تاريخ ابن خلدون
(الخبر عن استيلاء
أبي حمو على تلمسان والمغرب الأوسط)
لما فصل بنو مرين من تلمسان إثر مهلك السلطان عبد العزيز واحتلوا بتازي
اجتمع المشيخة وعقدوا على تلمسان لإبراهيم ابن السلطان أبي تاشفين كان
ربّي في كفالة
(7/446)
دولتهم منذ مهلك أبيه، فآثروه بذلك
لخلوصته. وبعثوه مع رحّو بن منصور أمير عبيد الله من المعقل، وسرّحوا
معهما من كان بالمغرب من مغراوة إلى وطن ملكهم بشلف. وعقدوا عليهم
لعليّ بن هارون بن منديل بن عبد الرحمن وأخيه رحمون وانصرفوا إلى
بلادهم. وكان عطية بن موسى مولى أبي حمّو قد صار إلى السلطان عبد
العزيز وألحقه بجملته وبطانته، فلمّا هلك السلطان خرج من القصر واختفى
بالبلد حتى إذا فصل بنو مرين من معسكرهم ظاهر البلد، خرج من مكان
اختفائه، وقام بدعوة مولاه أبي حمّو، واجتمع إليه شيعة من أهل البلد مع
من تأشّب إليه من الغوغاء، وحملوا الخاصة على البيعة لأبي حمّو، ووصلهم
إبراهيم بن أبي تاشفين مع رحّو بن منصور وقومه من عبيد الله، فنبذوه
وامتنعوا عليه، فرجع عنهم إلى المغرب، وطيّر أولاد يعمور أولياء أبي
حمو من عبيد الله بالخبر إليه وهو بمثواه من تيكورارين. واتصل بابنه
أبي تاشفين وهو عند يحيى بن عامر [1] فدخل إلى تلمسان ومن معه من بني
عبد الواد، وتساقط إليه فلّهم من كل جانب، ووصل السلطان على أثرهم بعد
اليأس منه، فدخلها في جمادى من سنة أربع وسبعين وسبعمائة واستقل بملكه،
وتقبّض على بطانته الذين آسفوه في اغترابه، ونمي له عنهم السعي عليه،
فقتلهم، ورجع ملك بني عبد الواد وسلطانهم، ونهض إلى مغراوة أولياء بني
مرين بمكانهم من شلف، فغلبهم عليه بعد مطاولة وحروب سجال هلك فيها
رحمون بن هارون، ومحا دعوة بني مرين من ضواحي المغرب الأوسط وأمصاره،
واستقلّ بالأمر حسبما ذكرناه في أخباره. واتصل الخبر بالوزير أبي بكر
بن غازي فهمّ بالنهوض إليه. ثم ثنى عزمه ما كان من خروج الأمير عبد
الرحمن بناحية بطوية فشغله شأنه عن ذلك.
الخبر عن إجازة الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن الى المغرب واجتماع
بطوية إليه وقيامهم بشأنه
كان محمد المخلوع ابن الأحمر قد رجع من رندة إلى ملكه بغرناطة في جمادى
من سنة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وهو بحي بني عامر.
(7/447)
ثلاث وستين وسبعمائة وقتل له الطاغية عدوّه
الرئيس المنتزي على ملكهم حين هرب من غرناطة إليه وفاء بعهد المخلوع،
واستوى على كرسيّه واستقلّ بملكه، ولحق به كاتبه وكاتب أبيه محمد بن
الخطيب واستخلصه وعقد له على وزارته، وفوّض إليه في القيام بملكه
فاستولى عليه وملك هواه. وكانت عينه ممتدّة إلى المغرب وسكناه إلى أن
نزلت به آفة في رياسته، فكان لذلك يقدم السوابق والوسائل عند ملوكه،
وكان لأبناء السلطان أبي الحسن كلّهم غيرة على ولد عمّهم السلطان أبي
عليّ ويخشونهم على أمرهم. ولمّا لحق الأمير عبد الرحمن بالأندلس اصطفاه
ابن الخطيب واستخلصه لنجواه، ورفع في الدولة رتبته وأعلى منزلته، وحمل
السلطان على أن عقد له على الغزاة والمجاهدين من زناتة مكان بني عمّه
من الأعياص، فكانت له آثار في الاضطلاع بها، ولما استبدّ السلطان عبد
العزيز بأمره واستقل بملكه، وكان ابن الخطيب ساعيا في مرضاته عند
سلطانه، فدسّ إليه باعتقال عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره المطارد به
مسعود بن ماسي، وأدار ابن الخطيب في ذلك مكره وحمل السلطان عليهما إلى
أن سطا بهما ابن الأحمر واعتقلهما سائر أيام السلطان عبد العزيز سلطان
المغرب سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة لما قدّم من الوسائل ومهّد من
السوابق فقدمه السلطان وأحلّه من مجلسه محل الاصطفاء والقرب. وخاطب ابن
الأحمر في أهله وولده، فبعثهم إليه واستقرّ في جملة السلطان. ثم تأكدت
العداوة بينه وبين ابن الأحمر فرغب السلطان في ملك الأندلس وحمله عليه
وتواعدوا لذلك عند مرجعه من تلمسان إلى المغرب. ونمي ذلك إلى ابن
الأحمر فبعث إلى السلطان بهديّة لم يسمع بمثلها، انتقى فيها من متاع
الأندلس وماعونها وبغالها الفارهة ومعلوجي السبي وجواريه، وأوفد بها
رسله يطلب إسلام وزيره ابن الخطيب إليه، فأبى السلطان من ذلك ونكره،
ولمّا هلك واستبدّ الوزير ابن غازي بالأمر تحيّز إليه، ابن الخطيب
وداخله وخاطبه ابن الأحمر فيه بمثل ما خاطب السلطان، فلم يؤب [1]
واستنكف ذلك وأقبح الردّ، وانصرف رسله إليه، وقد رهب سطوته، فأطلق ابن
الأحمر لحينه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأركبه الأسطول وقذف به إلى
ساحل بطوية ومعه الوزير مسعود بن ماسي ونهض إلى جبل الفتح فنازله
بعساكره
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فلجّ.
(7/448)
ونزل عبد الرحمن ببطوية في ذي القعدة من
سنة أربع وسبعين وسبعمائة، ومعه وزيره مسعود بن ماسي، فاجتمع قبائل
بطوية إليه وبايعوه على القيام بدعوته والموت دونه، واتصل الخبر
بالوزير أبي بكر بن غازي فعقد لابن عمه محمد بن عثمان على سبتة وبعثه
لسدّ ثغورها لما خشي عليها من ابن الأحمر، ونهض من فاس بالآلة والعساكر
ونازل عبد الرحمن ببطوية، فقاتله أياما ثم رجع إلى تازى ثم إلى فاس،
ودخل الأمير عبد الرحمن تازي واستولى عليها، ودخل الوزير إلى فاس وقعد
بمجلس الفصل، وهو مجمع العودة إلى تازي لتشريد عدوّه إلى أن جاء الخبر
ببيعة السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم كما نذكره إن شاء الله
تعالى.
الخبر عن بيعة السلطان أبي العباس أحمد بن
أبي سالم واستقلاله بالملك وما كان خلال ذلك من الأحداث
لما نزل محمد بن عثمان بالثغر من سبتة لسدّ فروجها، ومدافعة ما يخشى من
عادية ابن الأحمر عليها، وكان قد طاول حصار جبل الفتح وأخذ بمخنقه،
وتكرّرت المراسلة بينه وبين محمد بن عثمان بالعتاب، فاستعتب له وقبّح
ما جاء به ابن عمّه من الاستغلاظ له، فوجد ابن الأحمر بذلك السبيل إلى
غرضه، وداخله في البيعة للسلطان أبي سالم من الأبناء الذين كانوا بطنجة
تحت الرقبة والحوطة، وأن يقيمه للمسلمين سلطانا يحوط سياجهم [1] ويدافع
عنهم ولا يتركهم فوضى وهملا.
ويجب [2] بيعة الصبيّ الّذي لم تنعقد بيعته شرعا، واختصّ هذا بالسلطان
من بين أولئك الأبناء وفاء بحقوق أبيه، ووعده بالمظاهرة على ذلك،
واشترط عليه أن ينزلوا له عن الجبل إذا انعقد أمرهم، ويشخصوا إليه بيعة
الأبناء والقرابة من طنجة ليكونوا في إيالته وتحت حوطته، وأن يبعثوا
إليه ابن الخطيب متى قدروا عليه، ويبعثوا إليه بقية الأبناء والقرابة
فقبل محمد بن عثمان شرطه كان سفيره في ذلك أحمد المرغني [3] من طبقات
كتّاب الأشغال بسبتة، كان السلطان أبو الحسن تزوّج أمّه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يجول بسياجهم.
[2] جبّه: قطعه، وهنا تعني يمنع.
[3] وفي نسخة ثانية: الرعينيّ.
ابن خلدون م 29 ج 7
(7/449)
ليلة إجازته من واقعة طريف وافتقاد حظاياه،
حتى لحق به الحرم من فاس، فردّها إلى أهلها ونشأ المرغني في توهّم هذه
الكفالة، فانتفخ نحره لذلك ويحسبها وصلة إلى أبناء السلطان أبي الحسن،
وكان سفيرا بين محمد بن عثمان وابن الأحمر، فأمّل الرئاسة في هذه
الدولة، وركب محمد بن عثمان من سبتة إلى طنجة، وقصد مكان اعتقالهم.
واستدعى أبا العبّاس أحمد ابن السلطان أبي سالم من مكانه مع الأبناء
فبايع له، وحمل الناس على طاعته، واستقدم أهل سبتة بكتاب للبيعة،
فقدموا وخاطب أهل الجبل فبايعوا، وأفرج ابن الأحمر عنهم. وبعث إليه
محمد بن عثمان بالنزول عن جبل الفتح، وخاطبوا أهله بالرجوع إلى طاعته،
فارتحل من مالقة إليه ودخله واستولى عليه، ومحا دعوة بني مرين مما وراء
البحر، وأهدى للسلطان أبي العبّاس وأمدّه بعسكر من غزاة الأندلس وحمل
إليه مالا للإعانة على أمره.
وكان محمد بن عثمان عند فصوله من فاس، وودّعه الوزير ابن عمّه فاوضه في
شأن السلطان، وأن يقدّم للناس إماما يرجعون إليه ويترك له أمرهم، وآمره
في ذلك، ولم يفترقا على مبرم من أمرهم. فلمّا ارتكب هذا المرتكب وجاء
بهذا الأمر، خاطب الوزير يمّوه عليه بأنه فعل بمقتضى المؤامرة، وأنّه
عن إذنه والله أعلم بما دار بينهما، ولجّ الوزير في تكذيبه والبراءة
للناس مما رمى به ولاطفه في نقض ذلك الأمر، وردّ أبا العباس إلى مكانه
مع الأبناء تحت الحوطة، وأبى محمد بن عثمان من ذلك ودافعه باجتماع
الناس عليه وانعقاد الأمر. وبينما الوزير يروم ذلك جاءه الخبر بأنّ
محمد بن عثمان أشخص الأبناء المعتقلين كلّهم إلى الأندلس، وأنهم حصلوا
في كفالة ابن الأحمر، فوجم وأعرض عن ابن عمّه وسلطانه، ونهض إلى تازى
ليفرغ من عدوّه إليهم، فنازل الأمير عبد الرحمن وأخذ بمخنقه، واهتبل
محمد بن عثمان الغرّة في ملك المغرب، فوصله مدد السلطان ابن الأحمر
وعسكره تحت رايته، عقدها عليهم ليوسف بن سليمان بن عثمان بن أبي العلاء
من مشيخة الغزاة المجاهدين، وعسكر آخر من رجل الأندلس الناشبة يناهزون
سبعمائة. وبعث ابن الأحمر رسله إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد بابن
عمّه السلطان أبي العبّاس أحمد، ومظاهرته على ملك سلفه بفاس واجتماعهما
لمنازلتها، وعقد بينهما الاتفاق والمواصلة وأن يختصّ عبد الرحمن بملك
سلفه فتراضيا، وزحف محمد بن عثمان وسلطانه إلى فاس خالفوا إليه
(7/450)
الوزير وانتهوا إلى قصر ابن عبد الحليم [1]
، وبلغ الخبر إلى الوزير بمكانه من حصار تازى فانفضّ معسكره ورجع إلى
فاس ونزل بكدية العرائس.
وانتهى السلطان أبو العباس أحمد إلى زرهون، فصمد إليه الوزير بعساكره،
وصمّم نحوه بمكانه من قنّة الجبل، فاختل مصافه وانهزمت ساقة العسكر من
ورائه، ورجع على عقبه مفلولا وانتهب المعسكر ودخل إلى البلد الجديد.
