكرناه في أخباره مع السلطان، وانتقض عليه أيضا من
رؤساء الأندلس ابن عبدريل [1] وابن الدليل، فكانوا يجلبون على بلاد
المسلمين. وكانوا قد استنجدوا جيوش النصرانية ونازلوا غرناطة، وعاثوا
في الجهات، فلما استوت قدم السلطان يعقوب بن عبد الحق بالأندلس، وصل
هؤلاء الثوّار به أيديهم، فخشيهم ابن الأحمر جميعا على نفسه.
وقلب السلطان ليوسف ظهر المجن، واستظهر عليه بالأعياص من قرابته. وكان
هؤلاء القرابة من أولاد رحّو بن عبد الله بن عبد الحق وإدريس بن عبد
الحق، وينسبون جميعا إلى سوط النساء كما ذكرناه، ومن أولاد أبي عياد بن
عبد الحق لما أوجسوا الخيفة من السلطان واستشعروا النكير منه، لحقوا
بالأندلس ثورية بالجهاد، وانتبذوا عن الهول [2] فرارا من محله. وقد كان
السلطان أبو يوسف حين انتقضوا عليه أشخصهم إلى الأندلس، فاجتمع منهم
عند ابن الأحمر عصابة من أولاد عبد الحق كما قلناه، وأولاد وسناف
وأولاد نزّول وتاشفين بن معطي كبير بني تيربيغن من بني محمد. وتبعهم
أولاد محلى أخوال السلطان أبي يوسف، وكان ابن الأحمر كثيرا ما يعقد لهم
على الغزاة المجاهدين من زناتة لدار الحرب، فعقد أولا لموسى بن رحّو
سنة ثلاث وسبعين وستمائة ولأخيه عبد الحق بعد انصرافه إلى المغرب، ثم
لإبراهيم بن عيسى بعد انصرافهما معا كما قلناه. ثم رجعا فعقد لموسى بن
رحّو ثانية على أشياخه،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ابن عبدويل.
[2] وفي نسخة ثانية: وانتباذا عن الشول.
(7/487)
وأثبت له قدما في الرئاسة ليحسن به دفاع
السلطان أبي يوسف عنهم. ثم تداولت الامارة فيهم ما بينهم وبين عمومتهم.
وربما عقد قبل ذلك أزمان الفترة ليعلى بن أبي عيّاد بن عبد الحق في بعض
الغزوات، ولتاشفين بن معطي في أخرى سنة تسع وسبعين وستمائة ومعه طلحة
بن محلى، فاعترضوا الطاغية دون حصر المسلمين وربّما كان لهم الظهور. ثم
حدثت الفتنة بينه وبين السلطان أبي تاشفين وعقد ابن الأحمر في بعض
حروبه معه ليعلى بن أبي عياد على زناتة جميعا، وحاشهم إلى رايته،
فانفضّت جموع أبي يوسف، وظهروا عليه، وتقبّضوا في المعركة على ابنه
منديل، واستاقوه أسيرا إلى أن أطلقه السلطان ابن الأحمر في سلم عقده
بعد مهلكه، مع أبيه يوسف بن يعقوب. واستبدّ موسى بن رحّو من بعدها
بإمارة الغزاة بالأندلس إلى أن هلك، فوليها من بعده أخوه عبد الحق إلى
أن هلك سنة تسع وسبعين وستمائة وكان مظفّر الراية على عدوّ المسلمين.
ولمّا هلك ولي من بعده ابنه حمّو بن عبد الحق فكانت هذه الامارة متّصلة
في بني رحّو إلى أن انتقلت منهم إلى إخوانهم من بني أبي العلاء وغيرهم.
واندرج حمّو في جملة عثمان بن أبي العلاء من بعد حسبما نذكر.
وأمّا إبراهيم بن عيسى الوسنافي فإنه رجع إلى المغرب، ونزل على يوسف بن
يعقوب وقتله بمكانه من حصار تلمسان بعد حين من الدهر، وبعد أن كبر
وعمي. والله مالك الأمور لا ربّ غيره، وكان مهلك ابن أبي عيّاد سنة سبع
وثمانين وستمائة ومعطي بن أبي تاشفين سنة تسع وثمانين وستمائة وطلحة بن
محلى سنة ست وثمانين وستمائة والله أعلم.
(الخبر عن عبد الحق بن عثمان شيخ الغزاة
بالأندلس)
كان عبد الحق هذا من أعياص الملك المريني ويعاسيبهم وهو من ولد محمد بن
عبد الحق ثاني الأمراء على بني مرين بعد أبيهم عبد الحق. وهلك أبوه
عثمان بن محمد بالأندلس إحدى أيام الجهاد سنة تسع وسبعين وستمائة وربّي
عبد الحق هذا في حجر السلطان يوسف بن يعقوب إلى أن كان من أمر خروجه مع
الوزير رحّو بن يعقوب على السلطان أبي الربيع ما ذكرناه في أخباره.
ولحق بتلمسان وأجاز منها إلى الأندلس،
(7/488)
وسلطانه يومئذ أبو الجيوش ابن السلطان
الفقيه. وشيخ زناتة حمّو بن عبد الحق بن رحّو. وخاطبهم السلطان أبو
سعيد ملك المغرب في اعتقاله، فأجابوه وفرّ من محبسه، ولحق بدار الحرب.
ولما انتقض أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد وبايع لنفسه بمالقة، وزحف
إلى غرناطة فنازلها، ووقعت الحرب بظاهرها بين الفريقين وأخذ في بعض
حروبهما [1] حمّو بن عبد الحق أسيرا، وسيق إلى السلطان أبي الوليد.
وكان معه عمّه أبو العبّاس بن رحّو فأبى من اسار ابن أخيه وخلّى عنه،
فرجع إلى سلطانه فارتاب به لذلك. وعقد على الغزاة مكانه لعبد الحق بن
عثمان استدعاه من مكانه بدار الحرب. ثم غلبهم أبو الوليد على غرناطة.
وتحوّل أبو الجيوش على وادي آش على سلم انعقد بينهم، وسار معه عبد الحق
بن عثمان على شأنه. ثم وقعت بينه وبين أبي الجيوش مغاضبة، لحق لأجلها
بالطاغية وأجاز إلى سبتة، فاستظهر به أبو يحيى بن أبي طالب العزفي أيام
حصار السلطان أبي سعيد إياه، فكان له في حماية ثغره والدفاع عنه آثار
مذكورة. ثم عقد السلطان أبو سعيد السلم ليحيى العزفي، وأفرج عنه،
فارتحل عبد الحق بن عثمان إلى إفريقية. ونزل ببجاية سنة تسع عشرة
وسبعمائة على أبي عبد الرحمن بن عمر صاحب السلطان أبي يحيى المستبدّ
بالثغور الغربيّة، فأكرم نزله، وأوسع قراره، وضرب له الفساطيط بالزينة
[2] من ساحة البلد استبلاغا في تكريمه وحمله وأصحابه على مائة وخمسين
من الخيل، ثم أقدمهم على السلطان بتونس فبرّ مقدمهم، وخلط عبد الحق
بنفسه وآثره بالخلّة والصحابة، وأجلّه بمكان الاستظهار به وبعصابته.
ولما عقد السلطان لمحمد بن سيّد الناس على حجابته سنة سبع وعشرين
وسبعمائة واستقدمه لذلك من ثغر بجاية كما ذكرناه، عظمت رياسته واستغلظ
حجّابه، وحجب عبد الحق ذات يوم عن بابه، فسخطها وذهب مغاضبا، وداخل أبا
فارس في الخروج على أخيه، فأجابه وخرج به من تونس، فكان من خبرهم ومقتل
أبي فارس وخلوص عبد الحق إلى تلمسان ونزوله على أبي تاشفين، وغزوة إلى
إفريقية مع عساكر بني عبد الواد سنة سبع وعشرين وسبعمائة ما ذكرناه في
أخبار الدولة الحفصيّة.
ثم لما رجع بنو عبد الواد إلى تلمسان صمد مولانا السلطان أبو يحيى إلى
تونس في
__________
[1] وفي نسخة ثانية: في بعض أيامها.
[2] وفي نسخة ثانية: بالرشة.
(7/489)
أخريات سنته. وفرّ ابن أبي عمران السلطان
المنصوب بتونس من بني أبي حفص إلى أحياء العرب، وتقبّض على أبي رزين
[1] ابن أخي عبد الحق بن عثمان في جملة من أصحابه، فقتله قعصا بالرماح.
ورجع عبد الحق بن عثمان إلى مكانه من تلمسان، فأقام بمثواه عند أبي
تاشفين متبوّئا من الكرامة والاعتزاز ما شاء إلى أن هلك بمهلك أبي
تاشفين يوم اقتحم السلطان أبو الحسن تلمسان عليهم سنة سبع وثلاثين
وسبعمائة وقتلوا جميعا عند قصر الملك أبو تاشفين وأبناء عثمان ومسعود
وحاجبه موسى بن علي، ونزيله عبد الحق هذا، وأبو ثابت ابن أخيه، فقطعت
رءوسهم وتركت أشلاؤهم بساحة القصر عبرة للمعتبرين حسبما ذكرناه في
أخبار أبي تاشفين، والله أعلم.
(الخبر عن عثمان بن أبي العلاء من أمراء
الغزاة المجاهدين بالأندلس)
كان أولاد سوط النساء من ولد عبد الحق، أهل عصابة واعتزاز على قومهم،
وهم أولاد إدريس وعبد الله ابنيها والشقيقين كما ذكرناه. وكان مهلك
إدريس الأكبر يوم مهلك أبيه بتافريطت [2] ومهلك عبد الله قبله. وخلف
عبد الله ثلاثة من الولد تشعّب فيهم نسله، وهم: يعقوب ورحّو وإدريس.
واستعمل أبو يحيى بن عبد الحق يعقوبا منهم على سلا عند افتتاحه إياها
سنة تسع وأربعين وستمائة ثم انتزى بها بعد ذلك على عمّه يعقوب سنة ثمان
وخمسين وستمائة، وكان من شأن ثورة النصارى به ما ذكرناه، واستخلصها
يعقوب بن عبد الحق ولحق يعقوب بن عبد الله بعلودان من بلاد غمارة،
وامتنع بها، وخرج على أثره ابنا عمّه إدريس وهما: عامر ومحمد، وانتزوا
بالقصر الكبير، ولحق بهم كافة أولاد سوط النساء. وطالبهم السلطان
فلحقوا بجبال غمارة ونازلهم، ثم استنزلهم بعد ذلك على الأمان، وعقد
لعامر على الغزو إلى الأندلس سنة ستين وستمائة كما ذكرناه، وأجاز معه
رحّو بن عبد الله. ورجع محمد بن عامر ومرّ إلى تلمسان سنة ثمانين
وستمائة وأجاز منها إلى الأندلس.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أبي زيان، وفي نسخة ثانية: ابن رزين.
[2] وفي نسخة ثانية: بتافرطنيت.
(7/490)
ثم خرجوا على السلطان يعقوب بن عبد الحق
سنة تسع وثمانين وستمائة [1] ومعهم ولد أبي عياد بن عبد الحق واعتصموا
بعلودان، واستنزلهم السلطان على اللحاق بتلمسان فلحقوا بها. وأجاز
أولاد سوط النساء وأولاد أبي عياد كافة إلى الأندلس واستقرّوا بها
يومئذ، ورجع عامر منهم ومحمد وكان من خبره ما نذكر. وهلك يعقوب بن عبد
الله سنة ثمان وستين وستمائة في اغترابه بقفوله من رباط الفتح، قتله
طلحة بن محلى.
واستقرّ بنوه من أولاد سوط النساء بالمغرب، وكان ابنه أبو ثابت أميرا
على بلاد السوس أيام السلطان يوسف بن يعقوب وأوقع بالركبة [2] سنة تسع
وتسعين وستمائة ولم يزل بنوه بالمغرب من يومئذ. وكان من إخوانه أبي
العلاء ورحّو ابنا عبد الله بن عبد الحق تشعّب نسله فيهما، وأجاز رحّو
إلى الأندلس مع عامر ومحمد ابن عمّه إدريس.
ثم أجاز موسى ابنه سنة تسع وتسعين وستمائة [3] مع أولاد أبي عيّاد
وأولاد سوط النساء. ثم رجع إلى محلّه من الدولة وفرّ ثانيا سنة خمس
وسبعين وستمائة إلى تلمسان، وأجاز منها إلى الأندلس واستقرّ بها. وأجاز
أولاد أبي العلاء سنة خمس وثمانين وستمائة مع أولاد أبي يحيى بن عبد
الحق وأولاد عثمان بن عبد الحق واستقرّوا بالأندلس، وكانوا يرجعون في
رياستهم لكبيرهم عبد الله بن أبي العلاء. وعقد له ابن الأحمر على
الغزاة من زناتة فيمن كان يعقد لهم من زناتة قبل استقرار المنصب، إلى
أن هلك شهيدا في إحدى غزوات سنة ثلاث وتسعين وستمائة وعقد المخلوع ابن
الأحمر لأخيه عثمان بن أبي العلاء، على حامية مالقة وغربيّها من الغزاة
لنظر ابن عمّه الرئيس أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر. ولما
غدر الرئيس أبو سعيد بسبتة سنة خمس وسبعمائة وتمّت له في مثلها الحيلة،
واضطرمت نار العداوة بينه وبين صاحب المغرب، فنصبوا عثمان هذا للأمر،
وأجازوه إلى غمارة، فثار بها ودعا لنفسه، وتغلّب على أصيلا والعرائش،
وكان ما ذكرنا إلى أن غلبه أبو الربيع سنة ثمانين وستمائة، ورجع إلى
مكانه بالأندلس ولما اعتزم أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد على الخروج
على أبي الجيوش صاحب غرناطة، داخل في ذلك شيخ الغزاة بمالقة عثمان بن
أبي العلاء، فساعده عليه، واعتقل أباه الرئيس أبا سعيد، وزحف
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تسع وستين.
[2] وفي نسخة ثانية: يزكنة.
[3] وفي نسخة ثانية: تسع وستين.
(7/491)
إلى غرناطة سنة أربع عشرة وسبعمائة فلما
استولى عليها عقد لعثمان هذا على إمارة الغزاة المجاهدين من زناتة،
وصرف عنها عثمان بن عبد الحق: بن عثمان، فلحق بوادي آش مع أبي الجيوش.
وصار حمّو بن عبد الحق بن رحّو في جملته بعد أن كان شيخا على الغزاة
كما قلناه. واستمرّت أيام ولاية عثمان هذا، وبعد فيها صيته، وغصّ صاحب
المغرب أبو سعيد بمكانه، ولما استصرخه المسلمون للجهاد سنة ثمان عشرة
وسبعمائة اعتذر بمكان عثمان هذا، واشترط عليهم القبض عليه حتى يرجع
عنهم فلم يكن ذلك، ونازل الطاغية غرناطة وحاصرها، وكان لعثمان وبنيه في
ذلك آثار مذكورة.
وأتاح الله للمسلمين في النصرانية على يد عثمان هذا وبنيه ما لم يخطر
على قلب أحد منهم، فتأكّد اغتباط الدولة والمسلمين بمكانهم إلى أن هلك
أبو الوليد سنة خمس وعشرين وسبعمائة، باغتيال بعض الرؤساء من قرابته
بمداخلة عثمان هذا، زعموا في غدره، ونصّب للأمر ابنه محمد صبيا لم يبلغ
الحلم. وأقام بأمره وزيره محمد بن المحروق من صنائع دولتهم، فاستبدّ
عليه وألقى زمام الدولة بيد عثمان في النقض والإبرام، فاعتزّ عليهم
وقاسمهم في الأمر، واستأثر في أعطيات الغزاة بكثير من أموال الجباية،
حتى خشي الوزير على الدولة. وأدار الرأي في كبره [1] على التغلّب، فجمح
وفسد ما بينه وبين الوزير ابن المحروق، فانتقض عليه وخرج مغاضبا،
فاضطربت فساطيطه بمرج غرناطة. واعصوصب جماعة الغزاة من قبائل زناتة
عليه، واعتصم الوزير وأهل الدولة بالحمراء وسعى الناس بينهما أياما،
وأدار الوزير الرأي في أن ينصب له كفؤا من قرابته، يجاذبه الحبل ويشغله
بشأنه عن الدولة، فجأجأ بيحيى بن عمر بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق
وكان في جملة عثمان وأصهر إليه في ابنته. وعقد له على الغزاة وتسايلوا
إليه. وبرز [2] عثمان بمعسكره في عشيرة وولده، وعقد معه السلم في أن
يجيز إلى المغرب. وأوفد بطانته على السلطان أبي سعيد سنة ثمان وعشرين
وسبعمائة وارتحل من ساحة غرناطة في ألف فارس من ذويه وأقاربه وحشمه.
وقصد تدرش [3] ليجعلها فرضة لمجازه، حتى إذا حاذى تدرش [4]
__________
[1] وفي نسخة ثانية: في كبحه.
[2] وفي نسخة ثانية: وتفرّد.
[3] وفي نسخة ثانية: وقصد المرية.
[4] وفي نسخة ثانية: اندوس وفي نسخة أخرى: اندوجر.
(7/492)
وكان بينه وبين رؤسائها مداخلة، فخرجوا
إليه مؤدّين حق مبرّته، فغدر بهم وأركب إليها فملكها وضبطها، وأنزل بها
حرمه وأثقاله. ودعا محمد ابن الرئيس أبي سعيد من شلوبانية كان منزلا
بها، فجاء إليه ونصّبه للأمر، وشنّ الغارات على غرناطة صباحا ومساء،
واضطرمت نار الفتنة. واستركب يحيى بن رحّو من قدر عليه من زناتة. وطالت
الحرب سنين حتى إذا فتك السلطان محمد بن الأحمر بوزيره ابن المحروق،
استدعى عثمان بن أبي العلاء، وعقد له السلم على أن يجيز عمّه إلى
المغرب ويلحق بغرناطة لشأنه من رياسة الغزاة، فتمّ ذلك سنة تسع وعشرين
وسبعمائة ورجع إلى مكانه من الدولة. وهلك إثر ذلك لسبع وثلاثين سنة من
إمارته على الغزاة. والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن رياسة ابنه أبي ثابت من بعده
ومصير أمرهم)
لما هلك شيخ الغزاة ويعسوب زناتة عثمان بن أبي العلاء، قام بأمره وقومه
ابنه أبو ثابت عامر، وعقد السلطان أبو عبد الله بن أبي الوليد له على
الغزاة المجاهدين كما كان أبوه، فعظم شأنه قوّة وشكيمة وكثرة عصابة
ونفوذ رأي وبسالة. وكان لقومه اعتزاز على الدولة، بما عجموا من عودها،
وكانوا أولي بأس وقوّة فيها واستبداد عليها، وكان السلطان محمد بن أبي
الوليد مستنكفا عن الاستبداد عليه في القلّة والكثرة، فكان كثيرا ما
يخرّقهم [1] بتسفيه آرائهم والتضييق عليهم في جاههم. ولما وفد على
السلطان أبي الحسن سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة صريخا على الطاغية،
واستغذّ ابنه الأمير أبا مالك لمنازلة جبل الفتح، اتهموه بمداخلة
السلطان أبي الحسن في شأنهم، فتنكّروا وأجمعوا الفتك به، وداخلوا في
ذلك بعض صنائعه ممن كان متربّصا بالدولة فساعدهم. ولمّا افتتح الجبل
وكان من شأنه ما قدّمنا ذكره، وزحف الطاغية فأناخ عليه، وقصد ابن
الأحمر الطاغية في بنيه راغبا أن يرجع إلى الحصن، فرجع
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يحقدهم.
(7/493)
وافترقت عساكر المسلمين، ارتحل السلطان ابن
الأحمر إلى غرناطة سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة وقد قعدوا له بمرصد من
طريقه. ونمي الخبر إليه، فدعا بأسطوله لركوب البحر إلى مالقة، واستبق
إليهم الخبر بذلك، فتبادروا إليه ولقوة بطريقة من ساحل اصطبونة، فلاحوه
وعاتبوه في شأن صنيعته عاصم من معلوجيه، وحاجّهم عنه، فاعتوروا عاصما
بالرماح فنكر ذلك عليهم، فألحقوه به، وخرّ صريعا عن مركوبة، وبعثوا إلى
أخيه يوسف فأعطوه بيعتهم، وصفقة أيمانهم، ورجعوا به إلى غرناطة وهو حذر
منهم لفعلتهم التي فعلوا. واستمرّت الحال على ذلك. ولما استكمل السلطان
أبو الحسن فتح تلمسان وصرف عزائمه إلى الجهاد داخل ابن الأحمر في
إزاحتهم عن الأندلس مكان جهاده، فصادف منه إسعافا وقبولا وحرصا على
ذلك، وتقبّض على أبي ثابت وإخوته إدريس ومنصور وسلطان. وفرّ أخوهم
سليمان فلحق بالطاغية، وكان له في يوم طريف أثر في الإيقام بالمسلمين،
ولما تقبّض ابن الأحمر على أبي ثابت وإخوته، أودعهم جميعا المطبق
أياما، ثم غرّبهم إلى إفريقية، فنزلوا بتونس على مولانا السلطان أبي
يحيى. وأوعز إليه السلطان أبو الحسن بالتوثق منهم أن يتصلوا بنواحي
المغرب، ويخالفوه إليها أيام شغله بالجهاد في الأندلس، فاعتقلهم وأوفد
أبا محمد بن تافراكين إلى سدّة السلطان أبي الحسن إليه شفيعا فيهم،
فتقبّل شفاعته وأحسن نزلهم وكرامتهم، حتى إذا احتلّ بسبتة أيام حصار
الجزيرة في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة سعى بهم عنده، فتقبّض عليهم
واعتقلهم بمكناسة. ولما انتزى ابنه الأمير أبو عنان على الأمر. وهزم
منصور ابن أخيه أبي مالك صاحب فاس، ونازلة بالبلد الجديد، بعث فيهم إلى
مكناسة، فأطلقهم من الاعتقال وأفاض فيهم الإحسان، واستظهر على شأنه.
وأحلّ ابا ثابت محل الشورى من مجلسه، وداخل إدريس أخاه في المكر بالبلد
الجديد، فنزع إليها ومكر بهم، وثار عليهم إلى أن نزلوا على حكم السلطان
أبي عنان، فعقد لأبي ثابت على سبتة وبلاد الريف ليشارف منها الأندلس
محل إمارته. وأطلق يده في المال والجيش، وفصل لذلك، فهلك بالطاعون
يومئذ سنة تسع وأربعين وسبعمائة بمعسكره إزاء معسكر السلطان من حصار
البلد الجديد. واستقرّ إخوانه في إيالة السلطان أبي عنان بالمغرب
الأقصى إلى أن كان من مفرّ أخيه إدريس وولايته على الغزاة بالأندلس، ما
نذكره إن شاء الله تعالى.
(7/494)
الخبر عن يحيى بن عمر بن رحو وإمارته على
الغزاة بالأندلس أوّلا وثانيا ومبدإ ذلك وتصاريفه
كان رحّو بن عبد الله كبير ولد عبد الله بن عبد الحق، وكان له بنون
كثيرون، وتشعّب نسله فيهم، منهم: موسى وعبد الحق والعبّاس وعمر ومحمد
وعلي ويوسف. أجازوا كلهم إلى الأندلس مع أولاد سوط النساء من تلمسان
كما قدّمناه. وأقام عمر بعدهم بتلمسان مدّة واتخذ بها الأهل والولد. ثم
لحقهم وولّى موسى إمارة الغزاة بعد إبراهيم ابن عيسى الوسنافي، وبعده
أخوه عبد الحق على الغزاة أقام بها مدّة وأجاز إلى سبتة مع الرئيس أبي
سعيد وعثمان بن أبي العلاء سنة خمس وسبعمائة وولي بعدها على الغزاة
المجاهدين. ثم رجع إلى الأندلس، ولم يلبث بها أن أجاز إلى المغرب. ونزل
على السلطان أبي سعيد، فأكرم نزله، ثم رجع إلى الأندلس. ولما ولي إمارة
الغزاة عثمان بن أبي العلاء، وكان بينهم من المنافسة ما يكون بين فحول
الشول، أشخص بني رحّو جميعا إلى إفريقية، فنزلوا على مولانا السلطان
أبي يحيى خير نزل، اصطفاهم واستخلصهم واستظهر جمعهم في حروبه. وهلك عمر
بن رحّو ببلاد الجريد وقبره ببشرى من نفزاوة معروف، ونزع ابنه يحيى من
بين إخوته عن مولانا السلطان أبي يحيى، وصار في جملة ابن أبي عمران، ثم
لحق بزواوة وأقام في بني يتراتن [1] سنين، ثم أجاز إلى الأندلس واستقرّ
بمكانه من قومه. واصطفاه عثمان بن أبي العلاء وأصهر إليه بابنته، وخلطه
بنفسه. ولما فسد ما بينه وبين ابن المحروق وزير السلطان بغرناطة سنة
سبع وعشرين وسبعمائة واعصوصب عليه الغزاة بمعسكره من مرج غرناطة دسّ
إليه يومئذ ابن المحروق إلى يحيى بن عمر هذا. ودعاه إلى مكان عمله
ليضبطه [2] بذلك، فأجاب ونزع عن عثمان وقومه إلى ابن المحروق وسلطانه.
وعقد له على الغزاة فتسايلوا إليه عن عثمان شيخهم، وانصرف إلى المدية
وكان من شأنه ما قصصناه في أخباره، وأقام يحيى بن عمر في رياسته إلى أن
هلك ابن المحروق بفتكة سلطانه. واستدعى عثمان بن أبي العلاء للرئاسة
فرجع إليها.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يراتن.
[2] وفي نسخة ثانية: إلى مكان عثمان ليغيظه.
(7/495)
وصرف يحيى بن عمر إلى وادي آش، وعقد له على
الغزاة بها فأقام حينا، ثم رجع إلى مكانه بين قومه. واصطفاه عثمان بن
أبي العلاء وابنه أبا ثابت لما كانت أمه بنت موسى بن رحّو، فكان يتعصّب
لخؤولته فيهم ثم هلك عثمان وكان ما قدّمناه من شأن ولده وفتكهم
بالسلطان المخلوع. وتقبّض أخوهم أبو الحجاج عليهم، وأشخصهم إلى إفريقية
وقوّض مباني رياستهم. وعقد على الغزاة مكانهم ليحيى بن عمر هذا، فاضطلع
بها أحسن اضطلاع. واستمرّت حاله وحضر مشاهد أبي الحجاج مع السلطان أبي
الحسن، فظهرت كفايته وغناؤه. ولما هلك أبو الحجّاج سنة خمس وخمسين
وسبعمائة طعينا بمصلّى العيد، في آخر سجدة من صلاته، بيد عبد من عبيد
اصطبله مصاب في عقله، أغري زعموا به، وقتل لحينه هبرا بالسيوف. وبويع
لابنه محمد، أخذ له البيعة على الناس يومئذ مولاه رضوان من معلوجاتهم،
حاجب أبيه وعمّه. وقام بأمره واستبدّ عليه وحجره، فقاسم يحيى بن عمر
هذا في شأنه وشاركه في أمره وشدّ أزر سلطانه به، حتى إذا ثار بالحمراء
الرئيس ابن عمّهم محمد ابن إسماعيل بن محمد ابن الرئيس أبي سعيد قائما
بدعوة إسماعيل بن أبي الحجاج أخي السلطان محمد كان ساكنا بالحمراء.
وتحيّنوا لذلك مغيب السلطان في متنزهه بروضة خارج الحمراء، فخالفوه
إليها وكبسوها ليلا فقتلوا الحاجب المستبد رضوان. وأجلس السلطان على
سرير ملكه ونادوا بالناس إلى بيعته. ولما أصبح غدا عليهم يحيى بن عمر
بعد أن يئسوا منه وخشوا عاديته، فأتاهم ببيعته وأعطى عليها صفقته
وانصرف إلى منزله. وبعد استيلائهم استخلصوا إدريس بن عثمان بن أبي
العلاء، كان وصل إليهم من دار الحرب بأرض برشلونة كما نذكر. وولّوه
إمارة الغزاة وائتمروا في التقبّض على يحيى بن عمر. ونذر بذلك فركب في
حاشيته يؤمّ دار الحرب من أرض الجلالقة، واتبعه إدريس فيمن إليه من
قومه، فقاتلهم صدر نهاره وفضّ جموعهم. ثم خلص إلى تخوم النصرانية ولحق
منها بسدّة ملك المغرب أثر سلطانه المخلوع محمد بن أبي الحجّاج، وخلّف
ابنه أبا سعيد عثمان بدار الحرب. ونزل يومئذ على السلطان أبي سالم سنة
إحدى وستين وسبعمائة فأكرم مثواه وأحله من مجلسه محل الشورى والمؤامرة،
واستقرّ في جملته إلى أن بعث ملك قشتالة في السلطان المخلوع، بإشارة
ابنه أبي سعيد وسعايته في ذلك، ليجلب به على أهل الأندلس بما نقضوا من
عهده. وجهّزه السلطان أبو سالم سنة ثلاث وستين وسبعمائة فصحبه
(7/496)
يحيى بن عمر هذا. ولقيهم ابنه أبو سعيد
عثمان وقاموا بأمر سلطانهم، واستولى على الأندلس بمظاهرتهم، وكان لهم
آثار في ذلك. ولما استولى على غرناطة سنة ثلاث وستين وسبعمائة عقد
ليحيى بن عمر على إمارة الغزاة كما كان وأعلى يده. واستخلص عثمان
لشوراه وخلطه ببطانته. ونافسه الوزير يومئذ محمد بن الخطيب فسعى فيهم،
وأغرى السلطان بهم، فتقبّض عليهم سنة أربع وستين وسبعمائة وأودعهم
المطبق. ثم أشخص يحيى سنة ست وستين وسبعمائة إلى المشرق وركب السفن من
المدية [1] فنزل بالإسكندرية، ورجع منها إلى المغرب، ونزل على عمر بن
عبد الله أيام استبداده واستقرّ في كرامة وخير مقامة، ولم يزل بالمغرب
على أعز الأحوال إلى أن هلك سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة ثم استخلص
ابنه أبا سعيد عثمان من الاعتقال سنة تسع وستين [2] وسبعمائة إلى
إفريقية ونزل ببجاية على مولانا السلطان أبي العبّاس حافد مولانا
السلطان أبي يحيى واستقرّ في جملته. وحضر معه فتح تونس وأبلى فيه.
وأقطع له السلطان وأسنى له الجراية، وخلطه بنفسه واصطفاه لشوراه
وخلّته، وهو لهذا العهد من عظماء مجلسه وظهرائه في مقامات حروبه،
وإخوته بالأندلس على مراكز عزّهم وفي ظلال عصبيتهم مع قومهم، وقد ذهب
مواجد السلطان بالأندلس عليهم وصار إلى جميل رأيه فيهم. والله مالك
الملك ومقلّب القلوب لا ربّ غيره.
(الخبر عن إدريس بن عثمان بن أبي العلاء
وإمارته بالأندلس ومصاير أمره)
لما هلك أبو ثابت بن عثمان بن أبي العلاء سنة خمسين وسبعمائة، واستمرّ
إخوته في جملة السلطان أبي عنان ملك المغرب وأقطعهم وأسنى جراياتهم،
وكان في إدريس منهم بقية الترشيح يراه الناس به. فلمّا نهض السلطان إلى
فتح قسنطينة سنة ثمان وخمسين وسبعمائة توغّل في ديار إفريقية وحام قومه
عن مواقعها، تحيّلوا عليه في الرجوع به عن قصده منها. وأذنت المشيخة
لمن معهم من قومهم في الانطلاق إلى المغرب حتى خفّ المعسكر من أهله
وتآمروا، زعموا في اغتيال السلطان والإدالة منه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المرية.
[2] وفي نسخة ثانية: سبع وستين.
ابن خلدون م 32 ج 7
(7/497)
بإدريس هذا، ونذر بذلك فكرّ راجعا كما
ذكرناه في أخباره. ولما اشيع ذلك ركب إدريس ظهر الغدر وفرّ من العسكر
ليلا، ولحق بتونس، ونزل على القائم بالدولة يومئذ الحاجب أبي محمد بن
تافراكين خير نزل وأبرّه. وركب السفين من تونس إلى العدوة، فنزل على
ابن القمص صاحب برشلونة في حشمه وذويه. وأقام هنالك إلى أن كان من مهلك
رضوان الحاجب المستبدّ بالأندلس سنة ستين وسبعمائة ما قدّمناه فنزع إلى
منبته من غرناطة. ونزل على إسماعيل ابن السلطان أبي الحجّاج والقائم
بدولته يومئذ الرئيس محمد ابن عمّه إسماعيل بن محمد الرئيس أبي سعيد
فلقوه مبرّة وتكريما ورجوه بالإدالة به من يحيى بن عمر أمير الغزاة
يومئذ، لما كانوا يتّهمونه به من ممالأة المخلوع صاحب الأمر عليهم.
ولما نزع يحيى بن عمر إلى الطاغية، ولحق بدار الحرب سنة إحدى وستين
وسبعمائة عقدوا لإدريس بن عثمان هذا على الغزاة مكانه. وولّوه خطة أبيه
وأخيه بدولتهم، فاضطلع بها. ومالأ الرئيس محمدا على قتل سلطانه إسماعيل
بن الحجّاج واستبدّ بالأمر، ولسنتين من ولايته غلبه المخلوع أبو عبد
الله على الأمر، وزحف إليه من رندة، كان نزل بها بعد خروجه من دار
الحرب مغاضبا للطاغية. وأذن له وزير المغرب عمر بن عبد الله في نزولها
فنزلها، ثم زحف إلى الثائر بغرناطة على ملكهم الرئيس وحاشيته فأجفلوا.
ولحق الرئيس محمد بن إدريس هذا بقشتالة، ونزلوا في جملتهم وحاشيتهم على
الطاغية، فتقبّض عليهم. وقتل الرئيس محمد وحاشيته جزاء بما أتوه من غدر
رضوان. ثم غدر السلطان إسماعيل من بعده وأودع إدريس ومن معه من الغزاة
السجن بإشبيليّة، فلم يزل في أسره إلى أن تحيّل في الفرار بمداخلة مسلم
من الأسرى [1] أعدّ له فرسا إزاء معتقله، ففكّ قيده، ونقب البيت،
وامتطى فرسه ولحق بأرض المسلمين سنة ست وستين وسبعمائة واتبعوه
فأعجزهم، وجاء إلى السلطان أبي عبد الله محمد المخلوع فأكرم نزله وأحسن
مبرّته، ثم استأذنه في اللحاق بالمغرب فأذن له وأجاز إلى سبتة، وبلغ
شأنه إلى صاحب الأمر بالمغرب يومئذ عمر بن عبد الله، فأوعز إلى صاحب
سبتة بالتقبّض عليه لمكان ما يؤنس من ترشيحه. وأودعه السجن بمكناسة، ثم
نقله السلطان عبد العزيز إلى سجن الغدر [2] بفاس، ثم قتلوه خنقا سنة
سبعين وسبعمائة
__________
[1] وفي طبعة بولاق المصرية: الدجن.
[2] وفي طبعة بولاق المصرية: الغور.
(7/498)
والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن إمارة علي بن بدر الدين على
الغزاة بالأندلس ومصاير أمره)
قد ذكرنا أنّ موسى بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق، كان أجاز إلى
الأندلس مع محمد وعامر ابني إدريس بن عبد الحق وقومهم، أولاد سوط
النساء سنة تسع وستين وسبعمائة ثم رجع إلى المغرب وفرّ إلى تلمسان
وأجاز منها إلى الأندلس. وولي إمارة الغزاة بها إلى أن هلك بعد أن أصهر
إليه السلطان يوسف بن يعقوب في ابنته، فعقد له عليها وزفّها إليه سنة
تسع وسبعين وسبعمائة مع وفد من قومهم. وكان لموسى بن رحّو من الولد
جماعة أكبرهم المحمدان جمال الدين وبدر الدين، وضع عليهما هذين اللقبين
على طريقة أهل المشرق الشريف المكيّ الوافد على المغرب لذلك العهد من
شرفاء مكة. وكان هؤلاء الأعياص من ملوكهم وأقيالهم يعظمون أهل البيت
النبوي ويلتمسون الدعاء والبركة منهم فيما تيسّر من أحوالهم، فحمل موسى
بن رحّو ولديه هذين عند وضعهما إلى الشريف يحنّكهما ويدعو لهما، فقال
له الشريف خذ إليك جمال الدين، وقال في الآخر خذ إليك بدر الدين،
فاستحب موسى دعاءهما بهذين اللقبين تبرّكا بتسمية الشريف بهما، فاشتهرا
بهذين الاسمين. ولما بلغا الأشد وشاركا أباهما في حمل الرئاسة وكان من
مهلكه ما ذكرناه، وانحرفت رياسة الغزاة عنهما إلى عمّهما عبد الحق
وابنه، فلحق جمال الدين منهما بالطاغية سنة ثلاث ثم أجاز البحر من
قرطاجنّة الى السلطان يوسف بن يعقوب من معسكره من حصار تلمسان، واستقرّ
في جملته حتى إذا هلك السلطان تصدّى ابنه ابو سالم للقيام بأمره، وكان
مغلّبا مضعّفا فلم يتمّ أمره، وتناول الملك أبو ثابت حافد السلطان
واستولى عليه. وفرّ أبو سالم عشيّ مهلكه ومعه من القرابة جمال الدين
هذا وأعمامه العباس وعيسى وعلي بنو رحّو بن عبد الله، فتقبّض عليهم في
طريقهم بمديونة وسيقوا إلى السلطان أبي ثابت، فقتل عمّه أبا سالم وجمال
الدين بن موسى بن رحّو، وامتنّ على الباقين واستحياهم، وانصرف السلطان
بعدها إلى الأندلس، فكانت له في الجهاد آثار كما ذكرناه قبل. وأما بدر
الدين فلم يزل بالأندلس مع قومه، ومحله من الرئاسة والتجلّة
(7/499)
محلّه من النسب إلى أن هلك، فقام بأمره من
بعده ابنه علي بن بدر الدين مزاحما لقومه في الرئاسة، مباهيا في
الترشيح. وكان كثيرا ما يعقد له ملوك بني الأحمر على الغزاة من زناتة
المرابطين بالثغور فيما بعد عن الحضرة من قواعد الأندلس، مثل مالقة
والمرية ووادي آش، سبيل المرشحين من أهل بيته، وكانت إمارة الغزاة
بالأندلس مستأثرة بأمر السيف والحرب، مقاسمة للسلطان أكثر الجباية في
الأعطية والأرزاق لما كانت الحاجة إليهم في مدافعة العدوّ ومقارعة ملك
المغرب إلى ملك الأندلس، يغضّون لهم عن استطالتهم عليهم لمكان حاجتهم
إلى دفاع العدوّين، حتى إذا سكن ريح الطاغية بما كان من شغله بفتنة أهل
دينه منذ منتصف هذه المائة، وشغل بنو مرين أيضا بعد مهلك السلطان أبي
الحسن وتناسوا عهد الغلب على أقتالهم وجيرانهم، وتناسوا عهد ذلك أجمع.
فاعتزم صاحب الأندلس على محو هذه الخطّة من دولته. وأغراه بذلك وزيره
ابن الخطيب كما ذكرناه حرصا على خلاء الجوّ له، فتقبّض على يحيى بن عمر
وبنيه سنة أربع وستين وسبعمائة كما ذكرناه، وعقد على الغزاة المجاهدين
لابنه وليّ عهده الأمير يوسف، ومحا رسم الخطة لبني مرين بالجملة إلى أن
توهّم فناء الحامية منهم بفناء بيوت العصبيّة الكبرى، فراجع رأيه في
ذلك. وكان علي بن بدر الدين خالصة له وكان مقدّما على الغزاة بوادي آش.
ولما لحق السلطان به ناجيا من النكبة ليلة مهلك رضوان، مانع دونه
وظاهره على أمره حتى إذا ارتحل إلى المغرب ارتحل معه. ونزلوا جميعا على
السلطان أبي سالم سنة إحدى وستين وسبعمائة كما ذكرناه. ولما رجع إلى
الأندلس رجع في جملته فكان له بذلك عهد وذمّة رعاهما السلطان له، وكان
يستخلصه ويناجيه. فلمّا تفقّد مكان الأمير على الغزاة ونظر من يولّيه
عثر اختياره على هذا لسابقته ووسائله وما تولّاه من نصحه ووقوفه عند
حدّه، فعقد له سنة سبع وستين وسبعمائة على الغزاة كما كان أولوه، فقام
بها واضطلع بأمورها، واستمرّت حاله إلى أن هلك حتف أنفه سنة ثمان وستين
وسبعمائة، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
الخبر عن إمارة عبد الرحمن بن علي أبي
يفلوسن ابن السلطان أبي علي على الغزاة بالأندلس ومصاير أمره
كان أولاد السلطان أبي علي قد استوقروا بالأندلس وأجازوا إلى طلب الأمر
بالمغرب.
(7/500)
وكان من أمرهم ما شرحناه، إلى أن أجاز عبد
الرحمن هذا مع وزيره المصادر [1] به مسعود بن رحّو بن ماسي سنة ست
وستين وسبعمائة من غساسة على سلم عقده لهم وزير المغرب المستبدّ بأمره
يومئذ عمر بن عبد الله. ونزل عبد الرحمن هذا بالمنكب، وكان السلطان
يومئذ معسكرا بها فتلقّاه من البرّ بما يناسبه. وأكرم مثواه وأسنى
الجراية له ولوزيره ولحاشيته. واستقرّوا في جملة الغزاة المجاهدين حتى
إذا هلك علي بن بدر الدين سنة ثمان وستين وسبعمائة نظر السلطان فيمن
يوليه أمرهم، فعثر اختياره على عبد الرحمن هذا لما عرف به من البسالة
والإقدام ولقرب الشرائح [2] بينه وبين ملك المغرب يومئذ، التي هي ملاك
الترشيح لهذه الخطة بالأندلس كما قدّمناه، لما كانت رشائح ولد عبد الله
بن عبد الحق قد بعدت باتصال الملك في عمود نسب صاحب المغرب دون نسبهم،
فآثره صاحب الأندلس بها، وعقد له على الغزاة المجاهدين سنة ثمان وستين
وسبعمائة وأضفى عليه لبوس الكرامة والتجلّة وأقعده بمجلس المؤازرة [3]
كما كان الأمراء قبله، واتصل الخبر بسلطان المغرب يومئذ عبد العزيز ابن
السلطان أبي الحسن، فغصّ بمكانه، وتوهّم أنّ هذه الإمارة زيادة في
ترشيحه ووسيلة لملكه، وكانت لوزير الأندلس محمد بن الخطيب مداخلة مع
صاحب المغرب، بما أمّل أن يجعله فيئة لاعتصامه، فأوعز إليه بالتحيّل
على إفساد ما بينه وبين صاحب الأندلس، فجهد في ذلك جهده.
