تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ت تدمري

 [المجلد الثاني (المغازى) ]
[مقدمة المؤلف]
[1] بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه ثقتي قال الشيخ الإمام العالم العامل الناقد البارع الحافظ الحجّة شمسُ الدين أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد [2] بْن أَحْمَد بْن عثمان الذهبي رحمه الله تعالى وأدام النّفع به وغفر له ولوالديه [3] :
الحمد للَّه الباقي بعد فناء خلقه الكافي من توكّل عليه [4] ، القيّوم الّذي ملكوت كلّ شيء بيديه، حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وخاتما للنّبيّين، وحرزا للأميّين [5] وإماما للمتّقين، بأوضح دليل، وأفصح تنزيل، وأفسح سبيل،
__________
[1] في نسخة حيدرآباد (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً 2: 250)
[2] «محمد» غير موجود في طبعة شعيرة- ص 66.
[3] الفقرة كلها لم ترد في نسخة حيدرآباد.
[4] العبارة من أولها ناقصة في طبعة شعيرة- ص 66.
[5] في الأصل من نسخة أياصوفيا، ونسخة حيدرآباد، وطبعة شعيرة «للآمنين» .
وفي طبعة القدسي 1/ 1 «للأميّين» . قال في الحاشية رقم (3) إنّ صحته من نصّ حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة، وقد أخرجه البخاري في صحيحه في

(2/21)


وأيسر [1] تبيان [2] وأبدع [3] برهان. اللَّهمّ آته الوسيلة، وابعثه مقاما محمودا، يغبطه به الأوّلون والآخرون. صلّى [4] الله عليه وعلى آله الطيّبين، وصحابته المجاهدين، وأزواجه أمّهات المؤمنين.
أما بعد: فهذا كتاب نافع إن شاء الله- ونعوذ باللَّه من علم لا ينفع ومن دعاء لا يسمع- جمعته وتعبت عليه، واستخرجته [5] من عدّة تصانيف. يعرف به الإنسان مهمّ ما مضى من التاريخ، من أول تاريخ الإسلام إلى عصرنا هذا: من وفيات الكبار من الخلفاء [والأمراء] [6] ، والقرّاء والزّهّاد والفقهاء، والمحدّثين والعلماء، والسّلاطين والوزراء، والنّحاة والشعراء.
ومعرفة طبقاتهم وأوقاتهم وشيوخهم وبعض أخبارهم. بأخصر عبارة وألخص لفظ. وما تمّ من الفتوحات المشهورة والملاحم [7] المذكورة والعجائب المسطورة [8] . من غير تطويل [ولا إكثار] [9] ولا استيعاب. ولكن أذكر المشهورين ومن يشبههم. وأترك المجهولين ومن يشبههم. وأشير إلى الوقائع الكبار، إذ لو استوعبت التراجم والوقائع لبلغ الكتاب مائة مجلّدة [10] بل أكثر.
لأنّ فيه مائة نفس يمكنني أن أذكر أحوالهم في خمسين مجلّدا.
__________
[ () ] كتاب البيوع، باب كراهية السخب في السوق. وفي كتاب التفسير، باب سورة الفتح.
والأميون: العرب، أو غير اليهود. وقد وردت في القرآن الكريم بهذا المعنى.
[1] في طبعة شعيرة 66 «آنس» .
[2] في نسخة حيدرآباد «بيان» .
[3] في نسخة حيدرآباد «أبهر» وفي طبعة شعيرة «آية» .
[4] في نسخة حيدرآباد «صلّ» .
[5] في نسخة حيدرآباد «خرّجته» .
[6] زيادة من نسخة حيدرآباد.
[7] في نسخة أياصوفيا «الماراحم» .
[8] في نسخة حيدرآباد «المنظورة» وفي طبعة شعيرة «المشهورة» .
[9] ما بين الحاصرتين زيادة من نسخة حيدرآباد.
[10] في نسخة حيدرآباد «مجلّد» .

(2/22)


وقد طالعت على هذا التأليف من الكتب مصنّفات كثيرة. ومادّته من:
«دلائل النّبوّة» للبيهقي [1] .
و «سيرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم» لابن إسحاق [2] .
و «مغازيه» لابن عائذ الكاتب.
و «الطبقات الكبرى» لمحمد بن سعد كاتب [3] الواقدي [4] و «تاريخ» أبي عبد الله البخاري [5] .
وبعض «تاريخ أبي بكر أحمد بن أبي خيثمة» .
وتاريخ يعقوب الفسوي [6] .
وتاريخ محمد بن المثنّى العنزيّ [7] ، وهو صغير.
وتاريخ أبي حفص الفلّاس.
وتاريخ أبي بكر بن أبي شيبة.
وتاريخ الواقدي [8] .
وتاريخ الهيثم بن عديّ.
وتاريخ خليفة بن خيّاط [9] .
والطبقات له [10] .
__________
[1] وهو مطبوع.
[2] طبع بعنوان «السّير والمغازي» .
[3] في الأصل «الكاتب» .
[4] الكتاب مطبوع وفيه نقص.
[5] مطبوع بعنوان «التاريخ الكبير» .
[6] في نسخة حيدرآباد: «وبعض تاريخ يعقوب بن سفيان» واسم الكتاب «المعرفة والتاريخ» مطبوع.
[7] هو محمد بن عبيد بن قيس، أبو موسى العنزي، محدّث حافظ من أهل البصرة، قال الخطيب:
كان ثقة ثبتا. زار بغداد وعاد إلى البصرة فتوفي فيها.
[8] له «المغازي» وهو مطبوع، وينسب إليه، كتاب «فتوح الشام» ، وهو مطبوع أيضا.
[9] مطبوع.
[10] مطبوع.

(2/23)


وتاريخ أبي زرعة الدمشقيّ [1] .
والفتوح لسيف بن عمر.
وكتاب النّسب للزّبير بن بكار.
والمسند للإمام [2] أحمد [3] .
وتاريخ المفضّل بن غسّان الغلابي [4] .
والجرح والتعديل عن يحيى بن معين [5] .
والجرح والتعديل لعبد الرحمن بن أبي حاتم [6] .
ومن عليه رمز فهو في الكتب السّتّة أو بعضها. لأنّني طالعت مسوّدة «تهذيب الكمال» [7] لشيخنا الحافظ أبي الحجّاج يوسف المزّي. ثم طالعت المبيّضة كلّها.
فمن على اسمه (ع) فحديثه في الكتب السّتّة.
ومن عليه [4] فهو في السّنن الأربعة.
ومن عليه (خ) فهو في [3 ب] البخاري.
ومن عليه (م) ففي مسلم.
ومن عليه (د) ففي سنن أبي داود.
ومن عليه (ت) ففي جامع التّرمذيّ.
__________
[1] مطبوع.
[2] من هنا تبدأ نسخة الأمير عبد الله.
[3] مطبوع.
[4] في اللباب 2/ 395 «بفتح الغين وبعدها لام ألف مخفّفة..» نسبة إلى غلاب. وفي تاج العروس 3/ 493 ونقل الدكتور شعيرة ص 68 الحاشية (4) بتشديد اللام عن اللباب، وهو وهم. وأثبت «الفضل» بدل «المفضّل» وهو وهم أيضا، انظر تاج العروس.
[5] له كتاب «التاريخ» وهو مطبوع.
[6] مطبوع.
[7] يقوم بتحقيقه الصديق البحّاثة الدكتور بشّار عوّاد معروف وقد صدر منه عدّة أجزاء عن مؤسّسة الرسالة بيروت.

(2/24)


ومن عليه (ن) ففي سنن النّسائيّ.
ومن عليه (ق) ففي سنن ابن ماجة.
وإن كان الرجل في الكتب إلّا فرد كتاب فعليه (سوى ت) مثلا. أو (سوى د) [1] .
وقد طالعت أيضا عليه من التواريخ التي اختصرتها:
تاريخ أبي عبد الله الحاكم، وتاريخ أبي سعيد بن يونس، وتاريخ أبي بكر الخطيب، وتاريخ دمشق لأبي القاسم الحافظ، وتاريخ أبي سعد بن السّمعانيّ، والأنساب له، وتاريخ القاضي شمس الدين بن خلّكان، وتاريخ العلّامة شهاب الدين أبي شامة.
وتاريخ الشيخ قطب الدّين بن اليونيني، وتاريخه ذيل على «مرآة الزّمان» للواعظ شمس الدين يوسف [سبط] [2] ابن الجوزي، وهما على الحوادث والسّنين.
وطالعت أيضا كثيرا من:
تاريخ الطّبري [3] .
وتاريخ ابن الأثير [4] .
وتاريخ ابن الفرضيّ [5] .
__________
[1] تكرّرت بعدها في نسخة حيدرآباد كلمة (مثلا) .
[2] سقطت من النسخ الثلاث، والصحيح ما أثبتناه.
[3] هو باسم «تاريخ الرسل والملوك» مطبوع.
[4] هو باسم «الكامل في التاريخ» مطبوع.
[5] هو باسم «تاريخ علماء الأندلس» مطبوع.

(2/25)


وصلته لابن بشكوال [1] .
وتكملتها للأبّار [2] .
والكامل لابن عديّ [3] .
وكتبا كثيرة وأجزاء عديدة، وكثيرا من «مرآة الزمان» .
ولم يعتن القدماء بضبط الوفيات كما ينبغي. بل اتّكلوا على حفظهم.
فذهبت وفيات خلق من الأعيان من الصّحابة، ومن تبعهم إلى قريب [4] زمان أبي عبد الله الشافعيّ. فكتبنا أسماءهم على الطّبقات تقريبا. ثم اعتنى المتأخّرون بضبط وفيات العلماء وغيرهم. حتى ضبطوا جماعة فيهم جهالة بالنسبة إلى معرفتنا لهم. فلهذا حفظت وفيات خلق من المجهولين وجهلت وفيات أئمّة من المعروفين. وأيضا فإنّ عدّة بلدان لم يقع إلينا تواريخها [5] ، إمّا لكونها لم يؤرّخ علماءها أحدا من الحفّاظ. أو جمع لها تاريخ ولم يقع إلينا.
وأنا أرغب إلى الله تعالى، وأبتهل إليه أن ينفع بهذا الكتاب. وأن يغفر لجامعه [6] وسامعه ومطالعه وللمسلمين. آمين.
__________
[1] مطبوع.
[2] مطبوع باسم «صلة الصلة» .
[3] مطبوع باسم «الكامل في ضعفاء الرجال» .
[4] في نسخة الأمير عبد الله «قديم» وهو خطأ.
[5] في الأصل (أنوارها) وفي طبعة شعيرة 70 «أخبارها» .
[6] هذا دعاء جامع مخلص، فيه تواضع العلماء.

(2/26)


بسم الله الرّحمن الرّحيم
السَّنَةُ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ [1] مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ سَمِعُوا بِمَخْرَجِ [2] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَانُوا يَغْدُونَ إِلَى الْحَرَّةِ [3] يَنْتَظِرُونَهُ، حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الشَّمْسِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا، فَأَوْفَى يَهُودِيٌّ عَلَى أُطُمٍ [4] فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ [5] يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ [6] ، فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ الزُّبَيْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ. فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض.
__________
[1] باب هجرة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، ج 4/ 257
[2] في طبعة شعيرة 71 «مخرج» .
[3] الحرّة: الجمع: الحرّات والأحرّون والحرار والحرّون. قال الأصمعيّ «الحرّة الأرض التي ألبستها الحجارة السّود..» ، والحرّات كثيرة، (انظر: معجم البلدان ومعجم ما استعجم للبكري) وهي هنا: أرض بظاهر المدينة المشرّفة، تحت واقم، ولذا تعرف بحرّة وأقم بها حجارة سود كبيرة، وبها كانت وقعة الحرّة من أشهر الوقائع في الإسلام في ذي الحجة سنة 63 هـ-. (تاج العروس 10/ 579، 580) .
[4] الأطم: بضمّتين. القصر وكل حصن مبنيّ بحجارة وكلّ بيت مربّع مسطّح. والجمع: آطام وأطوم وآطام (القاموس المحيط 4/ 75) .
[5] مبيّضين: أي يلبسون الثياب البيض.
[6] أي يختفي السّراب عن النظر بسبب عروضهم له. (الشرح على البخاري 4/ 257 بالحاشية) .

(2/27)


قَالَ: فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ صَاحَ، يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، هَذَا جَدُّكُمُ [1] الَّذِي تَنْتَظِرُونَ [2] . فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ. فَتَلَقَّوْهُ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ [3] يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ مِنْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ.
فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ فَطَفِقَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [4 أ] ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ يُظِلُّهُ بِرِدَائِهِ، فَعَرِفَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَبِثَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشَرَةَ لَيْلَةً، وَأَسَّسَ مَسْجِدَهُمْ. ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَسَارَ حَوْلَهُ النَّاسُ يَمْشُونَ، حَتَّى بَرَكَتْ بِهِ مَكَانَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ مِرْبَدًا [4] لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ. فَدَعَاهُمَا فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَكَانَ يَنْقِلُ اللَّبِنَ مَعَهُمْ وَيَقُولُ:
هَذَا الحمال، لاحمال [5] خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ- رَبَّنَا- وَأَطْهَرْ [6]
وَيَقُولُ:
اللَّهمّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ ... فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ [7]
__________
[1] جدّكم: أي حظّكم وصاحب دولتكم.
[2] في نسخة الأمير عبد الله، وطبعة شعيرة «تنظروه» .
[3] منازل بني عمرو بقباء، وهي على فرسخ من المسجد النبويّ صلّى الله عليه وسلّم. أفاده العيني. (شرح البخاري) .
[4] المربد: كل شيء حبست به الإبل والغنم، والجرين الّذي يوضع فيه التمر بعد الجداد لييبس.
قال سيبويه: هو اسم كالمطبخ. وقال الجوهري: المربد للتمر كالبيدر للحنطة. (تاج العروس 8/ 82) .
[5] الحمال: بالكسر، جمع حمل (بالفتح) وهو تمر الشجر، قال في (تاج العروس) : ومنه الحديث «هذا الحمال لا حمال خيبر» يعني تمر الجنّة وأنّه لا ينفد. وفي صحيح البخاري 4/ 258 والسيرة النبويّة لابن كثير 2/ 304 «حمال» بضم اللام، وهو غلط.
[6] صحيح البخاري 4/ 258، الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 240، السيرة لابن كثير 2/ 304.
[7] القول في صحيح البخاري 4/ 258 ويروى:
«اللَّهمّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ ... فَانْصُرِ الْأَنْصَارَ والمهاجرة

(2/28)


وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ حَدِيثَ الْهِجْرَةِ بِطُولِهِ [1] .
وَخَرَّجَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ أَنَّ أَنَسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
أَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ. وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَابُّ لَا يُعْرَفُ، فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ: مَنْ هَذَا بَيْنَ يَدَيْكَ؟
فَيَقُولُ: رَجُلٌ يَهْدِينِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي طَرِيقَ الْخَيْرِ.
إِلَى أَنْ قَالَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَانِبَ الْحَرَّةِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْأَنْصَارِ، فَجَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِمَا، وَقَالُوا: ارْكَبَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ. فَرَكِبَا، وَحَفُّوا دُونَهُمَا بِالسِّلَاحِ. فَقِيلَ فِي الْمَدِينَةِ: جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ، [جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ] [2] ، فَأَقْبَلَ يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ إِلَى جَانِبِ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ [3] .
وَرَوَيْنَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ أَبِي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ يوم الإثنين لاثنتي عشرة [ليلةً] [4] خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَقَامَ فِي الْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ بْنُ إِسْحَاقَ [5] : فَقَدِمَ ضحى يوم الإثنين لاثنتي عشرة
__________
[ () ] (الطبقات الكبرى 1/ 240) ويروى:
«لا عيش إلّا عيش الآخرة ... اللَّهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة»
(سيرة ابن هشام 2/ 238) وتهذيب السيرة 121 ويروى:
«اللَّهمّ لا عيش إلّا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرين»
(نهاية الأرب للنويري 16/ 344) وانظر السيرة لابن كثير.
[1] صحيح البخاري 4/ 254- 258 كتاب الفضائل، باب هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة.
[2] زيادة من ع، ح. ومن صحيح البخاري 4/ 260.
[3] صحيح البخاري 4/ 259- 261 كتاب الفضائل، باب هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة.
[4] ليست في الأصل، وزدناها من ع. ح.
[5] الطبقات الكبرى 1/ 235، 236.

(2/29)


[لَيْلَةً] [1] خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَقَامَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ [2] عَوْفٍ، فِيمَا قِيلَ، يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ، ثُمَّ ظَعَنَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَدْرَكَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَصَلَّاهَا بِمَنْ مَعَهُ. وَكَانَ [مَكَانُ] [3] الْمَسْجِدِ، فِيمَا قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ مِرْبَدًا لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ، وَهُمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ ابْنَا رَافِعِ بْنِ عمرو بن بَنِي النَّجَّارِ [4] ، وَكَانَا فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [5] : كَانَ الْمِرْبَدُ لِسَهْلٍ وَسُهيَلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو، وَكَانَا فِي حِجْرِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ.
وَغَلَطَ ابْنُ مَنْدَهْ فَقَالَ: كَانَ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ بَيْضَاءَ، وَإِنَّمَا ابْنَا بَيْضَاءَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ.
وَأَسَّسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِقَامَتِهِ بِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَسْجِدَ قُبَاءَ [6] .
وَصَلَّى الْجُمُعَةَ فِي بَنِي سَالِمٍ فِي بَطْنِ الْوَادِي [7] . فَخَرَجَ مَعَهُ رِجَالٌ مِنْهُمْ:
وَهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ، وَعَتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَنْزِلَ عِنْدَهُمْ وَيُقِيمَ فِيهِمْ، فَقَالَ: خَلُّوا النَّاقَةَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ. وَسَارَ وَالْأَنْصَارُ حوله حتى أتى بني
__________
[1] ليست في الأصل، وزدناها من ع. ح.
[2] في طبعة القدسي 1/ 9 «بني» والتصويب من الطبقات الكبرى وسيرة ابن هشام 2/ 237.
[3] زيادة على الأصل.
[4] في الأصل: «رافع بن عمرو النجار» والتصحيح من نسختي الأمير عبد الله وحيدرآباد.
(سنرمز بعد الآن إلى نسخة الأمير ب- «ع» والثانية ب- «ح» ) .
[5] الطبقات الكبرى 1/ 239.
[6] قباء: أصله اسم بئر هناك عرفت القرية بها، وهي مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار (معجم البلدان 4/ 301) .
[7] في سيرة ابن هشام (2/ 237) إنه وادي رانوناء. ويقول ياقوت (3/ 19) : وهذا لم أجده في غير كتاب ابن إسحاق الّذي لخّصه ابن هشام. وكلّ يقول: صلّى بهم في بطن الوادي في بني سالم. وانظر: سبل الهدى والرشاد للصالحي 3/ 387.

(2/30)


بَيَاضَةَ، فَتَلَقَّاهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، فَدَعُوهُ إِلَى النُّزُولِ فِيهِمْ، فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ. فَأَتَى دُورَ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُمْ أَخْوَالُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ [1] ، فَتَلَقَّاهُ سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ، وَرِجَالٌ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ، فَدَعُوهُ إِلَى النُّزُولِ وَالْبَقَاءِ عِنْدَهُمْ، فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا [4 ب] مَأْمُورَةٌ. وَمَشَى حَتَّى أَتَى دُورَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَبَرَكَتِ النَّاقَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مِرْبَدُ تَمْرٍ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ. وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ وَحَرْثٌ وَخِرَبٌ، وَقُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَنْزِلْ عَنْ ظَهْرِهَا، فَقَامَتْ وَمَشَتْ قَلِيلًا، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُهَيِّجُهَا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ فَكَرَّتْ إِلَى مَكَانِهَا وَبَرَكتْ فِيهِ، فَنَزَلَ عَنْهَا. فَأَخَذَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَحْلَهَا فَحَمَلَهُ إِلَى دَارِهِ. وَنَزَلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتٍ مِنْ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ. فَلَمْ يَزَلْ سَاكِنًا عِنْدَ أَبِي أَيُّوبَ حَتَّى بَنَى مَسْجِدَهُ وحُجَرَهُ فِي الْمِرْبَدِ. وَكَانَ قَدْ طَلَبَ شِرَاءَهُ فَأَبَتْ بَنُو النَّجَّارِ مِنْ بَيْعِهِ، وَبَذَلُوهُ للَّه وَعَوَّضُوا الْيَتِيمَيْنِ. فَأَمَرَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ. وَبَنَى عِضَادَتَيْهِ [2] بِالْحِجَارَةِ، وَجَعَلَ سَوَارِيهِ [3] مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ، وَسَقَفَهُ بِالْجَرِيدِ. وَعَمِلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ حِسْبَةً.
فَمَاتَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيُّ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِالذُّبَحَةِ [4] . وَكَانَ مِنْ سَادَةِ الْأَنْصَارِ وَمِنْ نُقَبَائِهِمُ الْأَبْرَارِ. وَوَجَدَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْدًا لِمَوْتِهِ، وَكَانَ قَدْ كَوَاهُ. وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ بَعْدَهُ نَقِيبًا وَقَالَ: أَنَا نَقِيبُكُمْ. فَكَانُوا يَفْخَرُونَ بِذَلِكَ. وَكَانَتْ يَثْرِبُ لَمْ تُمَصَّرْ، وَإِنَّمَا كَانَتْ قُرًى مُفَرَّقَةً: بَنُو مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فِي قَرْيَةٍ، وَهِيَ مِثْلُ الْمَحِلَّةِ، وَهِيَ دَارُ بَنِي فُلَانٍ. كما في الحديث: «خير
__________
[1] قال ابن هشام 2/ 238 «وهم أخواله دنيا- أمّ عبد المطّلب سلمى بنت عمرو» .
[2] العضادة: من الطريق، الناحية، وأعضاد البيت: نواحيه. (تاج العروس 8/ 383، 384) .
[3] السارية: الأسطوانة من حجر أو آجرّ.
[4] الذبحة: داء يأخذ في الحلق وربّما قتل، أو قرحة تظهر فيه فينسدّ معها وينقطع النّفس فيقتل.
يقال: أخذته الذّبحة. (تاج العروس 6/ 372) .

(2/31)


دُورِ الْأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ» [1] .
وَكَانَ بَنُو عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ لَهُمْ دَارٌ، وَبَنُو مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ كَذَلِكَ، وَبَنُو سَالِمٍ كَذَلِكَ، وَبَنُو سَاعِدَةَ كَذَلِكَ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ كَذَلِكَ، وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كذَلَكِ، وَبَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَذَلِكَ، وَسَائِرُ بُطُونِ الْأَنْصَارِ كَذَلِكَ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ» [2] .
وَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ تُبْنَى الْمَسَاجِدُ فِي الدُّورِ. فَالدَّارُ- كَمَا قُلْنَا- هِيَ الْقَرْيَةُ. وَدَارُ بَنِي عَوْفٍ هِيَ قُبَاءٌ. فَوَقَعَ بِنَاءُ مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَكَانَتْ قَرْيَةً صَغِيرَةً.
وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ [3] مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة. ثم أرسل إِلَى بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا.
وَآخَى فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. ثُمَّ فُرِضَتِ الزَّكَاةُ.
وَأَسْلَمَ الْحَبْرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، وَأُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ، [وَكَفَرَ سَائِرُ الْيَهُودِ] [4] .
قِصَّةُ إِسْلَامِ ابْنِ سَلامٍ
قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ
__________
[1] صحيح البخاري 4/ 224: كتاب الفضائل، باب فضل دور الأنصار.
[2] صحيح البخاري: الموضع السابق.
[3] صحيح البخاري 4/ 263: كتاب الفضائل: باب مقدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه المدينة.
[4] زيادة من «ح» . وأوردها ابن الملّا في المنتقى بلفظ «وكفر سائرهم» .

(2/32)


عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. وَلَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ، وَأَعْلَمُهُمْ وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ، فَادْعُهُمْ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي أَسْلَمْتُ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَأَتَوْا، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ يهود، ويلكم اتّقوا الله، فو الّذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَأَسْلِمُوا.
قَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ، فَأَعَادَ [1] ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ: فَأَيُّ رَجُلٍ فيكم عبد الله بن سلام [2] ؟ قالوا: ذلك سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا، وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا.
قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟ قَالُوا: حَاشَ [للَّه] [3] ، مَا كان ليسلم. قال:
[5 أ] يا بن سَلَّامٍ اخْرُجْ عَلَيْهِمْ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَيْلَكُمُ اتّقوا الله، فو الّذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [4] إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، قَالُوا: كَذَبْتَ.
فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِأَطْوَلَ مِنْهُ [5] . وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ الله ابن سَلامٍ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي أَرْضٍ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الجَّنَةِ؟ وَمَا يَنْزَعُ الْوَلَدُ [6] إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا. قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ 2: 97 [7] . أمّا أوّل أشراط السّاعة، فنار تخرج
__________
[1] في «ع» : (فإنّما ردّ) تحريف.
[2] في سيرة ابن هشام 2/ 257 «الحصين بن سلام» .
[3] سقطت من الأصل. وزدناها من ع، ح. والسيرة النبويّة لابن كثير 2/ 295.
[4] في الأصل، ع: (إلّا الله) وأثبتنا نص ح والبخاري وعن ابن كثير: «فو الله الّذي لا إله إلّا هو» .
[5] صحيح البخاري 4/ 252: كتاب الفضائل، باب هجرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة.
[6] في ع: وما أول ما ينزع الولد إلى أبيه، ونصّ البخاري «وما بال الولد ينزع» . (انظر السيرة لابن كثير 2/ 296) .
[7] سورة البقرة: من الآية 97.

(2/33)


عَلَى النَّاسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَأَمَّا أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حُوتٍ. وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ [1] نَزَعَ إِلَى أُمِّهِ. فَتَشَهَّدَ وَقَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ [2] ، وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ عَنِّي بَهَتُونِي. فَجَاءُوا، فَقَالَ: أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا. قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟ قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، وَتَنَقَّصُوهُ. قَالَ:
هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ [3] .
وَقَالَ عَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، قَالُوا: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَجِئْتُ لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ. فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْهُ أَنْ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجَّنَّةَ بِسَلَامٍ. صَحِيحٌ [4] .
وَرَوَى أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا به 2: 89 [5] ، قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَمُرُّ بِالْيَهُودِ فَيُؤْذُونَهُمْ. وَكَانُوا يجدون محمّدا في التّوراة،
__________
[1] في ع: وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل ... (انظر ابن كثير 2/ 296) .
[2] البهت: الكذب.
[3] صحيح البخاري 4/ 260، 261: كتاب الفضائل، باب في إسلام عبد الله بن سلام.
[4] المسند لأحمد بن حنبل (5/ 451) وسنن الترمذي (2/ 79) .
[5] سورة البقرة: من الآية 89.

(2/34)


فَيَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَهُ فَيُقَاتِلُونَ مَعَهُ الْعَرَبَ. فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ حِينَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
قِصَّةُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ
قَالَ أَبُو التَّيَّاحِ [1] ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَلَإِ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا، فَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا [2] .
قَالُوا: لَا وَاللَّهِ، لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ. فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: كَانَ [3] فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ فِيهِ خِرَبٌ وَنَخْلٌ [4] . فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ. فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ [الْمَسْجِدِ] [5] ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ [ذَاكَ] [6] الصَّخْرَ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ، وَيَقُولُونَ:
اللَّهمّ [إِنَّهُ] [7] لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الآخرة فانصر [5 ب] الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [8] . وَفِي رِوَايَةٍ: فَاغْفِرْ للأنصار.
__________
[1] هو يزيد بن حميد الضّبعي.
[2] ثامنوني بحائطكم، وقد وردت في موضع آخر من «صحيح البخاري» 4/ 266: «ثامنوني حائطكم» ، أي اجعلوا له ثمنا. أو سوموني، كما في شرح البخاري.
[3] في صحيح البخاري «كانت» .
[4] في صحيح البخاري: «وكان فيه نخل» .
[5] زيادة من صحيح البخاري.
[6] زيادة من صحيح البخاري.
[7] زيادة من صحيح البخاري.
[8] البخاري 4/ 266 كتاب الفضائل، باب مقدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه المدينة، ومسلم (524) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ابتناء مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

(2/35)


وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ: فَطَفِقَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَنْقِلُونَ اللَّبِنَ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقِلُ اللَّبِنَ مَعَهُمْ:
هَذَا الْحِمَالُ، لَا حِمَالَ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ- ربّنا- وأطهر
ويقول:
اللَّهمّ لا خَيْرُ الْآخِرَه [1] ... فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتَمَثَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعَشْر رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ فِي الْحَدِيثِ. وَلَمْ يَبْلُغْنِي فِي الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ غير هذه الأبيات.
ذكره الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ [2] .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: ثَنَا نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ. فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا. وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا. وَغَيَّرَهُ عُثْمَانُ، فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَبِيرَةً، وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ [3] ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقْفَهُ بِالسَّاجِ [4] . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [5] .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ يعلى بن شدّاد، عن عبادة
__________
[1] في السيرة لابن كثير 2/ 304
«لا همّ إنّ الأجر أجر الآخرة» .
[2] صحيح البخاري 4/ 266: كتاب الفضائل: باب هجرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة.
[3] القصّة: الجصّة، وقيل: الحجارة من الجصّ. كما في النهاية لابن الأثير.
[4] السّاج: ضرب عظيم من الشجر، وخشب أسود يشبه الأبنوس، لا ينبت إلّا بالهند (تاج العروس 6/ 49، 50) .
[5] صحيح البخاري: كتاب الصلاة، باب بنيان المسجد.

(2/36)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ الْأَنْصَارَ جَمَعُوا مَالًا، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ابْنِ بِهَذَا الْمَسْجِدَ وَزَيِّنْهُ، إِلَى مَتَى نُصَلِّي تَحْتَ هَذَا الْجَرِيدِ؟ فَقَالَ: مَا بِي رغبة من أَخِي مُوسَى، عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى [1] .
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلِهِ «كَعَرِيشِ مُوسَى» ، قَالَ: إِذَا رَفَعَ يَدَهُ بَلَغَ الْعَرِيشَ، يَعْنِي السَّقْفَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَدْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَنَيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَقُولُ: قَرِّبُوا الْيَمَامِيَّ [2] مِنَ الطِّينِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَحْسَنِكُمْ لَهُ بِنَاءً. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَسْجِدِي هَذَا. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِأَطْوَلَ مِنْهُ [3] .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ. صَحِيحٌ [4] .
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، يَعْنِي فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ. فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ ينف عنه
__________
[1] انظر: دلائل النبوّة للبيهقي (2/ 262) ، والبداية والنهاية لابن كثير: (3/ 215) ، ووفاء ألوفا بأخبار دار المصطفى للمسهودي (1/ 242) قال ابن كثير: وهذا حديث غريب من هذا الوجه: (انظر السيرة النبويّة له 2/ 304) .
[2] اليماميّ: نسبة إلى اليمامة. وهو طلق بن عليّ السّحيمي، ويقال طلق بن ثمامة. كان من الوفد الذين قدموا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليمامة فأسلموا. مشهور له صحبة وفائدة ورواية.
ترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 552) . أسد الغابة (3/ 92) . الإصابة في تمييز الصّحابة (2/ 232، تهذيب التهذيب (5/ 33) .
[3] صحيح مسلم 1398: كتاب الحجّ، باب بيان أنّ المسجد الّذي أسّس على التّقوى هو مسجد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة.
[4] صحيح البخاري 2/ 56: كتاب الصلاة، أبواب التطوّع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة. وصحيح مسلم 1354: كتاب الحجّ، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة.

(2/37)


التُّرَابَ وَيَقُولُ: «وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ دُونَ قَوْلِهِ «تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» ، وَهِيَ زِيَادَةٌ ثَابِتَةُ الْإِسْنَادِ [1] .
وَنَافَقَ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ مُدَارَاةً لِقَوْمِهِمْ.
فَمِمَّنْ ذُكِرَ مِنْهُمْ: مِنْ أَهْلِ قُبَاءَ: الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدِ بن الصّامت.
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد. ولم ترد جملة «تقتله الفئة الباغية» في روايتي أبي ذرّ والأصيلي عن البخاري.
وقول الذهبي «زيادة ثابتة الإسناد» يفسّره قول ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري 1/ 451) : «واعلم أنّ هذه الزيادة لم يذكرها الحميدي في الجمع» وقال: إنّ البخاري لم يذكرها أصلا، وكذا قال أبو مسعود. قال الحميديّ: ولعلّها لم تقع للبخاريّ، أو وقعت فحذفها عمدا. قال: وقد أخرجها الإسماعيليّ والبرقاني في هذا الحديث. قلت: ويظهر لي أنّ البخاري حذفها عمدا، وذلك لنكتة خفيّة، وهي أنّ أبا سعيد الخدريّ اعترف أنّه لم يسمع هذه الزيادة من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فدلّ على أنّها في هذه الرواية مدرجة. والرواية الأولى التي بيّنت ذلك ليست على شرط البخاري. وقد أخرجها البزّار من طريق داود بن أبي هند، عن أبي ندرة، عن أبي سعيد، فذكر الحديث في بناء المسجد وحملهم لبنة لبنة، وفيه: فقال أبو سعيد: فحدّثني أصحابي ولم أسمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: يا بن سميّة، تقتلك الفئة الباغية» . وأخرج الحديث: مسلم (2916) في الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيتمنّى أن يكون مكان الميت من البلاء. وعن أمّ سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمّار: «تقتلك الفئة الباغية» . وعن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعمّار: «أبشر عمّار تقتلك الفئة الباغية» .
(رواه التّرمذي 3802) في المناقب، باب، مناقب عمّار بن ياسر، وهو حديث صحيح.
وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وفي الباب: عن أمّ سلمة، وعبد الله بن عمر، وأبي اليسر، وحذيفة. وقال ابن حجر: روى حديث «تقتل عمّارا الفئة الباغية» جماعة من الصحابة، منهم: قتادة بن النعمان، وأمّ سلمة عند مسلم. وأبو هريرة عند الترمذي، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وعثمان بن عفان، وحذيفة، وأبو أيوب، وأبو رافع، وخزيمة بن ثابت، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وأبو اليسر، وعمّار نفسه، وكلها عند الطبراني وغيره، وغالب طرقها صحيحة، أو حسنة، وفيه عن جماعة آخرين يطول عددهم.
(جامع الأصول 9/ 43) ورواه الطبراني في المعجم الكبير 4/ 98 رقم 3720 و 4/ 200 رقم (4030 و 1/ 300 رقم 954) و (المعجم الصغير 1/ 187) وابن جميع الصّيداوي في (معجم الشيوخ 284 بتحقيقنا) وابن عساكر في (تاريخ دمشق 9/ 355) و (تهذيب تاريخ دمشق 4/ 150) .

(2/38)


وَكَانَ أَخُوهُ خَلَّادُ رَجُلًا صَالِحًا، وَأَخُوهُ الْجَلَّاسُ [1] . دُونَ خَلَّادٍ فِي الصَّلَاحِ.
وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ: نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ [2] . وَبِجَادُ [3] بْنُ عُثْمَانَ. وَأَبُو حَبِيبَةَ ابن الْأَزْعَرِ أَحَدُ مَنْ بَنَى مَسْجِدَ الضِّرَارِ [4] . وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَابْنَاهُ: زَيْدٌ وَمُجَمِّعٌ. وَقِيلَ لَمْ يَصِحَّ عَنْ مُجَمِّعٍ النفاق، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِيهِمْ لِأَنَّ قَوْمَهُ جَعَلُوهُ إِمَامَ مَسْجِدِ الضِّرَارِ [5] . وَعَبَّادُ بْنُ حُنَيْفٍ. وَأَخَوَاهُ سَهْلٌ وَعُثْمَانُ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ.
وَمِنْهُمْ:
بِشْرٌ، وَرَافِعٌ، ابْنَا زَيْدٍ. وَمِرْبَعٌ، وَأَوْسٌ، ابْنَا قَيْظِيٍّ [6] . وَحَاطِبُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَرَافِعُ [6 أ] بْنُ وَدِيعةَ، وَزَيْدُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، ثَلَاثَتُهُمْ مِنْ بَنِي النَّجَارِ، وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ الْخَزْرَجِيُّ، مِنْ بَنِي جُشَمٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنُ سَلُولٍ، مِنْ بَنِي عَوْفٍ بْنُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ رَئِيسَ الْقَوْمِ.
وَمِمَّنْ أَظْهَرَ الإيمان من اليهود ونافق بعد:
__________
[1] الجلابس: بالجيم، في: المحبّر لابن حبيب 467، والمعارف لابن قتيبة 343، وأنساب الاشراف للبلاذري 1/ 275، والاستيعاب لابن عبد البرّ 264، والإكمال لابن ماكولا 3/ 170، وأسد الغابة لابن الأثير 1/ 291، ومشتبه النسبة للذهبي 1/ 196، والوافي بالوفيات للصفدي 11/ 178 رقم 262، وإمتاع الأسماع للمقريزي 453، والإصابة لابن حجر 15/ 509 وانظر عنه: سيرة ابن هشام 2/ 258 و 261 وأثبته محقّقا: جوامع السيرة لابن حزم (الخلاس) بالخاء، وكذا محقّق: الدرر لابن عبد البرّ.
[2] من بني لوذان بن عمرو بن عوف: وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أحبّ أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث» . (سيرة ابن هشام 2/ 259)
[3] في الأصل وسائر النسخ: نجاد بالنون، والتصحيح من ابن هشام (2/ 259) ، والمحبّر (467) وأنساب الأشراف (1/ 275) وتاريخ الطبري (3/ 111) . وأثبته شعيرة- ص 80 «نجاب» وهو ترجيح خاطئ.
[4] سيرة ابن هشام 2/ 259.
[5] السيرة.
[6] السيرة 2/ 261.

(2/39)


أَسْعَدُ [1] بْنُ حُنَيْفٍ، وَزَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ، وَرَافِعُ بن حرملة [2] ، ورفاعة ابن زَيْدِ بْنُ التَّابُوتِ [3] ، وَكِنَانَةُ بْنُ صُورِيَا [4] .
وَمَاتَ فِيهَا:
الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ السُّلَمِيُّ [5] أَحَدُ نُقَبَاءِ الْعَقَبَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ كَبِيرَ الشَّأْنِ.
وَتَلَاحَقَ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ تَأَخَّرُوا بِمَكَّةَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَحْبُوسٌ أَوْ مَفْتُونٌ. وَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا أَسْلَمَ أَهْلُهَا. إِلَّا أَوْسُ [اللَّهِ] [6] ، وَهُمْ حَيٌّ مِنَ الْأَوْسِ، فَإِنَّهُمْ أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ.
وَمَاتَ فِيهَا: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ وَالِدُ خَالِدٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلِ السَّهْميُّ وَالِدُ عَمْرٍو بِمَكَّةَ عَلَى الْكُفْرِ.
وَكَذَلِكَ: أَبُو أُحَيْحةَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ الْأُمَوِيُّ تُوُفِّيَ بِمَالِهِ بِالطَّائِفِ.
وَفِيهَا: أُرِيَ الْأَذَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فشرع الأذان على ما رأيا [7] .
__________
[1] في الأصول، وطبعة القدسي وطبعة شعيرة «سعد» والتصويب من سيرة ابن هشام 2/ 261.
[2] ويقال «ابن حريملة» بالتصغير. انظر: المحبّر 470 وأنساب الأشراف 1/ 285 والدرر لابن عبد البر 102 وعيون الأثر 1/ 218 وسيرة ابن هشام 2/ 261 وقال: «وهو الّذي قال له الرسول صلى اللَّه عليه وسلم- حين مات-: «قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين» .
[3] المحبّر 470.
[4] سيرة ابن هشام 2/ 262 وفي المحبّر 470 «صويراء» .
[5] السّلمي: نسبة إلى سلمة (بكسر اللّام) بطن من الأنصار. والنّسبة إليها عند النّحويين بفتح اللّام، والمحدّثون يكسرونها. (اللباب في تهذيب الأنساب: 2/ 129) . انظر عنه: المحبّر 270 و 271 و 273 و 416.
[6] سقطت من الأصل، وزدناها من ع، ح.
[7] في الأصل وفي طبعة شعيرة 82، (رأينا) والتصحيح من ع. ح، وانظر حول ذلك: الطبقات الكبرى 1/ 246 وما بعدها، وسيرة ابن هشام 2/ 253، وعيون الأثر 1/ 203، والسيرة لابن كثير 2/ 334.

(2/40)


وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَقَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَاءً لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ. وَهُوَ أَوَّلُ لِوَاءٍ عُقِدَ فِي الْإِسْلَامِ [1] .
وَفِيهَا: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ إِلَى مَكَّةِ لِيَنْقُلَا بَنَاتَهُ وَسَوْدَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ عَقَدَ لِوَاءً لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، لِيُغِيرَ عَلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ أَوْ بَنِي جُهَيْنَةَ. ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَكَانَ أَوَّلُ رَايَةٍ عَقَدَهَا رَايَةَ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ [2] .
وَفِيهَا: آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَالْحَقِّ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَوَرَّثَ بَعْضَهُمْ من بعض، حتى نزلت: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ 8: 75 [3] .
وَالسَّبَبُ فِي قِلَّةِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ السِّنِينَ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَلِيلِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ. فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِبَعْضِ الْحِجَازِ، أَوْ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَفِي خِلَافَةِ عُمَرَ- بل وقبلها-
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 20.
[2] المحبّر 116 وانظر سيرة ابن هشام 3/ 18.
[3] سورة الأنفال: من الآية 75، وانظر ترتيب مسند الطّيالسي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في سورة الأنفال (2/ 19) .

(2/41)


انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي الْأَقَالِيمِ. فَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ سَبَبُ قِلَّةِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَسَبَبُ كَثْرَةِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي زَمَانِ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَكَانَ فِي هَذَا الْقُرْبِ [1] أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ [2] بْنُ جُشَمِ بْنُ وَائِلٍ الْأَوْسِيُّ الشَّاعِرُ. وَكَانَ يُعْدَلُ بِقَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ [3] فِي الشَّجَاعَةِ وَالشِّعْرِ.
وَكَانَ يَحُضُّ الْأَوْسَ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَكَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يَتَأَلَّهُ [4] وَيَدَّعِي الْحَنِيفِيَّةَ، وَيَحُضُّ قُرَيْشًا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ قَصِيدَتَهُ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي أَوَّلُهَا [5] :
أَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... مُغَلْغَلَةً عَنِّي لُؤَيَّ بْنَ غَالِبِ
أَقِيمُوا لَنَا دِينًا حَنِيفًا، فَأَنْتُمُو ... لَنَا قَادَةٌ، قَدْ يُقْتَدَى بالذّوائب
(6 ب) رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ رِجَالِهِ قَالُوا: خَرَجَ ابْنُ الْأَسْلَتِ إِلَى الشَّامِ، فَتَعَرَّضَ آلَ جَفْنَةَ [6] فَوَصَلُوهُ. وسأل الرّهبان فدعوه إلى دينهم فلم
__________
[1] هكذا في جميع النّسخ، ولعلّها بمعنى كان قريبا من ذلك الوقت. وجعلها ابن الملّا «وكان شاهد العرب» وهو قول لا معنى له.
[2] في الأصل (الأسلم) تصحيف. وهو أبو قيس صيفي بن الأسلت الشاعر. ترجمته في الأغاني (17/ 117) وطبقات فحول الشعراء (189) والإصابة (3/ 251 و 4/ 161) والاستيعاب على هامش الإصابة (2/ 193 و 4/ 160) ، والمحبّر 420، وشرح المفضّليات 75، وخزانة الأدب 3/ 409- 413 ومعجم الشعراء في لسان العرب 335 رقم 864. للدكتور ياسين الأيوبي.
[3] قيس بن الخطيم: شاعر مشهور من بني ظفر من الأوس، أدرك الإسلام، ولقي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الهجرة، فدعاه إلى الإسلام وحرص عليه، ولكنّه قتل قبل أن يسلم. ترجمته في الأغاني (3/ 1) وطبقات فحول الشعراء (190) ومعجم الشعراء للمرزباني (196) ، وطبقات الشعراء لابن سلام 52 و 65، ومعجم الشعراء في لسان العرب 336، 337 رقم 867 وقد طبع ديوانه في ليبزغ سنة 1914
[4] يتألّه: يتنسّك.
[5] انظر القصيدة بتمامها في ديوانه (64- 70) وابن هشام (1/ 283- 286) والبداية والنهاية (3/ 154- 155) والروض الأنف (3/ 72- 74) .
[6] آل جفنة: ملوك غسّان بالشّام، ترجع نسبتهم إلى جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر، وغسّان اسم ماء نزلوه فسمّوا به، ليس بأب ولا أمّ. (الاشتقاق لابن دريد 1/ 435) .

(2/42)


يُرِدْهُ. فَقَالَ لَهُ رَاهِبٌ: أَنْتَ تُرِيدُ دِينَ الْحَنِيفِيَّةِ، وَهَذَا وَرَاءَكَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ. ثُمَّ إِنَّهُ قَدِمَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، فَلَقِي زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ [1] ، فَقَصَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ. فَكَانَ أَبُو قَيْسٍ بَعْدُ يَقُولُ: لَيْسَ أَحَدٌ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا أَنَا وَزَيْدٌ. فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَقَدْ أَسْلَمَتِ الْخَزْرَجُ وَالْأَوْسُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَوْسِ اللَّهِ فَإِنَّهَا وَقَفَتْ مَعَ ابْنِ الْأَسْلَتِ، وَكَانَ فَارِسُهَا وَخَطِيبُهَا، وَشَهِدَ يَوْمَ بُعَاثٍ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا قَيْسٍ، هَذَا صَاحِبُكَ الَّذِي كُنْتَ تَصِفُ.
قَالَ: رَجُلٌ قَدْ بُعِثَ بِالْحَقِّ. ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَ عَلَيْهِ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ، أَنْظُرُ فِي أَمْرِي. وَكَادَ أَنْ يُسْلِمَ.
فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَأَخْبَرَهُ بِشَأْنِهِ فَقَالَ: كَرِهْتَ وَاللَّهِ حَرْبَ الْخَزْرَجِ.
فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُسْلِمُ سَنَةً. فَمَاتَ قَبْلَ السَّنَةِ.
فَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَقَدْ سُمِعَ يُوَحِّدُ عند الموت [2] .
__________
[1] زيد بن عمرو بن نفيل: ابن عمّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: أحد المتفرّقين في طلب الأديان كما يقول ابن هشام. وكان يقول: أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطّلب، ولا أراني أدركه، وأنا أو من به وأصدّقه وأشهد أنه نبيّ وكان يستقبل الكعبة في المسجد ويقول: لبّيك حقّا حقا، تعبّدا ورقّا. وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ يُبْعَثُ أمّة وحده، وأنه رآه في الجنّة يسحب ذيولا. وخرّج البخاري في كتاب الفضائل من صحيحه حديثا مطوّلا عنه، وفيه عن ابن عمر أنّ زيدا خَرَجَ إِلَى الشَّامِ يَسْأَلُ عَنِ الدِّينِ وَيَتَّبِعُهُ، فدلّ على الحنيفيّة دين إبراهيم، وأنه لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إلّا الله، فرفع يديه إلى السماء فقال: اللَّهمّ إنّي أشهد أنّي على دين إبراهيم.
ترجمته في ابن هشام (1/ 222) والطبقات الكبرى (1/ 161 و 4/ 384) والمحبّر 170 و 171 و 175 وتاريخ الطبري (2/ 295) وانظر صحيح البخاري: كتاب فضائل أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، باب حديث: زيد بن عمرو بن نفيل.
[2] انظر هذه القصة في ترجمة محصن بن أبي قيس بن الأسلت في الطبقات الكبرى (4/ 385) .

(2/43)


سَنَةُ اثْنَتَيْنِ فِي صَفَرِهَا:
(غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ) [1]
فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ غَازِيًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ عُبْادَةَ حَتَّى بَلَغَ وَدَّانَ [2] يُرِيدُ قُرَيْشًا وَبَنِي ضَمْرَةَ. فَوَادَعَ بَنِي ضَمْرَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَعَقَدَ ذَلِكَ مَعَهُ سَيِّدُهُمْ مَخْشِيُّ بْنُ عَمْرٍو. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَوَدَّانُ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاحِلَ [3] .
[بَعْثُ حَمْزَةَ [4]]
ثُمَّ فِي أَحَدِ الرّبيعين:
__________
[1] وتسمّى كذلك غزوة ودّان. والأبواء قرية من أعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا. (معجم البلدان 1/ 79) .
[2] ودّان: قرية جامعة من نواحي الفرع بين مكة والمدينة، بينها وبين الأبواب نحو من ثمانية أميال، قريبة من الجحفة. (معجم البلدان 5/ 365) .
[3] قال ابن هشام: هي أول غزوة غزاها. (السيرة 3/ 18) وانظر: الطبقات الكبرى 2/ 8 وتهذيب سيرة ابن هشام 130 والروض الأنف 3/ 25، وتاريخ الرسل والملوك 2/ 470، وتاريخ خليفة 56 وعيون الأثر 1/ 224 والبداية والنهاية 3/ 241، وعيون التواريخ 1/ 107.
[4] العنوان مضاف إلى الأصل للتوضيح.

(2/45)


بَعَثَ عَمَّهُ حَمْزَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِيصِ [1] . فَلَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فِي ثَلَاثِمَائَةٍ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فِي مَائَةٍ وَثَلَاثِينَ رَاكِبًا. وَكَانَ مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ وَقَوْمُهُ حُلَفَاءَ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِيَّ بْنَ عَمْرِو الْجُهَنِيَّ [2] .
[بَعْثُ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ]
وَبُعِثَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عُبَيْدَةُ بن الحارث بن المطلب [3] بن عبد مناف، فِي سِتِّينَ رَاكِبًا أَوْ نَحْوِهِمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. فَنَهَضَ حَتَّى بَلَغَ مَاءً بِالْحِجَازِ بِأَسْفَلِ ثَنِيَّةِ الْمِرَّةِ [4] . فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَيْهِمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَقِيلَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ. فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ. إِلَّا أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ فِي ذَلِكَ الْبَعْثِ، فَرَمَى بِسَهْمٍ، فَكَانَ أَوَّلُ سَهْمٍ رُمِيَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَفَرَّ الْكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ إِلَى الْمُسْلِمِينَ: الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو الْبَهْرَانِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ، وَعُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ الْمَازِنِيِّ حَلِيفِ بَنِي عَبْدِ مَنَافَ. وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَكِنَّهُمَا خَرَجَا ليتوصّلا بالمشركين [5] .
__________
[1] العيص: عرض من أعراض المدينة على ساحل البحر. قال ابن إسحاق: من ناحية ذي المروة بطريق قريش التي كانوا يأخذون منها إلى الشام. (معجم البلدان 4/ 173) .
[2] انظر: السيرة لابن هشام 3/ 20، التهذيب 131، عيون الأثر 1/ 224 البداية والنهاية 3/ 244.
[3] في ع: عبد المطّلب، خطأ. وانظر ترجمته في الإصابة (2/ 449) .
[4] ذكر ابن سعد والواقديّ: أنّ هذا الماء «أحياء» من بطن رابغ، ورابغ على عشرة أميال من الجحفة. وثنيّة المرّة بالكسر وتشديد الرّاء، وقال ياقوت بالفتح وتخفيف الراء من نواحي مكة.
[5] انظر: السيرة 3/ 18، التهذيب 130، الطبقات الكبرى 2/ 7، الروض الأنف 3/ 25، 26، عيون الأثر 1/ 225.

(2/46)


[غَزْوَةُ بُوَاطٍ [1]]
وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ غَازِيًا. فَاسْتَعْمَلَ عَلَى المدينة السّائب ابن عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ. حَتَّى بَلَغَ بُوَاطٍ مِنْ نَاحِيَةِ رَضْوَى [2] ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا [3] .
[غَزْوَةُ الْعُشَيْرَةِ]
وَخَرَجَ غَازِيًا فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ، حَتَّى بَلَغَ الْعُشَيْرَةَ [4] ، فَأَقَامَ هُنَاكَ أَيَّامًا، وَوَادَعَ بَنِي مُدْلَجٍ. ثُمَّ رَجَعَ فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ أَيَّامًا. وَالْعُشَيْرَةُ [مِنْ] [5] بَطْنِ يَنْبُعَ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ [6] : حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن خثيم [7] عن محمد بن كعب [7 أ] الْقُرَظِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوكَ مُحَمَّدُ بْنُ خُثَيْمٍ الْمُحَارِبِيُّ [8] ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَفِيقَيْنِ فِي غَزْوَةِ الْعشيرة مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ. فَلَمَّا نَزَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ به شهرا،
__________
[1] بواط: جبل من جبال جهينة من ناحية رضوى (معجم البلدان 1/ 503) .
[2] رضوى جبل بالمدينة معروف.
[3] السيرة 3/ 21، التهذيب 131، الطبقات الكبرى 2/ 8، 9، الروض الأنصف، 3/ 27، تاريخ خليفة 57، تاريخ الرسل 2/ 407، عيون الأثر 1/ 226 البداية والنهاية 3/ 246.
[4] العشيرة: بلفظ تصغير العشرة، يضاف إليه (ذو) فيقال ذو العشيرة، وهي من ناحية ينبع بين مكة والمدينة: وفي صحيح البخاري أنّها العشيرة أو العشيراء، وقيل العسيرة والعسيراء، بالسّين المهملة، والصّحيح أنّه العشيرة. قال ابن إسحاق: هو من أرض بني مدلج. (معجم البلدان 4/ 127) .
[5] سقطت من الأصل وأثبتناها من ع، ح.
[6] في الأصل و (ع) يونس عن ابن إسحاق، والتصحيح من ح. وهو يونس بن أبي إسحاق عمرو ابن عبد الله الهمدانيّ السّبيعي أبو إسرائيل الكوفي، توفي سنة 159 هـ-. (تهذيب التهذيب 11/ 433) .
[7] في الأصل و (ع) : خيثم، تصحيف تصحيحه من ح وتهذيب التهذيب (11/ 357) .
[8] في ح: البخاري، خطأ. والمحاربي نسبة إلى محارب بطن من قريش (اللباب 3/ 170) .

(2/47)


فَصَالَحَ بِهَا بَنِي مُدْلِجٍ. فَقَالَ لِي عَلِيٌّ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا الْيَقْظَانِ أَنْ نَأْتِيَ هَؤُلَاءِ، نَفَرٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يَعْمَلُونَ فِي عَيْنٍ لَهُمْ، نَنْظُرُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ؟
فَأَتَيْنَاهُمْ فَنَظَرْنَا إليهم ساعة، ثم غشينا النّوم فنمنا. فو الله مَا أَهَبَّنَا إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْنَا. فَيَوْمَئِذٍ قَالَ لِعَلِيٍّ: يَا أَبَا تُرَابٍ، لِمَا عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ [1] .
[غَزْوَةُ بَدْرٍ الْأُولَى]
وَخَرَجَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي طَلَبِ كُرْزِ بْنِ جَابِرِ الْفِهْرِيِّ، وَكَانَ قَدْ أَغَارَ عَلَى سَرْحِ [2] الْمَدِينَةِ. فَبَلَغَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادِيَ سَفَوَانَ [3] مِنْ نَاحِيَةِ بَدْرٍ، فَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا. وَسُمِّيَتْ بَدْرًا الْأُولَى. وَلَمْ يُدْرِكْ كُرْزًا [4] .
[سَرِيَّةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ]
وَبُعِثَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي ثَمَانِيَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَبَلَغَ الْخَرَّارَ [5] .
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ [6] .
[بَعْثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ]
قَالَ عُرْوَةُ: ثُمَّ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي رَجَبٍ- عَبْدَ اللَّهِ بنَ جحش
__________
[1] انظر: السيرة 3/ 21، 22، التهذيب 131، 132، الطبقات 2/ 9، 10، الروض الأنف 3/ 27، تاريخ خليفة 57، تاريخ الرسل والملوك 2/ 408 عيون الأثر 1/ 226، البداية والنهاية 3/ 246، عيون التواريخ 1/ 107، 108.
[2] السرح: الإبل والغنم.
[3] سفوان: بفتح أوّله وثانيه، واد من ناحية بدر. (معجم البلدان 3/ 225) .
[4] وتسمّى غزوة سفوان. (السيرة 3/ 22 تاريخ الخليفة 57) .
[5] في الأصل وسائر النّسخ: الحوار، تصحيف. والخرار: موضع بالحجاز يقال هو قرب الجحفة، وقيل واد من أودية، وقيل ماء بالمدينة. (معجم البلدان 2/ 350) .
[6] السيرة 3/ 22، البداية والنهاية 3/ 248، عيون التواريخ 1/ 108.

(2/48)


الْأَسَدِيَّ، وَمَعَهُ ثَمَانِيَةٌ. وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ. فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ وَجَدَهُ: إِذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ بَيْنَ نَخْلَةَ وَالطَّائِفِ [1] ، فَتَرْصُدَ لَنَا قُرَيْشًا، وَتَعْلَمَ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ. فَلَمَّا نَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قَدْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَمْضِيَ إِلَى نَخْلَةَ، وَنَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنْكُمْ. فَمَنْ كَانَ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ فَلْيَنْطَلِقْ، وَمَنْ كَرِهَ الْمَوْتَ فَلْيَرْجِعْ. فَأَمَّا أَنَا فَمَاضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمَضَى وَمَضَى مَعَهُ الثَّمَانِيَةُ، وَهُمْ: أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَعُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ الْفِهْرِيُّ، وَخَالِدُ بن البكير.
فسلك يهم عَلَى الْحِجَازِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِمَعْدِنٍ فَوْقَ الْفُرُعِ يُقَالُ لَهُ بُحْرَانُ [2] ، أَضَلَّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا، فَتَخَلَّفَا فِي طَلَبِهِ. وَمَضَى عَبْدُ اللَّهُ بِمَنْ بَقِيَ حَتَّى نَزَلَ بِنَخْلةَ. فَمَرَّتْ بِهِمْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَأُدْمًا [3] ، وَفِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَجَمَاعَةٌ. فَلَمَّا رَآهُمُ الْقَوْمُ هَابُوهُمْ. فَأَشْرَفَ لَهُمْ عُكَّاشَةُ، وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمِنُوا، وَقَالُوا: عُمَّارٌ [4] لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ.
وَتَشَاوَرَ الْقَوْمُ فِيهِمْ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ رَجَبٍ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيَدْخُلُنَّ الْحَرَمَ فَلَيَمْتَنِعُنَّ مِنْكُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ لتقتلنّهم في
__________
[1] نخلة: وتسمى نخلة اليمانية: واد بينه وبين مكة مسيرة ليلتين (معجم البلدان 5/ 277) والطّائف: هي وادي وجّ، وبه كانت تسمّى قديما، بينها وبين مكة اثنا عشر فرسخا (معجم البلدان 4/ 8) .
[2] بحران: بالضم، وهو المشهور، ويفتح: موضع بناحية الفرع، وبين الفرع والمدينة ثمانية برد. والمعدن مكان كلّ شيء فيه أصله. ويقال إنّ معدن بحران هذا كان للحجّاج بن علاط البهزيّ. (معجم البلدان 1/ 341) .
[3] الأدم: جمع أديم، وهو الجلد المدبوغ.
[4] العمّار: المعتمرون.

(2/49)


الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَتَرَدَّدُوا، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِمْ وأخذ تجارتهم، فرمى واقد ابن عَبْدِ اللَّهِ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَأْسَرُوا عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْحَكَمَ بْنَ كَيْسَانَ. وَأَفْلَتَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَأَقْبَلَ ابْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَالْأَسِيرَيْنِ، حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِيَنَةَ.
وَعَزَلُوا خُمْسَ مَا غَنِمُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ كَذَلِكَ. وَأَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فنزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [1] 2: 217 الآية، وقبل [7 ب] النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِدَاءَ فِي الْأَسِيرَيْنِ. فَأَمَّا عُثْمَانُ فَمَاتَ بِمَكَّةَ كَافِرًا، وَأَمَّا الْحَكَمُ فَأَسْلَمَ وَاسْتُشْهِدَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ [2] .
وَصُرِفَتِ الْقِبْلَةُ فِي رَجَبٍ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ [3] .
[غَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى]
مِنَ السِّيرَةِ لِابْنِ إِسْحَاقَ، رِوَايَةُ الْبَكَّائِيِّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ قَدْ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فِي عِيرٍ وَتِجَارَةٍ عَظِيمَةٍ، فِيهَا ثَلَاثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، منهم:
مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ يُنْفِلُكُمُوهَا. فَانْتَدَبَ النَّاسَ، فَخَفَّ بَعْضُهُمْ، وَثَقُلَ بَعْضٌ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْقَى حَرْبًا. وَاسْتَشْعَرَ أَبُو
__________
[1] سورة البقرة، من الآية 217.
[2] السيرة 3/ 22- 24 التهذيب 132- 135، الطبقات الكبرى 2/ 10، 11، تاريخ الرسل والملوك 2/ 410، الروض الأنف 3/ 28، 29، عيون الأثر 1/ 227- 230، البداية والنهاية 3/ 248- 252، عيون التواريخ 1/ 108- 111.
[3] السيرة 3/ 35، الطبري 2/ 415.