وجأجأ بالعرب أولاد حسين أن يعسكروا له بالزيتون ظاهر فاس، ويخرج
بجموعه إلى حللهم، فنهض إليهم الأمير عبد الرحمن من تازى بمن كان معه
من العرب الأحلاف وشرّدهم إلى الصحراء، وشارف السلطان أبا العبّاس أحمد
بجموعه العرب وزناتة، وبعثوا إلى وليّ سلفهم ونزمار بن عريف بمكانه من
قصر مرادة الّذي اختطّه بملوية فجاءهم وأطلعوه على كامن أسرارهم، فأشار
عليهم بالاجتماع والاتفاق فاجتمعوا بوادي النجا. وحضر لعقدهم واتفاقهم
وحلفهم على اتصال اليد على عدوّهم ومنازلته بالبلد الجديد حتى يمكن
الله منه وارتحلوا بجمعهم إلى كدية العرائس في ذي القعدة من سنة خمس
وسبعين وسبعمائة وبرز إليهم الوزير بعساكره فدارت الحرب وحمى الوطيس
واشتدّ القتال مليا. ثم زحف إليه العسكران بساقتهما وآلتهما فاختلّ
مصافه وانهزمت جيوشه وجموعه وأحيط به، وخلص إلى البلد الجديد بعد غصّ
الريق. وأضرب السلطان أبو العبّاس معسكره بكدية العرائس، ونزل الأمير
عبد الرحمن بإزائه، وضربوا على البلد الجديد سياجا بالبناء للحصار
وأنزلوا بها أنواع القتال والإرهاف.
ووصلهم مدد السلطان ابن الأحمر من رجال الناشبة، واحتكموا في ضياع ابن
الخطيب بفاس، فهدموها وعاثوا فيها. ولمّا كان فاتح سنة ست وسبعين
وسبعمائة داخل محمد بن عثمان ابن عمه أبا بكر في النزول عن البلد
الجديد والبيعة للسلطان، لما كان الحصار قد اشتدّ ويئس من الصريخ،
وأعجزه المال فأجاب واشترط عليهم الأمير عبد الرحمن التجافي له في
أعمال مراكش، وأن يديلوه بها من سجلماسة فعقدوا له على كره، وطووا على
المكر. وخرج الوزير أبو بكر للسلطان أبي العبّاس أحمد، وبايعه واقتضى
عهده بالأمان وتخلية سبيله من الوزارة فبذله. ودخل السلطان أبو
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عبد الكريم.
(7/451)
العباس أحمد إلى البلد الجديد سابع المحرم.
وارتحل الأمير عبد الرحمن يومئذ إلى مراكش واستولى عليها، وارتحل معه
علي بن عمر بن ويغلان شيخ بني مرين والوزير ابن ماسي، ثم نزع عنه ابن
ماسي إلى فاس لعهد كان قد اقتضاه من السلطان أبي العبّاس، وأجاز البحر
إلى الأندلس فاستقرّ بها في إيالة ابن الأحمر، واستقلّ السلطان أبو
العبّاس ابن السلطان أبي سالم بملك المغرب ووزيره محمد بن عثمان، وفوض
إليه شئونه وغلب على هواه. وصار أمر الشورى إلى سليمان بن داود، كان
نزع إليه من البلد الجديد من جملة أبي بكر بن غازي بعد أن كان أطلقه من
محبسه، واستخلصه. وجعل إليه مرجع أمره فتركه أحوج ما كان إليه، ولحق
بالسلطان أبي العباس بمكانه من حصار البلد الجديد. فلمّا استوسق ملكه
ألقى الوزير محمد بن عثمان مقاد الدولة له، وصار إليه أمر الشورى
ورياسة المشيخة. واستحكمت المودّة بينه وبين ابن الأحمر وتأكّدت
المداخلة. وجعلوا إليه المرجع في نقضهم وإبرامهم لمكان الأبناء
المرشحين من إيالته. ولمّا ارتحل الأمير عبد الرحمن إلى مراكش نبذوا
إليه العهد وتعللوا عليه بأنّ العقد الأوّل له، إنّما كان على ملك سلفه
ومراكش إنما ألجأهم إلى العقد عليها إلجاء، واعتزموا على النهوض إليه
ثم أقصروا وانعقدت بينهما السلم سنة ست وسبعين وسبعمائة وجعلوا التخم
بينهما أزمور وعقدوا على ثغرها لحسّان الصبيحي فلم يزل عليها إلى أن
هلك كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مقتل ابن الخطيب)
ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد دار ملكه فاتح ست
وسبعين وسبعمائة واستقلّ بسلطانه والوزير محمد بن عثمان مستبد عليه،
وسليمان بن داود رديف له، وقد كان الشرط وقع بينه وبين السلطان ابن
الأحمر عند ما بويع بطنجة على نكبة ابن الخطيب وإسلامه إليه لما نمي
إليه عنه أنه كان يغري السلطان عبد العزيز لملك الأندلس. فلما زحف
السلطان أبو العباس من طنجة ولقي الوزير أبا بكر بن غازي بساحة البلد
الجديد، فهزمه السلطان ولاذ منه بالحصار، آوى معه ابن الخطيب إلى البلد
الجديد خوفا على نفسه، فلما استولى السلطان على البلد الجديد أقام
أياما، ثم أغراه سليمان بن داود بالقبض عليه فقبضوا عليه وأودعوه
السجن، وطيّروا بالخبر إلى
(7/452)
السلطان ابن الأحمر وكان سليمان بن داود
شديد العداوة لابن الخطيب لما كان سليمان قد تابع السلطان ابن الأحمر
على مشيخة الغزاة بالأندلس، حتى أعاده الله إلى ملكه. فلما استقرّ له
سلطانه أجاز إليه سليمان سفيرا عن عمر بن عبد الله ومقتضيا عهده من
السلطان. فصدّه ابن الخطيب عن ذلك بأنّ تلك الرئاسة إنّما هي لأعياص
الملك من آل عبد الحق، لأنهم يعسوب زناتة. فرجع سليمان آيسا [1] وحقد
ذلك لابن الخطيب. ثم جاور الأندلس بمحل إمارته من جبل الفتح، فكانت تقع
بينه وبين ابن الخطيب مكاتبات ينفّس كل منهما لصاحبه بما يحفظه لما كمن
في صدورهما. وحين بلغ الخبر بالقبض على ابن الخطيب إلى السلطان بعث
كاتبه ووزيره بعد ابن الخطيب، وهو أبو عبد الله بن زمرك، فقدم على
السلطان أبي العبّاس وأحضر ابن الخطيب بالشورى في مجلس الخاصّة وأهل
الشورى، وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه، فعظم عليه النكرير
فيها، فوبّخ ونكل وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك الملاثم تل إلى محبسه.
واشتوروا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجّلة عليه، وأفتى بعض
الفقهاء فيه ودسّ سليمان بن داود إليه لبعض الأوغاد من حاشيته بقتله،
فطرقوا السجن ليلا ومعهم زعانفة جاءوا في لفيف الخدم مع سفراء السلطان
ابن الأحمر، وقتلوه خنقا في محبسه، وأخرجوا شلوه من الغد فدفن في مقبرة
باب المحروق، ثم أصبح من الغد على شأفة قبّره طريحا وقد جمعت له أعواد
وأضرمت عليه نارا، فاحترق شعره واسودّ بشره، وأعيد إلى حفرته، وكان في
ذلك انتهاء محنته وعجب الناس من هذه السفاهة التي جاء بها سليمان
واعتدّوها من هناته، وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته،
والله الفعال لما يريد وكان عفى الله عنه أيام امتحانه بالسجن يتوقع
مصيبة الموت، فيتجيش هو أتقه بالشعر يبكي نفسه (ومما قال في ذلك) :
بعدنا وإن جاورتنا البيوت ... وجئنا بوعظ [2] ونحن صموت
وأنفاسنا سكنت دفعة ... كجهر الصلات تلاه القنوت
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يائسا.
[2] وفي نسخة ثانية: لوعد.
(7/453)
وكنّا عظاما فصرنا عظاما ... وكنّا نقوت
فها نحن قوت
وكنّا شموس سماء العلا ... عزين فناحت عليها البيوت [1]
فكم جزلت ذا الحسام الظبا ... وذو البحث كم جدّلته التحوت [2]
وكم سيق للقبر في خرقة ... فتى ملئت من كساه التخوت
فقل للعدا ذهب ابن الخطيب ... وفات ومن ذا الّذي لا يفوت
فمن كان يفرح منكم له ... فقل يفرح اليوم من لا يموت
(الخبر عن اجازة سليمان بن داود الأندلس
ومقامه إلى أن هلك بها)
كان سليمان بن داود هذا منذ عضّته الخطوب واختلفت عليه النكبات [3]
يروم الفرار بنفسه إلى الأندلس للمقامة مع غزاة المجاهدين من قومه.
ولما استقرّ السلطان ابن الأحمر بفاس عند خلعه ووفادته على السلطان أبي
سالم سنة إحدى وستين وسبعمائة وداخله سليمان بن داود في تأميل الكون
عنده، فعاهده على ذلك وأن يقدّمه على الغزاة المجاهدين من قومه. ولما
عاد إلى ملكه وفد عليه سليمان بن داود بغرناطة في سبيل السفارة عن عمر
بن عبد الله سنة ست وستين وسبعمائة وأن يؤكد عقده من السلطان، فحال دون
ذلك ابن الخطيب ومارى [4] السلطان عن ذلك بأنّ شياخة الغزاة مخصوصة
بأعياص الملك من بني عبد الحق لمكان عصابتهم بالأندلس، فأخفق أمل
سليمان حينئذ وحقدها على ابن الخطيب ورجع إلى مرسلة، ثم كانت نكبته
أيام السلطان عبد العزيز فلم يخلص منها إلا بعد مهلكه، أطلقه أبو بكر
بن غازي المستبدّ بالأمر من بعده، ليعتضد بمكانه على شأنه. فلما استبدّ
الحصار على ابن غازي خرج عنه سليمان ولحق بالسلطان أبي العباس ابن
المولى أبي سالم بمكانه من ظاهر البلد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: زغر بن فباحت علينا السموت.
[2] وفي نسخة ثانية:
فكم جدلس ذا الحسام الظبا وذو البخت لم خذلته البخوت
[3] وفي نسخة ثانية: النكايات.
[4] وفي نسخة أخرى: وثنى رأي السلطان.
(7/454)
الجديد، فكان ذلك من أسباب الفتح، ولما دخل
السلطان إلى دار ملكه من البلد الجديد فاتح سنة ست وستين وسبعمائة
واستوسق أمره، رفع مجلس سليمان وأحلّه محل الشورى، واعتضد به وزيره
محمد بن عثمان واستخلصه كما ذكرناه. وكان يرجع إلى رأيه وهو في خلال
ذلك يحاول اللحاق بالأندلس، فكان من أوّل عمله التقرّب إلى السلطان ابن
الأحمر بإغراء الوزير محمد بن عثمان بقتل ابن الوزير مسنويه [1] ، فتمّ
ذلك لأوّل الدولة. وجرت الأمور بعدها على الاعتمال في مرضاته إلى أن
حاول السفارة إليه في أغراض سلطانه، سنة ثمان وستين وسبعمائة في صحابة
ونزمار بن عريف، فتلقّاهما السلطان ابن الأحمر بما يتلقى به أمثالهما
وأغرب في تكرمتهما. وأما ونزمار فانقلب راجعا لأوّل تأدية الرسالة،
يتقضى من السلطان حظّه لقواد أسطوله بتسهيل الإجازة إليه متى رامها.
وخرج يتصيّد فلحق بمرسى مالقة ودفع أمر السلطان بخطه، إلى قائد
الأسطول، فأجازه إلى سبتة ولحق بمكانه. وأمّا سليمان فاعتزم على المقام
عند ابن الأحمر وأقام هنالك خالصة ونجيا ومشاورا، الى أن هلك سنة إحدى
وثمانين وسبعمائة.
الخبر عن شأن الوزير أبي بكر بن غازي وما كان من تغريبه الى مايرقة ثم
رجوعه وانتقاضه بعد ذلك
لما اشتدّ الحصار بالوزير أبي بكر بن غازي وفنيت أمواله وأموال
السلطان، وظنّ أنه أحيط به، داخله الوزير محمد بن عثمان من مكانهم
بحصاره في النزول عن البلد على الأمان والإبقاء فأجاب وخرج إلى السلطان
أبي العبّاس بن أبي سالم، فعقد له أمانا بخطّه، وتحوّل إلى داره بفاس
وأسلم سلطانه المنصوب للأمر، فتسلّمه منه الوزير محمد بن عثمان، واشتدّ
في الاحتياط عليه إلى أن بعثه إلى السلطان ابن الأحمر، فكان في جملة
الأبناء عنده، ودخل السلطان أبو العباس إلى دار ملكه واقتعد سريره
ونفذت في الممالك أوامره. وأقام أبو بكر بن غازي على حاله بداره
والخاصّة يباكرونه والنفوس منطوية على تأميله، فغصّ به أهل الدولة
وتردّدت فيه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بقتل ابن الخطيب مشنوئه.