ونسب عليه وعلى وزيره مسعود بن ماسي إلى عظماء القبيل وبعض البطانة من
أهل الدولة التحسّب [4] والدعوة إلى الخروج على صاحب المغرب، فأحضرهم
السلطان ابن الأحمر وأعطاهم كتابهم، فشهد عليهم وأمر بهم المغرب،
فأحضرهم السلطان ابن الأحمر وأعطاهم كتابهم، فشهد عليهم وأمر بهم
فاعتقلوا في المطبق سنة سبعين وسبعمائة واسترضى صاحب المغرب بفعلته
فيهم، ونزع الوزير ابن الخطيب بعد ذلك إلى السلطان عبد العزيز، وتبيّن
للسلطان مكره واحتياله عليه في شأنهم. ولما هلك عبد العزيز وأظلم الجوّ
بين صاحب الأندلس وبين
__________
[1] وفي طبعة بولاق المصرية: المطارد به.
[2] وفي طبعة بولاق المصرية: الوشائج.
[3] وفي طبعة بولاق المصرية: الوزارة.
[4] وفي طبعة بولاق المصرية: بالتحبيب.
(7/501)
القائم بالدولة أبي بكر بن غازي كما
قدّمناه، وامتعض ابن الأحمر للمسلمين من الفوضى، أطلق عبد الرحمن بن
أبي يفلوسن ووزيره مسعود بن ماسي من الاعتقال وجهّز لهما الأسطول،
فأجازوا فيه إلى المغرب ونزلوا بمرسى غساسة على بطوية داعيا لنفسه،
فقاموا بأمره وكان من شأنه مع الوزير أبي بكر بن غازي ما قصصناه،
واستقرّ آخرا بمراكش وتقاسم ممالك المغرب وأعماله مع السلطان أبي
العبّاس أحمد ابن أبي سالم صاحب المغرب لهذا العهد. وصار التخم بينهما
وادي ملويّة. ووقف كلّ واحد منهما عند حدّه، وأغفل صاحب الأندلس هذه
الخطة من دولته ومحا رسمها من ملكه. وصار أمر الغزاة المجاهدين إليه،
وباشر أحوالهم بنفسه، وعمّهم بنظره، وخصّ القرابة المرشّحين منهم بمزيد
تكرمته وعنايته. والأمر على ذلك لهذا العهد، وهو سنة ثلاث وثمانين
وسبعمائة والله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء لا
ربّ غيره ولا معبود سواه.
(7/502)
تمّ كتاب أخبار الدول الإسلامية بالمغرب
لولي الدين أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرميّ الإشبيلي المالكي.
والحمد للَّه رب العالمين [1] .
(التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب) [2]
أصل هذا البيت من إشبيلية انتقل عند الجلاء وغلب ملك الجلالقة ابن
أدفونش عليها إلى تونس في أواسط المائة السابعة (نسبه) عبد الرحمن بن
محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن
عبد الرحمن بن خلدون [3] هذا لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هذه
العشرة، ويغلب على الظنّ أنّهم أكثر، وأنه سقط مثلهم عددا، لأنّ خلدون
هذا هو الداخل إلى الأندلس، فإن كان أوّل الفتح فالمدّة لهذا العهد
سبعمائة سنة، فيكونون زهاء العشرين، ثلاثة لكل مائة، كما تقدّم في أوّل
الكتاب الأوّل. ونسبنا في حضرموت من عرب اليمن إلى وائل بن حجر من
أقيال العرب، معروف وله صحبة. قال أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة: هو
وائل بن حجر بن سعد بن مسروق بن وائل، ابن النعمان بن ربيعة بن الحرث
بن عوف بن سعد بن عوف بن عديّ بن مالك بن شرحبيل بن الحرث بن مالك بن
مرّة بن حمير بن زيد بن الحضرميّ بن عمر بن عبد الله بن
__________
[1] هكذا في النسخة الجزائرية تحقيق البارون دي سلان وفي طبعة بولاق
المصرية وغيرها فقد أضيف الى هذا الكتاب فصل التعريف بابن خلدون.
[2] هكذا ختم ابن خلدون الجزء الأخير من كتابه بالتعريف عن نفسه وأضاف
بخطه في بعض النسخ «ورحلته غربا وشرقا» .
[3] بفتح الخاء هكذا اضبطه بخط يده وكما نص عليه السخاوي في الضوء
اللامع ج 4 ص 145.
(7/503)
عوف بن جردم بن جرسم بن عبد شمس بن زيد بن
لؤيّ بن ثبت [1] بن قدامة ابن أعجب بن مالك بن مالك بن لؤيّ بن قحطان.
وابنه علقمة بن وائل وعبد الجبّار بن علقمة بن وائل.
وذكره أبو عمر بن عبد البرّ في حرف الواو من الاستيعاب. وأنه وفد على
النبيّ صلى الله عليه وسلّم، فبسط له رداءه وأجلسه عليه، وقال:
«اللَّهمّ بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده إلى يوم القيامة» .
وبعث معاوية بن أبي سفيان إلى قومه يعلّمهم الإسلام والقرآن، فكان له
بذلك صحابة مع معاوية. ووفد عليه لأوّل خلافته فأجازه، فردّ عليه
جائزته ولم يقبلها.
ولما كانت وقعة حجر بن عديّ الكندي بالكوفة، اجتمع رءوس أهل اليمن،
فيهم وائل هذا فكانوا مع زياد بن أبي سفيان [2] عليه، حتى أوثقوه
وجاءوا به إلى معاوية فقتله كما هو معروف.
وقال ابن حزم: ويذكر بنو خلدون الإشبيليّون من ولده، جدّهم الداخل من
المشرق خالد المعروف بخلدون بن عثمان بن هانئ بن الخطاب بن كريت [3] بن
معديكرب بن الحرث بن وائل بن حجر قال: ومن عقبه كريت بن عثمان بن خلدون
وأخوه خالد، وكانا من أعظم ثوار الأندلس.
قال ابن حزم: وأخوه محمد، كان من عقبه أبو العاصي عمرو بن محمد بن خالد
بن محمد بن خلدون. وترك أبو العاصي محمدا وأحمد وعبد الله. قال: وأخوهم
عثمان، له عقب ومنهم الحكيم المشهور بالأندلس تلميذ مسلمة المجريطي [4]
. وهو أبو مسلم عمر بن محمد [5] بن تقي بن عبد الله بن أبي بكر بن خالد
بن عثمان بن خلدون الداخل. وابن عمّه أحمد بن محمد بن عبد الله. قال:
ولم يبق من ولد كريت
__________
[1] قيّدها بخطه بفتح الشين وسكون الباء الموحدة بعدها مثناة فوفية.
[2] هو زياد بن أبيه وهو الّذي اعترف به معاوية بانه أخوه.
[3] وفي نسخة ثانية: كريب وقد قيّده بخطه بضم الكاف وفتح الراء.
[4] المجريطي وهو مسلمة بن أحمد بن قاسم بن عبد الله المجريطي: فيلسوف،
رياض، فلكي، كان أمام الرياضيين بالأندلس وأوسعهم احاطة بعلم الأفلاك
وحركات النجوم مولده ووفاته بمجريط (مدريد) الأعلام للزركلي/ ج 7 ص
224.
[5] وفي عيون الانباء ج 2 ص 41: عمر بن أحمد بن خلدون بن بقي، وابن
خلدون هذا من أشراف إشبيلية، وكان فيلسوفا مهندسا طبيبا توفي سنة 449
هـ.
(7/504)
الرئيس المذكور إلّا أبو الفضل بن محمد بن
خلف بن أحمد بن عبد الله بن كريت انتهى. كلام ابن حزم.
(سلفه بالأندلس) ولما دخل خلدون بن عثمان جدّنا إلى الأندلس، نزل
بقرمونة في رهط من قومه حضرموت، ونشأ بيت بنيه بها، ثم انتقل إلى
إشبيلية. وكانوا في جند اليمن، وكان الكريت من عقبه وأخيه خالد، الثورة
المعروفة بإشبيليّة أيام الأمير عبد الله المرواني، ثار على أبي عبدة
وملكها من يده أعواما. ثم ثار عليه عبد الله بن حجّاج بإملاء الأمير
عبد الله وقتله، وذلك في أواخر المائة الثالثة.
(وتلخيص الخبر عن ثورته [1] ) ما نقله ابن سعيد [2] عن الحجازي [3]
وابن حيان [4] وغيرهما، وينقلونه عن ابن الأشعث مؤرّخ إشبيلية أنّ
الأندلس لما اضطرمت بالفتن أيام الأمير عبد الله، تطاول رؤساء إشبيلية
إلى الثورة والاستبداد، وكان رؤساؤها المتطاولون إلى ذلك في ثلاثة
بيوت: بيت أبي عبدة وبرئيسهم يومئذ ابن عبد الغافر بن أبي عبيدة، وكان
عبد الرحمن الداخل ولّى إشبيلية وأعمالها أبا عبدة، وكان حافده أميّة
من أعلام الدولة بقرطبة، ويولّونه الممالك الضخمة.
وبيت بني خلدون ورئيسهم كريت المذكور، ويردفه خالد أخوه.
قال ابن حيّان: وبيت بني خلدون إلى الآن في إشبيلية، نهاية في النباهة،
ولم تزل أعلامه بين رياسة سلطانيّة ورياسة علمية. ثم بيت بني حجّاج
ورئيسهم يومئذ عبد الله. قال ابن حيّان: هو من لخم وبيتهم إلى الآن في
إشبيلية ثابت الأصل نابت الفرع موسوم بالرياسة السلطانية والعلمية.
فلمّا عظمت الفتنة بالأندلس أعوام الثمانين ومائتين، وكان الأمير عبد
الله قد ولّى على إشبيلية أمية بن عبد الغافر، وبعث معه ابنه محمدا
وجعله في كفالته، فاجتمع هؤلاء النفر وثاروا بمحمد بن الأمير
__________
[1] راجع أخبار هذه الثورة في المجلد الرابع من هذا الكتاب.
[2] هو علي بن موسى بن سعيد العنسيّ الغرناطي (610- 673) صاحب كتاب
«المغرب» و «المشرق» وغيرهما. يعتمد عليه ابن خلدون كثير في النسب
والتاريخ.
[3] هو صاحب كتاب «المسهب في غرائب المغرب، وهو أبو محمد عبد الله
إبراهيم الحجاري نسبة إلى وادي الحجارة وهو من أهل القرن السابع.
[4] ابن حيان: هو مؤرخ الأندلس واسمه أبو مروان حيان بن خلف بن حسين بن
حيان القرطبي (377- 469) له كتاب المتين في التاريخ، والمقتبس في تاريخ
الأندلس وكتاب معرفة الصحابة.
(وفيات الأعيان 1 ص 210) .
(7/505)
عبد الله، وبأميّة صاحبهم، وهو يمالئهم على
ذلك، ويكيد بابن الأمير عبد الله.
وحاصروه حتى طلب منهم اللحاق بأبيه فأخرجوه، واستبدّ أمية بإشبيليّة،
ودسّ على عبد الله بن حجّاج من قتله، وأقام أخاه إبراهيم مكانه. وضبط
إشبيلية واسترهن أولاد بني خلدون وبني حجّاج ثم ثاروا به، وهمّ بقتل
أبنائهم فراجعوا طاعته، وحلفوا له، فأطلق أبناءهم فانتقضوا ثانية.
وحاربوه فاستمات وقتل حرمه وعقر خيوله، وأحرق موجودة. وقاتلهم حتى
قتلوه مقبلا غير مدبر، وعاثت العامة في رأسه. وكتبوا إلى الأمير عبد
الله بأنه خلع فقتلوه، فقبل منهم مداراة، وبعث عليهم هشام بن عبد
الرحمن من قرابته، فاستبدّوا عليه وفتكوا بابنه، وتولّى كبر ذلك كريت
بن خلدون. واستقل بإمارتها.
وكان إبراهيم بن حجّاج بعد ما قتل أخوه عبد الله على ما ذكره ابن سعيد
عن الحجاري سمت نفسه إلى التفرّد، فظاهر ابن حفصون [1] أعظم ثوّار
الأندلس يومئذ، وكان بمالقة وأعمالها إلى رندة، فكان له منه ردء. ثم
انصرف إلى مداراة كريت بن خلدون وملابسته، فردفه في أمره، وأشركه في
سلطانه، وكان في كريت تحامل على الرعيّة وتعصّب، فكان يتجهّم لهم ويغلظ
عليهم، وابن حجّاج يسلك بهم الرّفق والتلطّف في الشفقة [2] بهم عنده،
فانحرفوا عن كريت إلى إبراهيم. ثم دسّ إلى الأمير عبد الله يطلب منه
الكتاب بولاية إشبيلية، لتسكن إليه العامّة، فكتب إليه العهد بذلك.
وأطلع عليه عرفاء البلد مع ما أشربوا من حبّه، والنفرة عن كريت، ثم
أجمع الثورة. وهاجت العامّة بكريت فقتلوه، وبعث برأسه إلى الأمير عبد
الله، واستقرّ بإمارة إشبيلية.
قال ابن حيّان: وحصّن مدينة قرمونة من أعظم معاقل الأندلس، وجعلها
مرتبطا لخيله، وكان ينتقل بينها وبين إشبيلية. واتخذ الجند ورتّبهم
طبقات، وكان يصانع الأمير عبد الله بالأموال والهدايا، وبعث إليه المدد
في الصوائف [3] . وكان مقصودا
__________
[1] هو عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر بن دميان بن فرغلوش بن ادفونش
القس. وهو أول ثائر بالأندلس وهو الّذي افتتح الخلاف بها، وفارق
الجماعة أيام محمد بن عبد الرحمن سنة 270 وتوفي سنة 306 (راجع أخبار
ثورته في المجلد الرابع من هذا الكتاب.
[2] وفي نسخة ثانية: في الشفاعة.
[3] الصوائف: جمع صائفة: «وهي غزوات المسلمين الى بلاد الروم. سميت
صوائف لأنهم كانوا يغزون صيفا تفاديا من شدة البرد (تاج العروس) .
(7/506)
ممدّحا، قصده أهل البيوتات فوصلهم، ومدحه
الشعراء ومدحه أبو عمر بن عبد ربّه صاحب العقد [1] وقصده من بين سائر
الثوّار فعرف حقه وأعظم جائزته.
ولم يزل بين بني خلدون بإشبيليّة كما ذكره ابن حيّان وابن حزم وغيرهما،
سائر أيام بني أمية إلى زمان الطوائف [2] ، وانمحت عنهم الإمارة بما
ذهب لهم من الشوكة.
ولما غلب كعب بن عبّاد [3] على إشبيلية، واستبدّ على أهلها استوزر من
بني خلدون هؤلاء واستعملهم في رتب دولته، وحضروا معه وقعة الجلالقة [4]
كانت لابن عبّاد وليوسف بن تاشفين على ملوك الجلالقة، فاستشهد فيها
طائفة كبيرة من بني خلدون هؤلاء ثبتوا في الجولة مع ابن عبّاد
فاستلحموا في ذلك الموقف. بما كان الظهور للمسلمين، ونصرهم الله على
عدوّهم. ثم تغلّب يوسف بن تاشفين والمرابطون على الأندلس، واضمحلّت
دولة العرب وفنيت قبائلهم.
(سلفه بإفريقية) ولما استولى الموحدون [5] على الأندلس وملكوها من يد
المرابطين، وكان ملوكهم عبد المؤمن وبنيه. وكان الشيخ أبو حفص [6] كبير
هنتاتة زعيم دولتهم. وولّوه على إشبيلية وغرب الأندلس مرارا، ثم ولّوا
ابنه عبد الواحد عليها في بعض أيامهم، ثم ابنه أبا زكريا كذلك، فكان
لسلفنا بإشبيليّة اتصال بهم، وأهدى بعض أجدادنا من قبل الأمّهات، ويعرف
بالمحتسب للأمير أبي زكريا [7]
__________
[1] هو أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن حدير بن سالم أبو عمر (246-
328) الأديب الإمام صاحب العقد الفريد من أهل قرطبة (الأعلام 1/ 207)
وله ترجمة في وفيات الأعيان 1/ 39.
[2] يبتدأ عصر ملوك الطوائف بالأندلس بنهاية الخلافة الاموية، وينتهي
بغلبة يوسف ابن تاشفين المرابطي عليهم جميعا، واستيلائه على الأندلس
(راجع المجلد الرابع من هذا الكتاب) .
[3] هو أبو القاسم المعتمد محمد بن المعتضد بن عباد (431- 488) أكبر
ملوك الطوائف بالأندلس (راجع ترجمته في المجلد الرابع من هذا الكتاب) و
(وفيات الأعيان) .
[4] وفي نسخة ثانية: الزلاقة: وهي من المعارك المشهورة في تاريخ
الأندلس بل في التاريخ الإسلامي، وكان لها الأثر البعيد في الحياة
الإسلامية في الأندلس وقد أسهب المؤرخون في ذكرها وذكر تفاصيلها.
[5] نشأت دولة الموحدين على يد محمد بن تومرت وهو المهدي. وقد ابتدأت
دولتهم بالغرب سنة 514 وانتهت سنة 688 هـ، وامتد سلطانها الى الأندلس
من سنة 540- 609 هـ. راجع تاريخ أبي الفداء 2/ 243.
[6] هو أول التابعين لدعوة مهدي الموحدين وكان يسمى بالشيخ واسمه عمر
بن يحيى بن محمد الهنتاتي ولقبه أبو حفص، وإليه تنسب الدولة الحفصية
بإفريقية ومنهم من يردهم الى ذرية عمر بن الخطاب وليس هذا بصحيح.
[7] «هو الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد الحفصي، ملك جل إفريقية.
بايعه أهل الأندلس وامّله أهل
(7/507)
يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص أيام ولايته
عليهم، جارية من سبي الجلالقة، اتخذها أم ولد، وكان له منها ابنه أبو
زكريا يحيى وليّ عهده الهالك في أيامه، وأخواه عمر وأبو بكر، وكانت
تلقّب أمّ الخلفاء. ثم انتقل الأمير أبو زكريا إلى ولاية إفريقية سنة
عشرين وستمائة. ودعا لنفسه بها وخلع دعوة بني عبد المؤمن سنة خمس
وعشرين وستمائة واستبدّ بإفريقية، وانتقضت دولة الموحدين بالأندلس،
وثار عليهم ابن هود [1] . ثم هلك واضطربت الأندلس وتكالب الطاغية
عليها، وتردّد الغزو إلى الفرنتيرة بسيط قرطبة وإشبيلية إلى جيّان.
وثار ابن الأحمر من غرب الأندلس من حصن أرجونة يرجو التماسك بما بقي من
رمق الأندلس. وفاوض أهل الشورى يومئذ بإشبيليّة. وهم بنو الباجي، وبنو
الجدّ، وبنو الوزير، وبنو سيّد الناس، وبنو خلدون. وداخلهم في الثورة
على ابن هود، وأن يتجافوا للطاغية عن الفرنتيرة، ويتمسّكوا بالجبال
الساحلية وأمصارها المتوعّرة، من مالقة إلى غرناطة إلى المريّة، فلم
يوافقوه على بلادهم. وكان مقدّمهم أبو مروان الباجي، فنابذهم ابن
الأحمر وخلع طاعة الباجي وبايع مرّة لابن هود ومرّة لصاحب مراكش من بني
عبد المؤمن، ومرّة للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية. ونزل غرناطة واتخذها
دار ملكه، وبقيت الفرنتيرة وأمصارها ضاحية من ظل الملك، فخشي بنو خلدون
سوء العاقبة من الطاغية، وارتحلوا من إشبيلية إلى العدوة، ونزلوا سبتة،
وأجلب الطاغية على تلك الثغور فملك قرطبة وإشبيلية وقرمونة وجيّان وما
إليها في مدّة عشرين سنة. ولما نزل بنو خلدون بسبتة أصهر إليهم العزفيّ
بأبنائه وبناته، فاختلط بهم، وكان له معهم صهر مذكور. وكان جدّنا الحسن
بن محمد، وهو سبط ابن المحتسب قد أجاز فيمن أجاز إليهم، فذكروا سوابق
سلفه عند الأمير أبي زكريا، فقصده، وقدم عليه فأكرم قدومه، وارتحل إلى
المشرق فقضى فرضه. ثم رجع ولحق بالأمير أبي زكريا على بونة، فأكرمه
واستقرّ في ظل دولته ومرعى نعمته، وفرض له الأرزاق وأقطع الأقطاع. وهلك
هنالك فدفن ببونة سنة سبع وأربعين وستمائة وولي ابنه المستنصر
__________
[ () ] شرق الأندلس لصد هجوم ملكي ارغون وقشتالة، فأوفدوا إليه كاتب
ابن مردنيش ابا عبد الله بن الأبار فأنشده القصيدة السينية المشهورة:
أدرك بخيلك خيل الله اندلسا ... ان السبيل الى منجاتها درسا»
[1] هو محمد بن يوسف بن محمد بن عبد العظيم بن هو الجذامي. راجع أخبار
ثورته في المجلد الرابع من هذا الكتاب.
(7/508)
محمد، فأجرى جدّنا أبا بكر على ما كان
لأبيه. ثم ضرب الدهر ضرباته، وهلك المستنصر سنة خمس وسبعين وستمائة،
وولي ابنه يحيى، وجاء أخوه الأمير أبو إسحاق من الأندلس بعد أن كان فرّ
إليها أمام أخيه المستنصر. فخلع يحيى، واستقلّ هو بملك إفريقية، ودفع
جدّنا أبا بكر محمدا على عمل الأشغال في الدولة على سنن عظماء الدولة
الموحدين فيها قبله، من الانفراد بولاية العمّال وعزلهم وحسبانهم على
الجباية، فاضطلع بتلك الرتبة. ثم عقد السلطان أبو إسحاق لابنه محمد،
وهو جدّنا الأقرب على حجابة وليّ عهده ابنه أبي فارس أيام أن أقصاه إلى
بجاية [1] . ثم استعفى جدّنا من ذلك فأعفاه ورجع إلى الحضرة، ولما غلب
الدعي ابن أبي عمارة [2] على ملكهم بتونس، اعتقل جدّنا أبا بكر محمدا،
وصادره على الأموال ثم قتله خنقا في محبسه. وذهب ابنه محمد جدّنا
الأقرب مع السلطان أبي إسحاق وأبنائه إلى بجاية فتقبّض عليه ابنه أبو
فارس، وخرج مع العساكر هو وإخوته لمدافعة الدعي ابن أبي عمارة، وهو
يشبه بالفضل بن المخلوع حتى إذا استلحموا بمرماجنّة جنّة خلص جدّنا
محمد مع أبي حفص ابن الأمير أبي زكريا من الملحمة، ومعهما الفازازي
وأبو الحسين بن سيّد الناس فلحقوا بمنجاتهم من قلعة سنان. وكان
الفازازي من صنائع المولى أبي حفص، وكان يؤثره عليهم. فأما أبو الحسين
بن سيّد الناس، فاستنكف من إيثار الفازازي عليه، بما كان أعلى رتبة منه
ببلده إشبيلية، ولحق بالمولى أبي زكريا الأوسط بتلمسان، وكان من شأنه
ما ذكرناه. وأما محمد بن خلدون فأقام مع الأمير أبي حفص وسكن لايثار
الفازازي. ولما استولى أبو حفص على الأمور رعى له سابقته وأقطعه،
ونظّمه في جملة القوّاد ومراتب أهل الحروب، واستكفى به في الكثير من
أمر ملكه، ورشّحه لحجابته من بعد الفازازي. وهلك فكان من بعده حافد
أخيه المستنصر أبو عصيدة، واصطفى لحجابته محمد بن إبراهيم الدبّاغ كاتب
الفازازي وجعل محمد بن خلدون رديفا له في حجابته. فكان كذلك إلى أن هلك
السلطان، وجاءت دولة الأمير خالد، فأبقاه على حاله من التجلّة
والكرامة، ولم
__________
[1] بجاية: وتسمى الناصرية نسبة الى بانيها الناصر بن علناس بن حماد بن
زيري الصنهاجي، بناها في حدود سنة 457:- تقع اليوم- على ساحل البحر
الأبيض من الجزائر وكانت قاعدة المغرب الأوسط (معجم البلدان) .
[2] هو أحمد بن روق بن أبي عمارة من بيوتات بجاية الطارئين عليها من
المسيلة (الاحاطة في تاريخ غرناطة 1 174) .
(7/509)
يستعمله ولا عقد له، إلى أن كانت دولة أبي
يحيى بن اللحياني فاصطنعه، واستكفى به عند ما تنبّضت عروق التغلّب من
العرب، ودفعه إلى حماية الجزيرة من لاج [1] إحدى بطون سليم الموطنين
بنواحيها، فكانت له في ذلك آثار مذكورة. ولما انقرضت دولة ابن اللحياني
خرج إلى الشرق وقضى سنة ثمان عشرة وأظهر التوبة والإقلاع، وعاود الحج
متنقلا سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ولزم كسر بيته. وأبقى السلطان أبو
يحيى عليه نعمته في كثير مما كان بيده من الاقطاع والجراية، ودعاه إلى
حجابته مرارا فامتنع.
(أخبرني) محمد بن منصور بن مزني قال: لما هلك الحاجب بن محمد بن عبد
العزيز الكردي المعروف بالمزوار سنة سبع وعشرين وسبعمائة، استدعى
السلطان جدّك محمد بن خلدون وأراده على الحجابة، وأن يفوّض إليه أمره،
فأبى واستعفى فأعفاه وآمره فيمن يوليه حجابته، فأثار عليه بصاحب ثغر
بجاية محمد بن أبي الحسين بن سيّد الناس لاستحقاقه ذلك بكفايته
واضطلاعه، ولقديم صحابة بين سلفهما بتونس، وإشبيلية من قبل. وقال له:
هو أقدر على ذلك بما هو عليه من الحاشية والدين [2] فعمل السلطان على
إشارته واستدعى ابن سيّد الناس وولّاه حجابته. وكان السلطان أبو يحيى
إذا خرج من تونس يستعمل جدّنا محمدا عليها وثوقا بنظره واستنامة إليه
إلى أن هلك سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ونزع ابنه، وهو والدي محمد بن أبي
بكر عن طريقة السيف والخدمة إلى طريقة العلم والرباط، لما نشأ عليه في
حجر أبي عبد الله الرندي [3] الشهير بالفقيه، كان كبير تونس لعهده في
العلم والفتيا، وانتحال طرق الولاية التي ورثها عن أبي حسين وعمّه حسن،
الوليّين الشهيرين. وكان جدّنا رحمه الله قد لازمه من يوم نزوعه عن
طريقه، وألزمه ابنه وهو والدي رحمه الله فقرأ وتفقّه، وكان مقدّما في
صناعة العربية، وله بصر بالشعر وفنونه، عهدي بأهل البلد يتحاكمون إليه
فيه، ويعرضون حوكهم عليه، وهلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين
وسبعمائة.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: دلاج.
[2] وفي نسخة ثانية: الذوين.
[3] وفي نسخة ثانية: الزبيديّ. نسبة الى قرية بساحل المهدية توفي عام
740 هـ وهو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن عبد الله القرشي الزبيدي.
والرندي نسبة الى (رندة) .
(7/510)
(أمّا نشأتي) فإنّي ولدت بتونس في غرّة
رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وربّيت في حجر والدي رحمه الله إلى
أن أيفعت وقرأت القرآن العظيم على الأستاذ أبي عبد الله محمد بن سعد بن
نزال [1] الأنصاري، أصله من جالبة الأندلس من أعمال بلنسية، أخذ عن
مشيخة بلنسية وأعمالها، وكان إماما في القراءات لا يلحق شأوه، وكان من
أشهر شيوخه في القراءات السبع أبو العباس أحمد بن محمد بن البطوي [2]
ومشيخته فيها، وأسانيده معروفة. وبعد أن استظهرت القرآن العظيم عن
حفظي، قرأته عليه بالقراءات السبع المشهورة إفرادا وجمعا [3] في إحدى
وعشرين ختمة، ثم جمعتها في ختمة واحدة أخرى ثم قرأت برواية يعقوب [4]
ختمة واحدة جمعا بين الروايتين عنه، وعرضت عليه رحمه الله قصيدة
الشاطبي [5] اللامية في القراءات والرائية في الرسم. وأخبرني بهما عن
الأستاذ أبي عبد الله البطوي وغيره من شيوخه، وعرضت عليه كتاب التفسير
لأحاديث الموطأ لابن عبد البرّ حذا به حذو كتابه التمهيد على الموطأ،
مقتصرا على الأحاديث فقط.
ودرست عليه كتبا جمّة مثل كتاب التسهيل لابن مالك [6] ومختصر ابن
الخطيب في الفقه [7] ولم أكملهما بالحفظ، وفي خلال ذلك تعلّمت صناعة
العربية على والدي
__________
[1] وفي نسخة ثانية برال: بضم الباء الموحدة، وفتح الراء المشددة، هكذا
قيّده ابن خلدون بخط يده.
[2] وفي نسخة ثانية: البطرني: نسبة الى بطرنة من إقليم بلنسية بشرق
الأندلس. وقد ضبطها ابن خلدون بخط يده: بفتح الباء والطاء المهملة وراء
ساكنة بعدها نون.
[3] «الإفراد ان يتلى القرآن كله أو جزء منه برواية واحدة لأحد القراء
السبع أو العشرة المشهورين، والجمع أن يجمع القارئ عند قراءته للقرآن
كله أو جزء منه بين روايتين فأكثر من الروايات السبع أو العشر
المتواترة. ويسمى بالجمع الكبير ان استوفى القارئ سبع قراآت فأكثر.
وإلّا سموه بالجمع الصغير.
[4] هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله الحضرميّ البصري (117- 205)
أحد القراء العشرة، وله قراءة مشهورة عنه، وهي احدى القراءات العشر.
راجع طبقات القراء (1/ 285) و (2/ 234) .
[5] هو أبو القاسم بن خلف بن أحمد الشاطبي الرعينيّ، رحل الى الشرق
ودخل القاهرة، حيث مدرسة القاضي الفاضل، وقد نظم قصيدته اللامية
المعروفة بالشاطية أو حرز الأماني، والرائية وتعرف بالعقيلة (طبقات
القراء 2/ 20) .
[6] هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الأندلسي الحياني
النحويّ المشهور (600- 672) وكتابه تسهيل الفوائد جمع قواعد النحو
بإيجاز.
[7] وفي نسخة ثانية: ابن الحاجب وهو عثمان بن عمر بن يونس المعروف بابن
الحاجب جمال الدين المصري (570- 646) له مختصر في الفقه ذكره ابن خلدون
في مقدمته راجع (وفيات الأعيان 1/ 395) .
(7/511)
وعلى أستاذي تونس: منهم الشيخ أبو عبد الله
محمد العربيّ الحصايري، وكان إماما في النحو وله شرح مستوفى على كتاب
التسهيل. ومنهم أبو عبد الله محمد بن الشواش المزازي [1] . ومنهم أبو
العبّاس أحمد بن القصّار، كان ممتعا في صناعة النحو، وله شرح على قصيدة
البردة المشهورة في مدح الجناب النبوي وهو حيّ لهذا العهد بتونس.
ومنهم إمام العربية والأدب بتونس أبو عبد الله محمد بن بحر، لازمت
مجلسه وأفدت عليه، وكان بحرا زاخرا في علوم اللسان. وأشار عليّ بحفظ
الشعر فحفظت كتب الأشعار الستة، والحماسة للأعلم [2] وشعر حبيب [3]
وطائفة من شعر المتنبي، ومن أشعار كتاب الأغاني. ولازمت أيضا مجلس إمام
المحدّثين بتونس، شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جابر بن سلطان
القيسيّ الوادياشي صاحب الرحلتين، وسمعت عليه كتاب مسلم بن الحجّاج
إلّا فوتا يسيرا من كتاب الصّيد، وسمعت عليه كتاب الموطأ من أوّله إلى
آخره، وبعضا من الأمّهات الخمس، وناولني [4] كتبا كثيرة في العربية
والفقه وأجازني إجازة عامّة، وأخبرني عن مشايخه المذكورين أشهرهم بتونس
قاضي الجماعة أبو العبّاس أحمد بن الغمّاز الخزرجي.
وأخذت الفقه بتونس من جماعة، منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله
الحيّاني، وأبو القاسم محمد القصير، وقرأت عليه كتاب التهذيب لأبي سعيد
البرادعي، مختصر المدوّنة، وكتاب المالكيّة، وتفقّهت عليه. وكنت في
خلال ذلك انتاب مجلس شيخنا الإمام قاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن
عبد السلام مع أخي عمر رحمة الله عليهما، وأفدت منه وسمعت عليه أثناء
ذلك كتاب الموطأ للإمام مالك، وكانت له طرق عالية عن أبي محمد بن هارون
الطائي قبل اختلاطه إلى غير هؤلاء من مشيخة تونس، وكلّهم سمعت عليه،
وكتب لي وأجازني، ثم درجوا كلهم في الطاعون الجارف.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الزرزالي.
[2] هو يوسف بن سليمان بن عيسى النحويّ الشنتمري- نسبة الى شنت مريّة-
المعروف بالأعلم (وفيات الأعيان) ج 2 ص 465.
[3] المشاعر المشهور وهو حبيب بن أوس الحارث الطائي أبو تمام (190-
226) (وفيات الأعيان) .
[4] المناولة حسب مصطلح الحديث تعني الإجازة لشخص بالرواية عن شخص آخر.
(7/512)
وكان قدم علينا في جملة السلطان أبي الحسن
عند ما ملك إفريقية سنة ثمان وأربعين جماعة من أهل العلم كان يلزمهم
شهود مجلسه، ويتجمّل بمكانهم فيه، فمنهم شيخ الفتيا بالمغرب وإمام مذهب
مالك أبو عبد الله محمد بن سليمان السطّي، فكنت انتاب مجلسه وأفدت
عليه. ومنهم كاتب السلطان أبي الحسن وصاحب علامته التي توضع أسفل
مكتوباته، إمام المحدّثين أبو محمد عبد المهيمن الحضرميّ، لازمته وأخذت
عنه سماعا وإجازة، الأمّهات الست. وكتاب الموطأ، والسير لابن إسحاق،
وكتاب ابن الصلاح في الحديث، وكتبا كثيرة سرت [1] عن حفظي. وكانت
بضاعته في الحديث وافرة، ونحلته في التقييد والحفظ كاملة، كانت له
خزانة من الكتب تزيد على ثلاثة الاف سفر في الحديث والفقه والعربية
والأدب والمعقول وسائر الفنون، مضبوطة كلها مقابلة. ولا يخلو ديوان
منها عن ضبط بخط بعض شيوخه المعروفين في سنده إلى مؤلفة، حتى الفقه
والعربية الغريبة الإسناد إلى مؤلفها في هذه العصور. ومنهم الشيخ أبو
العباس أحمد الزواوي إمام المقرءين بالمغرب. قرأت عليه القرآن العظيم
بالجمع الكبير بين القراءات السبع، من طريق أبي عمر والداني وابن شريح
[2] لم أكملها، وسمعت عليه عدّة كتب، وأجازني بالإجازة العامّة.
ومنهم شيخ العلوم العقلية أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأيلّي أصله
من تلمسان وبها نشأ، وقرأ كتب التعليم وحذق فيها، وأظلّه الحصار الكبير
بتلمسان أعوام المائة السابعة، فخرج منها وحجّ ولقي أعلام المشرق
يومئذ، فلم يأخذ عنهم لأنه كان مختلطا بعارض عرض في عقله. ثم رجع من
المشرق وأفاق وقرأ المنطق والأصلين على الشيخ أبي موسى عيسى ابن
الإمام، وكان قرأ بتونس مع أخيه أبي زيد عبد الرحمن على تلميذ أبي
زيتون الشهير الذكر [3] وجاءا إلى تلمسان بعلم كثير من المنقول
والمعقول، فقرأ الأيلّي على أبي موسى منهما كما قلناه، ثم خرج من
تلمسان هاربا إلى المغرب لأنّ سلطانها أبا حمّو يومئذ من ولد يغمراسن
بن زيّان، كان يكرهه على التصرّف في أعماله، وضبط الجباية بحسبانه،
ففرّ إلى المغرب، ولحق
__________
[1] وفي نسخة ثانية: شذت.
[2] هو المقرئ محمد بن شريح بن أحمد بن محمد ابو عبد الله الإشبيلي
(388- 476) .
[3] هو ابن زيتون أبو القاسم، القاسم بن أبي بكر بن مسافر (621- 691)
قام برحلة الى الشرق وأخذ عن علمائه، ثم رجع بعدها الى تونس ما سند
إليه مهمة القضاء والإفتاء، وهو أول من أظهر تآليف فخر الدين الرازيّ
في تونس.
ابن خلدون م 33 ج 7
(7/513)
بمراكش، ولازم العالم الشهير الذكر أبا
العبّاس بن البناء، فحصّل عنه سائر العلوم العقلية، وورث مقامه فيها
وأرفع، ثم صعد إلى جبل الهساكرة بعد وفاة الشيخ باستدعاء علي بن محمد
بن تروميت ليقرأ عليه، فأفاده وبعد أعوام استنزله ملك المغرب، السلطان
أبو سعيد، وأسكنه بالبلد الجديد والأبلّي معه.
ثم اختصّه السلطان أبو الحسن ونظّمه في جملة العلماء بمجلسه، وهو في
خلال ذلك يعلّم العلوم العقلية، ويبثّها بين أهل المغرب حتى حذق فيها
الكثير منهم من سائر أمصاره. وألحق الأصاغر بالأكابر في تعليمه. ولما
قدم على تونس في جملة السلطان أبي الحسن، لزمته، وأخذت عنه العلوم
العقلية [1] ، والمنطق، وسائر الفنون الحكمية، والتعليمية، وكان رحمه
الله تعالى يشهد لي بالتبريز في ذلك.
وممن قدم في جملة السلطان أبي الحسن، صاحبنا أبو القاسم عبد الله بن
يوسف بن رضوان المالقي، كان يكتب عن السلطان ويلازم خدمة أبي محمد عبد
المهيمن رئيس الكتّاب يومئذ، وصاحب العلامة التي توضع عن السلطان أسفل
المراسيم والمخاطبات، وبعضها يضعه السلطان بخطّه. وكان ابن رضوان هذا
من مفاخر المغرب في براعة خطّه، وكثرة علمه، وحسن سمته، وإجادته في فقه
الوثائق، والبلاغة في الترسيل عن السلطان، وحوك الشعر والخطابة على
المنابر، لأنه كان كثيرا ما يصلّي بالسلطان. فلمّا قدم علينا بتونس
صحبته، واغتبطت به، وإن لم أتخذه شيخا، لمقاربة السن، فقد أفدت منه كما
أفدت منهم. وقد مدحه صاحبنا أبو القاسم الرحويّ شاعر تونس في قصيدة على
رويّ النون يرغب منه أن يذكره [2] لشيخه أبي محمد عبد المهيمن في إيصال
مدحه للسلطان أبي الحسن في قصيدة [3] على روي الياء، وقد تقدّم ذكرها
في أخبار السلطان. وذكر في مدح ابن رضوان أعلام العلماء القادمين مع
السلطان وهي هذه:
عرفت زماني حين أفكرت عرفاني ... وأيقنت أن لا حظّ في كفّ كيوان [4]
وأن لا اختيار في اختيار مقوّم ... وأن لا قراع بالقران لأقران
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وأخذت عنه الأصلين.
[2] وفي نسخة ثانية: يرغب منه تذكرة.
[3] وفي نسخة ثانية: في قصيدته.
[4] اسم لأحد الكواكب السيارة ويدعى زحل.
(7/514)
وأن نظام الشكل أكمل نظمه ... لأضعاف قاض
في الدليل برجحان
وأنّ افتقار المرء من فقراته ... ومن ثقله يغني اللبيب بأوزان
إلى آخرها، ثم يقول في ذكر العلماء القادمين:
هم القوم كلّ القوم أمّا حلومهم ... فأرسخ من طودي ثبير وثهلان [1]
فلا طيش يعلوهم [2] وأمّا علومهم ... فأعلامها تهديك من غير نيران
ثم يقول في آخرها
وهامت على عبد المهيمن تونس ... وقد ظفرت منه بوصل وقربان
وما علقت مني الضمائر غيره ... وإن هويت كلا بحب ابن رضوان
وكتب هذا الشاعر صاحبنا الرحوي يذكّر عبد المهيمن بذلك.
لهي النفس في اكتساب وسعي ... وهو العمر في انتهاب وفي
وأرى الناس بين ساع لرشد ... يتوخّى الهدى وساع لغيّ
وأرى العلم للبريّة زينا ... فتزيّ منه بأحسن زيّ
وأرى الفضل قد تجمّع كلّا ... في ابن عبد المهيمن الحضرميّ
ثم يقول في آخرها
ينبغي القرب من مراقي الأماني ... والتّرقّي للجانب العلويّ
فأنلها مرامها مستهلا [3] ... كلّ دان يسعى وكلّ قصيّ
ثم كانت واقعة العرب على السلطان بالقيروان فاتح تسع وأربعين وسبعمائة
فشغلوا عن ذلك ولم يظفر هذا الرحوي بطلبته. ثم جاء الطاعون الجارف فطوى
البساط بما فيه، وهلك عبد المهيمن فيمن هلك، ودفن بمقبرة سلفنا بتونس،
لخلّة كانت بينه وبين والدي رحمه الله أيام قدومهم علينا.
فلما كانت وقعة القيروان ثار أهل تونس بمن كان عندهم من أشياع السلطان
أبي الحسن، فاعتصموا بالقصبة دار الملك، حيث كان ولد السلطان وأهله،
وانتقض عليه ابن تافراكين، وخرج من القيروان إلى العرب، وهم يحاصرون
السلطان، وقد
__________
[1] ثبير: جبل بظاهر مكة. ثهلان: جبل في بلاد بني غير (تاج العروس) .
[2] وفي نسخة ثانية: يعروهم.
[3] وفي نسخة ثانية:
فأنلها مرامها نلت سهلا ... كل دان بغي وكل قصيّ
(7/515)
اجتمعوا على أبي دبّوس وبايعوا له كما مرّ
في أخبار السلطان، فبعثوا ابن تافراكين إلى تونس، فحاصر القصبة وامتنعت
عليه. وكان عبد المهيمن يوم ثورة أهل تونس، وقد سمع الهيعة [1] خرج من
بيته إلى دارنا فاختفى عند أبي رحمه الله، وأقام متخفيا عندنا نحوا من
ثلاثة أشهر. ثم نجا السلطان من القيروان إلى سوسة، وركب البحر إلى
تونس، وفرّ ابن تافراكين إلى المشرق، وخرج عبد المهيمن من الاختفاء،
وأعاده السلطان إلى ما كان عليه من وظيفة الولاية والكتابة [2] وكان
كثيرا ما يخاطب والدي رحمه الله ويشكره على موالاته، ومما كتب إليه
وحفظته من خطّه:
محمد ذو المكارم قد ثناني [3] ... فعال شكره أبدا عناني
جزى الله ابن خلدون حياة ... منعّمة وخلدا في الجنان
فكم أولى ووالى من جميل ... وبرّ بالفعال وباللّسان
وراعى الحضرميّة في الّذي قد ... جنى من ودّه ورد الحنان [4]
أبا بكر ثناؤك طول دهري ... أردّد باللسان وبالجنان
وعن علياك ما امتدّت حياتي ... أكافح بالحسام وباللسان
فمنك أفدت خلّا لست دهري ... أرى عن حبّه أثنى عناني
أوهؤلاء الأعلام الذين ذكرهم الرحوي في شعره، هم سبّاق الحلبة في مجلس
السلطان أبي الحسن، اصطفاهم لصحابته من بين أهل المغرب، فأمّا ابنا
الإمام منهم، فكانا أخوين من أهل برشك من أعمال تلمسان، واسم أكبرهم
أبو زيد عبد الرحمن، والأصغر أبو موسى عيسى. وكان أبوهما إماما ببعض
مساجد برشك، واتهمه المتغلّب يومئذ على البلد زيرم بن حمّاد [5] بأنّ
عنده وديعة من المال لبعض أعدائه، فطالبه بها، ولاذ بالامتناع، وبيّته
زيرم لينتزع المال من يده، فدافعه وقتل، وارتحل ابناه هذان الأخوان إلى
تونس في آخر المائة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ووقوع الهيعة.