(2/50)


سُفْيَانَ فَجَهَّزَ مُنْذِرًا إِلَى قُرَيْشٍ يَسْتَنْفِرُهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ. فَأَسْرَعُوا الْخُرُوجَ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهِمْ أَحَدٌ، إِلَّا أَنَّ أَبَا لَهَبٍ قَدْ بَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ أَخَا أَبِي جَهْلٍ. وَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَكَانَ أُمَّيَةُ بْنُ خَلَفٍ شَيْخًا جَسِيمًا فَأَجْمَعَ الْقُعُودَ. فَأَتَاهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ- وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ- بِمِجْمَرَةٍ وَبُخُورٍ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: أَبَا عَلِيٍّ، اسْتَجْمِرْ! فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنَ النِّسَاءَ. قَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ، فَتَجَهَّزَ [1] وَخَرَجَ مَعَهُمْ.
وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَامِنِ رَمَضَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَمْرَو بْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الصَّلَاةِ. ثُمَّ رَدَّ أَبَا لُبَابَةَ مِنَ الرَّوْحَاءِ [2] وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ.
وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ. وَكَانَ أَمَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَايَتَانِ سَوْدَاوَانِ، إِحْدَاهُمَا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْأُخْرَى مَعَ رَجُلٍ أَنْصَارِيٍّ. وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بْنُ مُعَاذٍ.
فَكَانَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ بَعِيرًا يَعْتَقِبُونَهَا [3] ، وَكَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثُمَائَةَ وَتِسْعَةَ عَشْرَ رَجُلًا. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٌّ، وَمَرْثدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا. فَلَمَّا قَرُبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّفْرَاءِ [4] بَعَثَ اثْنَيْنِ يَتَجَسَّسَانِ أَمْرَ أَبِي سُفْيَانَ. وَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِخُرُوجِ نَفِيرِ قُرَيْشٍ، فَاسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالُوا: خَيْرًا. وَقَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لا
__________
[1] في الأصل (فتجمّر) والتصحيح من ع، ح. وسيرة ابن هشام 3/ 31.
[2] الرّوحاء: من عمل الفرع بالمدينة، على نحو من ثلاثين أو أربعين يوما منها. (معجم البلدان) ، ويقول العلّامة الأستاذ حمد الجاسر إنّها لا تزال معروفة وتسمّى (الرحا) على طريقة البدو في الإبدال (المغانم المطابة في معالم طابة للفيروزآبادي، قسم المواضع 161 هامش) .
[3] يعتقبونها: يتعاقبون عليها ويتناوبونها. والاعتقاب: كالتعاقب: التداول.
[4] الصفراء: واد من ناحية المدينة كثير النّخل والزّرع في طريق الحاجّ. بينه وبين بدر مرحلة.
(معجم البلدان) .

(2/51)


نقول [1] كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون» [2] ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مقاتلون، فو الّذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ [3] لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ خَيْرًا وَدَعَا لَهُ.
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، [والله] [4] لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هذا البحر لخضناه مَعَكَ. فَسَرَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ، وَقَالَ: سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ رَبِّي قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا الْعِيرُ وإمّا النَّفِيرُ.
وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ. فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَسَعْدًا فِي نفر إلى بدر [8 أ] يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ. فَأَصَابُوا رَاوِيَةً [5] لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَسْلَمُ وَأَبُو يَسَارٍ مِنْ مَوَالِيهِمْ، فَأَتَوْا بِهِمَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَسَأَلُوهُمَا فَقَالَا: نَحْنُ سُقَاةٌ لِقُرَيْشٍ. فَكَرِهَ. الصَّحَابَةُ هَذَا الْخَبَرَ، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونُوا سُقَاةً لِلْعِيرِ. فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُمَا، فَإِذَا آلَمَهُمَا الضَّرْبُ قَالَا: نَحْنَ مِنْ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلّي، فلما سلّم قال: إذا صدقا ضربتموها، وَإِذَا كَذَبَا تَرَكْتُمُوهُمَا. ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرَانِي أَيْنَ قُرَيْشٌ؟ قَالَا: هُمْ وَرَاءَ هَذَا الْكَثِيبِ. فَسَأَلَهُمَا: كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَا: عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ أَوْ تِسْعًا: فَقَالَ: الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعُمَائَةِ إِلَى الْأَلْفِ. وَأَمَّا اللَّذَانِ بَعَثَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَسَّسَانِ، فَأَنَاخَا بِقُرْبِ ماء بدر واستقيا
__________
[1] في ح: لا نقول لك. وكذلك في السيرة 3/ 33.
[2] استشهاد بالآية 24 من سورة المائدة.
[3] برك الغماد: موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر، وقيل بلد باليمن، وقيل موضع في أقصى أرض هجر. (معجم البلدان) .
[4] زيادة من ع، ح.
[5] الإبل التي يستقى عليها.

(2/52)


فِي شَنِّهِمَا [1] . وَمَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو بِقُرْبِهِمَا لَمْ يَفْطِنَا بِهِ. فَسَمِعَا جَارِيَتَيْنِ مِنْ جَوَارِي الْحَيِّ تَقُولُ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى: إِنَّمَا تَأْتِي الْعِيرُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، فَأَعْمَلُ لَهُمْ ثُمَّ أَقْضِيكِ. فَصَرَفَهُمَا مَجْدِيُّ، وَكَانَ عَيْنًا لِأَبِي سُفْيَانَ. فَرَجَعَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ. وَلَمَّا قَرُبَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ بَدْرٍ تَقَدَّمَ وَحْدَهُ حَتَّى أَتَى مَاءَ بَدْرٍ فَقَال لِمَجْدِيٍّ: هَلْ أَحْسَسْتَ أَحَدًا؟ فَذَكَرَ لَهُ الرَّاكِبَيْنِ. فَأَتَى أَبُو سُفْيَانَ مَنَاخَهُمَا، فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِ بَعِيرَيْهِمَا فَفَتَّهُ، فَإِذَا فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ. فَرَجَعَ سَرِيعًا فَصَرَفَ الْعِيرَ عَنْ طَرِيقِهَا، وَأَخَذَ طَرِيقَ السَّاحِلِ، وَأَرْسَلَ يُخْبِرُ قُرَيْشًا أَنَّهُ قَدْ نَجَا فَارْجِعُوا. فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ مَاءَ بَدْرٍ، وَنُقِيمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَتَهَابُنَا الْعَرَبُ أَبَدًا.
وَرَجَعَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ الثَّقَفِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ بِبَنِي زُهْرَةَ كُلِّهِمْ، وَكَانَ فِيهِمْ مُطَاعًا. ثُمَّ نَزَلَتْ قُرَيْشٌ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْوَادِي.
وَسَبَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ. وَمَنَعَ قُرَيْشًا مِنَ السَّبَقِ إِلَى الْمَاءِ مَطَرٌ عَظِيمٌ لَمْ يُصِبِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ إِلَّا مَا لَبَّدَ لَهُمُ الْأَرْضَ. فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ بَدْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَمَهُ أَوْ نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ: بَلِ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا لَيْسَ لَكَ بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِنَا حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ وَنُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ [2] ، ثُمَّ نبني عليه حوضا فنملؤه مَاءً، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ. فَاسْتَحْسَنَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم ذلك من
__________
[1] الشن: القربة الصغيرة، أو كلّ آنية من جلد.
[2] القلب: جمع قليب، وهو البئر (تاج العروس 4/ 72) وغوّر البئر، أي دفنها وطمّها وسدّها.
ووردت في بعض الروايات «نعوّر» بالعين، ومنه حديث عليّ: أمره أن يغوّر آبار بدر.

(2/53)


رَأْيِهِ، وَفَعَلَ مَا أَشَارَ بِهِ، وَأَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ، وَبَنَى حَوْضًا وَمَلَأَهُ مَاءً. وَبُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرِيشٌ يَكُونُ فِيهِ، وَمَشَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ، فَأَرَى أَصْحَابَهُ مَصَارِعَ قُرَيْشٍ، يَقُولُ: هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ.
قال: فما عدا واحدا مِنْهُمْ مَصْرَعُهُ ذَلِكَ.
ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فَحَزَرُوا الْمُسْلِمِينَ [1] . وَكَانَ فِيهِمْ فَارِسَانِ: الْمِقْدَادُ وَالزُّبَيْرُ. وَأَرَادَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ قُرَيْشًا عَلَى الرُّجُوعِ فَأَبَوْا.
وَكَانَ الَّذِي صَمَّمَ عَلَى الْقِتَالِ أَبُو جَهْلٍ. فَارْتَحَلُوا مِنَ الْغَدِ قَاصِدِينَ نحو الماء. فلما [8 ب] رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلِينَ قَالَ: اللَّهمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ [2] وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهمّ فَنَصْرُكَ الّذي وعدتني، اللَّهمّ أحنهم [3] الغداة. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ رَأَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ- إِنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ [الْجَمَلِ] [4] الْأَحْمَرِ، إِنْ يُطِيعُوه يَرْشُدُوا. وَكَانَ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءِ بْنِ رَحْضَةَ الْغِفَارِيُّ بَعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ، حِينَ مَرُّوا بِهِ، بِجَزَائِرَ [5] هَدِيَّةٍ، وَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ نُمِدَّكُمْ بِسِلَاحٍ وَرِجَالٍ فَعَلْنَا.
فأَرَسْلَوُا إِلَيْهِ: أَنْ وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، قَدْ قَضَيْتَ الَّذِي يَنْبَغِي، فَلَعَمْرِي لَئِنْ كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ فَمَا بِنَا ضَعْفٌ، وَإِنْ كُنَّا إنما نُقَاتِلُ اللَّهَ، كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ،
__________
[1] حزر الشيء أو القوم: قدّر عددهم بالحدس والتخمين.
[2] حادّه: غاضبه وعاداه.
[3] أحنهم: من الحين وهو الموت والهلاك، أي أمتهم وأهلكهم. وفي الأصل و (ح) (أحتفهم) كأنه فعل من الحتف، وله وجه. ولكنّ الرواية ما أثبتناه كما في ع وأغلب كتب السيرة. (انظر سيرة ابن هشام 4/ 36) .
[4] سقطت من الأصل، وأثبتناه من ع، ح. والسيرة 4/ 36.
[5] في ح: «حين مرّوا به ابنا له بجزائر هديّة» والجزائر: جمع جزور: البعير.

(2/54)


مَا لِأَحَدٍ باللَّه مِنْ طَاقَةٍ.
فَلَمَّا نَزَل النَّاسُ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى وَرَدُوا حَوْضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: دَعُوهُمْ. فَمَا شَرِبَ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ إِلَّا قُتِلَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدُ، وَكَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي يَمِينِهِ قَالَ: لَا وَالَّذِي نَجَّانِي يَوْمَ بَدْرٍ.
ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الْجُمَحِيَّ لِيَحْزَرَ الْمُسْلِمِينَ. فَجَالَ بِفَرَسِهِ حَوْلَ الْعَسْكَرِ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: هُمْ ثَلَاثُمَائَةٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا أو ينقصونه. ولكن أمهلوني حتى انظر [أ] لِلْقَوْمِ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ؟ وَضَرَبَ فِي الْوَادِي، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا. فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا. وَلَكِنْ قَدْ رَأَيْتُ- يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ- الْبَلَايَا تَحْمِلُ الْمَنَايَا، نَوَاضِحُ [1] يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النَّاقِعَ. قَوْمٌ لَيْسَ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إِلَّا سُيُوفُهُمْ، وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَقْتُلَ رَجُلًا مِنْكُمْ، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ أَعْدَادَهُمْ، فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَرُوا رَأْيَكُمْ.
فَلَمَّا سَمِعَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ذَلِكَ مَشَى فِي النَّاسِ، فَأَتَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ إِنَّكَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسيدها وَالْمُطَاعُ فِيهَا، هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ لَا تَزَالُ تُذْكَرُ بِخَيْرٍ إلى آخِرِ الدَّهْرِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا حَكِيمُ؟ قال: ترجع النّاس، وَتَحْمِلُ أَمْرَ حَلِيفِكَ عَامِرِ [2] بْنِ الْحَضْرَميِّ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. أَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ حَلِيفِي فَعَلَيَّ عَقْلُهُ وَمَا أُصِيبُ مِنْ مَالِهِ. فَائْتِ ابْنَ الْحَنْظَلِيَّةِ- وَالْحَنْظَلِيَّةُ أُمُّ أَبِي جَهْلٍ- فَإِنِّي لَا أَخْشَى أَنْ يَشْجُرَ [3] أَمْرَ النَّاسِ
__________
[1] النّواضح: جمع ناضح: البعير، أو غيره، الّذي يستقى عليه الماء.
[2] في الأصل: عمرو، خطأ سيصوبه بعد قليل. وكذا في سيرة ابن هشام بالصيغتين 3/ 37.
[3] في الأصل: يسحر، وفي ع (يسجر) وأثبتنا رواية ح. ويشجر فلان أمر النّاس أي يثير التخاصم والتنازع بينهم. (تاج العروس 12/ 140) .

(2/55)


غَيْرُهُ. ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ خَطِيبًا فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا تَصْنَعُونَ بِأَنْ تَلْقَوْا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ شَيْئًا. وَاللَّهِ لَئِنْ أَصَبْتُمُوهُ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ الرَّجُلِ يَكْرَهُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، قَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ وَابْنَ خَالِهِ أَوْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهِ.
فَارْجِعُوا وَخَلُّوا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، فَإِنْ أَصَابُوُه فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ أَكْفَاكُمْ وَلَمْ تَعَرَّضُوا مِنْهُ مَا تُرِيدُونَ.
قَالَ حَكِيمٌ: فَأَتَيْتُ أَبَا جَهْلٍ فَوَجَدْتُهُ قَدْ شَدَّ دِرْعًا مِن جِرَابِهَا فَهُوَ يُهَيِّؤُهَا قُلْتُ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، إِنَّ عُتْبَةَ قَدْ أَرْسَلَنِي بِكَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: انْتَفَخَ وَاللَّهِ سَحْرُهُ [1] حِينَ رَأَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. كَلَّا، وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ. وَمَا بِعُتْبَةَ مَا قَالَ، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَأَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةَ جَزُورٍ، وَفِيهِمُ ابْنُهُ قَدْ تَخَوَّفَكُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَالَ: هَذَا حَلِيفُكَ يريد أن يرجع بالنّاس، وقد رأيت [9 أ] ثَأْرَكَ بِعَيْنِكَ، فَقُمْ فَانْشُدْ خُفْرَتَكَ [2] وَمَقْتَلَ أَخِيكَ. فقام عامر فكشف رأسه وصرخ:
وا عمراه، وا عمراه. فَحَمِيَتِ الْحَرْبُ [3] وَحَقِبَ [4] أَمْرُ النَّاسِ وَاسْتَوْسَقُوا [5] عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ. وَأَفْسَدَ عَلَى النَّاسِ رَأْيَ عُتْبَةَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ.
فَلَمَّا بَلَغَ عُتبَةَ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ: انْتَفَخَ وَاللَّهِ سَحْرُهُ، قَالَ: سَيَعْلَمُ مُصَفِّرٌ أُسْتَهُ [6] مَنِ انْتَفَخَ سَحْرُهُ. ثُمَّ الْتَمَسَ عُتْبَةُ بَيْضَةً لِرَأْسِهِ، فَمَا وجد في الجيش
__________
[1] السّحر: الرئة، ويقال للجبان الّذي ملأ الخوف جوفه: انتفخ سحره. (تاج العروس 11/ 510، 511) .
[2] الخفرة: الذمّة والجوار. وانشد خفرتك، أي أطلب من يجيرك. (تاج العروس 11/ 205) .
[3] في ح: (نار الحرب) .
[4] حقب: فسد واحتبس (تاج العروس 2/ 298) .
[5] استوسقوا: استجمعوا وانضمّوا.
[6] مصفر استه: كلمة تقال في الشتم، أو تقال للمتنعّم المترف الّذي لم تحنّكه التجارب والشدائد.

(2/56)


بَيْضَةً تَسَعُهُ مِنْ عِظَمِ هَامَتِهِ، فَاعْتَجَرَ [1] عَلَى رَأْسِهِ بِبُرْدٍ لَهُ.
وَخَرَجَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ- وَكَانَ شَرِسًا سَيِّئَ الْخُلُقِ- فَقَالَ: أُعَاهِدُ اللَّهَ لأشربن مِنْ حَوْضِهِمْ أَوْ لَأَهْدِمَنَّهُ أَوْ لَأَمُوتَنَّ دُونَهُ. وَأَتَاهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَالْتَقَيَا فَضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَقَطَعَ سَاقَهُ، وَهُوَ دُونَ الْحَوْضِ، فَوَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ تَشْخَبُ رِجْلُهُ دَمًا. ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْحَوْضِ حَتَّى اقْتَحَمَ فِيهِ لِيَبِرَّ يَمِينَهُ، وَاتَّبَعَهُ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ فِي الْحَوْضِ.
ثُمَّ إِنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ خَرَجَ لِلْمُبَارَزَةِ بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ، وَابْنِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَدَعَوْا لِلْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَوْفٌ وَمُعَوَّذٌ ابْنَا عَفْرَاءَ وَآخَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ.
قالوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالُوا: مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ، لِيَخْرُجْ إِلَيْنَا أَكَفَّاؤُنَا مِنْ قَوْمِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ، وَيَا حَمْزَةُ، وَيَا عَلِيُّ. فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُمْ، قَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَتَسَمَّوْا لَهُمْ. فَقَالَ:
أَكْفَاءٌ كِرَامٌ. فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ- وَكَانَ أَسَنَّ الْقَوْمِ- عُتْبَةُ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ. فَأَمَّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ. وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ يُمْهِلِ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ. وَاخْتَلَفَ عُتْبَةُ وَعُبَيْدَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْنِ: كِلَاهُمَا أَثْبَتَ [2] صَاحِبَهُ. وَكَرَّ عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ عَلَى عُتْبَةَ فَدَفَّفَا [3] عَلَيْهِ. وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ إِلَى أَصْحَابِهِمَا [4] .
ثُمَّ تَزَاحَفَ الْجَمْعَانِ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يَحْمِلُوا حَتَّى يَأْمُرَهُمْ وَقَالَ: انْضَحُوهُمْ عَنْكُمْ بِالنَّبْلِ. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم في العريش، معه أَبُو بَكْرٍ.
وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ. ثُمَّ عَدَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم
__________
[1] الاعتجار: ليّ الثوب على الرأس من غير إدارة تحت الحنك. والعجرة، بالكسر: نوع من العمّة، يقال: فلان حسن العجرة (تاج العروس 12/ 538) .
[2] أثبته: اصابه بحيث لا يتحرّك.
[3] دفّف عليه: أجهز عليه، ومثلها ذفّف.
[4] انظر الخبر في المغازي لعروة بن الزبير- ص 140، 141.

(2/57)


الصُّفُوفَ بِنَفْسِهِ، وَرَجَعَ إِلَى الْعَرِيشِ وَمَعَهُ أَبُو بكر فقط. فجعل يناشد ربّه ويقول: يا ربّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ. وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَعْضُ مُنَاشَدَتِكَ رَبِّكَ. فَإِنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ لك ما وعدك. ثم خفق [1] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْتَبَهَ وَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَتَاكَ النَّصْرُ، هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسِهِ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ. فَرُمِيَ مِهْجَعٌ- مَوْلَى عُمَرَ- بِسَهْمٍ، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ثُمَّ رُمِيَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ النَّجَّارِيُّ بِسَهْمٍ وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الْحَوْضِ، فَقُتِلَ.
ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّاسِ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ. فَقَاتَلَ عُمَيْرُ ابْنُ الْحُمَامِ حَتَّى قُتِلَ. ثُمَّ قَاتَلَ عَوْفُ بْنُ عَفْرَاءَ- وَهِيَ أُمُّهُ- حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْمُشْرِكيِنَ بِحَفْنَةٍ مِنَ الْحَصْبَاءِ وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ. وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: شُدُّوا [2] عَلَيْهِمْ. فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ، وَقَتَلَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ الْكُفْرِ: فَقُتِلَ سَبْعُونَ وَأُسِرَ مِثْلُهُمْ. وَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْعَرِيشِ. وَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ عَلَى الْبَابِ [9 ب] بِالسَّيْفِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، يَخَافُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كرة الْعَدُوِّ.
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ رِجَالًا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِقِتَالِنَا، فَمَنْ لَقِيَ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنَ هَاشِمِ بْنِ الْحَارِثِ [3] فَلَا يقتله، ومن
__________
[1] خفق: نعس نعسة ثم تنبه.
[2] في الأصل: (صدوا) والتصحيح من ع. ح. والسيرة 3/ 39.
[3] أبو البختريّ: هو العاص بن هاشم بن الحارث، وقيل: ابن هاشم. وهو الّذي ضرب أبا جهل بلحى بعير فشجّه حين أراد أن يمنع ابن أخي السيّدة خديجة من الوصول إليها، وهي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشعب، وكان يحمل قمحا يريد به عمّته. لذلك قيل إنّه كَانَ أَكَفَّ الْقَوْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإصابة 3/ 124) .

(2/58)


لَقِيَ الْعَبَّاسُ فَلَا يَقْتُلْهُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ مُسْتَكْرَهًا. فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ [1] : أَنَقْتُلُ آبَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لألحمنه [2] بالسيف. فبلغت رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِعُمَرَ: يَا أَبَا حَفْصٍ [3] ، أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ [4] ؟
فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي فَلْأَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ يَقُولُ: مَا أَنَا آمِنٌ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي قُلْتُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا أَزَالُ مِنْهَا خَائِفًا، إِلَّا أَنْ تُكَفِّرَهَا عَنِّي الشَّهَادَةُ. فَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ. وَكَانَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ أَكَفَّ الْقَوْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَ فِي نقض الصّحيفة. فلقيه المجذّر بن ذياد [5] الْبَلَوِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَانَا عَنْ قَتْلِكَ. فَقَالَ: وَزَمِيلِي جُنَادَةُ اللَّيْثِيُّ؟ فَقَالَ الْمجذَّرُ: لَا وَاللَّهِ مَا أَمَرَنَا إِلَّا بِكَ وَحْدَكَ. فَقَالَ: لَأَمُوتَنَّ أَنَا وَهُوَ، لَا يَتَحَدَّثُ عَنِّي نِسَاءُ مَكَّةَ أَنِّي تَرَكْتُ زَمِيلِي حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ. فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَهُ الْمُجَذَّرُ. ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ جَهَدْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْسِرَ، فَآتِيكَ بِهِ، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَنِي.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ صَدِيقًا لِي بِمَكَّةَ. قَالَ فَمَرَرْتُ بِهِ وَمَعِي أَدْرَاعٌ قَدِ اسْتَلَبْتُهَا، فَقَالَ لِي: هَلْ لَكَ فِيَّ، فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأدراع؟ قُلْتُ: نَعَمْ، هَا اللَّهُ إذن. وطرحت
__________
[1] هو أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، من فضلاء الصّحابة، ومن السابقين إلى الإسلام، أَسْلَمَ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَارَ الْأَرْقَمِ. وشهد بدرا وما بعدها، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة والمدينة. قتل يوم اليمامة شهيدا وهو ابن ثلاث- أو أربع- وخمسين سنة. (الإصابة 4/ 42، 43 رقم 264) .
[2] ألحمه السيف: أي أمكن منه لحمه. ولحمه: ضربه. ورواية ابن هشام «لألحمنّه السيف» قال: ويقال «لألجمنّه السيف» بالجيم. (السيرة 3/ 39)
[3] في طبعة القدسي 38 «أيا حفص» .
[4] في ح وفي السيرة 3/ 39 «أيضرب وجه عمّ رسول الله بالسيف» ؟
[5] المحبّر 74، 177، و 467، المشتبه للذهبي 2/ 573.

(2/59)


الأدراع، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَيَدِ ابْنِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، أَمَا لَكُمْ حَاجَةٌ فِي اللَّبَنِ؟ يَعْنِي: مَن أَسَرَنِي افْتَدَيْتُ مِنْهُ بِإِبلٍ كَثِيرَةِ اللَّبَنِ. ثُمَّ جِئْتُ أَمْشِي بِهِمَا، فَقَالَ لِي أُمَّيَةُ: مَنِ الرَّجُلُ الْمُعَلَّمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ؟
قُلْتُ: حَمْزَةُ. قَالَ: ذَاكَ الّذي فعل بنا الأفاعيل. فو الله إِنِّي لَأَقُودَهُمَا، إِذْ رَآهُ بِلَالٌ، وَكَانَ يُعَذِّبُ بِلَالًا بِمَكَّةَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: رَأْسُ الْكُفْرِ أمية بن خلف؟
لا نجوت إن نجا [1] . قال: أتسمع يا بن السَّوْدَاءِ مَا يَقُولُ؟ ثُمَّ صَرَخَ بِلَالٌ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَنْصَارَ اللَّهِ، رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بن خلف، لا نجوت إن نجا.
قال: فَأَحَاطُوا بِنَا، وَأَنَا أَذُبُّ عَنْهُ. فَأَخْلَفَ رَجُلٌ السَّيْفَ، فَضَرَبَ رِجْلَ ابْنِهِ فَوَقَعَ، فَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً عَظِيمَةً، فَقُلْتُ: انْجُ بِنَفْسِكَ، وَلَا نَجَاءَ، فو الله مَا أُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا. فَهَبَرُوهُمَا بِأَسْيَافِهِمْ. فَكَانَ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ بِلَالًا، ذَهَبَتْ أَدْرُاعِي، وَفَجَعَنِي بِأَسِيرَيَّ.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَجُلٍ مِنْ غِفَارٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي حَتَّى أَصْعَدْنَا فِي جَبَلٍ يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الدَّائِرَةَ عَلَى مَنْ تَكُونُ، فَنَنْتَهِبُ [2] . فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْجَبَلِ، إِذْ دَنَتْ مِنَّا سَحَابَةٌ، فَسَمِعْتُ فِيهَا حَمْحَمَةَ الْخَيْلِ، فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ [3] . فَأَمَّا ابْنُ عَمِّي فَانْكَشَفَ قِنَاعُ قَلْبِهِ [10 أ] فَمَاتَ مَكَانَهُ، وَأَمَّا أَنَا فَكِدْتُ أَهْلَكَ، ثُمَّ تَمَاسَكْتُ.
رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى الَّذِي بَعْدَهُ [4] ابْنُ حَزْمٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ من بني ساعدة عن أبي أسيد
__________
[1] زاد في ح بعد هذا: «قلت: أي بلال، أبأسيري؟ قال: لا نجوت إن نجا» . وانظر:
السيرة 3/ 41.
[2] في ح: فننتهب مع من ينتهب. وانظر السيرة 3/ 41.
[3] حيزوم: اسم فرس جبريل عليه السلام، وقيل اسم فرس من خيل الملائكة.
[4] هكذا في الأصل وسائر النّسخ،

(2/60)


مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: لَوْ كَانَ مَعِي بَصَرِي وَكُنْتُ بِبَدْرٍ لَأَرَيْتُكُمُ [1] الشِّعْبَ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ [2] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي أَبِي، عن رجال، عن أبي داود المازني قال: إِنِّي لَأَتْبَعُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ، إِذْ وَقَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَتَلَهُ غَيْرِي.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ.
وَأَمَّا أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَاحْتَمَى فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ- وَهُوَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ-، وَبَقِيَ أَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: أَبُو الْحَكَمِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ. قَالَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوح: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا جَعَلْتُهُ مِنْ شَأْنِي، فَصَمَدْتُ نَحْوَهُ، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَضَرَبْتُ ضَرْبَةً أطنّت [3] قدمه بنصف ساقه. فو الله مَا أُشَبِّهُهَا حِينَ طَارَتْ [4] إِلَّا بِالنَّوَاةِ تَطِيحُ مِنْ تَحْتِ مِرْضَخَةِ النَّوَى [5] حِينَ تُضْرَبُ بِهَا.
فَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكْرَمَةَ عَلَى عَاتِقِي فَطَرَحَ يَدِي، فَتَعَلَّقْتُ بِجِلْدَةٍ مِنْ جَنْبِي، وَأَجْهَضَنِي الْقِتَالُ عَنْهُ [6] . فَلَقَدْ قَاتَلْتُ عَامَّةَ يَوْمِي، وَإِنِّي لَأَسْحبُها خَلْفِي.
فَلَمَّا آذَتْنِي وَضَعْتُ عَلَيْهَا قَدَمِي. ثُمَّ تَمَطَّيْتُ بِهَا عَلَيْهَا حَتَّى طَرَحْتُهَا. قَالَ:
ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى زَمَنِ عُثْمَانَ.
ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ مُعَوِّذُ بْنُ عَفْرَاءَ، فَضَرَبَهُ حَتَّى أَثْبَتَهُ، وَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ.
وَقَاتَلَ مُعَوِّذٌ حَتَّى قُتِلَ. وَقُتِلَ أَخُوهُ عَوْفٌ قَبْلَهُ. وَاسْمُ أَبِيهِمَا: الحارث بن
__________
[1] في طبعة القدسي 40 «لأريت لكم» .
[2] وفي السيرة 3/ 41 «لا أشك فيه ولا أتمارى» .
[3] أطنّت قدمه: أطارتها.
[4] في ح: طاحت. والسيرة 3/ 42.
[5] المرضخة والمرضحة: حجر يرضخ به النّوى. (أي يكسر) (تاج العروس 7/ 258) .
[6] أجهضه عن الأمر: أعجله عنه.

(2/61)


رِفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ الزُّرَقِيُّ [1] .
ثُمَّ مَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِأَبِي جَهْلٍ حِينَ أَمَر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْتِمَاسِهِ، وَقَالَ فِيمَا بَلَغَنَا: إِنْ خَفِيَ عَلَيْكُمْ فِي الْقَتْلَى فَانْظُرُوا إِلَى أَثَرِ جُرْحٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَإِنِّي ازْدَحَمْتُ أَنَا وَهُوَ يَوْمًا عَلَى مَأْدُبَةٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ [2] ، وَنَحْنُ غُلامَانِ، وَكُنْتُ أَشَفَّ مِنْهُ [3] بِيَسِيرٍ، فَدَفَعْتُهُ، فَوَقَعَ عَلَى رُكْبَتِهِ فَجُحِشَ [4] فِيهَا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَوَجَدْتُهُ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنُقِهِ.
وَقَدْ كَانَ ضَبَثَ [5] بِي مَرَّةً بِمَكَّةَ، فَآذَانِي وَلَكَزَنِي. فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ: وَبِمَاذَا أَخْزَانِي، وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟
أَخْبِرْنِي لمن الدائرة اليوم؟ قلت: للَّه ولرسوله. قَالَ لَقَدِ ارْتَقَيْتَ، يَا رُوَيْعِيِّ الْغَنَمِ مُرْتَقًى صعبا. قال فاحترزت رَأْسَهُ وَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبِي جَهْلٍ. قَالَ: آللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ؟
قُلْتُ: نَعَمْ. وَأَلْقَيْتُ الرَّأْسَ بَيْنَ يَدَيَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْقَتْلَى أَنْ يُطْرَحُوا فِي قَلِيبٍ [6] هُنَاكَ. فَطُرِحُوا فِيهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَإِنَّهُ انْتَفَخَ فِي دِرْعِهِ فَمَلَأَهَا، فَذَهَبُوا لِيُخْرِجُوهُ فَتَزَايَلَ، فَأَقَرُّوهُ بِهِ، وألقوا عليه التراب فغيّبوه.
__________
[1] الزّرقيّ: نسبة إلى زريق، بطن من الأنصار. (اللباب 2/ 65)
[2] هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب، وهو الّذي اجتمعت قريش في داره وصنع لهم طعاما يوم حلف الفضول، فتعاهدوا وتعاقدوا أن يكونوا مع المظلوم. وفي هذا الحلف يقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما أحبّ أنّ لي بحلف حضرته بدار ابن جدعان حمر النّعم، وأنّي أغدر به، ولو دعيت به لأجبت» . (سيرة ابن هشام 1/ 155) .
[3] أشفّ منه: ينقص عنه أو يزيد عليه (من الأضداد) .
[4] الجحش: سحج الجلد وقشره من شيء يصيبه، أو كالخدش.
[5] في هامش ح: (ضبث به: أمسكه) . وقال الزبيدي 5/ 287: قبض عليه بكفّه.
[6] القليب: البئر (تاج العروس 4/ 72) .

(2/62)


فَلَمَّا أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، وَقَفَ عَلَيْهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فَقَالَ] [1] : يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا.
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُنَادِي أَقْوَامًا قَدْ جَيَّفُوا؟ فقال: ما أنتم بأسمع [10 ب] لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أَنْ يُجِيبُوا [2] .
وَفِي رِوَايَةٍ: فَنَادَاهُمْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ: يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ. فَعَدَّدَ مَنْ كَانَ فِي الْقَلِيبِ.
زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا سُحِبَ عُتبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ إِلَى الْقَلِيبِ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ ابْنِهِ، فَإِذَا هُوَ كَئِيبٌ مُتَغَيِّرٌ. فَقَالَ: لَعَلَّكَ قَدْ دَخَلَكَ مِنْ شَأْنِ أَبِيكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا شَكَكْتُ فِي أَبِي وَلَا فِي مَصْرَعِهِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَعْرِفُ مِنْهُ رَأْيًا وَحِلْمًا، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا أَصَابَهُ وَمَا مَاتَ عَلَيْهِ أَحْزَنَنِي ذَلِكَ. فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ خَيْرًا. وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الأَسْوَدِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبِّهِ ابن الْحَجَّاجِ قَدْ أَسْلَمُوا. فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم حبسهم آباؤهم وَعَشَائِرُهُمْ، وَفَتَنُوهُمْ عَنِ الدِّينِ فَافْتَتَنُوا- نَعُوذُ باللَّه مِنْ فِتْنَةِ الدِّينِ- ثُمَّ سَارُوا مَعَ قَوْمِهِمْ يوم
__________
[1] سقطت من الأصل، وزدناها من ع، ح. والسيرة 3/ 51.
[2] انظر السيرة 3/ 51 والمغازي لعروة 143، 144.

(2/63)


بَدْرٍ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا. وَفِيهِمْ نَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ 4: 97 [1] الْآيَةَ.
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامَتِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: فِينَا أَهْلُ بَدْرٍ نَزَلَتِ (الْأَنْفَالُ) حِينَ تَنَازَعْنَا فِي الْغَنِيمَةِ وَسَاءَتْ فِيهَا أَخْلَاقُنَا. فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا وَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِهِ. فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى السَّوَاءِ.
ثُمَّ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بن رواحة، وزيد بن حارثة، بشير بن إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ أُسَامَةُ: أَتَانَا الْخَبَرُ حِينَ سَوَّيْنَا عَلَى رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَهَا. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَنِي عَلَيْهَا مَعَ عُثْمَانَ.
ثُمَّ قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ الْأُسَارَى، فِيهِمْ: عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ مَضِيقِ الصَّفْرَاءِ [2] قَسَّمَ النَّفْلِ. فَلَمَّا أَتَى الرَّوْحَاءَ لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ يُهَنِّئُونَهُ بِالْفَتْحِ. فَقَالَ لَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ: مَا الَّذِي تُهَنِّئُونَنَا بِهِ؟ فو الله إِنْ لَقِينَا إِلَّا عَجَائِزَ صُلْعًا كَالبُدْنِ الْمُعْقَلَةِ [3] فَنَحَرْنَاهَا.
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَيِ ابْنَ أَخِي، أُولَئِكَ الْمَلَأُ. يَعْنِي الْأَشْرَافَ وَالرُّؤَسَاءَ.
ثُمَّ قُتِلَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْعَبْدَرِيُّ بِالصَّفْرَاءِ. وَقُتِلَ بِعِرْقِ الظُّبْيَةِ [4] .
عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. فَقَالَ عُقْبَةُ حِينَ أَمَر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ: مَنْ للصّبية يا
__________
[1] سورة النّساء: من الآية 97.
[2] الصّفراء: قرية فوق ينبع كثيرة المزارع والنخل. (معجم ما استعجم 3/ 836) .
[3] في الأصل و (ح) : (المعلقة) والتصحيح من ع ومن السيرة 3/ 53. والبدن: جمع بدنة وهي الناقة. والمعلقة: المقيّدة.
[4] عرق الظّبية: هو من الرّوحاء على ثلاثة أميال مما يلي المدينة. وقيل بين مكة والمدينة قرب الرّوحاء. وقيل هو الرّوحاء نفسها، (معجم البلدان) والمغانم المطابة ص 240، ومعجم ما استعجم 3/ 903 و 934.

(2/64)


مُحَمَّدُ؟ قَالَ: النَّارُ. فَقَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ. وَقِيلَ: عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ قَالَ: أَتَقْتُلُنِي يَا مُحَمَّدُ مِنْ بَيْنِ قُرَيْشٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَتَدْرُونَ مَا صَنَعَ هَذَا بِي؟ جَاءَ وَأَنَا سَاجِدٌ خَلْفَ الْمُقَامِ فَوَضَعَ رِجْلَهُ على عنقي [11 أ] وَغَمَزَهَا، فَمَا رَفَعَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ عَيْنَيَّ سَتَنْدُرَانِ [1] . وَجَاءَ مَرَّةً أُخْرَى بِسَلَى شَاةٍ [2] فَأَلْقَاهُ عَلَى رَأْسِي وَأَنَا سَاجِدٌ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَغَسَلَتْهُ عَنْ رَأْسِي [3] . وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ:
مِهْجَعٌ، وَذُو الشِّمَالَيْنِ عُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيُّ، وَعَاقِلُ بْنُ الْبُكَيْرِ، وَصَفْوَانُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَخُو سَعْدٍ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافَ الْمُطَّلِبِيُّ الَّذِي قَطَعَ رِجْلَهُ عُتْبَةُ، مَاتَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ بِالصَّفْرَاءِ. وَهَؤُلاءِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ.
وَعُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ، وَابْنَا عَفْرَاءَ، وَحَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ فُسْحُمُ [4] ، وَرَافِعُ بْنُ الْمُعَلَّى الزُّرَقِيُّ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ الْأَوْسِيُّ، وَمُبَشِّرُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَخُو أبي لبابة.
فالجملة أربعة عشر رجلا.
__________
[1] ستسقطان.
[2] سلى الشّاة: الجلد الرقيق الّذي يخرج فيه الولد من بطن أمّه ملفوفا فيه.
[3] روى البخاري في صحيحه قال: «بينما النّبيّ يصلّي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنق رسول الله فخنقه خنقا شديدا. فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءكم بالبيّنات من ربكم» ، وذكر مسلم هذه الرواية في صحيحة أيضا.
[4] فسحم اسم أمّه، ويقال له يزيد فسحم، ويزيد بن فسحم (المحبّر لابن حبيب 72) .

(2/65)


وَقُتِلَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَهُمَا ابْنَا أَرْبَعِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ. وَكَانَ شَيْبَةُ أَكْبَرَ بِثَلَاثِ سَنَوَاتٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ بِمُصَابِ قُرَيشٍ: الْحَيْسُمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ. فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: قُتِلَ عُقْبَةُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَأُمَّيَةُ، وَزَمْعَةُ بْنُ الأسود، ونبيه، ومنبّه، وأبو البختريّ ابن هِشَامٍ. فَلَمَّا جَعَلَ يُعَدِّدُ أَشْرَافَ قُرَيشٍ قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَهُوَ قَاعِدٌ فِي الْحِجْرِ: وَاللَّهِ إِنْ يَعْقِلْ هَذَا فَاسْأَلُوهُ عَنِّي: فَقَالُوا: ما فعل صفوان؟ قال: ها هو ذَاكَ جَالِسٌ، قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْتُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ حِينَ قُتِلَا [1] .
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا لِلْعَبَّاسِ وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ دَخَلَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَأَسْلَمَ الْعَبَّاسُ وَأَسْلَمْتُ. وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَهَابُ قَوْمَهُ وَيَكْرَهُ الْخِلَافَ وَيَكْتُمُ إِسْلَامَهُ، وَكَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ مُتَفَرِّقٍ فِي قَوْمِهِ. وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ، فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَبَرَ بِمُصَابِ قُرَيْشٍ كَبَتَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسَنَا قُوَّةً وَعِزًّا، وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا، وَكُنْتُ أَنْحَتُ الْأَقْدَاحَ [2] فِي حُجْرَةِ زَمْزَمَ. فَإِنِّي لَجَالِسٌ أَنْحَتُ أَقْدَاحِي، وَعِنْدِي أُمُّ الْفَضْلِ، وَقَدْ سَرَّنَا الْخَبَرُ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو لَهَبٍ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ [3] بِشَرٍّ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى طُنُبِ [4] الْحُجْرَةِ، فَكَانَ ظَهْرُهُ إِلَى ظَهْرِي. فبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ إِذْ قَالَ النَّاسُ: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ قَدِمَ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: إِلَيَّ، فَعِنْدَكَ الْخَبَرُ. قَالَ: فَجَلَسَ إِلَيْهِ، وَالنَّاسُ قِيَامٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا بْنَ أَخِي، أَخْبِرْنِي كَيْفَ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ لَقِينَا الْقَوْمَ فَمَنَحْنَاهُمْ أكتافنا يقتلوننا
__________
[1] السيرة لابن هشام 3/ 54 وانظر المغازي لعروة ص 143.
[2] في ع: (سهام الأقداح) وفي ح: (السهام أو الأقداح) . وفي السيرة 3/ 55 «أعمل الأقداح» .
[3] في ع: (رجل) .
[4] الطنب: حبل الخباء والسرادق، ويقال: الوتد. (تاج العروس 3/ 278) .

(2/66)


كَيْف شَاءُوا وَيَأْسِرُونَنَا، وَايْمُ اللَّهِ مَا لُمْتُ النَّاسَ، لَقِينَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ [1] بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهِ مَا تَلِيقُ [2] شَيْئًا وَلَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ [3] .
قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَرَفَعْتُ طُنُبَ الْحُجْرَةِ بِيَدَيَّ، ثُمَّ قُلْتُ: تِلْكَ وَاللَّهِ الْمَلَائِكَةُ. فَرَفَعَ أَبُو لَهَبٍ يَدَهُ فَضَرَبَ وَجْهِي ضَرْبَةً شَدِيدَةً.
قَالَ: وَثَاوَرْتُهُ [4] ، فَحَمَلَنِي وَضَرَبَ بِيَ الْأَرْضَ. ثُمَّ بَرَكَ عَلَيَّ يَضْرِبُنِي، وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا. فَقَامَتْ أُمُّ الْفَضْلِ إِلَى عَمُودٍ مِنْ عُمُدِ الْحُجْرَةِ، فَأَخَذَتْهُ فَضَرَبَتْهُ بِهِ ضَرْبَةً، فَلَقَتْ فِي رَأْسِهِ شَجَّةً مُنْكَرَةً، وَقَالَتْ: اسْتَضْعَفْتَهُ أَنْ غَابَ عَنْهُ سَيِّدُهُ؟ فَقَامَ مُوَلِّيًا ذَلِيلًا. فو الله مَا عَاشَ إِلَّا سَبْعَ لَيَالٍ، حَتَّى رَمَاهُ [11 ب] اللَّهُ بِالْعَدَسَةِ [5] فَقَتَلَتْهُ [6] .
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَتَّقِي هَذِهِ الْعَدَسَةَ كَمَا يُتَّقَى الطَّاعُونُ. حَتَّى قَالَ رَجُلٌ من قريش لا بنيه: ويحكما؟ أما [7] تستحيان أنّ أبا كما قَدْ أَنْتَنَ فِي بَيْتِهِ لَا تَدْفِنَانَهُ؟ فَقَالَا: نَخْشَى عَدْوَى هَذِهِ الْقُرْحَةِ. فَقَالَ: انْطَلِقَا فَأَنَا أعينكما فو الله مَا غَسَّلُوهُ إِلَّا قَذْفًا بِالْمَاءِ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ. ثُمَّ احْتَمَلُوهُ إِلَى أَعْلَى مَكَّةَ، فَأَسْنَدُوهُ إِلَى جِدَارٍ، ثُمَّ رَضَمُوا [8] عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ [9] .
رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بكير عنه بمعناه. قال:
__________
[1] البلق: جمع أبلق وبلقاء، وهو ما يجتمع فيه البياض والسواد.
[2] ما تليق شيئا، ما تمسكه.
[3] سيرة ابن هشام 3/ 55
[4] ثاورته: واثبته وساورته. (تاج العروس 10/ 343) .
[5] العدسة: بثرة صغيرة شبيهة بالعدسة تخرج بالبدن مفرّقة كالطّاعون فتقتل غالبا وقلّما يسلم منها.
[6] سيرة ابن هشام 3/ 55.
[7] في ع، ح. (ألا) .
[8] رضموا عليه الحجارة: وضعوا بعضها فوق بعض.
[9] الروض الأنف 3/ 67.

(2/67)


حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا ثُمَّ قَالُوا: لَا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فَيَشْمَتُوا بِكُمْ.
وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ قَدْ أُصِيبَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِهِ [1] : زَمْعَةُ، وَعَقِيلٌ، وَالْحَارِثُ. فَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى. فَقَدِمَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فِي فِدَاءِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو. فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْزَعُ ثَنِيَّتَيْ سُهَيْلٍ [2] فَلَا يَقُومُ عَلَيْكَ خَطِيبًا فِي مَوْطِنٍ [3] أَبَدًا فَقَالَ: لَا أُمَثِّلُ بِهِ فَيُمَثِّلُ اللَّهُ بِي، وَعَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا لَا تَذُمَّهُ. فَقَامَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوٍ مِنْ خُطْبَةِ أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. وَانْسَلَّ [4] الْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ، فَفَدَى أَبَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَانْطَلَقَ بِهِ.
وَبَعَثَتْ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الربيع ابن عَبْدِ شَمْسٍ، بِمَالٍ. وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ خَدِيجَةُ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ. فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ لَهَا، وَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا [مَالَهَا] [5] . قَالُوا: نعم، يا رسول الله. وأطلقوه.
__________
[1] في ع: (الولد) .
[2] زاد في ح: «ليدلع لسانه» . أي يخرج من الفم ويسترخي ويسقط على العنقفة كلسان الكلب.
[3] في ح: (موضع) وكتب إزاءها في الهامش (موطن) .
[4] انسلّ: انطلق في استخفاء.
[5] سقطت من الأصل وبقيّة النسخ، وزدناها من ابن الملّا. ورواية ابن سعد «وتردّوا عليها متاعها» .

(2/68)


فَأَخَذَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخَلِّي سَبِيلَ زَيْنَبَ، وَكَانَتْ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ النِّسَاءِ. وَاسْتَكْتَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. وَبَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلًا من الأنصار، فقال: كونا ببطن يأجج [1] حتى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ فَتَصْحَبَانَهَا حَتَّى تَأْتِيَانِي بِهَا.
وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ [2] .
فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو الْعَاصِ مَكَّةَ أَمَرَهَا بِاللُّحُوقِ بِأَبِيهَا، فَتَجَهَّزَتْ. فَقَدَّمَ أَخُو زَوْجِهَا كِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بَعِيرًا، فَرَكِبَتْهُ وَأَخَذَ قَوْسَهُ وَكِنَانَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِهَا نَهَارًا يَقُودُهَا. فَتَحَدَّثَ بِذَلِكَ رِجَالٌ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهَا. فَبَرَكَ كِنَانَةُ وَنَثَرَ كِنَانَتَهُ لَمَّا أَدْرَكُوهَا [3] بِذِي طُوًى [4] ، فَرَوَّعَهَا هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ [5] بِالرُّمْحِ. فَقَالَ كِنَانَةُ:
وَاللَّهِ لَا يَدْنُو مِنِّي رَجُلٌ إِلَّا وَضَعْتُ فِيهِ سَهْمًا. فَتَكَرْكَرَ النَّاسُ عَنْهُ. وَأَتَى أَبُو سُفْيَانَ فِي أَجِلَّةٍ [6] مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ كُفَّ عَنَّا نَبْلَكَ حَتَّى نُكَلِّمَكَ. فَكَفَّ. فَوَقَفَ عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تُصِبْ. خَرَجْتَ بْالْمَرْأَةِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ عَلَانِيَةً، وَقَدْ عَرَفْتَ مُصِيبَتَنَا وَنَكْبَتَنَا وَمَا دَخَلَ علينا من [12 أ] مُحَمَّدٍ، فَيَظُنُّ النَّاسُ إِذَا خَرَجْتَ بِابْنَتِهِ إِلَيْهِ عَلَانِيَةً أَنَّ ذَلِكَ عَلَى ذُلٍّ أَصَابَنَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَّا وَهْنٌ وَضَعْفٌ، وَلَعَمْرِي مَا بِنَا بِحَبْسِهَا عَنْ أَبِيهَا مِنْ حَاجَةٍ، وَلَكِنِ ارْجَعْ بِالْمَرْأَةِ، حَتَّى إِذَا هَدَأَتِ الْأَصْوَاتُ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّا رَدَدْنَاهَا، فَسُلَّها سِرًّا وَأَلْحِقْهَا بِأَبِيهَا. قَالَ: فَفَعَلَ. ثُمَّ خَرَجَ بِهَا لَيْلًا، بَعْدَ لَيَالٍ، فَسَلَّمَهَا إِلَى زَيْدٍ وَصَاحِبَه. فَقَدِمَا بِهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَامَتْ عِنْدَهُ [7] .
__________
[1] بطن يأجج: مكان من مكة على ثمانية أميال، (معجم البلدان) .
[2] السيرة 3/ 58.
[3] في ع: (أدركوه) .
[4] ذو طوى، مثلثة الطّاء، والفتح أشهر: موضع قرب مكة، به كان البئر المعروف بالطّوى.
(معجم ما استعجم 3/ 896) .
[5] هو: هبّار بن الأسود بن المطّلب بن عبد العزّى.
[6] في الأصل والسيرة 3/ 58: جلّة. وأثبتنا نصّ ع، ح.
[7] سيرة 3/ 58.

(2/69)


فَلَمَّا [كَانَ] [1] قَبْلَ الْفَتْحِ، خَرَجَ أَبُو الْعَاصِ تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ بِمَالِهِ، وَبِمَالٍ كَثِيرٍ لِقُرَيْشٍ. فَلَمَّا رَجَعَ لَقِيَتْهُ سَرِيَّةٌ فَأَصَابُوا مَا مَعَهُ، وَأَعْجَزَهُمْ هَارِبًا، فَقَدِمُوا بِمَا أَصَابُوا. وَأَقْبَلَ أَبُو الْعَاصِ فِي اللَّيْلِ، حَتَّى دَخَل عَلَى زَيْنَبَ، فَاسْتَجَارَ بِهَا فَأَجَارَتْهُ، وَجَاءَ فِي طَلَبِ مَالِهِ. فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصُّبْحِ فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ مَعَهُ، صَرَخَتْ زَيْنَبُ مِنْ صُفَّةِ النِّسَاءِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ [2] .
وَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّرِيَّةِ الَّذِينَ أَصَابُوا مَالَهُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مَالًا، فَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَرُدُّوا عَلَيْهِ الَّذِي لَهُ، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ. وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهُوَ فَيْءُ اللَّهِ الَّذِي أَفَاءَ عَلَيْكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ.
قَالُوا: بَلْ نَرُدُّهُ. فَرَدُّوهُ كُلَّهُ. ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَأَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي مَالٍ مَالَهُ. ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ بَقِيَ لِأحَدٍ عِنْدِي مِنْكُمْ مَالٌ؟ قَالُوا:
لَا، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ وَجَدْنَاهُ وَفِيًّا كَرِيمًا. قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ [3] مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنَ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ إِلَّا تَخَوُّفُ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَكْلَ أَمْوَالَكُمْ. ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: رَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم زينب عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا [4] .
وَمِنَ الْأُسَارَى: الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، أسره عبد الله ابن جَحْشٍ، وَقِيلَ: سَلِيطُ الْمَازِنِيُّ.
وَقَدِمَ فِي فِدَائِهِ أَخَوَاهُ: خَالِدُ بْنُ الْوَليِدِ، وَهِشَامُ بْنُ الْوَليِدِ، فافتكّاه
__________
[1] سقطت من الأصل، واستدركناها من ع، ح.
[2] السيرة 3/ 59، 60.
[3] في ع: (وأشهد أن) .
[4] السيرة 3/ 60.

(2/70)


بُأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَذَهَبَا بِهِ.
فَلَمَّا افُتَدِيَ أَسْلَمَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ تَظُنُّوا بِي أَنِّي جَزِعْتُ مِنَ الْأَسْرِ. فَحَبَسُوهُ بِمَكَّةَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لَهُ فِي الْقُنُوتِ، ثُمَّ هَرَبَ وَلَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَتُوُفِّيَ قَدِيمًا، لَعَلَّ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَكَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ، وَهِيَ بِنْتُ عَمِّهِ [1] .
يَا عَيْنُ فَابْكِي لِلْوَلِيدِ- ... بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَهْ
قَدْ كَانَ غَيْثًا فِي السِّنِينِ ... وَرَحْمَةً فِينَا وَمِيرَهْ
ضخم الدّسيعة ماجدا ... يسموا إِلَى طَلَبِ الْوَتِيرَهْ
مِثْلُ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ ... أَبِي الْوَلِيدِ كَفَى الْعَشِيرَهْ [2]
وَمِنَ الْأَسْرَى: أَبُو عَزَّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُمَحِيُّ. كَانَ مُحْتَاجًا ذَا بَنَاتٍ.
قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ عَرَفْتَ أَنِّي لَا مَالَ لِي، وَأَنِّي ذُو حَاجَةٍ وَعِيَالٍ، فَامْنُنْ [3] عَلَيَّ. فَمَنَّ عَلَيْهِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُظَاهِرَ عَلَيْهِ أَحَدًا [4] .
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، جَلَسَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، بَعْدَ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ بِيَسِيرٍ، فِي الحجر، وكان عمير من شياطين
__________
[1] في الأصل: (عمّته) . والتصحيح من ع، ح. وانظر أسد الغابة (5/ 455) والإصابة (3/ 640) .
[2] الميرة: الطعام. والدّسيعة: اسم للعطيّة الجزيلة، يقال للجواد: هو ضخم الدّسيعة أي كثيرة العطية. والوتيرة: الثأر. والأبيات في: الإصابة 3/ 640.
[3] في ع: (فمنّ) .
[4] انظر سيرة ابن هشام 3/ 61.

(2/71)


قريش، [12 ب] وَمِمَّنْ يُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ ابْنُهُ وُهَيْبٌ فِي الْأَسْرَى.
فَذَكَرَ أَصْحَابَ الْقَلِيبِ وَمُصَابَهُمْ. فَقَالَ صَفْوَانُ: وَاللَّهِ إِنَّ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُم لَخَيْرٌ [1] فَقَالَ عُمَيْرٌ: صَدَقْتَ، وَاللَّهِ لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ لَيْسَ عِنْدِي لَهُ قَضَاءٌ، وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمْ، لَرَكِبْتُ إِلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَإِنَّ لِي فِيهِمْ عِلَّةً، ابْنِي أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ. فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ فَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنُكَ وَعِيَالُكَ. قَالَ:
فَاكْتُمْ عَلَيَّ. ثُمَّ شَحَذَ سَيْفَهُ وَسَمَّهُ، وَمَضَى إِلَى الْمَدِينَةِ.
فبينا عُمَرُ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ، إِذْ نَظَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى عُمَيْرٍ حِينَ أَنَاخَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ مُتَوَشِّحًا بِالسَّيْفِ.
فَقَالَ: هَذَا الْكَلْبُ عَدُوُّ اللَّهِ عُمَيْرٌ، وَهُوَ الَّذِي حَزَرَنَا يَوْمَ بَدْرٍ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَذَا عُمَيْرٌ. قَالَ: أَدْخِلْهُ عَلَيَّ. فَأَقْبَلَ عُمَرُ [2] حَتَّى أَخَذَ بِحَمَّالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ [3] ، فَلَبَّبَهُ بِهِ [4] ، وَقَالَ لِرِجَالٍ مِمَّنْ كَانُوا مَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ: ادْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ وَاحْذَرُوا عَلَيْهِ هَذَا الْخَبِيثَ. ثُمَّ دَخَلَ بِهِ فَقَالَ: أَرْسِلْه يَا عُمَرَ، أُدْنُ يَا عُمَيْرُ. فَدَنَا، ثُمَّ قَالَ:
أَنْعِمُوا صَبَاحًا، قَالَ: فَمَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الْأَسِيرِ الَّذِي فِي أيديكم. قال: فما بال السيف فِي عُنُقِكَ؟ قَالَ: قَبَّحَهَا اللَّهُ مِنْ سُيُوفٍ، وَهَلْ أَغْنَتْ شَيْئًا؟ قَالَ: اصْدُقْنِي مَا الَّذِي جِئْتَ لَهُ؟ قَالَ: مَا جِئْتُ إِلَّا لِذَلِكَ. قَالَ: بَلَى، قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ فِي الْحِجْرِ. وَقَصَّ لَهُ مَا قَالَا.
فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ وَأنَّكَ رَسُولُهُ. قَدْ كُنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُكَذِّبُكَ بِمَا تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يحضره إلّا أنا وصفوان فو الله [إنّي] [5]
__________
[1] في ح: (والله إنّ ما في العيش بعدهم خير) .
[2] في ح: (فأقبل عمر على عمير) .
[3] في ح: (وهو في عنقه) وحمّالة السيف علّاقته التي يحمل منها.
[4] لبّبه تلبيبا: إذا جمع ثوبه عند نحره وقبضه إليه. (تاج العروس 4/ 191) .
[5] في الأصل، ع: (فو الله لأعلم) . وفي ح: (فو الله إنّي لا أعلم) . والزيادة من السيرة لابن هشام 3/ 71 وعيون الأثر لابن سيّد النّاس (1/ 270) .

(2/72)


لَأَعْلَمُ مَا أَتَاكَ بِهِ إِلَّا اللَّهُ، فَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَأَقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ. فَفَعَلُوا. ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ جَاهِدًا عَلَى إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ، شَدِيدَ الْأَذَى لِمَنْ كَانَ عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَأذَنَ لِي فَأَقْدَمَ مَكَّةَ فَأَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ. وَإِلا آذَيْتُهُمْ فِي دِينِهِمْ. فَأَذِنَ لَهُ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ. وَكَانَ صَفْوَانُ يَعِدُ قُرَيْشًا يَقُولُ: أَبْشِرُوا بِوَقْعَةٍ تَأْتِيكُمُ الْآنَ تُنْسِيكُمْ وَقْعَةَ بَدْرٍ. وَكَانَ صَفْوَانُ يَسْأَلُ عَنْهُ الرُّكْبَانُ، حَتَّى قَدِمَ رَاكِبًا فَأَخْبَرَهُ عَنِ إِسْلَامِهِ، فَحَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَبَدًا وَلَا يَنْفَعُهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا. ثُمَّ أَقَامَ يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُؤْذِيهِمْ. فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ نَاسٌ كَثِيرٌ [1] .
بَقِيَّةُ أَحَادِيثِ غَزْوَةِ بَدْرٍ
وَهِيَ كَالشَّرْحِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِيهَا:
قَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: انْطَلَقَ سَعْدُ بن معاذ معتمرا: فنزل على أميّة ابن خَلَفٍ [2]- وَكَانَ أُمَيَّةُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ إِذَا سَافَرَ إِلَى الشَّامِ- فَقَالَ لِسَعْدٍ: انْتَظِرْ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ وَغَفَلَ النَّاسُ فَطُفْ. قَالَ: فَبَيْنَا هو يطوف إذا أَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ: قَالَ: أَتَطَوَّفُ آمِنًا وَقَدْ أَوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، وَتَلَاحِيَا. فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي. فَقَالَ: [13 أ] وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ لأُقَطِّعَنَّ عَلَيْكَ مَتْجَرَكَ بِالشَّامِ. وَجَعَلَ أُمَيَّةَ يَقُولُ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ. فَغَضِبَ وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ، فَإِنِّي سمعت محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ قال: إيّاي؟ قال: نعم.
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 70، 71.
[2] انظر عنه: المحبّر 140 و 160 و 162 و 170 و 174، تهذيب ابن هشام 70 و 82 و 84.