(7/455)
السعاية، وتقبّض عليه السلطان وأشخصه إلى
غسّاسة، وركب منها السفين إلى ميورقة آخر ست وسبعين وسبعمائة فأقام بها
شهرا ومخاطباته مترددة إلى الوزير محمد بن عثمان. ثم عطفته عليه رحم،
فأذن له في القدوم، إلى المغرب والمقامة بغسّاسة فقدمها أوائل سنة سبع
وسبعين وسبعمائة واستبدّ بإمارتها. وبدا له رأي في تأميل الوثبة [1]
وظهر ما كان يخفيه لابن عمّه من المنافسة، فخاطب ابن الأحمر وراء البحر
ولاطفه بالتحف والهدايا، فكتب إلى ابن عمّه محمد بن عثمان يحضّه على
إعادته إلى مكانه دفعا لغوائله، فأبى من ذلك، وداخله ونزمار بن عريف في
بعضها كذلك، فلح في الامتناع وحمل سلطانه على نبذ العهد لأبي بكر بن
غازي، فتنكّر له وأجمع المسير إليه بعساكر العرب، فخرج من فاس سنة تسع
وسبعين وسبعمائة وبلغ الخبر إلى أبي بكر بن غازي فاستجاش بالعرب
وأحثّهم للوصول، فوصل إليه الأحلاف من المعقل، وسرّب فيهم أمواله، وخرج
من غسّاسة فألقى بينهم نفسه، وعمد إلى بعض العرب الطارئين فنصّبه للأمر
مشبّها ببعض أبناء السلطان أبي الحسن. وزحف إليه السلطان حتى نزل
بتازى، فأجفلت أحياء العرب أمام العساكر من بني مرين والجند، ونجا ابن
غازي معهم بدمائه. ثم داخله ونزمار بن عريف في الإذعان للسلطان عن شق
الخلاف، فأجاب ووصل به إلى سدّة الملك، فبعث به السلطان محتاطا عليه
إلى فاس فاعتقل بها. ونزلت مقدّمات العساكر بوادي ملويّة، وداخل صاحب
تلمسان منها رعب، فأوفد على السلطان من قومه وكبار مجلسه ملاطفا
مداريا، فتقبّل منه وعقد السلم، وأصدر به كتابه وعهده بخطّه، وانكفأ
راجعا إلى حضرته بعد أن بثّ العمّال في تلك النواحي على جبايتها،
فجمعوا له منها ما رضي. ولما احتلّ بدار ملكه، أنفذ أمره بقتل أبي بكر
بن غازي فقتل بمحبسه طعنا بالرماح [2] وذهب مثلا في الأيام، واستوسق
للسلطان أمره. وأحكم العقد مع الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن صاحب
مراكش، وتردّدت المهاداة بينهما بعض إلى بعض، وإلى صاحب الأندلس وإليه
منهما فامتلأت المغرب هدنة وأمنا، وانبعثت الآمال بساطا وغبطة والحال
متصلة على ذلك لهذا العهد آخر سنة إحدى وثمانين وسبعمائة أيام إشرافنا
على هذا التأليف، والله مقدر الليل والنهار.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الرتبة.
[2] وفي نسخة ثانية: طعنا بالخناجر.
(7/456)
الخبر عن انتقاض الصلح بين الأمير عبد
الرحمن صاحب مراكش والسلطان أبي العبّاس صاحب فاس واستيلاء عبد الرحمن
على أزمور ومقتل عاملها حسون بن على
كان علي بن عمر كبير بني ورتاجن وشيخ بني ويغلان منهم، قد تحيّز إلى
الأمير عبد الرحمن منذ إجازته إلى الأندلس واستيلائه على تازى ثم زحفه
إلى حصار البلد الجديد مع السلطان أبي العباس كما مرّ. فوصل في جملته
إلى مراكش، وكان صاحب شواره وكبير دولته. وكان يظعن على خالد بن
إبراهيم الهربرحى شيخ جاجة [1] من قبائل المصامدة ما بين مراكش وبلاد
السوس، وقد كان علي بن عمر انتقض على ابن غازي الوزير المستبدّ بعد
السلطان عبد العزيز، ولحق بالسوس. ومرّ بخالد بن إبراهيم هذا فاعترضه
في طريقه وأخذ الكثير من أثقاله ورواحله. وخلص هو إلى منجاته بالسوس،
وقد حقد ذلك لخالد. ثم حثّ [2] شيوخ المعقل عند ما أجاز الأمير عبد
الرحمن من الأندلس إلى نواحي تازى يروم اللحاق بهم، فوفدوا عليه.
وسار معهم إلى أحيائهم وأقام معهم وهو في طاعة الأمير عبد الرحمن
ودعوته إلى أن اتصل به بين يدي حصاره البلد الجديد مع السلطان أبي
العباس. فلمّا فتح السلطان البلد الجديد أوّل سنة ست وسبعين وسبعمائة
واستولى على ملكهم بها، وفصل عبد الرحمن إلى مراكش كما كان الوفاق
بينهم، وسار علي بن عمر في جملة السلطان عبد الرحمن إلى مراكش،
واستأذنه في قتل خالد صاحبه، فلم يأذن له، فأحفظه ذلك وطوى عليه، وبعد
أيام صعد جبل وريكة في غرض من أغراض الدولة، وتقدّم إلى حافده عامر ابن
ابنه محمد بقتل خالد، فقتله بظاهر مراكش، ولحق بجدّه عليّ بن عمر
بوريكة، فتلطّف له الأمير عبد الرحمن وراسله بالملاينة والاستعطاف. ثم
ركب إليه بنفسه واستصلحه ونزل به إلى مراكش فأقام معه أياما. ثم ارتاب
ولحق بأزمور وعاملها يومئذ حسّون بن علي الصبيحي فأغراه بالإجلاب على
عمل مراكش، وزحفوا جميعا إلى عمل صنهاجة.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المبرازي شيخ حاحة. وفي نسخة أخرى المبرازي.
[2] وفي نسخة ثانية: ثم بعث.
(7/457)
وسرّح الأمير عبد الرحمن لمدافعتهم كبير
دولته يومئذ وابن عمّه عبد الكريم بن عيسى ابن سليمان بن منصور بن أبي
مالك، وهو عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق، فخرج في العساكر ومعه
منصور مولى الأمير عبد الرحمن، فلقوا عليّ بن عمر فهزموه وأخذوا سواده،
ولجأ إلى أزمور. ثم وفد هو وحسّون بن علي إلى السلطان بفاس.
ووقعت أثناء ذلك المراسلة بين السلطانين، وانعقد بينهما الصلح. فأقام
علي بن عمر بفاس ورجع حسّون بن علي إلى مكان عمله بأزمور، ثم انتقض ما
بين السلطانين ثانيا. وكان عند الأمير عبد الرحمن أخوان من ولد محمد بن
يعقوب بن حسّان الصبيحي وهما علي وأحمد، جرثومتا بغي وفساد، وعدا على
كبيرهما علي بن يعقوب ابن علي بن حسّان فقتله، واستعدى أخوه موسى عليه
السلطان فأعداه. وأذن له في أن يثأر منه بأخيه فيقتله فخرج لذلك أحمد
أخو عليّ، وهمّ بقتل موسى، فاستجار موسى بيعقوب بن موسى بن سيّد الناس
كبير بني ونكاسن، وصهر الأمير عبد الرحمن. وأقام أياما في جواره، ثم
هرب إلى أزمور فلحقه نار الفتنة. ونهض الأمير عبد الرحمن إلى أزمور فلم
يطق حسّان بن علي دفاعه فملكها عليه وقتله واستباحها.
وبلغ الخبر إلى السلطان بفاس فنهض في عساكره وانتهى إلى سلا. ورجع
الأمير عبد الرحمن إلى مراكش، وسار السلطان في اتباعه حتى نزل بحصن
أكمليم من مراكش، وأقام هنالك نحوا من ثلاثة أشهر والقتال يتردّد
بينهم. ثم سعى بين السلطانين في الصلح، فاصطلحوا على حدود العمالات
أولا، وانكفأ صاحب فاس إلى عمله وبلده. وبعث الحسن بن يحيى بن حسّون
الصنهاجيّ عاملا على الثغر بأزمور، فأقام بها، وكان أصله من صنهاجة أهل
وطن أزمور، وله سلف في خدمة بني مرين منذ أوّل دولتهم، وكان أبوه يحيى
في دولة السلطان أبي الحسن عاملا في الجباية بأزمور وغيرها. وهلك في
خدمته بتونس أيام مقام السلطان بها، وترك ولده يستعمل في مثل ذلك، ونزع
الحسن هذا منهم إلى الجندية فلبس شارتها وتصرّف في الولاية المناسبة
لها. واتصل بخدمة السلطان أبي العبّاس لأوّل بيعته بطنجة. وكان يومئذ
عاملا بالقصر الكبير فدخل في دعوته وصار في جملته، وشهد معه الفتح
واستعمله في خطط السيف، حتى ولّاه أزمور هذه الولاية فقام بها كما
نذكره.
(وأمّا الصبيحيّون) فالخبر عن أوليتهم أنّ جدّهم حسّان من قبيلة صبيح
من أفاريق سويد، جاء مع عبد الله بن كندوز الكمي من بني عبد الواد حين
جاء من تونس،
(7/458)
وأوفد على السلطان ابن عبد الحق ولقيه كما
مرّ. وكان حسّان من رعاة إبله. فلما استقرّ عبد الله بن كندوز بناحية
مراكش وأقطعه السلطان يعقوب في أعمالها، وكان الظهر الّذي يحمل عليه
السلطان متفرّقا في سارية المغرب، فجمعه وجعله لنظر عبد الله بن كندوز،
فجمع له الرعاة وكبيرهم يومئذ حسّان الصبيحيّ، فكان يباشر السلطان في
شأن ذلك الظهر ويطالعه في مهمّاته، فحصلت له مداخلة أجلبت إليه الحظ،
حتى ارتفع وكبر. ونشئوا في ظلّ الدولة وعزّها وتصرفوا في الولايات
فيها، وانفردوا بالشاوية فلم تزل ولايتها متوارثة فيهم منقسمة بينهم
لهذا العهد إلى ما كانوا يتصرفون فيه من غير ذلك من الولايات، وكان
لحسّان من الولد علي ويعقوب وطلحة وغيرهم، ومن حسّان هذا تفرّعت شعوبهم
في ولده، وهم لهذا العهد متصرفون في الدولة على ما كان سلفهم من ولاية
الشاوية والنظر في رواحل السلطان والظهر الّذي يحمل من الإبل، ولهم عدد
وكثرة ونباهة في الدولة، والله أعلم.
الانتقاض الثاني بين صاحب فاس وصاحب مراكش
ونهوض صاحب فاس إليه وحصاره ثم عودهما إلى الصلح
لما رجع السلطان إلى فاس على ما استقرّ من الصلح، طلب الأمير عبد
الرحمن أن يدخل عمالة صنهاجة ودكالة في أعماله، وكتب السلطان إلى الحسن
بن يحيى عامل أزمور وتلك العمالة بأن يتوجّه إليه ويسدّ المذاهب في ذلك
دونه. وكان الحسن بن يحيى مضطغنا على الدولة، فلما وصل إليه داخله في
الخلاف وأن يملّكه تلك العمالة، فازداد الأمير عبد الرحمن بذلك قوّة
على أمره، وتعلّل على صاحب فاس بأن يكون حدّا بين الدولتين ووادي أم
ربيع. واستمرّ صاحب فاس على الاباية من ذلك، فنهض الأمير عبد الرحمن من
مراكش، ودخل الحسن بن يحيى في طاعته فملكها، وبعث مولاه منصورا في
العساكر إلى أنفاه [1] فاستولى عليها وصادر أعيانها وقاضيها وواليها
وبلغ الخبر إلى السلطان، فنهض من فاس في عساكره، وانتهى إلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أنف. وفي أخرى: أنفى. ذكرها ياقوت في شعر هذيل
(لأنف بلد) ولم يحدد موقعها.
(7/459)
سلا، فهرب منصور من أنفاء وتركها. ولحق
بمولاه عبد الرحمن فأجفل من أزمور إلى مراكش، والسلطان في أثره حتى
انتهى إلى قنطرة الوادي، على غلوة من البلد، وأقام خمسة أشهر يحاصرها،
واتصل الخبر بالسلطان ابن الأحمر صاحب الأندلس، فبعث خالصته الوزير أبا
القاسم الحكيم الرنديّ ليعقد الصلح بينهما، فعقده على أن يسترهن
السلطان أولاد الأمير عبد الرحمن وحافد أبي الحسن. وانكفأ السلطان
راجعا إلى سلا. ولحق به جماعة من جملة الأمير عبد الرحمن من بني مرين
وغيرهم، نزعوا عنه، وكان محمد بن يعقوب الصبحي لقي في طريقه مولى
الأمير عبد الرحمن، جاء به مكرها إلى السلطان. وكان من النازعين أيضا
يعقوب بن موسى بن سيّد الناس كبير بني ونكاسن، وأبو بكر بن رحّو بن
الحسن بن علي بن أبي الطلاق، ومحمد بن مسعود الإدريسي وزيّان بن عمر بن
علي الوطاسي وغيرهم من المشاهير. وقدموا على السلطان بسلا فتقبّلهم
وأحسن كرامتهم، ورحل راجعا إلى فاس والله أعلم.
انتقاض علي بن زكريا شيخ الهساكرة على
الأمير عبد الرحمن وفتكه بمولاه منصور ومقتل الأمير عبد الرحمن
لما رجع السلطان إلى فاس وبدا من الخلل في دولة الأمير عبد الرحمن
وانتقاض الناس عليه ما قدّمناه، نزع يده من التعويل على العساكر، وشرع
في تحصين البلد.