[2] وفي نسخة ثانية: وظيفة العلامة والكتابة.
[3] وفي نسخة ثانية: لمحمد ذوي المكارم قد ثناني.
[4] وفي نسخة ثانية:
وراعى الحضرمية في الّذي قد ... حبا من ودّه ومن الحنان
[5] زيري بن حمّاد: وقد ورد في مكان سابق من هذا الكتاب.
(7/516)
السابعة، وأخذا العلم بها عن تلميذ ابن
زيتون، وتفقّها على أصحاب أبي عبد الله بن شعيب الدّكّالي، وانقلبا إلى
المغرب بحظّ وافر من العلم، وأقاما بالجزائر يبثّان العلم بها لامتناع
برشك عليهما من أجل زيرم المتغلّب عليها، والسلطان أبو يعقوب يومئذ
صاحب المغرب الأقصى من بني مرين جاثم على تلمسان يحاصرها الحصار الطويل
المشهور [1] ، وبث بها جيوشه في نواحيها، وغلب على الكثير من أعمالها
وأمصارها، وملك عمر مغراوة بشلف، وحصر مليانة، بعث إليها الحسن بن أبي
الطلاق من بني عسكر، وعليّ بن محمد ابن الخيّر من بني ورتاجن، ومعهما
لضبط الجباية واستخلاص الأموال الكاتب منديل بن محمد الكناني، فارتحل
هذان الأخوان من الجزائر، وأخذا عليه [2] ، فحليا بعين منديل الكناني
[3] ، فقرّبهما واصطفاهما، واتّخذهما لتعليم ولده محمد. فلما هلك يوسف
بن يعقوب سلطان المغرب بمكانه من حصار تلمسان سنة خمس وسبعمائة [4] على
يد خصيّ من خصيانه طعنه فأشواه، وهلك. وأقام بالملك بعده حافده أبو
ثابت بعد أمور ذكرناها في أخباره، ووقع بينه وبين صاحب تلمسان من بعده
يومئذ، أبي زيّان محمد بن عثمان بن يغمراسن وأخيه أبي حمّو العهد
المتأكد على الإفراج عن تلمسان، وردّ أعمالها عليه، فوفّى لهم بذلك
وعاد إلى المغرب.
وارتحل ابن أبي الطلاق من شلف، والكناني من مليانة راجعين إلى المغرب.
ومرّوا بتلمسان فأوصى لهما أبو حمّو وأثنى عليهما حلّة بمقامهما في
العلم، واغتبط بهما أبو حمّو وبنى لهما المدرسة المعروفة بهما بتلمسان.
وأقاما عنده على مجرى أهل العلم.
وسننهم. وهلك أبو حمّو، وكانا كذلك مع ابنه أبي تاشفين إلى أن زحف
السلطان أبو الحسن المريني الى تلمسان، وملكها عنوة سنة سبع وثلاثين
وسبعمائة وكانت لهما شهرة في أقطار المغرب، أسست لهما عقيدة صالحة،
فاستدعاهما لحين دخوله، وأدنى مجلسهما وشاد بمكرمتهما، ورفع جاههما على
أهل طبقتهما. وصار يجمّل بهما مجلسه متى مرّ بتلمسان ووفدا عليه في
الأولى التي نفر فيها أعيان بلادهما. ثم استنفرهما
__________
[1] دام هذا الحصار حوالي ثمان سنوات وثلاث أشهر.
[2] وفي نسخة ثانية: واحتلا بمليانة.
[3] وفي نسخة ثانية: الكناني.
[4] وفي كتاب العبر والإحاطة انه قتل سنة 706 راجع الدرر الكامنة ج 4 ص
480.
(7/517)
إلى الغزو وحضرا معه واقعة طريف، وعادا إلى
بلدهما. وتوفي أبو زيد منهما إثر ذلك، وبقي أخوه موسى متبوّئا ما شاء
من ظلال تلك الكرامة.
ولما سار السلطان أبو الحسن إلى إفريقية سنة ثمان وأربعين وسبعمائة كما
مرّ في أخباره استصحب أبا موسى ابن الإمام معه مكرّما موقّرا، عالي
المحل، قريب المجلس منه.
فلما استولى على إفريقية سرّحه إلى بلده، فأقام بها يسيرا وهلك في
الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة وبقي أعقابهما بتلمسان دارجين
في مسالك تلك الكرامة موقرين فيها طبقا على طبق إلى هذا العهد. وأمّا
السطّي، واسمه محمد بن سليمان من قبيلة سطّة، من بطون أوربة بنواحي
فاس، فنزل أبوه سليمان مدينة فاس. ونشأ محمد فيها وأخذ العلم عن الشيخ
أبي الحسن الصغير إمام المالكيّة بالمغرب، والطائر الذكر وقاضي الجماعة
بفاس، وتفقّه وقرأ عليه، وكان أحفظ الناس لمذهب مالك، وأفقههم فيه.
وكان السلطان أبو الحسن لعظم همته [1] وبعد شأوه في الفضل يتشوّف إلى
تزيين مجلسه. بالعلماء، واختار منهم جماعة لصحابته ومجالسته، كان منهم
هذا الإمام محمد بن سليمان. وقدم علينا بتونس في جملته، وشهدنا وفور
فضله [2] ، وكان في الفقه من بينهم لا يجارى حفظا وفهما، عهدي به رحمه
الله تعالى، وأخي موسى [3] يقرأ عليه كتاب التبصرة لأبي الحسن اللخميّ،
وهو يصحّحه عليه من إملائه وحفظه في مجالس عديدة، وكان هذا حاله في
أكثر ما يعاني في جملة من الكتب [4] . وحضر مع السلطان أبي الحسن واقعة
القيروان وخلص معه إلى تونس، وأقام بها نحوا من سنتين، وانتقض المغرب
على السلطان واستقلّ به ابنه أبو عنان. ثم ركب السلطان أبو الحسن في
أساطيله من تونس آخر سنة خمسين وسبعمائة ومرّ ببجاية فأدركه الغرق في
سواحلها، فغرقت أساطيله وغرق أهله، وأكثر من كان معه من هؤلاء الفضلاء
وغيرهم، ورمى به البحر ببعض الجزر هنالك حتى استنقذه منها بعض أساطيله،
ونجا إلى الجزائر بعد أن تلف موجودة، وهلك الكثير من عياله وأصحابه،
وكان من أمره ما مرّ في أخباره.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وكان السلطان أبو الحسن لدينه وسرواته.
[2] وفي نسخة أخرى: فضائله.
[3] وفي نسخة أخرى: أخي محمد.
[4] وفي نسخة أخرى: وكذا كان حاله في أكثر ما يعاني حمله من الكتب.
(7/518)
وأمّا الأيلّي واسمه محمد بن إبراهيم
فمنشؤه بتلمسان، وأصله من جالية الأندلس من أهل أيلّة من بلد الجوف [1]
منها، أجاز بأبيه وعمه أحمد، فاستخدمهم يغمراسن ابن زيّان وولده في
جندهم، وأصهر إبراهيم منهما إلى القاضي بتلمسان محمد بن غلبون في
ابنته، فولدت له محمدا هذا. ونشأ بتلمسان في كفالة جدّه القاضي، فنشأ
له بذلك ميل إلى انتحال العلم عن الجنديّة التي كانت منتحل أبيه وعمّه.
فلما أيفع وأدرك سبق إلى ذهنه محبّة التعاليم، فبرز بها واشتهر وعكف
الناس عليه في تعلّمها، وهذا في سنّ البلوغ. ثم أظل السلطان يوسف بن
يعقوب وخيّم عليها يحاصرها، وسيّر العساكر إلى الأعمال، فافتتح أكثرها.
وكان إبراهيم الأيلّي قائدا بهنين مرسى تلمسان في لجّة من الجند، فلمّا
ملكها يوسف بن يعقوب اعتقل من وجد بها من أشياع بني عبد الواد [2]
واعتقل إبراهيم الأيلّي، وشاع الخبر في تلمسان بأنّ يوسف ابن يعقوب
يسترهن أبناءهم ويطلقهم، فتشوّف ابنه محمد إلى اللحاق بهم من أجل ذلك.
وأغراه أهله بالعزم عليه، فتسوّر الأسوار وخرج إلى أبيه فلم يجد خبر
الاسترهان صحيحا. واستخدمه يوسف بن يعقوب قائدا على الجند الأندلسيين
بتاوريرت، فكره المقام على ذلك، ونزع عن طوره، ولبس المسوح، وسار قاصدا
إلى الحجّ. وانتهى إلى رباط العبّاد [3] مختفيا في صحبة الفقراء، فوجد
هنالك رئيسا من أهل كربلا [4] من بني الحسين جاء إلى المغرب يروم إقامة
دعوته فيه، وكان مغفلا [5] ، فلما رأى عساكر يوسف بن يعقوب وشدّة غلبه
أيس من مرامه ونزع عن ذلك، واعتزم على الرجوع إلى بلده، فسار شيخنا
محمد بن إبراهيم في جملته.
قال رحمه الله: وبعد حين انكشف لي حاله وما جاء له، واندرجت في جملته
__________
[1] المراد بالجوف، الشمال في لغة المغاربة والأندلسيين.
[2] وفي نسخة ثانية: من شيع ابن زيان.
[3] رباط العبّاد: (مرتفع جميل خارج مدينة تلمسان، كان مدفن الأولياء
والصلحاء والعلماء. وهناك موضعان عرفا باسم «العبارة» أحدهما يسمى
(العباد الفوقي والعباد السفلي) وكان بباب الجياد من أبواب تلمسان) .
[4] كربلاء: بالمدّ: وهو الموضع الّذي قتل فيه الحسين بن علي رضي الله
عنه، في طرف البرية عند الكوفة، فاشتقاقه فالكربلة رخاوة في القدمين،
يقال جاء يمشي مكربلا، فيجوز على هذا أن تكون أرض هذا الموضع رخوة
فسميت بذلك. (معجم البلدان) ويطلق هذا الاسم اليوم على لواء كامل من
ألوية العراق.
[5] وفي نسخة ثانية: وكان معقلا.
(7/519)
وأصحابه وتابعيه. قال: وكان يتلقّاه في كل
بلد من أصحابه وأشياعه وخدمه من يأتيه بالأزواد والنفقات من بلده، إلى
أن ركبنا البحر من تونس إلى الاسكندرية.
قال: واشتدّت عليّ الغلمة في البحر واستحييت من كثرة الاغتسال لمكان
هذا الرئيس، فأشار عليّ بعض بطانته بشرب الكافور، فاغترفت منه غرفة
فشربتها فاختلطت. وقدم الديار المصرية على تلك الحال، وبها يومئذ تقيّ
الدين بن دقيق العيد وابن الرفعة وصفيّ الدين الهندي، والتبريزي وغيرهم
من فرسان المعقول والمنقول. فلم يكن قصاراه إلّا تمييز أشخاصهم إذا
ذكرهم لنا، لما كان به من الاختلاط. ثم حجّ مع ذلك الرئيس وسار في
جملته إلى كربلاء فبعث به من أصحابه من أوصله إلى مأمنه ببلاد زواوة من
أطراف المغرب. وقال لي شيخنا رحمه الله: كان معي دنانير كثيرة تزودتها
من المغرب واستبطنتها في جبّة كنت ألبسها، فلمّا نزل بي ما نزل انتزعها
مني، حتى إذا بعث أصحابه يشيّعوني إلى المغرب دفعها إليهم، حتى إذا
أوصلوني إلى المأمن أعطوني إياها، وأشهدوا عليّ في كتاب حملوه معهم
إليه كما أمرهم. ثم قارن وصول شيخنا إلى المغرب مهلك يوسف بن يعقوب
وخلاص أهل تلمسان من الحصار، فعاد إلى تلمسان وقد أفاق من اختلاطه،
وانبعثت همّته إلى تعلّم العلم. وكان مائلا إلى العقليات فقرأ المنطق
على أبي موسى ابن الإمام، وجملة من الأصلين، وكان أبو حمّو صاحب تلمسان
قد استفحل ملكه، وكان ضابطا للأمور، وبلغه عن شيخنا تقدّمه في علم
الحساب، فدفعه إلى ضبط أمواله ومشارفة أحواله [1] . وتفادى شيخنا من
ذلك فأكرهه عليه، فأعمل الحيلة في الخلاص منه، ولحق بفاس أيام السلطان
أبي الربيع [2] ، وبعث فيه أبو حمّو، فاختفى بفاس للتعاليم من اليهودي
خليفة المغيلي [3] ، فاستوفى عليه فنونها، وحذق وخرج متواريا من فاس،
فلحق بمراكش أعوام عشر وسبعمائة. ونزل على الإمام أبي العبّاس بن
البنّاء شيخ المعقول والمنقول، والمبرّز في التصوّف علما وحالا، فلزمه،
وأخذ عنه وتضلّع في علم المعقول
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مشارفة عمّا له.
[2] ابو الربيع: وهو سليمان بن عبد الله بن أبي يعقوب بن يوسف بن عبد
الحق المريني المتوفى سنة 710 هـ.
[3] وفي نسخة ثانية: واختفى بفاس عند شيخ التعاليم من اليهود، خلّوف
المغيلي.
(7/520)
والتعاليم والحكمة. ثم استدعاه شيخ
الهساكرة علي بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه، وكان في طاعة السلطان،
فدخل [1] إليه شيخنا وأقام عنده مدّة، قرأ عليه فيها وحصّل. واجتمع
طلبة العلم هنالك على الشيخ، فكثرت إفادته، واستفادته، وعلي ابن محمد
في ذلك على محبته وتعظيمه، وامتثال إشارته، فغلب على هواه، وعظمت
رياسته في تلك القبائل. ولما استنزل السلطان أبو سعيد علي بن تروميت من
جبله، نزل الشيخ معه، وسكن بفاس. وانثال عليه طلبة العلم من كلّ ناحية،
فانتشر علمه، واشتهر ذكره، فلمّا فتح السلطان أبو الحسن تلمسان ولقي
أبا موسى ابن الإمام، ذكره له بأطيب الذكر، ووصفه بالتقدّم في العلوم،
وكان السلطان معتنيا بجمع العلماء بمجلسه كما ذكرناه. فاستدعاه من
مكانه بفاس ونظمه في طبقة العلماء بمجلسه، وعكف على التدريس والتعليم،
ولزم صحابة السلطان، وحضر معه واقعة طريف، وواقعة القيروان بإفريقية.
وكانت قد حصلت بينه وبين والدي رحمه الله خلّة [2] ، كانت وسيلتي إليه
في القراءة عليه، فلزمت مجلسه وأخذت عنه العلوم العقليّة بالتعاليم. ثم
قرأت المنطق وما بعده من الأصلين، وعلوم الحكمة. وعرض أثناء ذلك ركوب
السلطان أساطيله من تونس إلى المغرب. وكان الشيخ في نزلنا وكفالتنا،
فأشرنا عليه بالمقام وثبّطناه عن السفر، فقبل وأقام. وطالبنا به
السلطان أبو الحسن فأحسنّا له العذر، فتجافى عنه. وكان من حديث غرقه في
البحر ما قدّمناه.
وأقام الشيخ بتونس، ونحن وأهل بلدنا جميعا نتساجل في غشيان مجلسه،
والأخذ عنه، فلمّا هلك السلطان أبو الحسن بجبل هنتاتة وفرغ ابنه أبو
عنان من شواغله، وملك تلمسان من بني عبد الواد، كتب فيه يطلبه من صاحب
تونس وسلطانها يومئذ أبو إسحاق إبراهيم ابن السلطان أبي يحيى في كفالة
شيخ الموحّدين أبي محمد بن تافراكين، فأسلمه إلى سفيره. وركب معه البحر
في اسطول أبي عنان الّذي جاء فيه السفير، ومرّ ببجاية ودخلها، وأقام
بها شهرا، حتى قرأ عليه طلبة العلم بها مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه
برغبتهم في ذلك منه ومن صاحب الأسطول. ثم ارتحل ونزل بمرسى هنين وقدم
على أبي عنان بتلمسان، وأحلّه محل التكرمة، ونظمه في طبقة أشياخه من
العلماء. وكان يقرأ عليه ويأخذ عنه إلى أن هلك بفاس سنة سبع
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فصعد إليه شيخنا.
[2] وفي نسخة ثانية: صحابة.
(7/521)
وخمسين وسبعمائة. وأخبرني رحمه الله أن
مولده بتلمسان سنة إحدى وثمانين وستمائة.
(وأمّا عبد المهيمن) كاتب السلطان أبي الحسن، فأصله من سبتة، وبيتهم
بها قديم، ويعرفون ببني عبد المهيمن وكان أبوه محمد قاضيها أيام بني
العزفي. ونشأ ابنه عبد المهيمن في كفالته وأخذ عن مشيختها واختصّ
بالأستاذ أبي إسحاق الغافقي [1] ، ولما ملك عليهم الرئيس أبو سعيد صاحب
الأندلس سبتة، ونقل بني العزفي مع جملة أعيانها إلى غرناطة، ونقل معهم
القاضي محمد بن عبد المهيمن وابنه عبد المهيمن، فاستكمل قراءة العلم
هنالك وقرأ على مشيختها ابن الزبير ونظرائه [2] ، وتقدّم في معرفة كتاب
سيبويه، وبرز في علوّ الإسناد، وكثرة المشيخة. وكتب له أهل المغرب
والأندلس والمشرق، واستكتبه رئيس الأندلس يومئذ الوزير أبو عبد الله
ابن الحكيم الرندي، المستبد على السلطان المخلوع ابن الأحمر [3] فكتب
عنه ونظمه في طبقة الفضلاء الذين كانوا بمجلسه، مثل المحدّث أبي عبد
الله بن سيد الفهري [4] وأبي العبّاس أحمد العزفي، والعالم الصوفيّ
المتجرّد أبي عبد الله محمد بن خميس التلمساني، وكانا لا يجاريان في
البلاغة والشعر إلى غير هؤلاء ممن كان مختصّا به، وقد ذكرهم ابن الخطيب
في تاريخ غرناطة. فلما انكب الوزير الحكيم [5] ، وعادت سبتة إلى طاعة
بني مرين، عاد عبد المهيمن إليها واستقر بها. ثم ولي الأمر أبو سعيد
وغلب عليه ابنه أبو علي، واستبدّ بحمل الدولة. تشوّف إلى استدعاء
الفضلاء، وتجمّل بمكانهم، فاستقدم عبد المهيمن من سبتة واستكتبه سنة
اثنتي عشرة وسبعمائة. ثم خالف على أبيه سنة أربع عشرة وسبعمائة، وامتنع
بالبلد الجديد، وخرج منها إلى سجلماسة لصلح عقده مع أبيه، فتمسّك
السلطان أبو سعيد بعبد المهيمن واتخذه كاتبا إلى أن دفعه إلى رياسة
الكتّاب، ورسم علامته في الرسائل
__________
[1] هو إبراهيم بن أحمد بن عيسى الإشبيلي ابو إسحاق، عرف بالغافقي، دخل
سبته وولي القضاء بها. توفي سنة 716 هـ (الدرر الكامنة 1/ 13) .
[2] وفي نسخة ثانية: وأخذ عن أبي جعفر بن الزبير ونظرائه.
[3] وفي نسخة ثانية: السلطان المخلوع من بني الأحمر وهو محمد بن محمد
بن محمد بن نصر، يكنى (أبا عبد الله) ثالث ملوك بني الأحمر (655- 713)
وهو الّذي بنى مسجد الحمراء الأعظم بغرناطة.
[4] وفي نسخة ثانية: المحدّث أبي عبد الله بن رشيد الفهري وهو أبو عبد
الله محمد بن عمر بن محمد بن رشيد الفهري السبتي، محدّث ورحالة مشهور.
[5] الوزير ابن الحكيم أو الوزير الشاعر أبو عبد الله الرندي محمد بن
عبد الرحمن بن إبراهيم وشهرته ابن الحكيم. راجع: الاحاطة في تاريخ
غرناطة ج 2/ 378.
(7/522)
والأوامر، فتقدّم لذلك سنة ثمان عشرة
وسبعمائة، ولم يزل عليها سائر أيام السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن.
وسار مع أبي الحسن إلى إفريقية، وتخلّف عن واقعة القيروان بتونس، لما
كان به من علّة التقرس. فلمّا كانت الهيعة بتونس، ووصل خبر الواقعة،
وتحيّز أولياء السلطان إلى القصبة مع حرمه، تسرّب عبد المهيمن في
المدينة منتبذا عنهم، وتوارى في بيتنا خشية أن يصاب معهم بمكروه. فلمّا
انجلت تلك الغيابة، ورجع السلطان من القيروان إلى سوسة وركب منها البحر
إلى تونس، أعرض عن عبد المهيمن لما سخط غيبته عن قومه بالقصبة، وجعل
العلامة لأبي الفضل ابن الرئيس عبد الله بن أبي مدين [1] وقد كانت من
قبل مقصورة على هذا البيت، وأقام عبد المهيمن عطلا من العمل شهرا [2] .
ثم أعتبه السلطان ورضي عنه، وردّ إليه العلامة كما كان، ثم توفي لأيام
قلائل بتونس بالطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة ومولده سنة خمس
وسبعين وستمائة من المائة قبلها، وقد استوعب ابن الخطيب التعريف به في
تاريخ غرناطة، فليطالع هناك من أحبّ الوقوف عليه.
(وأمّا ابن رضوان) الّذي ذكره الرّحويّ في قصيدته، فهو أبو القاسم عبد
الله بن يوسف بن رضوان البحاري [3] أصله من الأندلس، نشأ بمالقة، وأخذ
عن مشيختها، وحذق في العربية والأدب، وتفنّن في العلوم ونظم ونثر، وكان
مجيدا في الترسيل، ومحسنا في كتابة الوثائق. وارتحل بعد واقعة طريف
ونزل سبتة، ولقي بها السلطان أبا الحسن [4] ومدحه وأجازه، واختصّ
بالقاضي إبراهيم بن يحيى [5] وهو يومئذ قاضي العساكر وخطيب السلطان،
وكان يستنيبه في القضاء والخطابة، ثم نظمه في جملة الكتّاب بباب
السلطان. واختصّ بخدمة عبد المهيمن رئيس الكتّاب
__________
[1] هو عبد الله بن أبي مدين شعيب العثماني كان في خدمة بني مرين
فاشتهر، فقلّدوه الحجابة ورياسة الكتّاب. ولد بقصر كتامة ونشأ بمكناسة
وتعلم بها.
[2] وفي نسخة ثانية: مدة أشهر.
[3] أو البخاري كما في نسخة أخرى.
[4] هو السلطان أبو الحسن علي بن أبي سعيد بن يعقوب المريني المتوفى
سنة 752 هـ (شذرات الذهب) 6/ 172.
[5] هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر التسولي التازي أبو إسحاق،
ويعرف بابن أبي يحيى المتوفى بعد سنة 748 (الإحاطة في تاريخ غرناطة 1/
217) .
(7/523)
والأخذ عنه، إلى أن رحل السلطان إلى
إفريقية، وكانت واقعة القيروان، وانحصر بالقصبة بتونس مع من انحصر بها
من أشياعه مع أهله وحرمه. وكان السلطان قد خلّف ابن رضوان في بعض
خدمته، فجلا عند الحصار فيما عرض لهم من المكاتبات. وتولّى كبر ذلك،
فقام فيه أحسن قيام إلى أن وصل السلطان من القيروان، فرعى له حق خدمته
تأنيسا وقربا، وكثرة استعمال إلى أن رحل من تونس في الأسطول إلى المغرب
سنة خمسين وسبعمائة كما مرّ. واستخلف بتونس ابنه أبا الفضل، وخلّف أبا
القاسم بن رضوان كاتبا له، فأقاما كذلك أياما. ثم غلبهم على تونس سلطان
الموحّدين الفضل ابن السلطان أبي يحيى. ونجا أبو الفضل إلى أبيه، ولم
يطق ابن رضوان الرحلة معه، فأقام بتونس حولا، ثم ركب البحر إلى
الأندلس، وأقام بالمريّة مع جملة من هنالك من أشياع السلطان أبي الحسن،
كان فيهم عامر ابن محمد بن علي شيخ هنتاتة كافلا لحرم السلطان أبي
الحسن وابنه. أركبهم السفين معه من تونس عند ما ارتحل، فخلص إلى
الأندلس، ونزلوا بالمريّة وأقاموا بها تحت جراية سلطان الأندلس، فلحق
بهم ابن رضوان وأقام معهم. ودعاه أبو الحجّاج سلطان الأندلس [1] الى أن
يستكتبه فامتنع، ثم هلك السلطان أبو الحسن وارتحل مخلّفه الذين كانوا
بالمريّة، ووفدوا على السلطان أبي عنان، ووفد معهم ابن رضوان، فرعى له
وسائله في خدمة أبيه، واستكتبه واختصّه بشهود مجلسه مع طلبة العلم
بحضرته. وكان محمد بن أبي عمرو يومئذ رئيس الدولة، ونجيّ الخلوة وصاحب
العلامة، وحسبان الجباية والعساكر، قد غلب على هوى السلطان، واختص به،
فاستخدم له ابن رضوان حتى علق منه بذمّة [2] ، ولاية وصحبة وانتظام في
السمر، وغشيان المجالس الخاصة، وهو مع ذلك يدنيه من السلطان. وينفق
سوقه عنده، ويستكفي به في مواقف خدمته إذا غاب عنها لما هو أهمّ، فحلا
بعين السلطان ونفقت عنده فضائله. فلما سار أبو عمرو في العساكر إلى
بجاية سنة أربع وخمسين وسبعمائة انفرد ابن رضوان بعلامة الكتاب عن
السلطان، ثم رجع ابن أبي عمرو وقد سخطه السلطان، فأقصاه إلى بجاية
وولّاه
__________
[1] ابو الحجاج هذا، هو يوسف بن إسماعيل ابن الأحمر (718- 755) هو سابع
ملوك بني الأحمر تولى الحكم سنة 334.
[2] وفي نسخة ثانية: بدمه.
(7/524)
عليها، وعلى سائر أعمالها، وعلى حرب
الموحّدين بقسنطينة. وأفرد ابن رضوان بالكتابة، وجعل إليه العلامة كما
كانت لابن أبي عمرو، فاستقلّ بها موفّر الاقطاع والإسهام والجاه. ثم
سخطه آخر سبع وخمسين وسبعمائة وجعل العلامة لمحمد بن أبي القاسم بن أبي
مدين والإنشاء والتوقيع لأبي إسحاق إبراهيم بن الحاج الغرناطي [1] ،
فلما كانت دولة السلطان أبي سالم [2] جعل العلامة لعلي بن محمد بن
مسعود [3] صاحب ديوان العساكر والإنشاء والتوقيع والسرّ لمؤلف الكتاب
عبد الرحمن ابن خلدون. ثم هلك أبو سالم سنة اثنتين وستين وسبعمائة
واستبدّ الوزير عمر بن عبد الله على من كفله من أبنائه، فجعل العلامة
لابن رضوان سائر أيامه، وقتله عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن،
واستبدّ بملكه، فلم يزل ابن رضوان على العلامة، وهلك عبد العزيز وولي
ابنه السعيد في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي بن الكاس وابن رضوان على
حاله، ثم غلب السلطان أحمد على الملك وانتزعه من السعيد، وأبي بكر بن
غازي، وقام بتدبير دولته محمد بن عثمان بن الكاس، مستبدّا عليه،
والعلامة لابن رضوان كما كانت إلى أن هلك بأزمور [4] في حركة السلطان
أحمد إلى مراكش، لحصار عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي.
وكان في جملة السلطان أبي الحسن جماعة كثيرة من فضلاء المغرب وأعيانه،
هلك كثير منهم في الطاعون الجارف بتونس، وغرق جماعة منهم في أسطوله
لمّا غرق، وتخطّت النكبة منهم آخرين إلى أن استوفوا ما قدّر من آجالهم.
(فمن حضر معه بإفريقية) الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد الزواويّ شيخ
القرّاء بالمغرب، أخذ العلم والعربية عن مشيخة فاس، وروى عن الرحّالة
أبي عبد الله بن رشيد، وكان إماما في فن القراءات وصاحب ملكة فيها لا
يجاري. وله مع ذلك
__________
[1] النميري أبو إسحاق يعرف بابن الحاج ولد سنة 713 وهو إبراهيم بن عبد
الله بن إبراهيم ... راجع (الإحاطة 1/ 193) .
[2] أبو سالم هو إبراهيم ابن السلطان أبي الحسن وشقيق السلطان أبي عنان
فارس.
[3] كنيته أبو الحسن من الأندلس نشأ في بيت علم وكان فقيها أديبا
لغويا، قدم مع أبيه الى تلمسان واسمه علي بن محمد بن أحمد بن موسى بن
سعود الخزاعي.
[4] ذكرها ياقوت تحت اسم: أزمورة: ثلاث ضمات متواليات وتشديد الميم
والواو ساكنة وراء مهملة: بلد بالمغرب في جبال البربر (معجم البلدان) .
(7/525)
صوت من مزامير آل داود [1] وكان يصلّي
بالسلطان التراويح ويقرأ عليه بعض الأحيان حزبه.
(وممن حضر معه) بإفريقية الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن الصبّاغ
من أهل مكناسة، كان مبرّزا في المعقول والمنقول، وعارفا بالحديث
وبرجاله، وإماما في معرفة كتّاب الموطأ وإقرائه، أخذ العلوم عن مشيخة
فاس ومكناسة، ولقي شيخنا أبا عبد الله الأيلّي، ولازمه وأخذ عنه العلوم
العقلية، فاستنفد بقيّة طلبه عليه، فبرز آخرا، واختاره السلطان لمجلسه
واستدعاه، ولم يزل معه إلى أن هلك غريقا في ذلك الأسطول.
(ومنهم القاضي أبو عبد الله) محمد بن عبد الله بن عبد النور من أعمال
ندرومة ونسبه في صنهاجة كان مبرّزا في الفقه على مذهب الإمام مالك بن
أنس، تفقّه فيه على الأخوين أبي زيد وأبي موسى ابني الإمام، وكان من
جملة [2] أصحابهما.
ولما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان رفع من منزلة ابني الإمام
واختصهما بالشورى في بلدهما. وكان يستكثر من أهل العلم في دولته، ويجري
لهم الأرزاق ويعمر بهم مجلسه، فطلب يومئذ من ابن الإمام أن يختار له من
أصحابه من ينظمه في فقهاء المجالس، فأشار عليه بابن عبد النور هذا،
فأدناه وقرّب مجلسه، وولّاه قضاء عسكره، ولم يزل في جملته إلى أن هلك
بالطاعون بتونس سنة تسع وأربعين وسبعمائة وكان قد خلف أخاه عليّا رفيقه
في تدريس ابن الإمام إلّا أنه أقصر باعا منه في الفقه. فلمّا خلع
السلطان أبو عنان طاعة أبيه السلطان أبي الحسن، ونهض إلى فاس، استنفره
في جملته وولّاه قضاء مكناسة، فلم يزل بها حتى تغلّب عمر بن عبد الله
على الدولة كما مرّ، فنزع إلى قضاء فرضه فسرّحه. فخرج حاجّا سنة أربع
وستين وسبعمائة فلمّا قدم على مكة وكان به بقية مرض، هلك في طواف
القدوم.
وأوصى أمير الحاج على ابنه محمد، وأن يبلغ وصيته به للأمير المتغلّب
على الديار المصرية يومئذ يلبغا الخاصكي [3] فأحسن خلافته فيه وولّاه
من وظائف الفقهاء ما
__________
[1] يروى ابن أبي موسى الأشعري أنه كان يقرأ القرآن، فسمعه النبي (صلى
الله عليه وسلم) فقال: أعطيت مزمارا من مزامير آل داود يعني بذلك حسن
صوته (تاج العروس 3/ 340) .
[2] وفي نسخة ثانية: جلّة.
[3] هو يلبغا بن عبد الله الخاصكي الناصري الأمير الكبير الشهير. أول
ما أمّره الناصر حسن مقدم ألف بعد موت تنكره ثم كان يلبغا راس من قام
على استاذه الناصر حسن حتى قتل وتسلطن المنصور محمد بن
(7/526)
سدّ به خلّته، وصان عن سؤال الناس وجهه،
وكان له عفا الله عنه كلف بعلم الكيمياء، طالبا لمن غلط في ذلك وأمثاله
[1] . فلم يزل يعاني من ذلك ما يورّطه مع الناس في دينه وعرضه إلى أن
دعته الضرورة للترحّل عن مصر، ولحق ببغداد وناله مثل ذلك. فلحق بماردين
[2] واستقرّ عند صاحبها، فأحسن جواره إلى أن بلغنا بعد التسعين أنه هلك
هنالك حتف أنفه والبقاء للَّه وحده.
(ومنهم شيخ التعاليم) أبو عبد الله محمد بن النجّار من أهل تلمسان، أخذ
العلم ببلده عن مشيختها، وعن شيخنا الأيلّي وبرّز عليه. ثم ارتحل إلى
المغرب فلقي بسبتة إمام التعاليم أبا عبد الله محمد بن هلال شارح
المجسطيّ في الهيئة، وأخذ بمراكش عن الإمام أبي العبّاس بن البنّاء،
وكان إماما في علم النجامة وأحكامها، وما يتعلّق بها، ورجع إلى تلمسان
بعلم كثير، واستخلصته الدولة. فلمّا هلك أبو تاشفين وملك السلطان أبو
الحسن نظمه في جملته وأجرى له رزقه، فحضر معه بإفريقية وهلك في
الطاعون.
(ومنهم) أبو العبّاس أحمد بن شعيب [3] من أهل فاس، برع في الأدب
واللسان والعلوم العقلية، من الفلسفة والتعاليم والطب وغيرها. ونظمه
السلطان أبو سعيد في جملة الكتّاب وأجرى عليه رزق الأطبّاء لتقدّمه
فيه، فكان كاتبه وطبيبه، وكذا مع السلطان أبي الحسن بعده، فحضر
بإفريقية وهلك بها في ذلك الطاعون. وكان له شعر سابق به الفحول من
المتقدّمين والمتأخّرين، وكانت له إمامة في نقد الشعر وبصر به، وما
حضرني الآن من شعره إلا قوله:
__________
[ () ] حاجي ... وعند ما تسلطن الأشرف شعبان تناهت الى يلبغا الرئاسة
ولقب نظام الملك وصار إليه الأمر والفهي وهو السلطان في الباطن ...
(شذرات الذهب 6/ 212) .
[1] وفي نسخة ثانية: كلف بعمل الكيمياء، تابعا لمن غلط في ذلك من
أمثاله.
[2] ماردين: قلعة مشهورة على قنّة جبل الجزيرة مشرفة على دنيسر ودارا
ونصيبين وذلك الفضاء الواسع مشهورة بمدارسها وخاناتها ودورها وهي
كالدرج، كل دار فوق الأخرى وكل درب منها يشرف على ما تحته من الدور،
ذكرها جرير في قوله:
يا خزر تغلب إن اللؤم حالفكم ما دام في ماردين الزيت يعتصر. (معجم
البلدان) ويطلق هذا الاسم اليوم على إقليم واسع من تركيا.
[3] هو احمد بن شعيب الجزنائي التازي نزيل فاس. كتب للسلطان أبي الحسن
المريني وتوفي بتونس سنة 750 هـ.
(7/527)
دار الهوى نجد وساكنها ... أقصى أمانيّ
النفس من نجد
هل باكر الوسميّ ساحتها ... واستنّ في قيعانها الجرد
أو بات معتلّ النسيم بها ... مستشفيا بالبان والرند
يتلو أحاديث الذين هم ... قصدي وإن جاروا عن القصد
أيام سمر ظلالها وطني ... منها وزرق مياهها وردي
ومطارح النظرات في رشاء ... أحوى المدامع أهيف القدّ
يرنو إليك بعين جارية ... قتل المحبّ بها على عمد
حتى أجدّ بهم على عجل ... ريب الخطوب وعاثر الجدّ
فقدوا فما وأبيك بعدهم ... عيشي شفى إلّا على الفقد [1]
وغدوا دفينا قد تضمّنه ... بطن الثرى وقرارة اللّحد
ومشرّدا من دون رؤيته ... قذف النّوى وتنوفة البعد
أجرى عليّ العيش بعدهم ... أني جرعت حميمهم وحدي [2]
لا تلحني يا صاح في شجن ... أخفيت منه فوق ما أبدي
بالقرب لي سكن يؤوّبني ... من ذكره سهد على سهد
فرخان قد تركا بمضيعة ... رزئت [3] عن الرّفداء والرفد
(ومنهم) صاحبنا الخطيب أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق من أهل
تلمسان، كان سلفه نزلاء الشيخ أبي مدين بالعبّاد، ومتوارثين خدمة تربته
من لدن جدّهم خادمه في حياته. وكان جدّه الخامس أو السادس واسمه أبو
بكر بن مرزوق معروفا بالولاية فيهم. ولما هلك دفنه يغمراسن [4] بن
زيّان السلطان بتلمسان من بني عبد الواد في التربة بقصره، ليدفن بإزائه
متى قدّر بوفاته. ونشأ محمد هذا بتلمسان، ومولده فيما أخبرني سنة عشر
وسبعمائة [5] ، وارتحل مع أبيه إلى المشرق سنة ثمان عشرة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فقدوا فلا وأبيك بعدهم ما عشت لا آسي على الفقد.
[2] وفي نسخة ثانية: اني فقدت جميعهم وحدي.
[3] وفي نسخة ثانية: زويت.
[4] يغمراسن بن زيان بن ثابت بن محمد السلطان من بني عبد الواد، كان من
أشد بني عبد الواد بأسا، وكانت له في النفوس مهابة، ولي الملك سنة 733،
ودان له المغرب الأوسط وتلمسان.
[5] ما ذكره ابن خلدون عن مولد تاريخ ابن مرزوق يختلف عما ذكره ابن
الخطيب في الإحاطة حيث يقول أنه ولد سنة 711 هـ بدل 710 هـ.
(7/528)
وسبعمائة ومرّ ببجاية فسمع بها على الشيخ
أبي علي ناصر الدين ودخل الشرق. وجاور أبوه بالحرمين الشريفين، ورجع هو
إلى القاهرة وأقام بها. وقرأ على برهان الدين الصّفاقصيّ المالكيّ
وأخيه. وبرع في الطلب والرواية، وكان يجيد الخطّين. ثم رجع سنة ثلاث
وثلاثين وسبعمائة الى المغرب ولقي السلطان أبا الحسن بمكانه من حصار
تلمسان، وقد شيد بالعبّاد مسجدا عظيما، وكان عمّه ابن مرزوق خطيبا به
على عادتهم في العبّاد. وتوفي فولّاه السلطان خطابة ذلك المسجد مكان
عمّه. وسمعه يخطب على المنبر ويشيد بذكره والثناء عليه، فحلا بعينه
واختصّه وقرّبه، وهو مع ذلك يلازم مجلس الشيخين ابني الإمام، ويأخذ
نفسه بلقاء الفضلاء والأكابر والأخذ عنهم، والسلطان كل يوم يزيد ترقّيه
[1] ، وحضر معه واقعة طريف التي كان فيها تمحيص المسلمين، فكان يستعمله
في السفارة عنه إلى صاحب الأندلس. ثم سفر عنه بعد أن ملك إفريقية إلى
ابن أدفونش ملك قشتالة في تقرير الصلح، واستنقاذ ابنه أبي عمر تاشفين.
كان أسر يوم طريف فغاب في تلك السفارة عن واقعة القيروان. ورجع بتاشفين
مع طائفة من زعماء النصرانيّة جاءوا في السفارة عن ملكهم، ولقيهم خبر
واقعة القيروان بقسنطينة من بلاد إفريقية، وبها عامل السلطان وحاميته،
فثار أهل قسنطينة بهم جميعا ونهبوهم، وخطبوا للفضل ابن السلطان أبي
يحيى، وراجعوا الموحّدين، واستدعوه فجاء إليهم وملك البلد. وانطلق ابن
مرزوق عائدا إلى المغرب مع جماعة من الأعيان، والعمّال والسفراء عن
الملوك. ووفد على السلطان أبي عنان مع أمة حظية أبي الحسن وأثيرته.
كانت راحلة إليه، فأدركها الخبر بقسنطينة، وحضرت الهيعة. فوثب ابنها
أبو عنان على ملك أبيه واستيلائه على فاس، فرجعت إليه وابن مرزوق في
خدمتها. ثم طلب اللحاق بتلمسان فسرّحوه إليها، وأقام بالعبّاد مكان
سلفه. وعلى تلمسان يومئذ أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يغمراسن بن
زيّان قد بايع له قبيلة بني عبد الواد بعد واقعة القيروان بتونس، وابن
تافراكين يومئذ محاصر للقصبة كما مرّ في أخبارهم. وانصرفوا إلى تلمسان
فوجدا بها أبا سعيد عثمان بن جرّار أقد استعمله عليها السلطان أبو عنان
عند انتقاضه على أبيه، ومسيره إلى فاس، وانتقض ابن جرّار من بعده، ودعا
لنفسه، وصمد إليه عثمان بن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: والسلطان في كل يوم يزيده رتبة.