(2/73)


قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ. فَكَادَ أَنْ يُحْدِثَ. فَرَجَعَ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَتَعْلَمِينَ مَا قَالَ أَخِي الْيَثْرِبِيُّ؟ قَالَتْ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: زَعَمَ أنّ محمدا يزعم أنّه قاتلي. قالت: فو الله مَا يَكْذِبُ. فَلَمَّا خَرَجُوا لِبَدْرٍ وَجَاءَ الصَّرِيخُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَمَا عَلِمْتَ مَا قَالَ الْيَثْرِبِيُّ. قَالَ: فَإِنِّي إِذَنْ لَا أَخْرُجُ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّكَ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْوَادِي فَسِرْ مَعَنَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ. فَسَارَ مَعَهُمْ، فَقُتِلَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [1] .
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ [بْنِ إِسْحَاقَ] [2] بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَفِيهِ، فَلَمَّا اسْتَنْفَرَ [3] أَبُو جَهْلٍ النَّاسَ وَقَالَ: أَدْرِكُوا عِيرَكُمْ كَرِهَ أُمَيَّةُ أَنْ يَخْرُجَ. فَأَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: يَا أَبَا صَفْوَانَ إِنَّكَ مَتَى يَرَاكَ النَّاسُ تَخَلَّفْتَ- وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي- تَخَلَّفُوا مَعَكَ. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَالَ: [أما] [4] إذا غلبتني فو الله لَأَشْتَرِيَنَّ أَجْوَدَ بَعِيرٍ بِمَكَّةَ. ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّ صَفْوَانَ جَهِّزِينِي فَمَا أُرِيدُ أَنْ أَجُوزَ مَعَهُمْ إِلَّا قَرِيبًا. فَلَمَّا خَرَجَ أَخَذَ لَا يَنْزِلُ مَنْزِلًا إِلَّا عَقَلَ بَعِيرَهُ. فَلَمْ يَزَلْ بِذَاكَ حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [5] .
وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ قَالَ: إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِهِ يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيشٍ الَّتِي قَدِمَ بِهَا أَبُو سُفْيَانَ مِنَ الشَّامِ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ 8: 42 [6] .
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب الأنبياء، باب علامات النبوّة في الإسلام (4/ 249) .
[2] زيادة في اسمه من تهذيب التهذيب (1/ 183) .
[3] في الأصل (استفزّ) والتصحيح من ع، ح.
[4] سقطت من الأصل وبقية النسخ، وزدناها من صحيح البخاري.
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب ذكر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من يقتل ببدر (5/ 91) .
[6] سورة الأنفال: من الآية 42.

(2/74)


رُؤْيَا عَاتِكَةَ
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ [1] ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، (ح) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [2] : وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ:
رَأَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ قَبْلَ مَقْدِمِ ضَمْضَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ عَلَى قُرَيْشِ مَكَّةَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ، رُؤْيَا، فَأَصْبَحَتْ عَاتِكَةُ فَأَعْظَمَتْهَا، فَبَعَثَتْ إِلَى أَخِيهَا الْعَبَّاسَ فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي لَقَدْ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا لَيَدْخُلَنَّ مِنْهَا عَلَى قَوْمِكَ شَرٌّ وَبَلَاءٌ. فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَتْ:
رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنَّ رَجُلًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ فَوَقَفَ بِالْأَبْطَحِ [3] فَقَالَ: انْفِرُوا يَا آلَ غُدُرٍ لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ [4] ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ أُرِيَ بَعِيرَهُ دَخَلَ بِهِ الْمَسْجِدَ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ فَإِذَا هُوَ عَلَى رَأْسِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: انْفِرُوا يَا آلَ غُدُرٍ لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ. ثُمَّ أُرِيَ بَعِيرَهُ مَثَلَ بِهِ عَلَى رَأْسِ أَبِي قُبَيْسٍ [5] ، فَقَالَ: انْفِرُوا يَا آلَ غَدْرٍ لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلاثٍ. ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةً فَأَرْسَلَهَا مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي، حتى إذا
__________
[1] في طبعة القدسي 55 «بكر» والتصحيح من: تهذيب التهذيب 11/ 434، 435.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 30.
[3] كل مسيل فيه دقاق الحصى فهو أبطح. والأبطح والبطحاء الرمل المبسط على وجه الأرض.
وهو يضاف إلى مكة وإلى منى لأنّ المسافة بينه وبينهما واحدة، وربما كان إلى منى أقرب، وهو المحصّب، وهو خيف بني كنانة. وقد قيل إنه ذو طوى وليس به. وذكر بعضهم أنه إنّما سمّي أبطح لأنّ آدم عليه السلام بطح فيه. (معجم البلدان) وانظر تاج العروس 6/ 314 و 315.
[4] يا آل غدر: أكثر ما يستعمل في النداء في الشتم. يقال للمفرد: يا غدر، وللجمع يا آل غدر. وقد ضبطه السهيليّ بضم الغين والدال. (الروض الأنف 2/ 61)
[5] أبو قبيس: الجبل المشرف على مكة من شرقيّها، وفي أصل تسميته أكثر من رواية ذكرها ياقوت في معجم البلدان 1/ 80، 81.

(2/75)


كَانَتْ فِي أَسْفَلِهِ ارْفَضَّتْ [1] فَمَا بَقِيَتْ دَارٌ مِنْ دُورِ مَكَّةَ [2] وَلَا بَيْتٌ إِلَّا دَخَلَ فِيهِ بَعْضُهَا.
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا، فَاكْتُمِيهَا. فَقَالَتْ: وَأَنْتَ فَاكْتُمْهَا، لَئِنْ بَلَغَتْ هَذِهِ قُرَيْشًا لَيُؤْذُنَّنَا [3] .
فَخَرَجَ الْعَبَّاسُ مِنْ عِنْدِهَا، فَلَقِيَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ- وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا- فذكرها له واستكتمه. فذكرها الوليد [13 ب] لِأَبِيهِ، فَتَحَدَّثَ بِهَا، فَفَشَا الْحَدِيثُ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَغَادٍ إِلَى مَكَّةَ لِأَطُوفَ بِهَا، فَإِذَا أَبُو جَهْلٍ فِي نَفَرٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا أَبَا الْفَضْلِ تَعَالَ.
فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَتَى حَدَّثَتْ هَذِهِ النَّبِيَّةُ فِيكُمْ؟ مَا رَضِيتُمْ يَا بَنِي عبد المطّلب أن تنبّأ [4] رجالكم حتى تنبّأ نِسَاؤُكُمْ، سَنَتَرَبَّصُ بِكُمْ هَذِهِ الثَّلَاثَ الَّتِي ذَكَرَتْ عاتكة، فإن كان حقّا فسيكون، وإلّا كتبنا عَلَيْكُمْ كِتَابًا أَنَّكُمْ أَكْذَبُ أَهْلِ بَيْتٍ فِي العرب.
قال: فو الله مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ مِنْ كَبِيرٍ [5] ، إِلَّا أَنِّي أَنْكَرْتُ مَا قَالَتْ، وَقُلْتُ: مَا رَأَتْ شيئا ولا سمعت بِهَذَا، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ لَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَّا أَتَتْنِي فَقُلْنَ: صَبَرْتُمْ [6] لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في
__________
[1] ارفضّت: تفرّقت.
[2] في الأصل: (قومك) . وأثبتنا نص ع، ح. وانظر السيرة 30.
[3] في ع، ح. (ليؤذوننا) .
[4] في السيرة «يتنبّأ» .
[5] (كبير) : كذا بالأصل وسائر النّسخ وابن الملا. وفي السيرة: ما كان منّي إليه كبير. وهذا الاستعمال يرد في كلام العرب، ومنه الحديث الشريف «إنّهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير» (البخاريّ كتاب الوضوء) . قال في اللسان: أي ليس في أمر كان يكبر عليهما ويشقّ فعله لو أرادا.
[6] في السيرة «أقررتم» .

(2/76)


رِجَالِكُمْ، ثُمَّ قَدْ تَنَاوَلَ النِّسَاءَ وَأَنْتَ تَسْمَعُ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ غِيَرٌ [1] .
فَقُلْتُ: قَدْ وَاللَّهِ صَدَقْتُنَّ وَمَا كَانَ عِنْدِي فِي ذَلِكَ مِنْ غِيَرٍ [1] إِلَّا أَنِّي أَنْكَرْتُ.
وَلَأَتَعَرَّضَنَّ له، فإن عاد لأكفينّكه.
فَغَدَوْتُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَتَعَرَّضُ لَهُ لِيَقُولَ شيئا فأشاتمه. فو الله إِنِّي لَمُقْبِلٌ نَحْوَهُ، وَكَانَ رَجُلًا حَدِيدَ الْوَجْهِ، حَدِيدَ النَّظَرِ، حَدِيدَ اللِّسَانِ، إِذْ وَلَّى نَحْوَ بَابِ الْمَسْجِدِ يَشْتَدَّ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: اللَّهمّ الْعَنْهُ، كُلُّ [هَذَا] [2] فَرَقًا [3] أَنْ أُشَاتِمَهُ. وَإِذَا هُوَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ أَسْمَعْ، صَوْتَ ضمضم ابن عَمْرٍو [الْغِفَارِيِّ] [4] ، وَهُوَ وَاقِفٌ [عَلَى] [5] بَعِيرِهِ بِالْأَبْطَحِ، قَدْ حَوَّلَ رَحْلَهُ وَشَقَّ قَمِيصَهُ وَجَدَّعَ بَعِيرَهُ، يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اللَّطِيمَةَ [6] اللَّطِيمَةَ! أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ، فَالْغَوْثَ الْغَوْثَ! فَشَغَلَهُ ذَلِكَ عَنِّي، وَشَغَلَنِي عَنْهُ. فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا الْجِهَازُ حَتَّى خَرَجْنَا، فَأَصَابَ قُرَيْشًا مَا أَصَابَهَا يَوْمَ بَدْرٍ. فَقَالَتْ عَاتِكَةُ:
أَلَمْ تَكُنِ الرُّؤْيَا بِحَقٍّ وَجَاءَكُمْ ... بِتَصْدِيقِهَا فَلٌّ من القوم هارب [7]
__________
[1] في ح: (غيره) في الموضعين. قال «ابن الأنباري» في قولهم «لا أراني الله بك غيرا» الغير تغيّر الحال، وهو اسم واحد بمنزلة القطع والعنب وما أشبههما، ويجوز أن يكون جمعا واحدته غيرة.
قال بعض بني كنانة:
فمن يشكر الله يلق المزيد ... ومن يكفر الله يلق الغير
انظر: الزاهر 2/ 313 ولسان العرب، والنهاية في غريب الحديث، وتاج العروس 13/ 287.
[2] إضافة من سيرة ابن هشام 3/ 31.
[3] في هامش ح (أي خوفا) .
[4] إضافة من السيرة.
[5] سقطت من الأصل، ح، وزدناها من ع. والسيرة.
[6] اللّطيمة: العير التي تحمل الطّيب وبزّ التجارة وسائر المتاع غير الميرة، أو كل سوق ويجلب إليها ذلك.
[7] الفلّ القوم المنهزمون: وفي هامش ح: ويقال جاء فلّ القوم أي منهزموهم. يستوي فيه الواحد والجمع.

(2/77)


فَقُلْتُمْ [1] وَلَمْ أَكْذِبْ: كَذَبْتِ وَإِنَّمَا ... يُكَذِّبُنَا بِالّصِّدْقِ مَنْ هُوَ كَاذِبُ [2]
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ. [3] : سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: اسْتُصْغِرْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَكُنَّا- أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ- نَتَحَدَّثُ أَنْ عِدَّةَ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، كَعِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ، وَمَا جَازَهُ إلّا مؤمن.
أخرجه البخاري [4] .
وقال: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ [5] .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [6] .
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: حدّثني يزيد بن أبي حَبِيبٍ، حَدَّثَنِي أَسْلَمُ أَبُو عِمْرَانَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ: هَلْ لَكُمْ أَنْ نَخْرُجَ فَنَلْقَى الْعِيرَ لَعَلَّ اللَّهَ يَغْنِمُنَا؟ قُلْنَا: نَعَمْ. فَخَرَجْنَا، فَلَمَّا سِرْنَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أُمِرْنَا أَنْ نَتَعَادَّ، فَفَعَلْنَا، فَإِذَا نَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلا، فَأَخْبَرْنَاهُ بِعِدَّتِنَا، فَسُرَّ بِذَلِكَ وَحَمِدَ اللَّهَ، وَقَالَ: عِدَّةُ أَصْحَابِ طَالُوتَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ [7] ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
[1] في طبعة القدسي 58 «فلقتم» .
[2] في ح: (من كان كاذب) وكتب فوقها: كان تامّة. وفي الهامش (خ) : أي في نسخة.
والبيتان ليسا في سيرة ابن هشام.
[3] في الأصل، ع: (ابن إسحاق) وكذلك في نسخة شعيرة ص 115 والتصحيح من البخاري، وتهذيب التهذيب 1/ 425 في ترجمة البراء بن عازب.
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب عدة أصحاب بدر (5/ 94) .
[5] رواية البخاري: نيّفا على ستين. كذلك في البداية والنهاية 3/ 269.
[6] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب عدّة أصحاب بدر (5/ 93) .
[7] في طبعة القدسي 58 «الجبليّ» والتصحيح من اللباب 1/ 337 قال: بضم الحاء المهملة والباء الموحّدة، وذكر سيبويه النحويّ «الحبلي» بفتح الباء، وهو منسوب إلى بني الحبلي.

(2/78)


[خَرَجَ] [1] يَوْمَ بَدْرٍ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ كَمَا خَرَجَ طَالُوتَ فَدَعَا لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ فقال: اللَّهمّ إنّهم حفاة فاحملهم، [14 أ] اللَّهمّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ [2] ، اللَّهمّ إِنَّهُمْ جِياعٌ فَأَشْبِعْهُمْ. فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ، فَانْقَلَبُوا وَمَا مِنْهُمْ، رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ رَجَعَ بِجَمَلٍ أَوْ جَمَلَيْنِ، وَاكْتَسَوْا وَشَبِعُوا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَوْمَ بَدْرٍ فَارِسٌ غَيْرَ الْمِقْدَادَ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ: إِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ وَمَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ نَائِمٌ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي إِلَى شَجَرَةٍ وَيَدْعُو حَتَّى أَصْبَحَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا مِنَّا أَحَدٌ فَارِسٌ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الْمِقْدَادُ.
رَوَاهُ شُعْبَةُ عنه.
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: مَا كَانَ مَعَنَا إِلا فَرَسَانِ. فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ [3] وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ. وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ الْبَهِيِّ قَالَ: كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارِسَانِ، الزُّبَيْرُ عَلَى الْمَيْمَنَةِ، وَالْمِقْدَادُ عَلَى الْمَيْسَرَةِ.
وَقَالَ عُرْوَةُ: كَانَ عَلَى الزُّبَيْرِ يَوْمَ بَدْرٍ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى سِيمَا الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ نَتَعَاقَبُ ثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، فَكَانَ عَلِيُّ وَأَبُو لُبَابَةَ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم.
__________
[1] سقطت من الأصل وأثبتناها من ع، ح.
[2] في طبعة القدسي 59 «فاكسبهم» وهو غلط.
[3] في طبعة القدسي 59 «للزمن» والتصحيح من نسخة شعيرة 116 ومن السياق.

(2/79)


فَكَانَتْ [1] إِذَا حَانَثَ [2] عُقْبَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولَانِ لَهُ: ارْكَبْ حَتَّى نَمْشِيَ.
فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ منكما، ولا أنتما بأقوى عَلَى الْمَشْيِ مِنِّي. الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي: مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ بَدَلُ أَبِي لُبَابَةَ.
فَإِنَّ أَبَا لُبَابَةَ رَدَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا إِلَّا قُرَيِشيٌّ أَوْ أَنْصَارِيٌّ أَوْ حَلِيفٌ لَهُمَا.
وَعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ مِنَ الْمَوَالِي.
وَقَالَ عَمْرٌو الْعَنْقَزِيُّ، أَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَخَذْنَا رَجُلَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ. أَحَدُهُمَا عَرَبِيٌّ وَالْآخَرُ مَوْلًى، فَأَفْلَتَ الْعَرَبِيُّ وَأَخَذْنَا الْمَوْلَى، مَوْلًى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَقُلْنَا: كَمْ هُمْ؟ قَالَ: كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ. فَجَعَلْنَا نَضْرِبُهُ.
حَتَّى انْتَهَيْنَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى أَنْ يُخْبِرَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كَمْ يَنْحَرُونَ مِنَ الْجَزُورِ؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القوم أَلْفٌ، لِكُلِّ جَزُورٍ مِائَةٌ. وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابن إسحاق، ثنا عبد الله بن أبي بَكْرٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا نَبْنِي لَكَ عَرِيشًا، فَتَكُونَ فِيهِ، وَنُنِيخُ لَكَ رَكَائِبِكَ وَنَلْقَى عَدُوَّنَا، فَإِذَا أَظْهَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَذَاكَ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى فَتَجْلِسُ عَلَى رَكَائِبِكَ وَتَلْحَقُ بِمَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا. فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ مَا نَحْنُ بِأَشَدَّ لَكَ حُبًّا مِنْهُمْ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عنك،
__________
[1] في ح: (فكان) . وكذلك في نهاية الأرب 18/ 16.
[2] في نهاية الأرب «كانت» .

(2/80)


وَيُوَادُّونَكَ وَيَنْصُرُونَكَ. فَأَثْنَى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَدَعَا لَهُ. فَبُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرِيشٌ [1] ، فَكَانَ فيه وأبو بكر ما معهما غيرهما.
ورسول الله وَقَالَ خ [2] : ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ [3] إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ [4] به: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قوم موسى [14 ب] لموسى [5] :
اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ 5: 24، [6] وَلَكِنْ نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَمِنْ بَيْنَ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ [وَجْهُهُ] [7] لِذَلِكَ، وَسَرَّهُ [8] . وَقَالَ (م د) حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ أَصْحَابَهُ فَانْطَلَقَ إِلَى بَدْرٍ، فَإِذَا هُمْ بِرَوَايَا قُرَيْشٍ، فِيهَا عَبْدٌ أَسْوَدُ لِبَنِي الْحَجَّاجِ، فَأَخَذَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ: أَيْنَ [أَبُو [9]] سُفْيَانَ؟ فَيَقُولُ: والله ما لي بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ عِلْمٌ، وَلَكِنْ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ جَاءَتْ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ.
قَالَ: فَإِذَا قال لهم ذلك ضربوه. فيقول: دعوني دعوني أخبركم. فإذا تركوه قال
__________
[1] في طبعة القدسي 60 «عريشا» والتصحيح من نسخة شعيرة.
[2] ليست في نسخة شعيرة 117.
[3] في نسختي: ع ح، زيادة «كان أحبّ» .
[4] في نسخة شعيرة 117 «عذر» وهو غلط.
[5] لموسى، غير موجودة في صحيح البخاري.
[6] سورة المائدة، الآية 24.
[7] زيادة من ح والبخاري.
[8] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب قول الله تعالى إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ من الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ 8: 9 (5/ 93) . وفيه اختلاف ألفاظ عن هنا.
[9] سقطت من الأصل وزدناها من ع، ح.

(2/81)


كَقَوْلِهِ سَوَاءً. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلّي وَهُوَ يَسْمَعُ ذَلِكَ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَتَضْرِبُونَهُ إِذَا صَدَقَكُمْ وَتَدَعُونَهُ إِذَا كَذَبَكُمْ. هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ لِتَمْنَعَ أَبَا سُفْيَانَ [1] . قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الأرض. وهذا مصرع فلان، ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان، ووضع يده على الْأَرْضِ. قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا جَاوَزَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بِأَرْجُلِهِمْ، فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ [2] . صَحِيحٌ.
وَقَالَ حَمَّادٌ أَيْضًا، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ. فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ- كَذَا قَالَ، وَالْمَعْرُوفُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ- فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لأَخَضْنَاهَا. وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ [3] لَفَعَلْنَا. قَالَ:
فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا. وَسَاقَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ قَبْلَ هَذَا. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [4] .
وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سليمان بن المغيرة أحضر مِنْهُ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَدَّثَنَا عُمَرُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُخْبِرُنَا عَنْ مَصَارِعِ
__________
[1] صحيح مسلم (1779) كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر، وعون المعبود: 3/ 10.
[2] سبق التعريف به.
[3] برك الغماد: برك: بفتح الباء وإسكان الراء. والغماد: بغين معجمة مكسورة ومضمومة، لغتان مشهورتان، لكن الكسر أفصح وهو المشهور في روايات المحدّثين، والضمّ هو المشهور في كتب اللغة. وهو موضع من وراء مكة. بخمسة ليال بناحية الساحل، وقيل بلدتان- وقيل هو موضع بأقاصي هجر.
[4] صحيح مسلم 1779 كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر.

(2/82)


الْقَوْمِ بِالْأَمْسِ: هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَدًا، هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ إِنْ شَاءَ الله غدا. فو الّذي بعثه بالحقّ، ما أخطأوا تِلْكَ الْحُدُودَ، وَجَعَلُوا يُصْرَعُونَ حَوْلَهَا. ثُمَّ أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ.
وَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكَلِّمُ أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ. وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ [1] إِلا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت سمرة يصلّي ويبكي، حتى أصبح. [15 أ] وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْحَنَفِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ مَوْهِبٍ، أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَوْنِ [بْنِ عَلِيِّ [2]] بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَاتَلْتُ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ، ثُمَّ جِئْتُ لِأَنْظُرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما فَعَلَ، فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، لَا يُزِيدُ عَلَيْهَا. فَرَجَعْتُ إِلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ أَيْضًا. غَرِيبٌ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا سَمِعْتُ مُنَاشِدًا يَنْشُدُ حَقًّا أَشَدَّ مِنْ مُنَاشَدَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، جَعَلَ يَقُولُ: اللَّهمّ أَنْشُدُكَ [3] عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهمّ إِنْ تَهْلِكْ هذه العصابة لا
__________
[1] في ح: (وما فينا أحد إلّا وهو نائم) .
[2] الزيادة من ترجمته في تهذيب التهذيب (1/ 221) .
[3] في ح: «إنّي أنشدك» .

(2/83)


تُعْبَدْ، ثُمَّ الْتَفَتَ وَكَأَنَّ شَقَّ وَجْهَهُ الْقَمَرُ، فَقَالَ: كَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعَ الْقَوْمِ عَشِيَّةَ بَدْرٍ. وَقَالَ خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وهو في قبّته يَوْمَ بَدْرٍ: اللَّهمّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهمّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا. فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ فِي الدِّرْعِ. فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ 54: 45- 46 [1] أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [2] . وَقَالَ عِكْرَمَةُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ سِمَاكُ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتَسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ [3] فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ [4] كَفَاكَ [5] مُنَاشَدَتُكَ رَبِّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ [6]] إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ 8: 9 [7] فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ.
فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أثر
__________
[1] سورة القمر: 45- 46.
[2] صحيح البخاري: كتاب التفسير، سورة اقتربت الساعة (6/ 179) .
[3] في طبعة القدسي 64 «يده» والتصويب من صحيح مسلم، ونسخة شعيرة، والبداية والنهاية.
[4] في ع: (يا رسول الله) .
[5] في الأصل، ع: (كذاك) . والتصحيح. والتصحيح من ح. ورواه مسلم «كذاك» .
[6] زيادة من ع، ح. وصحيح مسلم.
[7] سورة الأنفال: 9.

(2/84)


رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتُ الْفَارِسِ [يَقُولُ] [1] : أقدِمْ حَيْزومَ [2] . إِذْ نَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ [3] وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعَ.
فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ ذَاكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: صَدَقْتَ، ذَاكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ. فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [4] .
وَقَالَ سَلَامَةُ بْنُ رَوْحٍ، عَنْ عُقَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قال أبو أسيد السّاعديّ بعد ما ذَهَبَ بَصَرُهُ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ أَنَا وَأَنْتَ بِبَدْرٍ، ثُمَّ أَطْلَقَ اللَّهُ لِي بَصَرِي لَأَرَيْتُكَ الشِّعْبَ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْنَا مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، غَيْرُ شَكٍّ وَلَا تَمَارٍ [5] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثَنَا ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ [6] عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ [أَبْشِرْ] [7] هَذَا جبريل معتجر بعمامة صفراء آخذ [15 ب] بِعِنَانِ فَرَسِهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَلَمَّا نَزَلَ إلى الأرض،
__________
[1] إضافة من صحيح مسلم.
[2] أقدم حيزوم: ضبطوه بوجهين: أصحّهما وأشهرهما، لم يذكر ابن دريد وكثيرون أو الأكثرون غيره: أنه بهمزة قطع مفتوحة، وبكسر الدال. من الإقدام، قالوا: وهي كلمة زجر للفرس معلومة في كلامهم. والثاني بضم الدال وبهمزة وصل مضمومة من التقدّم وحيزوم اسم فرس الملك، وهو منادى بحذف حرف النداء. أي: يا حيزوم. شرح صحيح مسلم ص 1384 رقم (8) وانظر الروض الأنف 3/ 48.
[3] خطم أنفه، ضربه. والخطم: الأثر على الأنف.
[4] صحيح مسلم (1763) : كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر.
[5] العبارة عند ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 280 «لا أشك فيه ولا أتمارى» .
[6] في الأصل: (ابن أبي حنيفة) خطأ صوابه من ع، ح. وانظر تهذيب التهذيب (1/ 104) .
والبداية والنهاية 3/ 280.
[7] زيادة من ح. وفي البداية والنهاية 3/ 280 وردت: «أبشر يا أبا بكر» .

(2/85)


تَغَيَّبَ عَنِّي سَاعَةً ثُمَّ طَلَعَ، عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ [1] يَقُولُ: «أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ إِذْ دَعَوْتُهُ» [2] . وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ رَأْسَ فَرَسِهِ، عَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [3] . وَقَالَ مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ الزّمعي: حدّثني أبو الحويرث، حدّثني محمد ابن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْتَحُ [4] مَنْ قَلِيبِ بَدْرٍ إِذْ جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا ثُمَّ ذَهَبَتْ، ثُمَّ جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا. فَكَانَتِ الرِّيحُ الْأُولَى جِبْرِيلَ نَزَلَ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ مِيكَائِيلَ نَزَلَ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَجَاءَتْ رِيحٌ ثَالِثَةٌ كَانَ فِيهَا إِسْرَائِيلُ فِي أَلْفٍ [5] . فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ أَعْدَاءَهُ حَمَلَنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَرَسِهِ، فَجَرَتْ بِي، فَوَقَعْتُ عَلَى عَقِبَيَّ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ فَأَمْسَكْتُ.
فَلَمَّا اسْتَوَيْتُ عَلَيْهَا طَعَنْتُ بِيَدِي هَذِهِ فِي الْقَوْمِ حَتَّى اخْتَضَبَ هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى إِبِطِهِ. غَرِيبٌ. وَمُوسَى فِيهِ ضَعْفٌ [6] . وَقَوْلُهُ: «حملني على فرسه» لا
__________
[1] النقع: الغبار.
[2] الواقدي: كتاب المغازي (1/ 81) . وابن كثير: البداية والنهاية 3/ 280.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا (3/ 105) . وراجع سيرة ابن هشام 3/ 38.
[4] يقال: متح الماء كمنع، يمتحه متحا: نزعه. وفي اللسان: المتح: نزعك رشاء الدلو تمدّ بيد وتأخذ بيد على رأس البئر. متح الدّلو يمتحها متحا ومتح بها. (تاج العروس 7/ 107) .
[5] زاد بعدها في ع: (من الملائكة) .
[6] انظر: الكامل في الضعفاء لابن عديّ 6/ 2341 والمغني في الضعفاء للذهبي (2/ 689) وميزان الاعتدال له 4/ 227.

(2/86)


يُعْلَمُ [1] إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الْحِمْيَرِيُّ، ثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: قَالَ أَبِي: يَا بُنَيَّ لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيُشِيرُ بِسَيْفِهِ إِلَى رَأْسِ الْمُشْرِكِ فَيَقَعُ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ السَّيْفُ [2] .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ مُقْسِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتْ [3] سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمَ بِيضًا قَدْ أَرْسَلُوهَا فِي [4] ظُهُورِهِمْ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمَ حُمْرًا. وَلَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى يَوْمِ بَدْرٍ [5] . وَكَانُوا يَكُونُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ عَدَدًا وَمَدَدًا [6] .
وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا 8: 12 [7] ، ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ [بْنِ إِسْمَاعِيلَ] [8] بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ، حَدَّثَهُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
كَانَ الْمَلَكُ يُتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ مَنْ يُعْرَفُونَ مِنَ النَّاسِ، [يُثَبِّتُونَهُمْ] [9] ، فَيَقُولُ: إِنِّي قَدْ دَنَوْتُ مِنْهُمْ [10] فَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: لَوْ حَمَلُوا عَلَيْنَا مَا ثَبَتْنَا.
__________
[1] في ع، ح: (يعرف) .
[2] الرواية بالسند والنص عند ابن كثير 3/ 280،
[3] في طبعة القدسي 66 «كان» والتصويب من السيرة.
[4] في السيرة «على» .
[5] في الأصل: «في سوى يوم بدر» وما أثبتناه عن نسخة ح، والسيرة.
[6] سيرة ابن هشام 3/ 41 وفي آخرها «عددا ومددا لا يضربون» وكذا في البداية والنهاية 3/ 281.
[7] سورة الأنفال: من الآية 12.
[8] زيادة في اسمه اضفناها من ترجمته في تهذيب التهذيب (1/ 104) .
[9] زيادة من ح.
[10] في الأصل: (منكم) وأثبتنا نصّ ع، ح.

(2/87)


إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ [1] .
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، أَصَبْنَا مِنْ ثِمَارِهَا فَاجْتَوَيْنَاهَا وَأَصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ.
فَكَانَ [2] النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَبَّرُ عَنْ بَدْرٍ. فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَقْبَلُوا، سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ- وَهِيَ بِئْرٌ- فَسَبَقْنَا الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا. فَوَجَدْنَا فِيهَا رَجُلَيْنِ: رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمَوْلَى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ. فَأَمَّا الْقُرَشِيُّ فَانْفَلَتَ، وَأَمَّا مَوْلَى عُقْبَةَ فَأَخَذْنَاهُ فَجَعَلْنَا نَقُولُ لَهْ: كَمِ الْقَوْمُ؟ فَيَقُولُ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ. فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ. حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: كَمِ الْقَوْمُ؟ [قَالَ] [3] : هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بأسهم. فجهد أن يخبره كَمْ هُمْ فَأَبَى. ثُمَّ سَأَلَهُ: كَمْ يَنْحَرُونَ كلّ [16 أ] يوم من الجزور؟ فقال: عشيرة. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: الْقَوْمُ أَلْفٌ، كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ وَتَبِعَهَا.
ثُمَّ إِنَّهُ أَصَابَنَا مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ [4] مِنْ مَطَرٍ، فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ [5] نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا [6] . وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو رَبَّهُ وَيَقُولُ:
«اللَّهمّ إِنْ تَهْلِكَ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ» . فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ [7] فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَضَّ عَلَى الْقِتَالِ. ثُمَّ قَالَ: إنّ جمع قريش عند
__________
[1] الواقدي: كتاب المغازي 1/ 79 وانظر: البداية والنهاية 3/ 280.
[2] في ح: (وكان) .
[3] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع. وفي ح: (فقال) .
[4] الطش: المطر الخفيف.
[5] الحجف: جمع حجفة، وهي الترس من الجلود خاصة.
[6] البداية والنهاية 3/ 267.
[7] زاد في ح: والجرف. وفي الأصل رسمت علامة الإلحاق على كلمة «الحجف» . وكتب إزاءها في الهامش «خ: والجرف» أي في نسخة.

(2/88)


هَذِهِ [1] الضِّلْعِ الْحَمْرَاءِ مِنَ الْجَبَلِ. فَلَمَّا دَنَا القوم منّا وصاففناهم إذا رجل منهم يسير فِي الْقَوْمِ [2] عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَلِيُّ نا.
لِي حَمْزَةَ- وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ؟ وَمَاذَا يَقُولُ لَهُمْ؟ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ يَكُ [3] فِي الْقَوْمِ أَحَدٌ يَأْمُرُ بِخَيْرٍ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، فَجَاءَ حَمْزَةُ فَقَالَ: هُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَهُوَ يَنْهَى عَنِ الْقِتَالِ وَيَقُولُ: يَا قَوْمُ إِنِّي [أَرَى] [4] أَقْوَامًا مُسْتَمِيتِينَ لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِمْ وَفِيكُمْ خَيْرٌ. يَا قَوْمُ اعْصِبُوهَا الْيَوْمَ بِرَأْسِي [5] وَقُولُوا جَبُنَ عُتْبَةُ، وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ. فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: أَنْتَ تَقُولُ هَذَا؟
وَاللَّهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا لَأْعَضَضْتُهُ [6] . قد ملأت [رئتك] [7] جوفك رعبا، فقال: إيادي تعني يا مصفّر اسْتَهُ؟ سَتَعْلَمُ الْيَوْمَ أيُّنَا أَجْبَنُ؟
فَبَرَزَ عُتْبَةُ وَابْنُهُ الْوَلِيدُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ [8] . فَقَالَ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخَرَجَ مِنَ الْأَنْصَارِ شَبَبَةُ [9] ، فَقَالَ عُتْبَةُ: لَا نُرِيدُ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنْ يُبَارِزُنَا مِنْ بَنِي عَمِّنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ يَا عَلِيُّ، قُمْ يَا حَمْزَةُ، [قُمْ] [10] يَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ. فَقَتَلَ اللَّهُ عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَجُرِحَ
__________
[1] في الأصل: (هذا) . والتصحيح من ح. والبداية والنهاية 3/ 278.
[2] في الأصل: (الأرض) . وأثبتناه نص ع، ح. والبداية والنهاية.
[3] في طبعة القدسي 68 «بك» وهو تحريف.
[4] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح.
[5] اعصبوها برأسي: يريد السّبّة التي تلحقهم بترك الحرب والجنوح إلى السّلم أي أقرنوا هذه الحال بي وأنسبوها إليّ ولو كانت ذميمة.
[6] عضّه وعضّ عليه: أمسكه بأسنانه وشدّه بها.
[7] سقطت من النسخ الثلاث واستدركناها من مسند الإمام أحمد والبداية والنهاية 3/ 278.
[8] في الأصل وح: (حمية) ، وليست من السياق في شيء. وصحّحت في ع كما أثبتناها. وهي كذلك في البداية والنهاية.
[9] الشببة: الشبان. والعبارة في البداية والنهاية: «فخرج فتية من الأنصار مشببة» .
[10] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح. والبداية والنهاية.

(2/89)


عُبَيْدَةُ. فَقَتَلْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ وَأَسَرْنَا سَبْعِينَ.
فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَصِيرٌ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَسِيرًا فَقَالَ الرَّجُلُ:
إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ مَا أَسَرَنِي، وَلَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ [1] مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ، مَا أَرَاهُ فِي الْقَوْمِ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «اسْكُتْ، فَقَدْ أَيَّدَكَ اللَّهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ» . قَالَ: فَأُسِرَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: الْعَبَّاسُ، وَعَقِيلٌ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ [2] .
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ السَّلُولِيُّ: ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ [3] قَالَ: لَقَدْ قَلُّوا [4] فِي أَعْيُنِنَا يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي: أَتَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ: أَرَاهُمْ مِائَةً. فَأَسَرْنَا رَجُلًا فَقُلْتُ:
كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَلْفًا.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: قُومُوا إِلَى جنّة عرضها السّماوات وَالْأَرْضُ.
قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بَخٍ بَخٍ! قَالَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءٌ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ: فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا. فَأَخْرَجَ تُمَيْرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ [5] فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهَا، ثُمَّ قال: [16
__________
[1] الجلح: انحسار الشعر عن جانبي الرأس.
[2] البداية والنهاية 3/ 278 وقال: هذا سياق حسن.
[3] في البداية والنهاية 3/ 269 «عن أبي عبيد وعبد الله» .
[4] في البداية والنهاية «قلّلوا» .
[5] في ح: (من كمه) . والقرن: الجعبة.

(2/90)


ب] لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ. فَرَمَى بِهِنَّ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [1] . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اصْطَفَفْنَا يَوْمَ بَدْرٍ: إِذَا أَكْثَبُوكُمْ [2] ، يَعْنِي غَشَوْكُمْ، فَارْمُوهُمْ بِالنَّبْلِ، وَاسْتَبِقُوا نَبْلَكُمْ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [3] . وَرَوَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَشِعَارَ الْخَزْرَجِ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، وَشِعَارَ الْأَوْسِ: يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ [4] . وَسَمَّى خَيْلَهُ: خَيْلَ اللَّهِ. أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَابْنَةُ عَمِّهِ سِتُّ الْأَهْلِ بِنْتُ عُلْوَانَ- سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ [5]- وَآخَرُونَ قَالُوا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَتْنَا شَهْدَةُ بِنْتُ أَحْمَدَ، أَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ طَلْحَةَ، أَنَا أَبُو عُمَرَ [6] عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مَهْدِيٍّ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ، ثَنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأَنَا أَبُو هَاشِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقْسِمُ قَسَمًا: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ 22: 19
__________
[1] صحيح مسلم (1899) : كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد.
[2] في ع: (كثبوكم) . وكثبه وأكثبه: قاربه.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب حدثني عبد الله بن محمد الجعفي (5/ 100) . وانظر البدآية والنهاية 3/ 274.
[4] البدآية والنهاية 3/ 274 وفيه: قال ابن هشام: كان شعار الصحابة يوم بدر: أحد أحد.
(3/ 42) .
[5] أي سنة 693 هـ-. وهي السنة التي سمع الذهبي فيها ببعلبكّ.
[6] في الأصل: (أبو عمرو) وأثبتنا نص ع، ح. وهو أبو عمر عَبْد الواحد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بن مهدي الفارسيّ، مسند الوقت، كما قال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ (3/ 1051) في سياق ترجمته لابن مردويه- ولم يترجم له.

(2/91)


[1] ، إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: حَمْزَةُ، وَعَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [2] عَنْ يَعْقُوبَ الدَّوْرَقِيِّ وَغَيْرِهِ. وَمُسْلِمٌ [3] عَنْ عَمْرِو بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ يَحْيَى بْنِ دِينَارٍ الرُّمَّانِيِّ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ لَاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ السَّدُوسِيِّ الْبَصْرِيِّ. وَهُوَ مِنَ الْأَبْدَالِ الْعَوَالِي.
[4] وَعُبَيْدَةُ بن الحارث بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ الْمُطَّلِبِيُّ، أُمَّهُ ثَقَفِيَّةٌ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشْرِ سِنِينَ، أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي وَقْتٍ. وَهَاجَرَ هو أخواه الطُّفَيْلُ وَالْحُصَيْنُ. وَكَانَ عُبَيْدَةُ كَبِيرَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكان مربوعا [5] مَلِيحًا، تُوُفِّيَ بِالصَّفْرَاءِ.
وَهُوَ الَّذِي بَارَزَ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ جَهَّزَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِتِّينَ رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَمَّرَهُ عَلَيْهِمِ، فَكَانَ أَوَّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَاءَ عُبَيْدَةَ. فَالْتَقَى بِقُرَيْشٍ وَعَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ عِنْدَ ثَنِيَّةِ الْمَرَةِ [6] ، فَكَانَ أَوَّلَ قِتَالٍ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَهُ مُحَمَّدُ بن إسحاق [7] .
__________
[1] سورة الحج: من الآية 19.
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل (5/ 96) .
[3] صحيح مسلم (3033) كتاب التفسير، باب في قوله تعالى هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا في رَبِّهِمْ 22: 19.
[4] من هنا ناقص من نسخة شعيرة 127.
[5] المربوع: كالربعة، المتوسط القامة بين الطول والقصر.
[6] ثنية المرة: بفتح الميم وتخفيف الراء. موضع بأسفله ماء بالحجاز. (معجم البلدان 2/ 85) .
[7] إلى هنا ينتهي النقص في نسخة شعيرة.

(2/92)


وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ أَنَّ الْمُسْتَفْتِحَ يَوْمَ بَدْرٍ أَبُو جَهْلٍ. قَالَ لَمَّا الْتَقَى الْجَمْعَانِ: اللَّهمّ أَقْطَعَنَا لِلرَّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَا يَعْرِفُ، فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ. فَقُتِلَ [1] فَفِيهِ أُنْزِلَتْ [2] : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ 8: 19 [3] .
وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ، سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً من السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ 8: 32 [4] ، فَنَزَلَتْ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 8: 33 [5] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [6] .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ الله 8: 34 [7] ، قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ. قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بن صالح، [17 أ] عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْهُ.
وَبِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ 8: 7 [أَنَّهَا لَكُمْ] [8] قَالَ: أَقْبَلَتْ عِيرُ أَهْلِ مَكَّةَ تُرِيدُ الشَّامَ- كَذَا قَالَ- فَبَلَغَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ ذَلِكَ، فَخَرَجُوا وَمَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُونَ الْعِيرَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ مَكَّةَ فَأَسْرَعُوا السَّيْرَ، فَسَبَقَتِ الْعِيرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ اللَّهُ وَعَدَهُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ.
__________
[1] في ح: (فقيل) تصحيف.
[2] في ح: نزلت.
[3] سورة الأنفال: من الآية 19.
[4] سورة الأنفال: من الآية 22.
[5] سورة الأنفال: الآية 33.
[6] صحيح البخاري: كتاب التفسير، سورة الأنفال (6/ 78) وصحيح مسلم (2796) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب في قوله تعالى: وَما كانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ 8: 33 الآية.
[7] سورة الأنفال: من الآية 34.
[8] سورة الأنفال. من الآية 7، وما بين المعقفين من الآية الكريمة زيادة من ع، ح.

(2/93)


وَكَانُوا أَنْ يَلْقَوْا الْعِيرَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ، وَأَيْسَرَ شَوْكَةً وَأَحْضَرَ مَغْنَمًا.
فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الْقَوْمَ، فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ مَسِيرَهُمْ لِشَوْكَةِ الْقَوْمِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ رَمْلَةٌ دِعْصَةٌ [1] ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ شَدِيدٌ، وَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمُ الْقَنَطَ [2] يُوَسْوِسُهُمْ: تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ، وَقَدْ غَلَبَكُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْتُمْ كَذَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَطَرًا شَدِيدًا، فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ وَتَطَهَّرُوا. فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ. وَصَارَ الرَّمْلُ، يَعْنِي مُلَبَّدًا [3] .
وَأَمدَّهُمُ اللَّهُ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَجَاءَ إِبْلِيسُ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ، مَعَهُ رَايَتُهُ فِي صُورَةِ رِجَالٍ مِنَ بَنِي مُدْلِجٍ، وَالشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ لِلْمُشْرِكِينَ: «لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ 8: 48» [4] فَلَمَّا اصْطَفَّ الْقَوْمُ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهمّ أَوْلَانَا بِالْحَقِّ فَانْصُرْهُ.
وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فقال: يا ربّ إِنَّكَ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ فَلَنْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا. فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ. فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ. فَمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمِنْخَرَيْهِ وَفَمَهُ، فَوَلُّوا مُدْبِرِينَ. وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ إِلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَآهُ وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَزَعَ يَدَهُ وَوَلَّى مُدْبرًا وشيعته. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ، أَمَا زَعَمْتَ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟ قَالَ: إِنِّي أَرى مَا لا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخافُ الله 8: 48 [5] .
__________
[1] الدعص والدعصة: قوز من الرمل مجتمع أقلّ من الحقف.
[2] القنط: اليأس من الخير، أو أشدّ اليأس. وأثبته شعيرة في نسخة 128 «المقفط» وقال: هو الشيطان الصغير.
[3] هكذا في الأصل وسائر النّسخ، وفي دلائل النّبوّة للبيهقي (2/ 354) : «وصار الرمل كدا ذكر كلمة أخبر أنه أصابه المطر» والأرجح أنّ كدا محرّفة عن (كذا) بدليل ما بعدها.
[4] ، (5) سورة الأنفال: من الآية 48، وتمام الآية الكريمة وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقال 8: 48

(2/94)


وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ، أَنَا صَالِحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: إِنِّي لَوَاقفٌ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الصّفِّ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمَا.
فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلُعٍ [1] مِنْهُمَا. فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمَّ أَتَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ [إِلَيْهِ] [2] ؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا. فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ. فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا. فَلَمْ أنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلَا تَرَيَانِ؟
هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ. فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا [فَضَرَبَاهُ] [3] حَتَّى قَتَلَاهُ. ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ. فَقَالَ: أيّكما قتله؟ فقال كل واحد [17 ب] مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ [4] . فَقَالَ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالَا: لَا.
قَالَ: فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ، كِلَاهُمَا [5] قَتَلَهُ. وَقَضَى بِسَلْبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو، وَالْآخَرِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [6] . وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَنْظُرُ ما صنع أبو جهل؟ فانطلق ابن
__________
[ () ] لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ، فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقال: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ الله وَالله شَدِيدُ الْعِقابِ 8: 48.
[1] أضلع: أقوى.
[2] زيادة من ح.
[3] زيادة من ح.
[4] في ح: (أنا) .
[5] في ع: (كلاكما) .
[6] صحيح البخاري: كتاب فرض الخمس، باب من لم يخمّس الأسلاب ومن قتل قتيلا فله سلبه (4/ 111) .
وصحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل (5/ 148) .

(2/95)


مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرُدَ. قَالَ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ. فَقَالَ: هَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أَوْ قَتَلَهُ قَوْمُهُ؟ أَخْرَجَهُ خ م [1] . وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَقَالَ: قَدْ أَخْزَاكَ اللَّهُ. فَقَالَ: هَلْ أَعْمَدُ [2] مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [3] .
وَقَالَ عَثَّامُ بْنُ عَلِيٍّ: ثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ صَرِيعٌ، وَعَلَيْهِ بَيْضَةٌ، وَمَعَهُ سَيْفٌ جَيِّدٌ، وَمَعِي سَيْفٌ رَثٌّ. فَجَعَلْتُ أَنْقُفُ [4] رَأْسَهُ بِسَيْفِي، وَأَذْكُرُ نَقفًا كَانَ يَنْقُفُ رَأْسِي بِمَكَّةَ، حَتَّى ضَعُفَتْ يَدِي، فَأَخَذْتُ سَيْفَهُ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ:
عَلَى مَنْ كَانَتِ الدَّبَرَةُ [5] ، لَنَا أَوْ عَلَيْنَا؟ أَلَسْتَ رُوَيْعِينَا بِمَكَّةَ؟ قَالَ: فَقَتَلْتُهُ.
ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: قَتَلْتُ أَبَا جَهْلٍ. فَقَالَ: آللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟
فَاسْتَحْلَفَنِي ثَلَاثَ مِرَارٍ [6] . ثُمَّ قَامَ مَعِي إِلَيْهِمْ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ. [7] . وَرُوِيَ نَحْوُهُ عن سفيان الثّوري، عن أبي إسحاق. وفيه: فَاسْتَحْلَفَنِي وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ للَّه الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، انْطَلَقَ فَأَرِنِيهِ. فَانْطَلَقْتُ فَأَرَيْتُهُ. فَقَالَ: هَذَا فِرْعَوْنُ هذه الأمّة.
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل (5/ 94) . وصحيح مسلم (1800) :
كتاب الجهاد والسير، باب قتل أبي جهل.
[2] أعمد: بفتح الهمزة وسكون العين المهملة وفتح الميم. أي أشرف. انظر إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 6/ 249.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل (5/ 94) .
[4] النّقف: كسر الهامة عن الدماغ. ونفقه ضربه حتى خرج دماغه.
[5] في نسخة شعيرة 130 «الدائرة»
[6] في هامش ح: (قلت: لعلّه استحلفه لكون المذكورين أخبرا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقتله، فقضى لهما بسلبه. كذا بخطّ الذهبي) .
[7] راجع سيرة ابن هشام 3/ 42.

(2/96)


وَرُوِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُهُ خَرَّ سَاجِدًا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَصْرَعِ ابْنَيْ عَفْرَاءَ فَقَالَ:
يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَي عَفْرَاءَ، فَهُمَا شُرَكَاءُ فِي قَتْلِ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَرَأْسِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ قَتَلَهُ مَعَهُمَا؟ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ شُرِكَ فِي قَتْلِهِ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ رَجَاءٍ، عَنِ الشَّعْثَاءِ، امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، فَرَأَيْتُهُ صَلَّى الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنَّكَ صَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ حِينَ بُشِّرَ بِالْفَتْحِ، وَحِينَ جِيءَ بِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ.
وَقَالَ مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي مَرَرْتُ بِبَدْرٍ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ، فَيَضْرِبُهُ رَجُلٌ بِمِقْمَعَةٍ [1] حَتَّى يَغِيبَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يَخْرُجُ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ مِرَارًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاكَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ يُعَذَّبُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَقَالَ خ م مِنْ حَدِيثِ [ابْنِ] [2] أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر [18 أ] يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ [3] بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ. وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ [4] ثَلَاثَ لَيَالٍ. فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشَدَّ عَلَيْهَا [5] ، ثُمَّ مشى واتّبعه أصحابه،
__________
[1] المقمعة: سوط أو عمود من حديد، أو خشبة يضرب بها الإنسان على رأسه، والجمع مقامع.
[2] سقطت من الأصل، ع، واستدركناها من ح والبخاري وتهذيب التهذيب.
[3] الطويّ: البئر.
[4] العرصة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء، وعرصة الدار وسطها.
[5] في البداية والنهاية 3/ 593 «فشدّ عليها رحلها» .

(2/97)


فَقَالُوا: مَا نَرَاهُ إِلَّا يَنْطَلِقُ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ [1] فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، أَيَسُرُّكُمْ [2] أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَامَةً. صَحِيحٌ [3] .
وَقَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ. قَالَ عُرْوَةُ: فَبَلَغَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: لَيْسَ هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا قَالَ: إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ. إِنَّهُمْ قَدْ تَبَوَّءُوا مَقَاعِدَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ. إِنَّ اللَّهَ يقول إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى 27: 80 [4] وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ 35: 22- 23 [5] أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [6] . مَا رَوَتْ عَائِشَةُ لَا يُنَافِي مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّ عِلْمَهُمْ لَا يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِهِمْ قَوْلَهُ عَلَيْهِ [الصَّلَاةُ و] [7] السلام، وأمّا أن [8] لا تسمع الموتى،
__________
[1] الركي، والرّكية: البئر.
[2] في ح: (أبشركم) . تصحيف. وفي البداية والنهاية «يسركم» بحذف الهمزة.
[3] في صحيح البخاري ندما: كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل (5/ 97) ، البداية والنهاية 3/ 293 وقد أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من طرق عن سعيد بن أبي عروبة.
[4] سورة النمل: من الآية 80.
[5] سورة فاطر: الآيتان 22، 23.
[6] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل (5/ 98) .
[7] زيادة من ع.
[8] في ح: (إنك) .

(2/98)


فَحَقٌّ لأَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمْ [1] ذَلِكَ الْوَقْتَ كَمَا يُحْيِي الْمَيِّتَ [2] لِسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً 14: 28 [3] ، قَالَ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ.
وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ 14: 28 [4] ، قَالَ: النَّارُ يَوْمَ بَدْرٍ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [5] .
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَتْلَى قِيلَ لَهُ: عليك العير ليس دونها شَيْءٌ. فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ فِي الْوَثَاقِ: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَكَ. قَالَ: لِمَ؟ [6] قَالَ: لأَنَّ اللَّهَ [عَزَّ وَجَلَّ] [7] وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَنْجَزَ لَكَ مَا وَعَدَكَ [8] . هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْهُ. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: ضُرِبَ خُبَيْبُ [9] بْنُ عَدِيٍّ يَوْمَ بَدْرٍ فَمَالَ شِقُّهُ، فَتَفَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَأَمَهُ وَرَدَّهُ، فَانْطَبَقَ.
[أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: شَهِدَ عُمَيْرُ بن وهب الجمحيّ بدرا
__________
[1] في ح: (قد أحياهم) .
[2] في ع: (الموتى) .
[3] ، (4) سورة إبراهيم: من الآية 28، وتمام الآية الكريمة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ 14: 28.
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل (5/ 98) ،
[6] في الأصل: (كم) والتصحيح من ع، ح.
[7] زيادة من ح.
[8] البداية والنهاية 3/ 295.
[9] في نسخة شعيرة 132 «حبيب» والتصويب من الإصابة 1/ 418.

(2/99)


كَافِرًا، وَكَانَ فِي الْقَتْلَى. فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَوَضَعَ سَيْفَهُ فِي بَطْنِهِ، فَخَرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ. فَلَمَّا بَرُدَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ لَحِقَ بِمَكَّةَ فَصَحَّ. فَاجْتَمَعَ هُوَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فَقَالَ: لَوْلَا عِيَالِي وَدَيْنِي لَكُنْتُ أَقْتُلُ مُحَمَّدًا. فَقَالَ صَفْوَانُ: وَكَيْفَ تَقْتُلُهُ؟
قَالَ: أَنَا رَجُلٌ جَرِيءُ الصَّدْرِ جَوَادٌ لَا أُلْحَقُ، فَأَضْرِبُهُ وَأَلْحَقُ بِالْجَبَلِ فَلَا أُدْرَكُ. قَالَ: عِيالُكَ فِي عِيالِي وَدَيْنَكُ عَلِيَّ. فَانْطَلَقَ فَشَحَذَ سَيْفَهُ وَسَمَّهُ.
وَأَتَى الْمَدِينَةَ، فَرَآهُ عُمَرُ فَقَالَ لِلصَّحَابَةِ: احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنِّي أَخَافُ عُمَيْرًا إِنَّهُ رَجُلٌ فَاتِكٌ، وَلَا أَدْرِي مَا جَاءَ بِهِ. فَأَطَافَ الْمُسْلِمُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَ عُمَيْرٌ، مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ، إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنْعِمْ صَبَاحًا. قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْرُ؟ قَالَ: حَاجَةٌ. قَالَ: فَمَا بَالُ السَّيْفِ؟ قَالَ: قَدْ حَمَلْنَاهَا يَوْمَ بَدْرٍ فَمَا أَفْلَحَتْ وَلَا أَنْجَحَتْ. قَالَ: فَمَا قَوْلُكَ لِصَفْوَانَ وَأَنْتَ فِي الْحِجْرِ؟
وَأَخْبَرَهُ بِالْقِصَّةِ. فَقَالَ عُمَيْرٌ: قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ فَنُكَذِّبُكَ، وَأَرَاكَ تَعْلَمُ خَبَرَ الْأَرْضِ. أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَعْطِنِي مِنْكَ عِلْمًا تَعْلَمْ أَهْلُ مَكَّةَ أَنِّي أَسْلَمْتُ. فَأَعْطَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ:
لَقَدْ جَاءَ عُمَيْرٌ وَإِنَّهُ لَأَضَلُّ مِنْ خِنْزِيرٍ، ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي] [1] . وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: عُكَّاشَةُ الَّذِي قَاتَلَ بِسَيْفِهِ يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى انْقَطَعَ فِي يَدِهِ، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ جِذْلًا [2] مِنْ حَطَبٍ، فَقَالَ:
قَاتِلْ بِهَذَا. فَلَمَّا أَخَذَهُ هَزَّهُ فَعَادَ سَيْفًا فِي يَدِهِ، طَوِيلَ الْقَامَةِ شَدِيدَ الْمَتْنِ أَبْيَضَ الْحَدِيدَةِ فَقَاتَلَ بِهِ [3] ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَشْهَدُ بِهِ الْمَشَاهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى قتل في قتال أهل الرّدة وهو
__________
[1] ما بين الحاصرتين من قوله: أحمد بن الأزهر إلى آخر الخبر، ليس في الأصل، ع. وزدناه من ح. والخبر في سيرة ابن هشام مثله 3/ 70، 71.
[2] في ع: جزلا. والجذل: أصل الشجرة وغيرها بعد ذهاب الفرع، والجزل: الحطب اليابس.
[3] في الأصل، ع: (بها) والتصحيح من ح.

(2/100)


عِنْدَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ السَّيْفُ يُسَمَّى الْعَوْنَ [1] .
هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بِلَا سَنَدٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْجَحْشِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمَّتِهِ قَالَتْ: قَالَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ: انْقَطَعَ سَيْفِي يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا، فإذا هو سيف أبيض طويل. فقاتلت [18 ب] بِهِ [2] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ جَمَاعَةٍ قَالُوا: انْكَسَرَ سَيْفُ سَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَقِيَ أَعْزَلَ لَا سِلَاحَ مَعَهُ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضِيبًا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ عَرَاجِينَ، فَقَالَ: اضْرِبْ بِهِ. فَإِذَا هُوَ سَيْفٌ جَيِّدٌ. فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ [3] .
__________
[1] في الأصل وسائر النّسخ: (القوى) تصحيف. والتصحيح من سيرة ابن هشام 3/ 50 والبداية والنهاية (3/ 290) .
[2] الواقدي: كتاب المغازي (1/ 93) .
[3] الواقدي: كتاب المغازي (1/ 93- 94) .

(2/101)


ذِكْرُ غَزْوَةِ بَدْرٍ
«مِنْ مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ [1] فِإنَّهَا مِنْ أَصَحِّ الْمَغَازِي» قَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ: حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ [2] وَمَعْنٌ [3] وَغَيْرُهُمَا أَنَّ مَالِكًا كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْمَغَازِي قَالَ: عَلَيْكَ بِمَغَازِي الرَّجُلِ الصَّالِحِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، فَإِنَّهُ أَصَحُّ الْمَغَازِي.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، ح.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ- وَهَذَا لَفْظُهُ- عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ:
مَكَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ شَهْرَيْنِ. ثم أقبل أبو
__________
[1] هو موسى بن عقبة بن أبي عياش أبو محمد الأسدي. ولد تقريبا حول سنة 55 هـ-. كان تلميذ الزهري وعاش في المدينة. توفي سنة 141 هـ-. انظر عنه: الجرح والتعديل 4/ 2/ 155» تذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 148، الأعلام للزركلي 8/ 276، معجم المؤلفين 13/ 43، تاريخ التراث العربيّ 1/ 458.
[2] هو مطرِّف بن عبد الله بن مطرِّف بن سليمان بن يسار اليساري الهلال أبو مصعب المدني ولد سنة 137 ومات سنة 220 وقيل 214 هـ-. (تهذيب التهذيب 10/ 175) .
[3] هو معن بْن عيسى بْن يحيى بْن دينار الأشجعي مولاهم القزّاز أبو يحيى المدني أحد أئمة الحديث. مات بالمدينة سنة 198 هـ-. وكان ثقة كثير الحديث ثبتا مأمونا (تهذيب التهذيب 10/ 252، 253) .

(2/103)


سُفْيَانَ فِي عِيرٍ لِقُرَيْشٍ، وَمَعَهُ سَبْعُونَ رَاكِبًا من بطون قريش، منهم: مخرمة ابن نَوْفَلٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّامِ، وَمَعَهُمْ خَزَائِنُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَيُقَالُ كَانَتْ عِيرُهُمْ أَلْفَ بَعِيرٍ. وَلَمْ يَكُنْ لِقُرَيْشٍ أُوقِيَّةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بَعَثُوا بِهَا مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، إِلَّا حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى، فَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ فَلَمْ يَشْهَدْهُ. فَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ قَبْلَ ذَاكَ، فَبَعَثَ عَدِيَّ بْنَ أَبِي الزَّغْبَاءِ الْأَنْصَارِيَّ، وبَسْبَسَ بْنَ عَمْرٍو، إِلَى الْعِيرِ، عَيْنًا لَهُ، فَسَارَا، حَتَّى أَتَيَا حَيًّا مِنْ جُهَيْنَةَ، قَرِيبًا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَسَأَلُوهُمْ عَنِ الْعِيرِ، فَأَخْبَرُوهُمَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ. فَرَجَعَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبراه. فَاسْتَنْفَرَ الْمُسْلِمِينَ لِلْعِيرِ. وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ.
وَقَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى الْجُهَنِيِّينَ وَهُوَ مُتَخَوِّفٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَ الرَّاكِبَيْنِ، فَقَالَ أَبُو سفيان: خذوا من بعر بعيريهما. ففتّه فَوَجَدَ النَّوَى فَقَالَ: هَذِهِ عَلَائِفُ أَهْلِ يَثْرِبَ. فَأَسْرَعَ وَبَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ [1] يُقَالُ لَهُ: ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى قُرَيْشٍ أَنِ انْفِرُوا فَاحْمُوا عِيرَكُمْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ.
وَكَانَتْ عَاتِكَةُ قَدْ رَأَتْ قَبْلَ قُدُومِ ضَمْضَمٍ، فَذَكَرَ [2] رُؤْيَاهَا، إِلَى أَنْ قَالَ: فقدم ضَمْضَمُ فَصَاحَ: يَا آلَ غَالِبِ بْنَ فِهْرٍ انْفِرُوا فَقَدْ خَرَجَ مُحَمَّدٌ وَأَهْلُ يَثْرِبَ يَعْتَرِضُونَ [3] لِأَبِي سُفْيَانَ. فَفَزِعُوا، وَأَشْفَقُوا مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ، وَنَفَرُوا عَلَى كُلِّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ.
وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيَظُنُّ مُحَمَّدٌ أَنْ يُصِيبَ مِثْلَ مَا أَصَابَ بِنَخْلَةَ؟ سيعلم أنمنع عيرنا أم لا.
__________
[1] في ع: (من غفار) .
[2] في الأصل: (فذكروا) . وأثبتنا نصّ ع، ح.
[3] في ع: (يتعرضون) .