وضرب الأسوار على القصبة وحفر الخنادق وتبيّن بذلك اختلال أمره. وكان
علي بن زكريا شيخ هسكورة وكبير المصامدة وكان في دعوته منذ دخل مراكش
فتلافى أمره مع صاحب فاس، ومدّ إليه يدا من طاعته. ثم انتقض على الأمير
عبد الرحمن ودخل في دعوة السلطان، وبعث إليه الأمير عبد الرحمن مولاه
منصورا يستألفه، فأرصد إليه في طريقه من حاشيته من قتله، وبعث برأسه
إلى فاس، فنهض السلطان في عساكره إلى مراكش. واعتصم الأمير عبد الرحمن
بالقصبة وقد كان أفردها عن المدينة بالأسوار. وخندق عليها فملك السلطان
المدينة ورتّب على القصبة المقاتلة من كل جهة، ونصب الآلة وأدار عليها
من جهة المدينة حائطا وأقام يحاصرها تسعة [1]
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سبعة أشهر.
(7/460)
أشهر يغاديها القتال ويراوحها. وكان أحمد
بن محمد الصبيحي من الذين بوءوا المقاعد لقتالها، فهمّ بالانتقاض
وحدّثته نفسه بغدرة السلطان والتوثّب به. وسعى بذلك إلى السلطان،
فتقبّض عليه وحبسه. وبعث السلطان بالنفير إلى أعماله، فتوافت الأمداد
من كل ناحية، وبعث إليه صاحب الأندلس مددا من العسكر. فلما اشتدّ
القتال والحصار بالأمير عبد الرحمن ونفذت الأقوات، وأيقن أصحابه
بالهلكة، وأهمّتهم أنفسهم. وهرب عنه وزيره محمد بن عمر [1] شيخ
الهساكرة والمصامدة لعهد السلطان أبي الحسن وابنه، وقد مرّ ذكره. فلمّا
لحق هذا بالسلطان وعلم أنه إنّما جاء مضطرا قبض عليه وحبسه. ثم انفضّ
الناس عن الأمير عبد الرحمن ونزلوا من الأسوار ناجين إلى السلطان.
وأصبح في قصبته منفردا، وقد بات ليلته يراوض ولديه على الاستماتة وهما:
أبو عامر وسليم. وركب السلطان من الغد في التعبية وجاء إلى القصبة
فاقتحمها بمقدّمته، ولقيهم الأمير عبد الرحمن وولداه مباشرا إلى
الميدان بين أبواب دورهم، فجالوا معهم جولة قتل فيها ولداه، تولّى
قتلهم علي بن إدريس وزيّان بن عمر الوطاسي وطال ما كان زيّان يمتري يدي
نعمهم [2] ويجر ذيله خيلاء في جاههم، فذهب مثلا في كفران النعمة وسوء
الجزاء.
والله لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. 4: 40 وكان ذلك خاتم جمادى
الأخيرة سنة أربع وثمانين وسبعمائة لعشر سنين من إمارته على مراكش. ثم
رحل السلطان منقلبا إلى فاس، وقد استولى على سائر أعمال المغرب، وظفر
بعدوّه ودفع النازعين عن ملكه. والله أعلم.
(اجلاب العرب على المغرب في مغيب السلطان
بغرية من ولد أبي علي وأبي تاشفين بن أبي حمو صاحب تلمسان ومجيء أبي
حمو على أثرهم)
كان أولاد حسين من عرب المعقل مخالفين على السلطان من قبل مسيره إلى
مراكش.
وكان شيخهم يوسف بن علي بن غانم قد حدثت بينه وبين الوزير القائم على
الدولة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فهرب عنه وزيره نجوّ بن العلم من بقية بيت محمد بن
عمر. وفي نسخة أخرى يجو.
[2] وفي نسخة ثانية: كان يمتري ثدي نعمتهم.
(7/461)
محمد بن عثمان منافرة وفتنة. وبعث العساكر
إلى سجلماسة، فخرّب ما كان له بها من العقار والأملاك. وأقام منتقضا
بالقفر. فلما حاصر السلطان الأمير عبد الرحمن بمراكش وأخذ بمخنقه أرسل
أبا العشائر ابن عمّه منصور إلى يوسف بن علي وقومه، ليجلبوا به على
المغرب ويأخذوا بحجزة السلطان عن حصاره، فسار لذلك. ولما قدم على يوسف
سار به إلى تلمسان مستجيشا بالسلطان أبي حمّو لذلك القصد، لما كان بينه
وبين الأمير عبد الرحمن من العهد على ذلك. فبعث أبو حمّو معهم ابنه أبا
تاشفين في بعض عساكره، وسار في الباقين على أثرهم. وسار أبو تاشفين
وأبو العشائر إلى أحياء العرب، فدخلوا إلى أحواز مكناسة وعاثوا فيها.
وكان السلطان عند سفره إلى مراكش استخلف على دار ملكه بفاس علي بن مهدي
العسكري في جماعة من الجند. واستنجد بونزمار بن عريف شيخ سويد وولي
الدولة المقيم بأحياء ملويّة، فحالف بين عرب المعقل واستألف منهم
العمارنة والمنبات وهم الأحلاف. واجتمع مع علي بن مهدي، وساروا لمدافعة
العدوّ بنواحي مكناسة، فصدّوهم عن مرامهم ومنعوهم من دخول البلاد
فأقاموا متواقفين أيّاما. وقصد أبو حمّو في عسكره مدينة تازى وحاصرها
سبعا، وخرّب قصر الملك هنالك ومسجده المعروف بقصر تازورت.
وبينما هم على ذلك بلغ الخبر اليقين بفتح مراكش وقتل الأمير عبد
الرحمن، فأجفلوا من كل ناحية. وخرج أولاد حسين وأبو العشائر وأبو
تاشفين والعرب الأحلاف في اتباعهم، وأجفل أبو حمّو عن تازى راجعا إلى
تلمسان ومرّ بقصر ونزمار في نواحي بطوية المسمى بمرادة، هدمه ووصل
السلطان إلى فاس وقد تمّ له الظهور والفتح إلى أن كان ما نذكره إن شاء
الله تعالى.
(نهوض السلطان الى تلمسان وفتحها وتخريبها)
كان السلطان لما بلغه ما فعل العرب وأبو حمّو بالمغرب لم يشغله ذلك عن
شأنه، ونقم على أبي حمّو ما أتاه من ذلك، وأنه نقص عهده من غير داع إلى
النقض. فلمّا احتلّ بدار ملكه بفاس أراح أياما، ثم أجمع النهوض إلى
تلمسان. وخرج في عساكره على عادتهم وانتهى إلى تاوريرت. وبلغ الخبر إلى
أبي حمّو، فاضطرب أمره واعتزم على الحصار، وجمع أهل البلد عليه
واستعدّوا له. ثم خرج في بعض
(7/462)
تلك الليالي بولده وأهله وخاصته، وأصبح
مخيّما بالصفصف [1] وانفض أهل البلد إليه بعضهم بعياله وولده مستمسكين
به، متفادين من معرّة هجوم العساكر فلم يرعه ذلك عن قصده، وارتحل ذاهبا
إلى البطحاء. ثم قصد بلاد مغراوة فنزل في بني بو سعيد قريبا من شلف،
وأنزل أولاده الأصاغر وأهله بحصن تاحجمومت. وجاء السلطان إلى تلمسان
فملكها واستقرّ فيها أياما. ثم هدم أسوارها وقصور الملك بها، بإغراء
وليّه ونزمار جزاء بما فعله أبو حمّو في تخريب قصر تازروت وحصن مرادة.
ثم خرج من تلمسان في اتباع أبي حمّو، ونزل على مرحلة منها. وبلغه الخبر
هنالك بإجازة السلطان موسى ابن عمّه أبي عنّان من الأندلس إلى المغرب
وأنه خالفه إلى دار الملك، فانكفأ راجعا وأغذّ السير إلى المغرب كما
نذكر. ورجع أبو حمّو إلى تلمسان واستقرّ في ملكه بها، كما ذكرناه في
أخباره.
اجازة السلطان موسى ابن السلطان أبي عنان من الأندلس الى المغرب
واستيلاؤه على الملك وظفره بابن عمه السلطان أبي العباس وإزعاجه الى
الأندلس)
قد تقدم أنّ السلطان محمد بن الأحمر المخلوع، كان له تحكّم في دولة
السلطان أبي العبّاس بن أبي سالم صاحب المغرب بما كان من إشارته على
محمد بن عثمان ببيعته وهو معتقل بطنجة، ثم بما أمدّه من مدد العساكر
والأموال، حتى أمره واستولى على البلد الجديد كما قدّمناه في أوّل
خبره. ثم بما كان له من الزبون عليهم بالقرابة المرشّحين الذين كانوا
معتقلين بطنجة مع السلطان أبي العبّاس من أسباط السلطان أبي الحسن من
ولد أبي عنان وأبي سالم والفضل وأبي عامر وأبي عبد الرحمن وغيرهم.
وكانوا متعاهدين في معتقلهم أنّ من أتاح الله له الملك منهم يخرجهم من
الاعتقال ويجيزهم إلى الأندلس. فلما بويع السلطان أبو العبّاس وفّى لهم
بهذا العهد وأجازهم إلى الأندلس، فنزلوا على السلطان ابن الأحمر أكرم
نزل، أنزلهم بقصور ملكه بالحمراء وقرّب لهم المراكب، وأفاض عليهم
العطاء ووسّع لهم الجرايات والأرزاق. وأقاموا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بالصفصيف.
(7/463)
هنالك في ظلّ ظليل من كنفه فكان لهم به
وثوب على ملك المغرب وكان الوزير القائم بها محمد بن عثمان يقدر له قدر
ذلك كله فيجري في أغراضه وقصوده ويحكمه في الدولة ما شاء أن يحكمه، حتى
توجّهت الوجوه إلى ابن الأحمر وراء البحر من أشياخ بني مرين والعرب،
وأصبح المغرب كأنّه من بعض أعمال الأندلس. ولما نهض السلطان إلى تلمسان
خاطبوه وأوصوه بالمغرب، وترك محمد بن عثمان بدار الملك كاتبه محمد بن
الحسن، كان مصطنعا عنده من بقيّة شيع الموحّدين ببجاية، فاختصّه ورقّاه
واستخلفه في سفره هذا على دار الملك. فلمّا انتهوا إلى تلمسان وحصل له
من الفتح ما حصل، كتبوا بالخبر إلى السلطان ابن الأحمر مع شيطان من
ذرّية عبّو بن قاسم المرواني [1] كان بدارهم وهو عبد الواحد بن محمد بن
عبّو كان يسمو بنفسه إلى العظائم التي ليس لها بأهل ويتربّص لذلك
بالدولة. وكان ابن الأحمر مع كثرة تحكّمه فيهم يتنحّى لهم بعض الأوقات
بما يأتونه من تقصير في شفاعة أو مخالفة في الأمر لا يجدون عنها وليجة،
فيصطنع [2] لهم ذلك. فلمّا قدم عليه عبد الواحد هذا بخبر الفتح وقصّ
عليه القصص، دسّ له أنّ أهل الدولة مضطربون على سلطانهم ومستبدلون به
لو وجدوا، وبلغ من ذلك ما حمل وما لم يحمل. وأشار له بجلاء المغرب من
الحامية جملة وأنّ دار الملك ليس بها إلّا كاتب حضريّ لا يحسن
المدافعة، وهو أعرف به، فانتهز الفرصة ابن الأحمر وجهّز موسى ابن
السلطان أبي عنان من الأسباط المقيمين عنده. واستوزر له مسعود بن رحّو
بن ماسي من طبقات الوزراء من بني مرين ومن بني قودر من أحلافهم. وله في
ذلك سلف وقد كان بعثه من قبل وزيرا للأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن
حين أجاز إلى المغرب أيام استبداد أبي بكر بن غازي. فلم يزل معه حتى
كان حصار البلد الجديد واستيلاء السلطان أبي العبّاس عليها. وذهب عبد
الرحمن إلى مراكش فاستأذنه مسعود في الانصراف إلى الأندلس، فأذن له
ورجع عنه إلى فاس. ثم فارقها وأجاز إلى الأندلس متودّعا ومتودّدا للكل
ومعوّلا على ابن الأحمر، فتلقّاه بالقبول وأوسع له النزول والجراية
وخلطه بنفسه وأحضره مع ندمائه. ولم يزل كذلك إلى أن جهّزه وزيرا إلى
المغرب مع السلطان أبي عنان وبعث معهما عسكرا. ثم ركب السفين إلى سبتة
وكانت بينه وبين
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المزوار.
[2] فيضطغن: كذا في النسخة المصرية.
(7/464)
شرفائها ورؤساء الشورى بها مداخلة، فقاموا
بدعوة السلطان موسى وأدخلوه وقبضوا على عاملها رحّو بن الزعيم المكدوني
[1] وجاءوا به إلى السلطان فملكها غرّة صفر من سنة ست وثمانين وسبعمائة
وسلّمها إلى ابن الأحمر، فدخلت في طاعته. وسار هو إلى فاس، فوصلها
لأيام قريبة، وأحاط بدار الملك، واجتمع عليه الغوغاء، ونزل الدهش بمحمد
بن الحسن فبادر بطاعته. ودخل السلطان إلى دار الملك، وقبض عليه لوقته،
وذلك في عشر ربيع الأوّل من السنة. وجاء الناس بطاعته من كل جانب، وبلغ
الخبر إلى السلطان أبي العبّاس بمكانه من نواحي تلمسان بأنّ السلطان
موسى قد نزل بسبتة، فجهّز عليّ بن منصور وترجمان الجند وجند النصارى
ببابه مع طائفة منهم. وبعثهم حامية لدار الملك فانتهوا إلى تازى وبلغهم
خبر فتحها فأقاموا هنالك. وأغذّ السلطان أبو العباس السير إلى فاس،
فلقيهم خبر فتحها بتاوريرت، فتقدّم إلى ملوية وتردّد في رأيه بين
المسير إلى سجلماسة مع العرب أو قصد المغرب. ثم استمرّ عزمه، ونزل
بتازى وأقام فيها أربعا، وتقدّم إلى الركن، وأهل دولته خلال ذلك يخوضون
في الانتقاض عليه تسلّلا إلى ابن عمّه السلطان موسى المتولي على فاس،
ويوم أصبح من الركن أرجفوا به. ثم انتقضوا عليه طوائف قاصدين فاس، ورجع
هو إلى تازى بعد أن انتهب معسكره وأضرمت النار في خيامه وخزائنه. ثم
أصبح بتازى من ليلته فدخلها، وعاملها يومئذ الخيّر من موالي السلطان
أبي الحسن.