ابن خلدون م 34 ج 7
(7/529)
عبد الرحمن ومعه أخوه أبو ثابت وقومهما،
فملكوا تلمسان من يد ابن جرّار وحبسوه ثم قتلوه. واستبدّ أبو سعيد بملك
تلمسان وأخوه أبو ثابت يردفه، وركب السلطان أبو الحسن البحر من تونس
وغرق أسطوله ونجا هو إلى الجزائر فاحتل بها، وأخذ في الحشد إلى تلمسان،
فرأى أبو سعيد أن يكفّ غربة عنهم، بمواصلة تقع بينهما، واختار لذلك
الخطيب ابن مرزوق [1] فاستدعاه وأسرّ إليه بما يلقيه عند السلطان أبي
الحسن، وذهب لذلك على طريق الصحراء. وأطلّ أبو ثابت وقومه على الخبر
فنكروه على أبي سعيد وعاتبوه فأنكر، فبعثوا صغير بن عامر في اعتراض ابن
مرزوق فجاء به وحبسوه أياما. ثم أجازوه البحر إلى الأندلس فنزل على
السلطان أبي الحجّاج بغرناطة، وله إليه وسيلة منذ اجتماعه به بمجلس
السلطان أبي الحسن بسبتة إثر واقعة طريف، فرعى له أبو الحجّاج ذمّة تلك
المعرفة، وأدناه واستعمله في الخطابة بجامعة بالحمراء. فلم يزل خطيبه
إلى أن استدعاه السلطان أبو عنان سنة أربع وخمسين وسبعمائة بعد مهلك
أبيه، واستيلائه على تلمسان وأعمالها، فقدم عليه ورعى له وسائله، ونظمه
في أكابر أهل مجلسه. وكان يقرأ الكتب بين يديه في مجلسه العليّ [2]
ويدرّس في نوبته مع من يدرّس في مجلسه منهم. ثم بعثه إلى تونس عام
ملكها سنة ثمان وخمسين وسبعمائة ليخطب له ابنه السلطان أبي يحيى، فردّت
تلك الخطبة واختفت بتونس. ووشي إلى السلطان أبي عنان أنه كان مطلعا على
مكانها، فسخطه لذلك ورجع السلطان من قسنطينة، فثار أهل تونس بمن كان
بها من عمّاله وحاميته. واستقدموا أبا محمد بن تافراكين من المهديّة،
فجاء وملك البلد. وركب القوم الأسطول ونزلوا بمراسي تلمسان. وأوعز
السلطان باعتقال ابن مرزوق، وخرج لذلك يحيى بن شعيب من مقدّمي الحجّاب
[3] ببابه، فلقيه بتاسالت فقيّده هنالك. وجاء به فأحضره السلطان
وقرّعه، ثم حبسه مدّة وأطلقه بين يدي مهلكه.
واضطربت الدولة بعد موت السلطان أبي عنان، وبايع بعض بني مرين لبعض
الأعياص من بني يعقوب بن عبد الحق. وحاصروا البلد الجديد، وبها ابنه
السعيد ووزيره المستبدّ عليه الحسن بن عمر، وكان السلطان أبو سالم
بالأندلس غرّبه إليها
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ابن مرزوي.
[2] وفي نسخة ثانية: العلمي.
[3] وفي نسخة ثانية: الجنادرة وهو تحريف.
(7/530)
أخوه السلطان أبو عنان مع بني عمّهم ولد
السلطان أبي علي بعد وفاة السلطان أبي الحسن، وحصولهم جميعا في قبضته.
فلما توفي أراد أبو سالم النهوض لملكه بالمغرب، فمنعه رضوان القائم
يومئذ بملك الأندلس مستبدّا على ابن السلطان أبي الحجّاج، فلحق هو
بإشبيليّة من دار الحرب، ونزل على بطرة [1] ملكهم يومئذ، فهيّأ له
السفن وأجازه إلى العدوة فنزل، بجبل الصفيحة من بلاد غمارة، وقام
بدعوته بنو مسير [2] وبنو منير أهل ذلك الجبل منهم، ثم أمدّوه واستولى
على ملكه في خبر طويل ذكرناه في أخبار دولته. وكان ابن مرزوق يداخله
وهو بالأندلس ويستخدم له، ويفاوضه في أموره وربما كان يكاتبه، وهو بجبل
الصفيحة، ويداخل زعماء قومه في الأخذ بدعوته. فلمّا ملك السلطان أبو
سالم رعى له تلك الوسائل أجمع، ورفعه على الناس، وألقى عليه محبّته
وجعل زمام الأمور بيده، فوطئ الناس عقبه وغشي أشراف الدولة بابه، وصرفت
الوجوه إليه، فمرضت لذلك قلوب أهل الدولة ونقموه على السلطان، وتربّصوا
به حتى وثب عبد الله بن عمر بالبلد الجديد، وافترق الناس عن السلطان.
وقتله عمر بن عبد الله آخر اثنتين وستين وسبعمائة وحبس ابن مرزوق وأغرى
به سلطانه الّذي نصبه، محمد بن أبي عبد الرحمن بن أبي الحسن فامتحنه
واستصفاه، ثم أطلقه بعد أن رام كثير من أهل الدولة قتله فمنعه منهم.
ولحق بتونس سنة أربع وستين وسبعمائة ونزل على السلطان أبي إسحاق وصاحب
دولته المستبدّ عليه أبي محمد بن تافراكين، فأكرموا نزله وولّوه
الخطابة بجامع الموحّدين بتونس. وأقام بها إلى أن هلك السلطان أبو
إسحاق سنة سبعين وسبعمائة وولي ابنه خالد. وزحف السلطان أبو العبّاس
حافد السلطان أبي يحيى من مقرّه بقسنطينة إلى تونس فملكها، وقتل خالدا
سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة.
وكان ابن مرزوق يستريب منه لما كان يميل وهو بفاس مع ابن عمّه محمد
صاحب بجاية، ويؤثره عند السلطان أبي سالم عليه، فعزله السلطان أبو
العبّاس عن الخطبة بتونس، فوجم لها وأجمع الرحلة إلى المشرق. وسرّحه
السلطان فركب السفن ونزل بالإسكندريّة، ثم رحل إلى القاهرة ولقي أهل
العلم وأمراء الدولة، ونفقت بضائعه
__________
[1] بطرة بطاء فوقها نقطتان: اشارة الى أن نطقها بين الطاء والتاء وهذا
ما أشار اليه ابن خلدون في مقدمته.
[2] وفي نسخة ثانية: بنو مثنى.
(7/531)
عندهم، وأوصلوه إلى السلطان وهو يومئذ
الأشرف [1] . فكان يحضر يومئذ مجلسه وولّاه الوظائف العلمية، فكان
ينتجع منها معاشه. وكان الّذي وصل حبله بالسلطان أستاذ داره محمد بن
آقبغا آص [2] لقيه أوّل قدومه فحلا بعينه، واستظرف جملته، فسعى له
وأنجح سعايته، ولم يزل مقيما بالقاهرة موقّر الرتبة معروف الفضيلة،
مرشّحا لقضاء المالكية ملازما للتدريس في وظائفه إلى أن هلك سنة إحدى
وثمانين وسبعمائة هكذا ذكر من حضره من جملة السلطان أبي الحسن من
أشياخنا وأصحابنا، وليس موضوع الكتاب الإطالة، فلنقتصر على هذا القدر،
ونرجع إلى ما كنّا فيه من أخبار المؤلف.
(ولاية العلامة بتونس ثم الرحلة بعدها الى المغرب والكتابة على السلطان
أبي عنان)
ولم أزل منذ نشأت وناهزت مكبّا على تحصيل العلم، حريصا على اقتناء
الفضائل، متنقّلا بين دروس العلم وحلقاته، إلى أن كان الطاعون الجارف،
وذهب الأعيان والصدور وجميع المشيخة، وهلك أبواي رحمهما الله. ولزمت
مجلس شيخنا أبي عبد الله الأيلّي، وعكفت على القراءة عليه ثلاث سنين
إلى أن شدوت بعض الشيء، واستدعاه السلطان أبو عنان فارتحل إليه،
واستدعاني أبو محمد بن تافراكين المستبدّ على الدولة يومئذ بتونس إلى
كتابة العلامة عن السلطان أبي إسحاق. مذ نهض إليه من قسنطينة صاحبها
أبو زيد حافد السلطان أبي يحيى في عساكره، ومعه العرب أولاد مهلهل
الذين استنجدوه لذلك، فخرج ابن تافراكين وسلطانه أبو إسحاق مع العرب
أولاد أبي الليل، وبثّ العطاء في عسكره، وعمّر له المراتب والوظائف.
وتعلّل عليه صاحب العالمة أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر بالاستزادة
من العطاء، فعزله وأدالني منه، فكتبت العلامة عن السلطان، وهي «الحمد
للَّه والشكر للَّه» بالقلم الغليظ ما بين البسملة وما بعدها من مخاطبة
أو مرسوم. وخرجت
__________
[1] السلطان الأشرف هو ابو المفاخر شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون
(754- 778) تولى الملك سنة 764 هـ.
[2] هو الأمير ناصر الدين محمد بن آقبغا آص المتوفى سنة 795 هـ.
(7/532)
معهم أوّل سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وقد
كنت منطويا على الرحلة من إفريقية لما أصابني من الاستيحاش لذهاب
أشياخي وعطلاني [1] عن طلب العلم. فلما رجع بنو مرين إلى مراكزهم
بالمغرب وانحسر تيّارهم عن إفريقية، وأكثر من كان معهم من الفضلاء
صحابة وأشياخ، فاعتزمت على اللحاق بهم، وصدّني عن ذلك أخي وكبيري محمد
رحمه الله، فلما دعيت إلى هذه الوظيفة سارعت إلى الإجابة لتحصيل غرضي
من اللحاق بالمغرب، وكان كذلك، فإنّا لمّا خرجنا من تونس نزلنا بلاد
هوّارة، وزحفت العساكر بعضها إلى بعض بفحص مرماجنّة وانهزم صفّنا ونجوت
أنا إلى أبّة، فأقمت بها عند الشيخ عبد الرحمن الوسناني [2] من كبراء
المرابطين، ثم تحوّلت إلى سبتة ونزلت بها على محمد بن عبدون صاحبها،
فأقمت عنده ليالي حتى هيّأ لي الطريق مع رفيق من المغرب [3] ، وسافرت
إلى قفصة، وأقمت بها أياما حتى قدم علينا بها الفقيه محمد ابن الرئيس
منصور بن مزني، وأخوه يوسف يومئذ صاحب الزاب وكان هو بتونس، فلمّا
حاصرها الأمير أبو زيد خرج إليه فكان معه. فلمّا بلغهم الخبر بأنّ
السلطان أبا عنان ملك المغرب، نهض إلى تلمسان فملكها، وقتل سلطانها
عثمان بن عبد الرحمن، وأخاه أبا ثابت وأنه انتهى الى المدية وملك بجاية
من يد صاحبها الأمير أبي عبد الله من حفدة السلطان أبي يحيى، وراسله
عند ما أطلّ على بلده، فسار إليه، ونزل له عنها. وصار في جملته، وولي
أبو عنان على بجاية عمر ابن علي شيخ بني وطّاس من بني الوزير شيوخهم.
فلمّا بلغهم هذا الخبر أجفل الأمير عبد الرحمن من مكانه عن حصار تونس،
ومرّ بقفصة فدخل إلينا محمد بن مزني ذاهبا إلى الزاب، فرافقته إلى
بسكرة، ودخلت إلى أخيه هنالك، ونزل هو بعض قرى الزاب تحت جراية أخيه
إلى أن انصرم الشتاء.
وكان أبو عنان لما ملك بجاية ولّى عليها عمر بن علي بن الوزير من شيوخ
بني وطّاس فجاء فارح مولى الأمير أبي عبد الله لنقل حرمه وولده، فداخل
بعض السفهاء من صنهاجة في قتل عمر بن علي فقتله في مجلسه ووثب هو على
البلد وأرسل إلى الأمير أبي زيد يستدعيه من قسنطينة، فتمشّت رجالات
البلد بينهم خشية من سطوة السلطان.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عطلتي.
[2] وفي نسخة ثانية: الوشتاتي.
[3] وفي نسخة ثانية: وبذرق لي مع رفيق من العرب، والبذرقة كلمة معرّبه
معناها الخفارة أو العصمة.
(7/533)
ثم ثاروا بفارح فقتلوه وأعادوا دعوة
السلطان كما كانت. وبعثوا عن عامل السلطان بتدلس يحياتن بن عمر بن عبد
المؤمن من شيوخ بني ونكاسن من بني مرين، فملكوه قيادهم وبعثوا إلى
السلطان بطاعتهم، فأخرج لوقته حاجبه محمد بن أبي عمرو، واكتنف [1] له
الجند وصرف معه وجوه دولته وأعيان بطانته. وارتحلت من بسكرة وافدا على
السلطان أبي عنان بتلمسان، فلقيت ابن أبي عمرو بالبطحاء، وتلقّاني من
الكرامة بما لم أحتسبه، وردّني معه إلى بجاية فشهدت الفتح، وتسايلت
وفود إفريقية إليه. فلمّا رجع إلى السلطان وفدت معهم فنالني من كرامته
وإحسانه ما لم أحتسبه، إذ كنت شابا لم يطرّ شاربي. ثم انصرفت مع الوفود
ورجع ابن أبي عمرو إلى بجاية، فأقمت عنده حتى انصرم الشتاء أواخر أربع
وخمسين وسبعمائة وعاد السلطان أبو عنان إلى فاس وجمع أهل العلم للتحليق
بمجلسه، وجرى ذكري عنده وهو ينتقي طلبة العلم للمذاكرة في ذلك المجلس،
فأخبره الذين لقيتهم بتونس عني ووصفوني له، فكتب إليّ الحاجب يستقدمني،
فقدمت عليه سنة خمس وخمسين وسبعمائة ونظمني في أهل مجلسه العلمي،
وألزمني شهود الصلوات معه، ثم استعملني في كتابته والتوقيع بين يديه
على كره مني، إذ كنت لم أعهد مثله لسلفي. وعكفت على النظر والقراءة
ولقاء المشيخة من أهل المغرب ومن أهل الأندلس الوافدين في غرض السفارة،
وحصلت من الإفادة منهم على البغية.
وكان في جملته يومئذ الأستاذ أبو عبد الله محمد بن الصفّار من أهل
مراكش إمام القراءات لوقته، أخذ عن جماعة من مشيخة المغرب وكبيرهم شيخ
المحدّثين الرحّالة أبو عبد الله محمد بن رشيد الفهريّ سيّد أهل
المغرب، وكان يعارض السلطان القرآن برواياته السبع إلى أن توفي.
(ومنهم) قاضي الجماعة بفاس أبو عبد الله محمد المغربي [2] صاحبنا، من
أهل تلمسان، أخذ العلم بها عن أبي عبد الله محمد السلويّ [3] ورد عليها
من المغرب خلوا من المعارف. ثم دعته همّته إلى التحلي بالعلم، فعكف في
بيته على مدارسة القرآن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: واكثف.
[2] وفي نسخة ثانية: المقّريّ وهو ابو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد
بن أبي بكر المقري بتشديد القاف المفتوحة نسبة الى مقرة. أو سكون الكاف
والميم في الحالتين مفتوحة. (الإحاطة 2/ 136) .
[3] وفي نسخة ثانية: السلاوي نسبة الى سلّا.
(7/534)
فحفظه، وقرأه بالسبع. ثم عكف على كتاب
التسهيل في العربية فحفظه، ثم على مختصر ابن الحاجب في الفقه والأصول
فحفظهما. ثم لزم الفقيه عمران المشدّالي من تلاميذ أبي علي ناصر الدين،
وتفقّه عليه، وبرز في العلوم إلى حيث لم تلحق غايته. وبنى السلطان أبو
تاشفين مدرسة بتلمسان، فقدّمه للتدريس بها، يضاهي به أولاد الإمام،
وتفقّه عليه بتلمسان جماعة كان من أوفرهم سهما في العلوم أبو عبد الله
المغربي هذا.
ولما جاء شيخا أبو عبد الله الأيلّي إلى تلمسان عند استيلاء السلطان
أبي الحسن عليها، وكان أبو عبد الله السلوي قد قتل يوم فتح تلمسان،
قتله بعض أشياع السلطان لذنب أسلفه في خدمة أخيه أبي علي بسجلماسة قبل
انتحاله العلم، كان السلطان توعّده عليه، فقتل بباب المدرسة، فلزم أبو
عبد الله المغربي بعده مجلس شيخنا الأيلي ومجالس ابني الإمام. واستبحر
في العلم وتفنّن. ولما انتقض السلطان أبو عنان سنة تسع وأربعين
وسبعمائة وخلع أباه، ندبه إلى كتب البيعة فكتبها وقرأها على الناس في
يوم مشهود. وارتحل مع السلطان إلى فاس، فلمّا ملكها عزل قاضيها الشيخ
المعمّر أبا عبد الله بن عبد الرزاق وولّاه مكانه، فلم يزل قاضيا بها
إلى أن أسخطه لبعض النزعات الملوكيّة، فعزله وأدال منه بالفقيه أبي عبد
الله الفشتالي [1] آخر سنة ست وخمسين وسبعمائة، ثم بعثه في سفارة إلى
الأندلس فامتنع من الرجوع. وقام السلطان لها في ركابه، ونقم [2] على
صاحب الأندلس تمسّكه به، وبعث إليه فيه يستقدمه، فلاذ ابن الأحمر
بالشفاعة فيه، واقتضى له كتاب أمان بخط السلطان أبي عنان، وأوفده في
جماعة من شيوخ العلم بغرناطة القاطنين بها [3] منهم: شيخنا أبو القاسم
الشريف السبتي شيخ الدنيا جلالة وعلما ووقارا ورياسة وإمام اللسان
فصاحة وبيانا [4] وتقدّما في نظمه ونثره. وترسّلاته. وشيخنا الآخر أبو
البركات محمد بن محمد بن الحاج البلقيني [5] من أهل المرية شيخ
المحدّثين والفقهاء والأدباء والصوفية والخطباء
__________
[1] القشتالي: هو أبو عبد الله محمد بن أحمد القشتالي القاضي بفاس، كان
بيته معمورا بالجود والخير والصلاح، وكان أبو عبد الله هذا أحد اعلام
المغرب (الإحاطة 2/ 133) .
[2] وفي نسخة ثانية: ونكر.
[3] وفي نسخة ثانية: وأوفده مع الجماعة من شيوخ العلم بغرناطة ومنهم
القاصيان بغرناطة.
[4] وفي نسخة ثانية: وامام اللسان حوكا ونقدا.
[5] وفي نسخة ثانية: البلّفيقي: وهو محمد بن محمد بن إبراهيم ابن الحاج
البلفيقي (708- 770) طبقات القراء 2/ 235.
(7/535)
بالأندلس، وسيّد أهل العلم بإطلاق،
والمتفنّن في أساليب المعارف، وآداب الصحابة للملوك فمن دونهم، فوفدوا
به على السلطان شفيعين على عظيم تشوّفه للقائهما، فقبلت الشفاعة وأنجحت
الوسيلة.
حضرت بمجلس السلطان يوم وفادتهما سنة سبع وخمسين وسبعمائة وكان يوما
مشهودا. واستقرّ القاضي المغربي في مكان بباب السلطان عطلا من الولاية
والجراية. وجرت عليه بعد ذلك محنة من السلطان وقعت بينه وبين أقاربه،
امتنع من الحضور معهم عند القاضي الفشتالي، فتقدّم السلطان إلى بعض
أكابر الوزعة ببابه أن يسحبه إلى مجلس القاضي حتى ينفذ فيه حكمه، فكان
الناس يعدّونها محنة، ثم ولّاه السلطان بعد ذلك قضاء العساكر في دولته،
عند ما ارتحل إلى قسنطينة. فلما افتتحها وعاد إلى دار ملكه بفاس آخر
ثمان وخمسين وسبعمائة اعتلّ القاضي المغربي في طريقه، وهلك عند قدومه
بفاس.
(ومنهم صاحبنا) الإمام العالم القدوة [1] ، فارس المعقول والمنقول،
وصاحب الفروع والأصول، أبو عبد الله محمد بن أحمد الشريف الحسني، ويعرف
بالعلوي نسبة إلى قرية من أعمال تلمسان، تسمّى العلوين، فكان أهل بلده
لا يدافعون في نسبهم. وربّما يغمز فيه بعض الفجرة ممن لا يروعه دينه
ولا معرفته بالأنساب ببعض من اللغو، لا يلتفت إليه، نشأ هذا الرجل
بتلمسان وأخذ العلم عن مشيختها، واختص بأولاد الإمام وتفقّه عليهما في
الفقه والأصول والكلام، ثم لزم شيخنا أبا عبد الله الأبلي وتضلّع من
معارفه، فاستبحر وتفجّرت ينابيع العلوم من مداركه. ثم ارتحل إلى تونس
في بعض مذاهبه سنة أربعين وسبعمائة ولقي شيخنا القاضي أبا عبد الله ابن
عبد السلام وحضر مجلسه وأفاد منه، واستعظم رتبته في العلم. وكان ابن
عبد السلام يصغي إليه ويؤثر محله ويعرف حقّه حتى لقد زعموا أنه كان
يخلو به في بيته، فيقرأ عليه فصل التصوّف من كتاب الإشارات لابن سينا،
لما كان هو أحكم ذلك الكتاب على شيخنا الأبلّي وقرأ عليه كثيرا من كتاب
الشفاء لابن سينا، ومن تلاخيص كتب أرسطو لابن رشد، ومن الحساب والهندسة
والفرائض علاوة على ما كان يحمله من الفقه والعربية وسائر علوم
الشريعة، وكانت له في كتب الخلافيات يد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: العالم الفذّ.
(7/536)
طولى، وقدم عالية، فعرف له ابن عبد السلام
ذلك كلّه وأوجب حقّه، وانقلب إلى تلمسان، وانتصب لتدريس العلم وبثّه
فملأ المغرب معارف وتلاميذ، إلى أن اضطرب المغرب بعد واقعة القيروان.
ثم هلك السلطان أبو الحسن، وزحف أبو عنان إلى تلمسان فملكها سنة ثلاث
وخمسين وسبعمائة فاستخلص الشريف أبا عبد الله واختاره لمجلسه العليّ مع
من اختاره من المشيخة، وزحف به إلى فاس فتبرّم الشريف من الاغتراب
وردّد الشكوى وعرف السلطان ذلك [1] وارتاب به. ثم بلغه أثناء ذلك أنّ
عثمان بن عبد الرحمن سلطان تلمسان أوصاه على ولده، وأودع له مالا عند
بعض الأعيان من أهل تلمسان، وأنّ الشريف مطلع على ذلك، فانتزع الوديعة
وسخط الشريف بذلك ونكبه، وأقام في اعتقاله أشهرا، ثم أطلقه أوّل ست
وخمسين وسبعمائة وأقصاه، ثم أعتبه بعد فتح قسنطينة وأعاده إلى مجلسه
إلى أن هلك السلطان آخر تسع وخمسين وسبعمائة.
وملك أبو حمّو بن يوسف بن عبد الرحمن تلمسان من يد بني مرين، واستدعى
الشريف من فاس فسرّحه القائم بالأمر يومئذ الوزير عمر بن عبد الله
فانطلق إلى تلمسان. وأطلقه [2] أبو حمو براحتيه، وأصهر له في ابنته،
فزوّجها إياه، وبنى له مدرسة جعل في بعض جوانبها مدفن أبيه وعمّه،
وأقام الشريف يدرس العلم إلى أن هلك سنة إحدى وسبعين وسبعمائة وأخبرني
رحمه الله أنّ مولده سنة عشر وسبعمائة.
(ومنهم صاحبنا) الكاتب القاضي أبو القاسم محمد بن يحيى البرجي من برجة
[3] الأندلس. كان كاتب السلطان أبي عنان وصاحب الإنشاء والسرّ في
دولته، وكان مختصّا به، وأثيرا لديه. وأصله من برجة الأندلس نشأ بها
واجتهد في العلم والتحصيل، وقرأ وسمع وتفقّه على مشيخة الأندلس.
واستبحر في الأدب وبرز في النظم والنثر، وكان لا يجاري في كرم الطباع
وحسن المعاشرة، ولين الجانب وبذل البشر والمعروف. وارتحل إلى بجاية في
عشر الأربعين وسبعمائة، وبها الأمير أبو زكريا ابن السلطان أبي يحيى
منفردا بملكها على حين أقفر من رسم الكتابة والبلاغة،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فاحفظ السلطان بذلك.
[2] وفي نسخة ثانية: وتلقّاه أبو حمو براحتيه.
[3] برجة: مدينة بالأندلس من أعمال البيرة، ينسب إليها أبو الحسن علي
بن محمد بن عبد الله الجذامي المقري، هو منسوب إلى برجة بلدة من أعمال
المرية (معجم البلدان) .
(7/537)
فبادرت أهل الدولة إلى اصطفائه وإيثاره
بخطة الإنشاء والكتاب عن السلطان إلى أن هلك الأمير أبو زكريا، ونصب
ابنه محمّد مكانه، فكتب عنه على رسمه ثم هلك السلطان أبو يحيى، وزحف
السلطان أبو الحسن إلى إفريقية واستولى على بجاية، ونقل الأمير محمدا
بأهله وحاشيته إلى تلمسان كما تقدّم في أخباره، فنزل أبو القاسم البرجي
تلمسان، وأقام بها واتصل خبره بأبي عنان ابن السلطان أبي الحسن وهو
يومئذ أميرها، ولقيه، فوقع من قلبه بمكان إلى أن كانت واقعة القيروان.
وخلع أبو عنان واستبدّ بالأمر فاستكتبه وحمله إلى المغرب، ولم يسم به
إلى العلامة لأنه آثر بها محمد بن أبي عمر بما كان أبوه يعلّمه القرآن
والعلم. وربّي محمد بداره، فولّاه العلامة، والبرجي مرادف له في رياسته
إلى أن انقرضوا جميعا. وهلك السلطان أبو عنان واستولى أخوه أبو سالم
على ملك المغرب، وغلب ابن مرزوق على هواه كما قدّمناه، فنقل البرجيّ من
الكتابة واستعمله في قضاء العساكر، فلم يزل على القضاء إلى أن هلك سنة
ست وثمانين وسبعمائة وأخبرني رحمه الله ان مولده سنة عشر وسبعمائة.
(ومنهم شيخنا المعمّر الرحالة) أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق شيخ
وقته جلالة وتربية وعلما وخبرة بأهل بلده، وعظمة فيهم. نشأ بفاس وأخذ
عن مشيختها، وارتحل إلى تونس فلقي القاضي أبا إسحاق بن عبد الرفيع،
والقاضي أبا عبد الله النفزاويّ. وأهل طبقتهما، وأخذ عنهم وتفقّه
عليهم، ورجع إلى المغرب ولازم سنن الأكابر والمشايخ إلى أن ولّاه
السلطان أبو الحسن القضاء بمدينة فاس، فأقام على ذلك إلى أن جاء
السلطان أبو عنان من تلمسان بعد واقعة القيروان، وخلعه أباه فعزله
بالفقيه أبي عبد الله المغربي، وأقام عطلا في بيته.
ولما جمع السلطان مشيخة العلم للتحليق بمجلسه، والإفادة منهم، واستدعى
شيخنا أبا عبد الله بن عبد الرزاق، فكان يأخذ عنه الحديث، ويقرأ عليه
القرآن برواياته في مجلس خاص إلى أن هلك رحمه الله بين يدي مهلك
السلطان أبي عنان، إلى آخرين وآخرين من أهل المغرب والأندلس، كلّهم
لقيت وذاكرت وأفدت منه، وأجازني بالإجازة العامّة.
(7/538)
(حديث النكبة من
السلطان أبي عنان)
كان اتصالي بالسلطان أبي عنان آخر سنة ست وخمسين وسبعمائة وقرّبني
وأدناني، واستعملني في كتابته، واختصّني بمجلسه للمناظرة والتوقيع عنه
فكثر المنافسون وارتفعت السعايات حتى قويت عنده بعد أن كان لا يغير عن
صفائه [1] . ثم اعتلّ السلطان آخر سبع وخمسين وسبعمائة وكان قد حصلت
بيني وبين الأمير محمد صاحب بجاية من الموحّدين مداخلة، أحكمها ما كان
لسلفي في دولتهم. وغفلت عن التحفّظ من مثل ذلك، من غيرة السلطان، فما
هو إلا أن شغل بوجعه، حتى نمي إليه بعض الغواة أنّ صاحب بجاية معتمل في
الفرار ليسترجع بلده، وبها يومئذ وزيره الكبير عبد الله بني عليّ،
فانبعث السلطان لذلك، وبادر بالقبض عليه. وكان فيما نمي إليه أني
داخلته في ذلك، فقبض عليّ وامتحنني وحبسني. ثم أطلق الأمير محمدا وما
زلت أنا في اعتقاله إلى أن هلك، وخاطبته بين يدي مهلكه مستوطفا بقصيدة
أولها:
على أيّ حال لليالي أعاتب ... وأيّ صروف للزمان أغالب
كفى حزنا أني على القرب نازح ... وأني على دعوى شهودي غائب
وأني على حكم الحوادث نازل ... تسالمني طورا وطورا تحارب
ومنها في التشوّق:
سلوتهم إلا ادّكار معاهد ... لها في اللّيالي الغابرات غرائب
وإنّ نسيم الريح منهم يشوقني ... إليهم وتصيبني البروق اللواعب
وهي طويلة، نحو مائتين بيتا، ذهبت عن حفظي، فكان لها منه موّقع، وهشّ
لها.
وكان بتلمسان، فوعد بالإفراج عني عند حلوله بفاس، ولخمس ليال من حلوله
طرقه الوجع، وهلك لخمس عشرة ليلة، في رابع وعشرين ذي الحجّة، خاتم تسع
وخمسين وسبعمائة. وبادر القائم بالدولة، الوزير الحسن بن عمر الى إطلاق
جماعة من المعتقلين، كنت فيهم، فخلع عليّ، وحملني، وأعادني إلى ما كنت
__________
[1] وفي نسخة ثانية: واستعملني في كتابته، حتى تكدّر جوي عنده، بعد ان
كان لا يعبّر عن صغائه.
(7/539)
عليه، وطلبت منه الانصراف إلى بلدي، فأبى
عليّ، وعاملني بوجوه كرامته، ومذاهب إحسانه، إلى أن اضطرب أمره، وانتقض
عليه بنو مرين، وكان ما قدّمناه في أخبارهم.
(الكتابة عن السلطان أبي سالم في السر
والإنشاء)
ولما أجاز السلطان أبو سالم من الأندلس لطلب ملكه، ونزل بجبل الصّفيحة
من بلاد غماره. وكان الخطيب ابن مرزوق بفاس، فبثّ دعوته سرا، واستعان
بي على أمره، بما كان بيني وبين أشياخ بني مرين من المحبّة وائتلاف،
فحملت الكثير منهم على ذلك، وأجابوني إليه، وأنا يومئذ أكتب عن القائم
بأمر بني مرين، منصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن
عبد الحق، وقد نصّبوه للملك، وحاصروا الوزير الحسن بن عمر، وسلطانه
السّعيد ابن أبي عنان، بالبلد الجديد.
فقصدني ابن مرزوق في ذلك، وأوصل إليّ كتاب السلطان أبي سالم. بالحضّ
على ذلك، وإجمال الوعد فيه. وألقى عليّ حمله، فنهضت به، وتقدّمت إلى
شيوخ بني مرين، وأمراء الدولة بالتحريض على ذلك، حتى أجابوا، وبعث ابن
مرزوق إلى الحسن بن عمر، يدعو إلى طاعة السلطان أبي سالم، وقد ضجر من
الحصار، فبادر إلى الإجابة، واتفق رأي بني مرين على الانفضاض عن منصور
بن سليمان، والدخول إلى البلد الجديد، فلما تمّ عقدهم على ذلك نزعت إلى
السلطان أبي سالم في طائفة من وجوه أهل الدولة، كان منهم محمد بن عثمان
بن الكاس، المستبدّ بعد ذلك بملك المغرب على سلطانه، وكان ذلك النّزوع
مبدأ حظّه، وفاتحة رياسته، بسعايتي له عند السلطان، فلما قدمت على
السلطان بالصّفيحة، بما عندي من أخبار الدولة، وما أجمعوا عليه من خلع
منصور بن سليمان، وبالموعد الّذي ضربوه لذلك، واستحثثته. فارتحل،
ولقينا البشير بإجفال منصور بن سليمان، وفراره إلى نواحي بادس، ودخول
بني مرين إلى البلد الجديد، وإظهار الحسن بن عمر دعوة السلطان أبي
سالم. ثم لقيتنا، بالقصر الكبير، قبائل السلطان، وعساكره، على راياتهم،
ووزير منصور بن سليمان، وهو مسعود بن رحّو بن ماساي، فتلقّاه السلطان
(7/540)
بالكرامة كما يجب له، واستوزره عوضا نائبا
للحسن بن يوسف بن عليّ بن محمد الورتاجني السابق إلى وزارته، لقيه
بسبتة، وقد غرّبه منصور بن سليمان إلى الأندلس فاستوزره واستكفاه.
ولما اجتمعت العساكر عنده بالقصر صعد إلى فاس ولقيه الحسن بن عمر
بظاهرها، فأعطاه طاعته، ودخل إلى دار ملكه وانا في ركابه، لخمس عشرة
ليلة من نزوعي إليه، منتصف شعبان سنة ستين وسبعمائة، فرعى لي السابقة
واستعملني في كتابة سرّه، والترسيل عنه، والإنشاء لمخاطباته، وكان
أكثرها يصدر عني بالكلام المرسل بدون أن يشاركني أحد ممن ينتحل الكتابة
في الأسجاع، لضعف انتحالها، وخفاء المعاني منها على أكثر الناس، بخلاف
غير المرسل [1] ، فانفردت به يومئذ، وكان مستغربا عند من هم من أهل هذه
الصناعة.
ثم أخذت نفسي بالشعر، وانثال عليّ منه بحور، توسطت بين الإجادة
والقصور، وكان مما أنشدته إيّاه ليلة المولد النبوي من سنة ثلاث وستين
وسبعمائة [2] .
أسرفن في هجري وفي تعذيبي ... وأطلن موقف عبرتي ونحيبي
وأبين يوم البين موقف [3] ساعة ... لعوّاد [4] مشغوف الفؤاد كئيب
للَّه عهد الظاعنين وقد غدا [5] ... قلبي رهين صبابة ووجيب
غربت ركائبهم ودمعي سافح ... فشربت [6] بعدهم بماء غروب
يا ناقعا بالعتب غلّة شوقهم ... رحماك في عذلي وفي تأنيبي
يستعذب الصّبّ الملام وإنّني ... ماء المدام [7] لديّ غير شروب
ما هاجني طرب ولا اعتاد الجوى ... لولا تذكّر منزل وحبيب
أصبوا إلى أطلال [8] كانت مطلعا ... للبدر منهم أو كناس ربيب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بخلاف المرسل.
[2] وفي نسخة ثانية: سنة اثنتين وستين وسبعمائة.
[3] وفي نسخة ثانية: وقفة ساعة.
[4] وفي نسخة ثانية: لوداع.
[5] وفي نسخة ثانية: وغادروا.
[6] وفي نسخة ثانية: فشرقت. وماء الغروب: الدموع حين تخرج من العين.
[7] وفي نسخة ثانية: ماء الملام.
[8] وفي نسخة ثانية: الاطلال.
(7/541)
عبثت به أيدي البلى وتردّدت ... في عطفها
للدّهر أيّ خطوب
تبلى معاهدها وإنّ عهودها ... ليجرّها [1] وصفي وحسن نسيبي
وإذا الديار تعرّضت لمتيّم ... هزّت لذكراها أولى التشبيب [2]
إيه على الصّبر الجميل فإنّه ... ألوى بدين فؤادي المنهوب
لم أنسها والدهر يثني صرفه ... ويغضّ طرفي حاسد ورقيب
والدار مونقة بما لبست من ... الأيام تجلوها بكلّ قشيب [3]
يا سائق الأظعان يعتسف الفلا ... بتواصل الأسناد والتأويب [4]
متهافتا عن رحل كلّ مدلّل ... نشوان من آن ومس لغوب [5]
تتجاذب النفحات فضل ردائه ... في ملتقاها من صبا وجنوب
إن هام من ظمأ الصّبابة ضحبه ... نهلوا بمورد دمعه المسكوب
إن تعترض مسراهم سدف الدّجى ... صدعوا الدّجى بغرامة المشبوب
في كلّ شعب منية. من دونها ... هجر الأماني أو لقاء شعوب
هلّا عطفت صدورهنّ إلى التي ... فيها لغانية [6] أعين وقلوب
فتؤمّ من أكناف يثرب مأمنا ... يكفيك ما تخشاه من تثريب
حيث النبوّة آيها مجلوّة ... تتلومن الآثار كل غريب
سر عجيب ليس يحجبه الثرى [7] ... ما كان سرّ الله بالمحجوب
ومنها بعد تعديد معجزاته صلى الله عليه وسلم والإطناب في مدحه:
إني دعوتك واثقا بإجابتي ... يا خير مدعوّ وخير مجيب
قصّرت في مدحي فإن يك طيّبا ... فبما لذكرك من أريج الطّيب
ماذا عسى يبغي المطيل وقد حوى ... في مدحك القرآن كلّ مطيب [8]
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ليجدّها.
[2] وفي نسخة ثانية: هزته ذكراها إلى التشبيب.
[3] وفي نسخة ثانية: والدار مونقة محاسها بما لبست من الأيام كل قشيب
[4] وفي نسخة ثانية: ويواصل الإسآد بالتأويب. والإسآد: سير الليل كله
لا تعريس فيه. والتأويب:
سير النهار لا تعريج فيه (لسان العرب) .
[5] وفي نسخة ثانية: نشوان من اين ومسر لغوب. والأين: الإعياء واللغوب
التعب.
[6] وفي نسخة ثانية: لبانة.
[7] وفي نسخة ثانية: سرّ عجيب لم يحجّبه الثرى.
[8] هنا إشارة الى مدح القرآن للنّبيّ (صلى الله عليه وسلم) «وانك لعلى
خلق يحطم» آية 68 من سورة الانعام.
(7/542)
يا هل تبلّغي الليالي زورة ... تدني إليّ
الفوز بالمرغوب
أمحو خطيئاتي بإخلاصي بها ... وأحطّ أوزاري وإصر ذنوبي
في فتية هجروا المنى وتعوّدوا ... إنضاء كلّ نجيبة ونجيب
يطوي صحائف ليلهم نوق الفلا ... ما شئت من خبب ومن تقريب
إن رنّم الحادي بذكرك ردّدوا ... أنفاس مشتاق إليك طروبي
أو غرّد الركب الخليّ بطيبة ... حنّوا لملقاها حنين النيب
ورثوا اعتساف البيد عن آبائهم ... إرث الخلافة في بني يعقوب
الظاعنون الخيل وهي عوابس ... يغشى مثار النقع كلّ سبيب
والواهبون المقرّبات صوافنا ... من كلّ خوّار العنان لعوب
والمانعون الجار حتى عرضه ... في منتدى الأعداء غير معيب
تخشى بوادرهم ويرجى حلمهم ... والعزّ شيمة مرتجى ومهيب
ومنها في ذكر إجازته البحر واستيلائه على ملكه:
سائل بني طامي العباب وقد سرى ... تزجيه ريح العزم ذات هبوب
تهديه شهب أسنّة وعزائم ... يصد عن ليل الحادث المرهوب
حتى انجلت ظلل الظلام [1] بسعيه ... وسطا الهدى بفريقه المغلوب
أبني الأولى شادوا الخلافة بالتقى ... واستأثروا بتاجها المغصوب [2]
جمعوا لحفظ الدين أيّ مناقب ... كرموا بها في مشهد ومغيب
للَّه مجدك طارفا أو تالدا ... فلقد شهدنا منه كل عجيب
كم رهبة أو رغبة لك في العلا ... تقتاد بالترغيب والترهيب
لا زلت مسرورا بأشرف دولة ... يبدو الهدى من أفقها المرغوب
تحيي المعالي غاديا أو رائحا ... وحديد سعدك ضامن المطلوب
ومن قصيدة خاطبته بها عند وصول هديّة ملك السودان إليه، وفيها الحيوان
الغريب المسمى بالزرافة:
قدحت يد الأشواق من زندي ... وهفت بقلبي زفرة الوجد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: حتى انجلت ظلم الضلال بسعيه.
[2] وفي نسخة أخرى:
يا بن الألى شادوا الخلافة بالتقى ... واستأثروك بتاجها المغصوب.
(7/543)
ونبذت سلواني على ثقة ... بالقرب فاستبدلت
بالبعد
ولربّ وصل كنت آمله ... فاعتضت منه بمؤلم الصدّ
لا عهد عند الصبر أطلبه ... إنّ الغرام أضاع من عهدي
يلحى العذول فما أعنّفه ... وأقول ضلّ فأبتغي رشدي
وأعارض النفحات أسألها ... برد الجوى فتزيد في الوقد
يهدي الغرام إلى مسالكها ... لتعلّلي بضعيف ما تهدي
يا سائق الأظعان معتسفا ... طيّ الفلاة لطيّة الوجد
أرح الركّاب ففي الصّبا نبأ ... يغني عن المستنّة الجرد
وسل الرّبوع برامة خبرا ... عن ساكني نجد وعن نجد
ما لي يلام على الهوى خلقي ... وهي التي تأبى سوى الحمد
لأبيت إلّا الرشد مذ وضحت ... بالمستعين معالم الرشد
نعم الخليفة في هدى وتقى ... وبناء عزّ شامخ الطّود
نجل السراة الغرّ شأنهم ... كسب العلا بمواهب الوجد
ومنها في ذكر خلوصي إليه وما ارتكبته فيه:
للَّه منى إذ تأوّبني ... ذكراه وهو بشاهق فرد
شهم يفلّ بواترا قضبا ... وجموع أقيال أولي اليدّ
أو ريت زند العزم في طلبي ... وقضيت حقّ المجد من قصدي
ووردت عن ظمأ مناهله ... فرويت عن عزّ ومن رفدي
هي جنّة المأوى لمن كانت ... آماله بمطالب المجد
لو لم أعلّ برد [1] كوثرها ... ما قلت هذي جنّة اللد
من مبلغ قومي ودونهم ... قذف النوى وتنوفة البعد
أني أنفت على رجائهم ... وملكت عزّ جميعهم وحدي
ورقيمة الأعطاف حالية ... موشيّة بوشائح البرد
وحشيّه الأنساب ما أنست ... في موحش البيداء بالغرد [2]
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بورد.
[2] وفي نسخة ثانية: بالقود.
(7/544)
تسمو بجيد بالغ صعدا ... شرف الصّروح بغير
ما جهد
طالت رءوس الشامخات به ... ولربّما قصرت عن الوهد
قطعت إليك تنائفا وصلت ... آسارها بالقهد والوخد [1]
تحدي على استصغائها ذللا ... وتبيت طوع القنّ والقدّ [2]
بسعودك اللّاتي ضمنّ لها ... طول الحياة بعيشة رغد
جاءتك في وفد الأحابش لا ... يرجون غيرك مكرم الوفد
وافوك أنضاء تقلّبهم ... أيدي السّرى بالغور والنجد
كالطيف يستقري مضاجعه ... أو كالحسام يسلّ من غمد
يثنون بالحسنى التي سبقت ... من غير إنكار ولا جحد
ويرون لحظك من وفادتهم ... فخرا على الأتراك والهند
يا مستعينا جلّ في شرف ... عن رتبة المنصور والمهدي
جازاك ربّك عن خليقته ... خير الجزاء فنعم من يسدي
وبقيت للدنيا وساكنها ... في عزّة أبدا وفي سعد
وأنشدته في سائر أيامه غير هاتين القصيدتين كثيرا لم يحضرني الآن شيء
منه.