(2/104)


فَخَرَجُوا بِخَمْسِينَ وَتَسِعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَسَاقُوا مِائَةَ فَرَسٍ، وَلَمْ يَتْرُكُوا كَارِهًا لِلْخُرُوجِ. فَأَشْخَصُوا الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَنَوْفَلُ بْنَ الْحَارِثِ، وَطَالِبَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَخَاهُ عَقِيلًا، إِلَى أَنْ نَزَلُوا الْجُحْفَةَ.
فَوَضَعَ جُهَيْمُ بْنُ الصَّلْتِ بْنِ مَخْرَمَةَ الْمُطَّلِبِيُّ رَأْسَهُ فَأَغْفَى، ثُمَّ فَزِعَ [1] فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ رَأَيْتُمُ الْفَارِسَ الَّذِي وَقَفَ عَلِيَّ آنِفًا. قَالُوا: لَا، إِنَّكَ [2] مَجْنُونٌ. فَقَالَ: قَدْ وَقَفَ عَلِيَّ فَارِسٌ فَقَالَ: قُتِلَ أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، وَزَمْعَةُ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَعَدَّ جَمَاعَةً. فَقَالُوا: [3] إِنَّمَا لَعِبَ بِكَ الشَّيْطَانُ. فرفع حديثه [19 أ] إِلَى أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ: قَدْ جِئْتُمُونَا بِكَذِبِ بَنِي الْمُطَّلِبِ مَعَ كَذِبِ بَنِي هَاشِمٍ، سَتَرَوْنَ غَدًا مَنْ يُقْتَلُ.
وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِ الْعِيرِ، فَسَلَكَ عَلَى نَقْبِ [4] بَنِي دِينَارٍ، وَرَجَعَ حِينَ رَجَعَ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ. فَنَفَر فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَأَبْطَأَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَتَرَبَّصُوا. وَكَانَتْ أَوَّلُ وَقْعَةٍ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهَا الْإِسْلَامَ.
فَخَرَجَ فِي رَمَضَانَ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى النَّوَاضِحِ [5] يَعْتَقِبُ النَّفَرُ مِنْهُمْ عَلَى الْبَعِيرِ الْوَاحِدِ. وَكَانَ زَمِيلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَمَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ حَلِيفَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَيْسَ مَعَ الثَّلاثَةِ إِلَّا بَعِيرٌ وَاحِدٌ.
__________
[1] في الأصل، ع: نزع، وفي ح: رفع. والتصحيح من السياق، يقال: فزع من نومه أي هبّ وانتبه.
[2] في ع: (لأنك مجنون) .
[3] في الأصل: (فقال) : وأثبتنا نص ع، ح.
[4] النقب: الطريق الضيق في الجبل أو بين دارين لا يستطاع سلوكه.
[5] النواضح: مفردها: الناضح، وهو البعير أو الحمار أو الثور الّذي يستقى عليه الماء وهي ناضحة وسانية (تاج العروس 7/ 184)

(2/105)


فَسَارُوا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِعِرْقِ الظُّبْيَةِ [1] لَقِيَهُمْ راكب مِنْ قِبَلَ تِهَامَةَ، فَسَأَلُوهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِ. فَقَالُوا: سَلِّمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَفِيكُمْ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. وَأَشَارُوا إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فَحَدِّثْنِي بِمَا فِي بَطْنِ نَاقَتِي هَذِهِ. فَغَضِبَ سَلَمَةُ [2] بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: وَقَعْتَ عَلَى نَاقَتِكَ فَحَمَلَتْ مِنْكَ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ سَلَمَةُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ.
ثُمَّ سَارَ لَا يَلْقَاهُ خَبَرٌ وَلَا يَعْلَمُ بِنَفْرَةِ [3] قُرَيْشٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَشِيرُوا عَلَيْنَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا أَعْلَمُ بِمَسَافَةِ الْأَرْضِ.
أَخْبَرَنَا عَدِيُّ بْنُ أَبِي الزَّغْبَاءِ: أَنَّ الْعِيرَ كَانَتْ بِوَادِي كَذَا [4] .
وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا قُرَيْشٌ وَعِزُّهَا [5] ، وَاللَّهِ مَا ذلَّتْ مُنْذُ عَزَّتْ وَلَا آمَنَتْ مُنْذُ كَفَرَتْ. وَاللَّهِ لَتُقَاتِلَنَّكَ، فَتَأَهَّبَ. لِذَلِكَ.
فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلِيَّ.
قَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو: إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قال أصحاب موسى اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ 5: 24، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمْ متّبعون. فقال: أشيروا عليّ.
__________
[1] عرق الظبية: بكسر العين وسكون الراء، والظبية: بضم الظاء المعجمة. قال الواقدي: هو من الروحاء على ثلاثة أميال مما يلي المدينة، وبعرق الظبية مسجد للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وفي كتاب نصر:
عرق الظبية بين مكة والمدينة قرب الروحاء، وقيل: هي الروحاء نفسها، (معجم البلدان 4/ 58) وفي نسخة شعيرة 136 «عرق الطيب» وهو غلط.
[2] في الأصل: (سلامة) . خطأ صوابه من ع، ح والإصابة (2/ 65) .
[3] النفرة: الجماعة يتقدّمون في الأمر، ومثلها النفير.
[4] في الأصل: (كدا) ، وفي ع، ح: (كذا) . فهي إمّا أن تكون بمعنى الإشارة إلى الشيء، على التكنية كما يقال: حدّث كذا وكذا، وإمّا أن تكون كداء أو كدي وهما اسمان لموضعين، وفي تسميتهما وتحديد موضعهما انظر ياقوت (4/ 439) .
[5] في ع: (وعيرها) تصحيف.

(2/106)


فَلَمَّا رَأَى سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ كَثْرَةَ اسْتِشَارَتِهِ ظَنَّ سَعْدٌ أَنَّهُ يَسْتَنْطِقُ الْأَنْصَارَ شَفَقًا أَنْ لَا يَسْتَحْوِذُوا معه، أَوْ قَالَ: أَنْ لَا يَسْتَجْلِبُوا مَعَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَخْشَى أَنْ لَا يَكُونَ [الْأَنْصَارُ] [1] يُرِيدُونَ مُوَاسَاتَكَ. وَلَا يَرَوْنَهَا حَقًّا عَلَيْهِمْ، إِلَّا بِأَنْ يَرَوْا عَدُوًّا فِي بُيُوتِهِمْ وَأَوْلادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ. وَإِنِّي أَقُولُ عَنِ الْأَنْصَارِ وَأُجِيبُ عَنْهُمْ: فَاظْعِنْ حَيْثُ شِئْتَ، وَصِلْ حبل من شئت، وخذ من أموالنا مَا شئت، وأعطنا مَا شئت، وما أخذته منا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا تركته علينا. فو الله لو سرحت حَتَّى تَبْلُغَ الْبَرْكَ مِنْ غِمْدِ ذِي يَمَنٍ [2] لَسِرْنَا مَعَكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنِّي قَدْ أُرِيتُ [3] مَصَارِعَ الْقَوْمِ. فَعَمْدٌ لِبَدْرٍ. وَخَفَضَ [4] أَبُو سُفْيَانَ فَلَصَقَ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ، وَأَحْرَزَ مَا مَعَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِالْجُحْفَةِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَقْدَمَ بَدْرًا فَنُقِيمَ بِهَا. فَكَرِهَ ذَلِكَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ وَأَشَارَ بِالرَّجْعَةِ، فَأَبَوْا وعصوه.
فرجع ببني [19 ب] زُهْرَةَ فَلَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مُنْهُمْ بَدْرًا. وَأَرَادَتْ بَنُو هَاشِمٍ الرُّجُوعَ فَمَنَعَهُمْ أَبُو جَهْلٍ [5] .
وَنَزَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ بَدْرٍ. ثُمَّ بَعَثَ عَلِيًّا والزّبير
__________
[1] سقطت من الأصل وأثبتناها من ح.
[2] في هامش ح: في برك فتح الموحّدة وكسرها، وفي غمد كسر الغين وفتحها. وقال ياقوت: برك الغماد: بكسر الغين والمعجمة. وقال ابن دريد: بالضم والكسر أشهر، وهو موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر، وقيل بلد باليمن. وفي كتاب عياض: برك الغماد: بفتح الباء عن الأكثرين، وقد كسرها بعضهم وقال: هو موضع في أقاصي أرض هجر. (انظر معجم البلدان 4/ 399، 400) .
[3] في ع: (رأيت) .
[4] خفض بالمكان: أقام. ولعلّها: حفض. بمعنى: جمع، أي جمع الإبل وساقها.
[5] انظر المغازي لعروة 136.

(2/107)


وَجَمَاعَةً يَكْشِفُونَ الْخَبَرَ. فَوَجَدُوا وَارِدَ [1] قُرَيْشٍ عِنْدَ الْقَلِيبِ، فَوَجَدُوا غُلامَيْنِ فَأَخَذُوهُمَا فَسَأَلُوهُمَا عَنِ الْعِيرِ، فَطَفِقَا يُحَدِّثَانِهِمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَضَرَبُوهُمَا.
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ:
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْمَنْزِلِ.
فَقَامَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ السَّلْمِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَالِمٌ بِهَا وَبِقُلْبِهَا، إِنْ رَأَيْتُ أَنْ نَسِيرَ إِلَى قَلِيبٍ مِنْهَا قَدْ عَرَفْتُهَا كَثِيرَةَ الْمَاءِ عَذْبَةً، فَنَنْزِلَ عَلَيْهَا وَنَسْبِقُ الْقَوْمَ إِلَيْهَا وَنُغَوِّرُ [2] مَا سِوَاهَا.
فَقَالَ: سِيرُوا. فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَكُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. فَوَقَعَ فِي قُلُوبِ نَاسٍ كَثِيرُ الْخَوْفِ.
فَتَسَارَعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ إِلَى الْمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مطرا واحدا، فكان على المشركين بلاء شديدا منعهم أن يسيروا، وكان على المسلمين دِيمَةً خَفِيفَةً لَبَّدَ لَهُمُ الْأَرْضَ، فَسَبَقُوا إِلَى الْمَاءَ فَنَزَلُوا عَلَيْهِ شَطْرَ اللَّيْلِ. فَاقْتَحَمَ الْقَوْمُ فِي الْقَلِيبِ فَمَاحُوهَا [3] حَتَّى كَثُرَ مَاؤُهَا. وَصَنَعُوا حَوْضًا عَظِيمًا. ثُمَّ عوَّرُوا مَا سِوَاهُ مِنَ الْمِيَاهِ [4] .
وَيُقَالُ: كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسَانِ، عَلَى أَحَدِهِمَا: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعَلَى الْآخَرِ سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ. وَمَرَّةً الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَالْمِقْدَادُ.
ثُمَّ صَفَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الحياض. فلما طلع المشركون قال رسول
__________
[1] الوارد: هو الّذي يتقدّم القوم فيرد المنهل ويستقي لهم. يقع على الواحد والجماعة.
[2] في طبعة القدسي 86 «ونعوّر» بالعين المهملة، والتصويب عن المغازي لعروة 138.
[3] ماح البئر: دخلها ليملأ الدلو لقلّة مائها. يقال لمن يفعل ذلك مائح، والجمع ماحة.
[4] المغازيّ لعروة 138.

(2/108)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَعَمُوا [1]-: «اللَّهمّ هَذِهِ قُرَيْشٍ قَدْ جَاءَتْ بِخُيَلائِهَا [2] وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ [3] وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ» [4] .
وَاسْتَنْصَرَ الْمُسْلِمُونَ اللَّهَ وَاسْتَغَاثُوهُ، فَاسْتَجَابَ اللَّهَ لَهُمْ. فَنَزَلَ الْمُشْرِكُونَ وَتَعَبَّئُوا لِلْقِتَالِ، وَمَعَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ الْمُدْلِجِيِّ يُحَدِّثُهُمْ أَنَّ بَنِي كِنَانَةَ وَرَاءَهُ قَدْ أَقْبَلُوا لِنَصْرِهِمْ.
قَالَ: فَسَعَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَكُونَ سَيِّدَ قُرَيْشٍ مَا عِشْتَ؟ قَالَ [عُتْبَةُ] [5] : فَأَفْعَلُ مَاذَا؟ قَالَ: تُجِيُر بَيْنَ النَّاسِ وَتَحْمِلُ دِيَةَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَبِمَا أَصَابَ مُحَمَّدٌ فِي تِلْكَ الْعِيرِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ مِنْ مُحَمِّدٍ غَيْرَهَا. قَالَ عُتْبَةُ: نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ، وَنِعْمَ مَا قُلْتَ، فَاسْعَ فِي عَشِيرَتِكَ فَأَنا أَتَحَمَّلُ بِهَا. فَسَعَى حَكِيمٌ فِي أَشْرَافِ قُرَيشٍ بِذَلِكَ.
وَرَكِبَ عُتبَةُ جَمَلًا لَهُ، فَسَارَ عَلَيْهِ فِي صُفُوفِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: يَا قَوْمُ أَطِيعُونِي وَدَعُوا هَذَا الرَّجُلَ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا وَلِيَ قَتْلَهُ غَيْرُكُمْ [6] مِنَ الْعَرَبِ فَإِنَّ فِيهِمْ رِجَالًا لَكُمْ فِيهِمْ قَرَابَةً قَرِيبَةً، وَإِنَّكُمْ إِنْ تَقْتُلُوهُمْ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى قَاتِلِ أَخِيهِ أَوِ ابْنِهِ أَوِ ابْنِ أَخِيهِ أَوِ ابْنِ عَمِّهِ، فَيُورِثُ ذَلِكَ فِيكُمْ [7] إِحَنًا [8] وَضَغَائِنَ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مَلِكًا كُنْتُمْ فِي مُلْكِ أَخِيكُمْ. وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ تَقْتُلُوا النَّبِيَّ فَتُسَبُّوا بِهِ. وَلَنْ تخلصوا إليهم حتى يصيبوا أعدادهم منكم [9] ،
__________
[1] في ح: (فيما زعموا) .
[2] الخيلاء: الكبر والإعجاب.
[3] تحادّك: تعاديك.
[4] المغازي العروة 139.
[5] إضافة عن المغازي لعروة.
[6] في ع، (ولي غيركم قتله من العرب) .
[7] في مغازي عروة «فيهم» .
[8] في هامش ح: الإحنة الحقد.
[9] في الأصل، ع: (حتى يصيبوا أعدادكم) . وأثبتنا نص ح.

(2/109)


وَلَا آمَنُ أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدَّبَرَةُ عَلَيْكُمْ.
فَحَسَدَهُ أَبُو جَهْلٍ عَلَى مَقَالَتِهِ. وَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُنَفِّذَ أَمْرَهُ. وَعُتْبَةُ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ المشركين.
فعمد [20 أ] أَبُو جَهْلٍ إِلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ- وَهُوَ أَخُو الْمَقْتُولِ- فَقَالَ:
هَذَا عُتبَةُ يَخْذُلُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَحَمَّلَ بِدِيَةِ أَخِيكَ، يَزْعُمُ أَنَّكَ قَابِلُهَا.
أَفَلَا [1] تَسْتَحْيُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَقْبَلُوا الدِّيَةَ؟
وَقَالَ لِقُرَيْشٍ: إِنَّ عُتْبَةَ قَدْ عَلِمَ أَنَّكُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ وَمَنْ مَعَهُ، وَفِيهِمُ ابْنُهُ وَبَنُو عَمِّهِ، وَهُوَ يَكْرَهُ صَلَاحَكَمْ. وَقَالَ لِعُتْبَةَ: انْتَفَخَ سَحْرُكَ. [2] وَأَمَرَ النِّسَاءَ أَنْ يُعْوِلْنَ عمرا، فقمن يصحن: وا عمراه وا عمراه، تَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ.
وَقَامَ رِجَالٌ فَتَكَشَّفُوا، يُعَيِّرُونَ بِذَلِكَ قُرَيْشًا. فَأَخَذَتْ قُرَيْشٌ مَصَافَّهَا لِلْقِتَالِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَأُسِرَ نَفَرٌ مِمَّنْ أَوْصَى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَقْتُلُوهُمْ إِلَّا أَبَا الْبَخْتَرِيِّ، فإنّه أبى أن يستأمر، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَقْتُلُوهُ إِنِ اسْتَأْسَرَ، فَأَبَى.
وَيَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّ أَبَا الْيسرِ قَتَلَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ. وَيَأْبَى عُظْمُ النَّاسُ [3] إِلَّا أَنَّ الْمُجَذَّرَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ. بَلْ قَتَلَهُ أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيُّ.
قَالَ: وَوَجَدَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَبَا جَهْلٍ مَصْرُوعًا، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْرَكَةِ غَيْرُ كَثِيرٍ، مُقَنَّعًا فِي الْحَدِيدِ وَاضِعًا سَيْفَهُ عَلَى فَخِذَيْهِ لَيْسَ بِهِ جُرْحٍ، وَلَا يَسْتَطِيعُ
__________
[1] في الأصل: (ألا) . وأثبتنا نص ع ح. ومغازي عروة 140.
[2] يقال للجبان الّذي ملأ الخوف جوفه: انتفخ سحره. والسّحر: الرئة.
[3] عظم الناس: معظمهم. وفي مغازي عروة «عظيم» .

(2/110)


أَنْ يُحَرِّكَ [1] عُضْوًا، وَهُوَ مُنْكَبٌّ يَنْظُرُ إِلَى الْأَرْضِ. فَلَمَّا رَآهُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَطَافَ [2] حَوْلَهُ لِيَقْتُلَهُ وَهُوَ خَائِفٌ أَنْ يَثُورَ إِلَيْهِ، وَأَبُو جَهْلٍ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَلَمَّا أَبْصَرَهُ لا يَتَحَرَّكُ ظَنَّ أَنُه مُثَبَّتٌ جِرَاحًا، فَأَرَادَ أن يضربه بسيفه، فخشي أن لا يغني سيفه شَيْئًا، فأتاه [3] من ورائه، فتناول قَائِمَ سَيْفِهِ فَاسْتَلَّهُ وَهُوَ مُنْكَبٌّ، فَرَفَعَ عَبْدُ اللَّهِ سَابِغَةَ الْبَيْضَةِ عَنْ قَفَاهُ فَضَرَبَهُ، فَوَقَعَ رَأْسُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ سَلَبَهُ. فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ إِذَا هُوَ لَيْسَ بِهِ جِرَاحٌ، وَأَبْصَرَ فِي عُنُقِهِ حدرًا [4] ، وَفِي يَدِيهِ وَفِي كَتِفَيْهِ كَهَيْئَةِ آثَارِ السِّيَاطِ [5] ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَلِكَ ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ [6] . قَالَ: وَأَذَلَّ اللَّهُ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ رِقَابَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَلَمْ يَبْقَ بِالْمَدِينَةِ مُنَافِقٌ وَيَهُودِيٌّ إِلَّا وَهُوَ خَاضِعٌ عُنُقُهُ لِوَقْعَةِ بَدْرٍ.
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمُ الْفُرْقَانِ، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالإِيمَانِ.
وَقَالَتِ الْيَهُودُ: تَيَقَّنَّا أَنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي نَجِدُ نَعْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ. وَاللَّهِ، لَا يَرْفَعُ رَايَةً بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَّا ظَهَرَتْ [7] .
وَأَقَامَ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى قَتْلاهُمُ النَّوْحَ بِمَكَّةَ شَهْرًا [8] .
ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، فدخل من ثنيّة الوداع.
__________
[1] في ح: ومغازي عروة 142: (يحرك منه) .
[2] في ح: (طاف) .
[3] في الأصل: (فأتى) . وأثبتنا نص ع، ح. ومغازي عروة 143.
[4] في الأصل وسائر النّسخ: (خدرا) تصحيف. والحدر: ورم الجلد وانتفاخه من الضرب.
(تاج العروس 10/ 555) .
[5] في ع: (كهيئة السياط) .
[6] انظر الخبر في المغازي لعروة بن الزبير 142، 143.
[7] المغازي لعروة 143.
[8] المغازي لعروة 143.

(2/111)


وَنَزَلَ الْقُرْآنُ يُعَرِّفُهُمُ اللَّهُ نِعْمَتَهُ فِيمَا كَرِهُوا مِنْ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ، فَقَالَ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ 8: 5 [1] ، وَثَلاثَ آيَاتٍ مَعَهَا [2] .
ثُمَّ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَآخِرِهَا.
وَقَالَ رِجَالٌ مِمَّنْ أُسِرَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا مُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا أُخْرِجْنَا كَرْهًا، فَعَلَامَ يُؤْخَذُ مِنَّا الْفِدَاءُ؟ فَنَزَلَتْ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً، مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ 8: 70 [3] .
حَذَفْتُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ كَثِيرًا مِمَّا سَلَفَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ اسْتِغْنَاءً بِمَا تَقَدَّمَ [4] .
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ- بِنَحْوِ قَوْلِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ- ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا دَاوُدَ الْمَازِنِيَّ فِي قَتْلِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ. وَزَادَ يَسِيرًا [5] .
وَقَالَ هُوَ وَابْنُ عُقْبَةَ: إِنَّ عَدَدَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِتَّةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَأُسِرَ تسعة وثلاثون رجلا. كذا قالا.
__________
[1] سورة الأنفال: الآية 5.
[2] المغازي لعروة 144.
[3] سورة الأنفال: من الآية 70.
[4] في هامش ح: هذه القصة في مغازي ابن عقبة في اثنتي عشرة ورقة، مسطرة ستة عشر. كذا بخطّ الذهبي.
[5] المغازي لعروة 146.

(2/112)


وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: اسْتُشْهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَسَبْعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِضْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَكَانَتِ الْأُسَارَى أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ أَسِيرًا.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ زيادة على سبعين، وَأُسِرَ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ حَدِيثُ الْبَرَاءِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ [1] ، قَالَ: أَصَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً، سَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ قَتِيلا. وَأَصَابُوا مِنَّا يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعِينَ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ عُثْمَانَ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَلَى بِنْتِهِ رُقَيَّةَ أَيَّامَ بَدْرٍ. فَجَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عَلَى الْعَضْبَاءِ [2] ، نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبِشَارَةِ. قَالَ أُسَامَةُ: فَسَمِعْتُ الْهَيْعَةَ [3] ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا أَبِي قَدْ جَاءَ بِالْبِشَارَةِ، فو الله مَا صَدَّقْتُ حَتَّى رَأَيْنَا الْأُسَارَى. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ بِسَهْمِهِ [4] .
وَقَالَ عَبْدَانُ بْنُ عُثْمَانَ [5] : ثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ- قَالَ: أَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي بَيْتٍ، عليه خلقان
__________
[1] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب قصة غزوة بدر- ج 5/ 11.
[2] الغضباء وهي القصواء والجدعاء ابتاعها أبو بكر الصدّيق من نعم بن الحريش، وأخرى معها بثمان مائة درهم وهي التي هاجر عليها، وكانت حين قدم المدينة رباعية وهي التي سبقت فشقّ ذلك على المسلمين. تهذيب الكمال للمزّي 1/ 211 بتحقيق الدكتور بشّار عوّاد معروف.
[3] الهيعة: الصوت تفزع منه وتخافه من العدو.
[4] البداية والنهاية 3/ 304.
[5] في ح: (عبد الله بن عثمان) وهو هو، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَة بْنِ أبي رواد، واسمه ميمون وقيل أيمن: الملقب عبدان. (تهذيب التهذيب 5/ 313) .

(2/113)


جَالِسٌ عَلَى التُّرَابِ. قَالَ جَعْفَرٌ: فَأَشْفَقْنَا مِنْهُ حِينَ رَأَيْنَاهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ.
فَقَالَ: أُبَشِّرُكُمْ بِمَا يَسُرُّكُمْ، إِنَّهُ جَاءَنِي مِنْ نَحْوِ أَرْضِكُمْ عَيْنٌ لِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلَكَ عَدُوَّهُ، وَأُسِرَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ [وَقُتِلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ] [1] ، الْتَقَوْا بِوَادٍ يُقَالُ لَهْ بَدْرٌ، كَثِيرُ الْأَرَاكِ [2] ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، كُنْتُ أَرْعَى بِهِ لِسَيِّدِي- رَجْلٌ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ- إِبِلَهُ. فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: مَا بَالُكَ جَالِسٌ عَلَى التُّرَابِ، لَيْسَ تَحْتَكَ بِسَاطٌ، وَعَلَيْكَ هَذِهِ الأَخْلاقُ [3] ؟ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ حَقًّا عَلَى عِبَادِ اللَّهِ أَنْ يحدثوا للَّه تواضعا عند مَا أَحْدَثَ لَهُمْ مِنْ نِعْمَتِهِ. فَلَمَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لِي نَصْرَ نَبِيِّهِ أَحْدَثْتُ لَهُ هَذَا التَّوَاضُعَ.
ذَكَرَ مِثْلَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ الْوَاقِدِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِلَا سَنَدٍ [4] .
فَصْلٌ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ وَالْأَسْرَى
قَالَ خَالِدٌ الطَّحَّانُ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فله من النّفل كذا [21 أ] وَكَذَا. قَالَ: فَتَقَدَّمَ الْفِتْيَانُ وَلَزِمَ الْمَشْيَخَةُ الرَّايَاتِ. فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَتِ الْمَشْيَخَةُ: كُنَّا رداء لَكُمْ، لَوِ انْهَزَمْتُمْ، فِئْتُمْ إِلَيْنَا، فَلَا تَذْهَبُوا بِالْمَغْنَمِ وَنَبْقَى. فَأَبَى الْفِتْيَانُ وَقَالُوا: جَعَلَهُ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم لنا.
__________
[1] ما بين الحاصرتين إضافة من البداية والنهاية 3/ 308.
[2] الأراك: شجر من الحمض له حمل كحمل عناقيد العنب يستاك به، قال أبو حنيفة: هو أفضل ما استيك بفروعه وأطيب ما رعته الماشية رائحة لبن (التاج) .
[3] الأخلاق: والخلقان- وقد مرت قبل قليل- كلاهما جمع خلق، بالتحريك، وهو الثوب البالي.
وقد يقال ثوب أخلاق إذا كانت الخلوقة فيه كلّه. وعند ابن كثير «الأخلاط» .
[4] الواقدي: كتاب المغازي (1/ 120- 9121 وانظر البداية والنهاية 3/ 307، 308.

(2/114)


فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ 8: 1 [1] إِلَى قَوْلِهِ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ 8: 5 [2] .
يَقُولُ: فَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ. فَكَذَلِكَ أَيْضًا أَطِيعُونِي فَإِنِّي أَعْلَمُ بِعَاقِبَةِ هَذَا مِنْكُمْ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ [3] .
ثُمَّ سَاقَةُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ. وَقَالَ: فَقَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّوَاءِ [4] .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَفَّلَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ يُونُسُ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فلما أسروا الأسارى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ؟
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَرَى يَا بْنَ الْخَطَّابِ؟.
قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وتمكّني من
__________
[1] سورة الأنفال: من الآية الأولى، وتمام الآية الكريمة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا الله وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 8: 1.
[2] سورة الأنفال: من الآية 5، وتمام الآية الكريمة كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً من الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ 8: 5.
[3] ، (4) سنن أبي داود: كتاب الجهاد، باب في النفل (2/ 70) .

(2/115)


فُلَانٍ، نَسِيبٌ لِعُمَرَ، فَأَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا.
فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِيَانِ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِلا تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا.
فَقَالَ: أَبْكِي لِلَّذِي عُرِضَ عَلَى أَصْحَابِكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ. لَقَدْ عُرِضَ عَليَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، شَجَرَة قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ في الْأَرْضِ 8: 67 [1] إِلَى قَوْلِهِ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً 8: 69 [2] ، فَأَحَلَّ اللَّهُ لَهُمُ الْغَنِيمَةَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [3] .
وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ لهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: أَنْتَ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْحَطَبِ فَاضْرِمْ نَارًا ثُمَّ أَلْقِهِمْ فِيهَا. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: قَطَعَ اللَّهُ رَحِمَكَ. فَقَالَ عُمَرُ:
قَادَتُهُمْ وَرُءُوسُهُمْ قَاتَلُوكَ وَكَذَّبُوكَ، فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
عَشِيرَتُكَ وَقَوْمُكَ.
ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْقَوْلُ مَا قَالَ عُمَرُ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ما تقولون [21 ب] فِي هَؤُلَاءِ؟ إِنَّ مَثَلَ هَؤُلَاءِ كَمَثَلِ إِخْوَةٍ لهم كانوا من قبلهم، قال نوح:
__________
[1] سورة الأنفال: من الآية 67.
[2] سورة الأنفال: من الآية 69.
[3] صحيح مسلم (1763) : كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم.

(2/116)


رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً 71: 26 [1] ، وَقَالَ مُوسَى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ 10: 88 [2] ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمن عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 14: 36 [3] ، وقال عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ 5: 118 [4] الآية. وَأَنْتُمْ [قَوْمٌ] [5] بِكُمْ عَيْلَةٌ [6] ، فَلَا يَنْقَلِبَنَّ [7] أَحَدٌ مِنْهُمْ [8] إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ بِضَرْبَةِ عُنُقٍ. فَقُلْتُ: إِلَّا سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ، قَدْ سَمِعْتُهُ يَتَكَلَّمُ بِالإِسْلامِ. فَسَكَتَ. فَمَا كَانَ يَوْمٌ أَخْوَف عِنْدِي أَنْ يُلْقِيَ اللَّهُ عَلَيَّ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ يَوْمِي ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إلّا سهيل ابن بَيْضَاءَ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِالْعَبَّاسِ قَدْ أَسَرَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: لَيْسَ هَذَا أَسَرَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ آزَرَكَ اللَّهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ. حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الَّذِي أَسَرَ الْعَبَّاسَ أَبُو الْيُسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو السَّلَمِيُّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: كيف أَسَرْتَهُ؟ قَالَ: لَقَدْ أَعْلَقَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مَا رَأَيْتُهُ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، هَيْئَتُهُ كَذَا وَكَذَا.
فقال: لقد أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ.
وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: افْدِ نَفْسَكَ وَابْنَ أَخِيكَ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، ونوفل بن
__________
[1] سورة نوح: من الآية 26.
[2] سورة يونس: من الآية 88.
[3] سورة إبراهيم: من الآية 36.
[4] سورة المائدة: من الآية 36.
[5] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح.
[6] العيلة: الفقر.
[7] في ع، ح: (ينفلنّ) .
[8] في الأصل: (منكم) ، والوجه ما أثبتناه عن ع، ح.

(2/117)


الْحَارِثِ. فَأَبَى وَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا وَإِنَّمَا اسْتَكْرَهُونِي.
قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِشَأنِكَ إِنْ يَكُ مَا تَدَّعِي [1] حَقًّا فاللَّه يَجْزِيكَ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا، فَافْدِ نَفْسَكَ.
وَكَانَ قَدْ أُخِذَ مَعَهُ عِشْرُونَ أُوقِيَّةً ذَهَبًا. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْسِبْهَا لِي مِنْ فِدَائِي. قَالَ: لَا، ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَا اللَّهُ مِنْكَ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ الزُّهْرِيُّ، وهو ضعيف [2] : حدّثني محمد ابن مُوسَى، عَنْ عِمَارَةَ [بْنِ عَمَّارٍ] [3] أَبِي الْيُسْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى الْعَبَّاسِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّهُ صَنَمٌ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، فَقُلْتُ: جَزَاكَ اللَّهُ مِنْ ذِي رحم شرّاء، تُقَاتِلُ ابْنَ أَخِيكَ مَعَ عَدُوِّهِ؟ قَالَ: مَا فَعَلَ، أَقُتِلَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعَزُّ لَهُ وَأَنْصَرُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: مَا تُرِيدُ إِلَيَّ؟
قُلْتُ: إِسَارٌ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْلِكَ. قَالَ: لَيْسَتْ بِأَوَّلِ صِلَتِهِ.
فَأَسَرْتُهُ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ. وَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا. فَنَزَلَ فِيهِ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ 8: 70 [4] قَالَ الْعَبَّاسُ: فَأَعْطَانِي اللَّهُ مَكَانَ الْعِشْرِينَ أُوقِيَّةً عِشْرِينَ عَبْدًا كُلُّهُمْ فِي يَدِهِ مَالٌ يَضْرِبُ به، مع ما أرجو من المغفرة.
__________
[1] في ح: (تدّعيه) .
[2] قال عنه العقيلي: حديثه غير محفوظ ولا يعرف إلّا به. وقال الْبُخَارِيّ: لا يُكْتب حديثه، مُنْكَر الحديث. (الضعفاء الكبير 3/ 13، 14) وانظر: الكامل في الضعفاء لابن عديّ 5/ 1924، والمغني في الضعفاء 2/ 399 وميزان الاعتدال للذهبي 2/ 632.
[3] زيادة في اسمه من ع، ح.
[4] سورة الأنفال: من الآية 70.

(2/118)


وَقَالَ أَزْهَرُ السَّمَّانُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وبعضهم يرسله، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ. إِنْ شِئْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ، وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء، [22 أ] وَاسْتُشْهِدَ مُنْكُمْ بِعِدَّتِهِمْ. وَكَانَ آخَرُ السَّبْعِينَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ.
هَذَا الْحَدِيثُ دَاخِلٌ فِي مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَارِهِ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ فِيمَنْ يُسْتَشْهَدُ، فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي نُبَيْهُ بْنُ وَهْبٍ الْعَبْدَرِيُّ قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأُسَارَى فَرَّقَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ:
اسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا. قَالَ نُبَيْهُ: فَسَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ عَنْ أَبِي عَزِيزٍ [1] ، قَالَ:
كُنْتُ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اسْتَوْصُوا بِالْأُسَارَى خَيْرًا. فَإِنْ كَانَ لَيُقَدَّمُ إِلَيْهِمُ الطَّعَامُ فَمَا تَقَعُ بِيَدِ أَحَدِهِمْ كَسْرَةٌ إِلَّا رَمَى بِهَا إِلَى أَسِيرِهِ، وَيَأْكُلُونَ التَّمْرَ. فَكُنْتُ أَسْتَحِي فَآخُذُ الْكَسْرَةَ فَأَرْمِي بِهَا إِلَى الَّذِي رَمَى بِهَا إِلَيَّ، فَيَرْمِي بِهَا إِلَيَّ. أَبُو عَزِيزٍ هُوَ أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، يُقَالُ إِنَّهُ أَسْلَمَ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ كَافِرًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِدَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعَمِائَةٍ.
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي العنبس، عن أبي الشعثاء عنه [2] .
__________
[1] في الأصل، ح: (أبي عزيز) ، والتصحيح من ع. وهو أبو عزيز، زرارة بن عمير بن هاشم ابن عبد مناف (المحبر 401) .
[2] سنن أبي داود: كتاب الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال (2/ 56) .

(2/119)


وَقَالَ أَسْبَاطٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ [1] : كَانَ فِدَاءُ أَهْلِ بَدْرٍ: الْعَبَّاسِ، وَعُقَيْلِ ابْنِ أَخِيهِ، وَنَوْفَلٍ، كُلُّ رَجُلٍ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ نَاسًا [2] مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ قَدْ أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْهُمْ [3] فَلَا يَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أُخْرِجَ مُسْتَكْرَهًا.
فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ: أَنَقْتُلُ آبَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَنَتْرُكُ الْعَبَّاسَ؟ وَاللَّهِ لئن لقيته لألحمنه بالسيف. فبلغت رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَبَا حَفْصٍ، أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله ائذن لي فأضرب عنقه، فو الله لَقَدْ نَافَقَ. فَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ بَعْدُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَنَا آمِنٌ [4] مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي قُلْتُ، وَلَا أَزَالُ مِنْهَا خَائِفًا، إِلَّا أَنْ يُكَفِّرَهَا اللَّهُ عَنِّي بِشَهَادَةٍ [5] ، فَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قتل أَبِي الْبَخْتَرِيِّ لأَنَّهُ كَانَ أَكَفَّ الْقَوْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بِمَكَّةَ [6] .
وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَكْثَرَ الْأَسْرَى فِدَاءً لِكَوْنِهِ موسرا، فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهب.
__________
[1] السّدّي: بضم السين المهملة وتشديد الدال. نسبة إلى السّدّة وهي الباب. وإنّما نسب السّدي الكبير إليها لأنه كان يبيع الخمر بسدّة الجامع بالكوفة. (اللباب 2/ 110) .
[2] في السيرة «رجلا» .
[3] في السيرة (من بني هاشم» .
[4] في ح: (ما آمن) وكذلك في السيرة.
[5] في ع: (بالشهادة) .
[6] سيرة ابن هشام 3/ 39، 40.

(2/120)


وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي أَنَسٍ أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا فِدَاءَهُ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا تَذَرُونَ دِرْهَمًا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [1] .
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عن عكرمة، عن ابن [22 ب] عَبَّاسٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَعْدَ مَا فرغ من بدر، عليك بالعير ليس دونها شَيْءٌ.
فَقَالَ الْعَبَّاسُ وَهُوَ فِي وَثَاقِهِ: لَا يَصْلُحُ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لأَنَّ اللَّهَ وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَعْطَاكَ مَا وَعَدَكَ. وَقَدْ ذُكِرَ إِرْسَالُ زَيْنَبَ بَنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِلَادَتِهَا فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ زَوْجِهَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، ثَنَا ابْنُ الْهَادِ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قَدِمَ الْمَدِينَةَ خَرَجَتِ ابْنَتُهُ زَيْنَبُ مِنْ مَكَّةَ مَعَ كِنَانَةَ- أَوِ ابْنِ كِنَانَةَ- فَخَرَجُوا فِي أَثَرِهَا. فَأَدْرَكَهَا هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فَلَمْ يَزَلْ يَطْعَنُ بَعِيرَهَا بِرُمْحِهِ حَتَّى صَرَعَهَا، وَأَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا وَأُهْرِيقَتْ دَمًا. فَتَحَمَّلَتْ. فَاشْتَجَرَ فِيهَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو أُمَيَّةَ. فَقَالَتْ بَنُو أُمَيَّةَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا. وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي الْعَاصِ، فَكَانَتْ عِنْدَ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَتْ تَقُولُ لَهَا هِنْدٌ: هَذَا مِنْ سَبَبِ أَبِيكِ.
قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ: أَلا تَنْطَلِقُ فَتَأْتِي بِزَيْنَبَ! فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَخُذْ خَاتَمِي فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ. فَانْطَلَقَ زَيْدٌ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَلَطَّفُ حَتَّى لَقِيَ رَاعِيًا فَقَالَ لَهُ: لِمَنْ تَرْعَى؟ قَالَ: لِأَبِي الْعَاصِ.
قَالَ: فَلِمَنْ هَذِهِ الْغَنَمُ؟ قَالَ: لِزَيْنَبَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ. فسار معه شيئا ثم قال
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، فداء المشركين (4/ 84) .

(2/121)


لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ أُعْطِيكَ شَيْئًا تُعْطِيهَا إِيَّاهُ، وَلَا تَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَأَعْطَاهُ الْخَاتَمَ. وَانْطَلَقَ الرَّاعِي حَتَّى دَخَلَ فَأَدْخَلَ غَنَمَهُ وَأَعْطَاهَا الْخَاتَمَ فَعَرَفَتْهُ. فَقَالَتْ: مَنْ أَعْطَاكَ هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ. قَالَتْ: فَأَيْنَ تَرَكْتَهُ؟ قَالَ:
بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا. فَسَكَتَتْ، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجَتْ إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهَا:
ارْكَبِي بَيْنَ يَدَيَّ. على بعيره. فقالت: لا، ولكن اركب أَنْتَ بَيْنَ يَدَيَّ.
وَرَكِبَتْ وَرَاءَهُ حَتَّى أَتَتِ الْمَدِينَةَ.
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هِيَ أَفْضَلُ بَنَاتِي، أُصِيبَتْ فِيَّ.
قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ [1] ، فَانْطَلَقَ إِلَى عُرْوَةَ فَقَالَ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ تَتَنَقَّصُ بِهِ فَاطِمَةَ؟ فَقَالَ عُرْوَةَ: وَاللَّهِ مَا أَحَبُّ أَنَّ لِي مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَأَنِّي أَتَنَقَّصُ فَاطِمَةَ حَقًّا هُوَ لَهَا، وَأَمَّا بَعْدُ فَلَكَ أَنْ لَا أُحَدِّثَهُ أَبَدًا.
أَسْمَاءُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا
جَمَعَهَا الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ [2] فِي جُزْءٍ كَبِيرٍ.
فَذَكَرَ مَنْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ وَمَنِ اخْتَلَفَ فيه مِنَ الْبَدْرِيِّينَ، وَرَتَّبَهُمْ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. فَبَلَغَ عَدَدُهُمْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا.
وَإِنَّمَا وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي عَدَدِهِمْ مِنْ جهة الاختلاف [في بعضهم [3]] .
__________
[1] في الأصل: (الحسن) . والتصحيح من ع، ح. وانظر ترجمته في الطبقات الكبرى (5/ 211) .
[2] هو الإمام الحافظ ضياء الدين أبو عبد الله بن محمد بن عبد الواحد المقدسي ثم الدمشقيّ (569- 643 هـ-) ترجمته في تذكرة الحفاظ (4/ 1406) والعبر في خبر من غبر (5/ 179) وفوات الوفيات (2/ 471) وشذرات الذهب (5/ 224) والبداية والنهاية (13/ 169) والنجوم الزاهرة (6/ 354) والذيل على طبقات الحنابلة (2/ 236) .
[3] زيادة من ع، ح.

(2/122)


وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِهِمْ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عليّ رضي الله عنه، قال: بعثني [23 أ] رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، وَالزُّبَيْرَ، وَالْمِقْدَادَ، وَكُلُّنَا فَارِسٌ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَمُكَاتَبَةُ حَاطِبُ ابن أَبِي بَلْتَعَةَ قُرَيْشًا. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ. أَوْ قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. فَدَمَعَتْ عَيْنَا عَمْرٍو قال: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [1] . وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنّ عبدا لحاطب ابن أَبِي بَلْتَعَةَ جَاءَ يَشْكُوهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فَقَالَ:
كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [2] .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، مُعَاذُ بْنُ رفاعة بن رَافِعٍ الزُّرَقِيُّ- وَكَانَ أَبُوهُ بَدْرِيًّا- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لابْنِهِ: مَا أُحِبُّ أَنِّي شَهِدْتُ بَدْرًا وَلَمْ أَشْهَدِ الْعَقَبَةَ.
قَالَ: سَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ أَهْلُ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: خِيَارُنَا.
قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُمْ خِيَارُ الملائكة. أخرجه البخاري [3] .
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغاري، باب فضل من شهد بدرا (5/ 99) وصحيح مسلم:
الفضائل، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصّة حاطب بن أبي بلتعة (2494 و 2495) .
[2] صحيح مسلم: كتاب الفضائل: باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصّة حاطب بن أبي بلتعة (2494 و 2495) .
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا (5/ 103) .

(2/123)


ذِكْرُ طَائِفَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْبَدْرِيِّينَ
أَبُو بَكْرٍ. وَعُمَرُ. وَعَلِيٌّ. وَاحْتَبَسَ عَنْهُمَا عُثْمَانُ بِمَرَضِ زَوْجَتِهِ رُقَيَّةَ بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتُوُفِّيَتْ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ يَوْمَ قُدُومِ الْمُسْلِمِينَ الْمَدِينَةَ مِنْ بَدْرٍ. وَضَرَبَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ [1] .
وَمِنَ الْبَدْرِيِّينَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَكَانَا بِالشَّامِ، فَقَدِمَا بَعْدَ بَدْرٍ وَأَسْهَمَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَبْدُ الرَّحْمَنُ بْنُ عَوْفٍ، حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَأَخَوَاهُ: الطُّفَيْلُ، وَالْحُصَيْنُ، وَابْنُ عَمِّهِ: مِصْطَحُ [2] بْنُ أُثَاثَةَ [3] بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَأَرْبَعَتُهُمْ لَمْ يَعْقُبُوا، مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيُّ، الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ، أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخُو عُمَرَ. [4] .
وَمِنْ أَعْيَانِ الْأَنْصَارِ، مِنَ الْأَوْسِ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: عَبَّادُ بْنُ بشر، محمد بن مسلمة، أبو الهيثم ابن التَّيْهَانِ.
وَمِنْ بَنِي ظَفَرٍ: قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ.
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: مُبَشِّرُ بْنُ عبد المنذر، وأخوه: رفاعة. ولم
__________
[1] المغازي لعروة 160.
[2] كذا في الأصل: وهو: مِسْطَح بْن أُثَاثَة بْن عَبَّاد بْن المُطَّلِب بن عبد مناف. ويقال مسطح لقب واسمه عوف بن أثاثة توفي سنة 34 هـ-. (الاستيعاب 3/ 494، 495، أسد الغابة 4/ 354، 355، الإصابة 3/ 408، وانظر سيرة ابن هشام 3/ 85) .
[3] أثاثة: بضم الهمزة وفتح المثلّثة، يليها ألف مثلّثة مفتوحة ثم هاء. (المشتبه للذهبي 1/ 10) .
[4] راجع نسخة شعيرة 153 ففيها اختلاف في الأسماء ونقص.

(2/124)


يحضرها أخوهما أبو لبابة، لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رَدَّهُ فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ.
وَمِنْ بَنِي النَّجَارِ:
أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، عَوْفٌ، ومعوذ وَمُعَاذٌ، بَنُو الْحَارِثِ بن رفاعة ابن سَوَادِ بْنِ مَالَكِ بْنِ غُنْمِ بْنِ عَوْفٍ، وَهُمْ بَنُو عَفْرَاءَ، أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ، بِلالٌ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الْخَزْرَجِيُّ، عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ الْخَزْرَجِيُّ، عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو الْيُسْرِ السَّلَمِيُّ، مُعَاذُ بن عمرو الخزرجي ابن الجموح [1] .
[23 ب] حَشَرَنا اللَّهُ فِي زُمْرَتِهِمْ.
قَدْ ذَكَرْنَا مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذٍ.
وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:
حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَأَخُوهُ:
الْعَاصُ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، ابْنَا رَبَيعَةَ، وَوَلَدُ عُتْبَةَ: الْوَلِيدُ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، قُتِلَ صَبْرًا، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرٍ النَّوْفَلِيُّ، وَابْنُ عَمِّهِ طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَابْنُهُ: الْحَارِثُ، وَأَخُوهُ: عُقَيْلٌ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ ابن هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ- وَاسْمُهُ الْعَاصُ- وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ أَخُو خَدِيجَةَ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، قُتِلَ صَبْرًا بَعْدَ يَوْمَيْنِ، وَعُمَيْرُ بْنُ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ عَمُّ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وأبو جهل، وأخوه: العاص بن هشام،
__________
[1] راجع سيرة ابن هشام 3/ 85- 99، المغازي لعروة 147- 159، الروض الأنف 3/ 99- 101.

(2/125)


ومسعود بن أبي أمية المخزومي أخو أم سَلَمَةَ، وَأَبُو قَيْسٍ أَخُو خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَالسَّائِبُ بْنُ أَبِي السَّائِبِ الْمَخْزُومِيُّ، وَقِيلَ لَمْ يُقْتَلْ، بَلْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَيْسُ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَمُنَبِّهٌ وَنُبَيْهٌ: ابْنَا الْحَجَّاجِ بْنِ عَامِرٍ السَّهْمِيِّ، وَوَلَدَا مُنَبِّهٍ: الْحَارِثُ، وَالْعَاصُ. وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَابْنُهُ: عَلِيٌّ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ [1] وَغَيْرُهُ سَائِرَ الْمَقْتُولِينَ، وَكَذَا سَمَّى الَّذِينَ أُسِرُوا.
تَرَكْتُهُمْ خَوْفًا مِنَ التَّطْوِيلِ.
وَفِي رَمَضَانَ: فَرَضَ اللَّهُ صَوْمَ رَمَضَانَ، وَنَسَخَ فَرِيضَةَ [2] يَوْمِ عَاشُورَاءَ [3] وَفِي آخِرِهِ: فُرِضَتِ الْفِطْرَةُ [4] .
وَفِي شَوَّالٍ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ [5] ، وَهِيَ بِنْتُ تِسْعُ سِنِينَ.
وَفِي صَفَرٍ: تُوُفِّيَ أَبُو جُبَيْرٍ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ- وَنَوْفَلٌ أَخُو هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافَ بْنِ قُصَيٍّ- تُوُفِّيَ مُشْرِكًا عَنْ سِنٍّ عَالِيَةٍ، وكان من عقلاء قريش وأشرافهم [6] ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا وَكَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَأَجَبْتُهُ. وَكَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدٌ، لأَنَّهُ قَامَ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ. وَفِيهَا: تُوُفِّيَ أَبُو السَّائِبِ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ [7] بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بن
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 102- 108.
[2] في ح (فرضية) .
[3] انظر الطبري 2/ 417.
[4] الفطرة: زكاة الفطر.
[5] تاريخ خليفة 65، الطبري 2/ 418.
[6] المحبّر 165.
[7] تاريخ الطبري 2/ 485، الطبقات الكبرى 3/ 393، تاريخ خليفة 65.

(2/126)


حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ الْجُمَحِيُّ، بَعْدَ بَدْرٍ بِيَسِيرٍ. وَقَدْ شَهِدَهَا هُوَ وَأَخَوَاهُ:
قُدَامَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ.
فَعُثْمَانُ أَحَدُ السَّابِقِينَ، أَسْلَمَ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الْأُولَى، وَلَمَّا قَدِمَ أَجَارَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَيَّامًا، ثُمَّ رَدَّ عَلَى الْوَلِيدِ جِوَارَهُ. وَكَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا قَانِتًا للَّه.
وَفِيهَا: تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ (ت ق) عَبْدُ اللَّهُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هلال بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَرَ بْن مَخْزُومٍ، مَرْجِعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ.
وَهُوَ ابْنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَأُمُّهُ: بَرَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، شَهِدَ بَدْرًا، وَتَزَوَّجَتْ أُمُّ سَلَمَةَ بَعْدَهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَتْ عَنْهُ الْقَوْلَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ.
وَقِيلَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ بَعْدَ أُحُدٍ أَوْ قَبْلَهَا [1] .
وَفِيهَا: وُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ [2] ، بِالْمَدِينَةِ. وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ.
وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: بِمَكَّةَ.
[وَفِيهَا قُتِلَ بِبَدْرٍ مِنَ الْكُفَّارِ:
أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافَ، وَالْوَلِيدُ وَلَدُ عتبة، وعقبة بن أبي معيط قتل
__________
[1] الإصابة 2/ 335 رقم 4783.
[2] تاريخ خليفة 65.

(2/127)


صَبْرًا، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافَ قَتَلَهُ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَمِّهِ طُعَيْمَةُ ابن عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ قَتَلَهُ حَمْزَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَابْنُهُ الْحَارِثُ، وَأَخُوهُ عُقَيْلٌ. وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْن أسد، ونوفل بْن خويلد بْن أسد قتله عَلِيّ وقيل الزّبير، والنّضر ابن الحارث بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ كِلْدَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ الْعَبْدَرِيُّ، قَتَلَهُ عَلِيٌّ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشِدَّةِ إِيذَائِهِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَعُمَيْرُ بْنُ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ عَمُّ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالْعَاصُ أَخُو أَبِي جَهْلٍ قَتَلَهُ عُمَرُ، وَمَسْعُودُ بن أبي أمية المخزومي أخو أم سلمة، وَأَبُو قَيْسٍ أَخُو خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَابْنُ عَمِّهِ قَيْسُ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَمُنَبِّهٌ وَنُبَيْهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ بْنِ عَامِرٍ السَّهْمِيِّ، وَالْعَاصُ وَالْحَارِثُ ابْنَا مُنَبِّهٍ الْمَذْكُورِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَابْنُهُ عَلِيٌّ.
وَمَاتَ فِي الْأَسْرِ:
مَالِكٌ أَخُو طَلْحَةَ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ.
وَقُتِلَ: هِشَامُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغَيرَةِ، وَأُسِرَ أَخُوهُ حُذَيْفَةُ ثُمَّ قُتِلَ، وَأُسِرَ يَوْمَئِذٍ الْعَبَّاسُ وَابْنَا أَخَوَيْهِ عُقَيْلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ.
وَقَدْ أَفْرَدَ الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ أَسْمَاءَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْسَابِهِمْ فِي جُزْءٍ كَبِيرٍ، وَسَاقَ اخْتِلافَ النَّاسِ فِي بعضهم] [1] .
__________
[1] ما بين الحاصرتين من أول قوله «وفيها قتل ببدر من الكفّار» إلى قوله: «وساق اختلاف الناس في بعضهم» ، انفردت به ح وأثبتناه عنها. ويلاحظ أنّ أسماء القتلى من الكفّار ببدر وردت من قبل، عقب ذكر طائفة من أعيان البدرين. ولعلّ المصنّف أوردها هناك في سياق الحديث عن الغزوة باعتبار الحوادث، ثم أعادها هنا باعتبار الوفيات على السنين.

(2/128)


قِصَّةُ النَّجَاشِيُّ
«مِنَ السِّيرَةِ» ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا قَالُوا: إِنَّ ثَأْرَنَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ. فَانْتُدِبَ إِلَيْهَا عمرو بن العاص، و [عبد الله] [1] بن أبي ربيعة.
[24 أ] قَالَ الزُّهْرِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ مَخْرَجَهُمَا كَانَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ.
فَلَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْرَجُهُمَا، بَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ بِكِتَابِهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمسَيِّبِ وَغَيْرُهُ: فَبَعَثَ الْكُفَّارُ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ لِلنَّجَاشِيِّ، وَلِعُظَمَاءِ الْحَبَشَةِ هَدَايَا. فَلَمَّا قَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ قَبِلَ الْهَدَايَا، وَأَجْلَسَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى سَرِيرِهِ. فَكَلَّمَ النَّجَاشِيَّ فَقَالَ: إِنَّ بِأَرْضِكَ رِجَالًا مِنَّا لَيْسُوا عَلَى دِينِكَ وَلَا عَلَى دِينِنَا، فَادْفَعْهُمْ إِلَيْنَا.
فَقَالَ عُظَمَاءُ الْحَبَشَةِ: صَدَقَ، فَادْفَعْهُمْ إليه. فقال: حتى أكلّمهم.
فقال الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ:
__________
[1] زيادة من ع، ح، ومن سيرة ابن هشام 2/ 86.

(2/129)


نَزَلْنَا الْحَبَشَةَ، فَجَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ، النَّجَاشِيَّ. أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا وَعَبَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى، لَا نُؤْذَى وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ مَعَ رَجُلَيْنِ بِمَا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَكَّةَ. وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا: الْأُدْمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا. وَلَمْ يَتْرُكُوا بِطْرِيقًا [1] عِنْدَهُ إِلَّا أَهْدَوْا لَهُ. وَبَعَثُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَقَالُوا:
ادْفَعَا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَديَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ. فَقَدِمَا، وَقَالَا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ: إِنَّهُ قَدْ ضَوَى [2] إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، خَالَفُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ. وَقَدْ بَعَثَنَا أَشْرَافَنَا إِلَى الْمَلِكِ لِيَرُدَّهُمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَاهُ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ إِلَيْنَا. فَقَالُوا: نَعَمْ.
ثُمَّ قَرَّبَا هَدَايَاهُمَا إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا، فَكَلَّمَاهُ. فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ:
صَدَقَا أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عليهم. فغضب النّجاشيّ، ثم قال: لا ها اللَّهِ أَبَدًا، لَا أُرْسِلُهُمْ إِلَيْهِمْ. قَوْمٌ جَاوَرُونِي وَنَزَلُوا بِلَادِي، وَاخْتَارُونِي عَلَى سِوَاي. حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلُهُمْ عَمَّا تَقُولُونَ.
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما جَاءَ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَقُولُونَ [لِلرَّجُلِ] [3] إِذَا جِئْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللَّهِ مَا علَّمَنَا اللَّهُ، وَأَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا، كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ. فَلَمَّا جَاءُوهُ وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ، وَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ، سَأَلَهُمْ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا بِهِ فِي دِينِي وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنَ الْمِلَلِ [4] .
قَالَتْ: فَكَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ: كُنَّا قوما أهل
__________
[1] البطريق: القائد من قواد الروم.
[2] ضوى: لجأ وأوى.
[3] إضافة عن سيرة ابن هشام 2/ 87.
[4] في الأصل، ح: (الملك) تصحيف، تصويبه من ع.

(2/130)


جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ إِلَى الْجَارِ وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ. كُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَا إِلَى اللَّهِ لِنَعْبُدَهُ وَنُوحِّدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا، مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ. وَعَدَّ أُمُورَ الْإِسْلَامِ. قَالَ: فَصَدَّقْنَاهُ وَاتَّبَعْنَاهُ. فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ ديننا، [24 ب] خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَآثَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ فَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ: وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ.
قَالَ: فَهَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِمَّا جَاءَ به عَنِ اللَّهِ؟ قَالَ جَعْفَرٌ: نَعَمْ. فَقَرَأَ:
كهيعص 19: 1 [1] قَالَتْ: فَبَكَى النَّجَاشِيُّ وَأَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، حِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ.
فَقَالَ النَّجَاشِيُّ [2] : إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ واحدة. انطلقا، فو الله لَا أُسَلِّمُهُمْ إِلَيْكُمَا أَبَدًا.
قَالَتْ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ. فَقَالَ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا:
لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قد خالفونا. قال: فو الله لأخبرنّه أنّهم يزعمون أنّ عيسى عبد.
__________
[1] سورة مريم: الآية الأولى.
[2] في طبعة القدسي 111 (للنجاشي) وهو خطأ.

(2/131)


قَالَتْ: ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى قَوْلًا عَظِيمًا. فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا لِيَسْأَلَنَا. قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ [بِنَا] [1] مِثْلَهَا.
فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى؟
فَقَالَ جَعْفَرٌ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ.
فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، وَقَالَ: مَا عَدَا عِيسَى بن مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْمِقْدَارَ.
قَالَ: فَتَنَاخَرَتْ [2] بَطَارِقَتُهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ لِجَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ: اذْهَبُوا آمِنِينَ. مَا أَحَبُّ أَنَّ لِي دُبُرِ [3] ذَهَبٍ، وَأَنِّي آذَيْتُ وَاحِدًا مِنْكُمْ- وَالدُّبُرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْجَبَلُ- فَرُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدِيَّتَهُمَا، فَلَا حَاجَةَ لَنَا فيها. فو الله مَا أَخَذَ اللَّهُ فِيَّ الرِّشْوَةَ فَآخُذُ الرِّشْوَةَ فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه.
فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به.
قالت: فو الله إِنَّا لَعَلَى ذَلِكَ، إِذْ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ من الحبشة ينازعه في
__________
[1] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ح، ع.
[2] النخر: مدّ الصوت والنفس في الخياشيم، وقد يكون بمعنى الكلام، قالا في اللسان والتاج:
جاء في حديث النّجاشيّ لما دخل عليه عمرو والوفد معه، قال لهم: نخروا أي تكلّموا. قال ابن الأثير كذا فسّر في الحديث، ولعلّه إن كان عربيا مأخوذ من النّخر أي الصوت. وزاد في اللسان: وفي الحديث أيضا تناخرت بطارقته أي تكلمت: وكأنه كلام مع غضب ونفور (انظر تاج العروس 14/ 191) .
[3] في الأصل، ع: (دير- الدير) بالياء في الموضعين والتصحيح من ح. ولم ترد الكلمة في «المعرب» للجواليقي و «شفاء الغليل» للخفاجي، وأوردها الزبيدي في التاج (دبر) . وفي سيرة ابن هشام 2/ 88 «دبرا من ذهب» ، وحديث النجاشي في تاج العروس 11/ 254 كما في السيرة.