وذهب محمد بن عثمان إلى وليّ الدولة ونزمار بن عريف وأمراء المغرب من
المعقل. ولما دخل السلطان أبو العباس إلى تازى كتب إلى ابن عمّه
السلطان موسى يذكره العهد بينهما، وقد كان السلطان ابن الأحمر عهد إليه
أن يبعث به إليه إن ظفر به، فبادر السلطان موسى باستدعائه مع جماعة من
وجوه بني عسكر، أهل تلك الناحية، وهم زكريا بن يحيى بن سليمان ومحمد بن
داود بن أعراب [2] ، ومعهم العبّاس بن عمر الوسناني فجاءوا به وأنزلوه
بالزاوية بغدير الحمص بظاهر فاس، فقيّد هنالك ثم بعثه إلى الأندلس
موكلا به مع عمر بن رحّو أخي الوزير مسعود بن ماسي. واستصحب ابنه أبا
فارس وترك سائرهم بفاس وأجاز البحر من سبتة فأنزله السلطان ابن الأحمر
بقلعة ملكه الحمراء، وفكّ قيوده ووكّل به، ووسّع له في الجراية فأقام
هنالك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: المكدودي.
[2] وفي النسخة المصرية: بن عراب.
ابن خلدون م 30 ج 7
(7/465)
محتاطا به الى أن كان ما نذكره ان شاء الله
تعالى.
(نكبة الوزير محمد بن عثمان ومقتله)
أصل هذا الوزير محمد بن الكاس [1] إحدى بطون بني ورتاجن، وكان بنو عبد
الحق عند ما تأثّلوا ملكهم بالمغرب يستعملون منهم في الوزارة. وربّما
وقعت بينهم هنالك وبين بني إدريس وبني عبد الله منافسة، قتلوا فيها بعض
بني الكاس منهم في دولة السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن. ثم استوزره
السلطان أبو الحسن بعد مهلك وزيره يحيى بن طلحة ابن محلى بمكانه من
حصار تلمسان، وقام بوزارته أياما [2] ، وحضر معه وقعة طريف سنة إحدى
وأربعين وسبعمائة من هذه المائة، واستشهد فيها، ونشأ ابنه أبو بكر في
ظلّ الدولة ممتعا بحسن الكفالة وسعة الرزق، وكانت أمّه أمّ ولد، وخلفه
عليها ابن عمه محمد بن عثمان هذا الوزير، فنشأ أبو بكر في حجره.
وكان أعلى رتبة منه بأولية أبيه وسلفه، حتى إذا بلغ أشدّه واستوى سمت
به الحال [3] ، وجال أمصار [4] الملوك في اختياره وترشيحه، حتى استوزره
السلطان عبد العزيز كما قلناه. وقام بوزارته أحسن قيام، وأصبح محمد بن
عثمان هذا رديفه.
وهلك السلطان عبد العزيز فنصّب أبو بكر ابنه السعيد للملك صبيا لم
يثغر، وكان من انتقاض أمره وحصاره بالبلد الجديد واستيلاء السلطان أبي
العبّاس عليه ما قدّمناه، قام محمد بن عثمان بوزارة السلطان أبي
العبّاس مستبدّا عليه. ودفع إليه أمور ملكه، وشغل بلذّاته، فقام محمد
بن عثمان بوزارة السلطان أبي العبّاس من أمور الدولة ما عاناه حتى كان
من استيلاء السلطان موسى على دار ملكهم ما مرّ.
وانفضّ بنو مرين عنه للسلطان أبي العبّاس كما ذكرناه، ورجع إلى تازى،
فدخلها السلطان أبو العبّاس وفارقهم محمد بن عثمان إلى وليّ الدولة
ونزمار بن عريف وهو مقيم بتازى، وتذمّم له فتجهّم له ونزمار وأعرض عنه،
فسار معدّا إلى أحياء المنيات من
__________
[1] وفي النسخة المصرية: أصل هذا الوزير من بني الكاس.
[2] وفي النسخة المصرية: أعواما.
[3] وفي النسخة المصرية: الخلال.
[4] وفي النسخة المصرية: وجالت ابصار.
(7/466)
عرب المعقل. كانوا هنالك قبلة تازى لذمّة
صحابة كانت بينه وبين شيخهم أحمد ابن عبّو فنزل عليه متذمّما به،
فخادعه وبعث بخبره إلى السلطان، فجهّز إليه عسكرا مع المزوار عبد
الواحد بن محمد بن عبّو بن قاسم بن ورزوق بن بومريطت والحسن العوفيّ
[1] من الموالي فتبرّأ منه العرب وأسلموه إليه، فجاءوا به وأشهروه يوم
دخوله إلى فاس. واعتقل أياما وامتحن في سبيل المصادرة ثم استصفى. ثم
قتل ذبحا بمحبسه، والله وارث الأرض ومن عليها.
الخبر عن خروج الحسن بن الناصر بغمارة
ونهوض الوزير ابن ماسي اليه بالعساكر
لما استقل السلطان موسى بملك المغرب وقام مسعود بن ماسي بوزارته
مستبدّا عليه، وكان من تغريبهم السلطان أبا العبّاس إلى الأندلس وقتلهم
[2] وزيره محمد بن عثمان وافتراق أشياع الوزير محمد بن عثمان وقرابته
وبطانته، فطلبوا بطن الأرض ولحق منهم ابن أخيه العبّاس بن المقداد
بتونس، فوجد هنالك الحسن بن الناصر ابن السلطان أبي علي قد لحق بها من
مقرّه بالأندلس في سبيل طلب الملك فثاب له رأي في الرجوع به إلى المغرب
لطلب الأمر هنالك، فخرج به من تونس وقطع المفاوز والمشاق إلى أن انتهى
إلى جبل غمارة، ونزل على أهل الصفيحة منهم، فأكرموا مثواه وتلقّيه،
وأعلنوا بالقيام بدعوته. واستوزر العبّاس بن المقداد. وبلغ الخبر إلى
مسعود ابن ماسي فجهّز العساكر مع أخيه مهدي بن ماسي، فحاصره بجبل
الصفيحة أياما، وامتنع عليهم، فتجهّز الوزير مسعود بن ماسي بالعساكر من
دار الملك وسار لحصاره.
ثم رجع من طريقه لما بلغه من وفاة السلطان بعده، والله أعلم.
(وفاة السلطان موسى والبيعة للمنتصر ابن
السلطان أبي العباس)
كان السلطان موسى لما استقل بملك المغرب استنكف من استبداد ابن ماسي
عليه
__________
[1] وفي النسخة المصرية: بن وزروق بن توقريطت والحسن اوافو من الموالي.
[2] وفي النسخة المصرية: وتكبتهم.
(7/467)
وداخل بطانته في الفتك به. وأكثر ما كان
يفاوض في ذلك كاتبه وخالصته محمد ابن كاتب أبيه، وخالصته محمد بن أبي
عمر. وكان للسلطان موسى ندمان يطلعهم على الكثير من أموره منهم العبّاس
بن عمر بن عثمان الوسناقي، وكان الوزير مسعود بن ماسي قد خلّف أبا عمر
على أمّه وربي في حجره، فكان يدلي إليه بذلك، وينهي إليه ما يدور في
مجلس السلطان في شأنه. فحصلت للوزير بذلك نفرة طلب لأجلها البعد عن
السلطان. وبادر للخروج لمدافعة الحسن القائم بغمارة. واستخلف على دار
الملك أخاه يعيش بن رحّو بن ماسي. فلما انتهى إلى القصر الكبير لحقه
الخبر بوفاة السلطان موسى، وكانت وفاته في جمادى الآخرة طرقه المرض
فهلك ليوم وليلة لثلاث سنين من خلافته. وكان الناس يرمون يعيش أخا
الوزير بأنّه سمّه، وبادر يعيش فنصب ابن عمّه للملك، وهو المنتصر ابن
السلطان أبي العبّاس، وانكفأ راجعا لوزير مسعود من القصر، وقتل السبيع
محمد بن موسى من طبقة الوزراء، وقد مرّ ذكره وذكر قومه، وكان اعتقله
أيام السلطان موسى فقتله بعد وفاته. واستمرّت أمور الدولة في استقلاله
والله أعلم.
(إجازة الواثق محمد بن أبي الفضل ابن
السلطان أبي الحسن من الأندلس والبيعة له)
كان الوزير مسعود بن ماسي لما استوحش من السلطان موسى بعث ابنه يحيى
وعبد الواحد المزوار إلى السلطان ابن الأحمر يسأل منه إعادة السلطان
أبي العبّاس إلى ملكه فأخرجه ابن الأحمر من الاعتقال وجاء به إلى جبل
الفتح يروم إجازته إلى العدوة.
فلما توفي السلطان موسى بدا للوزير مسعود في أمره، ودسّ للسلطان ابن
الأحمر في ردّه، وأن يبعث إليه بالواثق محمد بن أبي الفضل ابن السلطان
أبي الحسن من القرابة المقيمين عنده. ورآه أليق بالاستبداد والحجر،
فأسعفه ابن الأحمر في ذلك، وردّ السلطان أحمد إلى مكانه بالحمراء، وجاء
بالواثق فحضر بجبل الفتح عنده، وفي خلال ذلك وصل جماعة من أهل الدولة
وانتقضوا على الوزير مسعود، ولحقوا بسبتة، وأجازوا إلى السلطان ابن
الأحمر وهم يعيش بن علي بن فارس الياباني
(7/468)
وسيّور بن يحيى بن عمر الونكاسني وأحمد بن
محمد الصبيحيّ، فوفد [1] إليهم الواثق، ورجعوا به إلى المغرب على أنّهم
في خدمة الوزير، حتى إذا انتهوا إلى جبل زرهون المطل على مكناسة أظهروا
الخلاف على الوزير وصعدوا الى قبائل زرهون واعتصموا بجبلهم. ولحق بهم
من كان على مثل دينهم من الخلاف على ابن ماسي وصاروا معهم يدا مثل طلحة
بن الزبير الورتاجني وسيّور بن يحياتن بن عمر الونكاسني ومحمد التونسي
من بني أبي الطلاق وفارح بن مهدي من معلوجي السلطان، وأصله من موالي
بني زيان ملوك تلمسان.
وكان أحمد بن محمد الصبيحي حين جاء مع الواثق قد استطال على أصحابه
وأصهر الاستبداد بما كان من طائفة الجند المستخدمين، فغصّ به أهل
الدولة وتبرءوا منه للسلطان الواثق، فأظهر لهم البراءة منه، فوثبوا به
وقتلوه عند خيمة السلطان، وتولّى كبر ذلك يعيش بن علي بن فارس الياباني
كبير بني مرين، فذهب مثلا في الغابرين، ولم تبك عليه سماء ولا أرض.
وكان رزوق بن بوفريطت من موالي بني علي بن زيّان من شيوخ بني ونكاسن من
أعيان الدولة ومقدّمي الجند، قد انتقض على الدولة أيام السلطان موسى
ولحق بأحياء أولاد حسين من عرب المعقل المخالفين منذ أيام السلطان
موسى. ونزل على شيخهم يوسف بن علي بن غانم لذمّة صحابة بينهما من
جوارهم في المواطن. وكان معه في ذلك محمد بن يوسف بن علّال، كان أبوه
يوسف من صنائع السلطان أبي الحسن، ونشأة دولته استوحشا من الوزير،
فلحقا بالعرب [2] فلمّا جاء هذا السلطان الواثق قدما عليه، فلقيهما
بالتكرمة وأحلّهما في مقامهما من الدولة، وخرج الوزير مسعود بن ماسي في
العساكر، ونزل قبائلهم بجبل مغيلة وقاتلهم هنالك أياما وداخل الذين مع
الواثق واستمالهم. وبعث عسكرا إلى مكناسة فحاصروها، وكان بها يومئذ عبد
الحق بن الحسن بن يوسف الورتاجني، فاستنفر له منها وملكها، وتردّدت
المراسلات بينه وبين الواثق وأصحابه على أن ينصبوه للأمر.
ويبعث بالمنتصر المنصوب عنده إلى أبيه السلطان أبي العبّاس بالأندلس
وانعقد الأمر بينهم على ذلك. وسار الواثق في أصحابه إلى الوزير ابن
ماساي فنزل عليه. ومضى يعيش بن علي بن فارس عنهم ذاهبا لوجهه. وسار
الوزير بالواثق إلى دار الملك،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فدفع.