ثم غلب ابن مرزوق على هواه وأفرد بخالصته وكبح الشكائم عن قربه،
فانقبضت وقصّرت الخطو، مع البقاء على ما كنت فيه من كتابة سرّه وإنشاء
مخاطباته ومر اسمه.
ولّاني آخر الدولة «خطّة المظالم» فوفّيتها حقّها ودفعت للكثير مما
أرجو ثوابه. ولم يزل ابن مرزوق آخذا في سعايته بي وبأمثالي من أهل
الدولة، غيرة ومنافسة إلى أن انتقض الأمر على السلطان بسببه، وثار
الوزير عمر بن عبد الله بدار الملك فصار إليه الناس، ونبذوا السلطان
وبيعته، وكان في ذلك هلاكه على ما ذكرناه في أخبارهم.
ولما قام الوزير عمر بالأمر أقرّني علي ما كنت عليه، ووفّر أقطاعي وزاد
في جرايتي وكنت أسمو بطغيان الشباب إلى أرفع مما كنت فيه وأدلّ في ذلك
بسابق مودّة معه،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إسادها بالنص والوخد. والنص: التحريك حتى تستخرج
من الناقة أقصى سيرها.
والوخد: ضرب من سير الإبل، وهو سعة الخطو في المشي (لسان العرب) .
[2] وفي نسخة ثانية: تخدي على استصعابها ذللا، تخدي: تسرع، والقن:
العبد. والعدّ: سير يصنع من جلد غير مدبوغ.
ابن خلدون م 35 ج 7
(7/545)
منذ أيام السلطان أبي عنان، وصحابة استحكم
عقدها بيني وبين الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية، فكان ثالث آثافينا،
ومصقلة فكاهتنا، واشتدّت غيرة السلطان لذلك كما مرّ، وسطا بنا، وتغافل
عن عمر بن عبد الله لمكان أبيه من ثغر بجاية، ثم حملني الإدلال عليه
أيام سلطانه، وما ارتكبه في حقي من القصور بي عمّا أسمو إليه إلى أن
هجرته، وقعدت عن دار السلطان مغاضبا له، فتنكّر لي وأقطعني جانبا من
الإعراض، فطلبت الرحلة إلى بلدي بإفريقية. وكان بنو عبد الواد قد
راجعوا ملكهم بتلمسان والمغرب الأوسط فمنعني من ذلك أن يغتبط أبو حمّو
صاحب تلمسان بمكاني، فأقيم عنده، وألحّ في المنع من ذلك، وأبيت أنا
إلّا الرّحلة، واستجرت في ذلك برديفه وصهره الوزير مسعود بن رحّو بن
ماسي، ودخلت عليه يوم الفطر سنة ثلاث وستين وسبعمائة فأنشدته:
هنيئا لصوم لا عداه قبول ... وبشرى لعيد أنت فيه منيل
وهنّئتها من عزّة وسعادة ... تتابع أعوام بها وفصول
سقى الله دهرا أنت إنسان عينه ... ولا مسّ ربعا في حماك محول
فعصرك ما بين الليالي مواسم ... له غرر وضّاحة وحجول
وجانبك المأمول للجود مشرّع ... يحوم عليه عالم وجهول
عساك وإن ضنّ الزمان منوّلي ... فرسم الأماني من سواك محيل
أجرني فليس الدهر لي بمسالم ... إذا لم يكن لي في ذراك مقيل
وأوليتني الحسنى بما أنا آمل ... فمثلك يؤلي راجيا وينيل
وو الله ما رمت الترحّل عن قلى ... ولا سخطة للعيش فهو جزيل
ولا رغبة عن هذه الدار إنّها ... لظلّ على هذا الأنام ظليل
ولكن نأى بالشعب عنّا حبائب ... شجاهنّ خطب والفراق طويل
يهيج بهنّ الوجد إني نازح ... وأنّ فؤادي حيث هنّ حلول
عزيز عليهنّ الّذي قد لقيته ... وأنّ اغترابي في البلاد يطول
توارت بابنيّ [1] البقاع كأنني ... تخطّفت أو غالت ركابي غول
ذكرتك يا مغنى الأحبّة والهوى ... فطارت لقلبي أنّة وعويل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بأنبائي.
(7/546)
وحيّيت عن شوق رباك كأنّما ... يمثّل لي
فيء [1] بها وطلول
أأحبابنا والعهد بيني وبينكم ... كريم وما عهد الكريم يحول
إذا أنا لم ترض الحمول مدامعي ... فلا قرّبتني للّقاء حمول
الام مقامي حيث لم ترد العلا ... مرادي ولم تعط القياد ذلول
أجاذب فضل العمر يوما وليلة ... وساء صباح بينها وأصيل
ويذهب بي ما بين يأس ومطمع ... زمان بنيل المعلوات بخيل
تعلّلني منه أمان خوادع ... ويؤنسني منه أمان مطول [2]
أما لليالي لا تردّ خطوبها ... ففي كبدي من وقعهنّ فلول
يروّعني عن صرفها كلّ حادث ... تكاد له صمّ البلاد تزول
أداري على رغم العداة بريبة [3] ... يصانع واش خوفها وعذول
وأغدو بأشجاني عليلا كأنّما ... تجود بنفسي زفرة وغليل
وإنّي وإن أصبحت في دار غربة ... تحيل الليالي سلوتي وتديل
وصدّتني الأيام عن خير منزل ... عهدت به أن لا يضام نزيل
لأعلم أنّ الخير والشرّ ينتهي ... مداه وأنّ الله سوف يديل
وإني عزيز بابن ماساي مكثر ... وإن هان أنصار وبان خليل
فأعانني الوزير مسعود عليه حتى أذن لي في الانطلاق على شريطة العدول عن
تلمسان في أيّ مذهب أردت، فاخترت الأندلس وصرفت ولدي وأمّهم إلى
أخوالهم، أولاد القائد محمد بن الحكيم بقسنطينة فاتح أربع وستين
وسبعمائة وجعلت أنا طريقي على الأندلس، وكان سلطانها أبو عبد الله
المخلوع، وحين وفد على السلطان أبي سالم بفاس، وأقام عنده، حصلت لي معه
سابقة وصلة ووسيلة خدمة، من جهة الوزير أبي عبد الله بن الخطيب، لما
كان بيني وبينه من الصحابة، فكنت أقوم بخدمته واعتمل في قضاء حاجاته في
الدولة، ولمّا أجاز باستدعاء الطاغية لاسترجاع ملكه حين فسد ما بين
الطاغية وبين الرئيس المتوثّب عليه بالأندلس من قرابته، خلفته فيما
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يمثل لي نؤي
[2] وفي نسخة ثانية:
تعللني عنه أمان خوادع ... ويؤنسني ليّان منه مطول
[3] وفي نسخة ثانية: اداري على الرغم العدي لا لريبة.
(7/547)
ترك من عياله وولده بفاس، خير خلف في قضاء
حاجاتهم وإدرار أرزاقهم، من المتولّين لها، والاستخدام لهم. ثم فسد ما
بين الطاغية وبينه، قبل ظفره بملكه، برجوعه عما اشترط له من التجافي عن
حصون المسلمين التي تملّكها بالإجلاب، ففارقه إلى بلاد المسلمين باستجة
[1] وكتب إلى عمر بن عبد الله يطلب مصرا ينزله من أمصار الأندلس
الغربيّة التي كانت ركابا لملوك المغرب في جهادهم. وخاطبني أنا في ذلك،
فكنت له نعم الوسيلة عند عمر، حتى تمّ قصده من ذلك، وتجافى له عن رندة
وأعمالها، فنزلها وتملّكها، وكانت دار هجرته، وركاب فتحه، وملك منها
الأندلس أواسط ثلاث وستين وسبعمائة واستوحشت أنا من عمر إثر ذلك كما
مرّ، وارتحلت إليه معوّلا على سوابقي عنده، فقرّب في المكافآت كما
نذكره إن شاء الله تعالى.
(الرحلة الى الأندلس)
ولما أجمعت الرحلة إلى الأندلس بعثت بأهلي وولدي إلى أخوالهم بقسنطينة،
وكتبت لهم إلى صاحبها السلطان أبي العبّاس من حفدة السلطان أبي يحيى،
وبأني أمرّ على الأندلس وأجيز عليه من هنالك. وسرت إلى سبتة فرضة
المجاز، وكبيرها يومئذ الشريف أبو العبّاس أحمد بن الشريف الحسني، ذو
النسب الواضح السالم من الريبة عند كافة أهل المغرب، انتقل سلفه إلى
سبتة من صقلّيّة. وأكرمهم بنو العزفي أوّلا وصاهروهم. ثم عظم صيتهم في
البلد فتنكّروا لهم وغرّبهم يحيى العزفي آخرهم إلى الجزيرة، فاعترضتهم
مراكب النصارى في الزقاق [2] فأسروهم. وانتدب السلطان أبو سعيد إلى
فديتهم رعاية لشرفهم، فبعث إلى النصارى في ذلك فأجابوه. وفادى هذا
الرجل وأباه على ثلاثة آلاف دينار، ورجعوا إلى سبتة، وانقرض بنو العزفي
__________
[1] وفي نسخة أخرى اسجه. وقد سجّلها ابن خلدون بخط يده بفتح الهمزة
وكسر السين المخففة. وفي معجم البلدان إستيجة: بالكسر ثم السكون وكسر
التاء وجيم وهاء، اسم لكورة بالأندلس متصلة بأعمال ريّة بين القبلة
والمغرب من قرطبة. وهي كورة قديمة واسعة الرساتيق والأراضي على نهر
سنجل. وهو نهر غرناطة بينها وبين قرطبة عشرة فراسخ وأعمالها متصلة
باعمال قرطبة (معجم البلدان) .
[2] هو مضيق يقع بين طنجة وجبل طارق.
(7/548)
ودولتهم، وهلك والد الشريف وصدر هو إلى
رياسة الشورى. لما كانت واقعة القيروان، وخلع أبو عنان أباه واستولى
على المغرب، وكان بسبتة عبد الله بن علي الوزير واليا من قبل السلطان
أبي الحسن، فتمسّك بدعوته، ومال أهل البلد إلى السلطان أبي عنان وبثّ
فيهم الشريف دعوته، فثاروا بالوزير وأخرجوه، ووفدوا على أبي عنان
وأمكنوه من بلدهم، فولّى عليها من عظماء دولته سعيد بن موسى العجيسي،
كان كافل تربيته في صغره. وأفرد هذا الشريف برياسة الشورى في سبتة، فلم
يكن يقطع أمرا دونه، ووفد على السلطان بعض الأيام فتلقّاه من المبرة
بما لا يشاركه فيه أحد من وفود الملوك والعظماء. ولم يزل على ذلك سائر
أيام السلطان وبعد وفاته، وكان معظّما وقور المجلس، هشّ اللقاء، كريم
الوفادة، متحلّيا بالعلم والأدب، منتحلا للشعر غاية في الكرم وحسن
العهد، وسذاجة النفس، ولمّا مررت به سنة أربع وستين وسبعمائة أنزلني
ببيته إزاء المسجد الجامع، ورأيت منه ما لا يقدّر مثله من الملوك،
وأركبني الحرّاقة [1] ليلة سفري يباشر دحرجتها إلى الماء بيده، إغرابا
في الفضل والمساهمة، وحططت بجبل الفتح وهو يومئذ لصاحب المغرب، ثم خرجت
منه إلى غرناطة وكتبت للسلطان ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب بشأني،
وليلة بتّ بقرب غرناطة على بريد منها، لقيني كتاب ابن الخطيب يهنيني
بالقدوم، ويؤنسني ونصّه:
حللت حلول الغيث في البلد المحل ... على الطائر الميمون والرّحب والسهل
يمينا بمن تعنو الوجوه لوجهه ... من الشيخ والطفل المعصب [2]
لقد نشأت عندي للقياك غبطة ... تنسّي اغتباطي بالشبيبة والأهل
وودّي لا يحتاج فيه لشاهد ... وتقريري المعلوم ضرب من الجهل
أقسمت بمن حجّت قريش لبيته، وقبر صرفت أزمّة الأحياء لميته ونور ضربت
الأمثال بمشكاته وزيته. لو خيّرت أيها المحبّ الحبيب الّذي زيارته
الأمنيّة السنيّة، والعارفة الوارفة، واللطيفة المطيفة بين رجع الشباب
يقطر ماؤه، ويرف نماؤه، ويغازل عيون الكواكب، فضلا عن الكواعب، إشارة
وإيماء، بحيث لا آلو في
__________
[1] الحراقة: نوع من السفن الصغيرة فيها مرامي نيران يرمى بها العدو،
ومنهم من كان يستعملها للنزهة.
[2] وفي نسخة ثانية: المهدّاء.
(7/549)
حظ يلمّ بسياج لمّته، أو يقدح ذباله في
ظلمته، أو يقدّم حواريه في ملمته [1] . من الأحابش وأمّته. وزمانه روح
وراح، ومغدى في النعيم مراح، وخصب صراح، ورنى وجراح [2] ، وانتخاب
واقتراح، وصدر ما به إلا انشراح، ومسرّات يردفها أفراح، وبين قدومك
خليع الرسن ممتّعا، والحمد للَّه باليقظة والوسن، محكما في نسك الجنيد
أو فتك الحسن، ممتّعا بظرف المعارف، مالئا آلف الصيارف، ماحيا بأنوار
البراهين شبه الزخارف، لما اخترت الشباب وإن شاقني زمنه، وأعياني ثمنه،
وأجرت سحاب دمعي دمنه. فالحمد للَّه الّذي رفأ حنوّه اغترابي [3]
وملّكني أزمّة آرابي، وغبّطني بمالي وترابي، ومألف أترابي، وقد أغصّني
بلذيذ شرابي، ووقع على سطوره المعتبرة إضرابي. وعجّلت هذه مغبطّة بمناخ
المطيّة، وملتقى للسعود غير البطيّة، وتهنّي الآمال الوثيرة الوطية،
فما شئت من نفوس عاطشة إلى ربّك، متجمّلة بزيّك، عاقلة خطيّ سمهريك [4]
، ومولى مكارمه، مشيدة لأمثالك، ومضان منالك، وسيصدق الخبر ما هنالك،
ويسع فضل مجدك في التخلّف عن الإصحار لا بل اللقاء من وراء البحار
والسلام.
ثم أصبحت من الغد قادما على البلد وذلك ثامن ربيع الأول عام أربعة
وستين وسبعمائة وقد اهتز السلطان لقدومي، وهيّأ لي المنزل من قصوره
بفرشه وما عونه، وأركب خاصّته للقائي تحفّيا وبرّا ومجازاة بالحسنى. ثم
دخلت عليه فقابلني بما يناسب ذلك، وخلع عليّ وانصرفت. وخرج الوزير ابن
الخطيب فشيّعني إلى مكان نزلي، ثم نظمني في علية أهل مجلسه، واختصّني
بالنجاء في خلوته، والمواكبة في ركوبه والمواكلة والمطايبة والمفاكهة
في خلوات أنسه، وأقمت عنده، وسفرت عنه سنة خمس وستين وسبعمائة إلى
الطاغية ملك قشتالة يومئذ، بطرة بن الهنشة بن أدفونش لإتمام عقد الصلح
ما بينه وبين ملوك العدوة بهديّة فاخرة من ثياب الحرير والجياد
والمقرّبات بمراكب الذهب الثقيلة، فلقيت الطاغية بإشبيليّة وعاينت آثار
سلفي بها، وعاملني من الكرامة بما لا مزيد عليه، وأظهر الاغتباط
بمكاني، وعلم أوليّة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ملّته.
[2] وفي نسخة ثانية: وفصف وصراح، ودقى وجراح.
[3] وفي نسخة ثانية: الّذي رقى جنون اغترابي.
[4] وفي نسخة ثانية: عامله خطا مهريك.
(7/550)
سلفنا بإشبيليّة وأثنى عليّ عنده طبيبه
إبراهيم ابن زرور [1] اليهودي المقدّم في الطب والنجامة، وكان لقيني
بمجلس السلطان أبي عنان وقد استدعاه يستطبّه، وهو يومئذ بدار ابن
الأحمر بالأندلس. ثم نزع بعد مهلك رضوان بن القائم بدولتهم إلى
الطاغية، فأقام عنده ونظّمه في أطبائه، فلمّا قدمت أنا عليه أثنى عليّ
عنده، فطلب الطاغية حينئذ المقام عنده، وأن يردّ عليّ تراث سلفي
بإشبيليّة، وكان بيد زعماء دولته، فتفاديت من ذلك بما قبله. ولم يزل
على اغتباطه إلى أن انصرفت عنه، فزوّدني وحملني [2] واختصّني ببغلة
فارهة، بمركب ثقيل ولجام ذهبيّين، أهديتهما إلى السلطان فأقطعني قرية
البيرة من أراضي السقي بمرج غرناطة، وكتب لي بها منشورا كان نصّه [3]
ثم حضرت ليلة المولد النبويّ لخامسة قدومي، وكان يحتفل في الصنيع فيها
والدعوة وإنشاد الشعر اقتداء بملوك المغرب، فأنشدته ليلتئذ:
حيّ المعاهد كانت قبل تحييني ... بواكف الدمع يرويها ويظميني
إنّ الألى نزحت داري ودارهم ... تحمّلوا القلب في آثارهم دوني
وقفت أنشد صبرا ضاع بعدهم ... فيهم وأسأل رسما لا يناجيني
أمثّل الرّبع من شوقي فألثمه ... وكيف والفكر يدنيه ويقصيني
وينهب الوجد مني كل لؤلؤة ... ما زال قلبي عليها غير مأمون
سقت جفوني مغاني الرّبع بعدهم ... بالدّمع وقف على أطلاله الجوني [4]
__________
[1] وفي نسخة ثانية: زرزر.
[2] بمعنى اعطاني ظهرا لأركبه.
[3] بياض بالأصل في جميع النسخ لعلّ ابن خلدون ترك هذا الفراغ عن قصد
ليثبت نصّ هذا المنشور ولكن الموت عاجله قبل إتمام عمله هذا.
[4] الجون: السود.
(7/551)
قد كان للقلب عن داعي الهوى شغل ... لو أنّ
قلبي إلى السلوان يدعوني
أحبابنا هل لعهد الوصل مدّكر ... منكم وهل نسمة عنكم تحييني
ما لي وللطّيف لا يعتاد زائره ... وللنّسيم عليلا لا يداويني
يا أهل نجد وما نجد وساكنها ... حسنا سوى جنّة الفردوس والعين
أعندكم أنّني ما مرّ ذكركم ... إلّا انثنيت كأنّ الرّاح تثنيني
أصبو إلى البرق من أنحاء أرضكم ... شوقا ولولاكم ما كان يصبيني
يا نازحا والمنى تدنيه من خلدي [1] ... حتى لأحسبه قربا يناجيني
أسلى هواك فؤادي عن سواك وما ... سواك يوما بحال عنك يسليني
ترى الليالي أنستك ادّكاري يا ... من لم تكن ذكره الأيام تنسيني
ومنها في وصف الإيوان الّذي بناه لجلوسه بين قصوره:
يا مصنعا شيّدت منه السّعود حمى ... لا يطرق الدّهر مبناه بتوهين
صرح يحار لديه الطرف مفتتنا ... فيما يروقك من شكل وتلوين
بعدا لإيوان كسرى إنّ مشورك [2] ... السامي لأعظم من تلك الأواوين
ودع دمشق ومغناها فقصرك ذا ... «أشهى إلى القلب من أبواب جيرون» [3]
ومنها في التّعريض بمنصرفي من العدوة:
من مبلغ عنّي الصّحب الألى تركوا ... ودّي وضاع حماهم إذ أضاعوني
أني أويت من العليا إلى حرم ... كادت مغانيه بالبشرى تحيّيني
وأنني ظاعنا لم ألق بعدهم ... دهرا أشاكي ولا خصما يشاكيني
لا كالتي أخفرت عهدي ليالي إذ ... أقلّب الطّرف بين الخوف والهون
سقيا ورعيا لأيامي التي ظفرت ... يداي منها بحظّ غير مغبون
أرتاد منها مليّا لا يماطلني ... وعدا وأرجو كريما لا يعنّيني
وهاك منها قواف طيّها حكم ... مثل الأزاهر في طيّ الرياحين
__________
[1] الخلد: البال.
[2] مشورك: كلمة مغربية تعني مكان جلوس السلطان ومن دونه الحكام ولا
تزال تستعمل في مثل هذا المعنى بالمغرب.
[3] جيرون: عند باب دمشق من بناء سليمان بن داود عليه السلام. يقال إن
الشياطين بنته وهي سقيفة مستطيلة على عمد وسقائف وحولها مدينة تطيف
بها. يقال واسم الشيطان الّذي بناه جيرون فسمّي به ...
(معجم البلدان) .
(7/552)
تلوح إن جليت درا وإن تليت ... تثني عليك
بأنفاس البساتين
عانيت منها بجهدي كلّ شاردة ... لولا سعودك ما كانت تواتيني
يمانع الفكر عنها ما تقسّمه ... من كلّ حزن بطيّ الصدر مكنون
لكن بسعدك ذلّت لي شواردها ... فرضت منها بتحبير وتزيين
بقيت دهرك في أمن وفي دعة ... ودام ملكك في نصر وتمكين
وأنشدته سنة خمس وستين وسبعمائة في إعذار ولده، والصّنيع الّذي احتفل
لهم فيه، ودعا إليه الجفلى [1] من نواحي الأندلس ولم يحضرني منها إلّا
ما أذكره:
صحا الشوق لولا عبرة ونحيب ... وذكرى تجدّ الوجد حين تثوب [2]
وقلب أبى إلّا الوفاء بعهده ... وإن نزحت دار وبان حبيب
وللَّه مني بعد حادثة النّوى ... فؤاد لتذكير [3] العهود طروب
يؤرّقه طيف الخيال إذا سرى ... وتذكي حشاه نفحة وهبوب
خليليّ لا تستعديا قد دعا الأسى [4] ... فإنّي لما يدعو الأسى لمجيب
ألمّا على الأطلال نقض حقوقها ... من الدمع فيّاض الشؤون سكوب
ولا تعذلاني في البكاء فإنّها ... حشاشة نفسي في الدموع تذوب
ومنها في تقدّم ولده للاعذار من غير نكول:
فيمّم منه الحفل لا متقاعس ... ولا نكس [5] عند اللقاء هيوب
وراح كما راح الحسام من الوغى ... تروق حلاه والفرند خضيب
شواهر [6] أهدتهنّ منك شمائل ... وخلق بصفوف المجد منك مشوب
ومنها في الثناء على ولديه:
هما النّيّران الطالعان على الهدى ... بآيات فتح شأنهنّ عجيب
__________
[1] الجفلي: هي أن تدعو الناس الى طعامك دعوة عامة من غير اختصاص. يقال
«دعي فلان في النقرى لا في الجفلى» أي في الدعوة الخاصة لا العامة
(قاموس) .
[2] النحيب: البكاء وفي النسخة الباريسية تئوب وكذلك تثوب يجمعان نفس
المعنى أي ترجع وتعود.
[3] وفي نسخة ثانية: لتذكار.
[4] وفي نسخة ثانية: خليلي إلا تسعدا فدعا الأسى ...
[5] وفي نسخة ثانية: لخطب ولا نكس، والنكس: الرجل الضعيف والمقصّر عن
غاية النجدة والكرم.
[6] وفي نسخة ثانية: شواهد.
(7/553)
شهابان في الهيجا نعامان في الثوى [1] ...
تسحّ المعالي منهما وتصوب
يدان لبسط المكرّمات نماهما ... إلى المجد فيّاض اليدين وهوب
وأنشدته ليلة المولد الكريم من هذه السنة:
أبى الطيف أن يعتاد إلا توهّما ... فمن لي ألقى الخيال المسلّما
وقد كنت أستهديه لو كان نافعي ... واستمطر الأجفان لو تمطر الظما [2]
ولكن خيال كاذب وطماعة ... تعلّل قلبا بالأماني متيّما
أيا صاحبي نجواي والحبّ لوعة ... يبيح بشكواها الضمير المكتما
خذا لفؤادي العهد من نفس الصّبا ... وطيّ النّقا [3] والبان من أجرع
الحمى
الأصنع الشوق الّذي هو صانع ... فحبّي مقيم أقصّر الشوق أوسما
وإني ليدعوني السلوّ تعلّلا ... وتنهاني الأشجان أن أتقدّما
لمن دمن أقفرن إلّا هواتف ... تردّد في أطلالهنّ الترنّما
عرفت بها سيّما الهوى وتنكّرت ... فعجت على آياتها متوسّما
وذو الشّوق يعتاد الربوع دوارسا ... ويعرف آثار الديار توهّما
تؤوّبني والليل بيني وبينه ... وميض بأطراف الثنايا تضرّما
أجدّ لي العهد القديم كأنّه ... أشار بتذكار العهود فأفهما
عجبت لمرتاع الجوانح خافق ... بكيت له خلف الدّجا وتبسّما
وبتّ أروّيه كؤوس مدامعي ... وبات يعاطيني الحديث عن الحمى
وصافحته عن رسم دار بذي الغضي ... لبست بها ثوب الشبيبة معلما
لعهدي بها تدني الظّباء أوانسا ... وتطلع في آفاقها الغيد أنجما
أحنّ إليها حيث سار بي الهوى ... وأنجد رحلي في البلاد وأتهما
ولما استقرّ القرار، واطمأنّت الدار، وكان من السلطان الاغتباط
والاستبشار، وكثر الحنين إلى الأهل والتذكار، أمر لاستقدام [4] أهلي من
مطرح اغترابهم من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: شهابان في الهيجا غمامان في الندى.
[2] وفي نسخة ثانية: لو تنقع الظما أي لو تروي العطشان.
[3] وفي نسخة ثانية: ظبي النقا، والنقا: الكثيب من الرمل.
[4] وفي نسخة ثانية: استقدام.
(7/554)
قسنطينة، بعث إليهم من جاء بهم إلى تلمسان.
وأمر قائد الأسطول بالمريّة، فسار في إجازتهم في أسطوله، واحتلّوا
بالمريّة. واستأذنت السلطان في تلقّيهم، وقدمت بهم على الحضرة بعد أن
هيّأت لهم المنزل والبستان ودمنة الفلح، وسائر ضروريات المعاش.
وكتبت الى الوزير ابن الخطيب عند ما قاربت الحضرة، وقد كتبت إليه
أستأذنه في القدوم، وما أعتمده في أحواله.
سيّدي، قدمت بالطّير اليمانين، على البلد الأمين، واستضفت الرفّاء إلى
البنين، ومتعت بطول السنين. وصلتني البراءة المعرّبة عن كتب اللقاء،
ودنوّ المزار، وذهاب البعد، وقرب الديار، وأستفهم سيدي عمّا عندي في
القدوم على المخدوم، وأحبّ أن يستقدمني سيدي إلى الباب الكريم [1] في
الوقت الّذي يجد المجلس الجمهوري لم يقض حجيجه، ولم يصخ [2] بهيجه،
ويصل الأهل بعده إلى المحل الّذي هيأته السعادة لاستقرارهم، واختاره
اليمن قبل اختيارهم والسلام.
ثم لم يلبث الأعداء وأهل السعايات أن حملوا الوزير ابن الخطيب من
ملابستي للسلطان، واشتماله عليّ، وحرّكوا له جواد الغيرة فتنكّر. وشممت
منه رائحة الانقباض مع استبداده بالدولة، وتحكمّه في سائر أحوالها،
وجاءتني كتب السلطان أبي عبد الله صاحب بجاية بأنه استولى عليها في
رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة واستدعاني إليه، فاستأذنت السلطان ابن
الأحمر في الارتحال إليه. وعميت عليه شأن ابن الخطيب إبقاء للمودّة،
فارتمض [3] لذلك، ولم يسعه إلّا الاسعاف، فودّع وزوّد وكتب لي مرسوما
بالتشييع من إملاء الوزير ابن الخطيب نصّه:
هذا ظهير كريم، تضمّن تشييعا وترفيعا وإكراما وإعظاما، وكان لعمل
الصنيع ختاما، وعلى الّذي أحسن تماما، وأشاد به للمعتمد به بالاغتباط
الّذي راق قساما [4] ، وتوفر إقساما، وأعلق بالقبول أن نوى بعد القوى
رجوعا وآثر على الظعن المزمع مقاما.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: والحق ان يتقدّم سيدي الى الباب الكريم.
[2] وفي نسخة ثانية: ولا صوّح بهيجه.
[3] بمعنى اشتدّ قلقه.
[4] القسام: الجمال والحسن.
(7/555)
أمر به، وأمضى العمل بمقتضاه، وحبسه الأمير
أبو عبد الله ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجّاج ابن مولانا أمير
المسلمين أبي الوليد بن نصر أيّد الله أمره، وأعزّ نصره، وأعلى ذكره،
للوليّ الجليس، الحظيّ المكين، المقرّب الأودّ الابن الفقيه الجليل
الصدر الأوحد، الرئيس العالم الفاضل الكامل، الموقع الأمين الأظهر
الأرضى، الأخلص الأصفى، أبي زيد عبد الرحمن ابن الشيخ الجليل، الحسيب
الأصيل، المرفّع المعظّم، الصدر الأوحد، الأسمى الأفضل الموقّر المبرور
أبي يحيى ابن الشيخ الجليل الكبير، الرفيع الماجد، القائد الحظيّ،
المعظّم الموقّر، المبرور المرحوم أبي عبد الله بن خلدون. وصله الله
أسباب السعادة، وبلّغه من فضله أقصى الإرادة، أعلن بما عنده، أيّده
الله من الاعتقاد الجميل في جانبه المرفّع، وإن كان غنيا عن الإعلان،
وأعرب عن معرفة مقداره في الحسبان، العلماء الرؤساء الأعيان، وأشاد
باتّصال رضاه عن مقاصده البرّة وشيمه الحسان، من لدن وفد على بابه،
وفادة العزّ الراسخ البنيان، وأقام المقام الّذي عيّن له رفعة المكان،
وإجلال الشان، إلى أن عزم على قصد وطنه، أبلغه الله في ظل الأمن [1]
والأمان، وكفالة الرحمن بعد الاغتباط المربي على الخير بالعيان،
والتمسّك بجواره بجهد الإمكان، ثم قبول عذره بما جبلت الأنفس عليه من
الحنين إلى المعاهد والأوطان. بعد أن لم يدّخر عنه كرامة رفيعة، ولم
يحجب عنه وجه صنيعه، فولّاه القيادة والسيادة [2] وأحلّه جليسا معتمدا
بالاستشارة، ثم أصحبه تشييعا يشهد بالضنانة بفراقه، ويجمع له برّ
الوجاهة من جميع آفاقه، ويجعله بيده رتيمة خنصر [3] ووثيقة سامع أو
مبصر، فمهما لوى أخدعه إلى هذه البلاد بعد قضاء وطره، وتملّيه من نهمة
سفره، أو نزع به حسن العهد وحنين الودّ، فصدر العناية به مشروح، وباب
الرضا والقبول مفتوح، وما عهده من الحظوة والبرّ ممنوح. فما كان القصد
في مثله من أمجاد الأولياء التحوّل، ولا الاعتقاد الكريم التبدّل، ولا
الزمن الأخير أن ينسخ الأوّل. على هذا فليطو ضميره، وليرد ما شاء
نميره، ومن وقف عليه من القوّاد والأشياخ والخدّام برا وبحرا على
اختلاف الخطط والرتب، وتباين الأحوال والنسب، أن يعرفوا حق
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اليمن.
[2] وفي نسخة ثانية: السفارة.
[3] رتيمة خنصر: الخيط الّذي يشد في الإصبع لتستذكر به الحاجة.
(7/556)
هذا الاعتقال في كلّ ما يحتاج إليه من
تشييع ونزول، وإعانة وقبول، واعتناء موصول إلى أن يكمل الغرض، ويؤدّي
من امتثال هذا الأمر الواجب المفترض بحول الله وقوّته.
وكتب في التاسع عشر من جمادى الأولى عام ست وستين وسبعمائة.
وبعد التاريخ العلامة بخطّ السلطان، ونصّها «صح هذا» .
(الرحلة من الأندلس الى بجاية وولاية الحجابة بها على الاستبداد)
كانت بجاية ثغرا لإفريقية في دولة بني أبي حفص من الموحدين. ولما صار
أمرهم للسلطان أبي يحيى منهم، واستقلّ بملك إفريقية، ولّى في ثغر بجاية
ابنه الأمير أبو زكريا، وفي ثغر قسنطينة ابنه الأمير أبا عبد الله.
وكان بنو عبد الواد ملوك تلمسان والمغرب الأوسط ينازعونه في أعماله،
ويحجرون الكتائب على بجاية [1] ، ويجلبون على قسنطينة إلى أن تمسّك
السلطان أبو بكر بذمّة من السلطان أبي الحسن ملك المغرب الأوسط والأقصى
من بني مرين، وله الشّفوف على سائر ملوكهم. وزحف السلطان أبو الحسن إلى
تلمسان فأخذ بمخنقها سنتين أو أزيد، وملكها عنوة وقتل سلطانها أبا
تاشفين وذلك سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. وخفّ ما كان على الموحّدين من
أمر بني عبد الواد، واستقامت دولتهم. ثم هلك أبو عبد الله ابن السلطان
أبي يحيى بقسنطينة سنة أربعين وسبعمائة، وخلّف سبعة من الأولاد، كبيرهم
أبو زيد عبد الرحمن، ثم أبو العبّاس أحمد، فولّى الأمير أبو زيد مكان
أبيه في كفالة نبيل مولاهم. ثم توفّي الأمير أبو زكريا ببجاية سنة ست
وأربعين وسبعمائة، وخلّف ثلاثة من الأولاد، كبيرهم أبو عبد الله محمد،
وبعث السلطان أبو بكر ابنه الأمير أبا حفص عليها، فمال أهل بجاية إلى
الأمير أبي عبد الله بن زكريا، وانحرفوا عن الأمير عمر وأخرجوه. وبادر
السلطان فرقع هذا الخرق بولاية أبي عبد الله عليهم كما طلبوه. ثم توفي
السلطان أبو بكر منتصف سبع وأربعين وسبعمائة وزحف أبو الحسن إلى
إفريقية
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ويجمّرون العساكر على بجاية.
(7/557)
فملكها، ونقل الأمراء من بجاية وقسنطينة
إلى المغرب. وأقطع لهم هنالك إلى أن كانت حادثة القيروان، وخلع السلطان
أبو عنان أباه. وارتحل من تلمسان إلى فاس، فنقل معه هؤلاء الأمراء أهل
بجاية وقسنطينة، وخلطهم بنفسه، وبالغ في تكرمتهم. ثم صرفهم إلى ثغورهم
الأمير أبا عبد الله أولا، وإخوته من تلمسان، وأبا زيد وإخوته من فاس
ليستبدّوا بثغورهم، ويخذلوا الناس عن السلطان أبي الحسن، فوصلوا إلى
بلادهم وملكوها بعد أن كان الفضل ابن السلطان أبي بكر قد استولى عليها
من يد بني مرين، فانتزعوها منه. واستقرّ أبو عبد الله ببجاية حتى إذا
هلك السلطان أبو الحسن بجبال المصامدة، وزحف أبو عنان إلى تلمسان سنة
ثلاث وخمسين وسبعمائة فهزم ملوكها من بني عبد الواد وأبادهم، ونزل
المدية وأطلّ على بجاية، وبادر الأمير أبو عبد الله للقائه، وشكا إليه
ما يلقاه من زبون [1] الجند والعرب، وقلّة الجباية. وخرج له عن ثغر
بجاية فملكها، وأنزل عمّاله بها، ونقل الأمير أبا عبد الله معه إلى
المغرب، فلم يزل عنده في كفاية [2] وكرامة. ولما قدمت على السلطان أبي
عنان سنة خمس وخمسين وسبعمائة واستخلصني منه، نبضت عروق السابق بين
سلفي وسلف الأمير أبي عبد الله، واستدعاني لصحابته، فأسرعت وكان
السلطان أبو عنان شديد الغيرة من مثل ذلك. ثم كثر المنافسون ورفعوا إلى
السلطان وقد طرقه مرض أرجف له الناس، فرفعوا له أنّ الأمير أبا عبد
الله اعتزم على الفرار إلى بجاية، وأني عاقدته على ذلك، على أن يولّيني
حجابته، فانبعث له السلطان وسطا بنا واعتقلني نحوا من سنتين إلى أن
هلك. وجاء السلطان أبو سالم واستولى على المغرب، ووليت كتابة سرّه، ثم
نهض إلى تلمسان وملكها من يد بني عبد الواد، وأخرج منها أبا حمّو موسى
بن يوسف بن عبد الرحمن بن يغمراسن، ثم اعتزم على الرجوع إلى فاس، وولّى
على تلمسان أبا زيّان محمد بن أبي سعيد عثمان ابن السلطان أبي تاشفين
وأمدّه بالأموال والعساكر من أهل وطنه ليدافع أبا حمّو عن تلمسان ويكون
خالصة له، وكان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية كما ذكرناه، والأمير
أبو العبّاس صاحب قسنطينة بعد أن كان بنو مرين حاصروا أخاه أبا زيد
بقسنطينة أعواما تباعا.
__________
[1] زبون: بمعنى الحرب.
[2] وفي نسخة ثانية: حفاية والحفاية المبالغة في الإكرام.
(7/558)
ثم خرج لبعض مذاهبه إلى بونة، وترك أخاه
أبا العبّاس بها فخلعه، واستبدّ بالأمر وخرج إلى العساكر المجمّرة
عليها من بني مرين، فهزمهم وأثخن فيهم. ونهض السلطان إليه من فاس سنة
ثمان وخمسين وسبعمائة فتبرّأ منه أهل البلد وأسلموه، فبعثه إلى سبتة في
البحر، واعتقله بها حتى إذا ملك السلطان أبو سالم سبتة عند إجازته من
الأندلس سنة ستين وسبعمائة أطلقه من الاعتقال وصحبه إلى دار ملكه ووعده
بردّ بلده عليه.
فلمّا ولّى أبو زيّان على تلمسان أشار عليه خاصّته ونصحاؤه بأن يبعث
هؤلاء الموحّدين إلى ثغورهم، فبعث أبا عبد الله إلى بجاية وقد كان
ملكها عمّه أبو إسحاق صاحب تلمسان [1] ، ومكفول بن تافراكين من يد بني
مرين. وبعث أبا العبّاس إلى قسنطينة وبها زعيم من زعماء بني مرين. وكتب
إليه السلطان أبو سالم أن يفرج له عنها فملكها لوقته، وسار الأمير أبو
عبد الله إلى بجاية فطال إجلابه عليها، ومعاودته حصارها.
وألحّ أهلها في الامتناع منه مع السلطان أبي إسحاق. وقد كان لي المقام
المحمود في بعث هؤلاء الأمراء إلى بلادهم. وتولّيت كبر ذلك مع خاصّة
السلطان أبي سالم وكتاب أهل مجلسه، حتى تمّ القصد من ذلك، وكتب لي
الأمير أبو عبد الله بخطّه عهدا بولاية الحجابة متى حصل على سلطانه،
ومعنى الحجابة في دولنا بالمغرب الاستقلال بالدولة، والوساطة بين
السلطان وبين أهل دولته، لا يشاركه في ذلك أحد. وكان لي أخ صغير اسمه
يحيى [2] ، أصغر مني، فبعثه مع الأمير أبي عبد الله حافظا للرسم، ورجعت
مع السلطان إلى فاس. ثم كان ما قدّمته من انصرافي إلى الأندلس والمقام
بها إلى أن تنكّر الوزير ابن الخطيب وأظلم الجوّ بيني وبينه.
وبينما نحن في ذلك، وصل الخبر باستيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية
من يدعمه في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة وكتب لي الأمير أبو عبد الله
يستقدمني، فاعتزمت على ذلك، ونكر السلطان أبو عبد الله ابن الأحمر ذلك
مني، لا لظنّه سوى ذلك [3] ، إذ لم يطّلع على ما كان بيني وبين الوزير
ابن الخطيب، فأمضيت
__________
[1] وفي نسخة ثنية: صاحب تونس وهي أصح لأنه كان على تلمسان يومئذ أبو
زيان محمد بن أبي سعيد.
[2] هو يحيى بن خلدون وقد قتل سنة 780 بأمر من أبي تاشفين بن أبي زيان.
كان مؤرخا وأديبا، له كتاب «بغية الرواد في أخبار بني عبد الواد» .
[3] وفي نسخة ثانية: لا يظنه لسوى ذلك.
(7/559)
العزم، ووقع منه الإسعاف والبرّ والألطاف.
وركبت البحر من مرسى المريّة، منتصف ست وستين وسبعمائة ونزلت بجاية
لخامسة من الإقلاع، فاحتفل السلطان صاحب بجاية لقدومي، وأركب للقائي،
وتهافت أهل البلد عليّ من كل أوب يمسحون أعطافي، ويقبّلون يديّ، وكان
يوما مشهودا.
ثم وصلت إلى السلطان فحيّا وفدّى، وخلع وحمل، وأصبحت من الغد، وقد أمر
السلطان أهل الدولة بمباكرة بابي، واستقللت بحمل ملكه، واستفرغت جهدي
في سياسة أموره وتدبير سلطانه، وقدّمني للخطابة بجامع القصبة وأنا مع
ذلك، عاكف بعد انصرافي من تدبير الملك غدوة، إلى تدريس العلم أثناء
النهار بجامع القصبة، لا أنفكّ عن ذلك.
ووجدت بينه وبين ابن عمّه السلطان أبي العبّاس صاحب قسنطينة فتنة،
أحدثتها المشاحّة في حدود الأعمال من الرعايا والعمّال، وشبّت نار هذه
الفتنة بعرب أوطانهم من الزواودة من رياح، تنفيقا لسوق الزبون يميرون
[1] به أموالهم، فكانوا في أهمّ شقة بجمع بعضهم لبعض فالتقو سنة ست
وستين وسبعمائة بفدحيوه [2] ، وانقسم العرب عليهما، وكان يعقوب بن علي
مع السلطان أبي العبّاس، فانهزم السلطان أبو عبد الله ورجع إلى بجاية
مفلولا بعد أن كنت جمعت له أموالا كثيرة أنفق جميعها في العرب، ولمّا
رجع وأعوزته النفقة، خرجت بنفسي إلى قبائل البربر بالجبال [3]
الممتنعين من المغارم منذ سنين، فدخلت بلادهم واستبحت حماهم، وأخذت
رهنهم على الطاعة، حتى استوفيت منهم الجباية، وكان لنا في ذلك مدد
وإعانة. ثم بعث صاحب تلمسان إلى السلطان يطلب منه الصّهر، فأسعفه بذلك
ليصل يده به على ابن عمّه، وزوّجه ابنته، ثم نهض السلطان أبو العبّاس
سنة سبع وستين وسبعمائة وجاس أوطان بجاية، وكاتب أهل البلد، وكانوا
وجلين من السلطان أبي عبد الله لما كان يرهف الحدّ لهم، ويشدّ وطأته
عليهم، فأجابوه إلى الانحراف عنه. وخرج الشيخ أبو عبد الله يروم
مدافعته، ونزل جبل إيزو معتصما به، فبيّته السلطان أبو العبّاس في
عساكره وجموع الأعراب من أولاد محمد من رياح بمكانه ذلك،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يمترون به أموالهم: أي يستخرجونها.