(2/132)


ملكه، فو الله مَا عَلِمْنَا حُزنًا قَطُّ، أَشَدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقَّنَا.
فَسَارَ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ، وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيلِ.
فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ الْوَقْعَةَ وَيُخْبِرَنَا؟
فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: أَنَا أَخْرُجُ. وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا. فَنَفَخُوا لَهُ قُرْبَةً فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، وَسَبَحَ عَلَيْهَا إِلَى النَّاحِيَةِ الَّتِي فِيهَا الْوَقْعَةُ. وَدَعَوْنَا الله للنّجاشيّ. فو الله إِنَّا لَعَلَى ذَلِكَ، مُتَوِقِّعُونَ لِمَا هُوَ كَائِنٌ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا الزُّبَيْرُ يَسْعَى وَيُلَوِّحُ بِثَوْبِهِ. أَلَا أَبْشِرُوا، فَقَدْ ظَهَرَ النَّجَاشِيُّ، وَأَهْلَكَ اللَّهُ عدوّه. فو الله مَا عَلِمُنا فَرْحَةً مِثْلَهَا قَطُّ.
وَرَجَعَ النَّجَاشِيُّ سَالِمًا، وَأَهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّهُ. وَاسْتَوْثَقَ لَهُ أَمْرُ الْحَبَشَةِ.
فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ.
خَرَّجَهُ د [1] مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَهَؤُلاءِ قَدِمُوا مَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَبَقِيَ جَعْفَرٌ وَطَائِفَةٌ بِالْحَبَشَةِ إِلَى عَامِ خَيْبَرَ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ إِرْسَالَ قُرَيْشٍ إِلَى النَّجَاشِيِّ كَانَ مَرَّتَيْنِ. وَأَنَّ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ كَانَ مَعَ عَمْرٍو، عِمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ أَخُو خَالِدٍ.
ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَيْضًا. وَذَكَر مَا دَارَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مع عمارة ابن الوليد من رميه إيّاه [25 أ] فِي الْبَحْرِ، وَسَعَى عَمْرٌو بِهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِي وُصُولِهِ إِلَى بَعْضِ حَرَمِهِ أَوْ خَدَمِهِ. وَأَنَّهُ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي ظُهُورِ طِيبِ الْمَلِكِ
__________
[1] كذا في النسخ الثلاث، ولم نجده في سنن أبي داود، وأخرجه أحمد في مسندة (5/ 290) . والخبر بطوله في سيرة ابن هشام 2/ 86- 89.

(2/133)


عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمَلِكَ دَعَا سَحَرَةً فَسَحَرُوهُ وَنَفَخُوا فِي إِحْلِيلِهِ. فَتَبَرَّرَ [1] وَلَزِمَ الْبَرِّيَّةَ، وَهَامَ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَوْضِعٍ رَامٍ أَهْلُهُ أَخَذَهُ فِيهِ، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْهُ فَاضَتْ [2] نَفْسُهُ وَمَاتَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [3] ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: حدّثْتُ عُرْوةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا قَوْلُهُ: مَا أَخَذَ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فَأُطِيعُهُمْ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَإِنَّ عَائِشَةَ حدّثتني أنّ أباه كان ملك قومه، [و] لم يكن له ولد إلا النجاشي. وكان للنجاشي عَمٌّ، لَهُ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ مَمْلَكَةِ الْحَبَشَةِ. فَقَالَتِ [الْحَبَشَةُ [4]] : لَوْ أَنَّا قَتَلْنَا أَبَا النَّجَاشِيِّ وَمَلَّكْنَا أَخَاهُ لَتَوَارَثَ بَنُوهُ مُلْكَهُ بَعْدَهُ، وَلَبَقِيَتِ الْحَبَشَةُ دَهْرًا. قَالَتْ: فَقَتَلُوهُ وَمَلَّكُوا أَخَاهُ. فَنَشَأَ النَّجَاشِيُّ مَعَ عَمِّهِ. وَكَانَ لَبِيبًا حَازِمًا، فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمِّهِ.
فَلَمَّا رَأَتِ الْحَبَشَةُ ذَلِكَ قَالَتْ: إِنَّا نَتَخَوَّفُ أَنْ يُمَلِّكَهُ بَعْدَهُ، وَلَئِنْ مُلِّكَ لَيَقْتُلَنَّا بِأَبِيهِ. فَمَشَوْا إِلَى عَمِّهِ فَقَالُوا: إِمَّا أَنْ تَقْتُلَ هَذَا الْفَتَى، وَإِمَّا أَنْ تُخْرِجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا. فَقَالَ: وَيْلَكُمْ! قَتَلْتُ أَبَاهُ بِالْأَمْسِ، وَأَقْتُلُهُ الْيَوْمَ؟ بَلْ أُخْرِجُهُ.
قَالَ: فَخَرَجُوا بِهِ فَبَاعُوهُ مِنْ تَاجِرٍ بِسِتِّمِائَةِ [5] دِرْهَمٍ. فَانْطَلَقَ بِهِ فِي سَفِينَةٍ.
فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ، هَاجَتْ سَحَابَةٌ مِنْ سَحَائِبِ الْخَرِيفِ، فَخَرَجَ عَمُّهُ يَسْتَمْطِرُ تَحْتَهَا فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَقَتَلَتْهُ. فَفَزِعَتِ الْحَبَشَةُ إِلَى وَلَدِهِ، فإذا هو محمق [6]
__________
[1] التبرّر: الطاعة. يقال: فلان يبر خالقه ويتبرّره، أي يطيعه، وهو مجاز، (تاج العروس 10/ 152) .
[2] وفي نسخة شعيرة «قاصب» من قصبه يقصبه بمعنى قطع (160) .
[3] سيرة ابن هشام 2/ 89.
[4] سقطت من الأصل، وزدناها من ع، ح. وفي السيرة (فقالت الحبشة بينهما) .
[5] في السيرة 2/ 89 «بمائة درهم» .
[6] المحمق: من الرجال، كالمحمقة من النّساء، من خرج نسله حمقى.

(2/134)


لَيْسَ فِي وَلَدِهِ خَيْرٌ. فَمَرَجَ عَلَى الْحَبَشَةِ أَمْرَهُمْ [1] وَضَاقَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَلَّمُوا، وَاللَّهِ، إِنَّ مَلِكَكُمُ الَّذِي لَا يُقِيمُ أَمْرَكُمْ غَيْرُهُ لَلَّذِي بِعْتُمْ. قَالَ: فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ وَطَلَبِ الَّذِي بَاعُوهُ مِنْهُ، حَتَّى أَدْرَكُوهُ فَأَخَذُوهُ مِنْهُ. ثُمَّ جَاءُوا بِهِ فَعَقَدُوا عَلَيْهِ التَّاجَ وَأَجْلَسُوهُ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ.
فَجَاءَ التَّاجِرُ فَقَالَ: إِمَّا أَنْ تُعْطُونِي مَالِي وَإِمَّا أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالُوا: لَا نُعْطِيكَ شَيْئًا. قَالَ: إِذَنْ وَاللَّهِ أُكَلِّمُهُ. قَالُوا: فَدُونَكَ. فَجَاءَهُ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، ابْتَعْتُ غُلَامًا مِنْ قَوْمٍ بِالسُّوقِ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ، حَتَّى إِذَا سِرْتُ بِهِ أَدْرَكُونِي، فَأَخَذُوهُ وَمَنَعُونِي دَرَاهِمِي. فَقَالَ النَّجَاشِيُّ:
لَتُعْطِنَّهُ غُلَامَهُ أَوْ دَرَاهِمَهُ. قَالُوا [2] : بَلْ نُعْطِيهِ دَرَاهِمَهُ.
قَالَتْ: فَلِذَلِكَ يَقُولُ: مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي رِشْوَةً حِينَ رَدَّ عَلِيَّ مُلْكِي، فَآخُذُ الرِّشْوَةَ فِيهِ.
وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا خُبِرَ مِنْ صَلَابَتِهِ فِي دِينِهِ وَعَدْلِهِ [3] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يَزَالُ عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اجْتَمَعَتِ الْحَبَشَةُ فَقَالُوا لِلنَّجَاشِيِّ: إِنَّكَ فَارَقْتَ دِينَنَا. وَخَرَجُوا عَلَيْهِ. فَأَرْسَلَ إِلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ.
فَهَيَّأَ لَهُمْ سُفُنًا، وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا، وَكُونُوا كَمَا أَنْتُمْ، فَإِنْ هُزِمْتُ فَامْضُوا حَتَّى تَلْحَقُوا بِحَيْثُ شِئْتُمْ، وَإِنْ ظَفِرْتُ فَاثْبُتُوا. ثُمَّ عَمِدَ إِلَى كِتَابٍ فَكَتَبَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله [25 ب] ، وأنّ [4] عيسى
__________
[1] مرج عليهم الأمر: اضطرب واختلط.
[2] في الأصل: (قال) وصحّحناها من ع، ح. ومن السيرة لابن هشام.
[3] السيرة 2/ 90.
[4] في ع، ح وفي السيرة: ويشهد أنّ.

(2/135)


عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ [1] .
ثُمَّ جَعَلَهُ فِي قَبَائِهِ [2] وَخَرَجَ إِلَى الْحَبَشَةِ. وَصَفُّوا لَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَبَشَةِ، أَلَسْتُ أَحَقَّ النَّاسِ بِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَكَيْفَ رَأَيْتُمْ سِيرَتِي فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرُ سَيرَةٍ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ؟ قَالُوا: فَارَقْتَ دِينَنَا وَزَعَمْتَ أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ. قَالَ: فَمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: هُوَ ابْنُ اللَّهِ. فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، عَلَى قَبَائِهِ، وَقَالَ: هو يشهد أنّ عيسى بن مَرْيَمَ. لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَعْنِي عَلَى مَا كَتَبَ. فَرَضُوا وَانْصَرَفُوا.
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا مَاتَ صَلَّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [3] وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا [4] اسْتِطْرَادًا.
سَرِيَّةُ عُمَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ الْخَطْمِيِّ [5]
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ [6] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ لِخَمْسٍ بَقِينَ مُنْ رَمَضَانَ، إِلَى عَصْمَاءَ بِنْتِ مَرْوَانَ، مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، كَانَتْ تَعِيبُ الْإِسْلَامَ، وَتُحَرِّضُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقُولُ الشَّعْرَ. فَجَاءَهَا عُمَيْرٌ بِاللَّيْلِ فَقَتَلَهَا عيلة [7] .
__________
[1] في ع (وكلمته ألقاها) وفي السيرة: (وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ 4: 171) .
[2] القباء: نوع من الثياب تجتمع أطرافه، وهو من ملابس الأعاجم في الأغلب.
[3] سيرة ابن هشام 2/ 89، 90.
[4] في ح: وإنّما ذكرنا هذا بعد بدر استطرادا.
[5] هو عمير بن عديّ بن خرشة بن أميّة بن عامر بن خطمة، كان أبوه شاعرا، وهو أول من أسلم من بني خطمة. ولم يشهد بدرا لضرارته. (الإصابة 3/ 33، 34) .
[6] الواقدي: كتاب المغازي (1/ 172- 174) وانظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 27، 28 وعيون الأثر 1/ 293.
[7] ويذكر الواقدي أنّ عميرا حين بلغه قولها وتحريضها قال: اللَّهمّ إنّ لك عليّ نذرا لئن رددت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المدينة لأقتلنّها- ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ ببدر- فلما رجع رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بدر

(2/136)


غَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ [1]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: [2] لَمْ يُقِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُنْصَرَفَهُ [3] عَنْ بَدْرٍ بِالْمَدِينَةِ، إِلَّا سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
ثُمَّ خَرَجَ بِنَفْسِهِ يُرِيدُ بَنِي سُلَيْمٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عَرْفَطَةَ الْغِفَارِيَّ [4] ، وَقِيلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ.
فَبَلَغَ مَاءً يُقَالُ لَهُ: الْكُدْرُ [5] . فَأَقَامَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ انْصَرَفَ. وَلَمْ يلق أحدا [6] .
__________
[ () ] جاءها عمير في جوف الليل حتى دخل عليها في بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه في صدرها، فجسّها بيده فوجد الصّبيّ ترضعه فنحّاه عنها، ثم وضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها. ثم خرج حتى صلّى الصبح مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فلما انصرف النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إِلَى عمير فقال: أقتلت بنت مروان؟ قال: نعم، بأبي أنت يا رسول الله. وخشي عمير أن يكون افتات على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقتلها، فقال: هل عليّ في ذلك شيء يا رسول الله؟ قال: لا ينتطح فيها عنزان، فإنّ أول ما سمعت هذه الكلمة من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال عمير: فالتفت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى من حوله فقال: إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب، فانظروا إلى عمير بن عديّ. فقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: انظروا إلى هذا الأعمى الّذي تشدّد في طاعة الله. فقال: لا تقل الأعمى، ولكنّه البصير.
فلمّا رجع عمير من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجد بينها في جماعة يدفنونها، فأقبلوا إليه حين رأوه مقبلا من المدينة، فقالوا: يا عمير، أنت قتلتها؟ فقال: نعم؟ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فو الّذي نفسه بيده، لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم.
فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة، وكان منهم رجال يستخفّون بالإسلام خوفا من قومهم. (انظر: كتاب المغازي 1/ 172- 174) .
[1] سيرة ابن هشام 3/ 135، 136، وانظر تاريخ الطبري 2/ 482، 483.
[2] يسمّيها خليفة «غزوة الكدر» (تاريخ خليفة 58) .
[3] في ح: (بعد منصرفه) .
[4] ويقال له الكناني. حدّث عنه أبو هريرة. (الإصابة 2/ 13) .
[5] الكدر: قال الواقدي: بناحية المعدن قريبة من الأرحضيّة بينها وبين المدينة ثمانية برد. وقال غيره: ماء لبني سليم. (معجم البلدان 4/ 441) .
[6] في ح: (ولم يلق كيدا ولا أحدا) .

(2/137)


سَرِيَّةُ سَالِمِ بْنِ عُمَيْرٍ [1] لِقَتْلِ أَبِي عَفَكٍ
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ [2] أَنَّ أَبَا عَفَكٍ الْيَهُودِيَّ، كَانَ قَدْ بَلَغَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُ الشِّعْرَ، وَيُحَرِّض عَلَيْهِ. فَانْتَدَبَ لَهُ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَقَتَلَهُ غِيلَةً، فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
غَزْوَةُ السَّوِيقِ فِي ذِي الْحِجَّةِ
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ:
كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، حِينَ بَلَغَهُ وَقْعَةُ بَدْرٍ، نَذَرَ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ دُهْنٌ وَلَا غُسْلٌ، وَلَا يَقْرَبَ أَهْلَهَ، حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا وَيَحْرِقَ فِي طَوَائِفِ
__________
[1] ويقال: سالم بن عمرو، ويقال ابن عبد الله بن ثابت بن النعمان بن أميّة بن امرئ القيس.
الأنصاري الأوسي. وهو أحد البكّاءين. شهد العقبة وبدرا ومات في خلافة معاوية. (الإصابة 2/ 5 رقم 3046)
[2] الواقدي، كتاب المغازي (1/ 174- 175) .
وفي سريّة قتل أبي عفك يروي الواقدي عن رجاله، أنّه لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بدر، رجع وقد ظفّره الله بما ظفّره، فحسده أبو عفك وبغى، وذكر شعره في ذلك. فقال سالم بن عمير، وهو أحد البكّاءين من بني النّجار: عليّ نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه. فأمهل، فطلب له غرّة. حتى كانت ليلة صائفة، فنام أبو عفك بالفناء، في الصيف، في بني عمرو بن عوف.
فأقبل سالم فوضع السيف على كبده حتى خشّ في الفراش، وصاح عدوّ الله، فثاب إليه أناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله وقبروه، وقالوا: من قتله؟ والله لو نعلم من قتله لقتلناه به. فقالت شاعرة مسلمة تدعى النهدية أبياتا في ذلك، منها قولها:
حباك حنيف آخر الليل طعنة ... أبا عفك، خذها على كبر السنّ
ثم قال: قتل أبو عفك في شوّال على رأس عشرين شهرا. وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 28 وعيون الأثير 1/ 293، 293.

(2/138)


الْمَدِينَةِ. فَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ سِرًّا خَائِفًا، فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا [1] ، لِيَحِلَّ يَمِينَهُ.
فَنَزَلَ بِجَبَلٍ مِنْ جبال المدينة يقال له: ثيب [2] . فبعت رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يحرّقا أدنى نخل يَأْتِيَانِهِ مِنْ نَخْلِ الْمَدِينَةِ. فَوَجَدَا [3] صَوْرًا مِنْ صِيرَانِ [4] نَخْلِ الْعُرَيْضِ [5] . فَأَحَرَقَا فِيهَا وَانْطَلَقَا. وَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ مُسْرِعًا.
وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى بَلَغَ قَرْقَرَةَ الْكُدْرِ [6] فَفَاتَهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَرَجَعَ [7] .
وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ [8] .
وَقَالَ: وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ فِي آثَارِهِمْ، فأعجزوهم وتركوا أزوادهم.
__________
[1] في السيرة ابن هشام 3/ 136 «فخرج في مائتي راكب من قريش» .
[2] في الأصل وسائر النّسخ والمغازي لعروة 161: (نبت) وهو تصحيف تصحيحه من سيرة ابن هشام 3/ 136 والمغانم المطابة للفيروزآبادي (85 و 437) . وأثبته محقّق الطبري 2/ 484 «تيت» ! وانظر عيون الأثر 1/ 296.
[3] في الأصل: (فوجدوا) . والتصحيح من ع، ح.
[4] الصّور: جماعة النّخل الصغار. لا واحد له من لفظة ويجمع على صيران. ويقال لغير النخل من الشجر صور وصيران. (تاج العروس 12/ 362) .
[5] العريض: واد بالمدينة، كأنه على صيغة التصغير من عرض أو عرض، والعرض كل واد فيه شجر، وقيل كلّ واد فيه قرى ومياه. وأعراض المدينة بطون سوادها أو قراها التي في أوديتها، ويقال للرساتيق بأرض الحجاز الأعراض. (معجم البلدان 4/ 114 والمغانم المطابة 258- 259) .
[6] قرقرة الكدر: بناحية المعدن بينها وبين المدينة ثمانية برد، وقيل ماء لبني سليم، وقيل غير ذلك. انظر ياقوت (4/ 441) . وقال السهيليّ 3/ 142: القرقرة: أرض ملساء، والكدر:
«طير في ألوانها كدر، عرف بها ذلك الموضع» .
[7] انظر سيرة ابن هشام 3/ 136 وتاريخ خليفة 59 والطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 30 وتاريخ الطبري 2/ 483- 485 وعيون الأثر لابن سيّد الناس 1/ 296 والمغازي للواقدي 1/ 181، 182 ودلائل النبوّة للبيهقي 2/ 433.
[8] المغازي لعروة 161.

(2/139)


فَسُمِّيَتْ غَزْوَةُ أَبِي سُفْيَانَ: غَزْوَةُ السَّوِيقِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ [1] : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْن الزُّبير، ويزيد ابن رُومَانَ، وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ، قَالُوا:
لَمَّا رَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ فَلُّ قُرَيْشٍ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ، نَذَرَ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ مَاءٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا. فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ [2] رَاكِبٍ، إِلَى أَنْ نَزَلَ بِجَبَلٍ يُقَالُ لَهْ: ثَيْبٌ [3] ، عَلَى نَحْوِ بَرِيدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ. ثُمَّ خَرَجَ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى أَتَى [4] حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ [26 أ] بَابَهُ، فَلَمْ يَفْتَحْ لَهُ وَخَافَهُ. فَانْصَرَفَ إِلَى سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ، وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي النَّضِيرِ، فَأَذِنَ لَهُ وَقَرَاهُ، وَأَبْطَنَ لَهُ مِنْ خَبَرِ النَّاسِ. ثُمَّ خَرَجَ فِي عَقِبِ لَيْلَتِهِ حَتَّى أَتَى أَصْحَابَهُ، فَبَعَثَ رِجَالًا، فَأَتَوْا نَاحِيَةَ الْعُرَيْضِ، فَوَجَدُوا رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوهُمَا وَرَدُّوا وَنَذَرَ بِهُمُ النَّاسُ.
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِمْ، حَتَّى بَلَغَ قَرْقَرَةَ الْكُدْرِ، ثُمَّ انْصَرَفَ [رَاجِعًا] [5] وَقَدْ فَاتَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ، قَدْ رَمَوْا زَادًا لَهُمْ [6] فِي الْحَرْثِ [7] ، وَسَوِيقًا كَثِيرًا، يَتَخَفَّفُونَ مِنْهَا لِلنَّجَاءِ.
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ رَجَعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَطْمَعُ أن يكون لنا غزوة؟ فقال: نعم.
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 136.
[2] في الأصل: (مائة) . والتصحيح من ع، ح وكتب المغازي.
[3] في الأصل وسائر النسخ: (نبت) وانظر ما تقدم.
[4] في ح: (أتي دار حيّ) .
[5] إضافة عن السيرة 3/ 136.
[6] في ع: زادهم) .
[7] في طبقة القدسي 121 «جرب» وفي الطبقات الكبرى 2/ 30 «وجرب السويق» وما أثبتناه عن: السيرة لابن هشام 3/ 136 وتاريخ الطبري 2/ 484.

(2/140)


قَالَ: وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ [1] .
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ: تَزَوَّجَ عُثْمَانُ بِأُمِّ كُلْثُومٍ.
وَفِيهَا [2] تَزَوَّجَ عَلِيٌّ بِفَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [3] .
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: خَطَبْتُ فَاطِمَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ لِي مَوْلَاةٌ لِي: عَلِمْتَ أَنَّ فَاطِمَةَ خُطِبَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلت: لَا. قَالَتْ:
فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ فَيُزَوِّجِكَ؟ فَقُلْتُ: وَعِنْدِي شَيْءٌ أَتَزَوَّجَ بِهِ؟ قَالَتْ: إِنْ جئته زوّجك. قال [4] : فو الله مَا زَالَتْ تَرْجِينِي، حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم جلالة وهيبة. فأفحمت، فو الله مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ. فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ، أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَسَكَتُّ. ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكَ جِئْتَ تَخْطُبُ فَاطِمَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تَسْتَحِلُّهَا بِهِ؟
فَقُلْتُ: لَا والله. فقال: ما فعلت درع سلّحتكها؟ فو الّذي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ إِنَّهَا لَحُطَمِيَّةٌ [5] مَا ثَمَنُهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ. فَقُلْتُ: عِنْدِي. قَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَابْعَثْ إِلَيَّ بِهَا [6] . فَإِنَّ [الْحُطْمِيَّةَ] [7] كَانَتْ [8] لِصَدَاقِ فاطمة رضي الله عنها.
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 136 تاريخ خليفة (باختصار) 59، الطبري 2/ 484.
[2] من هنا يبدأ السقط في نسخة ح.
[3] تاريخ خليفة 65، الطبري 2/ 485، 486.
[4] في الأصل: (قلت) : والتصحيح من السياق.
[5] في الأصل، ع: (لحطمة) . والتصحيح من الطبقات الكبرى (8/ 20) . وسنن أبي داود.
[6] الطبقات الكبرى 8/ 20 و 21.
[7] إضافة على الأصل للتوضيح.
[8] في الأصل: (كان) . والتصحيح من ع.

(2/141)


وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطِهَا شَيْئًا. قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ. قَالَ: أَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطْمِيَّةُ؟ [1] .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ [2] . وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ فِي خَمِيلٍ [3] ، وَقِرْبَةٍ، وَوِسَادَةِ أَدَمٍ حَشْوُهَا إِذْخِرٌ [4] . وَفِيهَا: تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ خَالِدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْخَزْرَجِيُّ السَّاعِدِيُّ، وَالِدُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. وَكَانَ تَجَهَّزَ إِلَى بَدْرٍ فَمَاتَ قَبْلَهَا فِي رَمَضَانَ. فَيُقَالُ:
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ، وَرَدَّهُ عَلَى وَرَثَتِهِ [5] وَفِيهَا: بَعْدَ بَدْرٍ، تُوُفِّيَ خُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ، أَحَدُ الْمُهَاجِرِينَ، شَهِدَ بَدْرًا. وَتَأَيَّمَتْ مِنْهُ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ [6] .
وَفِي شَوَّالٍ: بَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ، وَعُمْرُهَا تِسْعُ سِنِينَ [7] .
__________
[1] في الأصل: (الحطمة) . والتصحيح من الطبقات الكبرى (8/ 20) وسنن أبي داود.
[2] سنن أبي داود: كتاب النكاح، باب في الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقدها شيئا (1/ 490) .
[3] الخميل: القطيفة. وأثبتها شعيرة في المتن 166 «حميل» وفي الحاشية «الجميل» وقال: هو الشيء المحمول من بلد إلى بلد. وهو قد ذهب بعيدا، والصحيح ما أثبتناه، ويقوّيه قول ابن سعد: «لما زوّجه فاطمة بعث معها بخملة» . 8/ 25.
[4] الإذخر: بالكسر، الحشيش الأخضر، الواحدة إذخرة، وهو حشيش طيّب الريح يسقف به البيوت فوق الخشب. وله ثمرة كأنّها مكاسح القصب، إلّا أنّها أرقّ وأصغر، يطحن فيدخل في الطيّب، ينبت في الحزون والسهول. (تاج العروس 11/ 364) .
[5] الإصابة 2/ 34 رقم 319.
[6] الإصابة 1/ 456 رقم 2294.
[7] تاريخ خليفة 65.

(2/142)


ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
«غَزْوَةُ ذِي أَمَرٍ»
فِي الْمُحَرَّمِ، غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجْدًا، يُرِيدُ غَطَفَانَ. وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ. فَأَقَامَ بِنَجْدٍ صَفَرًا كُلَّهُ، وَرَجَعَ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ [1] .
وَأَمَّا [2] الْوَاقِدِيُّ فقال:
[26 ب] كَانَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ غَيْبَتَهُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا.
ثُمَّ رَوَى عَنْ أَشْيَاخِهِ، عَنِ التَّابِعِينَ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، وَغَيْرِهِ، قَالُوا: بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ، مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ، بذِي أَمَر [3] ، قَدْ تَجَمَّعُوا يُرِيدُوَن أن يصيبوا من أطراف المسلمين [4] .
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 136 وانظر: تاريخ خليفة 65 وتاريخ الطبري 2/ 487.
[2] في الأصل: (وقال) . والتصحيح من ع.
[3] ذو أمر: (بلفظ الفعل من أمر يأمر) قال الواقدي: هو من ناحية النخيل، وهو بنجد من ديار غطفان (معجم البلدان 1/ 252) وقيل: واد بطريق فيد إلى المدينة على نحو ثلاث مراحل من المدينة بقرية النخيل (وفاء ألوفا 2/ 249) .
[4] الواقدي: كتاب المغازي (1/ 193) .

(2/143)


غَزْوَةُ بُحْرَانَ
[1] قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَقَامَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم [بالمدينة] [2] ، ربيع الأول. ثم
__________
[ () ] وفي غزوة ذي أمر يقول الواقدي بعد ما تقدّم من كلامه: جمعهم رجل منهم يقال له دعثور بن الحارث بن محارب، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين، فخرج في أربعمائة رجل وخمسين، ومعهم أفراس. فأخذ على المنقى، ثم سلك مضيق الخبيث ثم خرج إلى ذي القصة، فأصاب رجلا منهم بذي القصة يقال له جبّار من بني ثعلبة فقالوا: أين تريد؟ قال: أريد يثرب. قالوا: وما حاجتك بيثرب؟ قال: أردت أن أرتاد لنفسي وانظر. قالوا: هل مررت بجمع، أو بلغك خبر لقومك؟ قال: لا، إلّا أنّه قد بلغني أنّ دعثور بن الحارث في أناس من قومه عزّل، فأدخلوه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعاه إلى الإسلام فأسلم، وقال: يا محمد، إنّهم يلاقوك، إن سمعوا بمسيرك هربوا في رءوس الجبال، وأنا سائر معك ودالّك على عورتهم. فخرج به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وضمّه إلى بلال، فأخذ به طريقا أهبطه عليهم من كثيب، وهربت منه الأعراب فوق الجبال، وقبل ذلك ما قد غيّبوا سرحهم في ذرى الجبال وذراريهم فلم يلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا، إلّا أنّه ينظر إليهم في رءوس الجبال. فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذا أمر وعسكر معسكره، فأصابهم مطر كثير.
فذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحاجته فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه، وقد جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وادي ذي أمر بينه وبين أصحابه. ثم نزع ثيابه فنشرها لتجفّ، وألقاها على شجرة ثم اضطجع تحتها، والأعراب ينظرون إلى كل ما يفعل. فقالت الأعراب لدعثور، وكان سيّدها وأشجعها: قد أمكنك محمد، وقد انفرد من أصحابه حيث إن غوّث بأصحابه لم يغث حتى تقتله. فاختار سيفا من سيوفهم صارما، ثم أقبل مشتملا على السيف حتى قام على رأس النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالسيف مشهورا، فقال: يا محمد، من يمنعك منّي اليوم؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الله! قال: ودفع جبريل عليه السلام في صدره، ووقع السيف من يده، فأخذه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقام به على رأسه فقال: من يمنعك منّي اليوم؟ قال: لا أحد قال: فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله. والله لا أكثر عليك جمعا أبدا. فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سيفه. ثم أدبر، ثم أقبل بوجهه فقال: أما والله لأنت خير منّي. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنا أحق بذلك منك. فأتى قومه فقالوا:
أين ما كنت تقول وقد أمكنك والسيف في يدك؟ قال: والله كان ذلك، ولكنّي نظرت إلى رجل أبيض دفع في صدري فوقعت لظهري، فعرفت أنّه ملك وشهدت أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليه، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام. ونزلت هذه الآية فيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ 5: 11 (سورة المائدة: من الآية 11) .
[1] بحران: بالضمّ، موضع بناحية الفرع. قال الواقدي: بين الفرع والمدينة ثمانية برد، وقال ابن إسحاق: هو معدن بالحجاز في ناحية الفرع. وضبطه بعضهم بالفتح (بحران) . (معجم البلدان 1/ 341) .
[2] زيادة من ع.

(2/144)


غَزَا يُرِيدُ قُرَيْشًا.
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ: فَبَلَغَ بُحْرَانَ، مَعْدَنًا بِالْحِجَازِ، فَأَقَامَ هُنَاكَ رَبِيعَ الْآخِرَ كُلَّهُ، وَجُمَادَى الْأُولَى.
وَبُحْرَانُ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرْعِ [1] .
ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا [2] .
وقال الواقدي [3] : غزا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بَنِي سُلَيْمٍ بِبُحْرَانَ، لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى. وَبُحْرَانُ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ ثَمَانِيَةُ بُرُدٍ [4] .
فَغَابَ عَشْرَ لَيَالٍ. وَكَانَ بَلَغَهُ [أَنَّ] [5] بِهَا جَمْعًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَخَرَجَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ. وَاسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ [6] .
غزة بَنِي قَيْنُقَاعَ
ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ [7] هَكَذَا، بَعْدَ غَزْوَةِ الْفُرْعِ.
وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَقَالَ: كَانَتْ يَوْمَ السَّبْتِ نِصْفَ شَوَّالٍ، عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ. فَحَاصَرَهُمْ إِلَى هِلالِ ذِي الْقِعْدَةِ.
__________
[1] في هامش الأصل: الفرع بالسكون بين مكة والمدينة، وقال السهيليّ في الروض الأنف 3/ 143: الفرع: بضمّتين، وهي أول قرية مارت إسماعيل وأمّه التمر بمكة.
[2] السيرة 3/ 137.
[3] الواقدي: كتاب المغازي (1/ 196) .
[4] البرد: جمع البريد، وهو المسافة التي بين السّكتين، وبعد ما بين السكتين فرسخان أو أربعة.
[5] سقطت من الأصل وأثبتناها من ع.
[6] وانظر: تاريخ خليفة 65، 66، وتاريخ الطبري 2/ 487، والروض الأنف للسهيلي 3/ 142، 143، وعيون الأثر لابن سيّد الناس 1/ 304.
[7] سيرة ابن هشام 3/ 137.

(2/145)


وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
وَمِنْ حَدِيثِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَهُمْ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، احْذَرُوا مِنَ اللَّهِ مثل مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ مِنَ النَّقْمَةِ، وَأَسْلِمُوا فَإِنِّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ أَنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ وَعَهْدِ اللَّه إِلَيْكُمْ. قَالُوا:
يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ تَرَى أَنَّا كَقَوْمِكَ؟ لَا يَغُرَّنَّكَ أَنَّكَ لَقِيتَ قَوْمًا لَا عِلْمَ لَهُمُ بِالْحَرْبِ، فَأَصَبْتَ مِنْهُمْ فُرْصَةً، إِنَّا وَاللَّهِ لَوْ [1] حَارَبْتَنَا لَتَعْلَمَنَّ أَنَّا نَحْنُ الرِّجَالُ [2] . عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ إِلَّا فِيهِمْ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ 3: 12 [3] الْآيَتَيْنِ.
وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: أنّ بني قَيْنُقَاعَ كَانُوا أَوَّلَ يَهُودَ نَقَضُوا وَحَارَبُوا فِيمَا بَيْنَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ.
قَالَ: وَعَنْ أَبِي عَوْنٍ، قَالَ: كَانَ [مِنْ] [4] أَمْرِ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ قَدِمَتْ بِجَلْبٍ لَهَا فَبَاعَتْهُ بِسُوقِهِمْ، وَجَلَسَتْ إِلَى صَائِغٍ بِهَا. فَجَعَلُوا يُرِيدُونَها عَلَى كَشْفِ وَجْهِهَا، فَلَمْ تَفْعَلْ. فَعَمِدَ الصَّائِغُ إِلَى طَرَفِ ثَوْبِهَا فَعَقَدَهُ إِلَى ظَهْرِهَا. فَلَمَّا قامت انكشفت سوأتها فَضَحِكُوا، فَصَاحَتْ. فَوَثَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّائِغِ فَقَتَلَهُ [وَكَانَ يَهُودِيًّا] [5] . فَشَدَّتِ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَتَلُوهُ. فَأُغْضِبَ الْمُسْلِمُونَ وَوَقَعَ الشَّرُّ.
وَحَدَّثَنِي عَاصِمٌ، قَالَ: فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نزلوا على
__________
[1] في السيرة «لئن» .
[2] في السيرة «الناس» .
[3] سورة آل عمران: من الآية 12.
[4] إضافة من سيرة ابن هشام 3/ 137.
[5] عن السيرة للتوضيح.

(2/146)


حُكْمِهِ. فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ حِينَ أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيَّ. فَأَعْرَضَ عَنْه. فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ دِرْعِ رَسُولِ اللَّهِ [1] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسِلْنِي، وَغَضِبَ، أَرْسِلْنِي، وَيْحَكَ. قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُرْسِلُكَ حَتَّى تُحْسِنَ فِي مَوَالِيَّ: أَرْبَعُمِائَةُ حَاسِرٍ، وَثَلَاثُمِائَةُ دَارِعٍ، [27 أ] قَدْ مَنَعُونِي مِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، تَحْصُدُهُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ. إِنِّي وَاللَّهِ امْرؤٌ أَخْشَى الدَّوَائِرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُمْ لَكَ. وَحَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقَ [2] عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ: لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تَشَبَّثَ بِأَمْرِهِمُ ابْنُ سَلُولٍ وَقَامَ دُونَهُمْ.
قَالَ: وَمَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفٍ [3] ، لَهُمْ مِنْ حِلْفِهِ [4] مِثْلُ الَّذِي لِابْنِ سلول، فخلعهم [5] إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَبَرَّأَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ، وَقَالَ: أَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَنَزَلَتْ فِيهِ وَفِي ابن سلول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ 5: 51 إِلَى قَوْلِهِ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ 5: 52 إلى قوله
__________
[1] قال ابن هشام 3/ 137 «وكان يقال لها: ذات الفضول» .
[2] كذا في الأصل، والمقصود أن القائل محمد بن إسحاق يحدث عن أبيه إسحاق بن يسار. وبهذا السند وردت الروآية في ابن هشام (3/ 138) وابن كثير في التفسير (3/ 126) والبدآية والنهاية (4/ 4) . على أن ابن حجر يذكر في ترجمة إسحاق في تهذيب التهذيب (1/ 257) أنه روى عن أشخاص عددهم وقال: دون غيرهم. وليس من بينهم عبادة بن الوليد.
[3] في ع: (عون) تحريف. وانظر جمهرة أنساب العرب (354) وأنساب الأشراف (1/ 251) وسيرة ابن هشام 3/ 138.
[4] كذا في الأصل، ع. وفي السيرة. وعبارة ابن الملا في المنتقى «له من حلفهم» وهي أصح وأنسب للسياق.
[5] في الأصل، ع: (فجعلهم) . والتصحيح من ابن هشام وابن كثير.

(2/147)


إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا 5: 55 [1] ، لَتَولَّى عُبَادَةُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [2] .
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ [3] . أَنَّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حَاصَرَهُمْ خَمْسَ عَشَرَةَ لَيْلَةً، إِلَى هِلَالِ ذِي الْقِعْدَةِ. وَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ غَدَر مِنَ الْيَهُودِ. وَحَارَبُوا حَتَّى قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، وَأَنَّ لَهُ أَمْوَالَهُمْ. فَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [4] فَكُتِّفُوا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى كِتَافِهِمُ الْمُنْذِرَ بْنَ قُدَامَةَ السَّلَمِيَّ [5] ، مِنْ بَنِي السَّلَمِ. فَكَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ [بْنِ] سَلُولٍ [6] رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ. فَقَالَ:
خُذْهُمْ. وَأَمَرَ بِهِمْ أَنْ يُجْلَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَوَلِيَ إِخْرَاجَهُمْ مِنْهَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ. فَلَحِقُوا بِأَذرِعَاتَ [7] ، فَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ بَقَائِهِمْ فِيهَا. وَتَوَلَّى قَبْضَ أَمْوَالَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. ثُمَّ خُمِسَتْ، وَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سِلَاحِهِمْ ثَلَاثَةَ أَسْيَافٍ، وَدِرْعَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ
قَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ: كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ. وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ وَنَخْلُهُمْ بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ. وَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْجَلَاءِ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقلَّتِ الْإِبلُ إلّا السّلاح. فأنزلت
__________
[1] سورة المائدة: 51- 55.
[2] يعني عبادة بن الصامت. انظر الخبر بطوله في سيرة ابن هشام 3/ 137، 138 وفي تاريخ خليفة 66.
[3] الواقدي: كتاب المغازي (1/ 176- 180) .
[4] في ع: فأمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بهم.
[5] الإصابة 3/ 461 رقم 8225.
[6] في ع: فكلّم عبد الله بن أبيّ فيهم.
[7] أذرعات: بالفتح، ثم السكون وكسر الراء. بلد في أطراف الشام يجاور أرض البلقاء وعمّان (معجم البلدان 1/ 130) .

(2/148)


هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من دِيارِهِمْ، لِأَوَّلِ الْحَشْرِ 59: 2 [1] الْآيَاتِ.
فَأَجْلَاهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَكَانُوا مِنْ سِبْطٍ لَمْ يُصِبْهُمْ جَلَاءٌ. وَكَانَ اللَّهُ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا بالقتل والسّبي.
وقوله لِأَوَّلِ الْحَشْرِ 59: 2، أَيْ كَانَ [2] جَلَاؤُهُمْ ذَلِكَ أَوَّلَ حَشْرٍ فِي الدُّنْيَا إِلَى الشَّامِ.
وَيَرْوِيهِ عَقِيلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَوْلُهُ:
وأسنده زَيْدُ بْنُ الْمُبَارَكِ الصَّنْعَانِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَذِكْرُ عَائِشَةَ فيه غير محفوظ.
وقال ابن جريج، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّ يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقُرَيْظَةَ حَارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأجلى بني النّضير، وأقرّ قريظة ومن [27 ب] عَلَيْهِمْ، حَتَّى حَارَبُوا بَعْدَ ذَلِكَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [3] .
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَتَبُوا إِلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مَعَهُ الْأَوْثَانَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ: إِنَّكُمْ آوَيْتُمْ صَاحِبَنَا، وَإِنَّا نُقْسِمُ باللَّه لَتُقَاتِلَنَّهُ أَوْ لَتُخْرِجَنَّهُ أَوْ لَنَسِيرَنَّ إِلَيْكُمْ بِجَمْعِنَا حَتَّى نَقْتُلَ مُقَاتِلَتَكُمْ وَنَسْتَبِيحَ نِسَاءَكُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَأَصْحَابَهُ، اجْتَمَعُوا لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَلَقِيَهُمْ فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ وَعْدُ قُرَيْشٍ مِنْكُمُ الْمَبَالِغَ، مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُونَ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ. تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا أَبْنَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ؟ فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ تَفَرَّقُوا. فَبَلَغَ ذَلِكَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ فكتبوا،
__________
[1] سورة الحشر: من الآية 2.
[2] في الأصل: (فكان) . وأثبتنا عبارة ابن الملّا.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب حديث بني النّضير (5/ 112) .

(2/149)


بَعْدَ بَدْرٍ، إِلَى الْيَهُودِ: إِنَّكُمْ أَهْلُ الْحَلَقَةِ [1] وَالْحِصْنِ وَإِنَّكُمْ لَتُقَاتِلُنَّ صَاحِبَنَا أَوْ لَنَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَدَمِ نِسَائِكُمْ شَيْءٌ. وَهِيَ الْخَلَاخِيلُ.
فَلَمَّا بَلَغَ كِتَابُهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَجْمَعَتْ بَنُو النَّضِيرِ بِالْغَدْرِ. وَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْرُجْ إِلَيْنَا فِي ثَلَاثِينَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِكَ، وَلْيَخْرُجْ مِنَّا ثَلَاثُونَ حَبْرًا، حَتَّى نَلْتَقِيَ بمكان المنصف [2] ، فيسمعوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوا وَآمَنُوا بِكَ آمَنَّا بِكَ. فَقَصَّ خَبَرَهُمْ.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، غَدَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَتَائِبِ فَحَصَرَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ وَاللَّهِ لَا تَأْمَنُونَ عِنْدِي إِلَّا بِعَهْدٍ تُعَاهِدُونِي عَلَيْهِ. فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ عَهْدًا، فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ.
ثُمَّ غَدَا عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ بِالْكَتَائِبِ، وَتَرَكَ بَنِي النَّضِيرِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يُعَاهِدُوهُ. فَعَاهَدُوهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ. وَغَدَا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ بِالْكَتَائِبِ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْجَلَاءِ.
فَجَلَتْ بَنُو النَّضِيرِ، وَاحْتَمَلُوا مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ وَأَبْوَابِهِمْ وَخَشَبِهِمْ. فكان نخل بني النّضير لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خَاصَّةً، أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خَيْلٍ وَلا رِكابٍ 59: 6 [3] ، يَقُولُ [4] : بِغَيْرِ قِتَالٍ. فَأَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَهَا الْمُهَاجِرِينَ وَقَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ، وَقَسَّمَ مِنْهَا لِرَجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَا ذَوِي حَاجَةٍ [5] . وبقي
__________
[1] الحلقة: السلاح.
[2] في هامش ع: المنصف بالفتح نصف الطريق.
[3] سورة الحشر: من الآية 6، والإيجاف: سرعة السير، والركاب: الإبل التي تحمل القوم.
[4] من أول قوله «يقول بغير قتال» يبد سقط نسخة ع. وقد نصّ عليه في هامش النسخة بقوله:
«الأصل- هنا سقط نحو ستّ ورقات فليعلم» .
[5] سيأتي اسماهما بعد قليل في حديث عروة.

(2/150)


مِنْهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي فِي أَيْدِي بَنِي فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَذَهَبَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَابْنُ إِسْحَاقَ إِلَى أَنَّ غَزْوَةَ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُهُمَا. وَرَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ [1] . وَهَذَا حَدِيثُ مُوسَى وَحَدِيثُ عُرْوَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي عَقْلِ الْكِلابِيِّينَ. وَكَانُوا- زَعَمُوا- قَدْ دَسُّوا إِلَى قُرَيْشٍ حِينَ نَزَلُوا بِأُحُدٍ لقتا [ل] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَضُّوهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَدَلُّوهُمْ عَلَى الْعَوْرَةِ. فَلَمَّا كَلَّمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَقْلِ الْكِلابِيِّينَ، قَالُوا: اجْلِسْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ حتى تطعم وترجع [28 أ] بِحَاجَتِكَ وَنَقُومُ فَنَتَشَاوَرُ. فَجَلَسَ بِأَصْحَابِهِ. فَلَمَّا خَلَوْا وَالشَّيْطَانُ مَعَهُمْ، ائْتَمِرُوا بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: لَنْ تَجِدُوهُ أَقْرَبَ مِنْهُ الْآنَ، فَاسْتَرِيحُوا مِنْهُ تَأْمَنُوا. فَقَالَ رَجُلٌ: إِنْ شِئْتُمْ ظَهَرْتُ فَوْقَ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ تَحْتَهُ فَدَلَّيْتُ عَلَيْهِ حَجَرًا فَقَتَلْتُهُ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ بِشَأْنِهِمْ وَعَصَمَهُ، فَقَامَ كَأَنَّهُ يَقْضِي حَاجَةً. وَانْتَظَرَهُ أَعْدَاءُ اللَّهِ، فَرَاثَ عَلَيْهِمْ [2] . فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمَدِينَةِ فَسَأَلُوهُ عَنْهُ فَقَالَ: لَقِيتُهُ قَدْ دَخَلَ أَزِقَّةَ الْمَدِينَةِ. فَقَالُوا لِأَصْحَابِهِ: عَجَّلَ أَبُو الْقَاسِمِ أَنْ نُقِيمَ أَمْرَنَا فِي حَاجَتِهِ. ثُمَّ قَامَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجعوا ونزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ 5: 11 [3] الْآيَةَ.
وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْلَائِهِمْ، وَأَنْ يَسِيرُوا حَيْثُ شَاءُوا. وَكَانَ النِّفَاقُ قَدْ كَثُرَ بِالْمَدِينَةِ. فَقَالُوا: أَيْنَ تُخْرِجُنَا؟ قال: أخرجكم إلى الحشر [4] . فلما
__________
[1] المغازي لعروة 164.
[2] في الأصل: (عليه) والتصحيح من ابن الملا. وراث: أبطأ.
[3] سورة المائدة: من الآية 11.
[4] من بداية حديث غزوة بني النضير من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، إلى هنا، في دلائل النبوّة للبيهقي (طبعة الهند) 176، 177.

(2/151)


سَمِعَ الْمُنَافِقُونَ مَا يُرَادُ بِأَوْلِيائِهِمْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ: إِنَّا مَعَكُمْ مَحْيَانَا وَمَمَاتَنَا، إِنْ قُوتِلْتُمْ فَلَكُمْ عَلَيْنَا النَّصْرُ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ لَمْ نَتَخَلَّفْ عَنْكُمْ. وَسَيِّدُ الْيَهُودِ أَبُو صَفِيَّةَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ. فَلَمَّا وَثِقُوا بِأَمَانِيِّ الْمُنَافِقِينَ عَظُمَتْ غِرَّتُهُمْ وَمَنَّاهُمُ الشَّيْطَانُ الظُّهُورَ، فَنَادَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ: إِنَّا، وَاللَّهِ، لَا نَخْرُجُ وَلَئِنْ قَاتَلْتَنَا لَنُقَاتِلَنَّكَ.
فَمَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَمْرِ اللَّهِ فِيهِمْ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَخَذُوا السِّلَاحَ ثُمَّ مَضَى إِلَيْهِمْ. وَتَحَصَّنَتِ الْيَهُودُ فِي دُورِهِمْ وَحُصُونِهِمْ. فَلَمَّا انْتَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَزِقَّتِهِمْ وَحُصُونِهِمْ كَرِهَ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنَ الْقِتَالِ فِي دُورِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَحَفِظَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَعَزَمَ لَهُ عَلَى رُشْدِهِ، فَأَمَرَ أَنْ يُهْدَمَ الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى مِنْ دُورِهِمْ، وبالنّخل أن تحرّق وتقطع، [و] كفّ اللَّهُ أَيْدِيَهُمْ وَأَيْدِي الْمُنَافِقِينَ فَلَمْ يَنْصُرُوهُمْ، وَأَلْقَى فِي قُلُوبِ الْفَرِيقَيْنِ الرُّعْبَ. ثُمَّ جَعَلَتِ الْيَهُودُ كُلَّمَا خَلُصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَدْمِ مَا يَلِي مَدِينَتَهُمْ. أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَهَدَمُوا الدُّورَ الَّتِي هُمْ فِيهَا مِنْ أَدْبَارِهَا، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَخْرُجُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابُهُ يَهْدِمُونَ شَيْئًا فَشَيْئًا. فَلَمَّا كَادَتِ الْيَهُودُ أَنْ تَبْلُغَ آخِرَ دُورِهَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ الْمُنَافِقِينَ وَمَا كَانُوا مَنَّوْهُمْ، فَلَمَّا يَئِسُوا مِمَّا عِنْدَهُمْ، سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ عَرَضَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُجْلِيَهُمْ، وَلَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ الْإِبِلُ إِلَّا السِّلَاحَ. وَطَارُوا كُلَّ مُطَيَّرٍ، وَذَهَبُوا كُلَّ مَذْهَبٍ. وَلَحِقَ بَنُو أَبِي الْحَقِيقِ بِخَيْبَرَ وَمَعَهُمْ آنِيَةً كَثِيرَةً مِنْ فِضَّةٍ، فَرَآهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ. وَعَمَدَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ عَلَى قُرَيْشٍ، فَاسْتَغْوَاهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ حَدِيثَ أَهْلِ النّفاق، وما بينهم وبين اليهود، وكانوا [28 ب] قَدْ عَيَّرُوا الْمُسْلِمِينَ حِينَ قَطَعُوا النَّخْلَ وَهَدَمُوا. فَقَالُوا: مَا ذَنْبُ الشَّجَرَةِ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ مصلحون؟ فأنزل الله سَبَّحَ لِلَّهِ 57: 1 سورة الحشر. ثُمَّ جَعَلَهَا نَفْلًا لِرَسُولِهِ، فَقَسَّمَهَا فِيمَنْ أَرَاهُ اللَّهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. وَأَعْطَى مِنْهَا أَبَا دُجَانَةَ سِمَاكَ بْنَ خَرَشَةَ، وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ،

(2/152)


الْأَنْصَارِيَّيْنِ. وَأَعْطَى- زَعَمُوا- سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيْفَ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ [1] .
وَكَانَ إِجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ.
وَأَقَامَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ فِي الْمَدِينَةِ فِي مَسَاكِنِهِمْ، لَمْ يُؤْمَرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلٍ وَلَا إِخْرَاجٍ حَتَّى فَضَحَهُمُ اللَّهُ بِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَبِجُمُوعِ الْأَحْزَابِ.
هَذَا لَفْظُ مُوسَى، وَحَدِيثُ عُرْوَةَ بِمَعْنَاهُ، إِلَى إِعْطَاءِ سَعْدٍ السَّيْفَ [2] .
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ نَخْلِ بَنِي النَّضِيرِ وَحَرَّقَ. وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ [3] :
وَهَانَ عَلَى سُرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرٌ
وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ الله 59: 5 [4] . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [5] .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنِ الزّهري، عن مالك بن أوس، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ. فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم خالصة ينفق
__________
[1] انظر: المغازي لعروة 164- 167 وانظر عن هذه الغزوة: سيرة ابن هشام 3/ 240- 242، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 57، وتاريخ الطبري 2/ 550- 555، ودلائل النبوة 2/ 446- 450، وعيون الأثر 2/ 48- 51 وتاريخ اليعقوبي 1/ 49.
[2] العبارة في المغازي لعروة 167.
[3] ديوانه: 194، والبويرة: موضع كان به بني النّضير.
[4] سورة الحشر: من الآية 5، واللّينة: النّخلة الناعمة، كما في مفردات الراغب.
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب حديث بني النّضير (5/ 113) . وصحيح مسلم: كتاب الجهاد والسّير، باب جواز قطع أشجار الكفّار وتحريقها (5/ 145) والطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 58 من طريق الليث بن سعد عن نافع.

(2/153)


مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ [1] وَالسِّلَاحِ عَدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أَخْرَجَاهُ [2] .
سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى الْقَرَدَةِ [3]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَسَرِيَّةُ زَيْدٍ الَّتِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، حِينَ أَصَابَ عِيرَ قُرَيْشٍ، وَفِيهَا أَبُو سُفْيَانَ، عَلَى الْقَرَدَةِ، مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ نَجْدٍ.
وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهَا أَنَّ قُرَيْشًا خَافُوا طَرِيقَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَسْلُكُونَ إِلَى الشَّامِ حِينَ جَرَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ، فَسَلَكُوا طَرِيقَ الْعِرَاقِ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ تُجَّارٌ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ، وَاسْتَأْجَرُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُقَالُ لَهُ: فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ يَدُلُّهُمْ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَلَقِيَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ، فَأَصَابَ تِلْكَ الْعِيرَ وَمَا فيها، وأعجزهم الرجال، فقدم بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [4] .
غَزْوَةُ قَرْقَرَةِ الْكُدْرِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّهَا فِي الْمُحرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ. وَهِيَ نَاحِيَةُ مَعْدِنِ بَنِي سُلَيْمٍ. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ جَمْعًا مِنْ سُلَيْمٍ وَغَطَفَانَ. فَلَمْ يَجِدْ فِي الْمَجَالِ أَحَدًا، وَوَجَدَ رِعَاءً مِنْهُمْ غُلَامٌ يُقَالُ لَهُ يَسَارٌ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم
__________
[1] الكراع: الخيل. وقد يسمّى به السلاح كذلك.
[2] صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب المجنّ ومن يتترّس بترس صاحبه (4/ 46) .
وصحيح مسلم (1756 و 1757) كتاب الجهاد والسير، باب حكم الفيء. وانظر الطبقات لابن سعد 2/ 58.
[3] القردة: بالتحريك، كما في معجم البلدان 4/ 322.
[4] انظر: سيرة ابن هشام 3/ 138 والطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 36 وعيون الأثر 1/ 304، 305 وتاريخ الطبري 2/ 492.

(2/154)


وَقَدْ ظَفَرَ بِالنَّعَمِ، فَانْحَدَرَ بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَاقْتَسَمُوهَا بِصِرَارٍ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتِ النَّعَمُ خَمْسَمِائَةِ بَعِيرٍ، وَأَسْلَمَ يَسَارٌ.
الْقَرْقَرَةُ أَرْضٌ مَلْسَاءُ، وَالْكُدْرُ طَيْرٌ فِي أَلْوَانِهَا كُدْرَةٌ [1] ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرَارَةُ الْكُدْرِ، يَعْنِي أَنَّهَا [29 أ] مستقرّ هذا الطير.
__________
[1] هذا القول في الروض الأنف للسهيلي 3/ 142 وقد سبق الإشارة إليه في غزوة السويق.

(2/155)


مَقْتَلُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ [1]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [2] مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَصَالِحُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، قَالَا:
بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ بَشِيرَيْنِ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَبَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَى أَهْلِ السَّافِلَةِ، وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ، فَبَشَّرُوا وَنَعَوْا أَبَا جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَالْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ قَالَ: وَيْلَكُمْ، أَحَقٌّ هَذَا؟ هَؤُلَاءِ مُلُوكُ الْعَرَبِ وَسَادَةُ النَّاسِ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَ عَلَى عَاتِكَةَ بِنْتِ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعَيْصِ، وَكَانَتْ عِنْدَ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ، فَجَعَلَ يَبْكِي عَلَى قَتْلَى قُرَيْشٍ، وَيُحَرِّضُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٍ لِمَهْلِكِ أَهْلِهَا [3] ... وَلِمِثْلِ بَدْرٍ تَسْتَهِلُّ وَتَدْمَعُ
قُتِلَتْ سُرَاةُ النَّاسِ حَوْلَ حِياضِهِمْ ... لا تَبْعُدُوا إنّ الملوك تصرع
__________
[1] انظر عنه: المحبّر 117 و 282 و 390.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 139.
[3] في سيرة ابن هشام «أهله» .

(2/157)


كَمْ قَدْ أُصِيبَ بِهَا [1] مِنْ أَبْيَضَ مَاجِدٍ ... ذِي بَهْجَةٍ تَأْوِي [2] إِلَيْهِ الضِّيَعُ
وَيَقُولُ أَقْوَامٌ أُذَلُّ [3] بِسَخْطِهِمْ ... إِنَّ ابْنَ الْأَشْرَفِ ظَلَّ كَعْبًا يَجْزَعُ
صَدَقُوا، فَلَيْتَ الْأَرْضَ سَاعَةَ قُتِّلُوا ... ظَلَّتْ تَسُوخُ بِأَهْلِهَا وَتَصَدَّعُ
نُبِّئْتُ أَنَّ بَنِي كِنَانَةَ [4] كُلَّهُمْ ... خَشَعُوا لِقَوْلِ أَبِي الْوَلِيدِ [5] وَجَدَّعُوا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَشَبَّبَ بِأُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ:
أَرَاحِلٌ أَنْتَ لَمْ تَحْلُلْ بِمَنْقَبَةٍ ... وَتَارِكٌ أَنْتَ أُمَّ الْفَضْلِ بِالْحَرَمِ؟
فِي كَلَامٍ لَهُ. ثُمَّ شَبَّبَ بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى آذَاهُمْ [6] .
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: كَانَ ابْنُ الْأَشْرَفِ قَدْ آذَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجَاءِ، وَرَكِبَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَاسْتَغْوَاهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: أُنَاشِدُكَ اللَّهَ، أَدِينُنَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ؟ قَالَ:
أَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُمْ سَبِيلًا [7] . ثُمَّ خَرَجَ مُقْبِلًا قَدْ أَجْمَعَ رَأْيَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْلِنًا بِعَدَاوَتِهِ وَهِجَائِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْجَمَّالُ الْمَخْرَمِيُّ- الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ عَدِيِّ: [8] كَانَ عِنْدِي مِمَّنْ يَسْرِقُ الْحَدِيثَ. قُلْتُ: لَكِنْ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ [9]- ثَنَا ابْنُ
__________
[1] في السيرة «به» .
[2] في السيرة «يأوي» .
[3] في السيرة «أسر» .
[4] في السيرة «بني المغيرة» .
[5] في السيرة ومغازي الواقدي «أبي الحكيم» .
[6] تاريخ الطبري 2/ 488.
[7] انظر المغازي لعروة 162.
[8] الكامل في الضعفاء 6/ 2283.
[9] قال الذهبي في كتابه «المغنى في الضعفاء» : «وقد ذكر ابن عساكر في النّبل أنّ مسلم روى عنه، وهذا معدوم، فلعله في غير الصحيح» (2/ 646) وانظر ميزان الاعتدال 4/ 73 رقم 8349.

(2/158)


عُيَيْنَةَ، ثَنَا عَمْرٌو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عبّاس قال: قدم حبيّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ عَلَى قُرَيْشٍ فَحَالَفُوهُمْ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالُوا لَهْمُ: أَنْتُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ الْقَدِيمِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَأَخْبِرُونَا عَنَّا وَعَنْ مُحَمَّدٍ، قَالُوا: مَا أَنْتُمْ وَمَا مُحَمَّدٌ؟ قَالُوا: نَحْنُ نَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ [1] وَنَسْقِي اللَّبَنَ عَلَى الْمَاءِ وَنَفُكُّ الْعُنَاةَ وَنَسْقِي الْحَجِيجَ، وَنَصِلُ الْأَرْحَامَ. قَالُوا: فَمَا مُحَمَّدٌ؟ قَالُوا: صُنْبُورٌ [2] قَطَعَ أَرْحَامَنَا وَاتَّبَعَهُ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ بَنُو غِفَارٍ.
قَالُوا: لَا، بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَهْدَى سَبِيلًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ 4: 51 [3] الْآيَةَ.
قَالَ سُفْيَانُ: كَانَتْ غِفَارٌ سَرِقَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: وَلَحِقَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُعْلِنًا بِمُعَادَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِجَائِهِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا خَرَجَ مِنْهُ قَوْلَهُ:
أَذَاهِبٌ [4] أَنْتَ لَمْ تَحْلُلْ بِمَنْقَبَةٍ ... وَتَارِكٌ أَنْتَ أُمَّ الْفَضْلِ بِالْحَرَمِ!
صَفْرَاءُ رَادِعَةٌ لَوْ تُعْصَرُ انْعَصَرَتْ ... مِنْ ذِي الْقَوَارِيرِ وَالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ [5]
إِحْدَى بَنِي عَامِرٍ هَامَ [6] الْفُؤَادُ بِهَا ... وَلَوْ تَشَاءُ شَفَتْ كَعْبًا من السّقم
__________
[1] الكوماء: الناقة العظيمة السّنام الطويلة.
[2] في هامش الأصل: الصّنبور: الفرد الّذي لا ولد له ولا أخ. (وانظر: تاج العروس 12/ 353) .
[3] سورة النساء: من الآية 51.
[4] عند الطبري 2/ 488 والروض الأنف 3/ 145 «أراحل» .
[5] رادعة: أي يفوح منها أثر الطيب أو الزعفران. والكتم: نبت يخلط بالحنّاء ويخضب به الشعر فيبقى لونه.
[6] عند الطبري «جنّ» .