[2] وفي النسخة المصرية: بالمغرب.
(7/469)
فبايعه في شوال سنة ثمان وثمانين وسبعمائة
بعد أن اشترط عليه لنفسه وأصحابه ما شاء. وأجاز سلطانه المنتصر إلى
أبيه السلطان أبي العباس بالأندلس وقبض على جماعة ممن كان مع الواثق
مثل المزوار عبد الواحد، وقتله، وعلى فارح بن مهدي وحبسه، وعلى الخيّر
مولى الأمير عبد الرحمن وامتحنه، وعلى آخرين سواهم. ثم قبض على جماعة
من بطانة السلطان موسى كانوا يداخلونه في القبض والفتك به، فحبسهم وقتل
بعضهم. وعلى جند الأندلس الذين جاءوا مددا للواثق، وعلى قوّادهم من
معلوجي ابن الأحمر فأودعهم السجن. ثم تقبّض على كاتب السلطان موسى بن
أبي الفضل بن أبي عمر مرجعه من السفارة عن سلطانه إلى الأندلس، فاعتقله
وصادره. ثم خلّى سبيله. ثم بعث إلى الحسن بن الناصر الثائر بجبل
الصفيحة من غمارة مع إدريس بن موسى بن يوسف الياباني، فخادعه باستدعائه
للملك والبيعة له، فخدعه واستنزله وجاء به فاعتقله أياما. ثم أجازه
للأندلس، واستقرّ الأمر على ذلك، والله أعلم.
الفتنة بين الوزير ابن ماسي وبين السلطان ابن الأحمر واجازة السلطان
أبي العباس الى سبتة لطلب ملكه واستيلاؤه عليها
لما بلغ الوزير ابن ماسي للواثق ورأى أنه قد استقلّ بالدولة ودفع عنها
الشواغب، وصرف نظره إلى ما فرّط من أعمال الدولة، وافتتح أمره بسبتة.
وقد كان السلطان موسى لأول إجازته أعطاها لابن الأحمر كما مرّ. فبعث
إليه الآن الوزير ابن ماسي في ارتجاعها منه على سبيل الملاطفة، فاستشاط
لها ابن الأحمر ولجّ في الردّ، فنشأت الفتنة لذلك، وجهّز ابن ماسي
العساكر لحصار سبتة مع العبّاس بن عمر بن عثمان الوسنافي ويحيى بن
علّال بن أمصمود، والرئيس محمد بن أحمد الأبكم من بني الأحمر. ثم من
بيت السلطان الشيخ فاتح أمرهم وممهّد دولتهم، وراسل السلطان إشبيلية
والجلالقة من بني أدفونش وراء البحر، بأن يبعث إليهم ابن عمّ السلطان
ابن الأحمر محمد بن إسماعيل مع الرئيس الأبكم ليجلبا من ناحيته على
الأندلس.
وجاءت عساكر الوزير إلى سبتة فحاصروها ودخلوها عنوة. واعتصم حامية
الأندلس الذين كانوا بها بالقصبة، واتصلت الجولة بين الفريقين وسط
البلد، وأوفد
(7/470)
أهل القصبة النيران بالجبل علامة على أمرهم
ليراها ابن الأحمر. وكان مقيما بمالقة، فبادر بتجهيز الأسطول مشحونا
بالمقاتلة مددا لهم. ثم استدعى السلطان أبو العباس من مكانه بالحمراء،
وأركبه السفين إلى القصبة في غرّة صفر سنة تسع وثمانين وسبعمائة وأشرف
عليهم من الغد وناداهم من السور يدعوهم إلى طاعته. فلمّا رأوه اضطربوا
وافترقوا وخرج إليهم، فنهب سوادهم ودخلوا في طاعته متسايلين، ورجع
جمهور العسكر ومقدّموهم إلى طنجة واستولى السلطان على مدينة سبتة. وبعث
إليه ابن الأحمر بالنزول عنها، وردّها إليه فاستقرت في ملكه وكملت بها
بيعته، وكان يوليه أمر الأضياف الواردين والله تعالى أعلم.
مسير السلطان أبي العباس من سبتة لطلب ملكه
بفاس ونهوض ابن ماسي لدفاعه ورجوعه منهزما
ولما استولى السلطان أبو العباس على سبتة وتمّ له ملكها، واعتزم على
المسير لطلب ملكه بفاس، وأغراه ابن الأحمر بذلك ووعده بالمدد لما كان
من مداخلة ابن ماسي لجماعة من بطانته في أن يقتلوه ويملّكوا الرئيس
الأبكم يقال: إنّ الّذي داخله في ذلك من بطانة ابن الأحمر يوسف بن
مسعود البلنسيّ، ومحمد ابن الوزير أبي القاسم بن الحكيم الرنديّ وشعر
بهم السلطان ابن الأحمر وهو يومئذ على جبل الفتح يطالع أمور السلطان
أبي العبّاس، فقتلهم جميعا وإخوانهم. ويقال: إنّ ذلك كان بسعاية القائم
على دولته مولاه خالد، كان يغصّ بهم ويعاديهم، فأخفى عليهم هذه [1] .
وتمت سعايته بهم، فاستشاط ابن الأحمر غضبا على ابن ماسي، وبعث إلى
السلطان أبي العبّاس يستنفره للرحلة إلى طلب ملكه، فاستخلف على سبتة
رحّو ابن الزعيم المكرودي عاملها من قبل كما مرّ وسار إلى طنجة وعاملها
من قبل الواثق صالح بن رحّو الياباني ومعه بها الرئيس الأبكم من قبل
العساكر، فحاصرها أياما وامتنعت عليه فجمّر عنهم الكتائب وسار عنها إلى
أصيلا، فدخلت في دعوته وملكها. ونهض الوزير من فاس في العساكر بعد أن
استخلف أخاه يعيش على دار
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فاحتال عليهم بهذه.
(7/471)
الملك وسار. ولحقت مقدّمته بأصيلا ففارقها
السلطان أبو العبّاس، وصعد إلى جبل الصفيحة، فاعتصم به وجاء الوزير ابن
ماسي فتقدّم الى حصاره بالجبل، وجمع عليه رماة الرجل من الأندلسيّين
الذين كانوا بطنجة، وأقام يحاصره بالصفيحة شهرين. وكان يوسف بن علي بن
غانم شيخ أولاد حسين من عرب المعقل، مخالفا على الوزير مسعود وداعية
إلى السلطان أبي العبّاس وشيعة له. وكان يراسل ابن الأحمر في شأنه.
فلما سمع باستيلائه على سبتة وإقباله إلى فاس، جمع أشياعه من العرب،
ودخل في طاعته إلى بلاد المغرب ما بين فاس ومكناسة. وشنّ الغارات على
البسائط واكتسحها، وأرجف الرعايا وأجفلوا إلى الحصون، وكان ونزمار بن
عريف وليّ الدولة شيعة للسلطان، وكان يكاتبه وهو بالأندلس ويكاتب ابن
الأحمر بشأنه.
فلمّا اشتدّ الحصار بالسلطان في الصفيحة، بعث ابنه أبا فارس إلى ونزمار
بمكانه من نواحي تازى. وبعث معه سيّور بن يحيى بن عمر، فقام ونزمار
بدعوته، وسار به إلى مدينة تازى، وعاملها سليمان الغودودي من قرابة
الوزير ابن ماسي. فلمّا نزل بها أبو فارس ابن السلطان بادر إلى طاعته
وأمكنه من البلد، فاستولى عليها واستوزر سليمان هذا. وسار إلى صفيروا
[1] ومعه ونزمار للاجتماع بعرب المعقل وأسفّ بهم إلى حصار فاس. وكان
محمد بن الدمغة عاملا على ورغة، فبعث إليه السلطان عسكرا مع العبّاس بن
المقداد ابن أخت الوزير محمد بن عثمان فقتلوه وجاءوا برأسه، ونجم
الخلاف على يعيش بالبلد الجديد من كل جهة، وطيّر الخبر بذلك كلّه إلى
أخيه بمكانه من حصار السلطان بالصفيحة، فانفضّت عنه العساكر وأجفل
راجعا إلى فاس. وسار السلطان في اتباعه ودخل في طاعته عامل مكناسة،
وجاء الخيّر مولى الأمير عبد الرحمن ولقيه يوسف بن علي بن غانم ومن معه
من أحياء العرب، وساروا جميعا إلى فاس. وكان أبو فارس ابن السلطان قد
رحل من تازى إلى صفيروا للقاء أبيه، فاعترضه ابن ماسي في العساكر رجاء
أن يفلّه. ولقيه ببني بهلول فنزع أهل المعسكر إلى أبي فارس ابن السلطان
وهو بمكناسة، فارتحل يغذّ السير إلى فاس.
وسار ابنه أبو فارس للقائه على وادي النجا. وصبحوا البلد الجديد فنزلوا
عليه بجموعهم وقد اعتصم به الوزير في أوليائه وبطانته، ومعه يغمراسن بن
محمد
__________
[1] وفي النسخة المصرية: صفروي وفي نسخة أخرى: صفرون.
(7/472)
السالفي [1] ومراهن بني مرين الذين
استرهنهم عند مسيره للقاء السلطان بأصيلا، والله أعلم.
(ظهور دعوة السلطان أبي العباس في مراكش
واستيلاء أوليائه عليها)
كان الوزير مسعود بن ماسي قد ولّى على مراكش وأعمال المصامدة أخاه عمر
بن رحّو وكانت منتظمة في طاعته. فلما بلغ الخبر بوصول السلطان إلى سبتة
واستيلائه عليها قامت [2] رءوس أوليائه إلى إظهار دعوته بتلك النواحي،
فقام بدعوته بجبل الهساكرة عليّ بن زكريا. وبعث الوزير مسعود من مكانه
في حصار السلطان بالصفيحة في أمداده بالعساكر من مراكش، فزحف إليه
مخلوف بن سليمان الوارتيني [3] صاحب الأعمال ما بين مراكش والسوس، وقعد
الباقون عن نصره وتفرّقوا. وصعد أبو ثابت حافد عليّ بن عمر إلى جبل
الهساكرة ومعه يوسف بن يعقوب بن علي الصبيحي، فاستمدّ علي بن زكريا
ورجع إلى مراكش مجلبا على عليّ ابن رحّو مناوشة القتال ساعة. ثم غلبه
على البلد وملكها من يده ونزل بقصبة الملك.
وحبس عمر بن رحّو بها. وكتب للسلطان بذلك، وهو بمكناسة متوجها إلى فاس،
فكتب إليه بأن يصله بعساكر مراكش لحصار دار الملك فجمع العساكر واستخلف
على قصبة مراكش بعض بني عمّه، ولحق بالسلطان، وأقام معه في حصار البلد
الجديد، والله أعلم.
(ولاية المنتصر ابن السلطان أبي علي على
مراكش واستقلاله بها)
كان السلطان أبو العباس حين ملك المغرب بعث ابنه المنتصر في البحر إلى
سلا،
__________
[1] وفي النسخة المصرية: التنالقني.
[2] وفي النسخة المصرية: تطاولت.
[3] وفي النسخة المصرية: الوارتني وفي نسخة أخرى: الواريني.
(7/473)
واستوزر له عبد الحق بن يوسف الورتاجني [1]
فوصل الى سلا وأقام بها، ومرّ به رزوق بن توفريطت راجعا من دكالة، حين
نزول السلطان على البلد الجديد، فتلطّف في استدعائه، ثم قبض عليه وبعث
به لأبيه مقيّدا فأودعه السجن وقتل بعد ذلك بمحبسه. ثم بعث السلطان إلى
ابنه المنتصر بولاية مراكش وأن يسير إليها. فلما وصل إلى مراكش امتنع
النائب بالقصبة، فدسّ لعبد الحق وزير المنتصر أنّ النائب قد همّ بقتله،
وحينئذ يمكّن المنتصر من القصبة. فأجفل بالمنتصر وصعد إلى جبل هنتاتة،
وطيّر بالخبر إلى السلطان، فتغيّر لأبي ثابت وأمره أن يكاتب نائبة
بتمكين ابنه من القصبة. واستوزر له سعيد بن عبدون وبعثه بالكتاب، وعزل
عبد الحق عن وزارة ابنه، واستدعاه لفاس، فوصل سعيد بن عبدون إلى مراكش،
ودفع إلى النائب بالقصبة كتاب مستخلفه إلى الامتثال، وأمكنه من القصبة
واعتزل عنها فدخلها. وبعث عن المنتصر ابن السلطان، واستولوا عليها،
وقبضوا على نائب عامر الّذي كان بها وسائر شيعته وبطانته، وامتحنوهم
واستصفوهم إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(حصار البلد الجديد وفتحها ونكبة الوزير
ابن ماسي ومقتله)
لما نزل السلطان على البلد الجديد واجتمع إليه سائر قبيلته وأوليائه
وبطانته، داخل الوزير مسعودا الحنق على بني مرين لانتباذهم عنه. فأمر
بقتل أبنائهم الذين استرهنوهم على الوفاء له، فلاطفه يغمراسن السالفي
في المنع من ذلك، فأقصر عنه، وضيّق السلطان مخنقه بالحصار ثلاثة أشهر
حتى دعا إلى النزول والطاعة، فبعث إليه ولي الدولة ونزمار بن عريف
وخالصته محمد بن علّال فعقد لهم الأمان لنفسه ولمن معه على أن يستمرّ
على الوزارة ويبعث بسلطانه الواثق إلى الأندلس، واستحلفهم على ذلك وخرج
معهم للسلطان فدخل السلطان البلد الجديد خامس رمضان سنة تسع وثمانين
وسبعمائة لثلاثة أعوام وأربعة أشهر من خلعه. ولحين دخوله قبض على
الواثق
__________
[1] وفي النسخة المصرية: عبد الحق بن الحسن بن يوسف.