[2] وفي نسخة ثانية: بفرجيوة.
[3] وفي نسخة ثانية: الى قبائل البربر بجبال بجاية.
(7/560)
بإغراء ابن صخر وقبائل سدويكش، وكبسه في
مخيّمه وركض هاربا، فلحقه وقتله، وسار إلى البلد بمواعدة أهلها. وجاءني
الخبر بذلك، وأنا مقيم بقصبة السلطان بقصوره، وطلب مني جماعة من أهل
البلد القيام بالأمر والبيعة لبعض أبناء السلطان، فتفاديت من ذلك،
وخرجت إلى السلطان أبي العبّاس فأكرمني وحيّاني [1] ، وأمكنته من بلده،
وأجرى أحوالها [2] كلها على معهودها. وكثرت السعاية عنده في والتحذير
من مكاني، وشعرت بذلك، فطلبت الإذن في الانصراف بعهد كان منه في ذلك،
فأذن لي بعد ما أبى، وخرجت إلى العرب، ونزلت على يعقوب بن عليّ. ثم بدا
له الشأن في أمري، وقبض على أخي واعتقله ببونة. وكبس بيوتنا، فظنّ بها
ذخيرة وأموالا فأخفق ظنّه. ثم ارتحلت من أحياء يعقوب بن عليّ وقصدت
بسكرة [3] لصحابة بيني وبين شيخها أحمد بن يوسف بن مزنى، وبين أبيه،
فأكرم وبرّ وساهم في الحادث بماله وجاهه والله أعلم.
(مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان)
كان السلطان أبو حمو قد التحم ما بينه وبين السلطان أبي عبد الله صاحب
بجاية بالصّهر في ابنته، وكانت عنده بتلمسان. فلما بلغه مقتل أبيها
واستيلاء السلطان أبي العبّاس ابن عمّه صاحب قسنطينة على بجاية، أظهر
الامتعاض لذلك، وكان أهل بجاية قد توجّسوا الخيفة من سلطانهم بإرهاف
حدّه، وشدّة بطشه. وسطوته فانحرفوا عنه باطنا وكاتبوا ابن عمّه
بقسنطينة كما ذكرناه.
ودسّوا للسلطان أبي حمّو بمثلها يرجون الخلاص من صاحبهم بأحدهما. فلمّا
استولى السلطان أبو العباس وقتل ابن عمّه رأوا أن جرحهم قد اندمل،
وحاجتهم قد قضيت، فاعصوصبوا عليه، وأظهر السلطان أبو حمّو الامتعاض
للواقعة يسرّ منها
__________
[1] وفي نسخة ثانية: حباني.
[2] وفي نسخة ثانية: احوالي.
[3] بسكرة: بلد بالجزائر كانت قاعدة بلاد الزاب (معجم البلدان) .
ابن خلدون م 36 ج 7
(7/561)
حسوا في ارتقاء [1] ، ويجعله ذريعة
للاستيلاء على بجاية، لما كان يرى نفسه كفؤها بعدده وعديده، وما سلف من
قومه في حصارها، فسار من تلمسان يجرّ الشوك والمدر [2] ، خيّم بالرشّة
من ساحتها، ومعه أحياء زغبة بجموعهم وظعائنهم من لدن تلمسان إلى بلاد
حصين من بني عامر وبني يعقوب وسويد والديالم والعطاف وحصين.
وانحجر أبو العباس بالبلد في شرذمة من الجند أعجله السلطان أبو حمّو عن
استكمال الحشد، ودافع أهل البلد أحسن الدفاع، وبعث السلطان أبو العبّاس
عن أبي زيّان ابن السلطان أبي سعيد عمّ أبي حمّو من قسنطينة، كان
معتقلا بها، وأمر مولاه وقائد عسكره بشيرا أن يخرج معه في العساكر،
وساروا حتى نزلوا بني عبد الجبار قبالة معسكر أبي حمو، وكانت رجالات
زغبة قد وجموا من السلطان، وأبلغهم النذير أنّه إنّ ملك بجاية اعتقلهم
بها، فراسلوا أبا زيّان وركبوا إليه، واعتقدوا معه وخرج رجل البلد بعض
الأيام من أعلى الحصن، ودفعوا شرذمة كانت مجمّرة بإزائهم، فاقتلعوا
خباءهم، وأسهلوا من تلك العقبة إلى بسيط الرشّة، وعاينهم العرب بأقصى
مكانهم من المعسكر فأجفلوا، وتتابع الناس في الانجفال حتى أفردوا
السلطان في مخيّمه فحمل رواحله وسار، وغصّت الطرق بزحامهم، وتراكم
بعضهم على بعض، فهلك منهم عوالم. وأخذهم سكّان الجبال من البربر بالنهب
من كل ناحية، وقد غشيهم الليل، فتركوا أزوادهم ورحالهم. وخلص السلطان
ومن خلص منهم بعد غصّ الريق، وأصبحوا على منجاة. وقذفت بهم الطرق من كل
ناحية إلى تلمسان، وكان السلطان أبو حمّو قد بلغه خبر خروجي من بجاية،
وما أحدثه السلطان بعدي في أهلي ومخلفي، فكتب إليّ يستقدمني قبل هذه
الواقعة، وكانت الأمور قد اشتبهت، فتفاديت بالأعذار، وأقمت بأحياء
يعقوب بن عليّ. ثم ارتحلت إلى بسكرة فأقمت بها عند أميرها أحمد بن يوسف
بن مزني. فلمّا وصل السلطان أبو حمّو إلى تلمسان وقد جزع للواقعة، أخذ
في استئلاف قبائل رياح ليجلب بهم مع عساكره على أوطان بجاية، وخاطبني
في ذلك لقرب عهدي باستتباعهم، وملك
__________
[1] الأصح حسوا في ارتغاء: أي يشرب اللبن خفية، ويتظاهر بأنه يأخذ
الرغوة، وهو مثل يضرب بمن يظهر أمرا وهو يريد غيره.
[2] مثل عام ويعني به كثرة جيشه.
(7/562)
زمامهم، ورأى أن يعوّل عليّ في ذلك،
واستدعاني لحجابته وعلامته، وكتب بخطّه مدرجة في الكتاب نصّها:
الحمد للَّه على ما أنعم، والشكر للَّه على ما وهب، ليعلم الفقيه
المكرّم أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، حفظه الله، انك تصل إلى مقامنا
الكريم بما خصصناكم به من الرتبة المنيعة، والمنزلة المنيفة، وهو قلم
خلافتنا، والانتظام في سلك أوليائنا، وقد أعلمناكم بذلك، وكتب بخطّ يده
عبد الله المتوكل على الله، موسى بن يوسف لطف الله به وخار له.
وبعده بخطّ الكاتب ما نصّه: بتاريخ السابع عشر من شهر رجب الفرد الّذي
من عام تسع وستين وسبعمائة، عرّفنا الله خيره. ونصّ الكتاب الّذي هذه
مدرجته، وهو بخطّ الكاتب: «أكرمكم الله يا فقيه أبا زيد ووالى رعايتكم،
إنّا قد ثبت عندنا، وصحّ لدينا ما انطويتم عليه من المحبّة في مقامنا،
والانقطاع إلى جنابنا، والتشييع قديما وحديثا لنا، مع ما نعلمه من
محاسن اشتملت عليها أوصافكم، ومعارف فقتم فيها نظراءكم، ورسوخ القدم في
الفنون العلميّة والآداب العربيّة.
وكانت خطّة الحجابة ببابنا العليّ أسماه الله إلى درجات أمثالكم، وأرفع
الخطط لنظرائكم، قربا منّا، واختصاصا بمقامنا، واطّلاعا على خفايا
أسرارنا، آثرناكم بها إيثارا، وقدّمناكم لها اصطفاء واختيارا، فاعملوا
على الوصول إلى بابنا العليّ أسماه الله لما لكم فيه من التنويه،
والقدر النبيه، حاجبا لعليّ بابنا، ومستودعا لأسرارنا، وصاحبا لكريم
علامتنا، إلى ما شاكل ذلك من الانعام العميم، والخير الجسيم، والاعتناء
والتكريم. لا يشارككم مشارك في ذلك، ولا يزاحمكم أحد، وإن وجد من
أمثالكم فأعملوه وعوّلوا عليه، والله تعالى يتولّاكم، ويصل سرّاءكم،
ويوالي احتفاءكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» .
وتأدّت إليّ هذه الكتب السلطانيّة على يد سفير من وزرائه جاء إلى أشياخ
الزواودة في هذا الغرض، فقمت له في ذلك أحسن قيام وشايعته أحسن مشايعة،
وحملتهم على إجابة داعي السلطان والبدار إلى خدمته. وانحرف كبراؤهم عن
السلطان أبي العبّاس إلى خدمته، والاعتمال في مذاهبه، واستقام غرضه من
ذلك، وكان أخي يحيى قد خلص من اعتقاله، وقدم عليّ ببسكرة، فبعثته إلى
السلطان أبي حمّو كالنائب عني في الوظيفة، متفاديا عن تجشّم أهوالها
بما كنت
(7/563)
نزعت عن غواية الرتب. وطال عليّ إغفال
العلم، فأعرضت عن الخوض في أحوال الملوك، وبعثت الهمّة على المطالعة
والتدريس، فوصل إليه الأخ فاستكفى به في ذلك، ودفعه إليه.
ووصلني مع هذه الكتب السلطانيّة كتاب رسالة من الوزير أبي عبد الله بن
الخطيب من غرناطة يتشوّق إليّ، وتأدّى إلى تلمسان على يد سفراء السلطان
ابن الأحمر، فبعث إليّ من هنالك ونصّه:
بنفسي وما نفسي عليّ رخيصة [1] ... فينزلني عنها المكاس بأثمان
حبيب نأى عنّي وصمّ لا أنثني ... وراش سهام البين عمدا فأضناني [2]
وقد كان همّ الشّيب لا كان كائنا [3] ... فقد آدني لما ترحّل همّان
شرعت له من دمع عينيّ موردا ... فكدّر شربي بالفراق وأظماني
وأرعيّته من حسن عهدي حميّة [4] ... فأجدب آمالي وأوحش أزماني
حلفت على ما عنده لي من رضى ... قياسا بما عندي فأحنّث أيماني
وإني على ما نالني منه من قلى ... لأشتاق من لقياه نعبة ظمآن
سألت جنوني فيه تقريب عرسه ... فقست بحرّ الشوق جنّ سليمان
إذا ما دعا داع من القوم باسمه ... وثبت وما استثبت شيمة هيمان
وتاللَّه ما أصغيت فيه لعاذل ... تحاميته حتى ارعوى وتحاماني
ولا استشعرت نفسي برحمة عابد ... تظلّل يوما مثله عبد رحمان
ولا شعرت من قبله بتشوّق ... تخلّل منها بين روح وجثمان
أمّا الشوق فحدّث عن البحر ولا حرج، وأمّا الصبر فسل به أيّة درج، بعد
أن تجاوز اللوى [5] والمنعرج، لكن الشدّة تعشق الفرج، والمؤمن ينشق من
روح الله الأرج، وأني بالصبر على إبر الزبر [6] لا بل الضّرب الهبر،
ومطاولة اليوم والشهر، تحت حكم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بهيّنة.
[2] وفي نسخة ثانية: فأحماني وأحمى الصيد: رماه فقتله في مكانه.
[3] وفي نسخة ثانية: كافيا.
[4] وفي نسخة ثانية: جميمه.
[5] اللوى: ما التوى من الرمل.
[6] وفي نسخة ثانية: الدبر أي الزنانير.
(7/564)
القهر، ومن للعين أن تسلو سلوّ القصر عن
إنسانها المبصر، أو تذهل ذهول الزاهد عن سرّها الرائي والمشاهد، وفي
الجسد مضغة يصلح إذا صلحت، فكيف حاله إن رحلت عنه أو ترحت، وإذا كان
الفراق هو الحمام الأوّل، فعلام المعوّل أعيت مراوضة الفراق على الرواق
[1] ، وكادت لوعة الاشتياق أن تفضي إلى السياق [2] .
تركتموني بعد تشييعكم ... أوسع أمر الصبر عصيانا
أقرع سنّي ندما تارة ... وأستميح الدّمع أحيانا
وربما تعللت بغشيان المعاهد الخالية، وجدّدت رسوم الأسى بمباكرة الرسوم
البالية، أسائل نون النؤى [3] عن أهليه، وهيام المرقد المهجور عن
مصطليه، وثاء الأثافي المثلّثة من منازل الموحّدين، وأحار بين تلك
الأطلال حيرة الملحدين. لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، كلفت لعمر
الله بسائل عن جفوني المؤرقة، ونائم عن شجوني [4] المجتمعة المتفرّقة،
ظعن عن ملال، لا متبرّما بشرّ حال [5] وكدر الوصل بعد صفائه، وضرّح
النّصل بعد عهد وفائه.
أقل اشتياقا أيها القلب إنّما ... رأيتك تصفي الودّ من ليس جازيا
فها أنا أبكي عليه بدم أساله، وأندب في ربع الفراق آسى له، وأشكو إليه
حال قلب صدعه، وأودعه من الوجد ما أودعه، لما خدعه، ثم قلاه وودّعه،
وانشقّ ريّاه أنف ارتياح قد جدعه، واستعديه على ظلم ابتدعه.
«خليليّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي [6]
فلولا عسى الرجاء ولعلّه، لا بل شفاعة المحلّ الّذي حلّه، لنشرت ألوية
العتب، وبثثت كتائبها كمينا في شعاب الكتب، تهزّ من الألفات رماحا هزّ
الأسنّة [7] وتوتّر من النونات أمثال القسيّ المرنّة، وتقود من مجموع
الطّرس والنقس بلقا تردي في
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عمل الرّاق.
[2] السياق: بداية مفارقة الروح.
[3] النؤى: الحفير حول الخيمة يمنع عنها المسيل.
[4] وفي نسخة ثانية: عن همومي.
[5] وفي نسخة ثانية: لا متبرّما منا بشرّ خلال.
[6] هذا البيت «لجميل بثينة» وهو جميل بن عبد الله بن معمر العذري.
[7] وفي نسخة ثانية خزر الأسنة.
(7/565)
الأعنّة، ولكنه أوى إلى الحرم الأمين،
وتفيّأ ظلال الجوار المؤمّن من معرّة الغوار عن الشمال واليمين، حرم
الخلال المزنيّة، والظلال اليزنيّة، والهمم السنيّة، والشيم التي لا
ترضى بالدون ولا بالدّنيّة، حيث الرّفد الممنوح، والطير الميامن يزجر
لها السنوح والمثوى الّذي إليه مهما تقارع الكرام على الضيفان، حول
جوابي الجفان، فهو الجنوح.
نسب كأنّ عليه من شمس الضّحى ... نورا ومن فلق الصّباح عمودا
ومن حلّ بتلك المثابة فقد اطمأنّ جنبه، وتغمّد بالعفو ذنبه، (وللَّه در
القائل) :
فو حقّه لقد انتدبت لوصفه ... بالبخل لولا أنّ حمصا داره
بلد متى أذكره هيج [1] لوعتي ... وإذا قدحت الزّند طار شراره
اللَّهمّ غفرا، وأين قراره النخيل، من مثوى الألف البخيل، ومكذبة
المخيل، وأين نائية هجر، من متبرئ ممن ألحد وفجر [2]
من أنكر غيث مسودّة [3] ... في الأرض ينوء بمخلفها
فبنان بني مزنى مزن ... تنهلّ بلطف مصرّفها
مزن مذحلّ ببسكرة ... يوما نطقت بمصحفها
شكرت حتى بعبارتها ... وبمعنها وبأحرفها
ضحكت بأبي العباس من ... الأيام ثنايا زخرفها
وشكرت الدنيا متى عرفت ... مزن فيها بمعرّفها [4]
بل نقول لا محل للولد [5] ، لا أقسم بهذا البلد، وأنت حلّ بهذا البلد،
لقد حلّ بينك عرى الجلد، وخلد الشوق بعدك يا ابن خلدون في الصميم من
الخلد، فحيّا الله زمانا شفيت في قربك زمانته [6] ، واحتليت في ذروة
مجدك جمانته، ويا من لمشوق لم يفض من طول خلّتك لبانته [7] ، وأهلا
بروض أضلّت شباب معارفك
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تهتج.
[2] وفي نسخة ثانية: وابن ثانية هجر، من متبوإ من ألحد وفجر.
[3] وفي نسخة ثانية: من أنكر غيثا منشؤه.
[4] وفي نسخة ثانية: وتنكّرت الدنيا حتى عرفت منه بمعرّفها.
[5] وفي نسخة ثانية: يا محلّ الولد.
[6] بمعنى العامة.
[7] وفي نسخة ثانية: وقضيت في مرعى خلّتك لبناته.
(7/566)
بانته، فحمائمه بعدك تندب فيساعدها الجندب،
ونواسمه ترقّ فتتغاشى، وعشبانه تتهافت وتتلاشى، وأدواحه في ارتباك،
وحمائمه في مأتم ذي اشتباك، كأن لم تكن قمرها لات قبابه، ولم يكن أنسك
شارع بابه، إلى صفوة الظرف ولبابة، ولم يسبح إنسان عينك [1] في ماء
شبابه، فلهفا عليك من درّة اختلستها يد النوى، ومطل بردّها الدّهر
ولوى، ونعق غراب بينها في ربوع الهوى، ونطق بالزّجر فما نطق عن الهوى،
وبأيّ شيء يعتاض منك أيتها الرّياض، بعد أن طما نهرك الفيّاض، وفهقت
[2] الحياض، ولا كان الشانئ المشنوء والحرب المهنوء من قطيع ليل أغار
على الصبح فاحتمل، وشارك في الأمر الناقة والجمل، واستأثر جنحه ببدر
النادي لمّا كمل، فشرّع [3] الشراع فراع، وواصل الإسراع، فكأنّما هو
تمساح النّيل ضايق الأحباب في البرهة، وأختطف بهم من الشط نزهة العين،
وعين النزهة، ولجّج بها، والعيون تنظر، والعبر عن الاتباع [4] تخطر،
فلم يقدر إلّا على الأسف، والتماح الأثر المنتسف، والرجوع بملء العيبة
من الخيبة، ووفر الحبرة [5] من الحسرة، إنّما نشكو إلى الله البثّ
والحزن، ونستمطر منه المزن [6] ، وبسيف الرجاء نصول، إذا شرّعت لليأس
أسنّة ونصول.
ما أقدر الله أن يدني على شحط ... من داره الحزن ممّن داره صول
فإن كان كلام [7] الفراق رغيبا، لمّا نويت مغيبا، وجلّلت الوقت الهنيّ
تشغيبا، فلعلّ الملتقى يكون قريبا، وحديثه يروى صحيحا غريبا. إيه سيدي
كيف حال تلك الشمائل المزهرة المخايل، والشيم الهامية الديم؟ هل يمرّ
ببالها من راعت بالبعد باله، وأخمدت بعاصف البين ذباله؟ أو ترثي لمؤق
[8] شأنها سكب لا يفتر، وشوق
__________
[1] بؤبؤ العين.
[2] امتلأت.
[3] وفي نسخة ثانية: نشر الشراع فراع.
[4] وفي نسخة ثانية: الغمر عن الاتباع يحظر. والغمر: الماء الكثير.
[5] وفي نسخة ثانية: الجسرة أي الناقة.
[6] المزن: السحاب.
[7] وفي نسخة ثانية: كلم وهو الجرح.
[8] وفي نسخة ثانية: لشئون.
(7/567)
يبتّ حبال المشوّق [1] ويبتر وضنى تقصر عن
حلله الفائقة صنعاء وتستر [2] والأمر أعظم والله يستر، وما الّذي يضيرك
صير من بلفح السموم يضيرك [3] ، بعد أن أضرمت وأشعلت وأوقدت، وجعلت،
وفعلت فعلتك التي فعلت، إن تترفق بذماء، أو تردّ بنغبة ماء، أرماق
ظماء، وتتعاهد المعاهد بتحيّة عليها شذ أنفاسك، أو تنظر إلينا من البعد
بمقلة حوراء من بياض قرطاسك وسواد أنفاسك، فربّما قنعت الأنفس المحبّة
بخيال يزور، وتعلّلت بنوال منذور، ورضيت لما لم تصد العنقاء بزرزور.
يا من ترحّل والرياح لأجله ... تشتاق أن يعبق شذا ريّاها [4]
تحيا النفوس إذا بعثت تحيّة ... وإذا قرأت ترى ومن أحياها [5]
ولئن أحييت بها فيما سلف نفوسنا تفديك، والله إلى الخير يهديك، فنحن
نقول معشر مودّيك «ثنّ ولا تجعلها بيضة الديك [6] وعذرا فإنّي لم أجترئ
على خطابك بالفقرة الفقيرة، وأدللت لديّ محرابك برفع العقيرة، عن نشاط
بعث مرسومه [7] ولا اغتباط بالأدب إلّا بسياسة تسوسه، أو في على الفترة
ناموسه وانما هو نفاق نفثة المصدور [8] ، وهناء الجرب المجدور، وإن
تعلّل به مخارق، فثمّ قياس فارق، والّذي هيّأ هذا القدر وسبّبه، وسهّل
المكروه إليّ منه وحبّبه، ما اقتضاه الصّنو يحيى، أمدّ الله حياته،
وحرس من الحوادث جهاته [9] ، من خطاب ارتشف لهذه القريحة العديمة
بلالتها، بعد أن رضي غلالتها، ورسخ إلى الصهر الحضرميّ سلالتها، فلم
يسع إلّا إسعافه، بما أعافه، فأمليت مجيبا ما لا يعدّ في يوم الرهان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: حبال الصبر.
[2] صنعاء: اليمن وتستر مدينة بخوزستان وقد ضبطها ابن خلدون تستر وقد
ضبطها ياقوت الحموي تستر (معجم البلدان) .
[3] وفي نسخة ثانية: صين من لفح السموم نضيرك.
[4] وفي نسخة ثانية: يشتاق إن هبت شذا رياها.
[5] وفي نسخة ثانية: وإذا عزمت اقرأ «ومن أحياها» (الآية 32 من سورته
المائدة) .
[6] وفي نسخة ثانية: «ثنّي ولا تجعليها بيضه لدّيك» وهو عجز بيت لبشار
بن بر وهو: قد زرتنا زوره في النوم واحدة ثني ولا تجعليها بيضه لدّيك.
[7] وفي نسخة ثانية: مرموسة والمرموس: المدفون.
[8] وفي نسخة ثانية: (ولا اعتباط بالأدب تغري بسياسته سوسة، وانبساط
أوحى إليّ على الفترة ناموسه، وإنما هو اتفاق جرّته نفثه المصدور) .
[9] وفي نسخة ثانية: ذاته.
(7/568)
نجيبا، وأسمعته وجيبا لمّا ساجلت بهذه
التّرهات سحرا عجيبا، حتى إذا ألف القلم العريان فسحه [1] ، وجمح برذون
الغزارة فلم أطق كبحه، لم أفق من غمرة غلوّه وموقف شلوّه [2] ، إلا وقد
تحيّز إلى فئتك مغترّا بل معترّا، واستقبلها ضاحكا مفترّا، وهشّ لها
برّا، وإن كان من الخجل مصفرّا، وليس بأوّل من هجر، في التماس الوصل
ممن هجر، أو بعث التمر إلى هجر [3] ، وأيّ نسب بيني اليوم وبين زخرف
الكلام، وإجالة جياد الأقلام، في محاورة الأعلام، بعد أن حال الجريض
دون القريض [4] ، وشغل المريض عن التعريض، وغلب الشوق الكسل، ونشرت [5]
الشعرات البيض كأنها الأسل، تروع برقط الحيّات، سرب الحياة، وتطرق
بذوات الغرر، والشباب [6] عند البيات، والشيب الموت العاجل، وإذا ابيضّ
زرع صبّحته المناجل، والمعتبر الآجل، وإذا اشتغل الشيخ بغير معاده، حكم
في الظاهر بإبعاده، وأسره في ملكة عاده، فأغض أبقاك الله، وأسمح لمن
قصّر عن المطمح، وبالعين الكليلة فالمح، واغتنم لباس ثوب الثّواب، واشف
بعض الجوى بالجواب.
تولّاك الله فيما استضفت وملكت، ولا بعدت ولا هلكت، وكان لك أية سلكت،
ووسمك من السعادة بأوضح السمات، وأتاح لقاءك من قبل الممات، والسلام
الكريم يعتمد حلال [7] ولدي وساكن خلدي، بل أخي وإن اتّقيت عتبة
وسيّدي، ورحمة الله وبركاته، من محبّة المشتاق إليه محمد بن عبد الله
بن الخطيب في الرابع عشر من شهر ربيع الثاني من عام سبعين وسبعمائة.
وكان تقدّم منه قبل هذه الرسالة كتاب آخر إليّ، بعث به إلى تلمسان
فتأخّر وصوله، حتى بعث به أخي يحيى عند وفادته على السلطان، ونصّ
الكتاب.
يا سيدي إجلالا واعتدادا، وأخي ودّا واعتقادا، ومحلّ ولدي شفقة حلت مني
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سبحه والسبح: الجري.
[2] وفي نسخة ثانية: مثلوّه.
[3] الهجر: الهندي في الكلام والهجر الثانية الفراق، والهجر الثالثة:
بلد بالهجرين.
[4] الجريص: الغصّة بالريق، والقريض: الشعر.
[5] وفي نسخة ثانية: ونصلت.
[6] وفي نسخة ثانية: الشيات والشيات ج. شية، وهي سواد في بياض أو بياض
في سواد.
[7] حلال: ج حلة: بيت.
(7/569)
فؤادا. طال عليّ انقطاع أنبائك، واختفاء
أخبارك، فرجوت أن أبلغ المنية بهذا المكتوب إليك، وتخترق الموانع دونك،
وإن كنت في موالاتك كالعاطش الّذي لا يروى، والآكل الّذي لا يشبع، شأن
من تجاوز الحدود الطبيعية، والعوائد المألوفة، فأنا بعد إنهاء التحيّة
المطلولة الروض بماء الدموع، وتقرير الشوق القديم اللّزيم، وشكوى
البعاد الأليم، والابتهال في إتاحة القرب [1] قبل الفوت من الله ميسّر
العسير، ومقرّب البعيد، أسأل عن أحوالك سؤال أبعد الناس مجالا [2] في
مجال الخلوص لك، وأشدّهم حرصا على اتّصال سعادتك، وقد اتصل بي في هذه
الأيام ما جرى به القدر من تنويع الحال لديك، واستقرارك ببسكرة على
الغبطة بك باللجإ إلى تلك الرئاسة الزكيّة، الكريمة الأب، الشهيرة
الفضل، المعروفة القدر على البعد، حرسها الله ملجأ للفضلاء، ومخيّما
لرجال العلياء، ومهبّا لطيب الثناء، بحول وقوّته، وقاربت كلّ ساح
السلامة [3] فاحمدوا الله على الخلاص، وقاربوا في معاملة الآمال،
وضنّوا بتلك الذات الفاضلة عن المشاقّ، وأبخلوا بها عن المتالف، فمطلوب
الحريص على الدّنيا خسيس، والموانع الحافّة جمّة، والحاصل حسرة، وما
قلّ سعي يحمد حاله العاقبة [4] ، والعاقل لا يستنكحه الاستغراق فيما
آخره الموت، إنّما ينال منه الضروريّ، ومثلك لا يعجزه مع الناس [5]
العافية، إضعاف ما يرجى به العمر من المأكل والمشرب، وحسبنا الله.
وإن تشوّفت لحال المحبّ تلك السيادة الفذّة والبنوّة البرّة، فالحال
حال من جعل الزّمام بيد القدر، والسير في مهيع الغفلة، والسبح في تيار
الشواغل، ومن وراء الأمور غيب محجوب، وأجل مكتوب، يؤمّل فيه عادة الستر
من الله، إلّا أنّ الضجر الّذي تعلمونه حفظه الناس لما عجزت الحيلة،
وأعوز الناصر [6] وسدّت المذاهب، والشأن اليوم شأن الناس فيما يقرب من
الاعتدال.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وسؤال إناحة القرب.
[2] وفي نسخة ثانية: وفي نسخة ثانية محالا والمحال: التدبير. وال «مجال
الاولى تكون مصدرا والمجال الثانية: مكان الجولان.
[3] وفي نسخة ثانية: وما كل وقت تتاح فيه السلامة.
[4] وفي نسخة ثانية: وبأقل السعي تحصل حالة العاقية.
[5] وفي نسخة ثانية: مع التماس العاقية.
[6] وفي نسخة ثانية: المناص: الملجأ.
(7/570)
وفيما يرجع إلى السلطان تولّاه الله على
إضعاف ما باشر سيّدي من الأغياء في البرّ، ووصل سبب الالتحام والاشتمال
مع الإقبال [1] وما ينتجه متعوّد الظهور، والحمد للَّه.
وفيما يرجع إلى الأحباب والأولاد فعلى ما علمت الآن الشوق يخامر
القلوب، وتصوّر اللّقاء مما يزهد في الوطن، وحاضر النّعم سنّى الله ذلك
على أفضل حال، ويسرّه قبل الارتحال من دار المحال.
وفيما يرجع إلى الوطن فأحوال النائم خصبا، وهدنة وظهورا على العدوّ،
وحسبك فافتتاح حصن آش وبرغة [2] القاطعة بين بلاد الإسلام، ووبرة [3]
والعارين وبيعة [4] وحصن السّهلة في عام. ثم دخل بلد إطريرة بنت
إشبيلية عنوة، والاستيلاء على ما يناهز خمسة آلاف من السبي من فتح دار
الملك، وبلدة قرطبة، ومدينة جيّان عنوة في اليوم الأغرّ المحجّل، وقتل
المقاتلة، وسبي الذرّية، وتعفية الآثار حتى لا يلمّ بها العمران، ثم
افتتاح مدينة رندة التي تلف جيّان في ملاءتها، دار التّجر، والرفاهيّة
والبنات الحافلة، والنعم الثّرّة، نسأل الله جلّ وعلا أن يصل عوائد
نصره، ولا يقطع عنا سيب رحمته، وأن ينفع بما أعان عليه من السعي في ذلك
والإعانة عليه.
ولم يتزيد من الحوادث إلّا ما علمتم من أخذ الله لنسب [5] السوء، وخبث
الأرض، المسلوب من أثر الخير، عمر بن عبد الله، وتحكّم شرّ الميتة في
نفسه، وإتيان النكال على حاشيته، والاستئصال على نفيسة [6] ، والاضطراب
مستول على الوطن بعده، إلا أنّ القرب على علالته [7] لا يرجحه غيره.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الاستقلال.
[2] وفي نسخة ثانية حض آشر وبرغه وهو أصحّ وحصص آشر (Lznajar)
في الجنوب الشرقي لحص روطة (Rute)
على ضفة رافد من روافد شنيل، وقد حرّف فكتب في بعض النسخ (أشب) اما
برغه (Burgo) فتقع بين
مالقة ورندة (نفح الطيب 6/ 367- 368) .
[3] وفي نسخة ثانية: وبذة وهي الأصح لأن وبرة من قرى اليمامة وهي بعيدة
عن بحثنا هذا أما وبذة فهي مدينة من أعمال شنت بريّة بالأندلس (معجم
البلدان) .
[4] يجمع التلمساني في تفح الطيب بغية وباغة باسم واحد، «وباغة مدينة
بالأندلس من كورة البيرة بين المغرب والقبلة منها» . وربما تكون بيغو:
«بلد بالأندلس من أعمال جيّان» (معجم البلدان) .
[5] وفي نسخة ثانية: لنسمة.
[6] وفي نسخة ثانية: على ذاته.
[7] وفي نسخة ثانية: إلا أن الغرب على علّاته.
(7/571)
والأندلس اليوم شيخ غزاتها عبد الرحمن بن
علي ابن السلطان أبي عليّ، بعد وفاة الشيخ أبي الحسن علي بن بدر الدين
رحمه الله. وقد استقرّ بها بعد انصراف سيّدي الأمير المذكور، والوزير
مسعود بن رحّو، وعمر بن عثمان بن سليمان.
والسلطان ملك النصارى بطرة قد عاد إلى ملكه بإشبيليّة، وأخوه مجلب عليه
بقشتالة وقرطبة مخالفة عليه، قائمة بطائفة من كبار النصارى الخائفين
على أنفسهم، داعين لأخيه، والمسلمون قد اغتنموا هبوب هذه الريح. وخرق
الله لهم عوائد في باب الظهور والخير، لم تكن تخطر في الآمال. وقد
تلقّب السلطان أيّده الله بعقب هذه المكنّفات بالغنيّ باللَّه وصدرت
عنه مخاطبات بمجمل الفتوح ومفصلها يعظم الحرص على إيصالها إلى تلك
الفضائل لو أمكن.
وأمّا ما يرجع إلى ما يتشوّف إليه ذلك الكمال من شغل الوقت، فصدرت
تقاييده، وتفاصيل [1] يقال فيها بعد ما اعتملت تلك السيادة بالانصراف
يا إبراهيم ولا إبراهيم اليوم.
منها أنّ كتابا رفع إلى السلطان في المحبّة [2] من تصنيف ابن أبي حجلة
من المشارقة فعارضته، وجعلت الموضوع أشرف، وهو محبّة الله [3] ، فجاء
كتابا ادّعى الأصحاب غرابته. وقد وجّه إلى الشرق وصحبته كتاب «تاريخ
غرناطة» وغيره من تأليفي. وتعرّف تحبيسه بخانقاه سعيد السعداء من مصر،
وانتال الناس عليه، وهو في لطافة الإعراض، متكلّف أغراض المشارقة من
ملحه:
سلّمت لمصر في الهوى من بلد ... يهديه هواؤها لدى استنشاقه
من ينكر دعوتي فقل عني له ... تكفي امرأة العزيز من عشّاقه
والله يرزق الإعانة في انتساخه وتوجيهه. وصدر عني جزء سمّيته «الغيرة
على أهل الحيرة» وجزء سمّيته «حمد الجمهور على السنن المشهور» .
والإكباب على اختصار كتاب «التاج [4] » للجوهري وردّ حجمه إلى مقدار
الخمس، مع حفظ ترتيبه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تصانيف.
[2] هو ديوان الصبابة. طبع بمصر سنة 1302 هـ.
[3] يعني كتابه «روضة التعريف بالحب الشريف وهو من كتب التصوف قلّ ان
نجد مثله في المكتبة الإسلامية. راجع نفح الطيب ج 5/ 117 وما بعدها.
[4] هو كتاب «تاج اللغة وصحاح العربية. وفي مخطوط قديم كتب سنة 851 ذكر
اسمه تاج اللغة وسرّ العربية ويعرف بالصحاح أو كتاب الصحيح في اللغة
(معجم المطبوعات العربية 1/ 723) .
(7/572)
السّهل، والله المعين على مشغلة نقطع بها
هذه البرهة القريبة البداءة من التتمة، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه.
والمطلوب المثابرة على تعريف يصل من تلك السيّادة والبنوّة، إذ لا
يتعذّر وجود قافل من حجّ، أو لاحق بتلمسان يبعثها السيد الشريف منها،
فالنفس شديدة التعطّش، والقلوب قد بلغت من الشوق والاستطلاع الحناجر.
والله أسأل أن يصون في البعد وديعتي منك لديه، ويلبسك العافية، ويخلّصك
وإياي من الورطة، ويحملنا أجمعين على الجادّة. ويختم لنا بالسعادة.
والسلام الكريم عودا على بدء، ورحمة الله وبركاته من المحبّ المشوّق
الذاكر الداعي ابن الخطيب، في الثاني من جمادى الأولى من عام تسعة
وستين وسبعمائة انتهى.
(فأجبته) عن هذه المخاطبات، وتفاديت من السجع خشية القصور عن مساجلته
فلم يكن شأوه يلحق. ونصّ الجواب: سيّدي مجدا وعلوّا، وواحدي ذخرا
مرجوّا ومحلّ والدي برّا وحنّوا. ما زال الشوق مذ نأت بي وبك الدار،
واستحكم بيننا البعاد، يرعي سمعي أنباءك، ويخيّل إليّ من أيدي الرياح
تناول رسائلك، حتى ورد كتابك العزيز على استطلاع، وعهد غير مضاع وودّ
ذي أجناس وأنواع، فنشر بقلبي ميت السلوّ وحشر أنواع المسرّات، وقدح
للقائك زناد الأمل، والله أسأل الامتناع [1] بك قبل الفوت على ما
يرضيك، ويسني أمانيّ وأمانيك. وحيّيته تحيّة الهائم، لمواقع الغمائم،
والمدلج للصّباح المتبلّج، وأملى على معترج الأولياء [2] خصوصا فيك، من
اطمئنان الحال، وحسن القرار، وذهاب الهواجس، وسكون النفرة، وعموما في
الدولة من رسوخ القدم، وهبوب ريح النصر، والظهور على عدوّ الله
باسترجاع الحصون التي استنقذوها في اعتلال الدولة، وتخريب المعاقل التي
هي قواعد النصرانيّة، غريبة لا تثبت إلّا في الحلم وآية من آيات الله.
وإن خبيئة هذا الفتح في طيِّئ العصور السالفة إلى هذه المدّة الكريمة،
لدليل على عناية الله بتلك الذات الشريفة، حيث أظهر على يدها خوارق
العادة، وما تجد آخر الأيام من معجزات
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الامتاع.
[2] وفي نسخة ثانية: وأملّ على مقترح الأولياء.
(7/573)
الملّة، وكمل فيها والحمد للَّه بحسن
التدبير ويمن التعبية [1] ، من حميد الأثر، وخالد الذّكر، طراز في حلّة
الخلافة النّصريّة، وتاج في مفرق الوزارة. كتبه الله لك فيما يرضاه
الله من عباده.
ووقفت عليه الأشراف من أهل هذا العصر المحروس، وأذعته في الملأ سرورا
لعزّ الإسلام وإظهارا للنعمة، واستطرادا لذكر الدولة المولويّة بما
تستحقّه من طيب الثناء والتماس الدعاء، والتحديث بنعمتها، والإشادة
بفضلها على الدول السالفة والخالفة وتقدّمها، فانشرحت الصدور حباء،
وامتلأت القلوب إجلالا وتعظيما، وحسنت الآثار اعتقادا ودعاء.
وكان كتاب سيدي لشرف تلك الدولة عنوانا، ولما عساه يستعجم من نعتي في
مناقبها ترجمانا، زاده الله من فضله، وأمتع المسلمين سكون الغريب من
الشوق المزعج [2] ، والحيرة التي تكاد تذهب بالنفس أسفا لتجافي عرمها
عن الأمن [3] والتقويض عن دار العزيز المولى المنعم، والسيّد الكريم،
والبلد الطيّب، والإخوان البررة، «ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من
الخير» وإن تشوّفت السيادة الكريمة إلى الحال، فعلى ما علمتم سيرا مع
الأمل، ومغالبة للأيام على الحظّ، وإقطاعا للغفلة جانب العمر.
هل نافعي والجدّ في صبب ... مدى مع الآمال في صعد
رجع الله بنا إليه، ولعلّ في عظتكم النافعة شفاء من هذا الداء، العياء
إن شاء الله، وأنّ لطف الله مصاحب من هذه الرئاسة المزنية، وحسبك بها
عليه عصمة وافية [4] ، صرفت وجه القصد إلى ذخيرتي التي كنت أعتدّها
منهم كما علمتم، حين تفاقم الخطب، وتلوّن الدهر، والإفلات من مظانّ
النكبة، وقد رنّقت [5] حولها بعد ما جرّته الحادثة بمهلك السلطان
المرحوم على يد ابن عمّه، قريعة في الملك وقسيمه في النسب، والتياث
الجاه، وتغيّر السلطان، واعتقال الأخ المخلّف،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ويمن النقيبة. ويقال رجل ميمون النقيبة أي مظفر
المطالب ناجح الفعال.
[2] وفي نسخة ثانية: وأمتع المسلمين ببقائه، وبثثته شكوى الغريب من
السوق المزعج.
[3] وفي نسخة ثانية: للتجافي عن مهاد الأمن.
[4] وفي نسخة ثانية: وحسبك بها علمته عصمة وافية.
[5] رنقت حولها: أي توقفت. وفي نسخة ثانية: رتعت.
(7/574)
واليأس منه لولا تكييف الله في نجائه،
والعيث بعده في المنزل والولد، واغتصاب الضياع المقتناة من بقايا ما
متّعت به الدولة النّصرية أبقاها الله من النعمة، فآوى إلى الوكر،
وساهم في الحادث وأشرك في الجاه والمال، وأعان على نوائب الدهر وطلب
الوثر [1] حين رأى الدهر قلاني وأمّل الملوك استخلاصي، وتجاوزوا في
إتحافي والله المخلص من عقال الآمال، والمرشد إلى نبذ هذه الحظوظ
المورّطة.
وأنبأني سيّدي بما صدر عنه من التصانيف الغريبة في هذه الفتوحات
الجليلة، وبودّي لو وقع الإتحاف بها أو بعضها، فلقد عاودني الندم على
ما فرّطت.
وأمّا أخبار هذا القطر فلا زيادة على ما علمتم من استقرار السلطان أبي
إسحاق ابن السلطان أبي يحيى بتونس مستبدّا بأمره بالحضرة بعد مهلك شيخ
الموحّدين أبي محمد بن تافراكين القائم بأمره، رحمة الله عليه مضايقا
في حياته الوطن واحكامه بالعرب، المستظهرين بدعوته، مصانعا لهم بوفرة
على أمان الرعايا والسابلة. لو أمكن حسن السياسة جهد الوقت، ومن انتظام
بجاية محل دولتنا في أمر صاحب قسنطينة وبونة خلافا كما علمتم، محمّلا
الدولة بصرامته وقوّة شكيمته فوق طوقها، من الاستبداد والضرب على أيدي
المستقلين من الأعراب، منتقض الطاعة أكثر أوقاته لذلك إلّا ما شمل
البلاد من تغلّب العرب ونقص الأرض من الأطراف والوسط، وخمود ذبال [2]
الدول في كل جهة وكل بداية إلى تمام.
وأمّا أخبار المغرب الأقصى والأدنى فلديكم طلعه [3] . وأمّا المشرق
فأخبار الحاجّ هذه السنة من اختلاله، وانتقاض سلطانه، وانتزاء الجفاة
على كرسيّه، وفساد المصانع والسقايات المعدّة لوفد الله وحاجّ بيته، ما
يسخن العين ويطيل البثّ، حتى زعموا أنّ الهيعة اتصلت بالقاهرة أياما.
وكثر الهرج في أزقّتها وأسواقها لما وقع بين سندمر [4] المتغلّب بعد
يلبغا الخاصكي، وبين سلطانه ظاهر القلعة، من الجولة التي كانت دائرتها
عليه، أجلت عن زهاء الخمسمائة قتلى، من حاشيته، وموالي يلبغا،
__________
[1] الوثر: الثوب الّذي تجلّل به الثياب فيعلوها. وفي نسخة ثانية طلب
الوتر: أي الثأر.