(2/159)


لم أر [1] شَمْسًا [بِلَيْلٍ] [2] قَبْلَهَا طَلَعَتْ ... حَتَّى تَبَدَّتْ [3] لَنَا فِي لَيْلَةِ الظُّلَمِ
وَقَالَ:
طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٍ لِمَهْلِكِ أَهْلِهَا
الْأَبْيَاتَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَقَدْ آذَانَا بِالشِّعْرِ وَقَوَّى الْمُشْرِكِينَ عَلَيْنَا. فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَأَنْتَ.
فَقَامَ فَمَشَى ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: إِنِّي قَائِلٌ قَالَ: فَأَنْتَ فِي حِلٍّ: فَخَرَجَ مُحَمَّدٌ، بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، حَتَّى أَتَى كَعْبًا وَهُوَ فِي حَائِطٍ [4] فَقَالَ: يَا كَعْبُ، جِئْتُ لِحَاجَةٍ، الْحَدِيثَ [5] . وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعَجِبَ إِلَيْكَ [6] أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا. قَالَ: قُلْ. فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً، وَقَدْ عَنَّانَا، وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ. قَالَ: وَأَيْضًا لَتَمَلَّنَّهُ [7] . قَالَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسَلِّفَنَا. قَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ. قَالَ: نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ. قَالَ: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا فَيُقَالُ رَهْنٌ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ؟ قَالَ: فَأَيُّ شيء؟ قال: نرهنك اللّأمة [8] .
__________
[1] رواية ابن الملّا: لم ألق.
[2] سقطت من الأصل، واستدركناها من ابن الملا والطبري.
[3] عند الطبري «تجلّت» .
[4] الحائط: البستان.
[5] صحيح البخاري، كتاب المغازي، وفتح الباري 7/ 338.
[6] كذا في الأصل، وعبارة البخاري: وعروة في مغازيه 162 «أحبّ أن أقتله» .
[7] كذا في البداية والنهاية 4/ 5.
[8] اللأمة: السلاح وفي مغازي عروة 163 «الأمّة» .

(2/160)


فَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ لَيْلًا، فَجَاءَهُ لَيْلًا [1] وَمَعَهُ أَبُو نَائِلَةَ، وَهُوَ أَخُو كَعْبٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَدَعَاهُ مِنَ الْحِصْنِ فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَيْنَ تَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ أَخِي أَبُو نَائِلَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، إِنَّ الْكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إِلَى طَعْنَةٍ بِلَيْلٍ لَأَجَابَ، قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنِّي إِذَا مَا جَاءَ فَإِنِّي قَائِلٌ بِشَعْرِهِ [2] فَأَشَمُّهُ ثُمَّ أُشِمُّكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي أُثَبِّتُ يَدَيَّ فَدُونَكُمْ. فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ مُتَوَشِّحًا، وَهُوَ يَنْفَحُ مِنْهُ رِيحُ الطِّيبِ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ رِيحًا، أَيْ أَطْيَبَ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَشَمَّ رَأْسَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَشَمَّهُ ثُمَّ شَمَّ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ:
أَتَأْذَنُ لِي؟ يَعْنِي ثَانِيًا. قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ قَالَ: دُونَكُمْ.
فَضَرَبُوهُ فَقَتَلُوهُ. وَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [3] . وَقَالَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ [30 أ] عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّ كَانَ شَاعِرًا، وَكَانَ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِ كُفَّارَ قُرَيْشٍ فِي شِعْرِهِ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَهْلُهَا أَخْلَاطٌ، مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَمِنْهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَمِنْهُمُ الْيَهُودُ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلَقَةِ وَالْحُصُونِ، وَهُمْ حُلَفَاءُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ اسْتِصْلَاحَهُمْ كُلَّهُمْ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ مُسْلِمًا وَأَبُوهُ مُشْرِكٌ وَأَخُوهُ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ يُؤْذُونَهُ أَشَدَّ الْأَذَى، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ وَالْمُسْلِمِينَ بِالصَّبْرِ وَالْعَفْوِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمن الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً 3: 186 [4] ، وَقَالَ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ 2: 109
__________
[1] هنا ينتهي الخبر عند عروة في المغازي 163.
[2] قائل بشعره: آخذ به، يقال: قال بيده أهوى بها وقال برأسه أشار، كلّ ذلك على الاتساع والمجاز، ويعبّر بها على التهيّؤ للأفعال والاستعداد لها.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب قتل كعب بن الأشرف (5/ 115) .
[4] سورة آل عمران: من الآية 186.

(2/161)


مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ 2: 109 [1] ، فأمر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ أَنْ يَبْعَثَ رَهْطًا لِيَقْتُلُوا كَعْبًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ سَعْدَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ وأبا عبس [2] ، والحارث ابن أَخِي سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي خَمْسَةِ رَهْطٍ أَتَوْهُ عَشِيَّةً، وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِمْ بِالْعَوَالِي. فَلَمَّا رَآهُمْ كَعْبٌ أَنْكَرَهُمْ وَكَادَ يُذْعَرُ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ:
مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: جَاءَتْ بِنَا إِلَيْكَ الْحَاجَةُ. قَالَ: فَلْيَدْنُ إِلَيَّ بَعْضُكُمْ فَلْيُحَدِّثَنِي بِهَا. فَدَنَا إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: جِئْنَاكَ لِنَبِيعَكَ أَدْرَاعًا لَنَا لِنَسْتَنْفِقَ أَثْمَانَهَا.
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَقَدْ جُهِدْتُمْ، قَدْ نَزَلَ بِكُمْ هَذَا الرَّجُلُ.
فَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَأْتُوهُ عِشَاءً حِينَ يَهْدَأُ عَنْهُمُ النَّاسُ. فَجَاءُوا فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَامَ لِيَخْرُجَ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: مَا طَرَقُوكَ سَاعَتَهُمْ هَذِهِ لِشَيْءٍ تُحِبُّ. فَقَالَ: بَلْ إِنَّهُمْ قَدْ حَدَّثُونِي حَدِيثَهُمْ [3] . فَاعْتَنَقَهُ أَبُو عَبْسٍ، وَضَرَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بِالسَّيْفِ، وَطَعَنَهُ بَعْضُهُمْ بِالسَّيْفِ فِي خَاصِرَتِهِ. فَلَمَّا قَتَلُوهُ فَزِعَتِ الْيَهُودُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَغَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحُوا فَقَالُوا:
إِنَّهُ طُرِقَ صَاحِبُنَا اللَّيْلَةَ وَهُوَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا فَقُتِلَ، فَذَكَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كان يقول فِي أَشْعَارِهِ. وَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَكَتَبَ بَيْنَهُمْ صَحِيفَةً. وَكَانَتْ تِلْكَ الصَّحِيفَةُ بَعْدَهُ عند عليّ. أخرجه أبو داود [4] .
__________
[1] سورة البقرة: من الآية 109.
[2] في الأصل: أبا عيسى، تحريف. وهو أبو عبس بن جبر الحارثي. (تهذيب التهذيب 12/ 156 والاستيعاب 4/ 122) ، وفي الإصابة أنه أبو عبيس بن جابر (4/ 130) .
[3] الطبقات الكبرى 2/ 33.
[4] سنن أبي داود: كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة (2/ 138) وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 34.

(2/162)


وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ كَانَ مَعَهُمْ، فَأُصِيبَ فِي وَجْهِهِ بِالسَّيْفِ أَوْ رِجْلِهِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَمَشَى مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [30 رب] إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ [1] ، ثُمَّ وَجَّهَهُمْ وَقَالَ: انْطَلِقُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، اللَّهمّ أَعِنْهُمْ. وَذَكَرَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِأَطْوَلِ مِمَّا هُنَا وَأَحْسَنَ عِبَارَةً، وَفِيهِ: فَاجْتَمَعَ فِي قَتْلِهِ مُحَمَّدٌ، وَسِلْكَانُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، وَهُوَ أَبُو نَائِلَةَ الْأَشْهَلِيُّ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ الْحَارِثِيُّ. فَقَدَّمُوا إِلَى ابْنِ الْأَشْرَفِ سِلْكَانَ، فَجَاءَهُ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ سَاعَةً وَتَنَاشَدَا شِعْرًا، ثُمَّ قَالَ:
وَيْحَكَ يَا بْنَ الْأَشْرَفِ، إِنِّي قَدْ جِئْتُ لِحَاجَةٍ أُرِيدُ ذِكْرَهَا لَكَ فَاكْتُمْ عَنِّي.
قَالَ: أَفْعَلُ. قَالَ: قَدْ كَانَ قُدُومُ هَذَا الرَّجُلُ عَلَيْنَا بَلَاءً مِنَ الْبَلَاءِ، عَادَتْنَا الْعَرَبُ وَرَمَوْنَا مِنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَقُطِعَتْ عَنَّا السُّبُلُ حَتَّى ضَاعَ الْعِيَالُ وَجُهِدْنَا.
فَقَالَ: أنا بن الأشرف! أما والله لقد أخبرتك يا بن سَلَامَةَ أَنَّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلَى مَا أَقُولُ. فَقَالَ: إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ تَبِيعَنَا طَعَامًا وَنَرْهَنُكَ وَنُوثِّقَ لَكَ، وَتُحْسِنُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: أَتَرْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ؟ قَالَ: لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَفْضَحَنَا.
إِنَّ مَعِي أَصْحَابًا لِي عَلَى مِثْلِ رَأْيِي، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ آتِيكَ بِهِمْ فَتَبِيعَهُمْ، وَتُحْسِنَ فِي ذَلِكَ، وَنَرْهَنُكَ مِنَ الْحَلْقَةِ مَا فِيهِ وَفَاءٌ. قَالَ: فَرَجَعَ سِلْكَانُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا السِّلَاحَ ثُمَّ يَنْطَلِقُوا فَيَجْتَمُعُوا إليه. واجتمعوا، وساق القصّة [2] .
__________
[1] بقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة المعروفة بالبقيع. والغرقد كبار العوسج.
[2] انظر: سيرة ابن هشام 3/ 140، 141، تاريخ الطبري 2/ 489، 490، عيون الأثر 1/ 299، 300، المغازي للواقدي 1/ 184 وما بعدها، فتح الباري 7/ 337- 340.

(2/163)


قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَطْلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ الْيَهُودِ، وَقَالَ: مَنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنَ الْيَهُودِ فَاقْتُلُوهُ [1] . وَحِينَئِذٍ أَسْلَمَ حُوَيَّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ. وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ أَخُوهُ مُحَيِّصَةُ.
فَقَتَلَ مُحَيِّصَةُ بْنُ سُنَيْنَةَ الْيَهُودِيَّ التَّاجِرَ، فَقَامَ [2] مُحَيِّصَةُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَجَعَلَ يَضْرِبُ أَخَاهُ وَيَقُولُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ قَتَلْتَهُ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَرُبَّ شَحْمٍ فِي بَطْنِكَ مِنْ مَالِهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ مَنْ لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ.
قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ دِينًا بَلَغَ بِكَ هَذَا لَعَجَبٌ. فَأَسْلَمَ حُوَيِّصَةُ [3] .
وَفِي رَمَضَانَ: وُلِدَ السَّيِّدُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [4] .
وَتَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ [5] .
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ: تَزَوَّجَ أَيْضًا بِزَيْنَبَ بِنْتِ خُزَيْمَةَ، مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَهِيَ أُمُّ الْمَسَاكِينِ، فَعَاشَتْ عِنْدَهُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً [6] ، وَتُوُفِّيَتْ.
وَقِيلَ أَقَامَتْ عِنْدَهُ ثَمَانِيةَ أَشْهُرٍ، والله تعالى أعلم.
__________
[1] تاريخ الطبري 2/ 491.
[2] في الأصل: فقال. والتصحيح من السياق.
[3] تاريخ الطبري 2/ 491.
[4] تاريخ الخليفة 66.
[5] تاريخ خليفة 66، تاريخ الطبري 2/ 499.
[6] تاريخ خليفة 66.

(2/164)


غَزْوَةُ أُحُدٍ «وَكَانَتْ فِي شَوَّالٍ»
قَالَ شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ: وَاقَعَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ بَعْدَ بَدْرٍ فِي شَوَّالٍ، يَوْمَ السَّبْتِ لإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَوَّالٍ.
وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَوْمَئِذٍ سَبْعَمِائَةٍ، وَالْمُشْرِكُونَ أَلْفَيْنِ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ [1] وَقَالَ مَالِكٌ: كَانَ الْقِتَالُ يَوْمَئِذٍ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ.
وَقَالَ بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: رَأَيْتُ أَنِّي قَدْ هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ من الفتح واجتماع [31 أ] الْمُؤْمِنِينَ، وَرَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ بَقَرًا، وَاللَّهُ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمُ النَّفَرُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الخير
__________
[1] تاريخ خليفة 67.

(2/165)


وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِي آتَانَا يَوْمَ بَدْرٍ. أَخْرَجَاهُ [1] . وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزّنّاد، عن أبيه، عن عبيد الله ابن عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ الْمُشْرِكُونَ كَانَ رَأْيُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ فَيُقَاتِلُهُمْ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ نَاسٌ لَمْ يَكُونُوا شَهِدُوا بَدْرًا: يَخْرُجُ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ نُقَاتِلُهُمْ بِأُحُدٍ، وَرَجَوْا أَنْ يُصِيبُوا مِنَ الْفَضِيلَةِ مَا أَصَابَ أَهْلُ بَدْرٍ. فَمَا زَالُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَبِسَ أَدَاتَهُ، ثُمَّ نَدِمُوا وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ فَالرَّأْيُ رَأْيُكَ. فَقَالَ لهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَضَعَ أَدَاتَهُ بَعْدَ أَنْ لَبِسَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ. قَالُوا: وَكَانَ مَا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أن يَلْبَسَ الْأَدَاةَ: إِنِّي رَأَيْتَ أَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ، وَأَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا فَأَوَّلْتُهُ كَبْشَ الْكَتِيبَةِ، وَرَأَيْتُ أَنَّ سَيْفِي ذَا الْفَقَارِ فُلَّ فَأَوَّلْتُهُ فَلًّا فِيكُمْ، وَرَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ، فَبَقَرٌ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَبَقَرٌ وَاللَّهِ خَيْرٌ. وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ، قَالَ: حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشَّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ [2] ، انْخَزَلَ عبد الله بن أبيّ بْنُ أُبَيٍّ بِقَرِيبٍ مِنْ ثُلُثِ الْجَيْشِ [3] . وَمَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَهُمْ فِي سَبْعِمِائَةٍ. وَتَعَبَّأَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَّبُوهَا، وَجَعَلُوا عَلَى ميمنة الخيل
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المناقب: باب علامات النّبوّة في الإسلام (4/ 247) ، وكتاب التعبير، باب إذا رأى بقرا تنحر (9/ 52) وباب إذا هزّ سيفا في المنام (9/ 53) .
وصحيح مسلم (2270) : كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم.
[2] في الأصل: بالشوط بين الجنانة. وليس بشيء، وأثبتنا رواية ابن هشام وابن كثير. وانظر معجم البلدان والمغانم المطابة في (شوط) .
[3] في المغازي لعروة 169 «وَرَجَعَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي ثلاثمائة» وكذلك في تاريخ الطبري 2/ 504.

(2/166)


خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَالْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَةُ آلافٍ. فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا، وَرَجَعَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي ثَلَاثِمَائَةٍ [1] ، فَسَقَطَ فِي أَيْدِي الطَّائِفَتَيْنِ، وَهَمَّتَا أَنْ تَفْشَلا، وَالطَّائِفَتَانِ: بَنُو سَلَمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا 3: 122 [2] ، بَنُو سَلَمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ، مَا أَحَبُّ أَنَّهَا لم تنزل لقوله وَالله وَلِيُّهُما 3: 122 [3] . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [4] .
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ، رَجَعَ نَاسٌ خَرَجُوا مَعَهُ. فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةً تَقُولُ: نُقَاتِلُهُمْ، وَفِرْقَةً تَقُولُ: لَا نُقَاتِلُهُمْ. فنزلت فَما لَكُمْ في الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ 4: 88 [5] ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا طَيِّبَةٌ تَنْفِي الْخَبِيثَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [6] . وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ من الطَّيِّبِ 3: 179 [7] ، وقال ميّزهم يوم أحد.
__________
[1] هذه الفقرة في المغازي لعروة 169.
[2] ، (3) سورة آل عمران: من الآية 122.
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا إلخ (5/ 123) ، وصحيح مسلم (2505) : كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار.
[5] سورة النساء: من الآية 88.
[6] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة أحد (5/ 122) وكتاب التفسير، سورة النساء، باب فما لكم في المنافقين فئتين (6/ 59) ، وصحيح مسلم (1381) : كتاب الحجّ، باب المدينة تنفي شرارها.
[7] سورة آل عمران: من الآية 179.

(2/167)


[31 ب] وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ أُحُدٍ، كَمَا حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَغَيْرُهُمْ، كُلٌّ قَدْ حَدَّثَ بَعْضَ الْحَدِيثَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ كُلُّهُ فِيمَا سُقْتُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ، أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لَمَّا أُصِيبَ مِنْهُمْ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ، وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ أبو سفيان ابن حَرْبٍ بِالْعِيرِ، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ [بِبَدْرٍ] [1] ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ كَانَ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ [2] وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ لَعَلَّنَا نُدْرِكُ مِنْهُ ثَأْرًا بِمَنْ أَصَابَ مِنَّا. فَاجْتَمَعُوا لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُ الْعِيرِ بِأَحَابِيشِهَا [3] وَمَنْ أَطَاعَهَا [4] مِنْ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ.
وَكَانَ أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ [5] قَدْ مَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذَا عِيَالٍ وَحَاجَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي فَقِيرٌ ذُو عِيَالٍ وَحَاجَةٍ، فَامْنُنْ عَلَيَّ. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: يَا أَبَا عَزَّةَ، إِنَّكَ امْرُؤٌ شَاعِرٌ، فَأَعِنَّا بِلِسَانِكَ فَاخْرُجْ مَعَنَا، فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَنَّ عَلِيَّ فَلَا أُرِيدُ أَنْ أُظَاهِرَ عَلَيْهِ. قَالَ [6] بَلَى، فَأَعِنَّا بِنَفْسِكَ، فَلَكَ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ رجعت أن أعينك، وإن أصبت أن
__________
[1] إضافة عن السير والمغازي لابن إسحاق 322.
[2] وتركم: أي أصابكم بالوتر وهو الذحل. ووترت الرجل أفزعته وأدركته بمكروه.
[3] الأحابيش: الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة.
[4] في السير لابن إسحاق 323 «أطاعهم» .
[5] هو عمرو بن عبد الله. (سيرة ابن هشام 3/ 148، الطبقات لابن سعد 2/ 43، تاريخ الطبري 2/ 500، البداية والنهاية 4/ 10، عيون الأثر 2/ 3، السيرة الحلبية 2/ 229 وفي السير والمغازي لابن إسحاق «أبو عزيز» .
[6] في الأصل «قالوا» والتصحيح من السياق.

(2/168)


أَجْعَلَ بَنَاتِكَ مَعَ بَنَاتِي يُصِيبُهُنَّ مَا أَصَابَهُنَّ مِنْ عُسْرٍ وَيُسْرٍ. فَخَرَجَ أَبُو عَزَّةَ يَسِيرُ في تهامة ويدعو كنانة، ويقول:
إِيهًا بَنِي عَبْدِ مَنَاةَ الرُّزَامَ [1] ... أَنْتُمْ حُمَاةٌ وَأَبُوكُمْ حَامْ
لَا يَعْدُونِي [2] نَصْرُكُمْ بَعْدَ الْعَامِ ... لَا تُسْلِمُونِي لَا يَحِلُّ إِسْلَامْ [3]
وَخَرَجَ مُسَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافَ الْجُمَحِيُّ إِلَى بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ يَدْعُوهُمْ إِلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُ شِعْرًا. وَدَعَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ غُلَامًا لَهُ حَبَشِيًّا يُقَالُ لَهُ وَحْشِيٌّ، يَقْذِفُ بِحَرْبَةٍ لَهُ قَذْفَ الْحَبَشَةِ قَلَّمَا يُخْطِئُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ:
اخْرُجْ مَعَ النَّاسِ فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ فَأَنْتَ عَتِيقٌ.
فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ بِحَدِّهَا وَحَدِيدِهَا وَأَحَابِيشِهَا وَمَنْ تَابَعَهَا، وَخَرَجُوا مَعَهُمْ بِالظَّعْنِ [4] الْتِمَاسَ الْحَفِيظَةِ وَأَنْ لَا يَفِرُّوا. وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ، وَهُوَ قَائِدُ النَّاسِ، بِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ، وَخَرَجَ عِكْرِمَةُ بِأُمِّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ [5] ، حَتَّى نَزَلُوا بِعَيْنَيْنِ [6] ، بِجَبَلِ أُحُدٍ بِبَطْنِ السَّبْخَةِ مِنْ قَنَاةٍ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي مُقَابِلَ الْمَدِينَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدَعُوهُمْ حيث
__________
[1] في الأصل: الدرام. وأثبتنا رواية ابن هشام وغيره. والرزام: جمع رازم وهو الّذي يثبت في مكانه لا يبرحه. يريد أنّهم يثبتون في الحرب ولا ينهزمون.
[2] في سيرة ابن هشام 3/ 148 «تعدوني» .
[3] وفي السير والمغازي لابن إسحاق 323:
يا بني عبد مناة الرزام ... أنتم بنو الحرب ضرّابو الهام
أنتم حماة وأبوكم حام ... لا تعدوني نَصْرُكُمْ بَعْدَ الْعَامِ
لَا تُسْلِمُونِي لَا يَحِلُّ إسلام.
وانظر مغازي الواقدي 1/ 201 وطبقات الشعراء لابن سلام 213.
[4] الظعن: جمع الظعينة، وهو الهودج، أو المرأة تكون فيه، سمّيت به على حدّ تسمية الشيء باسم الشيء لقربه منه. وأكثر ما يقال الظعينة للمرأة الراكبة ثم قيل للهودج بلا امرأة وللمرأة بلا هودج.
[5] في السير والمغازي لابن إسحاق 323 زيادة في الأسماء عما هنا. وكذلك في السيرة لابن هشام 3/ 148.
[6] عينين، ويقال «عينان» وهو هضبة جبل أحد بالمدينة، ويقال اسم لجبلين عند أحد. ويسمّى يوم أحد يوم عينين.

(2/169)


نَزَلُوا، فَإِنْ أَقَامُوا بِشَرِّ مَقَامٍ، وَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِيهَا. وَكَانَ يَكْرَهُ الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ رِجَالٌ مِمَّنْ فَاتَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَيْهِمْ لَا يَرَوْنَ أَنَّا جَبُنَّا عَنْهُمْ. فَلَمْ يَزَالُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ فَرِغَ النَّاسُ مِنَ الصَّلَاةِ. فَذَكَرَ خُرُوجَهُ وَانْخِزَالَ ابْنِ أُبَيٍّ بثلث النّاس، فاتّبعهم عبد الله [32 أ] وَالِدُ جَابِرٍ، يَقُولُ:
أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ أَنْ تَخْذِلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيَّكُمْ. قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ، وَلَكِنَّا لَا نَرَى أَنَّهُ يَكُونَ قتال. وقالت الأنصار: يا رسول الله، أَلَا نَسْتَعِينُ بِحُلَفَائِنَا مِنْ يَهُودَ؟ قَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِمْ [1] . وَمَضَى حَتَّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِنْ أُحُدٍ فِي عُدْوَةِ الْوَادِي إِلَى الْجَبَلِ، فَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ، وَقَالَ: لَا يقاتلنّ أحد حتى نأمره بِالْقِتَالِ [2] . وَتَعَبَّأَ لِلْقِتَالِ وَهُوَ فِي سَبْعِمِائَةٍ، وَأَمَّرَ عَلَى الرُّمَاةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ وَهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا، فَقَالَ:
انْضَحُوا عَنَّا الْخَيْلَ بِالنَّبْلِ، لَا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا، فَاثْبُتْ مَكَانَكَ لَا تُؤْتَيَنَّ مَنْ قِبَلِكَ وَظَاهِرْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَتَعَبَّأَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَّبُوهَا فَجَعَلُوا عَلَى الْمَيْمَنَةِ خَالِدًا، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عِكْرِمَةَ [3] . وَقَالَ سَلَّامُ بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن الْمُسَيِّبِ قَالَ: كَانَتْ رَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ مِرْطًا [4] أَسْوَدَ كَانَ لِعَائِشَةَ، وَرَايَةُ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا الْعُقَابُ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ عَلِيٌّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو السَّاعِدِيُّ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ كَانَ عَلَى الرِّجَالِ، وَيُقَالُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَكَانَ حَمْزَةُ عَلَى الْقَلْبِ، وَاللِّوَاءُ مَعَ مُصْعَبٍ، فَقُتِلَ، فَأَعْطَاهُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
__________
[1] في الأصل: فيكم. ولعلّ الوجه ما أثبتناه كما ورد في أكثر من مصدر.
[2] السير والمغازي 325، تاريخ الطبري 2/ 507.
[3] سيرة ابن هشام 3/ 150.
[4] المرط: كساء من صوف أو خزّ أو كتّان يؤتزر به، وقيل كل ثوب غير مخيط.

(2/170)


عَلِيًّا: قَالَ: وَيُقَالُ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَلْوِيَةٍ، لِوَاءً إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لِلْمُهَاجِرِينَ، وَلِوَاءً إِلَى عَلِيٍّ، وَلِوَاءً إِلَى الْمُنْذِرِ.
وَقَالَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَخَذَ سَيْفًا يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ فَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: أَنَا، أَنَا. فَقَالَ مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟ فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو دجانة سماك: أنا آخذه بحقّه. قال: فأخذه ففلق به هام الْمُشْرِكِينَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [1] . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَتَّى قَامَ إِلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ، أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: أَنْ تَضْرِبَ بِهِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى يَنْحَنِي.
قَالَ: فَأَنَا آخِذُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَكَانَ [أَبُو دُجَانَةَ] [2] رَجُلًا شُجَاعًا يَخْتَالُ عِنْدَ الْحَرْبِ، وَكَانَ إِذَا قَاتَلَ عَلَّمَ بِعِصَابَةٍ لَهُ حَمْرَاءَ فَاعْتَصَبَ بِهَا عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. فَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال حين رَآهُ يَتَبَخْتَرُ: إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ [3] . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلَابِيُّ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَازِعِ، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: عَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفًا يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟ فَقُمْتُ فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ فَقَامَ أَبُو دجانة سماك ابن خَرَشَةَ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا حقّه؟ قال: أن لا تَقْتُلْ بِهِ مُسْلِمًا وَلَا تَفِرَّ بِهِ عَنْ كَافِرٍ. قَالَ: فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْقِتَالَ أَعْلَمَ بِعِصَابَةٍ، فَقُلْتُ: لَأَنْظُرَنَّ الْيَوْمَ كَيْفَ يَصْنَعُ. قَالَ: فَجَعَلَ لَا يَرْتَفِعُ لَهُ شَيْءٌ إلّا هتكه
__________
[1] صحيح مسلم (2470) : كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي دجانة سماك بن خرشة.
[2] إضافة عن سيرة ابن هشام 3/ 150.
[3] السيرة 3/ 150.

(2/171)


وَأَفْرَاهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى نِسْوَةٍ فِي سَفْحِ جَبَلٍ مَعَهُنَّ دُفُوفٌ لَهُنَّ، فِيهُنَّ امْرَأَةٌ وَهِيَ تقول:
[32 ب] نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ ... نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ
إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ ... أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ
فِرَاقٌ غَيْرُ وامق [1]
قال: فأهوى بالسّيف إِلَى امْرَأَةٍ لِيَضْرِبَهَا، ثُمَّ كَفَّ عَنْهَا. فَلَمَّا انْكَشَفَ الْقِتَالُ قُلْتُ لَهُ: كُلُّ عَمَلِكَ رَأَيْتُ مَا خَلا رَفْعَكَ السَّيْفِ عَلَى الْمَرْأَةِ ثُمَّ لَمْ تَضْرِبْهَا. قَالَ أَكْرَمْتُ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقْتُلَ بِهِ امْرَأَةً [2] . وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسْلَمَ، مَوْلَى عُمَرَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَعْبَدِ ابن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ رَأَى أَبَا دُجَانَةَ يَتَبَخْتَرُ: إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ [3] . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ، إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ خَرَجَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ، فَأَحْجَمَ النَّاسُ عَنْهُ حَتَّى دَعَا ثَلَاثًا، وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَوَثَبَ حَتَّى اسْتَوَى مَعَهُ عَلَى بَعِيرُهُ، ثُمَّ عَانَقَهُ فَاقْتَتَلَا فَوْقَ الْبَعِيرِ جَمِيعًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الَّذِي يَلِي حَضِيضَ الْأَرْضِ [4] مَقْتُولٌ. فَوَقَعَ الْمُشْرِكِ وَوَقَعَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَذَبَحَهُ. ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
[1] النّمارق: جمع النمرقة وهي الطّنفسة أو الوسادة. والوامق: المحبّ. وراجع القول في: سيرة ابن هشام 3/ 151 والسير والمغازي لابن إسحاق 327، تاريخ الطبري 2/ 510، الطبقات الكبرى 2/ 40، الروض الأنف 3/ 161، نهاية الأرب للنويري 17/ 90، عيون الأثر 2/ 25 وغيره، ففيها اختلاف ونقص.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 152 الطبري 2/ 511.
[3] سيرة ابن هشام 3/ 150، الطبري 2/ 511.
[4] حضيض الأرض: قرارها وسافلها.

(2/172)


قَرَّبَ الزُّبَيْرَ فَأَجْلَسَهُ عَلَى فَخْذِهِ وَقَالَ: إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا [1] وَالزُّبَيْرُ حَوَارِيَّ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [2] : وَاقْتَتَلَ النَّاسُ حَتَّى حَمِيَتِ الْحَرْبُ، وَقَاتَلَ أَبُو دُجَانَةَ حَتَّى أَمْعَنَ فِي النَّاسِ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَآخَرُونَ.
وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يُحَدِّثُ قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانُوا خَمْسِينَ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، وَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفَنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، قَالَ: فَهَزَمَهُمْ.
فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ عَلَى الْجَبَلِ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِيلُهُنَّ وَسُوقُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ. فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْغَنِيمَةَ، أَيْ قَوْمَ، الْغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَهُمْ: أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: لَنَأْتِينَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ: فَأَتَوْهُمْ فَصُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ. فَذَلِكَ [الَّذِي] [3] يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ. فَلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا. فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ [4] .
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانُ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبُوهُ. ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ ثَلَاثًا. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا. فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بقي لك ما يسوؤك. فقال:
__________
[1] الحواري: الناصر المبالغ في النّصرة، والوزير والخليل، أو ناصر الأنبياء عليهم السلام خاصّة.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 151.
[3] سقطت من الأصل، واستدركناها من تاريخ ابن كثير (4/ 25) وعبارة البخاري 5/ 120:
فذاك إذ يدعوهم..
[4] تاريخ الطبري 2/ 508.

(2/173)


يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ [1] ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ مُثْلَةً [2] لَمْ أَمُرَّ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي. ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: اعْلُ هُبَلُ، اعْلُ هُبَلُ [3] .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا تُجِيبُوهُ؟ قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ.
ثُمَّ قَالَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَلا تجيبوه؟
قالوا: [33 أ] مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [4] . وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَحَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ غَشِيَهُ الْقَوْمُ: مَنْ رَجُلٍ يَشْرِي مِنَّا نَفْسَهُ؟ فَقَامَ زِيَادُ بْنُ السَّكَنِ فِي خَمْسَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: هُوَ عُمَارَةُ بْنُ زِيَادِ بْنِ السَّكَنِ، فَقَاتَلُوا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجُلٌ ثُمَّ رَجُلٌ [5] يُقْتَلُونَ دُونَهُ، حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ زِيَادًا أَوْ عُمَارَةَ، فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ. ثُمَّ فَاءَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِئَةٌ فَأَجْهَضُوهُمْ عَنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدْنُوهُ مِنِّي. فَأَدْنُوهُ مِنْهُ، فَوَسَّدَهُ قَدَمَهُ، فَمَاتَ وَخَدُّهُ عَلَى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [6] . وَتَرَّسَ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو دُجَانَةَ بِنَفْسِهِ، يَقَعُ النَّبْلُ فِي ظهره، وهو
__________
[1] سجال: أي مساجلة يدال فيها على هؤلاء مرّة، وعلى هؤلاء أخرى.
[2] المثلة: التنكيل بالقتلى بقطع أطرافهم والتشويه بهم.
[3] هبل من أصنام قريش التي كانت في جوف الكعبة وكان أعظمها عندهم. قال ابن الكلبي: كان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان (الأصنام: 28) .
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة أحد (5/ 120) ، وهذا الحديث من أفراد البخاري دون مسلم.
[5] في سيرة ابن هشام 3/ 157 «رجلا ثم رجلا» .
[6] سيرة ابن هشام 3/ 157.

(2/174)


مُنْحَنٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِ النَّبْلُ [1] .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، وَغَيْرِهِ، عَنْ أَنَسٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَفْرَدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَهَقُوهُ قَالَ:
مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ، أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَتَقَدَّمَ آخَرُ حَتَّى قُتِلَ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ لِصَاحِبَيْهِ: مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ [2] . وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهِنَّ غَيْرُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَعْدٌ، عَنْ حَدِيثِهِمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [3] .
وَقَالَ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ: رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ وَقَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [4] .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَوْلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَبَقِيَ مَعَهُ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَهُوَ يَصْعَدُ فِي الْجَبَلِ، فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. فَقَالَ أَلَا أَحَدٌ لِهَؤُلَاءِ؟ فقال طلحة:
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 157، السير والمغازي لابن إسحاق 328.
[2] صحيح مسلم (1789) : كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد.
[3] صحيح البخاري: كتاب فضائل أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، باب ذكر طلحة بن عبيد الله (5/ 27) ، وكتاب المغازي، باب إذ همّت طائفتان منكم إلخ (5/ 124) وصحيح مسلم (2414) : كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما.
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب إذ همّت طائفتان منكم إلخ (5/ 125) .

(2/175)


أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: كَمَا أَنْتَ يَا طَلْحَةُ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: فَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَاتَلَ عَنْهُ، وَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ قُتِلَ الْأَنْصَارِيُّ فَلَحِقُوهُ فَقَالَ: أَلَا أَحَدٌ لِهَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ مِثْلَ قَوْلِهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ قَوْلِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ الله، فأذن له فقاتل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَأَصْحَابُهُ يَصْعَدُونَ، ثُمَّ قُتِلَ فَلَحِقُوهُ. فَلَمْ يَزَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ وَيَقُولُ طَلْحَةُ: أَنَا فَيَحْبِسُهُ. وَيَسْتَأْذِنُهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَيَأْذَنُ لَهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا طَلْحَةُ، فَغَشَوْهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لِهَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا. فَقَاتَلَ مِثْلَ قِتَالِ جَمِيعِ مَنْ كان قبله وأصيبت أنامله، فقال:
حسّ [1] . [33 ب] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قُلْتَ بِسْمِ اللَّهِ أَوْ ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ لَرَفَعَتْكَ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ حَتَّى تَلِجَ بِكَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ. ثُمَّ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ: ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يَجُوبُ [2] عَنْهُ بِحِجْفَةٍ مَعَهُ. وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ بِالْجُعْبَةِ فِيهَا النَّبْلُ فَيَنْثُرُهَا لِأَبِي طَلْحَةَ. وَيُشْرِفُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْظُرُ إِلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَا تُشْرِفُ يُصِبْكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ.
وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا مُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا، تَنْقِلَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ.
وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَيْ طَلْحَةَ مِنَ النُّعَاسِ إمّا مرّتين أو ثلاثا.
__________
[1] حس: (بفتح الحاء وكسر السين وترك التنوين) كلمة تقال عند الألم.
[2] يجوب عنه: يترس عليه. والجوبة الترس.

(2/176)


مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [1] .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَاتَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى قُتِلَ قَتَلَهُ ابْنُ قَمِّيئَةَ [2] اللَّيْثِيُّ، وَهُوَ يَظُنُّهُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم. فرجع إلى قُرَيْشٍ فَقَالَ:
قَتَلْتُ مُحَمَّدًا [3] .
وَلَمَّا قُتِلَ مُصْعَبٌ أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللِّوَاءَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَرِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [4] .
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَاسْتَجْلَبَتْ قُرَيْشٌ مَنْ شَاءُوا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَسَارَ أَبُو سُفْيَانَ فِي جَمْعِ قُرَيْشٍ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ:
فَأَصَابُوا وَجْهَهُ، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَمُوا [5] رَبَاعِيَتَهُ، وَخَرَقُوا شَفَتَهُ. يَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِي رَمَاهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
وَعِنْدَهُ الْمَنَامُ، وَفِيهِ: فَأُوِّلَتِ الدِّرْعُ الْحَصِينَةُ الْمَدِينَةَ، فَامْكُثُوا وَاجْعَلُوا الذَّرَارِي فِي الْآطَامِ، فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِي الْأَزِقَّةِ قَاتَلْنَاهُمْ وَرَمَوْا مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ. وَكَانُوا قَدْ سَكُّوا أَزِقَّةَ المدينة بالبنيان حَتَّى كَانَتْ كَالْحِصْنِ. فَأَبَى كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا الْخُرُوجَ، وَعَامَّتُهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا. قَالَ: وَلَيْسَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَرَسٌ.
وَكَانَ حَامِلُ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ طَلْحَةُ بْنُ عُثْمَانَ، أَخُو شَيْبَةَ الْعَبْدَرِيِّ، وَحَامِلُ لِوَاءِ الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: أَنَا عَاصِمٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِمَا مَعِي، فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُثْمَانَ: هَلْ لَكَ في المبارزة؟ قال: نعم فبدره
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب إذ همّت طائفتان منكم إلخ (5/ 125) .
[2] في السيرة لابن هشام 3/ 157 «قمئة» .
[3] السير والمغازي لابن إسحاق 329.
[4] سيرة ابن هشام 3/ 153.
[5] فصمت السن: انشقت عرضا.

(2/177)


ذَلِكَ الرَّجُلَ فَضَرَبَ بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ السَّيْفُ فِي لِحْيَتِهِ.
فَكَانَ قَتْلُ صَاحِبِ الْمُشْرِكِينَ تَصْدِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فِي قَوْلِهِ] أَرَى [1] أَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا.
فَلَمَّا صُرِعَ انْتَشَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وأصحابه، وصاروا كتائب مُتَفَرِّقَةً، فَحَاسُوا [2] الْعَدُوَّ ضَرْبًا حَتَّى أَجْهَضُوهُمْ عَنْ أَثْقَالِهِمْ. وَحَمَلَتْ خَيْلُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ تَنْضَحُ بِالنَّبْلِ فَتَرْجِعُ مَفْلُولَةً. وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ فَنَهَكُوهُمْ قَتْلًا، فَلَمَّا أَبْصَرَ الرُّمَاةُ الْخَمْسُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَتَحَ، قَالُوا: وَاللَّهِ [ما] نجلس ها هنا لِشَيْءٍ. فَتَرَكُوا مَنَازِلَهُمُ الَّتِي عَهِدَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَتْرُكُوهَا، [34 أ] وَتَنَازَعُوا وَفَشِلُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ، فَأَوْجَفَتِ الْخَيْلُ فِيهِمْ قَتْلًا، وَكَانَ عَامَّتُهُمْ فِي الْعَسْكَرِ. فَلَمَّا أَبْصَرَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ اجْتَمَعُوا، وَصَرَخَ صَارِخٌ: أُخْرَاكُمْ أُخْرَاكُمْ، قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فَسَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، وَأَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ. وَأُصْعِدَ النَّاسُ فِي الشِّعْبِ لَا يَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ، وَثَبَّتَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، وَأَقْبَلَ يَدْعُو أَصْحَابَهُ مُصَعِّدًا فِي الشِّعْبِ، وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى طَرِيقِهِ، وَمَعَهُ عِصَابَةٌ مِنْهُمْ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالزُّبَيْرُ، وَجَعَلُوا يَسْتُرُونَهُ [حَتَّى] [3] قُتِلُوا إِلَّا سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً.
وَيُقَالُ: كَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ فُقِدَ، من وراء المغفر. فنادى بصورته الْأَعْلَى: اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا رَسُولُ اللَّهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ- زَعَمُوا- رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِ اسْكُتْ. وَجُرِحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ [4] .
__________
[1] في الأصل: رأى. وصحّحت العبارة بما يؤدّي المعنى.
[2] حاسوهم ضربا: بالغوا في النكاية فيهم.
[3] ليست في الأصل، وزدناها للسياق.
[4] سيرة ابن هشام 3/ 158.

(2/178)


وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ قَالَ حِينَ افْتُدِيَ: وَاللِّه إِنَّ عِنْدِي لَفَرَسًا أَعْلِفُهَا كُلَّ يَوْمٍ فَرْقَ ذُرَةٍ، وَلَأَقْتُلَنَّ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا. فَبَلَغَ قَوْلُهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَأَقْبَلَ أُبَيُّ مُقَنَّعًا فِي الْحَدِيدِ عَلَى فَرَسِهِ تِلْكَ يَقُولُ: لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا مُحَمَّدٌ. فَحَمَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [1] .
قَالَ مُوسَى: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: فَاعْتَرَضَ لَهُ رِجَالٌ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلُّوا طَرِيقَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُتِلَ مُصْعَبٌ. وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُرْقُوَةَ أُبَيٍّ مِنْ فُرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الْبَيْضَةِ وَالدِّرْع، فَطَعَنَهُ فِيهَا بِحَرْبَتِهِ، فَوَقَعَ أُبَيٌّ عَنْ فَرَسِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ طَعْنَتِهِ دَمٌ [2] .
قَالَ سَعِيدٌ: فَكُسِرَ ضِلْعٌ مِنْ أَضْلاعِهِ، فَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى 8: 17 [3] . فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ وَهُوَ يَخُورُ خُوَارَ الثَّوْرِ فَقَالُوا: مَا جَزَعُكَ؟ إِنَّمَا هُوَ خَدْشٌ. فَذَكَرَ لَهُمْ قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُ أُبَيًّا.
ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي بِي بِأَهْلِ الْمَجَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعُونَ. فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ مَكَّةَ [4] . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي حُيَيُّ بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إِلَى خَدَمِ سُوقِ هِنْدٍ وَصَوَاحِبَاتِهَا مُشَمِّرَاتٍ هَوَارِبَ، مَا دُونَ إِحْدَاهُنَّ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، إِذَا مَالَتِ الرُّمَاةُ إِلَى الْعَسْكَرِ حِينَ كَشَفْنَا الْقَوْمَ عَنْهُ يُرِيدُونَ النَّهْبَ، وَخَلَّوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ، فَأَتَيْنَا مِنْ أَدْبَارِنَا، وَصَرَخَ صَارِخٌ. أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَانْكَفَأْنَا
__________
[1] السير والمغازي لابن إسحاق 331.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 166.
[3] سورة الأنفال: من الآية 17.
[4] سيرة ابن هشام 3/ 166.

(2/179)


وَانْكَفَأَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا أَصْحَابَ لِوَائِهِمْ، حَتَّى مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يَزَلْ لِوَاؤُهُمْ صَرِيعًا حَتَّى أَخَذَتْهُ عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيَّةُ، فَرَفَعَتْهُ لِقُرَيْشٍ فَلَاذُوا بِهِ.
وَقَالَ وَرْقَاءُ، عَنِ ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله تعالى إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ 3: 152 أَيْ تَقْتُلُونَهُمْ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ 3: 152 يَعْنِي إِقْبَالُ مَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ عَلَى الْغَنِيمَةِ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ في أُخْراكُمْ 3: 153، من بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ 3: 152 [1] يعني النصر. ثم أديل [34 ب] لِلْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ بِمَعْصِيَتِهِمُ الرَّسُولَ حَتَّى حَصَبَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى السُّدِّيُّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى نَزَلَتْ فِينَا مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ من يُرِيدُ الْآخِرَةَ 3: 152 [2] .
وَقَالَ [3] هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً بَيِّنَةً، فَصَرَخَ إِبْلِيسُ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أولاهم وَاجْتَلَدُوا هُمْ وَأُخْرَاهُمْ. فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بأبيه اليمان، فقال: أبي، أبي. فو الله مَا انْحَجَزُوا عَنْهُ حَتَّى قَتَلُوهُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: غفر الله لكم. قال
__________
[1] سورة آل عمران: من الآيتين 152، 153 بتقديم وتأخير في فقرها المستشهد بحسب المعنى.
وتمام الآيتين الكريمتين: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ من بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَالله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ في أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَالله خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. 3: 152- 153.
[2] سورة آل عمران الآية 152.
[3] آخر سقط ع.

(2/180)


عروة: فو الله مَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [1] .
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ:
كَانَ حَمْزَةُ يُقَاتِلُ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَيْفَيْنِ، وَيَقُولُ: أَنَا أَسَدُ اللَّهِ.
رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرٍ مُرْسَلًا، وَزَادَ: فَعَثُرَ فَصُرِعَ مُسْتَلْقِيًا وَانْكَشَفَتِ الدِّرْعُ عَنْ بَطْنِهِ، فَزَرَقَهُ الْعَبْدُ الْحَبَشِيُّ فَبَقَرَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ إِلَى الشَّامِ. فَلَمَّا قَدِمْنَا حِمْصَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: هَلْ لَكَ فِي وَحْشِيٍّ نَسْأَلَهُ عَنْ قَتْلِ حَمْزَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. وَكَانَ وَحْشِيٌّ يَسْكُنُ حِمْصَ، فَسَأَلْنَا عَنْهُ، فَقِيلَ لَنَا: هُوَ ذَاكَ فِي ظِلِّ قَصْرِهِ كَأَنَّهُ حَمِيتٌ [2] . فَجِئْنَا حَتَّى وَقَفْنَا عَلَيْهِ يَسِيرًا فَسَلَّمْنَا، فردّ علينا السلام. وكان عبيد الله معتجرا بِعِمَامَتِهِ، مَا يَرَى وَحْشِيٌّ إِلَّا عَيْنَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: يَا وَحْشِيُّ، تَعْرِفُنِي؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، إِلَّا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ الْخِيَارِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قِتَالٍ بِنْتُ أَبِي الْعَيْصِ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا بِمَكَّةَ فَاسْتَرْضَعَتْهُ، فَحَمَلْتُ ذَلِكَ الْغُلَامَ مَعَ أُمِّهِ فَنَاوَلْتُهَا إِيَّاهُ، لَكَأَنِّي نَظَرْتُ إِلَى قَدَمَيْكَ. قَالَ: فَكَشَفَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُخْبِرُنَا بِقَتْلِ حَمْزَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ بِبَدْرٍ. فَقَالَ لِي مَوْلاي جُبَيْرُ بْنُ مطعم: إن قتلت
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب إذ همّت طائفتان منكم إلخ (5/ 125) .
[2] الحميت: الزّقّ (عن هامش ع) . قال الزبيدي في التاج 4/ 497: الحميت: الزّقّ الصغير، أو الزّق المشعر الّذي يجعل فيه السمن والعسل والزيت.. وفي حديث وحشيّ: «كأنّه حميت» أي زقّ. وفي حديث هند لما أخبرها أبو سفيان بدخول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكة، قالت: «اقتلوا الحميت الأسود» تعنيه استعظاما لقوله.

(2/181)


حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأَنْتَ حُرٌّ. فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ عَنْ [1] عَيْنَيْنِ- وَعَيْنَيْنُ [2] جَبَلٌ تَحْتَ أُحُدٍ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُحُدٍ وَادٍ- خَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ إِلَى الْقِتَالِ. فَلَمَّا أَنِ اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ خَرَجَ سِبَاعٌ: فَقَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ، فَقَالَ: يَا سِبَاعُ يَا بْنَ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ [3] ، تُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ، فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ. قَالَ فَكَمَنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ حَتَّى مَرَّ عَلَيَّ، فَرَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا فِي ثُنَّتِهِ [4] حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ وَرِكِهِ، فَكَانَ ذَاكَ الْعَهْدُ بِهِ. فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ رَجَعْتُ مَعَهُمْ، فَأَقَمْتُ بِمَكَّةَ حَتَّى فَشَا فِيهَا الْإِسْلَامُ، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الطَّائِفِ. قَالَ: وَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلًا، وَقِيلَ إِنَّهُ لَا تَهِيجُ الرُّسُلُ، فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ. فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: أَنْتَ وَحْشِيٌّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: الّذي قتل حمزة؟ [35 أ] قُلْتُ: نَعَمْ، قَدْ كَانَ الْأَمْرُ الَّذِي بَلَغَكَ. قَالَ: مَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ عَنِّي وَجْهَكَ؟ قَالَ: فَرَجَعْتُ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ مُسَيْلَمَةُ، قُلْتُ: لَأَخْرُجَنَّ إِلَيْهِ لَعَلِّي أَقْتُلُهُ فَأُكَافِئُ بِهِ حَمْزَةَ. فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا كَانَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي ثُلْمَةِ جِدَارٍ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ ثَائِرٌ رَأْسُهُ. قَالَ: فَأَرْمِيهِ بِحَرْبَتِي فَأَضَعَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، وَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ.
قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: فَسَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَتْ جَارِيَةٌ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ: وَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَتَلَهُ الْعَبْدُ الأسود [5] .
__________
[1] كذا بالأصل، ورواية البخاري «عام عينين» .
[2] في الأصل: وعينون. والمثبت عن البخاري.
[3] البظور: بضم الباء، مفردها بظر، ما بين استي المرأة. (تاج العروس 10/ 216) .
[4] الثنة: وسط الإنسان (عن الهامش) وهي ما بين السّرّة إلى العانة. وفي تاريخ الطبري:
2/ 517: «فوقعت في لبّته حتى خرجت من بين رجليه» . وفي تاريخ الخميس 1/ 479 «فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه» . وانظر: السير والمغازي لابن إسحاق 329.
[5] تاريخ الخميس 1/ 480.

(2/182)


أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [1] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [2] : ذَكَرَ الزُّهْرِيُّ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ وَقَوْلُ النَّاسِ: قَتَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ. قَالَ:
عَرَفْتُ عَيْنَيْهِ تُزْهِرَانِ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ، فَنَادَيْتُ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ.
أَبشِروا، هَذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَشَارَ إِلَيِّ أَنْ أَنْصِتْ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ. فَلَمَّا أَسْنَدَ فِي الشِّعْبِ [3] أَدْرَكَهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَهُوَ يَقْولُ: يَا مُحَمَّدُ [4] ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَوْتَ. الْحَدِيثَ.
وَقَالَ هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ الزُّهْرِيُّ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، سَمِعَ سَعْدًا يَقُولُ: نَثَلَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِنَانَتَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَالَ: ارْمِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [5] .
وَقَالَ ابْنِ إِسْحَاقَ [6] : حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عن الزُّبَيْرِ قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ يَوْمَئِذٍ، فلم يستطيع أن ينهض إليها، يعني إلى صخرة في الْجَبَلِ، فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى استوى عليها [7] . فقال رسول
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي: باب قتل حمزة رضي الله عنه (5/ 128) .
[2] سيرة ابن هشام 3/ 158 و 166، الأغاني 15/ 195، 196.
[3] أسند فيه: أي رقى فيه.
[4] في السيرة: «أي محمد» 3/ 166 وفي تاريخ الطبري 2/ 518 «أين محمد» وكذلك في السير والمغازي لابن إسحاق 331.
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب إذ همّت طائفتان منكم إلخ (5/ 124) . والنظر السير والمغازي لابن إسحاق 328.
[6] سيرة ابن هشام 3/ 167، 168.
[7] السير والمغازي لابن إسحاق 332.

(2/183)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ [1] . وَقَالَ حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: غَابَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَئِنِ اللَّهَ أَشْهَدَنِي قِتَالًا لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ: اللَّهمّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ؟ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، وَأَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ فَلَقِيَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: أَيْ سَعْدُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ، وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ! قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَنَسٌ: وَجَدْنَاهُ بَيْنَ الْقَتْلَى، بِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ جِرَاحَةً مِنْ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَطَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، قَدْ مَثَّلُوا بِهِ فَمَا عَرَفْنَاهُ، حَتَّى عَرَفَتْهُ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ [2] . قَالَ أَنَسٌ: فَكُنَّا نَقُولُ: أُنْزِلَ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا الله عَلَيْهِ 33: 23 [3] ، أَنَّهَا فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [4] ، لَكِنَّ مسلم مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُقْيَشٍ كَانَ لَهُ رَبًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَرِهَ أَنْ يُسْلِمَ حَتَّى يَأْخُذَهُ. فَجَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: أَيْنَ بَنُو عَمِّي؟ قَالُوا: بِأُحُدٍ. فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ وَرَكِبَ فَرَسَهُ ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا. قَالَ: إِنِّي قَدْ آمَنْتُ. فَقَاتَلَ حَتَّى جُرِحَ، فَحُمِلَ جَرِيحًا، فَجَاءَهُ سَعْدُ بن معاذ فقال لأخته: سليه، حميّة
__________
[1] كذا رواه الترمذي وأورده في الرياض النضرة بتغيير يسير عن عبد الله بن الزبير عن أبيه.
وأخرجه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. (انظر تاريخ الخميس 1/ 492) .
[2] تاريخ الطبري 2/ 517، 518 السير والمغازي لابن إسحاق 330، النهاية لابن الأثير 1/ 157.
[3] سورة الأحزاب: من الآية 23.
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة أحد (5/ 122) وصحيح مسلم: كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد (6/ 45) . وانظر المنتقى، وتاريخ الخميس 1/ 489.

(2/184)


لِقَوْمِكَ أَوْ غَضَبًا للَّه؟ قَالَ: بَلْ غَضَبًا [35 ب] للَّه وَرَسُولِهِ. فَمَاتَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَا صَلَّى صَلَاةً.
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ [1] .
وَقَالَ حَيَّوَيْهِ بْنُ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ، أَنَّ يَحْيَى بْنَ النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: أَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ [2] إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أُقْتَلَ، أَمْشِي بِرِجْلِي هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ؟ وَكَانَ أَعْرَجَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ. فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ هُوَ وَابْنُ أَخِيهِ وَمَوْلًى لَهُمْ، فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَأَنِّي أَرَاكَ تَمْشِي بِرِجْلِكَ هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ. وَأَمَرَ بِهِمَا وَبِمَوْلَاهِمَا فَجُعِلَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ [3] . وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ: اللَّهمّ إِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ أَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا فَيَقْتُلُونِي ثُمَّ يَبْقُرُوا بَطْنِي وَيَجْدَعُوا أَنْفِي وَأُذُنِي، ثُمَّ تَسْأَلُنِي بِمَ ذَاكَ، فَأَقُولُ: فِيكَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَبَرَّ اللَّهُ آخِرَ قَسَمَهُ كَمَا أَبَرَّ أَوَّلَهُ [4] .
وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي «الْمُوَفَّقِيَّاتِ» [5] ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، أَنَّ سَيْفَهُ انْقَطَعَ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْجُونًا فَصَارَ فِي يَدِهِ سَيْفًا. فَكَانَ يُسمَّى الْعُرْجُونُ، وَلَمْ يَزَلْ يُتَنَاوَلُ [6] حَتَّى بِيعَ مِنْ بُغَا التُّرْكِيِّ بِمِائَتَيْ دينار [7] .
__________
[1] سنن أبي داود: كتاب الجهاد، باب فيمن يسلم ويقتل مكانه في سبيل الله تعالى (2/ 19) .
[2] انظر عنه: المحبّر 304.
[3] الإصابة 2/ 530.
[4] الاستيعاب: 2/ 274 وصفة الصفوة 1/ 385، 386.
[5] الأخبار الموفقيات، 390، 391 و 623.
[6] كذا في الأصل، ع والموفقيات المطبوع، وعبارة ابن الملا «يتداول» . ولعلها الوجه.
[7] الأخبار الموفقيات: ص 390، 623. وانظر الخبر أيضا في الاستيعاب لابن عبد البر

(2/185)


وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ مِنَ السَّابِقِينَ، أَسْلَمَ قَبْلَ دَارِ الْأَرْقَمِ، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ هُوَ وَإِخْوَتُهُ وَشَهِدَ بَدْرًا.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَحْشِيِّ: ثَنَا أَشْيَاخُنَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَدْ ذَهَبَ سَيْفُهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَسِيبًا مَنْ نَخْلٍ، فَرَجَعَ فِي يَدِ عَبْدِ اللَّهِ سَيْفًا. مُرْسَلٌ.
عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ لِطَلَبِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ لِي: إِنْ رأيته فأقرئه مِنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ:
يَقْولُ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى، فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ وَبِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً، فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: خَبِّرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: عَلَى رَسُولِ اللَّهِ السَّلَامُ وَعَلَيْكَ، قُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِيَ الْأَنْصَارِ: لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ إِنْ خَلُصَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُفْرٌ يَطْرِفُ [1] . قَالَ: وَفَاضَتْ نَفْسُهُ [2] .
أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، ثُمَّ سَاقَهُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ [3] ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَازِنِيِّ، مُنْقَطِعًا، فَهُوَ شَاهِدٌ لِمَا رَوَاهُ خَارِجَةُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ثُمَّ انْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى أَثْقَالِهِمْ، لَا يَدْرِي الْمُسْلِمُونَ مَا يُرِيدُونَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ رأيتموهم ركبوا وجعلوا الأثقال [4]
__________
[2] / 272، 273 والإصابة لابن حجر 2/ 286، 287.
[1] الشفر: شفر العين، وهو أصل منبت الشعر في الجفن. (تاج العروس 12/ 207) .
[2] انظر الموطأ للإمام مالك كتاب الجهاد 310 رقم 1004، صفة الصفوة 1/ 480، 481، تاريخ الخميس 1/ 495، الأغاني 15/ 200، 201، السير والمغازي 334، 335.
[3] سيرة ابن هشام 3/ 171.
[4] الأثقال: جمع الثقل، محركة، وهو متاع المسافر وحشمه.

(2/186)


تَتْبَعُ آثَارَ الْخَيْلِ، فَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوا مِنَ الْبُيُوتِ وَالْآطَامِ الَّتِي فِيهَا الذَّرَارِي، وَأُقْسِمُ باللَّه لَئِنْ فَعَلُوا لَأُوَاقِعَنَّهُمْ فِي جَوْفِهَا، وَإِنْ كَانُوا رَكِبُوا الْأَثْقَالَ وَجَنَّبُوا الْخَيْلَ فَهُمْ يُرِيدُونَ الْفِرَارَ [1] . فَلَمَّا أَدْبَرُوا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فِي آثَارِهِمْ. فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: رَأَيْتُهُمْ سَائِرِينَ عَلَى أَثْقَالِهِمْ وَالْخَيْلُ مَجْنُوبَةٌ. قَالَ: فَطَابَتْ أَنْفُسُ القوم، وانتشروا [36 أ] يَبْتَغُونَ قَتْلَاهُمْ. فَلَمْ يَجِدُوا قَتِيلًا إِلَّا مَثَّلُوا بِهِ، إِلَّا حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ [2] ، وَكَانَ أَبُوهُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَتُرِكَ [3] لِأَجَلِهِ. وَزَعَمُوا أَنَّ أَبَاهُ وَقَفَ عَلَيْهِ قَتِيلًا فَدَفَعَ صَدْرَهُ برِجْلِهِ ثُمَّ قَالَ:
ذَنْبَانِ أَصَبْتَهُمَا، قَدْ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ فِي مَصْرَعِكَ هَذَا يَا دُبَيْسُ [4] ، وَلَعَمْرِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ لَوَاصِلًا لِلرَّحِم بَرًّا بِالْوَالِدِ. وَوَجَدُوا حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ وَحُمِلَتْ كَبِدُهُ، احْتَمَلَهَا وَحْشِيٌّ وَقَدْ قَتَلَهُ، فَذَهَبَ بكَبِدِه إِلَى هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ فِي نَذْرٍ نَذَرَتْهُ حِينَ قُتِلَ أَبَاهَا يَوْمَ بَدْرٍ. فَدُفِنَ فِي نَمِرَةٍ [5] كَانَتْ عَلَيْهِ، إِذَا رُفِعَتْ إِلَى رَأْسِهِ بَدَتْ قَدَمَاهُ، فَغَطُّوا قَدَمَيْهِ بِشَيْءٍ مِنَ الشَّجَرِ [6] .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ
__________
[1] المغازي لعروة 334، سيرة ابن هشام 3/ 170، 171، تاريخ الطبري 2/ 527، الأغاني 15/ 201.
[2] هو المعروف بغسيل الملائكة، انظر عنه: تاريخ خليفة 1/ 34، الجرح والتعديل 3/ 239، المستدرك على الصحيحين 3/ 204، حلية الأولياء 1/ 357، الطبري 2/ 521، 522، الاستيعاب 1/ 380، المعارف 343، طبقات الصوفية 403، أنساب الأشراف 1/ 320، 321 و 329، 330، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 170، صفة الصفوة 1/ 248، الوافي بالوفيات 13/ 207، الإصابة 1/ 360، تعجيل المنفعة 108.
[3] في الأصل: فنزل. والتصحيح من ع.
[4] يراد بالدبيس: عسل التمر، وهو نداء حلو من الأب المشرك لابنه المسلم الشهيد. (انظر نسخة شعيرة 203 حاشية 1) .
[5] النمرة: كل شملة مخطّطة من مآزر الأعراب. (تاج العروس 14/ 294) .
[6] سيرة ابن هشام 3/ 172.