(7/474)
وبعث به معتقلا إلى طنجة وقتل بها بعد ذلك.
ولما استولى على أمره قبض على الوزير ابن ماسي ليومين من دخوله، وإخوته
وحاشيته، وامتحنهم جميعا فهلكوا في العذاب. ثم سلّط على مسعود من
العذاب والانتقام ما لا يعبّر عنه، ونقم عليه ما فعله في دور بني مرين
النازعين إلى السلطان، فإنه كان متى هرب عند أحد منهم يعمد إلى بيوته
فينهبها ويخرّبها فأمر السلطان بعقابه في أطلالها، فكان يؤتى به إلى كل
بيت منها، فيضرب عشرين سوطا إلى أن قتله العذاب [1] وتجاوز الحدّ. ثم
أمر به فقطعت أربعته، فهلك عند قطع الثانية، فذهب مثلا في الآخرين.
(وزارة محمد بن علال [2] )
كان أبوه يوسف بن علّال من رؤساء الدولة [3] وصانعة السلطان أبي الحسن.
وربّي في داره. ولمّا ضخم أمره سما به إلى ولاية الأعمال، فولّاه على
درعة فانتزى وانتخب أولياء الدولة. ثم ولّاه السلطان أبو عنان أمر طنجة
ومائدته وضيوفه واستكفى به في ذلك، وولّاه أخوه أبو سالم بعده كذلك. ثم
بعثه إلى سجلماسة فعانى بها من أمور العرب مشقّة، وعزلها عنها، وهلك
بفاس. وكان له جماعة من الولد قد نشؤا في ظلّ هذه النعمة، وحدبت
النجابة بمحمد المذكور منهم. فلما استولى السلطان أبو العبّاس استعمله
في أمور الضيوف والمائدة كما كانت لأبيه. ثم رقّاه إلى المخالصة وخلطه
بنفسه، فلمّا خلع السلطان واستولى الوزير ابن ماسي على المغرب، وكانت
بينه وبين أخيه يعيش بن ماسي إحن قديمة، فسكن لصولتهم حتى إذا اضطرمت
نار الفتنة بالمغرب وأجلبت عرب المعقل الخلاف، فاستوحش محمد هذا، فلحق
بأحيائهم مع رزوق بن توفريطت كما مرّ ذكره ونزل على يوسف بن علي بن
غانم شيخ أولاد حسين، وأقاما معه في خلافه، حتى إذا أجاز السلطان
الواثق إلى الأندلس، ووصل مع أصحابه إلى جبل زرهون، وأظهروا الخلاف على
ابن ماسي بادر محمد هذا ورزوق إلى السلطان، ودخلا في طاعته متبرّءين من
النفاق الّذي حملهم عليه
__________
[1] وفي النسخة المصرية: إلى أن أفحش فيه العذاب.
[2] وفي النسخة المصرية: هلال.
[3] وفي النسخة المصرية: من نشأة الدولة.
(7/475)
عداوة الوزير ابن ماسي. فما كان إلّا أن
انعقد الصلح بين الواثق وابن ماسي وسار به وأصحابه إلى فاس، وحصلوا في
قبضة ابن ماسي فعفا لهم عمّا كان منهم، واستعملهم في مهود ولايتهم. ثم
جاء الخبر بإجازة السلطان أبي العباس إلى سبتة، فاضطرب محمد بن يوسف
وذكر مخالصة السلطان ومنافرة ابن ماسي، فأجمع أمره ولحق بسبتة، فتلقّاه
السلطان بالكرامة، وسرّ بمقدمه ودفعه إلى القيام بأمر دولته، فلم يزل
متصرّفا بين يديه إلى أن نزل إلى البلد الجديد. ولأيام من حصارها خلع
عليه الوزارة ودفعه إليها، فقام بها أحسن قيام. ثم كان الفتح وانتظم
أمر الدولة، ومحمد هذا يصرّف الوزارة على أحسن أحوالها إلى أن كان ما
نذكره إن شاء الله تعالى.
(ظهور محمد بن السلطان عبد الحليم
بسجلماسة)
قد تقدّم لنا ذكر السلطان عبد الحليم ابن السلطان أبي علي، وكان يدعى
بحلي كيف، بايع له بنو مرين وأجلبوا به على عمر بن عبد الله سنة ثلاث
وستين وسبعمائة أيام مبعثه للسلطان أبي عمر ابن السلطان أبي الحسن.
وحاصروا معه البلد الجديد حتى خرج لدفاعهم وقاتلهم، فانهزموا وافترقوا.
ولحق السلطان عبد الحليم بتازى وأخوه عبد المؤمن بمكناسة، ومعه ابن
أخيهما عبد الرحمن بن أبي يفلوسن. ثم بايع الوزير عمر بن عبد الله
لمحمد بن أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن واستبدل به من أبي عمر
لما كان بنو مرين يرمونه بالجنون والوسوسة، فاستدعى محمد بن أبي عبد
الرحمن من مطرح اغترابه بإشبيليّة وبايعه وخرج في العساكر لمدافعة عبد
المؤمن وعبد الرحمن عن مكناسة، فلقيهما وهزمهما ولحقا بالسلطان عبد
الحليم بتازى وساروا جميعا إلى سجلماسة، فاستقرّوا فيها والسلطان عبد
الحليم، وقد تقدّم خبر ذلك كله في أماكنه. ثم كان الخلاف بين عرب
المعقل أولاد حسين والأحلاف. وخرج عبد المؤمن للإصلاح بينهم، فبايع له
أولاد حسين ونصّبوه كرها للملك. وخرج السلطان عبد الحق إليهم في جموع
الأحلاف فقاتلوه وهزموه، وقتلوا كبار قومه، كان منهم يحيى بن رحّو بن
تاشفين بن معطي شيخ بني تيربيغن وكبير دولة بني مرين، أجلت المعركة عن
قتله. ودخل عبد المؤمن البلد منفردا بالملك.
وصرف السلطان أخاه عبد الحليم إلى المشرق لقضاء فرضه برغبته في ذلك،
فسار على
(7/476)
طريق القفر مسلك الحاج من التكرور إلى أن
وصل القاهرة، والمستبدّ بها يومئذ يلبغا الخاصكي، على الأشرف شعبان بن
حسين من أسباط الملك الناصر محمد بن قلاوون، فأكرم وفادته ووسّع نزله
وجرايته، وأدرّ لحاشيته الأرزاق، ثم أعانه على طريقه للحج بالأزواد
والأبنية والظهر من الكراع والخفّ. ولما انصرف من حجّه زوّده لسفر
المغرب. وهلك بضروجة [1] سنة سبع وستين وسبعمائة ورجعت حاشيته إلى
المغرب بحرمة وولده. وكان ترك محمدا هذا رضيعا، فشبّ متقلّبا من الدولة
من ملك إلى آخر، منتبذا عن قومه بغيرة السلطان أبي الحسن من بني عمّهم
السلطان أبي عليّ. وكان أكثر ما يكون مقامه عند أبي حمّو سلطان بني عبد
الواد بتلمسان لما يروم به من الأجلاب على المغرب، ودفع عادية بني مرين
عنه. فلمّا وقع بالمغرب من انتقاض عرب المعقل على الوزير مسعود بن ماسي
سنة تسع وثمانين وسبعمائة واستمرّوا على الخلاف، انتهز أبو حمّو
الفرصة، وبعث محمد بن عبد الحليم هذا إلى المعقل ليجلب بهم على المغرب،
ويمزّقوا من الملك ما قدروا عليه، فلحق بأحيائهم ونزل على الأحلاف
الذين هم أمس رحما بسجلماسة وأقرب موطنا إليها. وكان الوزير ابن ماسي
قد ولّى عليها من أقاربه عليّ بن إبراهيم بن عبّو بن ماسي، فلما ظهر
عليه السلطان أبو العبّاس وضيّق مخنقه بالبلد الجديد، دسّ إلى الأحلاف
وإلى قريبه عليّ ابن إبراهيم أن ينصّب محمد ابن السلطان أبي العباس
عنه، وينفّسوا من حصاره، ففعلوا ذلك. ودخل محمد إلى سجلماسة فملكها،
وقام عليّ بن إبراهيم بوزارته حتى إذا استولى السلطان أبو العباس على
البلد الجديد، وفتك بالوزير مسعود بن ماسي وبإخوته وسائر قرابته، اضطرب
علي بن إبراهيم وفسد ما بينه وبين سلطانه محمد، فخرج عن سجلماسة ودعا
إلى أبي حمو سلطان تلمسان كما كان.
ثم زادت هواجس علي بن إبراهيم وارتيابه فخرج عن سجلماسة وتركها، ولحق
بأحياء العرب. وسارت طائفة منهم معه إلى أن أبلغوه مأمنه. ونزل على
السلطان أبي حمّو إلى أن هلك، فسار إلى تونس وحضر وفاة السلطان أبي
العبّاس بها سنة تسع وتسعين وسبعمائة ولحق محمد ابن السلطان عبد الحليم
بعد مهلك أبي حمّو بتونس. ثم ارتحل بعد وفاة السلطان أبي العبّاس الى
المشرق لحجة فرضه [2] ، والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي النسخة المصرية: بتروجة وفي نسخة أخرى: بيروجة.
[2] وفي النسخة المصرية: الى المشرق في سبيل جولة ووطاوعة واغتراب.
(7/477)
(نكبة ابن أبي عمر
ومهلكه وحركات ابن حسون)
لما استقل السلطان بملكه واقتعد سريره، صرف نظره إلى أولياء تلك الدولة
ومن يرتاب منه. وكان محمد بن أبي عمر قد تقدّم ذكره وأوّليته، من جملة
خواصه وأوليائه وندمائه. وكان السلطان يقسم له من عنايته وجميل نظره
ويرفعه عن نظرائه. فلمّا ولي السلطان موسى نزعت إليه نوازع المخالصة
لأبيه من السلطان أبي عنان فقد كان أبوه أعزّ بطانته كما مرّ، فاستخلصه
السلطان موسى للشورى ورفعه على منابر أهل الدولة. وجعل إليه كتاب
علامته على المراسم السلطانية، كما كان لأبيه.
وكان يفاوضه في مهمّاته ويرجع إليه في أموره حتى غصّ به أهل الدولة
ونمي عنه للوزير مسعود بن ماسي أنه يداخل السلطان في نكبته. وربما سعى
عند سلطانه في جماعة من بطانة السلطان أحمد، فأتى عليهم النكال والقتل
لكلمات [1] كانت تجري بينهم وبينه في مجالسة المنادمة عند السلطان
حقدها لهم. فلما ظفر بالحظ من سلطانه، سعى بهم فقتلهم. وكان القاضي أبو
إسحاق اليزناسني من بطانة السلطان أحمد وكان يحضر مع ندمائه فحقد له
ابن أبي عامر، وأغرى به سلطانه فضربه وأطافه، وجاء بها شنعاء غريبة في
القبح. وسفر عن سلطانه إلى الأندلس، وكان يمرّ بمجلس السلطان أحمد
ومكان اعتقاله. وربّما يلقاه فلا يلمّ إليه ولا يجيبه [2] ، ولا يوجب
له حقا، فأحفظ ذلك السلطان. ولما فرغ من ابن ماسي قبض على ابن أبي عمر
هذا وأودعه السجن، ثم امتحنه بعد ذلك إلى أن هلك بالسياط، عفا الله
عنه. وحمل إلى داره، وبينما أهله يحضّرونه إلى قبره وإذا بالسلطان قد
أمر بأن يسحب بنواحي البلد إبلاغا في التنكيل، فحمل من نعشه وقد ربط
حبل برجله، وسحب في سائر أنحاء المدينة. ثم ألقي في بعض المزابل [3] .
ثم قبض على حركات ابن حسّون وكان مجلبا في الفتنة، وكان العرب
المخالفون من المعقل، لما أجاز السلطان إلى سبتة، وحركات هذا بتدلّا،
راودوه على طاعة السلطان فامتنع أوّلا. ثم أكرهوه وجاءوا به
__________
[1] وفي النسخة المصرية: لفلتات.
[2] وفي النسخة المصرية: فلم يلم بتحية.
[3] وفي النسخة المصرية: ثم القي على بعض الكثبان من أطرافها وأصبح
مثلا في الآخرين.
(7/478)
إلى السلطان فطوى على ذلك حتى استقام أمره.
وملك البلد الجديد فتقبّض عليه وامتحنه، إلى أن هلك، والله وارث الأرض
ومن عليها.