[2] ذبال ج ذبيلة: الفتيلة.
[3] سرّه.
[4] وفي نسخة ثانية: أسندمر وهو الأمير الدوادار الكبير في دولة الأشرف
وكان دويدارا عن يلبغا الناصري ثم ثار عليه. مات بالإسكندرية سنة 769
هـ.
(7/575)
وتقبّض على الباقين، فأودع منهم السجون،
وصلب الكثير، وقتل سندمر في محبسه، وألقى زمام الدولة بيد كبير من
موالي السلطان فقام بها مستبدّا وقادها مستقلّا، وبيد الله تصاريف
الأمور ومظاهر الغيوب جلّ وعلا.
ورغبتي من سيّدي أبقاه الله أن لا يغبّ خطابه عني متى أمكن، أن يصل
منّته الجمة، وأن يقبّل عني أقدام تلك الذات المولويّة، ويعرّفه بما
عندي من التشيع لسلطانه، والشكر لنعمته، وأن ينهي عني لحاشيته وأهل
اختصاصه التحيّة المختلسة من أنفاس الرياض، كبيرهم وصغيرهم.
وقد تأدّى مني إلى حضرته الكريمة خطاب على يد الحاجّ نافع سلّمه الله
تناوله من الأخ يحيى عند لقائه إيّاه بتلمسان بحضرة السلطان أبي حمّو
أيّده الله، فربّما يصل وسيّدي يوضح من ثنائي ودعاني ما عجز عنه
الكتاب، والله يبقيكم ذخرا للمسلمين وملاذا للآملين بفضله، والسلام
الكريم عليكم، وعلى من لاذ بكم من السادة الأولاد المناجيب، والأهل
والحاشية والأصحاب، من المحبّ فيكم المعتدّ بكم شيعة فضلكم ابن خلدون
ورحمة الله وبركاته.
عنوانه سيدي وعمادي وربّ الصائع والأيادي والفضائل الكريمة الخواتم
والمبادي إمام الأمّة، علم الأئمّة، تاج الملّة فخر العلماء عماد
الإسلام، مصطفى الملوك الكرام، كافل الإمامة، تاج الدول أثير الله، ولي
أمير المؤمنين، الغنيّ باللَّه أيّده الله، الوزير أبو عبد الله بن
الخطيب أبقاه الله، وتولّى عن المسلمين جزاه.
(وكتب) إليّ من غرناطة: يا سيدي ووليّ وأخي ومحلّ ولدي، كان الله لكم
حيث كنتم ولا أعدمكم لطّفه وعنايته، لو كان مستقرّكم بحيث يتأتى إليه
ترديد رسول، وإنفاذ مقتطع [1] أو توجيه نائب، لرجعت على نفسي بالأئمة
في إغفال حقّكم، ولكن العذر ما علمتم، واحمدوا الله على الاستقرار في
كنف ذلك الفاضل الّذي وسعكم كنفه، وشملكم فضله، شكرا للَّه حسبه الّذي
لم يخلف وشهرته التي لم تكدّر.
وإني اغتنمت سفر هذا الشيخ وافد الحرمين بمجموع الفتوح [2] في إيصال
كتابي
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أو ايفاد متطّلع.
[2] كانت العادة عندهم ان يبعثوا باخبار فتوحهم وتوسعاتهم التي تحصل كل
سنة، يرسلونها الى الملوك والسلاطين وإلى الحرم النبوي بوجه خاص، وهذا
ما أشار إليه ابن الخطيب.
(7/576)
هذا، وبودّي لو وقفتم على ما لديه من
البضاعة التي أنتم رأسها وصدرها، فيكون لكم في ذلك بعض أنس، وربّما
تأدّى ذلك في بعضه ممّا لم يختم عليه وظواهر الأمور نحيل عليه في
تعريفكم بها، وأما البواطن فممّا لا تتأتى كثرة وجمامة، وأخص ما أظنّ
تشوّفكم إليه حالي، فاعلموا أني قد بلغ بي الماء الزبى [1] واستولى
عليّ سوء المزاج المنحرف، وتوالت الأمراض، وأعوز الشفاء [2] لبقاء
السبب، والعجز عن دفعه، وهي هذه المداخلة جعل الله عاقبتها إلى خير،
ولم أترك وجها من وجوه الحيلة إلّا بذلته، فما أغنى عني شيئا، ولولا
أني بعدكم شغلت الفكر بهذا التأليف مع الزهد، وبعد العهد، وعدم الإلماع
بمطالعة الكتب، لم تتمشّ من طريق فساد الفكر إلى هذا الحدّ، وأخر ما
صدر عني كناش [3] سميته باستنزال اللطف الموجود في أسر الوجود. أمليته
في هذه الأيام التي أقيم فيها رسم النيابة عن السلطان في سفره إلى
الجهاد بودّي لو وقفتم عليه، وعلى كتابي في المحبّة، وعسى الله أن ييسر
ذلك.
ومع هذا كله والله ما قصّرت في الحرص على إيصال مكتوب إليكم إمّا من
جهة أخيكم أو من جهة السيد الشريف أبي عبد الله، حتى من المغرب إذا
سمعت الركب متوجها منه، فلا أدري هل بلغكم شيء من ذلك أم لا، والأحوال
كلها على ما تركتموها عليه، وأحبابكم بخير على ما علمتم من الشوق
والتشوّف. والارتماض على مفارقتكم، ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه.
والله يحفظكم، ويتولّى أموركم، والسلام عليكم ورحمة الله. من المحبّ
الواحش ابن الخطيب في ربيع الثاني من عام إحدى وسبعين وسبعمائة.
وبباطنه مدرجة نصّها:
سيّدي رضي الله عنكم استقرّ بتلمسان في سبيل تقلّب ومسارعة مزاج
تعرفونه.
صاحبنا المقدّم في الطب أبو عبد الله الشقوري. فإذا اتصل بكم فأعينوه
على ما يقف عليه اختياره، وهذا لا يحتاج معه إلى مثلكم.
عنوانه سيدي ومحلّ أخي الفقيه الجليل الصدر الكبير المعظّم الرئيس
الحاجب العالم
__________
[1] مثل يضرب للشيء الّذي تجاوز الحد.
[2] وفي نسخة ثانية: أعوز العلاج.
[3] كناش: دفتر تقيد فيه الفوائد والشوارد للضبط، يستعمله المغاربة
كثيرا الى اليوم. وقد ذكره التلمساني في نفح الطيب باسم «استنزال اللطف
الموجود في سر الوجود» . تاج العروس 4/ 347.
ابن خلدون م 37 ج 7
(7/577)
الفاضل الوزير ابن خلدون. وصل الله سعده
وحرس مجده بمنّه.
وإنما طوّلت بذكر هذه المخاطبات، وإن كانت فيما يظهر خارجة عن غرض
الكتاب لأنّ فيها كثيرا من أخباري وشرح حالي فيستوفي ذلك منها ما
يتشوّف إليه من المطالعين للكتاب.
ثم إنّ السلطان أبا حمّو لم يزل معتملا في الإجلاب على بجاية واستئلاف
قبائل رياح لذلك، ومعولا علي مشايعتي فيه، ووصل يده مع ذلك بالسلطان
أبي إسحاق ابن السلطان أبي بكر صاحب تونس من بني أبي حفص، لما كان بينه
وبين أخيه صاحب بجاية وقسنطينة من العداوة التي تقتضيها مقاسمة النسب
والملك، فكان يوفد رسله عليه في كل وقت، ويمرّون بي وأنا ببسكرة فأكّد
الوصلة بمخاطبة كل منهما، وكان أبو زيان ابن عمّ السلطان أبي حمّو بعد
إجفاله عن بجاية واختلال معسكره قد سار في أثره إلى تلمسان، وأجلب على
نواحيها فلم يظفر بشيء، وعاد إلى حصين فأقام بينهم، واشتملوا عليه،
ونجم النفاق في سائر أعمال المغرب الأوسط. ولم يزل يستألفهم حتى اجتمع
له الكثير منهم، فخرج في عساكره منتصف تسع وستين وسبعمائة إلى حصين
وأبي زيان، واعتصموا بجبل تيطري، وبعث إليّ في استنفار الزواودة للأخذ
بحجزتهم من جهة الصحراء، وكتب يستدعي أشياخهم يعقوب بن علي كبير أولاد
محمد، وعثمان بن يوسف كبير أولاد سبّاع بن يحيى. وكتب إلى ابن مزنى
قعيدة وطنهم بامدادهم في ذلك، فأمدّهم، وسرنا مغرّبين إليه حتى نزلنا
القطفا بتل تيطري، وقد أحاط السلطان به من جهة التل، على أنه إذا افرغ
من شأنهم سار معنا إلى بجاية، وبلغ الخبر إلى صاحب بجاية أبي العبّاس
فعسكر بمن استألف من بقايا قبائل رياح، وعسكر بطرف ثنيّة القطفا
المفضية إلى المسيلة. وبينما نحن على ذلك اجتمع المخالفون من زغبة، وهم
خالد بن عامر كبير بني عامر، وأولاد عريف كبراء سويد، ونهضوا إلينا
بمكاننا من القطفا، فأجفلت أحياء الزواودة، وتأخّرنا إلى المسيلة. ثم
إلى الزاب، وسارت زغبة إلى تيطري واجتمعوا مع أبي زيان وحصين وهجموا
على معسكر أبي حمّو ففلّوه ورجع منهزما إلى تلمسان.
ولم يزل من بعد ذلك على استئلاف زغبة ورياح يؤمّل الظفر بوطنه وابن
عمّه، والكرة على بجاية عاما فعاما، وأنا على حالي في مشايعته، وإيلاف
ما بينه وبين الزواودة، والسلطان أبي إسحاق صاحب تونس وابنه خالد من
بعده. ثم دخلت
(7/578)
زغبة في طاعته واجتمعوا على خدمته ونهض من
تلمسان لشفاء نفسه من حصين وبجاية، وذلك في أخريات إحدى وسبعين
وسبعمائة فوفدت عليه بطائفة من الزواودة أولاد عثمان بن يوسف بن سليمان
لنشارف أحواله، ونطالعه بما يرسم له في خدمته، فلقيناه بالبطحاء، وضرب
لنا موعدا بالجزائر، انصرف به العرب إلى أهليهم، وتخلّفت بعدهم لقضاء
بعض الأغراض واللحاق بهم، وصلّيت به عيد الفطر على البطحاء، وخطبت به
وأنشدته عند انصرافه من المصلى تهنئة بالعيد وغرضه [1] :
هذي الديار فحيّهنّ صباحا ... وقف المطايا بينهنّ طلاحا
لا تسأل الأطلال إن لم تروها ... عبرات عينك واكفا ممتاحا
فلقد أخذن على جفونك موثقا ... أن لا يرين مع البعاد شحاحا
إيه على الحيّ الجميع وربّما ... طرب الفؤاد لذكرهم فارتاحا
ومنازل للظاعنين استعجمت ... حزنا وكانت بالسرور فصاحا
وهي طويلة، ولم يبق في حفظي منها إلّا هذا.
وبينما نحن في ذلك إذ بلغ الخبر بأنّ السلطان عبد العزيز صاحب المغرب
الأقصى من بني مرين قد استولى على جبل عامر بن محمد الهنتاتي بمراكش،
وكان أخذ بمخنقه منذ حول، وساقه إلى فاس، فقتله بالعذاب، وأنّه عازم
على النهوض إلى تلمسان لما سلف من السلطان أبي حمو أثناء حصار السلطان
عبد العزيز لعامر في جبله، من الإجلاب على ثغور المغرب، ولحين وصول هذا
الخبر، أضرب السلطان أبو حمّو على ذلك الّذي كان فيه، وكرّ راجعا إلى
تلمسان. وأخذ في أسباب الخروج إلى الصحراء مع شيعة بني عامر من أحياء
زغبة، فاستألف وجمع وسدّد الرجال وقضى عيد الأضحى، وطلبت منه الإذن في
الانصراف إلى الأندلس لتعذّر الوجهة إلى بلاد رياح، وقد أظلم الجوّ
بالفتنة، وانقطعت السبل، فأذن لي وحمّلني رسالة إلى السلطان ابن
الأحمر. وانصرفت إلى المرسي بهنين، وجاءه الخبر بنزول صاحب المغرب تازا
في عساكره، فأجفل بعدي من تلمسان ذاهبا إلى الصحراء على طريق البطحاء.
وتعذّر عليّ ركوب البحر من هنين فأقصرت، وتأدّى الخبر إلى السلطان عبد
العزيز بأني مقيم بهنين، وأنّ معي وديعة احتملتها إلى صاحب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أهنيه بالعيد، وأحرّضه.
(7/579)
الأندلس، تخيّل ذلك بعض الغواة، وكتب به
إلى السلطان عبد العزيز فأنفذ من وقته سرية من تازا تعترضني لاسترجاع
تلك الوديعة، واستمرّ هو إلى تلمسان، ووافتني السّرية بهنين وكشفوا
الخبر، فلم يقفوا على صحّته، وحملوني إلى السلطان فلقيته قريبا من
تلمسان، واستكشفني عن ذلك الخبر فأعلمته بنفيه، وعنّفني على مفارقة
دارهم، فاعتذرت له لما كان من عمر بن عبد الله المستبدّ عليهم، وشهد لي
كبير مجلسه، ووليّ أبيه وابن وليه ونزمار بن عريف، ووزيره عمر بن مسعود
بن منديل بن حمامة، واحتفّت الألطاف، وسألني في ذلك المجلس عن أمر
بجاية، وأفهمني أنه يروم تملّكها، فهوّنت عليه السبيل في ذلك فسرّ به،
وأقمت تلك الليلة في الاعتقال. ثم أطلقني من الغد فعمدت إلى رباط الشيخ
الوليّ أبي مدين ونزلت بجواره مؤثرا للتخلي والانقطاع للعلم، لو تركت
له.
(مشايعة السلطان عبد العزيز صاحب المغرب
على بني عبد الواد)
ولما دخل السلطان عبد العزيز إلى تلمسان واستولى عليها، وبلغ خبره إلى
أبي حمّو وهو بالبطحاء، فأجفل من هنالك، وخرج في قومه وشيعته من بني
عامر ذاهبا، إلى بلاد رياح، فسرّح السلطان وزيره أبا بكر بن غازي في
العساكر لاتباعه. وجمع عليه أحياء زغبة والمعقل باستئلاف وليّه ونزمار
وتدبيره. ثم أعمل السلطان نظره ورأى أن يقدّمني أمامه إلى بلاد رياح
لأوطئ [1] أمره، وأحملهم على مناصرته وشفاء نفسه من عدوّه بما كان
السلطان أيس [2] من استتباع رياح وتصريفهم فيما يريده من مذاهب الطاعة.
فاستدعاني من خلوتي بالعبادة عند رباط الوليّ أبي مدين. وأنا قد أخذت
في تدريس العلم واعتزمت على الانقطاع، فآنسني وقرّبني، ودعاني لما ذهب
إليه من ذلك، فلم يسعني إلّا إجابته، وخلع عليّ وحملني، وكتب إلى شيوخ
الزواودة بامتثال أمري وما ألقيه إليهم من أوامره، وكتب إلى يعقوب بن
علي وابن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لأوطد.
[2] وفي نسخة ثانية: آنس.
(7/580)
مزنى بمساعدتي على ذلك. وأن يحاولوا على
استخلاص أبي حمّو من بين أحياء بني عامر، ويحوّلوه إلى حيّ يعقوب بن
علي، فودّعته وانصرفت في عاشوراء سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة فلحقت
الوزير في عساكره وأحياء العرب من المعقل وزغبة على البطحاء، ولقيته
ودفعت إليه كتاب السلطان، وتقدّمت أمامه وشيّعني ونزمار يومئذ وأوصاني
بأخيه محمد، وقد كان أبو حمّو قبض عليه عند ما أحسن منهم بالخلاف،
وأنهم يرومون الرحلة إلى المغرب. وأخرجه معه من تلمسان مقيّدا واحتمله
في معسكره، فأكّد على ونزمار في المحاولة على استخلاصه بما أمكن، وبعث
معي ابن أخيه عيسى في جماعة من سويد يبدروني [1] وتقدّم إلى أحياء حصين
بإخراج أبي زيّان من بينهم، فسرنا جميعا وانتهينا إلى أحياء حصين
وأخبرهم فرج بن عيسى بوصيّة عمه ونزمار إليهم فنبذوا إلى أبي زيّان
عهده، وبعثوا معه من أوصله إلى بلاد رياح. ونزل على أولاد يحيى بن علي
بن سبّاع، وتوغّلوا به في القفر، واستمريت ذاهبا إلى بلاد رياح، فلمّا
انتهيت إلى المسيلة ألفيت السلطان أبا حمّو وأحياء رياح معسكرين قريبا
منها في وطن أولاد سبّاع بن يحيى من الزواودة، وقد تسايلوا [2] إليه،
وبذل فيهم العطاء ليجتمعوا إليه، فلما سمعوا بمكاني من المسيلة، جاءوا
إليّ فحملتهم على طاعة السلطان عبد العزيز، وأوفدت أعيانهم وأشياخهم
على الوزير أبي بكر بن غازي، فلقوه ببلاد الديالم عند نهر واصل، فأتوه
طاعتهم، ودعوه إلى دخول بلادهم في اتباع عدوّه. ونهض معهم وتقدّمت أنا
من المسيلة إلى بسكرة، فلقيت بها يعقوب بن علي، واتفق هو وابن مزنى على
طاعة السلطان، وبعث ابنه محمدا للقاء أبي حمّو، وأمر بني عامر خالد بن
عامر يدعوهم إلى نزول وطنه، والبعد به عن بلاد السلطان عبد العزيز،
فوجده متدليا من المسيلة إلى الصحراء. ولقيه على الدّوسن وبات ليلتهم
يعرض عليهم التحوّل من وطن أولاد بني سبّاع إلى وطنهم بشرقي الزاب.
وأصبح يومه كذلك، فما راعهم آخر النهار إلّا انتشار العجاج خارجا إليهم
من أفواه الثنيّة، فركبوا يستشرفون، وإذا بهوادي الخيل طالعة من
الثنيّة، وعساكر بني مرين والمعقل وزغبة منثالة أمام الوزير أبي بكر بن
غازي قد دلّ بهم الطريق
__________
[1] البذرقة الخفارة. والمبذرق: الخفير.
[2] تسايل القوم: توافدوا من جهة وفي نسخة ثانية تساتلوا وتساتل القوم
أي خرجوا متتابعين الواحد تلو الآخر.
(7/581)
وفد أولاد سباع الذين بعثهم من المسيلة،
فلما أشرفوا على المخيّم أغاروا عليه مع غروب الشمس. فأجفل بنو عامر
وانتهب مخيم السلطان أبي حمّو ورحاله وأمواله.
ونجا بنفسه تحت الليل، وتمزّق شمل ولده وحرمه حتى خلصوا إليه بعد أيام،
واجتمعوا بقصور مصاف من بلاد الصحراء وامتلأت أيدي العساكر والعرب من
نهابهم، وانطلق محمد بن عريف في تلك الهيعة وأطلق الموكّلون به وجاء
إلى الوزير وأخيه ونزمار وتلقّوه بما يجب له، وأقام الوزير أبو بكر بن
غازي بالدوسن أياما أراح فيها. وبعث إليه ابن مزنى بطاعته وأرغد له من
الزاد والعلوفة، وارتحل راجعا إلى المغرب، وتخلّفت بعده أياما عند أهلي
ببسكرة، ثم ارتحلت إلى السلطان في وفد عظيم من الزواودة، يقدّمهم أبو
دينار أخو يعقوب بن علي وجماعة من أعيانهم.
فسابقنا الوزير إلى تلمسان وقدمنا على السلطان فوسعنا من حبائه
وتكرمته، ونزله ما بعد العهد بمثله. ثم جاء من بعدنا الوزير أبو بكر بن
غازي على الصحراء بعد أن مرّ بقصور بني عامر هنالك، فخرّبها وكان يوم
قدومه على السلطان يوما مشهودا، وأذن بعدها لوفود الزواودة في الانصراف
إلى بلادهم. وقد كان ينتظر بهم قدوم الوزير ووليّه ونزمار بن عريف،
فودّعوه وبالغ في الإحسان وانصرفوا إلى بلادهم. ثم أعمل نظره في إخراج
أبي زيان من بين أحياء الزواودة لما خشي من رجوعه إلى حصين، فآمرني في
ذلك، وأطلقني إليهم في محاولة انصرافه عنهم، فانطلقت لذلك. وكان أحياء
حصين قد توجّسوا الخيفة من السلطان، وتنكّروا له، وانصرفوا إلى أهليهم
بعد مرجعهم من غزاتهم مع الوزير، وبادروا باستدعاء أبي زيّان من مكانه
عند أولاد يحيى بن علي، وأنزلوه بينهم، واشتملوا عليه، وعادوا إلى
الخلاف الّذي كانوا عليه أيام أبي حمّو واشتعل المغرب الأوسط نارا.
ونجم [1] صبي من بيت الملك في مغراوة وهو حمزة بن علي بن راشد، فرّ من
معسكر الوزير ابن غازي أيام مقامه عليها، فاستولى على شلف وبلاد قومه،
وبعث السلطان وزيره عمر بن مسعود في العساكر لمنازلته، وأعيا داؤه
وانقطعت أنا ببسكرة، وحال ذلك ما بيني وبين السلطان إلّا بالكتاب
والرسالة. وبلغني في تلك الأيام وأنا ببسكرة مفرّ الوزير ابن الخطيب من
الأندلس وقدومه على السلطان بتلمسان حين توجّس الخيفة من
__________
[1] نجم: ظهر
(7/582)
سلطانه، بما كان له من الاستبداد عليه،
وكثرة السعاية من البطانة فيه، فأعمل الرحلة إلى الثغور الغربيّة
لمطالعتها بإذن سلطانه، فلمّا حاذى جبل الفتح قبل الفرضة دخل إلى الجبل
وبيده عهد السلطان عبد العزيز إلى القائد بقبوله. وأجاز البحر من حينه
إلى سبتة، وسار إلى السلطان بتلمسان، وقدم عليه بها في يوم مشهود،
وتلقّاه السلطان من الحظوة والتقريب وإدرار النّعم بما لا يعهد بمثله.
وكتب إليّ من تلمسان يعرّفني بخبره، ويلمّ ببعض العتاب على ما بلغه من
حديثي الأول بالأندلس، ولم يحضرني الآن كتابه فكان جوابي عنه ما نصّه:
الحمد للَّه ولا قوّة إلّا باللَّه، ولا رادّ لما قضى الله.
يا سيدي ونعم الذّخر الأبدي، والعروة الوثقى التي أعلقتها [1] يدي
أسلّم عليك سلام القدوم على المخدوم، والخضوع للملك المتبوع، لا بل
أحيّيكم تحيّة المشوّق للمعشوق، والمدلج للصباح المتبلّج، وأقرّر ما
أنتم أعلم بصحيح عقدي فيه من حبي لكم، ومعرفتي بمقداركم، وذهابي إلى
أبعد الغايات في تعظيمكم، والثناء عليكم، والإشادة في الآفاق بمناقبكم
ديدنا [2] معروفا، وسجية راسخة يعلم الله وكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً 4:
79. وهذا كما في علمكم أسنى ما اختلف أوّلا ولا آخرا، ولا شاهدا ولا
غائبا، وأنتم أعلم بما تعني نفسه وأكبر شهادة بما في خفايا ضميري، ولو
كنت ذلك فقد سلف من حقوقكم، وجميل أخذكم، واجتلاب الحظّ لو هيّأه
القدر، لمساعيكم وإيثاري بالمكان من سلطانكم ودولتكم، ما يستلين معاطف
القلوب، ويستل سخائم الهواجس، فأنا أحاشيكم من استشعار نبوة [3] أو
إخفار وطن [4] ، ولو تعلّق بقلب ساق حرزرزور [5] فحاش للَّه أن يقدح في
الخلوص لكم، أو يرجح سوائبكم [6] ، إنما هي خبيئة الفؤاد إلى الحشر أو
اللقاء. وو الله وجميع ما يقسم به، ما اطّلع على مستكنّه مني غير
صديقي، وصديقكم الملابس، كان لي ولكم، الحكيم الفاضل أبي عبد الله
الشّقوري أعزّه الله. نفثة مصدور، ومباثة خلوص، إذ
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اعتقلتها.
[2] الديدن: العادة.
[3] بمعنى الجفوة.
[4] وفي نسخة ثانية: أو إحقاق ظن.
[5] وفي نسخة ثانية: ولو تعلّق بقلب ساق حرّ ذرء وذرء. وبلغني ذرء من
خير أي قليل منه.
[6] وفي نسخة ثانية: سوابقكم: ج سابقة ويعني: أياديكم البيضاء التي
اسديتموها إليّ.
(7/583)
أنا أعلم الناس بمكانه منكم، وقد علم ما
كان مني حين مفارقة صاحب تلمسان واضمحلال أمره من إجماع الأمر على
الرحلة إليكم، والخفوق إلى حاضرة البحر للإجازة إلى عدوتكم تعرّضت فيهم
للتهم، ووقفت بمجال الظنون، حتى تورّطت في الهلكة بما ارتفع عنّي مما
لم آته، ولا طويت العقد عليه، لولا حلم مولانا الخليفة ولولا حسن رأيه
في وثبات بصيرته، لكنت في الهالكين الأوّلين، كل ذلك شوقا إلى لقائكم،
وتمثّلا لأنسكم، فلا تظنّوا بي الظنون، ولا تصدّقوا التوهّمات، فأنا من
قد عملتم صداقة وسذاجة وخلوصا، واتفاق ظاهر وباطن، أثبت الناس عهدا
وأحفظهم غيبا، وأعرفهم بوزان الإخوان، ومزايا الفضلاء، ولأمر ما تأخر
كتابي من تلمسان، فأني كنت استشعر ممن استضافني ريبا بخطاب سواه، خصوصا
جهتكم، لقديم ما بين الدولتين من الاتحاد والمظاهرة، واتصال اليد مع
أنّ الرسول تردّد إليّ وأعلمني اهتمامكم واهتمام السلطان تولاه الله
باستكشاف ما أبهم [1] من حالي، فلم أترك شيئا مما أعلم تشوّقكم إليه
إلّا وكشفت له قناعة، وآمنته على إبلاغه، ولم أزل بعد إيناس المولى
الخليفة لدمائي وجذبه بضبعي، سابحا في تيار الشواغل كما علمتم القاطعة
حتى عن الفكر.
وسقطت إلي محل مجد خدمتي من هذه القاصية، أخبار خلوصكم إلى المغرب قبل
فصول راحلتي إلى الحضرة، غير خلية [2] ولا ملتئمة، ولم يتعيّن ملقي
العصا، ولا مستقر النّوى، فأرجأت الخطاب إلى استجلائها، وأفدت من
كتابكم العزيز الجاري على سنن الفضل، ومذاهب المجد، غريب ما كيّفه
القدر من بديع [3] الحال لديكم، وعجيب تأتّى أملكم الشارد فيه كما كنّا
نستبعده عند المفاوضة، فحمدت الله لكم على الخلاص من ورطة الدول على
أحسن الوجوه، وأجمل المخارج الحميدة العواقب في الدنيا والدين، العائدة
بحسن المآل في المخلّف، من أهل وولد ومتاع وأثر بعد أن رضتم جموح
الأيام وتوقّلتم قلل العز [4] وقدتم الدنيا بحذافيرها وأخذتم بآفاق
السماء على أهلها. وهنيئا فقد نالت نفسكم التوّاقة أبعد أمانيها، ثم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: انبهم والأصح استبهم.
[2] وفي نسخة ثانية: غير جلية.
[3] وفي نسخة ثانية: من تنويع.
[4] أي صعدتم قمم العزّ.
(7/584)
تاقت إلى ما عند الله، وأشهد لما ألهمتم
للإعراض عن الدنيا، ونزع اليد من حطامها عند الأصحاب والأقيال، ونهى
الآمال إلّا جذبا وعناية من الله وحبّا، وإذا أراد الله أمرا يسّر
أسبابه.
واتصل بي ما كان من تحفّي السيادة المولويّة بكم واهتزاز الدولة
لقدومكم، ومثل هذه الخلافة، أيدها الله من يثابر على المفاخر، ويستأثر
بالأخاير، وليت ذلك عند إقبالكم على الحظّ، وأنسكم باجتلاء الآمال، حتى
يحسن المتاع، ويتجمّل السرير الملوكي بمكانكم، فالظنّ أنّ هذا الباعث
الّذي هزم الآمال ونبذ الحظوظ، وهوّن المفارق العزيز سوّمكم الله حتى
يأخذ بيدكم إلى قضاء المجاهدة، ويستوي بكم على جدد [1] الرياضة، «والله
يهدي للتي هي أقوم» . كأنّي بالأقدام نقلت والبصائر بإلهام الحق صقلت
والمقامات خلفت، بعد أن استقبلت، والعرفان شيمة [2] أنواره وبوارقه،
والوصول انكشفت حقائقه لما ارتفعت عوائقه. وأمّا حالي والظنّ بكم
الاهتمام بها، والبحث عنها فغير خفيّة بالباب المولويّ أعلاه الله،
ومظهرها في طاعته، ومصدرها عن أمره، وتصاريفها في خدمته، والزعم أني
قمت المقام المحمود في التشيّع والانحياش، واستمالة الكافّة إلى
المناصحة، ومخالصة القلوب للولاية، وما يتشوّقه مجدكم، ويتطلع إليه
فضلكم، وأما اهتمامكم في خاصتها من النفس والولد، فجهينة خبره مؤدي
كتابي إليكم، ناشئ تأديبي وثمرة ترتيبي، فسهّلوا له الإذن، وألينوا له
جانب النّجوى حتى يؤدّي ما عندكم وما عندي، وخذوه بأعقاب الأحاديث إن
يقف عند مباديها، وائتمنوه على ما تحدثون، فليس بضنين [3] على السرّ.
وتشوّقي بما يرجع به إليكم سيدي وصديقي وصديقكم المقرّب في المجد
والفضل، المساهم في الشدائد، كبير المغرب، وظهير الدولة، أبو يحيى بن
أبي مدين، كان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: على جودي: والجودي: جبل مطل على جزيرة ابن عمر،
ولعلّ ابن خلدون توصد قوله تعالى «وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ 11:
44» اي رسوّ سفينة نوح عليه السلام على جبل الجودي عند الطوفان (معجم
البلدان) .
[2] شيمة: ج شيم: الخلق والطبيعة، العادة. وفي نسخة ثانية: شيمت، من
شام، شيما السيف:
استلّه. وشما وشيوما الرجل: حقق الحملة في الحرب.
[3] وفي نسخة ثانية: بظنين: ورجل ظنين: متهم. وهو ينظر الى قوله تعالى:
«وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ 81: 24» الآية 24 من سورة
التكوير.
(7/585)
الله له في شأن الولد والمخلف تشوّق الصديق
لكم، الضنين على الأيام بقلامة الظفر من ذات يديكم، فأطلعوه [1] طلع
ذلك، ولا يهمّكم بالفراق الواقع حسن، فالسلطان كبير، والأثر جميل،
والعدوّ الساعي قليل حقير، والنيّة صالحة، والعمل خالص، ومن كان للَّه
كان الله له.
واستطلاع الرئاسة المرتبة [2] الكافلة كافأ الله يده البيضاء عني وعنكم
إلى مثله من أحوالكم استطلاع من يسترجح وزانكم، ويشكر الزمان على ولائه
بمثلكم [3] .
وقد قرّرت من علو [4] مناقبكم، وبعد شأوكم وغريب منحاكم، ما شهدت به
آثاركم الشائعة الخالدة في الرئاسة، المتأدية على ألسنة الصادر والوارد
من الكافة، من حمل الدولة، واستقامة السياسة، ووقفته على سلامكم، وهو
يراجعكم بالتحيّة، ويساهمكم بالدعاء.
وسلامي على سيّدي، وفلذة كبدي ومحلّ ولدي، الفقيه الزكي الصدر أبي
الحسن نجلكم، أعزّه الله وقد وقع مني موقع البشرى حلوله من الدّولة
بالمكان العزيز والرتبة النابهة، والله يلحفكم جميعا رداء العافية،
والستر ويمهّد لكم محل الغبطة والأمن، ويحفظ عليكم ما أسبغ من نعمته،
ويجريكم على عوائد لطفه وعنايته، والسلام الكريم يخصّكم من المحبّ
الشاكر الداعي الشائق شيعة فضلكم، عبد الرحمن بن خلدون ورحمة الله
وبركاته. في يوم الفطر عام اثنين وسبعين وسبعمائة.
وكان بعث إليّ مع كتابه نسخة كتابه إلى سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس
عند ما دخل جبل الفتح، وصار إلى إيالة بني مرين، فخاطبه من هنالك بهذا
الكتاب، فرأيت أن أثبته هنا، وإن لم يكن من غرض التأليف لغرابته،
ونهايته في الجودة، وأنّ مثله لا يهمل من مثل هذا الكتاب، مع ما فيه من
زيادة الاطّلاع على أخبار الدول في تفاصيل أحوالها ونصّ الكتاب.
بانوا فمن كان باكيا يبكي ... هذي ركاب السّرى بلا شكّ
فمن ظهور الرّكاب معملة ... إلى بطون الرّبى إلى الفلك
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فأطلعوني.
[2] وفي نسخة ثانية: الرئاسة المزنية.
[3] وفي نسخة ثانية: على ولادة لمثلكم.
[4] وفي نسخة ثانية: وقد قررت لعلومه من مناقبكم.
(7/586)
تصدّع الشّمل مثل ما انحدرت ... إلى صبوب
جواهر السلك
من النّوى قبل لم أزل حذرا ... هذا النّوى جلّ مالك الملك
مولاي كان الله لكم، وتولّى أمركم. أسلّم عليكم سلام الوداع، وأدعو
الله في تيسير اللقاء والاجتماع، من بعد التفرّق والانصداع، وأقرّر
لديكم أنّ الإنسان أسير الأقدار، مسلوب الاختيار، متقلّب في حكم
الخواطر والأفكار، وأن لا بدّ لكل أوّل من آخر، وأن التفرّق لمّا لزم
كلّ اثنين بموت أو حياة، ولم يكن منه بدّ، كان خير أنواعه الواقعة بين
الأحباب، ما وقع على الوجوه الجميلة البريئة من الشرور.
ويعلم مولاي حال عبده منذ وصل إليكم من المغرب بولدكم، ومقامه لديكم
بحال قلق، ولولا تعليلكم ووعدكم وارتقاب اللطائف في تقليب قلبكم، وقطع
نواحل الأيام حريصا على استكمال سنّكم. ونهوض ولدكم واضطلاعكم بأمركم،
وتمكن هدنة وطنكم، وما تحمّل في ذلك من ترك غرضه لغرضكم، وما استقرّ
بيده من عهودكم، وأنّ العبد الآن تسبّب لكم في الهدنة من بعد الظهور
والعزّ، ونجح السعي وتأتّي لسنين، كثيرة الصلح، ومن بعد أن لم يبق لكم
بالأندلس مشغّب من القرابة، وتحرّك لمطالعة الثغور الغربيّة، وقرب من
فرضة المجاز واتصال الأرض ببلاد المشرق، لطرقته الأفكار وزعزعت صبره
رياح الخواطر، وتذكّر أشراف العمر على التمام، وعواقب الاستغراق، وسيرة
الفضلاء عند شمول البياض، فغلبته حال شديدة هزمت التعشّق بالشمل
الجميع، والوطن المليح، والجاه الكبير، والسلطان القليل النظير، وعمل
بمقتضى قوله «موتوا قبل أن تموتوا [1] » فإن صحّت الحال المرجوة من
إمداد الله، تنقّلت الأقدام إلى أمام، وقوى التعلّق بعروة الله الوثقى،
وإن وقع العجز، أو افتضح العزم، فاللَّه يعاملنا بلطفه، وهذا المرتكب
مرام صعب، لكن سهّله عليّ أمور: منها أنّ الانصراف لما لم يكن منه بد،
لم يتعيّن على غير هذه الصورة، إذ كان عندكم من باب المحال، ومنها أنّ
مولاي لو سمح لي بغرض الانصراف لم تكن لي قدرة على موقف وداعه، لا
والله! ولكان الموت أسبق إليّ، وكفى بهذه الوسيلة الحسنة التي يعرفها
وسيلة. ومنها حرصي على أن يظهر صدق دعواي فيما كنت أهتف به، وأظنّ أني
لا أصدّق، ومنها اغتنام المفارقة في زمن
__________
[1] يعني: موتوا اختيارا قبل ان تموتوا اضطرارا، وذلك يترك الشهوات.
(7/587)
الأمان والهدنة الطويلة والاستغناء إذا كان
الانصراف المفروض ضروريا قبيحا في غير هذه الحال. ومنها وهو أقوى
الأعذار أني مهما لم أطق تمام هذا الأمر أو ضاق ذرعي به، لعجز أو مرض
أو خوف طريق، أو نفاد زاد أو شوق غالب، رجعت رجوع الأب الشفيق إلى
الولد البرّ الرضيّ، إذ لم أخلّف ورائي مانعا من الرجوع من قول قبيح
ولا فعل، بل خلّفت الوسائل المرعيّة، والآثار الخالدة، والسير الجميلة،
وانصرفت بقصد شريف فقت به أشياخي وكبار وطني وأهل طوري، وتركتكم على
أتمّ ما أرضاه، مثنيا عليكم داعيا لكم، وإن فسح الله في الأمد، وقضي
الحاجة، فأملى العودة إلى ولدي وتربتي، وإن قطع الأجل فأرجو أن أكون
ممّن وقع أجره على الله.
فإن كان تصرّفي صوابا وجاريا على السّداد، فلا يلام من أصاب، وإن كان
عن حمق، وفساد عقل، فلا يلام من اختلّ عقله، وفسد مزاجه، بل يعذر ويشفق
عليه، ويرحم، وإن لم يعط مولاي أمري حقه من العدل، وجليت الذنوب، ونشرت
[1] بعدي العيوب، فحياؤه وتناصفه ينكر ذلك، ويستحضر الحساب [2] من
التربية والتعليم وخدمة السّلف، وتخليد الآثار وتسمية الولد وتلقيب
السلطان، والإرشاد إلى الأعمال الصالحة، والمداخلة والملابسة، لم
يتخلّل ذلك قط خيانة في مال ولا سرّ، ولا غش في تدبير ولا تعلّق به
محار [3] ، ولا كدرة نقص، ولا حمل عليه خوف منكم، ولا طمع فيما بيدكم،
وإن لم تكن هذه دواعي الرّعي والوصلة والإبقاء، ففيم تكون بين بني آدم؟
وأنا قد رحلت فلا أوصيتكم بمال، فهو عندي أهون متروك، ولا بولد فهم
رجالكم، وخدّامكم، ومن يحرص مثلكم على الاستكثار منهم، ولا بعيال، فهي
من مزيّات بيتكم، وخواصّ داركم، إنّما أوصيكم بحظّي العزيز، كان علي
بوطنكم كم، وهو أنتم، فأنا أوصيكم بكم، فارعوني فيكم خاصّة. أوصيكم
بتقوى الله والعمل لغد، وقبض عنان اللهو في موطن الجدّ، والحياء من
الله الّذي محّص وأقال، وأعاد النعمة بعد زوالها لينظر كيف تعملون،
وأطلب منكم عوض ما وفّرته
__________
[1] وفي نسخة ثانية: حشرت.
[2] وفي نسخة ثانية: الحسنات.
[3] وفي نسخة ثانية: ولا تعلّق به عار.
(7/588)
عليكم من زاد طريق ومكافاة وإعانة، زادا
سهلا عليكم، وهو أن تقولوا لي: غفر الله لك ما ضيّعت من حقّي خطأ أو
عمدا، وإذا فعلتم ذلك فقد رضيت.
واعلموا أيضا على جهة النصيحة أنّ ابن الخطيب مشهور في كل قطر، وعند كل
ملك، واعتقاده وبرّه والسؤال عنه وذكره بالجميل، والاذن في زيارته
حنانة منكم [1] وسعه ذرع، ودها، فإنّما كان ابن الخطيب بوطنكم سحابة
رحمة نزلت، ثم أقشعت وترك الأزاهر تفوح والمحاسن تلوح، ومثاله معكم مثل
المرضعة، أرضعت السياسة، والتدبير الميمون، ثم رفدتكم في مهد الصلح
والأمان، وغطّتكم بقناع العافية، وانصرفت إلى الحمّام تغسل اللبن
والوضر، وتعود فإن وجدت الرّضيع نائما فحسن، أو قد انتبه فلم تتركه
إلّا في حدّ الانفطام. ونختم هذه العزارة بالحلف الأكيد أني ما تركت
لكم وجه نصيحة في دين ولا في دنيا إلّا وقد وفّيت لكم، ولا فارقتكم
إلّا عن عجز، ومن ظنّ خلاف هذا فقد ظلمني وظلمكم، والله يرشدكم ويتولّى
أمركم. ويعول [2] خاطركم في ركوب البحر.
انتهت نسخة الكتاب وفي طيّها هذه الأبيات:
صاب مزن الدموع من جفن صبّك ... عند ما استروح الصبا من مهبّك
كيف يسلو يا جنّتي عنك وقد [3] ... كان قبل الوجود جنّ بحبّك
ثم قل كيف كان قبل انتشاء الروح ... من أنسك الشّهيّ وقربك
لم يدع بيتك المنيع حماه ... لسواه إلّا بيت ربّك
أول عذري الرّضى فما جئت بدعا ... دمت والفضل والرّضى من دأبك
وإذا ما ادّعيت كربا لفقدي ... أين كربي ووحشتي من كربك
ولدي في ذراك وكري في دوحك ... لحدي وتربتي في تربك
يا زمانا أغرى الفراق بشملي ... ليتني أهبتي أخذت لحرّبك
أركبتني صروفك الصّعب حتى ... جئت بالبين وهو أصعب صعبك
وكتب آخر النسخة يخاطبني.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: نجاية منكم.
[2] وفي نسخة ثانية: ونقول.
[3] وفي نسخة ثانية: كيف يسلويا جنّتي عنك، وقد.
(7/589)
هذا ما تيسّر، والله وليّ الخيرة لي ولكم
من هذا الخباط [1] الّذي لا نسبة بينه وبين أولى الكمال، ردّنا الله
إليه، وأخلص توكّلنا عليه، وصرف الرغبة على ما لديه.
وفي طيّ النسخة مدرجة نصّها.
رضي الله عن سيادتكم، أونسكم بما صدر مني أثناء هذا الواقع، مما
استحضره الولد في الوقت، وهو يسلّم عليكم بما يجب لكم، وقد حصل من حظوة
هذا المقام الكريم على حظّ وافر، وأجزل إحسانه ونوّه بجرايته، وأثبت
الفرسان خلفه، والحمد للَّه.