(2/187)


يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إِلَّا وَهُوَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يُدْمِي، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَرِيحُهُ ريح المسك [1] .
وقال: إنّ المشركين لَنْ يُصِيبُوا مِنَّا مِثْلَهَا. وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ نَادَاهُمْ حِينَ ارْتَحَلَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْمَوْسِمُ، مَوْسِمُ بَدْرٍ. وَهِيَ سُوقٌ كَانَتْ تَقُومُ بِبَدْرٍ كُلَّ عَامٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا لَهُ: نَعَمْ [2] .
قَالَ: وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا النَّوْحُ فِي الدُّورِ. قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا:
نِسَاءُ الْأَنْصَارِ يَبْكِينَ قَتْلَاهُمْ. وَأَقَبْلَتِ امْرأَةٌ تَحْمِلُ ابْنَهَا وَزَوْجَهَا عَلَى بَعِيرٍ، قَدْ رَبَطَتْهُمَا بِحَبْلٍ ثُمَّ رَكِبَتْ بَيْنَهُمَا وَحُمِلَ، قِيلَ [3] : فَدُفِنُوا فِي مَقَابِرِ الْمَدِينَةِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: وَارُوهُمْ حَيْثُ أُصِيبُوا [4] .
وَقَالَ لَمَّا سَمِعَ الْبُكَاءَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ. وَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَسَمِعَ ذَلِكَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَابْنُ رَوَاحَةَ وَغَيْرُهُمَا، فَجَمَعُوا كُلَّ نَائِحَةٍ وَبَاكِيَةٍ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا تَبْكِينَ قَتْلَى الْأَنْصَارِ حَتَّى تَبْكِينَ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ. فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُكَاءِ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: فَأُخْبِرَ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ خَيْرًا، وَقَالَ: مَا هَذَا أَرَدْتُ وَمَا أُحِبُّ الْبُكَاءَ، وَنَهَى عَنْهُ [5] . وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ [6] الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: انْتَهَى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ إِلَى عُمَرَ، وَطَلْحَةَ، وَرِجَالٍ قَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ فَقَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ؟ فَقُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَليْه وَسَلَّمَ، ثم
__________
[1] المستدرك على الصحيحين 2/ 120.
[2] انظر السيرة 3/ 170.
[3] كذا في الأصل، ع.
[4] انظر مثله في سيرة ابن هشام 3/ 172.
[5] سيرة ابن هشام 3/ 172، 173، والمغازي لعروة 171.
[6] في طبعة القدسي 168 وطبعة شعيرة 204 «نافع» والتصحيح من الجرح والتعديل 7/ 113 رقم 652 وسيرة ابن هشام.

(2/188)


اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ [1] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الْتَقَى هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَلَمَّا اسْتَعْلَاهُ حَنْظَلَةُ رَآهُ شَدَّادُ بْنُ الْأَسْوَدِ. فَضَرَبَ حنظلة بالسيف فقتله [2] .
وحدّثني عاصم بن عمرو بن قَتَادَةَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَتَغْسِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، يَعْنِي حَنْظَلَةَ، فَسَأَلُوا [3] أَهْلَهُ مَا شَأْنُهُ؟ فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ قَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَيْعَةَ [4] . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَخَلُصَ الْعَدُوُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدُثَّ [5] بِالْحِجَارَةِ حَتَّى وَقَعَ لشقّه فأصيبت رباعيّته، وشجّ [36 ب] فِي وَجْهِهِ، وَكُلِمَتْ شَفَتُهُ. وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. فَحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ، فَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ وَهُوَ يَمْسَحُهُ وَيَقُولُ. كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ نَبِيَّهُمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟ فَنَزَلَتْ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ 3: 128 [6] .
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن سهل بن سعد، قال:
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 157، 158.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 154، تاريخ الطبري 2/ 522.
[3] هكذا في الأصل، وفي سيرة ابن هشام 3/ 154، وفي تاريخ الطبري 2/ 522 «فسلوا» ، وكذلك في المختصر لابن الملا.
[4] الهيعة: الصوت الّذي تفزع منه وتخافه من العدو.
[5] الدّثّ: الرمي المقارب المؤلم. (تاج العروس 5/ 247) .
[6] سورة آل عمران: الآية 128. والخبر في السيرة ابن هشام 3/ 156 والطبقات لابن سعد 2/ 44، 45.

(2/189)


جُرِحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُشِّمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ، فَكَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغْسِلُ الدَّمَ، وَعَلِيٌّ يَسْكُبُ الْمَاءَ عَلَيْهِ بِالْمِجَنِّ.
فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ أَحْرَقَتْهُ، حَتَّى إِذَا صَارَ رَمَادًا أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ، فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ.
أَخْرَجَاهُ [1] ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ أُصِيبَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَهُشِّمَتْ بَيْضَتُهُ. وَذَكَرَ بَاقِي الْحَدِيثِ [2] .
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِرَسُولِ اللَّهِ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [3] ، وَلِلْبُخَارِيِّ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
لَكِنْ فِيهِ: دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ، بَدَلَ ذِكْرِ رَبَاعِيَتِهِ [4] .
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ:
أَخْبَرَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا ذُكِرَ يَوْمُ أُحُدٍ بَكَى ثُمَّ قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ كَانَ كُلُّهُ يَوْمَ طَلْحَةَ. ثم أنشأ يحدّث قال:
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب حدّثنا قتيبة بن سعيد (5/ 130) ، وصحيح مسلم (1790) : كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، ورواه ابن سعد في طبقاته 2/ 48.
[2] صحيح مسلم: الموضع السابق.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب ما أصاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الجراح يوم أحد (5/ 129) ، وصحيح مسلم (1793) ، كتاب الجهاد والسير، باب اشتداد غضب الله على من قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب ما أصاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم من الجراح يوم أحد (5/ 129) .

(2/190)


كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَاءَ [1] يَوْمَ أُحُدٍ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا يُقَاتِلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَهُ. وَأَرَاهُ قَالَ: يَحْمِيهِ، فَقُلْتُ: كُنْ طَلْحَةَ، حَيْثُ فَاتَنِي مَا فَاتَنِي، قُلْتُ: يكون رجلا من قومي أحبّ إليّ. وبيني وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ [2] رَجُلًا لَا أَعْرِفُهُ، وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، وَهُوَ يَخْطِفُ الْمَشْيَ خَطْفًا لَا أَخْطِفُهُ. فَإِذَا هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ. فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي وَجْهِهِ حَلَقَتَانِ مِنْ حَلْقِ الْمِغْفَرِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمَا صَاحِبُكُمَا، يُرِيدُ طَلْحَةَ وَقَدْ نَزَفَ. فَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ، وَذَهَبْتُ لِأَنْزِعَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهِهِ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي لَمَا تَرَكْتَنِي. فَتَرَكْتُهُ. فَكَرِهَ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا بِيَدِهِ فَيُؤْذِي النَّبِيَّ، فَأَزَمَّ عَلَيْهِمَا بِفِيهِ، فَاسْتَخْرَجَ إِحْدَى الْحَلَقَتَيْنِ. وَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ مَعَ الْحَلَقَةِ. وَذَهَبْتُ لِأَصْنَعَ مَا صَنَعَ، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي لَمَا تَرَكْتَنِي. فَفَعَلَ ما فعل فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ الْأُخْرَى مَعَ الْحَلَقَةِ. فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ هَتْمًا، فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَتَيْنَا طَلْحَةَ فِي بَعْضِ تلك الجفار [3] [37 أ] ، فَإِذَا بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ، مِنْ بَيْنِ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ وَضَرْبَةٍ، وَإِذَا قَدْ قُطِعَتْ إِصْبَعُهُ. فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِهِ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنِ ابن أبي سبرة، عَنْ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ: شَهِدْتُ أُحُدًا، فَنَظَرْتُ إِلَى النَّبْلِ يَأْتِي مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطَهَا، كُلُّ ذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْهُ. وَلَقَدْ رَأَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شهاب
__________
[1] فاء: رجع، وفاء إلى الأمر يفيء. (تاج العروس 1/ 355) وفي نسخة شعيرة 205 «ناء» وهو تصحيف لا معنى له هنا.
[2] في الأصل، ع: (المشرق) . وأثبتنا عبارة ابن الملا، ولعلّها الوجه.
[3] الجفار: جمع جفر، البئر الواسعة التي لم تطو. أو هي التي طوي بعضها ولم يطو بعض (تاج العروس 10/ 448) .

(2/191)


الزُّهْرِيُّ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ، فَلَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا. وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِهِ مَا مَعَهُ أَحَدٌ، [ثُمَّ] [1] تَجَاوَزَهُ فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ صَفْوَانُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ، أَحْلِفُ باللَّه أَنَّهُ مِنَّا مَمْنُوعٌ، خَرَجْنَا أَرْبَعَةٌ فَتَعَاهَدْنَا وَتَعَاقَدْنَا عَلَى قَتْلِهِ، فَلَمْ نَخْلُصُ إِلَى ذَلِكَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: الثَّبْتُ عِنْدَنَا أَنَّ الَّذِي رَمَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْنَتَيْهِ:
ابْنُ قَمِئَةَ، وَالَّذِي رَمَى شَفَتَيْهِ وَأَصَابَ رَبَاعِيَتَهُ: عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ [2] .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [3] : حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ أَحَدٍ قَطُّ مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمْتُهُ لَسَيِّءَ الْخُلُقِ مُبْغَضًا فِي قَوْمِهِ، وَلَقَدْ كَفَانِي مِنْهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَعَنْ عُثْمَانَ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مِقْسَمٍ [4] أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى عُتْبَةَ حِينَ كَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ: اللَّهمّ لَا تُحِلْ عَلَيْهِ [5] الْحَوْلَ حَتَّى يَمُوتَ كَافِرًا. فَمَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ حَتَّى مَاتَ كَافِرًا إِلَى النَّارِ. مُرْسَلٌ. ابْنُ وَهْبٍ: أَنْبَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ السَّائِبِ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ وَالِدَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ [6] لَمَّا جُرِحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، مَصَّ جُرْحَهُ حَتَّى أَنْقَاهُ وَلَاحَ [7] أَبْيَضَ، فَقِيلَ لَهُ: مُجَّهُ. فَقَالَ: لَا والله لا أمجّه أبدا. ثم
__________
[1] زيادة من ع.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 156، تاريخ الطبري 2/ 515.
[3] سيرة ابن هشام 3/ 167، تاريخ الطبري 2/ 519.
[4] مقسم: بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين المهملة، وهو ابن بجرة. (الإصابة 3/ 455 رقم 8185، تهذيب التهذيب 10/ 288، 289، رقم 507) .
[5] في الأصل: عنه، والتصحيح من ع.
[6] هو مالك بن سنان. انظر: سيرة ابن هشام 3/ 156 والإصابة 3/ 345، 346.
[7] في الأصل: ولا أبيض. والتحرير من ع.

(2/192)


أَدْبَرَ فَقَاتَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» . فَاسْتُشْهِدَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ [1] :
إِذَا اللَّهُ جَازَى مَعْشَرًا بِفِعَالِهِمْ ... وَنَصَرَهُمُ الرَّحْمَنُ رَبُّ الْمَشَارِقِ
فَأَخْزَاكَ رَبِّي يَا عُتَيْبُ بْنَ مَالِكٍ ... وَلَقَّاكَ قَبْلَ الْمَوْتِ إِحْدَى الصَّوَاعِقِ
بَسَطْتَ يَمِينًا لِلنَّبِيِّ تَعَمُّدًا ... فَأَدْمَيْتَ فَاهُ، قُطِّعْتَ بِالْبَوَارِقِ
فَهَلَّا ذَكَرْتَ اللَّهَ وَالْمَنْزِلَ الَّذِي ... تَصِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ إِحْدَى الْبَوَائِقِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [2] : وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ عُتْبَةَ كَسَرَ رَبَاعِيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيُمْنَى السُّفْلَى، وَجَرَحَ شَفَتَهُ السُّفْلَى. وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شِهَابٍ شَجَّهُ فِي جَبْهَتِهِ. وَأَنَّ ابْنَ قَمِئَةَ جَرَحَ وَجْنَتَهُ، فَدَخَلَتْ حَلَقَتَانِ مِنْ حَلْقِ الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتِهِ، وَوَقَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُفْرَةٍ مِنَ الْحُفَرِ الَّتِي عَمِلَ أَبُو عَامِرٍ لِيَقَعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذَ عَلِيٌّ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَفَعَهُ طلحة [37 ب] حَتَّى اسْتَوَى قَائِمًا. وَمَصَّ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ، أبو أبي سَعِيدٍ [الْخُدْرِيُّ] [3] ، الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ ازْدَرَدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ مَسَّ دَمُهُ دَمِي لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ. مُنْقَطِعٌ. قَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [4] : وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى عَنْ قَوْسِهِ حَتَّى انْدَقَّتْ سِيَتُهَا [5] ، فَأَخَذَهَا قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ. وَأُصِيبَتْ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ قَتَادَةَ، حَتَّى وَقَعَتْ على وجنته. فحدّثني
__________
[1] ديوانه، ص 291 باختلاف في بعض الألفاظ. وهي في سيرة ابن هشام 3/ 157.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 156
[3] زيادة من ع والسيرة.
[4] سيرة ابن هشام 3/ 157.
[5] في هامش ع: «اندقّت سيتها هو ما عطف من طرفيها» وسية القوس: طرفه.

(2/193)


عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهَا بِيَدِهِ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ عينيه وأحدّهما [1] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثَنَا مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيُّ، عَنْ عَمَّتِهِ، عَنْ أُمِّهَا، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: فَرُبَّمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يَوْمَ أُحُدٍ يَرْمِي عَنْ [2] قَوْسِهِ، وَيَرْمِي بِالْحَجَرِ، حَتَّى تَحَاجَزُوا، وَثَبَتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ فِي عِصَابَةٍ صَبَرُوا مَعَهُ.
هَذَانِ الْحَدِيثَانِ ضَعِيفَانِ، فِيهِمَا أَنَّهُ رَمَى بِالْقَوْسِ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ [3] نَزِيلُ وَاسِطَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، وَكَانَ أَخَا أَبِي سَعِيدٍ لِأُمِّهِ، أَنَّ عَيْنَهُ ذَهَبَتْ يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهَا، فَاسْتَقَامَتْ.
وَقَالَ يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ [4] ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، أَنَّهُ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَسَالَتْ حَدَقَتُهُ عَلَى وَجْنَتِهِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوهَا، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
لَا. فَدَعَا بِهِ فَغَمَزَ حَدَقَتَهُ بِرَاحَتِهِ. فَكَانَ لَا يَدْرِي أَيَّ عَيْنَيْهِ أصيبت.
__________
[1] في الأصل، ع: وأحدّها. والتحرير من ابن الملا والسيرة، وتاريخ الطبري 2/ 516.
[2] في الأصل: على، والتصحيح من اللغة.
[3] هو: سليمان بْن أحمد بْن محمد بْن سليمان بْن حبيب أبو محمد الجرشي الدمشقيّ الناظر. قال أبو حاتم الرازيّ: كتبت عنه قديما وكان حلوا وتغيّر بأخرة. (الجرح والتعديل 4/ 101، تاريخ بغداد 9/ 49، الأنساب 128 أ، تاريخ دمشق (مخطوطة التيمورية) 16/ 387، تهذيب تاريخ دمشق 4/ 244) .
[4] لحمّاني: بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم. وهو يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن. (اللباب 1/ 386) .

(2/194)


كَذَا قَالَ ابْنُ الْغَسِيلِ: يَوْمُ بَدْرٍ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: إِنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، وَاسْمُهُ حُسَيْلُ بْنُ جُبَيْرٍ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ، زَعَمُوا، فِي الْمَعْرَكَةِ لَا يَدْرُونَ مَنْ أَصَابَهُ. فَتَصَدَّقَ حُذَيْفَةُ بِدَمِهِ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ.
قَالَ مُوسَى: وَجَمِيعُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا.
وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: حَمَلَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَقَتَلَ مُصْعَبًا. وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْقُوَةَ أُبَيٍّ فَطَعَنَهُ بِحَرْبَتِهِ فَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا دَمٌ فَأَتَاهُ أَصْحَابِهِ فَاحْتَمَلُوهُ وَهُوَ يَخُورُ.
وَرَوَى نَحْوَهُ الزُّهْرِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَاتَ أَبِي بِبَطْنِ رَابِغٍ [1] ، فَإِنِّي لَأَسِيرُ بِبَطْنِ رَابِغٍ بَعْدَ هَوِيٍّ [2] مِنَ اللَّيْلِ إِذَا نَارٌ تَأَجَّجُ لِي فَهِبْتُهَا، فَإِذَا رَجُلٌ يخرج منها في سلسلة يجتذبها [38 أ] يَصِيحُ: الْعَطَشَ. وَرَجُلٌ يَقُولُ: لَا تَسْقِهِ، فَإِنَّ هَذَا قَتِيلُ [3] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْد الله بْن عَبْد الله بْن عُتْبَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا نُصِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْطِنٍ كَمَا نصر يوم
__________
[1] رابغ: واد بين الجحفة وودّان، وقيل بين الأبواء والجحفة. (معجم البلدان 3/ 11) .
[2] الهويّ من الليل: ساعة ممتدّة منه أو هزيع منه.
[3] في الأصل: قتل. والتصحيح من ع.

(2/195)


أحد. فأنكرنا ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كِتَابُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ 3: 152 وَالْحَسُّ: الْقَتْلُ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ 3: 152 [1] الْآيَةَ. وَإِنَّمَا عَنَى بِهَذَا الرُّمَاةَ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَهُمْ فِي مَوْضِعٍ. وَقَالَ: احْمُوا ظُهُورَنَا، فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلا تَنْصُرُونَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلَا تُشْرِكُونَا. فَلَمَّا غَنِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْكَفَأَ عَسْكَرُ الْمُشْرِكِينَ، نَزَلَتِ الرُّمَاةُ فدخلوا في العسكر ينتهبون، وَقَدِ الْتَفَّتْ صُفُوفُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ هَكَذَا، وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ، وَانْتَشَبُوا [2] . فَلَمَّا خَلَّى الرُّمَاةُ تِلْكَ الْخِلَّةَ [3] الَّتِي كَانُوا فِيهَا، دَخَلَ الْخَيْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَرَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْتَبَسُوا [4] . وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَاسٌ كَثِيرٌ. وَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ أَوَّلُ النَّهَارِ، حَتَّى قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ سَبْعَةٌ أَوْ تِسْعَةٌ. وَجَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً نَحْوَ الْجَبَلِ. وَصَاحَ الشَّيْطَانُ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ. فَلَمْ يُشَكَّ فِيهِ أَنَّهُ حَقٌّ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: كُنْتُ مِمَّنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ، حَتَّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي مِرَارًا.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [5] .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ:
__________
[1] سورة آل عمران: من الآية 152.
[2] في الأصل: التبسوا. والتصحيح من مسند أحمد (1/ 287) وتفسير ابن كثير (2/ 114) وانتشبوا أي تضامّوا وتعلّق بعضهم ببعض. (تاج العروس 4/ 269) .
[3] الخلة: الهضبة.
[4] في هامش الأصل: التبسوا أي اختلطوا.
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نعاسا» إلخ (5/ 127) .

(2/196)


رَفَعْتُ رَأْسِي يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ، وَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَمِيدُ [1] تَحْتَ حَجَفَتِهِ مِنَ النُّعَاسِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ من بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً 3: 154 [2] الآية.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَسْمَعُ قَوْلَ مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ [3] ، وَإِنَّ النُّعَاسَ لَيَغْشَانِي مَا أَسْمَعُهَا مِنْهُ إِلَّا كَالْحُلْمِ، وَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كانَ لَنا من الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا 3: 154 [4] .
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أُلْقِيَ عَلَيْنَا النَّوْمُ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيِّ وَجَمَاعَةٍ، قَالُوا: كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ بَلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ، اخْتَبَرَ اللَّهُ بن الْمُؤْمِنِينَ، وَمَحَقَ بِهِ الْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ إِسْلَامَهُ بِلِسَانِهِ، وَيَوْمَ أَكْرَمَ اللَّهُ فِيهِ بِالشِّهَادَةِ غَيْرَ وَاحِدٍ، وَكَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ سِتُّونَ آيَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ [5] .
وَقَالَ الْمَدِينِيُّ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: كانت [38 ب] راية رسول الله صلى الله عليه وسلم مِرْطًا أَسْوَدَ كَانَ لِعَائِشَةَ، وَرَايَةُ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا الْعُقَابُ، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو السَّاعِدِيُّ، والزّبير بن العوّام على الرجال، ويقال
__________
[1] أثبتها شعيرة 211 «قعيد» .
[2] سورة آل عمران: من الآية 154.
[3] الإصابة 3/ 443.
[4] سورة آل عمران- الآية 154.
[5] سيرة ابن هشام 3/ 181.

(2/197)


الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى الْقَلْبِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَلِوَاءُ قُرَيْشٍ مَعَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ فَقَتَلَهُ عَلِيٌّ، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ سَعْدُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ فَقَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، فَأَخَذَهُ عُثْمَانُ [1] بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، فَقَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، فَأَخَذَهُ الْجُلَاسُ بْنُ طَلْحَةَ، فَقَتَلَهُ ابْنُ أَبِي الْأَقْلَحِ أَيْضًا [2] ، ثُمَّ كِلَابٌ وَالْحَارِثُ ابْنَا طَلْحَةَ، فَقَتَلَهُمَا قُزْمَانُ حَلِيفُ بَنِي ظَفَرٍ، وَأَرْطَاةُ بْنُ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ الْعَبْدَرِيُّ قَتَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ [3] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَخَذَهُ أَبُو يَزِيدَ بْنُ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيُّ، وَقِيلَ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ، قَتَلَهُ قُزْمَانُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَقِيَ اللِّوَاءُ مَا يَأْخُذُهُ أَحَدٌ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى قُرَيْشٍ.
وَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ: ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ، ثَنَا عُبَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما كان يوم أحد [و] انكفأ الْمُشْرِكُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي. فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا فَقَالَ:
«اللَّهمّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهمّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ.
اللَّهمّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ. اللَّهمّ عَائِذًا بِكَ مِنْ سُوءِ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرَّ مَا مَنَعْتَ [مِنَّا [4]] ، اللَّهمّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ والعصيان،
__________
[1] في مغازي الواقدي «مسافع بن طلحة بن أبي طلحة» . وفي الاستيعاب ما يؤيّد ذلك إذ قال:
«قُتِل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح رجلين منهم مسافعا» (3/ 92) .
[2] الاستيعاب 3/ 92.
[3] في مغازي الواقدي: «قتله عليّ عليه السلام» .
[4] زيادة من ع.

(2/198)


وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهمّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ. اللَّهمّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، إِلَهَ الْحَقِّ» .
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مُنْكَرٌ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ [1] ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ مَرْوَانَ.
عَدَدُ الشُّهَدَاءِ
قَدْ مَرّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: يَا رَبِّ السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ، سَبْعِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَسَبْعِينَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَسَبْعِينَ يَوْمَ مُؤْتَةَ، وَسَبْعِينَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قُتِلَ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ سَبْعُونَ سَبْعُونَ: يَوْمِ أُحُدٍ، وَيَوْمِ الْيَمَامَةِ، وَيَوْمِ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ.
وَقَالَ ابن جريج: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها 3: 165 [2] ، قَالَ: قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ، وَقَتَلَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعِينَ.
وَأَمَّا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، فَقَالَ: جَمِيعُ مَنْ قتل
__________
[1] الأدب المفرد للبخاريّ: باب دعوات النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ص 243.
[2] سورة آل عمران: من الآية 165.

(2/199)


مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ: أَرَبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ، أَوْ قَالَ:
سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا.
وَجَمِيعُ مَنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، يَعْنِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ تِسْعَةَ عشر رجلا [1] .
[39 أ] وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: جَمِيعُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ تِسْعَةٌ [أَوْ سَبْعَةٌ [2]] وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [3] : جَمِيعُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، يَوْمَ أُحُدٍ، خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا. وَجَمِيعُ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ.
قُلْتُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ سَبْعِينَ أَصَحُّ. وَيُحْمَلُ قَوْلُ أَصْحَابِ الْمَغَازِي هَذَا عَلَى عَدَدِ مَنْ عُرِفَ اسْمُهُ مِنَ الشُّهَدَاءِ، فَإِنَّهُمْ عَدُّوا أَسْمَاءَ الشُّهَدَاءِ بِأَنْسَابِهِمْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [4] : اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ:
حَمْزَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ الْأَسَدِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ دُفِنَ مَعَ حَمْزَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.
وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَلَقَبُهُ شَمَّاسٌ [5] ، وَهُوَ عُثْمَانُ ابن عُثْمَانَ بْنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ هَرَمِيِّ بن عامر بن مخزوم القرشي
__________
[1] العبارة من بعد قوله: «قريش والأنصار» إلى قوله «تسعة عشر رجلا» . مضطربة في الأصل، وصحّحناها من ع.
[2] زيادة من ع وفي هامش الأصل: «ن سبعة» أي في نسخة.
[3] سيرة ابن هشام 3/ 191.
[4] سيرة ابن هشام 3/ 189.
[5] ترجم له ابن حجر في الإصابة 2/ 155 رقم 3919 باسم «شماس بن عثمان بن الشريد» ، وفيه إن أبا عبيد شذّ فقال إنه استشهد ببدر.

(2/200)


الْمَخْزُومِيُّ، ابْنُ أُخْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا. وَلُقِّبَ شَمَّاسًا لِمِلَاحَتِهِ.
وَمِنَ الْأَنْصَارِ: عَمْرُو بْنُ مُعَاذِ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَوْسِيُّ، أَخُو سَعْدٍ، وَابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَنَسِ [1] بْنِ رَافِعٍ، وَعُمَارَةُ بْنُ زِيَادِ بْنِ السَّكَنِ، وَسَلَمَةُ، وَعَمْرٌو، ابْنَا ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ.
وَعَمُّهُمَا: رِفَاعَةُ بْنُ وَقْشٍ، وَصَيْفِيُّ بْنُ قَيْظِيِّ، وَأَخُوهُ: حُبَابٌ، وَعَبَّادُ [2] بْنُ سَهْلٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ التَّيْهَانِ، وَحَبِيبُ بْنُ زَيْدٍ [3] ، وَإِيَاسُ بْنُ أَوْسٍ، الْأَشْهَلِيُّونَ. وَالْيَمَانُ أَبُو حُذَيْفَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ. وَيَزِيدُ بْنُ حَاطِبِ بْنِ أُمَيَّةَ الظَّفَرِيُّ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ، وَغَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبُ، وَمَالِكُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَوْفُ بْنُ عمرو، وأبو حيّة [4] بن عمرو ابن ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النُّعْمَانِ، أَمِيرُ الرُّمَاةِ، وَأَنَسُ بْنُ قَتَادَةَ [5] ، وَخَيْثَمَةُ وَالِدُ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَحَلِيفُهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ الْعَجْلانِيُّ، وَسُبَيْعُ [6] بْنُ حَاطِبِ بْنِ الْحَارِثِ، وَحَلِيفُهُ: مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ، وَعُمَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ الخطميّ.
__________
[1] في الأصل وفي طبعة القدسي 180 وطبعة شعيرة 214 «أنيس» والتصحيح من سيرة ابن هشام 3/ 189 والمحبّر 422. وجاء في المغازي لعروة 172 «الحارث بن أوس» وهو تصحيف.
[2] في الأصل وفي طبعة القدسي 180 وطبعة شعيرة 214 «عبادة» والتصحيح من سيرة ابن هشام 3/ 189 والإصابة 2/ 265 رقم 4465.
[3] في سيرة ابن هشام: حبيب بن يزيد بن تيم (3/ 190) وهو في الإصابة 1/ 390 «حبيب بن زيد بن تيم» نسبه بعضهم لجدّه فذكره «حبيب بن تيم» (رقم 2061) .
[4] أبو حنيفة: كذا في الأصل وفي سيرة ابن هشام 3/ 190. ويقال: أبو حبّة (بالباء) وأبو حنّة (بالنون) ، قال ابن عبد البر في الاستيعاب: والصواب أبو حبّة بواحدة. وانظر تهذيب التهذيب (12/ 66) .
[5] سيرة ابن هشام 3/ 190 وقال في أنساب الأشراف (1/ 230) : أنس، وهو أنيس بن قتادة.
وأنيس رواية الواقدي وابن عبد البر وابن حزم وابن حجر في الإصابة 1/ 76 رقم 293.
[6] في الواقدي: سبيق. ويقال: سويبق (انظر ابن هشام 3/ 190) .

(2/201)


وَكُلُّهُمْ مِنَ الْأَوْسِ.
وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْخَزْرَجِ:
عَمْرُو بْن قَيْسٍ النَّجَّارِيُّ، وَابْنُهُ: قَيْسٌ، وَثَابِتُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ، وَعَامِرُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَأَبُو هُبَيْرَةَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ، وَعَمْرُو بْنُ مُطَرِّفٍ، وَإِيَاسُ بْنُ عَدِيٍّ، وَأَوْسُ، أَخُو حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. وَهُوَ وَالِدُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ ضَمْضَمٍ، وَقَيْسُ بْنُ مَخْلَدٍ.
وَعَشْرَتُهُمْ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ.
وَعَبْدٌ لَهُمُ اسْمُهُ: كَيْسَانُ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْحَارِثِ [1] ، وَنُعْمَانُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو، وَهُمَا مِنْ بَنِي دِينَارِ بْنِ النَّجَّارِ.
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ:
خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَأَوْسُ بْنُ أَرْقَمَ بْنِ زَيْدٍ، أَخُو زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ.
وَمِنْ بَنِي خُدْرَةَ: مَالِكَ بْنُ سِنَانٍ، وَسَعِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعٍ.
وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ:
ثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ. وَثُقْفُ [2] بْنُ فَرْوَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ. وَضَمْرَة، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ جُهَيْنَةَ.
وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ مِنْ بني سالم:
__________
[1] ابن هشام 3/ 190 والواقدي: سليم بن الحارث.
[2] ثقف: كذا أورده ابن هشام 3/ 191 وأورده الواقدي: نفث. وقال البلاذري في أنساب الأشراف (1/ 330) : عبد الله بن فروة بن البدي.. وكان يقال لعبد الله: ثقب. وقال ابن عبد البرّ (1/ 208) : «ثقب بن فروة بن البدن» وذكر الأقوال في اسمه.

(2/202)


عمرو بن (39 ب) إِيَاسٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعُبَادَةُ بْنُ الْخَشْخَاشِ [1] ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ. وَالنُّعْمَانُ بن مالك. والمجذّر ابن ذِيَادٍ الْبَلَوِيُّ، حَلِيفٌ لَهُمْ.
وَمِنْ بَنِي الْحُبُلِيِّ [2] :
رِفَاعَةُ بْنُ عَمْرٍو.
وَمِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ مَالِكٍ:
مَالِكُ بْنُ إِيَاسٍ.
وَمِنْ بَنِي سَلَمَةَ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ.
وَكَانَا مُتَآخِيَيْنِ وَصِهْرَيْنِ، فَدُفِنَا فِي قَبْرٍ (وَاحِدٍ) [3] .
وَخَلَّادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ.
وَمَوْلَاهُ أُسَيْرٌ، أَبُو أَيْمَنَ، مَوْلَى عَمْرٍو [4] .
وَمِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ غُنْمٍ:
سُلَيْمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُدَيْدَةَ.
وَمَوْلَاهُ عَنْتَرَةُ، وَسُهَيْلُ بْنُ قَيْسٍ.
وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ:
ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ الْمُعَلَّى بن لوذان.
__________
[1] في الأصل كتب فوق الخشخاش (معا) أي بالمعجمتين والمهملتين جميعا وفي سيرة ابن هشام 3/ 191 «الحسحاس» .
[2] الحبلى: بضم الحاء المهملة والباء الموحّدة نسبة إلى حيّ من اليمن من الأنصار (اللباب 1/ 337) .
[3] زيادة من ع. وسيرة ابن هشام 3/ 191.
[4] في الواقدي وابن عبد البر أنه «أبو أسيرة» وفي ابن هشام 3/ 191 وابن حزم. «أبو أيمن» .

(2/203)


قال ابن إسحاق [1] : وزعم عاصم بن عمر بْنِ قَتَادَةَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ وَقْشٍ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ مَعَ ابْنَيْهِ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ جَمَاعَةً قُتِلُوا سِوَى مَنْ ذَكَرْنَا.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ [إِسْحَاقَ وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ [2]] عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ رَفَعَ حُسَيْلُ [3] بْنُ جَابِرٍ- وَالِدُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ- وَثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فِي الْآطَامِ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ- وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ-: «لَا أَبَا لَكَ، مَا نَنْتَظِرُ؟ فو الله مَا بَقِيَ لِوَاحِدٍ مِنَّا مِنْ عُمْرِهِ إِلَّا ظِمْءُ حِمَارٍ [4] ، إِنَّمَا نَحْنُ هَامَةُ الْيَوْمِ أَوْ غَدٍ، أَفَلَا نَأْخُذُ أَسْيَافَنَا ثُمَّ نَلْحَقُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّ اللَّهُ يرزقنا الشهادة مع رسوله؟ فخرجنا حَتَّى دَخَلَا فِي النَّاسِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمَا. فَأَمَّا ثَابِتٌ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَمَّا حُسَيْلٌ فَقَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَا يَعْرِفُونَهُ [5] .
قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ فِينَا رَجُلٌ أَتِيُّ [6] لَا يُدْرَى مِمَّنْ هُوَ، يُقَالُ لَهُ قُزْمَانُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا ذُكِر لَهُ: إِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّار. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَتَلَ وَحْدَهُ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ ذَا بَأْسٍ، فَأَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَاحْتَمَلَ إِلَى دَارِ بَنِي ظَفَرٍ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ لَهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَبْلَيْتَ الْيَوْمَ يَا قُزْمَانُ، فَأَبْشِرْ. قَالَ: بِمَاذَا أبشر؟ والله إن
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 189.
[2] ما بين الحاصرتين إضافة من سيرة ابن هشام 3/ 167.
[3] حسيل: بالتصغير.
[4] الظمء: ما بين الشربتين أو السقيتين. يقال في المثل: ما بقي من عمره إلّا ظمء حمار أي شيء يسير.
[5] انظر الإصابة 1/ 196 (ثابت بن وقش) و 1/ 331 رقم 1720 (حسيل بن جابر) والخبر في السيرة 3/ 167، 168.
[6] الأتيّ: الّذي لا يدرى من أين أتى.

(2/204)


قَاتَلْتُ إِلَّا عَنْ أَحْسَابِ قَوْمِي، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَاتَلْتُ. فَلَمَّا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ جِرَاحَتُهُ [1] أَخَذَ سَهْمًا فَقَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [2] : وكان ممّا قُتِلَ يَوْمَئِذٍ مُخَيْرِيقٌ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ الْفِطْيَوْنِ [3] ، قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقُّ. قَالُوا: إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ. قَالَ: لَا سَبْتَ [لَكُمْ] [4] . فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَعُدَّتَهُ وَقَالَ: إِنْ أُصِبْتُ فَمَالِي لِمُحَمَّدٍ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ. ثُمَّ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَاتَلَ مَعَهُ حَتَّى قُتِلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنَا: مُخَيْرِيقٌ خَيْرُ يَهُودَ. وَوَقَعَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ وَالنِّسْوَةُ اللَّاتِي مَعَهَا يُمَثِّلْنَ بِالْقَتْلَى، يَجْدَعْنَ الْآذَانَ وَالْآنُفَ، حَتَّى اتَّخَذَتْ هِنْدُ مِنْ آذَانِ الرِّجَالِ وَآنُفِهِمْ خَدَمًا [5] ، وَبَقَرَتْ [6] عَنْ كَبِدِ حَمْزَةَ فَلَاكَتْهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَسِيغَهَا فَلَفَظَتْهَا. ثُمَّ [عَلَتْ] [7] عَلَى صَخْرَةٍ مُشْرِفَةٍ، فَصَرَخَتْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا:
نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
[40 أ] مَا كَانَ عَنْ عُتْبَةَ لِي مَنْ صَبْرٍ ... وَلَا أَخِي، وَعَمِّهِ وَبَكْرِي
شَفيتُ صَدْرِي [8] وَقَضَيْتُ نذري ... شفيت وحشيّ غليل صدري
__________
[1] في الأصل، ع (فلما اشتد عليه جراحة) والمثبت من ابن الملّا وسيرة ابن هشام 3/ 168.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 168.
[3] في الأصل،: العيطون. والتصحيح من السيرة وأنساب الأشراف (1/ 325) وتاريخ الطبري (2/ 531) والمحبّر (112) .
[4] إضافة من السيرة.
[5] الخدم: الخلخال.
[6] في سيرة ابن هشام 3/ 169 زيادة قبل هذه الكلمة «وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيّا غلام جبير بن مطعم، وبقرت..» .
[7] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع ومن السيرة.
[8] في السيرة «نفسي» .

(2/205)


وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ- أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَهُمْ:
طَلْحَةُ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَعُثْمَانُ: بَنُو أَبِي طَلْحَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى.
وَمَوْلاهُمْ: صُؤَابٌ [1] ، وَبَنُو طَلْحَةَ الْمَذْكُورُ: مُسَافِعٌ، وَالْحَارِثُ، وَالْجُلَاسُ، وَكِلَابٌ.
وَأَبُو يَزِيدَ [2] بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَابْنُ عَمِّهِ: أَرْطَأَةُ بْنُ [عَبْدِ] شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمٍ، وَابْنُ عَمِّهِمْ: قَاسِطُ بْنُ شُرَيْحٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرٍ الْأَسَدِيُّ، وَسِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْخُزَاعِيُّ حَلِيفُ بَنِي أَسَدٍ.
وَأَرْبَعَةٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَخُو أَمُّ سَلَمَةَ، هِشَامُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
وَالْوَلِيدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو أُمَيَّةَ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَحَلِيفُهُمْ: خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ.
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ:
أَبُو الْحَكَمِ بْنُ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ.
وَمِنْ بَنِي جُمَحَ:
أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَأَبُو عَزَّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ. أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ. صَبْرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَطْلَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا فِدَاءٍ لِفَقْرِهِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعِينُ عَلَيْهِ. فَنَقَضَ الْعَهْدَ وأسر يوم أحد، فقال
__________
[1] غلام حبشي قتله قزمان. (سيرة ابن هشام 3/ 192) .
[2] في الأصل: أبو زيد. والتصحيح من ابن هشام (3/ 192) وجوامع السيرة لابن حزم (173) .

(2/206)


رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَاللَّهِ] [1] لَا تَمْسَحُ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ تَقُولُ خَدَعْتُ مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ. وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ [2] . وَقِيلَ لَمْ يُؤْسَرْ سِوَاهُ.
وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ:
عُبَيْدَةُ بْنُ جَابِرٍ. وَشَيْبَةُ بْنُ مَالِكٍ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى [3] بن عبد الله بن أبي فروة، عن قَطَنِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى- فَأَرْسَلَهُ مَرَّةً وَأَسْنَدَهُ مَرَّةً- عن أبي ذرّ عوض أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ أُحُدٍ مَرَّ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَقْتُولٌ- عَلَى طَرِيقِهِ- فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ من يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا 33: 23 [4] . ثُمَّ قَالَ: «أَشْهَدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ شُهَدَاءُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأْتُوهُمْ وَزُورُوهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا رَدُّوا عَلَيْهِ السَّلَامَ» . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [5] : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَحَدَّثَنِيهِ بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِحَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْمُثْلِ- جُدِعَ أَنْفُهُ وَلُعِبَ بِهِ- قال: «لولا أن تجزع صفيّة
__________
[1] زيادة من ع.
[2] الطبقات الكبرى 2/ 43.
[3] في الأصل: أبي الأعلى. والتصحيح من ع، ومن ترجمته في تهذيب التهذيب (6/ 95) ، ويرد في الأصل صحيحا بعد قليل.
[4] سورة الأحزاب: الآية 22.
[5] سيرة ابن هشام 3/ 171.

(2/207)


وَتَكُونَ [1] سُنَّةً مِنْ بَعْدِي [2] مَا غُيِّبَ [3] حَتَّى يَكُونَ فِي بُطُونِ السِّبَاعِ وَحَوَاصِلِ الطَّيْرِ» . وَحَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: لئن ظَفِرْتُ بِقُرَيْشٍ لَأُمَثِّلَنَّ بِثَلَاثِينَ مِنْهُمْ. فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِهِ مِنَ الْجَزَعِ قَالُوا: لَئِنْ ظَفِرْنَا بِهِمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ بِأَحَدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ به 16: 126 [4] ، إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. فَعَفَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم [40 ب] . [5] . وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمْ قِصَّةَ أُحُدٍ، أَنَّ صَفِيَّةَ أَقْبَلَتْ لِتَنْظُرَ إِلَى حَمْزَةَ- وَهُوَ أَخُوهَا لِأَبَوَيْهَا- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِهَا الزُّبَيْرِ: الْقَهَا فَأَرْجِعْهَا، لَا تَرَى مَا بِأَخِيهَا. فَلَقِيَهَا فَقَالَ: أَيْ أُمَّهْ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَرْجِعِي. قَالَتْ: وَلِمَ؟ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ مُثِّلَ بِأَخِي، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ، فَمَا أَرْضَانَا بِمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ، فَلْأَحْتَسِبَنَّ وَلَأَصْبِرَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَجَاءَ الزُّبَيْرُ فَأَخْبَرَهُ قَوْلَهَا، قَالَ: فَخَلِّ سَبِيلَهَا. فَأَتَتْهُ، فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ وَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَدُفِنَ [6] . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ [7] ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ حَمْزَةُ أَقْبَلَتْ صَفِيَّةُ، فَلَقِيَتْ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ، فَأَرَيَاهَا [8] أَنَّهُمَا لَا يَدْرِيَانِ. فَجَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: فَإِنِّي أَخَافُ عَلَى عَقْلِهَا. فَوَضَعَ
__________
[1] في السيرة «يكون» .
[2] في الأصل: ما بعدي. وأثبتنا لفظ ع والسيرة.
[3] في السيرة «لتركته» .
[4] سورة النحل: من الآية 126.
[5] سيرة ابن هشام 3/ 171 وفيه إضافة «وصبر ونهى عن المثلة» .
[6] السيرة 3/ 172.
[7] في الأصل: عباس. والتصحيح من ع، وتهذيب التهذيب (12/ 34) .
[8] في الأصل: فأريا، وأثبتنا عبارة ع.

(2/208)


يَدَهُ عَلَى صَدْرِهَا وَدَعَا لَهَا، فَاسْتَرْجَعَتْ وَبَكَتْ. ثُمَّ جَاءَ فَقَامَ عَلَيْهِ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ فَقَالَ: «لَوْلَا جَزَعُ النِّسَاءِ لَتَرَكْتُهُ حَتَّى يُحْشَرَ مِنْ حَوَاصِلِ الطَّيْرِ وَبُطُونِ السِّبَاعِ» . ثُمَّ أَمَرَ بِالْقَتْلَى فَجَعَلَ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَيُرْفَعُونَ وَيُتْرَكُ حَمْزَةُ، ثُمَّ يُجَاءُ بِسَبْعَةٍ فَيُكَبِّرُ عَلَيْهِمْ سَبْعًا، حَتَّى فَرَغَ مِنْهُمْ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ أَصَحُّ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ [1] مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ. فاللَّه أَعْلَمُ.
عُثْمَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، بِإِسْنَادِ الْحَاكِمِ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» [2] إِلَيْهُمَا، ثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَمْزَةَ وَقَدْ جُدِعَ وَمُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تَجِدَ صَفِيَّةُ تَرَكْتُهُ حَتَّى يَحْشُرَهُ اللَّهُ مِنْ بُطُونِ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ. فَكَفَّنَهُ فِي نَمِرَةٍ. وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الشُّهَدَاءِ غَيْرَهُ. الْحَدِيثَ.
وَقَالَ يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ: ثَنَا قَيْسُ- هُوَ ابْنُ الرَّبِيعُ- عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قُتِلَ حَمْزَةُ وَمُثِّلَ بِهِ: «لَئِنْ ظَفِرْتُ بِقُرَيْشٍ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ» فَنَزَلَتْ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ به 16: 126 الآية [3] . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ نَصْبِرُ يَا رَبِّ. إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ مِنْ قِبَلَ قَيْسٍ.
وَقَدْ رَوَى نَحْوَهُ حَجَّاجُ بْنُ منهال، وغيره، عن صالح المرّي- وهو
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب «أحد يحبّنا» (5/ 132) ، وكتاب الرقاق، باب في الحوض وقول الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ 108: 1 (8/ 151) وصحيح مسلم (2289) كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلّى الله عليه وسلّم وصفاته.
[2] المستدرك على الصحيحين 2/ 120.
[3] سورة النحل- الآية 126.

(2/209)


ضَعِيفٌ [1]- عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَزَادَ: فَنَظَرَ إِلَى مَنْظَرٍ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى شَيْءٍ قَطُّ أَوْجَعَ مِنْهُ لِقَلْبِهِ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ الْقَاضِي، أَنْبَأَ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الزَّاهِدُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّلَفِيُّ، أَنْبَأَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بن إبراهيم، أنبأ عبد الله ابن جَعْفَرٍ الْفَارِسِيُّ، ثَنَا يَعْقُوبُ الْفَسَوِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الله بن عثمان، أنا عيسى ابن عُبَيْدٍ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنِي رَبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، حَدَّثَنِي أَبُو الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ أُصِيبَ مِنَ الْأَنْصَارِ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ، وأصيب من المهاجرين ستّة، منهم [41 أ] حَمْزَةُ. فَمَثَّلُوا بِقَتْلاهُمْ. فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ لَنُرْبِيَنَّ [2] عَلَيْهِمْ [3] .
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ نَادَى رَجُلٌ لَا يُعْرَفُ: لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ، مَرَّتَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ 16: 126 الآية. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُفُّوا عَنِ الْقَوْمِ. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَتْ صَفِيَّةُ يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهَا ثَوْبَانِ لِحَمْزَةَ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ أَنْ تَرَى حَمْزَةَ عَلَى حَالِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا الزُّبَيْرَ يَحْبِسُهَا وَأَخَذَ الثَّوْبَيْنِ. وَكَانَ إِلَى جنب حمزة قتيل
__________
[1] هو صالح بن بشير المرّي القاصّ، من أهل البصرة. انظر عنه: التاريخ الكبير 2/ 273، التاريخ لابن معين 2/ 262، المجروحين لابن حبّان 1/ 371، الضعفاء للعقيليّ 2/ 199 رقم 723، الكامل لابن عديّ 4/ 1378، الضعفاء والمتروكين للدار للدّارقطنيّ 106 رقم 287، المغني في الضعفاء 1/ 302 رقم 2817، ميزان الاعتدال 2/ 289 رقم 3772، أحوال الرجال للجوزجانيّ 120 رقم 197 الضعفاء الصغير للنسائي 165.
[2] لنربينّ: لنضاعفنّ عليهم في التمثيل من الإرباء، وهو التضعيف.
[3] رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين 2/ 359 من طريق إسحاق بن الفضل بن موسى عن عيسى بن عبيد. وبقية رجال السند.

(2/210)


مِنَ الْأَنْصَارِ، فَكَرِهُوا أَنْ يَتَخَيَّرُوا لِحَمْزَةَ، فَقَالَ: أَسْهِمُوا بَيْنَهُمَا، فَأَيُّهُمَا طَارَ لَهُ أَجْوَدُ الثَّوْبَيْنِ فَهُوَ لَهُ. فَأَسْهَمُوا بَيْنَهُمَا، فَكُفِّنَ حَمْزَةُ فِي ثَوْبٍ وَالْأَنْصَارِيُّ فِي ثَوْبٍ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [1] : حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ قَالَ: لَمَّا أَشْرَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ قَالَ: أَنَا الشَّهِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ، مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي اللَّهِ إِلَّا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ [2] دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ، انْظُرُوا أَكْثَرَهُمْ جَمْعًا لِلْقُرْآنِ فَاجْعَلُوهُ أَمَامَ صَاحِبِهِ فِي الْقَبْرِ. فَكَانُوا يُدْفَنُونَ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ. قَالَ بن إِسْحَاقَ [3] : وَحَدَّثَنِي وَالِدِي، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ أُصِيبَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ: اجْمَعُوا بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُمَا كَانَا مُتَصَافِيَيْنِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ أَبِي: فَحَدَّثَنِي أَشْيَاخٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا: لَمَّا ضَرَبَ مُعَاوِيَةُ عَيْنَهُ الَّتِي مَرَّتْ عَلَى قُبُورِ الشُّهَدَاءِ، اسْتَصْرَخَنَا عَلَيْهِمْ وَقَدِ انْفَجَرَتْ عَلَيْهِمَا فِي قَبْرِهِمَا، فَأَخْرَجْنَاهُمَا وَعَلَيْهِمَا بُرْدَتَانِ قَدْ غَطَّى بِهِمَا وُجُوهَهُمَا. وَعَلَى أَقْدَامِهِمَا شَيْءٌ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، فأخرجناهما كأنّهما يتثنّيان تثنّيا كأنّما دُفِنَا بِالْأَمْسِ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:
اسْتُصْرِخَنَا إِلَى قَتْلَانَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَذَلِكَ حِينَ أَجْرَى مَعَاوِيَةُ الْعَيْنَ، فَأَتَيْنَاهُمْ فَأَخْرَجْنَاهُمْ تُثَنَّى أَطْرَافُهُمْ رطابا، على رأس أربعين سنة.
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 172.
[2] يثعب: يجري دما. (تاج العروس 2/ 86) .
[3] سيرة ابن هشام 2/ 172.

(2/211)


قَالَ حَمَّادٌ: وَزَادَنِي صَاحِبٌ لِي فِي الْحَدِيثِ: فَأَصَابَ قَدَمَ حَمْزَةَ فَانْثَعَبَ دَمًا.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ نُبَيْحٍ [1] الْعَنَزِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى مَصَارِعِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ: ثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ نُبَيْحٍ الْعَنَزِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِقِتَالِهِمْ. فَقَالَ لِي أَبِي: مَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ فِي النَّظَّارَةِ حَتَّى تَعْلَمَ إلى ما يصير أمرنا، فو الله لَوْلا أَنِّي أَتْرُكُ بَنَاتٍ لِي بَعْدِي لَأَحْبَبْتُ أَنْ تُقْتَلَ بَيْنَ يَدَيَّ. فَبَيْنَمَا أَنَا فِي النَّظَّارِينَ إِذْ جَاءَتْ عَمَّتِي بِأَبِي وَخَالِي عَادَلَتْهُمَا عَلَى نَاضِحٍ، فَدَخَلَتْ بِهِمَا الْمَدِينَةَ، لِتَدْفِنَهُمَا فِي مَقَابِرِنَا، فَجَاءَ رَجُلٌ يُنَادِي: أَلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا بِالْقَتْلَى فَتَدْفِنُوهَا فِي مَصَارِعِهَا. فَبَيْنَمَا أَنَا [2] فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا جَابِرُ، قَدْ وَاللَّهِ أَثَارَ أَبَاكَ عُمَّالَ مُعَاوِيَةَ فَبَدَا طَائِفَةٌ مِنْهُ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى النَّحْوِ [3] الَّذِي تَرَكْتُهُ، لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا لَمْ يَدَعِ الْقَتْلُ أَوِ الْقِتَالُ [4] فَوَارَيْتُهُ. وَقَالَ حُسَيْنُ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَطَاءٍ، عن جابر قال: لما حضر أحد قَالَ أَبِي: مَا أَرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا، وَإِنِّي لَا أَتْرُكَ بَعْدِي أَعَزَّ عَلِيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ.
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ عَلِيَّ دَيْنًا فَاقْضِ وَاسْتَوْصِ بِإِخْوَانِكَ خَيْرًا. فأصبحنا
__________
[1] في الأصل: عن الأسود بن نبيح العنزي. وإنّما هما شخصان، والتصحيح من تهذيب التهذيب (10/ 417) وسيرد صحيحا في الأصل في أول الحديث التالي.
[2] من أول قوله: «أنا» السقط الكبير في نسخة الأصل الّذي أشرنا إليه في التقديم، وقد استدركناه من ع، وصحّحناه من المراجع التي أشرنا إليها في مواضعها.
[3] في ع: النحول. والتصحيح من تاريخ ابن كثير (4/ 43) .
[4] في ع: إلا ما لم يدع القتيل. وفي ابن كثير: إلّا ما لم يدع القتل أو القتيل. وأثبتنا عبارة وفاء ألوفا (2/ 116) وفيه أنّ الحديث رواه أحمد برجال الصحيح خلا نبيح.

(2/212)


فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، فَدَفَنْتُ مَعَهُ آخَرَ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أُنْزِلَهُ مَعَ آخَرَ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً [1] غَيْرَ أُذُنِهِ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [2] .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ [الرَّحْمَنِ؟ [3]] بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ.
وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقَيَامَةِ. وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصِلَّ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْهُ [4] . وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالُوا يَوْمَ أُحُدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَصَابَنَا قَرْحٌ وَجَهْدٌ فَكَيْفَ تَأْمُرُ؟ قَالَ: احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَعْمِقُوا وَاجْعَلُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ، وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا [5] .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَبْكِي وَأَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْهُ، وَجَعَلَ أَصْحَابُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَوْنِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْهَانِي، وَقَالَ لَا تَبْكِيهِ، أَوْ مَا تَبْكِيهِ، فَمَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لظلّة
__________
[1] في هيبته والتصحيح من صحيح البخاري.
[2] صحيح البخاري: كتاب الجنائز، باب هل يخرج الميت من القبر واللّحد لعلّة (2/ 116) .
[3] سقطت من واستدركناها من صحيح البخاري.
[4] صحيح البخاري. كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهبة (2: 104) . وكتاب المغازي، باب من قال من المسلمين يوم أحد (5/ 131) .
[5] الطبقات الكبرى 2/ 44.

(2/213)


بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ. أَخْرَجَاهُ [1] .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِدَفْنِ قَتْلَى أُحُدٍ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ [2] . وَقَالَ عَلِيُّ بْنِ الْمَدِينِيِّ: ثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الأنصاري، سمع طلحة ابن خِرَاشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَظَرَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ما لي أَرَاكَ مُهْتَمًّا؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُتِلَ أَبِي وَتَرَكَ دَيْنًا وَعِيَالًا.
فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ؟ مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا [3] ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدِي سَلْنِي أُعْطِكَ. فَقَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيًا. فَقَالَ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ. قَالَ: يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ 3: 169 [4] الآية.
وَيُرْوَى نَحْوَهُ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَكَانَ أَبُو جَابِرٍ مِنْ سَادَةِ الْأَنْصَارِ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو [5] بْنِ حَرَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غُنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ. وَأُمُّهُ الرَّبَابُ بِنْتُ قَيْسٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ. شَهِدَ معه العقبة ولده رضي الله عنهما.
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب من قتل من المسلمين يوم أحد (5/ 131) .
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب من قتل من المسلمين يوم أحد (5/ 131) .
[3] كفاحا: أي مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول. (تاج العروس 7/ 79) .
[4] سورة آل عمران: من الآية 169.
[5] الاستيعاب 2/ 339 الإصابة 2/ 350 رقم 4838.

(2/214)


وعمرو بن الجموح [1] بن زيد بن حرام بْنِ كَعْبِ بْنِ غُنْمٍ الْأَنْصَارِيُّ السَّلْمِيُّ، سَيِّدُ بَنِي سَلَمَةَ، الَّذِي دُفِنَ مَعَهُ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ [2] وَغَيْرُهُ: شَهِدَ بَدْرًا. وَابْنُهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ هُوَ الَّذِي قَطَعَ رِجْلَ أَبِي جَهْلٍ، وَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَلْبِهِ لِمُعَاذٍ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَوْجَ أُخْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ.
وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ مَنَافٌ [3] فِي بَيْتِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. فَلَمَّا قَدِمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الْمَدِينَةَ، بَعَثَ إِلَيْهِمْ عَمْرٌو: مَا هَذَا الَّذِي جِئْتُمُونَا بِهِ؟ قَالُوا: إِنْ شِئْتَ جِئْنَا وَأَسْمَعْنَاكَ، فَوَاعَدَهُمْ فَجَاءُوا، فَقَرَأَ عَلَيْهِ [مُصْعَبٌ [4]] الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ 12: 1 [5] ، فَقَرَأَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقْرَأَ. فَقَالَ: إِنَّ لَنَا مُؤَامَرَةً فِي قَوْمِنَا- وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي سَلَمَةَ- فَخَرَجُوا، فَدَخَلَ عَلَى مَنَافَ فَقَالَ: يَا مَنَافُ، تَعْلَمُ وَاللَّهِ مَا يُرِيدُ الْقَوْمُ غَيْرَكَ، فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ نَكِيرٍ؟ قَالَ: فَقَلَّدَهُ سَيْفًا، فَخَرَجَ فَقَامَ أَهْلُهُ فَأَخَذُوا السَّيْفَ، فَجَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَخَذُوا السَّيْفَ فَقَالَ: يَا مَنَافُ أَيْنَ السَّيْفُ وَيْحَكَ؟ إِنَّ الْعَنْزَ لَتَمْنَعُ اسْتَهَا، وَاللَّهِ مَا أَرَى فِي أَبِي جِعَارٍ غَدًا مِنْ خَيْرٍ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ [6] : إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى مَالِي فَاسْتَوْصُوا بِمَنَافَ خَيْرًا. فَذَهَبَ فَكَسَرُوا مَنَافَ وَرَبَطُوهُ مَعَ كَلْبٍ مَيِّتٍ. فَلَمَّا جَاءَ رَأَى مَنَافَ، فَبَعَثَ إِلَى قَوْمِهِ فَجَاءُوهُ فَقَالَ: أَلَسْتُمْ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ؟ قَالُوا: بَلَى، أَنْتَ سَيِّدُنَا، قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عرضها
__________
[1] الاستيعاب 2/ 503- 506، الإصابة 2/ 529، 530 رقم 5797.
[2] الطبقات الكبرى 2/ 43.
[3] مناف من أصنام قريش، قال عنه ابن الكلبي: لا أدري أين كان ولا من نصبه. (الأصنام:
32) وهو في رواية ابن هشام: مناة.
[4] زيادة للتوضيح من ابن الملّا.
[5] سورة يوسف: الآية الأولى.
[6] في ع: له. والتصحيح من ابن الملا.