(خلاف علي بن زكريا بجبل الهساكرة ونكبته)
لما ملك السلطان البلد الجديد واستولى على ملكه، وفد عليه علي بن زكريا
شيخ هسكورة مستصفيا [1] بما قدم من سوابقه. وقد كان حضر معه حصار البلد
الجديد واستدعاه، فجاء بقومه وعساكر المصامدة وأبلى في حصارها، فرعى
السلطان سوابقه وولّاه الولاية الكبرى على المصامدة على عادة الدولة في
ذلك. ثم وفد معه محمد بن إبراهيم الميراري [2] من شيوخ المصامدة وكانت
له ذمّة صهر مع الوزير محمد ابن يوسف بن علّال على أخته، فولّاه
السلطان مكان علي بن زكريا فغضب لها واستشاط وبادر إلى الانتقاض
والخلاف. ونصب بعض القرابة من بني عبد الحق، فجهّز إليه السلطان
العساكر مع محمد بن يوسف بن علّال وصالح بن حمّو الياباني وأمر صاحب
درعة وهو يومئذ عمر بن عبد المؤمن بن عمر أن ينهض إليه بعساكر درعة من
جهة القبلة، فساروا إليه وحاصروه في جبله. وجاولوه مرّات ينهزم في
جميعها حتى غلبوه على جبله. وسار إلى إبراهيم بن عمران الصناكي المجاور
له في جبله فاستذمّ به. وخشي إبراهيم معرّة الخلاف والغلب، ورغّبه
الوزير محمد بن يوسف بما بذل له، فأمكنه منه، وقبض على الوزير وجاء به
إلى فاس، فأدخله في يوم مشهود وشهّره، واعتقل فلم يزل في الاعتقال إلى
أن هلك السلطان أبو العبّاس.
وارتاب به أهل الدولة بعده فقتلوه، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفادة أبي تاشفين على السلطان أبي العباس
صريخا على أبيه ومسيره بالعساكر ومقتل أبيه السلطان أبي حمو
كان أبو تاشفين ابن السلطان أبي حمو قد وثب على أبيه آخر ثمان وثمانين
وسبعمائة
__________
[1] وفي النسخة المصرية: مستصبا.
[2] وفي نسخة ثانية: المبرازي.
(7/479)
بممالئته لغيره من إخوته واعتقله بوهران.
وخرج بالعساكر لطلب إخوته المنتصر وأبي زيّان وعمر [1] فامتنعوا عند
حصين بجبل تيطرى فحاصرهم أياما. ثم تذكر غائلة أبيه، فبعث ابنه أبا
زيّان في جماعة من بطانته منهم ابن الوزير عمران بن موسى وعبد الله بن
جابر الخراساني، فقتلوا بعض ولده بتلمسان، ومضوا إليه وهو بمحبسه في
وهران. فلمّا شعر بهم أشرف من الحصن ونادى في أهل المدينة متذمّما بهم،
فهرعوا إليه. وتدلّى إليهم في عمامته وقد احتزم بها فأنزلوه وأحدقوا به
وأجلسوه على سريره. وتولّى كبر ذلك خطيب البلد ابن جذورة [2] ولحق أبو
زيّان بن أبي تاشفين ناجيا إلى تلمسان. واتبعه السلطان أبو حمّو ففرّ
منها إلى أبيه. ودخل أبو حمّو تلمسان وهي طلل وأسوارها خراب، فأقام
فيها رسم دولته. وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين فأجفل من تيطرى وأغذّ السير
فدخلها. واعتصم أبوه بمئذنة المسجد، فاستنزله منها وتجافى عن قتله.
ورغب إليه أبوه في رحلة المشرق لقضاء فرضه، فاسعفه وأركبه السفين مع
بعض تجّار النصارى إلى الإسكندرية موكلا به. فلمّا حاذى مرسى بجاية
لاطف النصراني في تخلية سبيله فأسعفه وملك أمره. وبعث إلى صاحب الأمر
ببجاية يستأذنه في النزول، فأذن له. وسار منها إلى الجزائر، واستخدم
العرب، واستصعب عليه أمر تلمسان، فخرج إلى الصحراء. وجاء إلى تلمسان من
جهة المغرب فهزم عساكر ابنه أبي تاشفين وملكها. وخرج أبو تاشفين هاربا
منها، فلحق بأحياء سويد في مشاتيهم. ودخل أبو حمّو تلمسان في رجب سنة
تسعين وسبعمائة. وقد تقدّم شرح هذه الأخبار كلّها مستوعبة. ثم وفد أبو
تاشفين مع محمد بن عريف شيخ سويد على السلطان أبي العبّاس صريخا على
أبيه، ومؤمّلا الكرّة بإمداده. فبعث له السلطان وأجمل عليه المواعيد.
وقام أبو تاشفين في انتظارها والوزير محمد بن يوسف بن علّال يعده
ويمنّيه ويحلف له على الوفاء. وبعث السلطان أبو حمّو إلى ابن الأحمر
لما يعلم من استطالته على دولة بني مرين كما مرّ، يتوسّل إليه في أن
يصدّهم عن صريخ أبي تاشفين وإمداده عليه فجلا ابن الأحمر في ذلك وجعلها
من أهمّ حاجاته. وخاطب السلطان أبا العباس في أن يجيز إليه أبا تاشفين،
فتعلّل عليه في ذلك بأنه استجار بابنه أبي فارس، واستذمّ به. ولم يزل
الوزير ابن علّال يفتل لسلطانه ولابن الأحمر في
__________
[1] وفي النسخة المصرية: وعمير (وهي الأصح) .
[2] وفي النسخة المصرية: خزروت وفي نسخة أخرى: حرزورة.
(7/480)
الذروة والغارب، حتى تمّ أمره وأنجز له
السلطان بالنظر موعده. وبعث ابنه الأمير أبا فارس والوزير ابن علّال في
العساكر صريخين له، وانتهوا إلى تازى. وبلغ الخبر إلى أبي حمّو فخرج من
تلمسان في عساكره، واستألف أولياءه من عبيد الله. ونزل بالغيران من
وراء جبل بني راشد المطلّ على تلمسان، وأقام هنالك متحصّنا بالجبل،
وجاءت العيون إلى عساكر بني مرين بتازى بمكانه هو وأعرابه من الغيران،
فأجمعوا غزوة. وسار الوزير علّال وأبو تاشفين وسلكوا القفر ودليلهم
سليمان بن ناجي من الأحلاف. حتى صبّحوا أبا حمّو ومن معه من أحياء
الجرّاح [1] في مكانهم بالغيران. فجاولوهم ساعة، ثم ولّوا منهزمين،
وكبا بالسلطان أبي حمّو فرسه فسقط، وأدركه بعض أصحاب أبي تاشفين فقتلوه
قعصا بالرماح، وجاءوا برأسه إلى ابنه أبي تاشفين والوزير ابن علّال،
فبعثوا به إلى السلطان، وجيء بابنه عمير أسيرا، فهمّ أخوه أبو تاشفين
بقتله، فمنعه بنو مرين أياما. ثم أمكنوه منه فقتله، ودخل تلمسان آخر
إحدى وتسعين وسبعمائة وخيّم الوزير وعساكر بني مرين بظاهر البلد، حتى
دفع إليهم ما شارطهم عليه من المال. ثم قفلوا إلى المغرب وأقام أبو
تاشفين بتلمسان يقيم دعوة السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب ويخطب له
على منابر تلمسان وأعمالها، ويبعث إليه بالضريبة كل سنة، كما اشترط على
نفسه. وكان أبو حمّو لما ملك تلمسان ولّى ابنه أبا زيّان على الجزائر،
فلمّا بلغه مقتل أبيه امتعض ولحق بأحياء حصين ناجيا وصريخا. وجاءه وفد
بني عامر من زغبة يدعونه للملك.
فسار إليهم. وقام بدعوته شيخهم المسعود بن صغير، ونهضوا جميعا إلى
تلمسان في رجب سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة فحاصرها أياما. ثم سرّب أبو
تاشفين المال في العرب فافترقوا عن أبي زيّان، وخرج إليه أبو تاشفين
فهزمه في شعبان من السنة.
ولحق بالصحراء واستألف أحياء المعقل، وعاود حصار تلمسان في شوّال. وبعث
أبو تاشفين ابنه صريخا إلى المغرب، فجاءه بمدد من العساكر. ولما انتهى
إلى تاوريرت، أفرج أبو زيّان عن تلمسان وأجفل إلى الصحراء. ثم أجمع
رأيه على الوفادة إلى صاحب المغرب، فوفد عليه صريخا فتلقّاه وبرّ مقدمه
ووعده النصر من عدوّه. وأقام هنالك إلى حين مهلك أبي تاشفين، والله
أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الخراج.
(7/481)
(وفاة أبي تاشفين
واستيلاء صاحب المغرب على تلمسان)
لم يزل هذا الأمير أبو تاشفين مملكا على تلمسان ومقيما فيها لدعوة صاحب
المغرب أبي العبّاس ابن السلطان أبي سالم، ومؤدّيا الضريبة التي فرضها
عليه منذ ملك، وأخوه الأمير زيّان عند صاحب المغرب ينتظر وعده بالنصر
عليه، حتى تغيّر السلطان أبو العباس على أبي تاشفين في بعض النزعات
الملوكية، فأجاب داعي أبي زيّان وجهّزه بالعساكر لملك تلمسان. فسار
لذلك منتصف سنة خمس وتسعين وسبعمائة وانتهى إلى تازى، وكان أبو تاشفين
قد طرقه مرض أزمن به، ثم هلك منه في رمضان من السنة. وكان القائم
بدولته أحمد بن العزّ من صنائعهم وكان يمت إليه بخؤولة، فولّى بعده
مكانه صبيا من أبنائه، وأقام بكفالته. وكان يوسف بن أبي حمّو وهو ابن
الزابية واليا على الجزائر من قبل أبي تاشفين، فلمّا بلغه الخبر أغذّ
السير مع العرب فدخل تلمسان، وقتل أحمد بن العزّ والصبي المكفول ابن
أخيه أبي تاشفين، فلمّا بلغ الخبر إلى السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب
خرج إلى تازى، وبعث من هنالك ابنه أبا فارس في العساكر وردّ أبا زيّان
بن أبي حمّو إلى فاس، ووكّل به. وسار ابنه أبو فارس إلى تلمسان فملكها
واقام فيها دعوة أبيه. وتقدّم وزير أبيه صالح بن أبي حمّو إلى مليانة،
فملكها وما بعدها من الجزائر وتدلس إلى حدود بجاية. واعتصم يوسف بن
الزابية بحصن تاجمعومت وأقام الوزير صالح يحاصره. وانقرضت دعوة بني عبد
الواد من المغرب الأوسط، والله غالب على أمره.
وفاة أبي العباس صاحب المغرب واستيلاء أبي
زيان بن أبي حمو على تلمسان والمغرب الأوسط
كأن السلطان أبو العبّاس بن أبي سالم لما وصل إلى تازى وبعث ابنه أبا
فارس إلى تلمسان فملكها، وأقام هو بتازى يشارف أحوال ابنه ووزيره صالح
الّذي تقدّم لفتح البلاد الشرقية. وكان يوسف بن علي بن غانم أمير أولاد
حسين من المعقل قد حجّ
(7/482)
سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة واتصل بملك مصر
من الترك الملك الظاهر برقوق.
وتقدّمت إلى السلطان فيه وأخبرته بمحله من قومه، فأكرم تلقّيه وحمله
بعد قضاء حجّه هدية إلى صاحب المغرب، يطرفه فيها بتحف من بضائع بلده
على عادة الملوك. فلمّا قدم يوسف بها على السلطان أبي العبّاس أعظم
موقعها وجلس في مجلس حفل لعرضها والمباهاة بها. وشرع في المكافأة عليها
بمتخير الجياد والبضائع والثياب، حتى استكمل من ذلك ما رضيه. واعتزم
على إنفاذها مع يوسف بن علي حاملها الأول. وأنه يرسله من تازى أيام
مقامته تلك، فطرقه هنالك مرض كان فيه حتفه في محرم سنة ست وتسعين
وسبعمائة واستدعوا ابنه أبا فارس من تلمسان فبايعوه بتازى وولّوه
مكانه، ورجعوا به إلى فاس. وأطلقوا أبا زيّان بن أبي حمّو من الاعتقال،
وبعثوا به إلى تلمسان أميرا عليها، وقائما بدعوة السلطان أبي فارس
فيها، فسار إليها وملكها، وكان أخوه يوسف بن الزابية قد اتصل بأحياء
بني عامر يروم ملك تلمسان والاجلاب عليها، فبعث إليهم أبو زيان عند ما
بلغه ذلك وبذل لهم عطاء جزيلا على أن يبعثوا به إليه، فأجابوه إلى ذلك،
وأسلموه إلى ثقات أبي زيّان. وساروا به فاعترضهم بعض أحياء العرب
ليستنقذوه منهم، فبادروا بقتله، وحملوا رأسه إلى أخيه أبي زيّان فسكنت
أحواله وذهبت الفتنة بذهابه، واستقامت أمور دولته. وهم على ذلك لهذا
العهد، والله غالب على أمره، وهو على كل شيء قدير.
وقد انتهى بنا القول في دولة بني عبد الواد من زناتة الثانية، وبقي
علينا خبر الرهط الذين تحيّزوا منهم إلى بني مرين من أول الدولة. وهم
بنو كمي من فصائل علي بن القاسم إخوة طاع الله بن علي، وخبر بني كندوز
أمرائهم بمراكش. فلنرجع إلى ذكر أخبارهم، وبها نستوفي الكلام في أخبار
بني عبد الواد. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
.
(7/483)
|