ثم اتّصل مقامي ببسكرة والمغرب الأوسط، مضطرب بالفتنة المانعة من
الاتصال بالسلطان عبد العزيز وحمزة بن راشد ببلاد مغراوة والوزير عمر
بن مسعود في العساكر يحاصره بحصن تاجحمومت وأبو زيان العبد الوادي
ببلاد حصين وهم مشتملون عليه وقائمون بدعوته.
ثم سخط السلطان وزيره عمر بن مسعود ونكر منه تقصيره في أمر حمزة
وأصحابه، فاستدعاه إلى تلمسان وقبض عليه، وبعث به إلى فاس معتقلا، فحبس
هنالك، وجهّز العساكر مع الوزير ابن غازي، فنهض إليه، وحاصره ففرّ من
الحصن ولحق بمليانة مجتازا عليها، فأنذر به عاملها فتقبّض عليه، وسيق
إلى الوزير في جماعة من أصحابه، فضربت أعناقهم، وصلبهم عظة ومزدجر
الأهل الفتنة.
ثم أوعز السلطان بالمسير إلى حصين وأبي زيّان، فسار في العساكر واستنفر
أحياء العرب من زغبة فأوعبهم ونهض إلى حصين فامتنعوا بجبل تيطري، ونزل
الوزير بعساكره ومن معه من أحياء زغبة على جبل تيطري من جهة التل، فأخذ
بمخنقهم، وكاتب السلطان أشياخ الزواودة من رياح بالمسير إلى حصار تيطري
من جهة القبلة.
وكاتب أحمد بن مزني صاحب بسكرة بإمدادهم بأعطياتهم، وكتب إليّ يأمرني
بالمسير بهم لذلك، فاجتمعوا عليّ، وسرت بهم أوّل سنة أربع وسبعين
وسبعمائة حتى نزلنا بالقطفة [2] ، في جماعة منهم على الوزير بمكانه من
حصار تيطري، فحدّ لهم حدود الخدمة، وشارطهم على الجزاء. ورجعت إلى
أحيائهم بالقطفة، فاشتدوا في
__________
[1] الخباط: داء كالجنون.
[2] القطفة: تقع شرقي مدينة مليانة.
(7/590)
حصار الجبل وألجئوهم بسوامّهم وظهرهم إلى
قنّته، فهلك لهم الخفّ والحافر [1] ، وضاق ذرعهم بالحصار من كل جانب،
وراسل بعضهم في الطاعة خفية فارتاب بعضهم من بعض وانفضّوا ليلا من
الجبل، وأبو زيان معهم ذاهبين إلى الصحراء، واستولى الوزير على الجبل
بما فيه من مخلّفهم، ولما بلغوا مأمنهم من القفر نبذوا إلى أبي زيّان
عهده، فلحق بجبال غمرة، ووفد أعيانهم على السلطان عبد العزيز بتلمسان،
وفاءوا إلى طاعته فتقبّل طاعتهم، وأعادهم إلى أوطانهم، وتقدّم الوزير
عن أمر السلطان بالمسير مع أولاد يحيى بن علي بن سبّاع للقبض على أبي
زيّان في جبل غمرة، وفاء بحق الطاعة لأنّ غمرة من رعاياهم، فمضينا
لذلك، فلم نجده عندهم، وأخبرونا أنه ارتحل عنهم إلى بلد واركلا من مدن
الصحراء، فنزل على صاحبها أبي بكر بن سليمان، فانصرفنا من هنالك، ومضى
أولاد يحيى بن علي إلى أحيائهم، ورجعت أنا إلى أهلي ببسكرة، وخاطبت
السلطان بما وقع في ذلك، وأقمت منتظرا أوامره حتى جاءني استدعاؤه إلى
حضرته فرحلت إليه.
(فضل الوزير ابن الخطيب [2] )
وكان الوزير ابن الخطيب آية من آيات الله في النّظم والنّثر، والمعارف
والأدب، لا يساجل مداه [3] ، ولا يهتدى فيها بمثل هداه.
فممّا كتب عن سلطانه إلى سلطان تونس جوابا عن كتاب وصل إليه مصحوبا
بهديّة من الخيل والرّقيق، فراجعهم عنه بما نصّه إلى آخره:
الخلافة التي ارتفع في عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف، واستقلّت
مباني فخرها الشائع، وعزّها الذائع، على ما أسّسه الأسلاف ووجب لحقّها
الجازم، وفرضها اللازم الاعتراف، ووسعت الآملين لها الجوانب الرحيبة
والأكناف، فامتزاجنا بعلائها [4] المنيف، وولائها الشريف، كما امتزج
الماء والسلاف، وثناؤنا
__________
[1] يعني: الجمال والخيول.
[2] هذا الفصل غير موجود في نسختنا وقد أضفناه من نسخة بولاق المصرية،
طبعة دار الكتاب اللبناني حتى لا يفوت شيء عن القارئ من هذا الكتاب
النفيس.
[3] المدّ: مصدر المدى، يقال بيني وبينه قدر مدّ البصر «أي مداه» .
[4] العلاء والعلى: الرفعة والشرف.
(7/591)
على مجدها الكريم، وفضلها العميم، كما
تأرجت الرياض الأفواف [1] ، لما زارها الغمام الوكاف [2] ، ودعاؤنا
بطول بقائها، واتصال علائها، يسمو به إلى قرع أبواب السموات العلا
الاستشراف [3] ، وحرصنا على توفية حقوقها العظيمة، وفواضلها [4]
العميمة، لا تحصره الحدود، ولا تدركه الأوصاف، وإن عذر في التقصير عن
نيل ذلك المرام الكبير الحقّ والإنصاف. خلافة وجهة تعظيمنا إذ توجّهت
الوجوه ومن نؤثره إذا أهمّنا ما نرجوه، ونفدّيه ونبدّيه [5] إذا استمنح
المحقوب واستدفع المكروه السلطان الكذا [6] بن أبي إسحاق بن السلطان
الكذا، أبي يحيى بن أبي بكر بن السلطان الكذا، أبي زكريا بن السلطان
الكذا، أبي إسحاق ابن الأمير الكذا، أبي زكريا ابن الشيخ الكذا، أبي
محمّد بن عبد الواحد بن أبي حفص، أبقاه الله ومقامه مقام إبراهيم رزقا
وأمانا. لا يخص جلب الثمرات إليه وقتا ولا يعيّن زمانا، وكان على من
يتخطّف الناس من حوله [7] مؤيدا باللَّه معانا.
معظّم قدره العالي على الأقدار، ومقابل داعي حقّه بالابتدار، المثنى
على معاليه المخلدة الآثار، في اصونة [8] النّظام والنّثار [9] ، ثناء
الروضة المعطار، على الامطار، الداعي الى الله بطول بقائه في عصمة
منسدلة الأستار، وعزة ثابتة المركز مستقيمة المدار، وان يختم له بعد
بلوغ غايات الحال، ونهاية الأعمال، بالزلفى وعقبي الدار.
عبد الله الغنيّ باللَّه أمير المسلمين، محمّد بن مولانا أمير
المسلمين، أبي الوليد إسماعيل ابن فرج بن نصر.
__________
[1] كذا بالأصول، ولعل أصل الكلام: «الرياض بالافواف» ، والفوف، بالضم:
الزهر والجمع أفواف.
[2] وكف الماء: سال.
[3] الاستشراف: التطلع الى الشيء.
[4] الفواضل: الأيادي الجميلة.
[5] فداه: قال له فداك، ونبديه: نبرزه. ولعل المعنى: نضعه في مكان
ممتاز.
[6] ادخل ابن الخطيب «ل» على «كذا» الموضوعة للكناية عما لم يرد
المتكلم ذكره وقد شاع في رسائله هذا الاستعمال.
[7] إشارته الى الآيات 35- 37 من سورة إبراهيم واضحة.
[8] جمع صوان، وهو ما صنت به الشيء.
[9] النثار: النثر.
(7/592)
سلام كريم كما حملت أحاديث الازهار نسمات
الأسحار، وروت ثغور الاقاحي والبهار، عن مسلسلات الأنهار، وتجلى على
منصة الاشتهار، وجه عروس النّهار، يخص خلافتكم الكريمة النّجار،
العزيزة الجار ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الّذي أخفى حكمته البالغة عن أذهان البشر، فعجزت عن
قياسها، وجعل الأرواح «اجنادا مجنّدة» - كما ورد في الخبر [1]- تحنّ
الى أجناسها، منجد هذه الملّة من أوليائه الجلّة بمن يروض الآمال بعد
شماسها [2] ، وييسّر الأغراض قبل التماسها، ويعنى بتجديد المودّات في
ذاته وابتغاء مرضاته على حين أخلاف لباسها، الملك الحقّ، وأصل الأسباب
بحوله بعد انتكاث امراسها [3] ومغني النفوس بطوله، بعد إفلاسها- حمدا
يدرّ أخلاف [4] النّعم بعد إبساسها [5] ، وينشر رمم الأموال من أرماسها
[6] ، ويقدس النّفوس بصفات ملائكة السموات بعد إبلاسها [7] .
والصلاة والسّلام على سيّدنا ومولانا محمد رسوله سراج الهداية ونبراسها
[8] عند اقتناء الأنوار واقتباسها، مطهّر الأرض من أوضارها [9]
وأدناسها، ومصطفى الله من بين ناسها، وسيّد الرّسل الكرام ما بين شيثها
وإلياسها، الآتي مهيمنا على آثارها، في حين فترتها [10] ومن بعد نصرتها
واستيئاسها [11] ، مرغم الضّراغم في أخياسها [12] ، بعد افترارها
وافتراسها [13] ، ومعفّر أجرام الأصنام ومصّمت أجراسها.
__________
[1] يشير الى الحديث: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما
تناكر منها اختلف» .
[2] شمست الدابة شماسا. شردت وجمحت.
[3] جمع مرس، وهو الحبل. وانتكث الحبل. انتقض بعد ان كان مبرما.
[4] الأخلاف، جمع خلف (بالكسر) ، وهو الضرع.
[5] أبس بالناقة. دعا ولدها لتدر على حالبها.
[6] جمع رمس، وهو القبر.
[7] الإبلاس: القنوط، وقطع الرجاء.
[8] النبراس (بالكسر) : المصباح.
[9] أو ضارها: ج وضر: وسخ.
[10] الفترة: ما بين كل نبيين، أو رسولين من زمان انقطعت فيه الرسالة.
[11] استيأس: يئس، وابن الخطيب ينظر الى الآية: «حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ
نَصْرُنا 12: 110 ... إلخ» .
[12] جمع خيس، وهو موضع الأسد.
[13] افتر الأسد: أبدى أسنانه، يريد بعد أن كانت تفتر عن أسنانها
وتفترس.
ابن خلدون م 38 ج 7
(7/593)
والرّضا عن آله وأصحابه وعثرته وأحزابه،
حماة شرعته البيضاء وحرّاسها، وملقحي غراسها، ليوث الوغى عند احتدام
[1] مراسها [2] ، ورهبان الدّجى تتكفّل مناجاة السّميع العليم، في وحشة
الليل البهيم بإيناسها، وتفاوح نسيم الأسحار، عند الاستغفار، بطيب
أنفاسها.
والدّعاء لخلافتكم العليّة المستنصريّة بالصّنائع التي تشعشع أيدي
العزّة القعساء [3] من أكواسها، ولا زالت العصمة الإلهية كفيلة
باحترامها واحتراسها، وأنباء الفتوح، المؤيّدة بالملائكة والرّوح،
ريحان جلّاسها وآيات المفاخر التي ترك الأول للآخر، مكتتبة الأسطار
بأطراسها، وميادين الوجود مجالا لجياد جودها وبأسها، والعز والعدل
منسوبين لفسطاطها [4] وقسطاسها، وصفيحة [5] النّصر العزيز تقبض كفّها،
المؤيّدة باللَّه، على رياسها [6] ، عند اهتياج أضدادها، وشره [7]
أنكاسها [8] ، لانتهاب البلاد وانتهاسها [9] وهبوب رياح رياحها وتمرّد
مرداسها [10] .
فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم من كتائب نصره أمدادا تذعن أعناق
الأنام، لطاعة ملككم المنصور الأعلام، عند إحساسها [11] ، وآتاكم من
آيات العنايات، آية تضرب الصّخرة الصّماء، ممّن عصاها بعصاها، فتبادر
بانبجاسها [12] ،- من
__________
[1] الاحتدام: شدة الحر، واحتدمت النار: التهبت.
[2] المراس: الممارس.
[3] عزة قعساء: ثابتة.
[4] الفسطاط: المدينة، ومجتمع أهل المصر حول جامعهم.
[5] الصفيحة: السيف العريض.
[6] رئاس السيف، ورياسه: مقبضه، وقائمه.
[7] الشرة: شدة الحرص، وأسوؤه.
[8] الأنكاس: جمع نكس، وهو الرجل الضعيف.
[9] انتهس اللحم: أخذه بمقدم أسنانه. والمراد الاستيلاء على الأراضي
وانتقاصها من الأطراف، فعل من يتنقص قطعة اللحم بالأكل.
[10] رياح من أكثر القبائل الهلالية جمعا، وأوفرهم عددا. وأبوهم: رياح
بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر. والرئاسة على رياح في عهد ابن
خلدون لأبناء داود بن مرداس بن رياح، وإلى داود هذا تنتسب «الدواودة» .
[11] الإحساس: الرؤية والعلم.
[12] انبجس الماء: تفجر، وفي الكلام معنى الآية:
« ... وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ
بِعَصاكَ الْحَجَرَ، فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً 7:
160 إلخ» آية 160 من سورة الأعراف.
(7/594)
حمراء غرناطة، حرسها الله، وأيام الإسلام،
بعناية الملك العلّام تحتفل وفود الملائكة الكرام، لولائمها وأعراسها،
وطّاعين الطّعان، في عدوّ الدّين المعان، تجدّد عهدها بعام عمواسها [1]
.
والحمد للَّه حمدا معادا يقيّد شوارد النّعم، ويستدرّ مواهب الجود
والكرم ويؤمّن من انتكاث الجدود [2] وانتكاسها [3] ، وليّ الآمال
ومكاسها [4] ، وخلافتكم هي المثابة التي يزهى الوجود بمحاسن مجدها، زهو
الرياض بوردها وآسها، وتستمدّ أضواء الفضائل من مقباسها [5] ، وتروي
رواة الإفادة، والإجادة غريب الوجادة [6] ، عن ضحّاكها وعبّاسها [7] .
وإلى هذا أعلى الله معارج قدركم، وقد فعل، وأنطق بحجج فخركم من احتفى
وانتعل، فإنّه وصلنا كتابكم الّذي حسبناه، على صنائع الله لنا، تميمة
[8] لا تلقع [9] بعدها عين، وجعلناه- على حلل مواهبه- قلادة لا يحتاج
معها زين، ودعوناه من جيب الكنانة [10] آية بيضاء الكتابة، لم يبق معها
شكّ ولا مين، وقرأنا منه وثيقة ودّ هضم فيها عن غريم الزّمان دين،
ورأينا منه إنشاء، خدم اليراع بين يديه وشّاء، واحتزم بهميان [11]
عقدته مشّاء، وسئل عن معانيه الاختراع فقال: «إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ
إِنْشاءً» 56: 35
__________
[1] عمواس، بفتح العين والميم، وبسكون الميم مع فتح العين أو كسرها:
قرية بفلسطين بين الرملة وبيت المقدس. وفيها وقع الطاعون الّذي كان في
سنة 18 هـ، مات فيه كثير من الناس، ويقال انه أول طاعون كان في
الإسلام. تاريخ الطبري 4/ 201- 203، معجم البلدان، تاج العروس (عمس) .
[2] انتكث: انصرف. والجد: الحظ والبخت، والجمع: الجدود.
[3] انتكس: انقلب على رأسه، وخاب وخسر.
[4] المكاس: المشاحة، والمشاكسة.
[5] أقبس فلان: أعطى نارا، والمقباس: ما قبست به النار.
[6] الوجادة (بالكسر) : أن تجد بخط غيرك شيئا، فتقول عند الرواية: وجدت
بخط فلان كذا، وحينذاك يقال: «هذه رواية بالوجادة» .
وللمحدثين في كيفية التحديث عن طريق الوجادة، ودرجة الثقة بها،
وشروطها، تفصيل تجده في «فتح المغيث» للعراقي 3/ 15 وما بعدها.
[7] المسمون ب «الضحاك» ، و «عباس» من المحدثين كثير، وليس يريد ابن
الخطيب أحدا منهم بعينه، وانما يقصد الى «الطباق» بين ضحاك، وعباس.
[8] التميمة: عوذة تعلق على الإنسان يتعود بها.
[9] لقعه بعينه: أصابه بها، ويقول أبو عبيدة: ان اللقع لم يسمع الا في
الإصابة بالعين.
[10] الكنانة: جعبة الشهام تتخذ من جلود لا خشب فيها.
[11] الهميان (بالكسر) : المنطقة، والكلام على تشبيه القلم المتخذ من
القصب، وفي وسطه عقدة، بالرجل قد اتخذ منطقة في وسطه.
(7/595)
، فأهلا به من عربيّ أبيّ يصف السّانح
والبانة [1] ، ويبين فيحسن الإبانة، أدّى الأمانة، وسئل عن حيّه فانتمى
إلى كنانة [2] ، وأفصح وهو لا ينبس [3] ، وتهلّلت قسماته وليل حبره
يعبس، وكأنّ خاتمه المقفل على صوانه [4] ، المتحف بباكر الورد في غير
أوانه، رعف من مسك عنوانه، وللَّه من قلم دبّج تلك الحلل، ونقع بمجاج
[5] الدوّاة المستمدّة من عين الحياة الغلل [6] ، فلقد تخارق في الجود،
مقتديا بالخلافة التي خلد فخرها في الوجود، فجاد بسرّ البيان ولبابة،
وسمح في سبيل الكرم حتّى بماء شبابه، وجمع لفرط بشاشته وفهامته، بعد
شهادة السّيف بشهامته، فمشى من التّرحيب، في الطّرس الرّحيب، على أم
هامته.
وأكرم به من حكيم، أفصح بملغوز [7] الإكسير [8] ، في اللّفظ اليسير،
وشرح بلسان الخبير، سرّ صناعة التّدبير [9] ، كأنما خدم الملكة
السّاحرة [10] بتلك البلاد، قبل اشتجار الجلاد [11] ، فآثرته بالطّارف
من سحرها والتّلاد، أو عثر بالمعلّقة، وتيك القديمة المطلّقة، بدفية
دار، أو كنز تحت جدار، أو ظفر لباني
__________
[1] السانح: ما أتاك من عن يمينك من ظبي أو طير، وهو مما يتيمنون به.
والبانة واحدة البان، وهو شجر يسمو ويطول في استواء مثل نبات الأثل،
ويتخذ منه دهن.
[2] كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، أبو القبيلة، وهو الجد
الرابع للرسول صلى الله عليه وسلم.
[3] التبس: أقل الكلام، وما نبس بكلمة: أي ما تكلم.
[4] الصوان: ما تصون به الشيء.
[5] مجاج الدواة: ما تمجه.
[6] نقع الماء غلته: أروي عطشه.
[7] كذا في الأصول. والصواب «ملغز» ، لأن فعله رباعي.
[8] الإكسير: الكيمياء وهي كلمة مولدة. ولأهل الصنعة في الإكسير كلام
مغلق طويل فيه العجب.
ويطلقون الإكسير أيضا على «الحجر المكرم» ، وهو المادة التي تلقى على
المواد حال ذوبانها، فتحولها الى ذهب أو فضة بزعمهم. وانظر تاج العروس
(كسر) .
[9] صناعة التدبير: يعني بها تحويل المعادن الى الذهب أو الفضة، وتلك
كانت، ولا تزال، مشكلة المشتغلين بعلم الكيمياء القديم.
[10] يعني بالملكة الساحرة الكاهنة البربرية، من قبيلة جراوة إحدى
قبائل زناتة.
[11] اشتجر القوم: تشابكوا، وتشاجروا بالرماح: تطاعنوا. والجلاد: الضرب
بالسيف.
(7/596)
الحنايا [1] ، قبل أن تقطع به عن أمانيه
المنايا، ببديعة، أو خلف جرجير [2] الرّوم، قبل منازلة القروم، على
وديعة، أو أسلمه ابن أبي سرح [3] ، في نشب للفتح وسرح [4] ، أو حتم له
روح بن حاتم [5] ببلوغ المطلب، أو غلب الحظوظ بخدمة آل الأغلب [6] ، أو
خصّه زيادة الله بمزيد [7] ، أو شارك الشّيعة في أمر أبي يزيد [8] ، أو
سار على منهاج، في مناصحة بني صنهاج، وفضح بتخليد أمداحهم كلّ هاج.
وأعجب به، وقد عزّز منه مثنى البيان بثالث، فجلب سحر الأسماع، واسترقاق
الطّباع، بين مثان للإبداع ومثالث، كيف اقتدر على هذا المحيد، وناصح مع
التثليث مقام التوحيد، نستغفر الله وليّ العون، على الصّمت والصّون،
فالقلم هو الموحّد قبل الكون، والمتّصف من صفات السّادة، أولي العبادة،
بضمور الجسم
__________
[1] الحنايا: جمع حنية، وهي القوس. ويريد بها: مجرى الماء الّذي اجتلب
الى «قرطاجنة» ووضع على أعمدة عالية، عقدت بأقواس وصلت بين عدة جبال
منحازة من بعض، ثم أجرى الماء فوق هذه «الحنايا» العالية. وكانت
المسافة بين قرطاجنة، وبين منبع الماء ثلاثة أيام، ولا تزال بقايا هذه
موضع العبرة من مشاهديها. انظر ياقوت- (معجم البلدان) .
[2] هو الطريق الّذي كانت له الولاية على المغرب من قبل الإمبراطور
البيزنطي. وقد انفصل عن بيزنطة، واستقل بالمغرب عند الفتح الإسلامي،
والعرب يسمونه جرجير. وابن الخطيب يشير اليّ ما كان من الحوادث بين
الجيش الإسلامي، وبين جرجير أيام الفتح.
[3] هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان كتاب الوحي للرسول صلّى الله
عليه وسلم، ثم ارتد، وأهدر دمه يوم فتح مكة، وكان محمد بن أبي بكر
الصديق يقول عنه حين ولي مصر: انه لم يعد الى الإسلام بعد ردته. ابن
الأثير 3/ 57، 82.
[4] النشب: المال والعقار، والسرح: المال يسأم في المرعى، يغدى به
ويراح. وقد صالح أهل افريقية عبد الله بن أبي سرح على مليونين وخمسمائة
ألف دينارا، وبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وسهم الراجل ألفا، وقد
أصبح هذا المبلغ مضرب المثل، وإلى ذلك ينظر ابن الخطيب. انظر العبرم 2.
[5] هو روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، كان من الكرماء
الأجواد. ولي الكوفة، ثم السند، ثم البصرة أيام المهدي، وولي إفريقية
أيام الرشيد، وبها توفي سنة 174. وفيات الأعيان 1/ 235.
[6] هو الأغلب بن سالم، أحد الذين قاموا مع أبي مسلم الخراساني بالدعوة
العباسية، وتولى الأغلب أيام المنصور ولاية القيروان، وابنه إبراهيم بن
الأغلب، هو رأس دولة الأغالبة بتونس، التي تبتدئ سنة 184 هـ، وتنتهي
سنة 296 هـ.
[7] زيادة الله هو ثاني ملوك بني الأغلب، (201- 223) قلده الخليفة
المأمون العباسي.
[8] هو أبو يزيد: مخلد بن كيداد (أو كتداد) بن سعد الله بن مغيث
اليفرني، وقد عرف أيضا بصاحب الحمار.
(7/597)
وصفرة اللّون، إنّما هي كرامة فاروقيّة،
وأثارة [1] من حديث سارية [2] وبقيّة، سفر وجهها في الأعقاب، بعد طول
الانتقاب، وتداول الأحقاب، ولسان مناب، عن كريم جناب، وإصابة السّهم
لسواه محسوبة، وإلى الرّامي الّذي سدّده منسوبة، ولا تنكر على الغمام
بارقة، ولا على المتحقّقين بمقام التّوحيد كرامة خارقة، فما شاءه الفضل
من غرائب برّ وجد، ومحاريب خلق كريم ركع الشّكر فيها وسجد، حديقة بيان
استثارت نواسم الإبداع من مهبّها، واستزارت غمائم الطباع من مصبّها،
فآتت أكلها مرّتين بإذن ربّها، لا. بل كتيبة عزّ طاعنت بقنا [3]
الألفات سطورها، فلا يرونها النّقد ولا يطورها [4] ، ونزعت عن قسيّ
النّونات خطوطها، واصطفّت من بياض الطّرس [5] ، وسواد النّفس، بلق [5]
تحوطها.
فما كأس المدير، على الغدير [6] ، بين الخورنق [7] والسّدير [8] ،
تقامر بنرد [9] الحباب، عقول ذوي الألباب، وتغرق كسرى في العباب [10] ،
وتهدي،- وهي الشّمطاء [11]- نشاط الشّباب، وقد أسرج ابن سريج [12]
وألجم، وأفصح
__________
[1] الأثارة البقية.
[2] يشير الى قصة سارية بن زنيم بن عمر بن عبد الله بن جابر الكناني
أمير الجيش الإسلامي في وقعة «نهاوند» ، فقد كمن له العدو في جبل، ولم
يكن قد علم به، فناداه عمر رضي الله عنه من فوق المنبر بالمدينة يحذره
«يا سارية! الجبل!» فسمع سارية صوت عمر. وهي كرامة ذكروها للفاروق رضي
الله عنه. تاج العروس (سري) .
[3] جمع قناة، وهي الرمح.
[4] لا يطورها: لا يقرب اليها.
[5] الطرس: الصحيفة التي محيت ثم كتبت. والنقس: الحبر. وبلق: جمع أبلق،
أو بلقاء، وهي الخيول التي في لونها سواد وبياض.
[6] يشير إلى قصة امرئ القيس يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل.
[7] الخورنق: قصر النعمان بن المنذر بظاهر الحيرة.
[8] السدير قصر للنعمان أيضا بالحيرة، قريب من الخورنق.
[9] النرد: أعجمي معرب، وورد في الحديث: «نردشير» ، وهو نوع مما يقامر
به.
[10] بنى كسرى أبرويز- فوق دجلة- بناء اتخذه لمجالس أنسه، ففاضت دجلة
وأغرقته مرات، أنقذ كسرى فيها من الغرق- والى ذلك يشير ابن الخطيب.
انظر الطبري 2/ 144- 145.
[11] امرأة شمطاء: بيضاء الشعر، ويكنى بذلك عن قدم الخمر.
[12] أبو يحيى عبيد الله بن سريج المغني المعروف.
(7/598)
الغريض [1] بعد ما جمجم، وأعرب النّاي [2]
الأعجم، ووقّع معبد [3] بالقضيب، وشرعت في حساب العقد [4] بنان الكفّ
الخضيب، وكأنّ الأنامل فوق مثالث العود ومثانيه، وعند إغراء الثّقيل
بثانية [5] ، وإجابة صدى الغناء بين مغانيه، المراود تشرع في الوشي، أو
العناكب تسرع في المشي، وما المخبر بنيل الرّغائب، أو قدوم الحبيب
الغائب، لا. بل إشارة البشير، بكمّ المشير، على العشير، بأجلب للسرور،
من زائره المتلقّى بالبرور، وأدعى للحبور، من سفيره المبهج السفور، فلم
نر مثله من كتيبة كتاب تجنب [6] الجرد، تمرح في الأرسان [7] ، وتتشوّف
مجالي ظهورها إلى عرائس الفرسان، وتهزّ معاطف [8] الارتياح، من صهيلها
الصراح، بالنّغمات الحسان، إذا أوجست الصّريخ نازعت أفناء الأعنّة،
وكاثرت بأسنّة آذانها مشرعة الأسنّة، فإن ادّعى الظليم [9] أشكالها فهو
ظالم، أو نازعها الظّبي هواديها [10] وأكفالها فهو هاذ أو حالم، وإن
سئل الأصمعي [11] عن عيوب الغرر والأوضاح [12] ، قال مشيرا إلى وجوهها
الصّباح [13] :
__________
[1] أبو يزيد، وأبو مروان: عبد الملك. ولقب بالغريض لأنه كان طري الوجه
غض الشباب، وهو من مولدي البربر. أخذ الغناء عن ابن سريج، وعارضه في كل
أصواته.
[2] الناي: المزمار.
[3] هو معبد بن وهب المغني المعروف. غنى في دولة بني أمية، ومات في
أيام الوليد بن يزيد بدمشق.
[4] حساب العقد، ويسمى حساب العقود أيضا: نوع من الحساب يكون بأصابع
اليدين، ويقال له حساب اليد، وفي الحديث: «وعقد عقد تسعين» . وقد ألفوا
فيه رسائل وأراجيز، منها أرجوزة أبي الحسن علي الشهير بابن المغربي،
وشرحها عبد القادر بن علي بن شعبان العوفيّ.
[5] كذا في الأصول، ومقتضى السياق: «الثقيل الأول بثانيه» .
[6] من الجنب: وهو أن تجنب فرسا عريا عند الرهان الى الفرس الّذي تسابق
عليه، فإذا فتر المركوب، تحولت الى المجنوب. ويريد أن هذه الرسالة
بمنزلة خيول احتياطية.
[7] جمع رسن، وهو الحبل يتخذ زماما للدابة وغيرها.
[8] المعاطف: الأردية، والعرب تضع الرداء موضع البهجة، والحسن،
والبهاء، والنعمة.
[9] الظليم: فرس فضالة بن هند بن شريك الأسدي. والظليم ذكر النعام.
[10] هوادي الخيل: أعناقها.
[11] عبد الملك بن قريب، اللغوي المشهور (122- 216) ، على خلاف في
المولد والوفاة. وابن الخطيب يشير الى ما عرف عن الأصمعي من خبرته
الواسعة بالخيل، وله في ذلك مع أبي عبيدة معمر بن المثنى قصة طريفة.
انظرها في ترجمة الأصمعي في وفيات ابن خلكان 1/ 362.
[12] جمع غرة: وهي البياض، والوضح: البياض أيضا. ويكنى به في الفرس عن
البرص، والجمع أوضاح.
[13] وجه صبيح: جميل، والجمع صباح.
(7/599)
«جلدة بين العين والأنف سالم» [1]
من كلّ عبل الشّوى [2] ، مسابق للنّجم إذا هوى، سامي التّليل [3] ،
عريض ما تحت الشّليل [4] ، ممسوحة أعطافه بمنديل النّسيم البليل.
من أحمر كالمدام، تجلى على النّدام [5] ، عقب الفدام [6] ، أتحف لونه
بالورد، في زمن البرد، وحيّي أفق محيّاه بكوكب السّعد، وتشوّف الواصفون
إلى عدّ محاسنه فأعيت على العد، بحر يساجل البحر عند المدّ، وريح تباري
الرّيح عند الشّدّ [7] ، بالذّراع الأشدّ [8] ، حكم له مدير فلك الكفل
باعتدال فصل القدّ، وميّزه قدره المميّز عند الاستباق، بقصب السّباق
[9] ، عند اعتبار الحدّ، وولّد مختطّ غرّته أشكال الجمال، على الكمال،
بين البياض والحمرة ونقاء الخد، وحفظ رواية الخلق الوجيه [10] ، عن
جدّه الوجيه [11] ، ولا تنكر الرواية على الحافظ ابن الجدّ [12] .
__________
[1] شطر بيت قاله عبد الله بن عمر لما لامه الناس في حب ابنه سالم،
وأوله:
يديرونني عن سالم وأريغهم ... وجلدة إلخ
وجعله لمحبته بمنزلة جلدة بين عينه وأنفه. وفي الحديث: «لا تؤذوا
عمارا، فإنما عمار جلدة ما بين عيني» . وسالم هذا، يكنى أبا عمر، وأبا
المنذر، من خيار الناس، وفقهائهم. مات بالمدينة سنة 106.
لسان العرب (سلم) .
[2] شوى الفرس: قوائمه، وعبل الشوى: غليظ القوائم.
[3] التليل العنق.
[4] الشليل الحلس، والكساء الّذي يجعل تحت الرحل.
[5] جمع نديم وهو الشريب الّذي ينادمك.
[6] الفدام الخرقة التي يضعها الساقي من الأعاجم، والمجوس على فمه عند
السقي. وكانت عادتهم، إذا سقوا، ان يفدموا أفواههم. وفدام الإبريق،
والكوز: المصفاة التي توضع عليه.
[7] الشد: العدو.
[8] الأشد الأقوى، يقال حلبتها بالساعد الأشد، أي حين لم اقدر على
الرّفق، أخذت الأمر بالشدة والقوة.
[9] كانت الغاية التي يحددونها للسباق تذرع بالقصب، ثم تركز القصبة في
منتهى الغاية، فمن سبق اقتلعها وأخذها، ليعلم الناس أنه السابق من غير
نزاع، ويقال حاز أو أحرز قصبة السبق. تاج (قصب) .
[10] الوجيه: ذو الجاه.
[11] الوجيه: فرس من خيل العرب نجيب.
[12] يومي ابن الخطيب الى أبي بكر محمد بن عبد الله بن فرج الفهري
المعروف بابن الجد (496- 586) . أصله من «لبلة» ، واستوطن إشبيلية،
وعاصر ابن رشد الفقيه، وابا بكر بن العربيّ.
(7/600)
وأشقر، أبي الخلق، والوجه الطّلق أن يحفر،
كأنّما صيغ من العسجد، وطرف بالدّر وأنعل بالزبرجد، ووسم في الحديث
بسمة اليمن والبركة [1] ، واختصّ بفلج [2] الخصام، عند اشتجار المعركة،
وانفرد بمضاعف السّهام، المنكسرة على الهام، في الفرائض المشتركة [3] ،
واتّصف فلك كفله بحركتي الإرادة والطّبع من أصناف الحركة، أصغى إلى
السّماء بأذن ملهم، وأغرى لسان الصّهيل- عند التباس معاني الهمز
والتّسهيل- ببيان المبهم، وفتنت العيون من ذهب جسمه، ولجين نجمه،
بالدّينار والدّرهم، فإن انقضّ فرجم، أو ريح لها حجم، وإن اعترض فشفق
لاح به للنّجم نجم.
وأصفر قيّد الأوابد الحرّة، وأمسك المحاسن وأطلق الغرّة، وسئل من أنت
في قوّاد الكتائب، وأولي الأخبار العجائب؟ فقال: أنا المهلّب بن أبي
صفرة [4] ، نرجس هذه الألوان، في رياض الأكوان، تحثى به وجوه الحرب
العوان [5] ، أغار بنخوة الصّائل [6] ، على معصفرات الأصائل [7] ،
فارتداها، وعمد إلي خيوط شعاع الشّمس، عند جانحة الأمس، فألحم منها
حلّته وأسداها، واستعدت عليه تلك المحاسن فما أعداها، فهو أصيل تمسّك
بذيل اللّيل عرفه وذيله، وكوكب يطلعه من الفتام ليله، فيحسده فرقد [8]
الأفق وسهيله [9] .
__________
[1] يشير الى حديث: «ان يمن الخيل في شقرتها» ، رواه الإمام أحمد في
المسند 2/ 272.
[2] الفلج: الظفر والفوز.
[3] يومئ الى المعاني التي تعارفها الفقهاء بينهم في باب «التوارث» من
الفقه الإسلامي، فالسهم: النصيب الّذي فرضه الشارع للوارث، وانكسار
السهام يكون حيث تضيق التركة عن استيفاء الفرائض كاملة، وبتقرر العول.
[4] أبو سعيد المهلب بن أبي صفرة الأزدي. له مع الخوارج حروب ومواقع
ظهرت فيها شجاعته. وفيات الأعيان 2/ 191- 195.
[5] الحرب العوان: الحرب التي سبقتها حرب أخرى.
[6] النخوة: العظمة، والكبر، والصائل: المستطيل المتوثب.
[7] الأصيل: العشي، والجمع الأصائل.
[8] الفرقد: واحد الفرقدين، وهما كوكبان من صورة بنات نعش الصغرى،
ويقال الفرقد على الكوكبين معا.
[9] سهيل: كوكب من الكواكب الجنوبية، ولذلك لا يراه سكان البلدان
الشمالية مثل خراسان، وأرمينية.
(7/601)
وأشهب تغشّى من لونه مفاضة، وتسربل منه
لأمة فضفاضة، قد احتفل زينه، لمّا رقم بالنّبال لجينه، فهو الأشمط،
الّذي حقه لا يغمط، والدّارع [1] المسارع، والأعزل الذّارع [2] ، وراقي
الهضاب الفارع، ومكتوب الكتيبة البارع [3] . وأكرم به من مرتاض سالك،
ومجتهد على غايات السّابقين الأولين متهالك، وأشهب [4] يروي من
الخليفة، ذي الشّيم المنيفة، عن مالك.
وحبارى [5] كلّما سابق وبارى، استعار جناح الحبارى، فإذا أعملت الحسبة،
قيل من هنا جاءت النّسبة، طرد النّمر، لما عظم أمره وأمر [6] ، فنسخ
وجوده بعدمه، وابتزّه الفروة ملطّخة بدمه، وكأنّ مضاعف الورد نثر عليه
من طبقة، أو الفلك، لمّا ذهب الحلك، مزج فيه بياض صبحه بحمرة شفقه....
وقرطاسي حقّه لا يجهل
، «متى ما ترقّى العين فيه تسفّل» [7] ،
إن نزع عنه جلّة [8] ، فهو نجم كلّه، انفرد بمادّة الألوان، قبل أن
تشوبها يد الأكوان، أو تمزجها أقلام الملوان [9] ، يتقدّم الكتيبة منه
لواء ناصع، أو أبيض مناصع [10] ، لبس وقار المشيب، في ريعان العمر
القشيب، وأنصتت الآذان من صهيلة المطيل المطيب، لمّا ارتدى بالبياض إلى
نغمة الخطيب، وإن تعتّب منه للتأخير متعتّب، قلنا: الواو لا ترتب [11]
، ما بين فحل وحرّة، وبهرمانة [12] ودرّة، ويا لله
__________
[1] رجل دارع: ذو درع.
[2] ذرع: أسرع، كأنه لسرعته يقيس المسافات بالذراع.
[3] الفارع: المرتفع، الحسن، والبارع: التام في كل فضيلة.
[4] يوري بأشهب بن عبد العزيز المالكي أبو عمر المصري. وقد تقدم ذكره.
[5] الحباري: لونه لون الحباري. والحباري بضم الحاء، وفتح الباء
المخففة، وراء مفتوحة بعد ألف: طائر رمادي اللون، وهو أشد الطير
طيرانا، وأبعدها شوطا. ولذلك يقول: ان سرعة هذا الفرس تأتي من شبهه
بالحبارى الّذي له هذه الصفة. حياة الحيوان للدميري 1/ 196.
[6] أمر: كثر.
[7] عجز بيت لامرئ القيس وصدره:
ورحنا يكاد الطرف بقشر دونه متى إلخ.
وفي الأصول: «..... فيه تسهل» . والمثبت رواية الديوان، وشرحه
للبطليوسي ص 34 طبع التقدم سنة 1223 هـ.
[8] جل الفرس، وجاله: الغطاء الّذي تلبسه إياه لتصونه.
[9] الملوان: الليل والنهار.
[10] الناصع: الخالص من كل شيء، والمناصع: المجالس. جمع منصع.
[11] يشير الى قول النحاة: ان العطف بالواو لا يفيد ترتيبا بين
معطوفاتها.
[12] البهرمان: نبات بأرض العرب يصبغ به، يقال له العصفر، ولونه دون
الأرجوان في الحمرة.
(7/602)
من ابتسام غرّة، ووضوح يمن في طرّة [1] ،
وبهجة للعين وقرّة، وإن ولع الناس بامتداح القديم، وخصّوا الحديث بفري
الأديم [2] ، وأوجف المتعصّب، وإن أبى المنصب، مرتبة التّقديم، وطمح
الى رتبة المخدوم طرف الخديم، وقورن المثري بالعديم، وبخس في سوق الكسد
الكيل، ودجا الليل، وظهره في فلك الأنصاف الميل، لمّا تذوكرت الخيل،
فجيء بالوجيه [3] والخطّار [4] ، والذائد [5] وذي الخمار [6] وداحس [7]
والسّكب [8] ، والأبجر [9] وزاد الرّكب [10] ، والجموح [11] واليحموم
[12] ، والكميت [13] ومكتوم [14] ، والأعوج [15] وحلوان، ولاحق
والغضبان، وعفزر، والزّعفران والمحبّر واللّعّاب، والأغرّ والغراب،
وشعلة والعقاب، والفياض واليعبوب، والمذهب واليعسوب، والصّموت والقطيب،
وهيدب والصّبيب، وأهلوب وهدّاج،
__________
[1] الطرة: الناصية، اشارة الى الحديث: «الخيل معقود في نواصيها الخير
الى يوم القيامة» .
[2] الأديم: الجلد، وفريه: قطعه. وهو يشير إلى قول ابن شرف القيرواني:
أغرى الناس بامتداح القديم ... وبذم الحديث غير الذميم
ليس إلا لأنهم حسدوا ... الحي ورقوا على العظام الرميم
[3] الوجيه: فرس لغني بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان. وهو مما سمي من
جياد الفحول، والإناث المنجبات. تاج العروس (وجه) ، مخصص 6/ 195.
[4] الخطار: فرس حذيفة بن بدر الفزاري. وله ذكر في حرب داحس والغبراء.
المخصص 6/ 196، تاج (خطر، دحس) .
[5] الذائذ: فرس نجيب من نسل الحرون، ومن أبنائه أشقر مروان. تاج (ذاد)
.
[6] ذو الخمار: فرس للزبير بن العوام، ولمالك بن نويرة الشاعر. المخصص
6/ 194 تاج (خمر) .
[7] داحس: فرس قيس بن زهير بن جذيمة العبسيّ. له ذكر في حرب داحس
والغبراء المخصص 6/ 196، تاج (دحس) ، وانظر مجمع الأمثال: «أشأم من
داحس» 1/ 256.
[8] السكب: من أفراس النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو أول فرس ملكه.
المخصص 6/ 193، تاج (سكب) .
[9] الأبجر: من خيل غطفان بن سعد، وهو فرس عنترة بن شداد العبسيّ. تاج
(بجر) .
[10] زاد الركب: فرس للأزد، وهو من أقدم فرسان العرب.
[11] الجموح (كصبور) : فرس مسلم بن عمرو الباهلي، وفرس للحكم بن عرعرة
النميري تاج (جمع) .
[12] اليحموم: فرس النعمان بن المنذر، ولذلك كان يقال للنعمان فارس
اليحموم. وسمي باليحموم عدة أفراس. تاج 8/ 261.
[13] الكميت: ذكر في تاج العروس في (كمت) عشرة أفراس باسم الكميت، مع
أسماء أصحابها.
[14] مكتوم: فرس لغني بن أعصر، من جياد الفحول. تاج (كتم) .
[15] أعوج (بلا لام) : فرس لبني هلال، تنسب إليه الأعوجيات، كان لكندة
فأخذته سليم، ثم صار إلى بني هلال، بعد أن كان لبني آكل المرار. تاج
(عوج) .
(7/603)
|