(2/215)


السّماوات وَالْأَرْضُ» فَقَامَ وَهُوَ أَعْرَجُ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [1] .
قَالَ أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَرَوَى فِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْن أَبِي ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا بَنِي سَلَمَةَ مَنْ سَيِّدُكُمْ؟ قَالُوا: الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَإِنَّا لَنُبَخِّلُهُ. قَالَ: وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟ بَلْ سَيِّدُكُمْ الْجَعْدُ الْأَبْيَضُ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ [2] . وَقَدْ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، وَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى أُحُدٍ مَنَعَهُ بَنُوهُ وَقَالُوا: قَدْ عَذَرَكَ اللَّهُ وَبِكَ عَرَجٌ، فَأَتَى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ عَذَرَكَ اللَّهُ. وَقَالَ لِبَنِيهِ: لَا تَمْنَعُوهُ لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ الشَّهَادَةَ. فَخَرَجَ وَاسْتُشْهِدَ هُوَ وَابْنُهُ خَلادٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [3] . وَعَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أبي الضّحى، أنّ عمرو ابن الْجَمُوحِ قَالَ لِبَنِيهِ: مَنَعْتُمُونِي الْجَنَّةَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَأَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ. فَكَانَ يَوْمُ أُحُدٍ فِي الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. [4] .
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: أُتِيَ ابْنُ عَوْفٍ بِطَعَامٍ فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ- وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي- فلم يوجد له إلّا بردة
__________
[1] سيرة ابن هشام، وسير أعلام النبلاء 1/ 253.
[2] رجاله ثقات لكنه مرسل. رواه أبو نعيم في حلية الأولياء 7/ 317 من طريق ابن عيينة عن ابن المنكدر عن جابر. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (296) من طريق عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا حميد بن الأسود، عن الحجاج الصواف قال: حدثني أبو الزبير قال: حدثنا جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وذكره. وهذا سند قوي. (سير أعلام النبلاء 1/ 254) .
[3] أخرجه ابن هشام، وأخرجه أحمد في مسندة 5/ 299، والذهبي في السير 1/ 254.
[4] رجاله ثقات، لكنه منقطع. (سير أعلام النبلاء 1/ 255 حاشية (1) .

(2/216)


يُكَفَّنُ فِيهَا، مَا أَظُنُّنَا إِلَّا قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [1] .
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ ذَهَبَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ، وَكَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا نَمِرَةٌ، كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْإِذْخَرِ. وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا [2] . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [3] . وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [4] ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قال: كانت امرأة من بني الأنصار مِنْ بَنِي دِينَارٍ قَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا [وَأَبُوهَا] [5] يَوْمَ أُحُدٍ. فَلَمَّا نُعُوا لَهَا قَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: خَيْرًا، يَا أُمَّ فُلَانٍ. فَقَالَتْ:
أَرُونِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ. فَأَشَارُوا لَهَا إِلَيْهِ، حَتَّى إِذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ، أَيْ هَيِّنٌ [6] . وَيَكُونُ فِي غَيْرِ ذَا بمعنى عظيم.
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة أحد (5/ 121) .
[2] يهدبها: يجنيها ويقطفها. (تاج العروس 4/ 382) .
[3] صحيح البخاري: كتاب الجنائز، باب إذا لم يجد كفنا إلّا ما يواري رأسه أو قدميه غطّى رأسه (2/ 98) ، وكتاب المغازي، باب غزوة أحد (5/ 121) وباب من قتل من المسلمين يوم أحد (5/ 131) . وصحيح مسلم (940) : كتاب الجنائز: باب في كفن الميت. وانظر: البداية والنهاية 4/ 35.
[4] سيرة ابن هشام 3/ 173.
[5] ليست في ع، وأثبتناها من السيرة وتاريخ الطبري (2/ 533) وابن كثير (4/ 47) ولعلّه سقط، يدلّ عليه ضمير الجمع في الفعل «نعوا» وعبارة ابن الملا كما في ع وصرف الفعل إلى «نعيا» .
[6] قال ابن هشام: «تريد صغيرة» الجلل يكون من القليل ومن الكثير، وهو هنا من القليل.

(2/217)


عَنْ أَبِي بَرْزَةَ [1] أَنَّ جُلَيْبِيبًا [2] كَانَ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ: «زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ» . قَالَ: نَعَمْ وَنِعْمَةُ عَيْنٍ [3] قَالَ: «لَسْتُ أُرِيدُهَا [4] لِنَفْسِي» . قَالَ: فَلِمَنْ؟ قَالَ: «لِجُلَيْبِيبٍ» . قَالَ: أَسْتَأْمِرُ أُمَّهَا.
فَأَتَاهَا فأجابت: لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنَّمَا يُرِيدُ ابْنَتَكِ لِجُلَيْبِيبٍ. قَالَتْ:
الْجُلَيْبِيبُ؟ لَا لَعَمْرِ اللَّهِ لَا تُزَوِّجْهُ [5] . فَلَمَّا قَامَ أَبُوهَا لِيَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَتْ: أَفَتَرُدُّونَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ؟ ادْفَعْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَنْ يُضَيِّعَنِي.
فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: شَأْنُكَ بِهَا. فَزَوَّجَهَا جُلَيْبِيبًا، وَدَعَا لَهُمَا.
فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَغْزًى لَهُ قَالَ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَفْقِدُ فُلَانًا وَنَفْقِدُ فُلَانًا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ فَنَظَرُوا فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ.
قَتَلَ سَبْعَةً ثُمَّ قَتَلُوهُ. فَوَضَعُوهُ عَلَى ساعديه ثم حفروا له، ما له سَرِيرٌ إِلَّا سَاعِدَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وضعه في قبره [6] .
__________
[1] في ع: أبي بردة. والتصحيح من صحيح مسلم وتهذيب التهذيب (10/ 446) وكما يرد في النصّ صحيحا بعد قليل.
[2] جليبيب: بصيغة تصغير جلباب، غير منسوب، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت فيه دمامة، فعرض عليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم التزويج فقال: إذن تجدني يا رسول الله كاسدا؟ فقال: إنّك عند الله لست بكاسد. وانظر ترجمته في الإصابة (1/ 242) والاستيعاب في الهامش (1/ 256) وأسد الغابة (1/ 348) .
[3] في مسند أحمد 4/ 422 «نعم وكرامة يا رسول الله ونعم عيني» .
[4] في طبعة القدسي 197 «أريده» والتصويب من مسند أحمد.
[5] هذه العبارة مضطربة في ع، وقد رسمت هكذا «قالت حلقي الجليبيب لا لقمر والله لا زوجه» وواضح أنّها محرّفة عن النّصّ الصحيح الّذي أثبتناه والّذي ورد في الحديث كما رواه الإمام أحمد في مسندة 4/ 422 من طريق عفّان، عن حمّاد بن سلمة، عن أبي برزة الأسلمي. وفيه تقول الأم كالمستنكرة: أجليبيب، إنيه. أجليبيب، إنيه. أجليبيب، إنيه (ثلاثا) إلخ وإنيه، بكسر الألف والنون وسكون الياء بعدها هاء تقال في الإنكار والاستبعاد. قال الزّبيدي في التاج:
(هذه اللفظة وردت في حديث جليبيب في مسند أحمد، وفيها اختلاف كثير) ثم تبقى بعد هذا لفظة (حلقي) في أول العبارة، ولعلّها تحريف شديد عن (محنقة) وقد أهملناها.
[6] مسند أحمد 4/ 421، و 422، 425.

(2/218)


قَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: فَمَا فِي الْأَنْصَارِ أَنْفَقُ مِنْهَا [1] .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ كِنَانَةَ بْنِ نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ [2] .
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ [3] ، عَنْ مَسْرُوقٍ: سَأَلْنَا عَبْدَ الله ابن مَسْعُودٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً 3: 169 [4] ، قَالَ: أَمَّا أَنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ [5] : أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ رَبَّكَ اطِّلَاعَةً فَقَالَ: سَلُونِي مَا شِئْتُمْ. فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا وَمَا نَسْأَلُكَ؟ وَنَحْنُ نَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ فِي أَيِّهَا شِئْنَا:
فَلَمَّا رَأَوْا أَنْ لا يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: نَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا إِلَى أَجْسَادِنَا فِي الدُّنْيَا فَنُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ. فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ إِلَّا هَذَا، تُرِكُوا.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [6] . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ، جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ
__________
[1] الضمير عائد إلى زوجة جليبيب، وفي رواية الإمام أحمد 4/ 422 «فما كان في الأنصار أيّم أنفق منهما» وكذلك من أثر دعاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لها: اللَّهمّ أصبب عليها الخير صبّا، ولا تجعل عيشها كدّا» ..
[2] صحيح مسلم (2472) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل جليبيب رضي الله عنه.
[3] في ع: فره. والتصحيح من صحيح مسلم، وتهذيب التهذيب (6/ 24) .
[4] سورة آل عمران: من الآية 169.
[5] في ع فقال لهم. وأثبتنا لفظ مسلم.
[6] صحيح مسلم (1887) كتاب الإمارة، باب في بيان أنّ أرواح الشهداء في الجنّة، وأنّهم أحياء عند ربّهم يرزقون وذلك بتقديم وتأخير وألفاظ مختلفة. وانظر: سيرة ابن هشام 3/ 188 والبداية والنهاية 4/ 45، 46.

(2/219)


تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةً فِي ظِلِّ الْعَرْشِ. فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَقِيلِهِمْ، قَالُوا: مَنْ يُبَلِّغْ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ، لِئَلا يَنْكُلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ وَلَا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ» ، فَأُنْزِلَتْ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً 3: 169 [1] . وَقَالَ يُونُسُ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ أُحُدٍ: أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي غُودِرْتُ مَعَ أَصْحَابٍ نُحْصِ الْجَبَلَ [2] يَقُولُ: قُتِلْتُ مَعَهُمْ [3] . وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عن أبي الخير، عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ [4] وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ.
الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [5] . وَرَوَى الْعَطَّافُ [6] بْنُ خَالِدٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ قُبُورَ الشُّهَدَاءِ بِأُحُدٍ.
وَرَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى: عَنْ عَبَّادِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي قبور الشهداء، فإذا أتى
__________
[1] البداية والنهاية 4/ 45.
[2] النّحص، أصل الجبل وسفه أو أسفله. قال أبو عبيد: أصحاب النّحص هم قتلى أحد.
(تاج العروس 18/ 172) وفي البداية والنهاية 4/ 44 «بحضن الجبل» .
[3] أخرجه أحمد في مسندة 3/ 375 بالسند والنص دون قوله: يقول: قتلت معهم.
[4] في طبعة القدسي 199 «فرطكم» والتصحيح من البخاري.
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب «أحد يحبنا» (5/ 40) .
[6] العطّاف: بتشديد الطاء. (تهذيب التهذيب 7/ 221 رقم 409) .

(2/220)


فُرْضَةَ [1] الشِّعْبِ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ. وَكَانَ يَفْعَلُهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ بَعْدَهُ ثُمَّ عُثْمَانُ.
وَذَكَرَ نَحْوَ هذا الحديث الواقدي في مغازيه بلند سَنَدٍ [2] . وَقَالَ أَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ: وَمَاتَ فِي شَوَّالٍ يَوْمَ جُمُعَةٍ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ أَحَدُ بَنِي النَّجَّارِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْجَبَّانِ [3] . وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ فُعِلَ به ذلك.
__________
[1] في ع: فرصة بالصاد. وفرضة الشعب مشرعته. أو الطريق الشارع إليه. وهي رواية ابن الملا. ورواية الواقدي «تفوه الشعب» بمعنى دخل في أوله.
[2] الواقدي: المغازي (1/ 312) .
[3] الجبّان: المقبرة.

(2/221)


غزوَة حمَراء الأسَد [1]
قَالَ ابن إسحاق [2] : فلما كان الغدُ من يوم أُحُد، يعني صبيحةَ وقعةِ أُحُد [3] أذّن مؤذّنُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النّاس لطلب العدوّ [4] ، وأذّن مؤذّنه:
لا يخرج معنا أحدٌ إلّا أحَدٌ حضر يومَنا بالأمس. وإنّما خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهِبًا للعدّو [5] ليُبَلغهم أنّه قد خرج في أثرهم وليظنُّوا به قوة.
وقال ابن لَهِيعة: ثنا أبو الأسود، عَنْ عُرْوَة [6] قَالَ: قدِم رجلٌ فاستخبره النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أبي سُفيان. فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون، يَقْولُ بعضُهم لبعض: لم تصنعوا شيئًا، أصبتم شوكة القوم وحدهم، ثُمَّ تركتموهم ولم تُبيدوهم، وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم. فأمر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه- وبهم أشدّ القَرْح- بطلب العدوّ، وليسمعوا بذلك. قَالَ:
لا ينطلقنّ معي إلّا من شهد القتال. فقال عبد الله بن أبيّ: أركب معك؟
__________
[1] هي من المدينة على ثمانية أميال. (طبقات ابن سعد 2/ 49) .
[2] سيرة ابن هشام 3/ 173، 174.
[3] وذلك يوم الأحد لست عشرة خلت من شوّال. (تاريخ خليفة 73) وفي طبقات ابن سعد 2/ 48: «يوم الأحد لثماني ليال خلون من شوّال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من مهاجره» .
[4] ، (5) في ع: الغزو- للغزو، والتصحيح من مختصر ابن الملّا، وتاريخ الطبري 2/ 534.
[6] المغازي لعروة 174.

(2/223)


قَالَ: لا. فاستجابوا للَّه والرسول عَلَى ما بهم من البلاء. فانطلقوا، فطلبهم النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بلغ حمراءَ الأسَد. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [1] : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثابت، عَنْ أبي السّائب مولى عائشة بنت عثمان، أنّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بني عبد الأشهل قَالَ: شهدتُ أُحُدًا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وأخٌ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخروج في طلب العدوّ، قلت لأخي وقال لي: تفوتنا غزوةٌ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وو الله ما لنا من دابة نركبها وما منّا إلّا جريح، فخرجنا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكنت أيسر جراحة مِنْهُ، فكان إذا غلب حملته عُقبة [2] ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون [3] . فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انتهى إلى حمراءِ الَأسَد، وهي من المدينة عَلَى ثمانية أميال، فأقام بِهَا ثلاثًا ثُمَّ رجع [4] .
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ عَائِشَةَ قالت: يا ابن أُخْتِي كَانَ أَبُوكَ [5] تَعْنِي الزُّبَيْرَ- وَأَبَا بَكْرٍ- مِنَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للَّه وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ. قَالَ: لَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أُحُدٍ وَأَصَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ، خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا فَقَالَ: مَنْ يَنْتَدِبُ لِهَؤُلَاءِ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ بِنَا قُوَّةً؟ قَالَ: فَانْتُدِبَ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ فِي سَبْعِينَ خَرَجُوا فِي آثَارِ الْقَوْمِ، فَسَمِعُوا بِهِمْ. وَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ.
قَالَ: لَمْ يَلْقَوْا عدوّا. أخرجاه [6] .
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 174، تاريخ الطبري 2/ 534، 535.
[2] العقبة: النوبة.
[3] نهاية الأرب للنويري 17/ 127.
[4] أي: الإثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة. (السيرة والطبري) .
[5] رواية ابن الملّا: «كان أبوك» وهي هكذا في صحيح مسلم (2418) وفي رواية للبخاريّ.
[6] صحيح البخاري: كتاب المغازي: باب الذين استجابوا للَّه والرسول (5/ 130) ، وصحيح

(2/224)


وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [1] حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّ مَعْبَدًا الْخُزَاعِيَّ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الأَسَدِ. وَكَانَتْ خُزَاعَةُ مُسْلِمُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ عيبة نصح [2] لرسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، صَغْوُهُم [3] مَعَهُ لا يُخْفُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا كَانَ بِهَا. وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ. فَقَالَ: يا محمد، والله لقد عَزَّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَكَ، فِي أَصْحَابِكَ وَلَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ عَافَاكَ فِيهِمْ. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ بِالرَّوْحَاءِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ وَقَالُوا: أصَبْنَا حَدَّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وَقَادَتِهِمْ، ثُمَّ نَرْجِعُ قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ! لِنَكُونَ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ فَلَنَفْرَغَنَّ مِنْهُمْ. فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا قَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَدْ خَرَجَ فِي طَلَبِكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ تَحَرُّقًا، قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، فِيهِمْ مِنَ الْحَنقِ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ. قَالَ: وَيْلَكَ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتَّى تَرَى نَوَاصِيَ الْخَيْلِ. قال: فو الله لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ. قَالَ: فَإِنِّي أَنْهَاكَ [4] عَنْ ذَلِكَ، وَاللَّهِ لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْت عَلَى أَنْ قُلْتُ فِيهِمْ أَبْيَاتًا. قَالَ: وَمَا قُلْتَ؟ قَالَ:
كَادَتْ تُهَدُّ [5] مِنَ الأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إِذْ سَالَتِ الأَرْضُ بِالْجُرْد الأَبَابِيلِ [6]
__________
[ () ] مسلم (2418) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهم.
[1] سيرة ابن هشام 3/ 174.
[2] العيبة: ما يجعل فيه الثياب والمتاع. ومن المستعار: هو عيبة فلان إذا كان موضع سرّه.
[3] الصّغو: الميل. ومنه أصغى إليه أي مال إليه بسمعه. وتروى في بعض المصادر: صفقتهم معه، أي اتفاقهم. (انظر: سيرة ابن هشام 3/ 174 تاريخ الطبري 2/ 534) .
[4] في ع: فأنهى. وأثبتناه عبارة ابن الملا وهي مطابقة لما ورد في ابن هشام 3/ 174 وتاريخ الطبري 2/ 535.
[5] في ع: تهدي. والتصحيح من ابن الملا، وهي رواية ابن هشام والطبري، والأغاني.
[6] الجرد: جمع أجرد، وهو الفرس القصير الشّعر. والأبابيل: الفرق الكثيرة.

(2/225)


تُرْدِي [1] بِأُسْدٍ كِرَامٍ لا تَنَابِلَةٍ [2] ... عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلا مَيْلٍ [3] مَعَازِيلِ [4]
فَظَلْتُ عَدْوًا أَظُنُّ الأَرْضَ مائلة ... لَمَّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ
فَقُلْتُ: وَيْلَ ابْنِ حَرْبٍ مِنْ لِقَائِكُمُ ... إِذَا تَغَطْمَطَتِ الْبَطْحَاءُ بِالْجيلِ [5]
إِنِّي نَذَرْتُ [6] لأَهْلِ الْبَسْلِ ضَاحِيَةً ... لِكُلِّ ذِي إِرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ [7]
مِنْ جَيْشِ أَحْمَدَ، لاوخش [8] تَنَابِله [9] ... وَلَيْسَ يُوصَفُ مَا أَنْذَرْتُ بِالْقيلِ [10]
قَالَ: فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ. وَمَرَّ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ. أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: الْمَدِينَةَ، لِنَمْتَارَ. فَقَالَ: أَمَا أَنْتُمْ مُبَلِّغُونَ عَنِّي مُحَمَّدًا رِسَالَةً، وَأُحَمِّلُكُمْ عَلَى إِبِلِكُمْ هَذِهِ زَبِيبًا بِعُكَاظٍ غَدًا إِذَا وَافَيْتُمُوهُ [11] ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: إِذَا جِئْتُمْ مُحَمَّدًا فَأَخْبِرُوهُ أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا الرَّجْعَةَ إِلَى أَصْحَابِهِ لِنَسْتَأْصِلَهُمْ. فلما مرّ الركب بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الأَسَدِ أَخْبَرُوهُ [12] . فَقَالَ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ: حَسْبُنَا الله ونعم الوكيل. فأنزلت
__________
[1] في ع: ترمي. والتصحيح من ابن هشام والطبري. وتردي: أي تسرع.
[2] تنابلة: جمع تنبال وتنبالة، وهو القصير.
[3] عند الطبري 2/ 536 «خرق» .
[4] الميل: جمع أميل، وهو الجبان أو الّذي لا سيف معه. والمعازيل: جمع معزال وهو من لا رمح معه.
[5] تغطمطت: اضطربت البطحاء: السهل من الأرض. الجيل: الصّنف من النّاس أو الأمّة.
وفي سيرة ابن هشام (بالخيل) .
[6] كذا في الأصل، وعند ابن هشام والطبري «نذير» .
[7] البسل: الحرام. ورواية الأغاني «السيل» وكلاهما يعني مكة. والإربة: العقل.
[8] الوخش: رذالة الناس.
[9] عند الطبري «قنابله» .
[10] هذا البيت ليس عند ابن هشام.
[11] في ع: (وافيتموهم) وأثبتنا عبارة ابن الملا، وعند ابن هشام 3/ 174 «وافيتموها» وكذا عند الطبري.
[12] في ع: وعند ابن هشام والطبري: فأخبروه. وأثبتنا عبارة ابن الملا.

(2/226)


الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ 3: 173 [1] الآيَاتِ. وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [2] : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، كَمَا حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، لَهُ مَقَامٌ يَقُومُهُ كُلَّ جُمُعَةٍ لا يَتْرُكُهُ شَرَفًا لَهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي قَوْمِهِ. فَكَانَ إِذَا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَخْطُبُ قَامَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أظْهُرِكُمْ أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَعَزَّكُمْ بِهِ. فَعَزِّرُوهُ وَانْصُرُوهُ وَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوهُ. ثُمَّ يَجْلِسُ حَتَّى إِذَا صَنَعَ يَوْمَ أُحُدٍ مَا صَنَعَ وَرَجَعَ، قَامَ يَفْعَلُ كَفِعْلِهِ، فَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ ثِيَابَهُ مِنْ نَوَاحِيهِ، وَقَالُوا: اجْلِسْ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، لَسْتَ لِذَلِكَ بِأَهْلٍ، وَقَدْ صَنَعْتَ مَا صَنَعْتَ، فَخَرَجَ يتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي قُلْتُ بُجْرًا [3] أَنْ قُمْتُ أَشُدُّ أَمْرَهُ: فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِبَابِ المسجد فقال: مالك؟ وَيْلَكَ! قَالَ: قُمْتُ أَشُدُّ أَمْرَهُ فَوَثَبَ عَلَيَّ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَجْبِذُونَنِي [4] وَيُعَنِّفُونَنِي، لَكَأَنَّمَا قُلْتُ بُجْرًا [5] .
قَالَ: وَيْلَكَ ارْجِعْ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَبْغِي [6] أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَثنا سعيد بن محمد ابن أَبِي زَيْدٍ، ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بن سعيد، قالوا: كان سويد بن
__________
[1] سورة آل عمران: من الآية 173.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 175.
[3] في طبعة القدسي 205 «هجرا» والتصحيح من سيرة ابن هشام 3/ 175 قال السهيليّ في الروض الأنف 3/ 181: البجر: الأمر العظيم، والبجاري: الدواهي. انظر تاج العروس 10/ 106.
[4] يجبذونني: يجذبونني.
[5] انظر الحاشية الأسبق.
[6] في السيرة «ابتغي» .

(2/227)


الصَّامِتِ قَدْ قَتَلَ زِيَادًا، فَقَتَلَهُ الْمُجَذَّرُ بْنُ زِيَادٍ، فَهَيَّجَ بِقَتْلِهِ وَقْعَةَ بُعَاثٍ [1] .
فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَسْلَمَ المجذّر، والحارث بن سويد بن الصّامت، فشهدا بَدْرًا. فَجَعَلَ الْحَارِثُ يَطْلُبُ مُجَذَّرًا لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ فَقَتَلَهُ.
فَلَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَمْرَاءِ الأَسَدِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ قَتَلَ مجذَّرًا. فَرَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قُبَاءَ، فَأَتَاهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ فِي مِلْحَفَةٍ مُوَرَّسَةٍ. فَلَمَّا رآه دعا عويم بن ساعدة [2] وقال: اضرب عنق الحارث بمجذّر ابن ذياد. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ رُجُوعًا عَنِ الإِسْلامِ وَلَكِنْ حَمِيَةٌ، وَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأُخْرِجُ دِيَتَهُ وَأَصُومُ وَأَعْتِقُ. وَجَعَلَ يَتَمَسَّكُ بِرِكَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ فَرَغَ مِنْ كَلامِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدِّمْهُ يَا عُوَيْمُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ. فَضَرَبَ عنقه على باب المسجد.
__________
[1] بعاث: موضع في نواحي المدينة كانت به وقائع بين الأوس والخزرج في الجاهلية.
[2] بدريّ كبير شهد العقبتين. توفي في خلافة عمر بن الخطاب وهو ابن 65 سنة. انظر: مسند أحمد 3/ 422، الطبقات لابن سعد 3/ 2/ 30، التاريخ الصغير 1/ 44 و 74، مشاهير علماء الأمصار، رقم 107، حلية الأولياء 2/ 11 الاستيعاب 9/ 95، أسد الغابة 4/ 315، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 41، تهذيب الكمال 2/ 1068 سير أعلام النبلاء 1/ 503 الإصابة 3/ 181.

(2/228)


السَّنة الرابعَة
«سريّة أبي سلمَة إلى قطن في أوّلها»
قَالَ الْوَاقِدِيُّ [1] : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ الْيَرْبُوعِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الأَسَدِ، وَغَيْرِهِ قَالُوا: شَهِدَ أَبُو سَلَمَةَ أُحُدًا، وَكَانَ نَازِلًا فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَالِيَةِ، حَتَّى تَحَوَّلَ مِنْ قُبَاءَ فَجُرِحَ بِأُحُدٍ، وَأَقَامَ شَهْرًا يُدَاوِي جُرْحَهُ. فَلَمَّا كَانَ هِلالُ الْمُحَرَّمِ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: اخْرُجْ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ فَقَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَيْهَا: وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَقَالَ: سِرْ حَتَّى تَأْتِيَ أَرْضَ بَنِي أَسَدٍ فَأَغِرْ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ مَعَهُ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ، فَسَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى أَدْنَى قَطَن- مَاء مِنْ مِيَاهِهِمْ [2] ، فَيَجِدُونَ سَرْحًا لِبَنِي أَسَدٍ، فَأَغَارُوا عَلَيْهِ وَأَخَذُوا مَمَالِيكَ ثَلاثَةً، وَأَفْلَتَ سَائِرُهُمْ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَغَابَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً [3] . قَالَ عَمْرو بن عثمان: فحدّثني عبد الملك بن عمير [4] ، قال: لما
__________
[1] المغازي 1/ 340.
[2] يعني من مياه بني أسد. وقطن: ماء، ويقال جبل من أرض بني أسد بناحية فيد (ياقوت) .
[3] انظر الطبقات الكبرى 2/ 50 وعيون الأثر 2/ 38، 39.
[4] في ع: عبيد. والتصحيح من تهذيب التهذيب (6/ 411) ومغازي الواقدي (1/ 343) .

(2/229)


دخل أبو سلمة المدينة انتقض جُرْحُه، فمات لثلاث بقين من جُمَادى الآخرة [1] .
غزوة الرَّجيع [2]
وهي في صفر من السّنة الرابعة، فيما ورَّخه الواقدي [3] . وقال: هي عَلَى سبعة أميال من عُسْفان.
فحدثني موسى بن يعقوب، عَنْ أبي الأسود قَالَ: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابَ الرَّجيع عيونًا إلى مكة ليُخْبِروه [4] .
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أُسَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ رَهْطٍ عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الأَقْلَحِ الأَنْصَارِيَّ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَّاة، بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ. فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمُ التَّمْرَ، فَقَالُوا، نَوَى يَثْرِبَ، فَاتَّبَعُوا آثَارَهُمْ. فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ [5] فَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمُ: انْزِلُوا- فَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَنْ لا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أَحَدًا. قال عاصم: أما أنا فو الله لا أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ مُشْرِكٍ، اللَّهمّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ. فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سبعة
__________
[1] المغازي للواقدي 1/ 340.
[2] الرجيع: ماء لهذيل قرب الهداة أو الهدة، قيل بين عسفان ومكة، وقيل بين مكة والطائف.
[3] المغازي 354.
[4] المغازي لعروة 175.
[5] في ع: قردد. تصحيف، والتصحيح من صحيح البخاري. والفدفد: الأرض المرتفعة ذات الحصى.

(2/230)


مِنْ أَصْحَابِهِ، وَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاثَةٌ عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ: خُبَيْبٌ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ [1] ، وَآخَرُ. فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قُسِيِّهِمْ فَرَبَطُوهُمْ بِهَا.
فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لا أَصْحَبُكُمْ إِنَّ لِي بِهَؤُلاءِ أُسْوةٌ.
يُرِيدُ الْقَتْلَى. فَجَرُّوهُ وَعَالَجُوهُ، فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، وانطلقوا بخبيب، وزيد، حتى باعوهما بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ. فَابْتَاعَ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ خُبَيْبًا. وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَلَبِثَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَاسْتَعَارَ مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ مُوسَى يُسْتَحَدُّ بِهَا لِلْقَتْلِ فَأَعَارَتْهُ. فَدَرَجَ بُنَيٌّ لَهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ حَتَّى أَتَاهُ، فَوَجَدَتْهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعَتْ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فَقَالَ: أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، والله لقد وجدته يكل قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرَةٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ خُبَيْبًا. فَلَمَّا خَرَجُوا بِهِ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ قَالَ لَهُمْ: دَعُونِي أَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ. فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: والله لولا أن تحسبوا أنّ ما بِي جَزَعٌ مِنَ الْقَتْلِ لَزِدْتُ، اللَّهمّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا، وَلا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا [2] ، وَقَالَ:
فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أيّ جنب كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإله، وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو مُمَزَّعِ [3]
ثُمَّ قَامَ أَبُو سِرْوَعَةَ عُقْبَةُ بْنُ الحارث فقتله.
__________
[1] الدّثنة: ضبط في المواهب اللدنية: بفتح الدال وكسر الثاء مع فتح النون، المشدّدة، وزاد البرهان: وقد تسكّن الثاء، وضبط صاحب القاموس بكسر الثاء مع فتح النون المخفّفة.
[2] انظر سيرة ابن هشام 3/ 226، المغازي لعروة 175- 177، عيون الأثر 2/ 40، 41.
[3] البيتان في عيون الأثر 2/ 41 والبداية والنهاية 4/ 63، وانظر: سيرة ابن هشام 3/ 227، ونهاية الأرب للنويري 17/ 136، 137 والمغازي لعروة 177.

(2/231)


وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا، الصَّلاةَ.
وَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمٍ يَوْمَ أُصِيبَ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ. وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ لِيَأْتُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَى عَاصِمٍ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ [1] ، فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئًا.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [2] .
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ وَأَصْحَابَهُ عَيْنًا لَهُ، فَسَلَكُوا النَّجْدِيَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالرَّجِيعِ، فَذَكَرُوا الْقِصَّةَ [3] .
قَالَ مُوسَى: وَيُقَالُ: كَانَ أَصْحَابُ الرَّجِيعِ سِتَّةً مِنْهُمْ: عَاصِمٌ، وَخُبَيْبٌ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ- حَلِيفٌ لِبَنِي ظَفَر- وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ اللَّيْثِيّ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ، حَلِيفُ حَمْزَةَ. وَسَاقَ حَدِيثَهُمْ [4] .
وَقَالَ يُونُسُ، عن ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بْنِ قَتَادَةَ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارَةِ [5] قدموا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ أُحُدٍ فَقَالُوا:
إِنَّ فِينَا إِسْلامًا، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِكَ لِيُفَقِّهُونَا فِي الدِّينِ وَيُقْرِئُونَا الْقُرْآنَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ خُبَيْبُ بْنُ عديّ [6] .
__________
[1] الدّبر: جماعة النّحل. ويقال: الزنابير ونحوهما مما سلاحها في أدبارها. (تاج العروس 11/ 253) .
[2] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الرّجيع إلخ. (5/ 40، 41) .
[3] المغازي لعروة 175، مجمع الزوائد للهيثمي 6/ 199، فتح الباري 7/ 384.
[4] سيرة ابن هشام 3/ 224، المغازي للواقدي 1/ 354، 355.
[5] عضل والقارة، حيّان من الهون بن خزيمة بن مدركة.
[6] سيرة ابن هشام 3/ 224.

(2/232)


قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَعَثَ مَعَهُمْ سِتَّةً، أَمَّرَ عَلَيْهِمْ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ، [1] وَسَمَّاهُمْ كَمَا قَالَ مُوسَى.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجُوا مَعَ الْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا عَلَى الرَّجِيعِ- مَاءٌ لِهُذَيْلٍ بِنَاحِيَةِ الْحِجَازِ عَلَى صُدُورِ الْهدأة [2]-، غَدَرُوا بِهِمْ. فَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ هُذَيْلًا، فَلَمْ يَرُع الْقَوْمَ وَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ إِلا الرِّجَالُ بِأَيْدِيهِمُ السُّيُوفُ، فَأَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ لِيُقَاتِلُوهُمْ، فَقَالُوا لَهُمْ: مَا نُرِيدُ قَتْلَكُمْ وَلَكِنَّا نُرِيدُ أَنْ نُصِيبَ بِكُمْ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَكُمْ عَلَيْنَا عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنْ لا نَقْتُلَكُمْ. فَأَمَّا مَرْثَدٌ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ الْبُكَيْرٍ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نَقْبَلُ مِنْ مُشْرِكٍ عَهْدًا وَلا عَقْدًا أَبَدًا. وَأَرَادَتْ هُذَيْلٌ أَخْذَ رَأْسِ عَاصِمٍ لِيَبِيعُوهُ مِنْ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، وَكَانَتْ قَدْ نَذَرَتْ حِينَ أَصَابَ ابْنَيْهَا يَوْمَ أُحُدٍ، لَئِنْ قَدَرَتْ عَلَى عَاصِمٍ لَتَشْرَبَنَّ فِي قِحْفِهِ الْخَمْرَ، فَمَنَعَتْهُ الدَّبْرُ، فَانْتَظَرُوا ذِهَابَهَا عَنْهُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الْوَادِيَ فَحَمَلَ عَاصِمًا فَذَهَبَ بِهِ [3] .
وَقَدْ كَانَ عَاصِمٌ أَعْطَى اللَّهَ عَهْدًا أَنْ لا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ وَلا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا تَنَجُّسًا. وَأَسَرُوا خُبَيْبًا، وَابْنَ الدَّثِنَةِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَارِقٍ، ثُمَّ مَضَوْا بِهِمْ إِلَى مَكَّةَ لِيَبِيعُوهُمْ. حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالظَّهْرَانِ انتزاع [4] عَبْدُ اللَّهِ يَدَهُ مِنَ الْقِرَانِ [5] ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ وَاسْتَأْخَرَ عَنِ الْقَوْمِ، فَرَمَوْهُ [6] بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قتلوه، فقبره بالظّهران [7] .
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 224.
[2] في ع: الهدء، وانظر ما تقدّم.
[3] سيرة ابن هشام 3/ 224، 225، الأغاني 4/ 225- 227.
[4] في ع: أن تزع. والتصحيح من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري (2/ 539) وابن الملّا.
[5] في ع: القراب. والتصحيح من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري. وعبارة ابن الملّا: الوثاق.
[6] في ع: فرموا. والتصحيح من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري.
[7] سيرة ابن هشام 3/ 225، تاريخ الطبري 2/ 539.

(2/233)


وقال البكّائيّ، عَنِ ابن إسحاق [1] ، حدّثني يحيى، عَنْ أبيه عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبير، عَنْ عُقْبَةَ بن الحارث، سَمِعْتُهُ يَقْولُ: ما أنا والله قتلتُ خُبَيْبًا، لأنا كنتُ أصغر من ذَلِكَ، ولكن أبا مَيسْرة أخا بني عبد الدّار أخذ الحرْبَةَ فجعلها في يدي، ثُمَّ أخذ بيدي وبالحربة، ثُمَّ طعنه بِهَا حتى قتله.
ثُمَّ ذكر ابن إسحاق أنّ خبيبًا قَالَ:
لقد جَمَّع الأحزابُ حولي وألَّبُوا ... قبائلَهم واستجمعوا كلّ مجمَّعِ
فكلّهم [2] مُبْدِي العداوةَ جاهدٌ [3] ... عليَّ لأنّي في وثاق مضيعِ [4]
وقد جمعوا [5] أبناءَهم ونساءَهم ... وقُرِّبَتْ من جذعٍ طويلٍ مُمَنَّعِ
إلى الله أشكو غُرْبَتي ثُمَّ كُرْبَتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبّرني [6] على ما يرادني [7] ... فقد بضّعوا لحمي وقد ياس [8] مطمعي
وذلك في ذاتِ الِإلهِ وإنْ يشأْ ... يُبارِكْ عَلَى أَوْصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
وقد خيّروني الكفَر والموتُ دُونه ... وقد هملتْ عَيْناي من غير مَجْزَع [9]
وما بي حِذارُ الموتِ، إنّي لميّت ... ولكن حذاري جحم نار ببلقع [10]
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 226، تاريخ خليفة 75.
[2] في سيرة ابن هشام، ونهاية الأرب 17/ 136 «وكلّهم» .
[3] في نهاية الأرب «جاهدا» .
[4] في السيرة «بمصيع» وفي نهاية الأرب «بمضيع» .
[5] وفي نهاية الأرب «قرّبوا» .
[6] في ع: صبري. والتصحيح من ابن الملا وابن هشام والنويري.
[7] في نهاية الأرب «على ما أصابني» .
[8] لغة في (يئس) . وفي نهاية الأرب «ضلّ» وفي المغازي لعروة «بان» .
[9] البيت في نهاية الأرب:
وقد عرّضوا بالكفر والموت دونه ... وقد ذرفت عيناي من غير مدمع
[10] في نهاية الأرب:
ولكن حذاري حرّ نار تلفع.

(2/234)


وو الله ما أرجو إذا متُّ مسلِمًا ... عَلَى أيّ جنبٍ كان في الله مَصْرَعي [1]
فلست بمُبدٍ للعدوّ تَخَشُّعًا ... ولا جَزَعًا إنّي إلى الله مرجعي
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، وَجَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ جَدِّهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ عَيْنًا، قَالَ: فَجِئْتُ إِلَى خَشَبَةِ خُبَيْبٍ فَرَقِيتُ فِيهَا وَأَنَا أَتَخَوَّفُ الْعُيُونَ، فَأَطْلَقْتُهُ فَوَقَعَ بِالأَرْضِ، ثُمَّ اقْتَحَمْتُ فَانْتَبَذْتُ قَلِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ خُبَيْبًا، فَكَأَنَّمَا ابْتَلَعَتْهُ الأَرْضُ.
زَادَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ: فَلَمْ يُذْكَرْ لِخُبَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِمَّةٌ حَتَّى السَّاعَةِ [2] .
غزوة بئر مَعُوَنة [3]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحاب بئر مَعُوَنة [4] في صفر، عَلَى رأس أربعةِ أشهرٍ من أحد [5] .
__________
[1] يرد هذا البيت بألفاظ مختلفة راجع: المغازي لعروة 177 ونهاية الأرب 17/ 177 والمواهب اللدنية.
[2] تاريخ الطبري 2/ 541، 542، الأغاني 4/ 228، 229.
[3] انظر عنها: المغازي لعروة 178- 181، سيرة ابن هشام 3/ 230- 232، المغازي للواقدي 1/ 346 وما بعدها، الطبقات الكبرى 2/ 51- 54، تاريخ خليفة 76 تاريخ الطبري 2/ 545- 550، الروض الأنف 3/ 238، صحيح البخاري، كتاب المغازي، نهاية الأرب 17/ 130، عيون التواريخ 1/ 184، عيون الأثر 2/ 43 وما بعدها، البداية والنهاية 4/ 71- 74.
[4] بئر معونة: قيل بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم، وقيل بين جبال يقال لها أبلى في طريق المصعد من المدينة إلى مكة، وقيل ماء لبني عامر بن صعصعة، وقيل في أرض بني سليم وأرض بني كلاب وعندها كانت قصة الرجيع. (معجم البلدان 1/ 302) .
[5] سيرة ابن هشام 3/ 230.

(2/235)


وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي عبد الرحمن بن عبد الله ابن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَرِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ مَالِكٍ الَّذِي يُدْعَى «مُلاعِبَ الأَسِنَّةِ» قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِسْلامَ. فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ، وَأَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً. فَقَالَ: إِنِّي لا أَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ. فَقَالَ: ابْعَثْ مَعِي مَنْ شِئْتَ مِنْ رُسُلِكَ، فَأَنَا لَهُمْ جَارٌ. فَبَعَثَ رَهْطًا، فِيهِمُ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو السَّاعِدِيُّ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ «أَعْنَقَ لِيَمُوتَ» [1] ، بَعَثَهُ عَيْنًا لَهُ في أهل نجد. فسمع بهم عَامِر بْن الطُّفَيْلِ، فَاسْتَنْفَرَ بَنِي عَامِرٍ، فَأَبَوْا أَنْ يُطِيعُوهُ. فَاسْتَنْفَرَ بَنِي سُلَيْمٍ فَنَفَرُوا مَعَهُ. فَقَتَلُوهُمْ بِبِئْرِ مَعُونَةَ، غَيْرَ عَمْرِو بْنِ أُمَّيَةَ الضَّمْرِيِّ، فَإِنَّهُ أَطْلَقَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ. فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [2] : حَدَّثَنِي وَالِدِي، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الحارث بْن هشام، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، وَغَيْرِهِمَا، قَالُوا: قَدِمَ أَبُو الْبَرَاءِ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ، مُلاعِبُ الأَسِنَّةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَبْعُدْ مِنَ الإِسْلامِ. وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَوْ بَعَثْتَ مَعِي رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَى أَهْلِ نَجْدٍ يَدْعُونَهُمْ إِلَى أَمْرِكَ رَجَوْتُ أَنْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ. قَالَ: أَخْشَى عَلَيْهِمْ أَهْلَ نجد. قال أبو البراء: أنار لَهُمْ جَارٌ. فَبَعَثَ الْمُنْذَرَ بْنَ عَمْرٍو فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا، فِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّة، وَحَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ، أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَعُرْوَةُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ السُّلَمِيُّ، وَنَافِعُ [3] بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، فِي خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَارُوا حَتَّى بلغوا بئر معونة، بين أرض بني عامر وحرّة بني
__________
[1] أعنق ليموت، أو المعنق ليموت: أي المسرع، سمى بذلك لإسراعه إلى الشهادة.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 230، 231، تاريخ الطبري 2/ 546، 547.
[3] في طبعة القدسي 213 «رافع» والتصحيح من تاريخ الطبري 2/ 546، والإصابة 3/ 543 وهو «نافع بن بديل بن ورقاء» .

(2/236)


سُلَيْمٍ. ثُمَّ بَعَثُوا حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، فَلَمْ يَنْظُرْ فِي الْكِتَابِ حَتَّى قَتَلَ الرَّجُلُ. ثُمَّ اسْتَصْرَخَ بَنِي سُلَيْمٍ فَأَجَابُوهُ وَأَحَاطُوا الْقَوْمَ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى اسْتُشْهِدُوا كُلُّهُمْ إِلا كَعْبَ بْنَ زَيْدٍ، مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، تَرَكُوهُ وَبِهِ رَمَقٌ فَارتُثَّ [1] مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى، فَعَاشَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ.
وَكَانَ فِي سَرْح الْقَوْمِ عَمْرو بْن أُمَيَّةَ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ [2] ، فَلَمْ يُخْبِرْهُمَا بِمُصَابِ الْقَوْمِ إِلَّا الطَّيْرُ تَحُومُ عَلَى الْعَسْكَرِ، فَقَالا: وَاللَّهِ إِنَّ لِهَذِهِ الطَّيْرِ لَشَأْنًا، [فَأَقْبَلا] [3] لِيَنْظُرَا، فَإِذَا الْقَوْمُ فِي دِمَائِهِمْ وَإِذَا الْخَيْلُ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ وَاقِفَةٌ. فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ لِعَمْرٍو: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فَنُخْبِرهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: لَكِنِّي لَمْ أَكُنْ لأَرْغَبَ بِنَفْسِي عَنْ مَوْطِنٍ قُتِلَ فِيهِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَا كُنْتُ لأُخْبِرَ عَنْهُ الرِّجَالَ. وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَأَسَرُوا عُمَرًا. فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مِنْ مُضَرَ أَطْلَقَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وجزّ نَاصِيَتَهُ [4] وَأَعْتَقَهُ. فَلَمَّا كَانَ بِالْقَرْقَرَةِ [5] أَقْبَلَ رَجُلانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ حَتَّى نَزَلَا فِي ظِلٍّ هُوَ فِيهِ، وَكَانَ مَعَهُمَا عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجوارٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ عَمْرٌو. حَتَّى إِذَا نَامَا عَدَا عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ [فَقَالَ] [6] :
قَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ، لأَدِيَنَّهُمَا. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، قَدْ كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا مُتَخَوِّفًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا الْبَرَاءِ فَشُقَّ عَلَيْهِ إِخْفَارُ عَامِرٍ إيّاه [7] ،
__________
[1] ارتثّ: حمل من المعركة جريحا وبه رمق.
[2] قال ابن هشام هو أحد بني عمرو بن عوف.
[3] بياض في ع والتكملة من ابن هشام 3/ 231.
[4] المغازي لعروة 179، 180.
[5] القرقرة: هي قرقرة الكدر، أو قرارة الكدر، وقد تقدّم التعريف بها.
[6] إضافة على الأصل لضرورة السياق فالقول للرسول صلّى الله عليه وسلّم، انظر: السيرة 3/ 231، وابن سعد 2/ 53.
[7] عبارة فشقّ عليه إخفار عامر أبا براء. وقد أثبتنا عبارة ابن الملّا وهي مطابقة لنصّ ابن هشام 3/ 231، 232.

(2/237)


فَحَمَلَ رَبِيعَةَ وَلَد أَبِي بَرَاءٍ عَلَى عَامِرِ بن الطّفيل فطعنه فِي فَخِذِهِ فَأَشْوَاهُ فَوَقَعَ مِنْ فَرَسِهِ وَقَالَ: هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، إِنْ مِتُّ فَدَمِي لِعَمِّي فَلا يُتْبَعَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَعِشْ فَسَأَرَى رَأْيِي [1] .
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ارتُثَّ فِي الْقَتْلَى كَعْب بْن زَيْدٍ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: أَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَاسًا جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا يُعَلِّمُونَنَا الْقُرْآنَ، وَالسُّنَّةَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ، وَفِيهِمْ خَالِي حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ وَيَتَعَلَّمُونَ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَتَحَطَّبُونَ فَيَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ، فَبَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَتَعَرَّضُوا لَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ.
قَالُوا: اللَّهمّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّكَ أَنْ قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِيتَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْكَ.
قَالَ: وَأَتَى رَجُلٌ خَالِي مِنْ خَلْفِهِ فَطَعَنَهُ بِالرُّمْحِ حَتَّى أَنْفَذَهُ، فَقَالَ حَرَامٌ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا وَقَالُوا: اللَّهمّ أَبْلِغْ عَنَّا نَبِيَّكَ أَنْ قَدْ لَقِينَاكَ فرضيناك عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ [2] . وَقَالَ هَمَّامٌ وَغَيْرُهُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: حَدَّثَنِي أَنَسٌ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَالَهُ حَرَامًا فِي سَبْعِينَ رَجُلا فَقُتِلُوا يَوْمَ بِئْرِ مَعْونَةَ. وَكَانَ رَئِيسُ الْمُشْرِكِينَ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ، وَكَانَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 232 وانظر المغازي لعروة 180، ومجمع الزوائد للهيثمي، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات إلى ابن إسحاق.
[2] صحيح مسلم (1902) : كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنّة للشهيد.

(2/238)


أُخَيِّرُكَ بَيْنَ ثَلاثِ خِصَالٍ: أَنْ يَكُونَ لَكَ أَهْلُ السَّهْلِ وَلِي أَهْلُ الْمَدَرِ، أَوْ أَكُونَ خَلِيفَتَكَ مِنْ بَعْدِكَ، أَوْ أَغْزُوَكَ [1] بِغَطَفَانَ بِأَلْفِ أَشْقَرَ وَأَلْفِ شَقْرَاءَ، قَالَ: فَطُعِنَ [2] فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي فُلانٍ، فَقَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَكْرِ [3] فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي فُلانٍ ائْتُونِي بِفَرَسِي، فَرَكِبَهُ، فَمَاتَ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ.
وَانْطَلَقَ حَرَامٌ وَرَجُلانِ مَعَهُ أَحَدُهُمَا أَعْرَجُ فَقَالَ: كُونَا قَرِيبًا مِنِّي حَتَّى آتِيَهُمْ فَإِنْ آمَنُونِي كُنْتُ كُفْوًا، وَإِنْ قَتَلُونِي أَتَيْتُمْ أَصحَابَكُمْ. فَأَتَاهُمْ حَرَامٌ فَقَالَ:
أَتُؤَمِّنُونِي أُبلِّغُكُمْ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ، وَأَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ مَنْ خَلْفَهُ فَطَعَنَهُ. قَالَ هَمَّامٌ، وَأَحْسَبُهُ قَالَ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. قَالَ: وَقُتِلَ كُلُّهُمْ إِلا الأَعْرَجَ، كَانَ فِي رَأْسِ الْجَبَلِ.
قَالَ أَنَسٌ: أُنْزِلَ عَلَيْنَا، ثُمَّ كَانَ مِنَ الْمَنْسُوخِ، «إِنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَيْنَاهُ» . فَدَعا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعِينَ صَبَاحًا عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ وَعُصَيَّةً عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ: ثَلَاثِينَ صَبَاحًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ [4] .
وَرَوَى نَحْوَهُ قَتَادَةُ، وَثَابِتٌ، وَغَيْرُهُمَا، عَنْ أَنَسٍ. وَبَعْضُهُمْ يَخْتَصِرُ الْحَدِيثَ.
قَالَ سليمان بن المُغيرة، عَنْ ثابت قَالَ: كتب أَنَس في أهله كتابًا فقال: اشهدوا معاشرَ القرّاء. فكأنّي كرهت ذَلِكَ، فقلت: لو سمّيتهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، فقال: وما بأس أن أقول لكم معاشرَ القُرّاء، أفلا أحدّثكم عَنْ إخوانكم الذين كنّا ندعوهم عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم القرّاء؟
__________
[1] في ع: عذول، تصحيف تصحيحه من صحيح البخاري 5/ 42.
[2] طعن: أصابه الطاعون.
[3] البكر: الفتى من الإبل. وغدّة البكر أي الطّاعون الّذي يصيبه.
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع 5/ 42، 43 وانظر المغازي لعروة 181.

(2/239)


قَالَ: فذكر أنس سبعين من الأنصار كانوا إذا جهنّم الليل أوَوْا إلى معلم بالمدينة فيبيتون يدرسون، فإذا أصبحوا فمَنْ كانت عنده قوة أصاب من الحَطَب واستعذب من الماء، ومن كانت عنده سَعَةٌ أصابوا الشَّاة فأصلحوها.
فكان معلّقًا بحجر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا أصيب خُبَيْب، بَعَثَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ فيهم خالي حرام. فأتوا عَلَى حيٍّ من بني سُلَيْم، فقال حَرام لأميرهم:
دعني، فلا خير [في] هَؤلاءِ. إنّا لَيْسَ إيّاهم نريد فيخلّون وجوهنَا. فأتاهم فقال ذَلِكَ، فاستقبله رجل منهم برُمْحٍ فأنفذه به. قَالَ: فلما وجد حَرام مسّ الرمح قَالَ: الله أكبر فزتُ وربِّ الكعبة. قَالَ: فانطووا عليهم فما بقي منهم مُخْبِر. قَالَ: فما رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجد على شيء وجده عليهم. فقال أنس: لقد رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلّما صلّى الغداةَ رفع يديه يدعو عليهم:
فلما كان بعد ذَلِكَ، إذا أبو طلحة يَقْولُ: هل لك في قاتلِ حَرام؟ قلت: ما له، فعل الله به وفعل. فقال: لا تفعل، فقد أسلم.
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: ثنا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
كَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ غُلامًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ، أَخِي [1] عَائِشَةَ لأُمِّهَا، وَكَانَتْ لأَبِي بَكْرٍ مِنْحَةٌ [2] ، فَكَانَ يَغْدُو بِهَا وَيَرُوحُ، وَيُصْبِحُ فَيَدَّلِجُ إِلَيْهِمَا ثُمَّ يَسْرَحُ فَلا يَفْطُنُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الرِّعَاءِ. ثُمَّ خَرَجَ مَعَهُمَا يُعْقِبَانِهِ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ مَعَهُمَا. فَقُتِلَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ. فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: مَنْ هَذَا؟ وَأَشَارَ إِلَى قَتِيلٍ. قَالَ: هذا عامر ابن فُهَيْرَةَ. فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ مَا قُتِلَ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى أَنِّي لأَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَرْضِ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ البخاري [3] .
__________
[1] في صحيح البخاري 5/ 43 «أخو» .
[2] المنحة: النّاقة يدرّ منها اللبن.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع 5/ 43، 44.

(2/240)


قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُحَرِّضُ بَنِي أَبِي الْبَرَاءِ عَلَى عَامِرِ [بْنِ] الطُّفَيْلِ:
بَنِي أُمِّ الْبَنِينَ أَلَمْ يَرُعْكُمْ ... وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوَائبِ أَهْلِ نَجْدِ
تَهَكُّمُ عَامِرٌ بِأَبِي بَرَاءٍ ... لِيُخْفِرَهُ، وَمَا خَطَأٌ كَعَمْدِ
أَلا أَبْلِغْ رَبِيعَةَ ذَا الْمَسَاعِي ... فَمَا أَحْدَثْتَ فِي الْحَدَثَانِ بَعْدِي
أَبُوكَ أَبُو الْحُرُوبِ أَبُو بَرَاءٍ ... وَخَالُكَ ماجد حكم بن سعد [1]
__________
[1] ديوانه: ص 107 باختلاف في بعض الألفاظ وفي ترتيب الأبيات، وانظر: سيرة ابن هشام 3/ 232، وتاريخ الطبري 2/ 548.

(2/241)


ذَكَرَ الخلاف فِي غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي سَنَةِ ثَلاثٍ ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ إِلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ أُحُدٍ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ، وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْبُنِّ، أنا جَدِّي، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْمِصِّيصِيُّ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، أنا عَلِيُّ بْنُ أَبِي العقب، أنا أحمد بن إبراهيم، ثنا محمد بْنُ عَائِذٍ، ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إلى بني النضير يستعينهم في عقل [1] الكلابيين. قَالُوا: اجْلِسْ أَبَا الْقَاسِمِ، حَتَّى تَطْعَمَ وَتَرْجِعَ بِحَاجَتِكَ.
ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ وَتَقَدَّمَ ذِكُرُهُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتْ بَنُو النَّضِيرِ أَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى فَأَطَافَ بِمَنَازِلِهِمْ، فَرَأَى خَرَابَهَا، وفكّر ثم
__________
[1] العقل: الدّية.

(2/243)


رَجَعَ إِلَى قُرَيْظَةَ فَيَجِدُهُمْ فِي الْكَنِيسَةِ فَيَنْفُخُ فِي بُوقِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا. فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَاطَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَيْنَ كُنْتَ مُنْذُ الْيَوْمِ، وَكَانَ لا يُفَارِقُ الْكَنِيسَةَ وَكَانَ يَتَأَلَّهُ فِي الْيَهُودِيَّةِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْيَوْمَ عِبَرًا قَدْ عَبَرْنَا بِهَا، رَأَيْتُ مَنَازِلَ إِخْوَانِنَا خَالِيَةً بَعْدَ ذَلِكَ الْعِزِّ وَالْجَلَدِ وَالشَّرَفِ الْفَاضِلِ وَالْعَقْلِ الْبَارِعِ، قَدْ تَرَكُوا أَمْوَالَهُمْ وَمَلَكَهَا غَيْرُهُمْ وَخَرَجُوا خُرُوجَ ذُلٍّ. وَلا وَالتَّوْرَاةِ مَا سُلِّطَ هَذَا عَلَى قَوْمٍ قَطُّ للَّه [1] بِهِمْ حَاجَةٌ. فَقَدْ أَوْقَعَ قَبْلَ ذلك بابن الأشرف ذِي عِزِّهِمْ؟ بَيْتُهُ فِي بَيْتِهِ آمِنًا، وَأَوْقَعَ بِابْنِ سُنَيْنَةَ سَيِّدِهِمْ، وَأَوْقَعَ بِبَنِي [2] قَيْنُقَاعَ فَأَجْلاهُمْ وَهُمْ جَدُّ يَهُودَ، وَكَانُوا أَهْلَ عِدَّةٍ وَسِلاحٍ وَنَجْدَةٍ، وَحَصَرَهُمْ فَلَمْ يُخْرِجْ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ رَأْسَهُ حَتَّى سَبَاهُمْ، وَكُلِّمَ فِيهِمْ فَتَرَكَهُمْ عَلَى أَنْ أَجْلاهُمْ مِنْ يَثْرِبَ، يَا قَوْمُ قَدْ رَأَيْتُمْ ما رأيت فأطيعوني وتعالوا نتّبع محمدا، فو الله إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ بَشَّرَنَا بِهِ وَبِأَمْرِهِ ابُنُ التَّيْهَانِ وَابْنُ الْحَوَّاسِ [3] ، وَهُمَا أَعْلَمُ يَهُودَ، جَاءَانَا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَتَوَكَّفَانِ [4] قُدُومَهُ، أَمَرَانَا بِاتِّبَاعِهِ، وَأَمَرَانَا أَنْ نُقْرِئَهُ مِنْهُمَا السَّلامَ، ثم ماتا على دينهما، فأسلكت الْقَوْمُ، فَأَعَادَ هَذَا الْقَوْلَ وَنَحْوَهُ، وَتَخَوُّفَهُمْ بِالْحَرْبِ وَالسِّبَاءِ وَالْجَلاءِ. فَقَالَ ابْنُ بَاطَا: وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ [5] صِفَتَهُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى، لَيْسَ فِي الْمَثَانِي الَّتِي أَحْدَثْنَا.
فَقَالَ له كعب بن أسد: ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتّباعه؟ قال:
أنت، قال كعب: ولم، التّوراة ما حالت [6] بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَطُّ، قَالَ الزُّبَيْرُ:
أَنْتَ صَاحِبُ عَهْدِنَا وَعَقْدِنَا فَإِنِ اتَّبَعْتَهُ اتَّبَعْنَاهُ وَإِنْ أَبَيْتَ أبينا. فأقبل عمرو بن
__________
[1] في ع: (الله) . والتصحيح من ابن الملّا.
[2] في ع: (بني) والتصحيح من ابن الملّا.
[3] في ع: ابن الهيبان وابن جواس، والتصحيح من ابن الملّا.
[4] يتوكف الخبر: يتوقعه ويتسقّطه.
[5] نصّ عبارة ع: قال ابن باطا: قرءوا التوراة قرأت صفته. وهي مضطربة وصحّحناها من ابن الملا.
[6] في ع: حلت، ولعلّ الوجه ما أثبتناه.

(2/244)


سُعْدَى عَلَى كَعْبٍ فَذَكَرَ مَا تَقَاوَلا، فِي ذَلِكَ، إِلَى أَنْ قَالَ كَعْبٌ: مَا عِنْدِي فِي أَمْرِهِ إِلا مَا قُلْتُ، مَا تَطِيبُ نَفْسِي أَنْ أَصِيرَ تَابِعًا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ.
وَحَاصَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ لَيَالٍ [1] .
قَالَ: وَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ [2] .
غزوة بني لحيان
قَالَ ابن إسحاق [3] : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُمادَى الأولى، عَلَى رأس ستّة أشهرٍ من صُلح [4] بني قُرَيْظة إلى بني لحيان بطلب بأصحاب الرَّجيع: خُبَيْب وأصحابه، وأظهر أنّه يريد الشامَ ليصيب من القوم غِرَّة.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ، وَغَيْرِهِ قَالُوا: لَمَّا أُصِيبَ خُبَيْبٌ وَأَصْحَابُهُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلبًا لِدِمَائِهِمْ لِيُصِيبَ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ غِرَّةً، فَسَلَكَ طَرِيقَ الشّام وورى عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ لا يُرِيدُ بَنِي لِحْيَانَ، حَتَّى نَزَلَ أَرْضَهُمْ- وَهُمْ مِنْ هُذَيْلٍ- فَوَجَدَهُمْ [5] قَدْ حَذِرُوا فَتَمَنَّعُوا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّا هَبَطْنَا عُسْفَانَ لَرَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّا قَدْ جِئْنَا مَكَّةَ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ حَتَّى نَزَلَ
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 240.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 240.
[3] سيرة ابن هشام 3/ 297.
[4] في ع: صالح. والتصحيح من ابن الملّا.
[5] في ع: فوجدوهم، والتصحيح من ابن الملّا.

(2/245)


عُسْفَانَ، ثُمَّ بَعَثَ فَارِسَيْنِ حَتَّى نَزَلا كُرَاعَ الْغَمِيمِ [1] ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَيْهِ [2] . فَذَكَرَ أَبُو عَيَّاشٍ الزُّرَقِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِعُسْفَانَ صَلاةَ الْخَوْفِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَغَازِي إِنَّ غَزْوَةَ بَنِي لِحْيَانَ كَانَتْ بَعْدَ قُرَيْظَةَ.
غزوة ذاتِ الرِّقاع [3]
قَالَ ابن إسحاق [4] : إنها في جمادى الأولى سنة أربع، وهي غزوة خصفة من بني ثَعْلبة من غَطَفَان.
وقال محمد بن إسماعيل [5] رحِمه الله: كانت بعد خَيْبَر، لأنّ أبا موسى جاء بعد خَيْبر، يعني وشهِدَها. قَالَ: وإنّما جاء أبو هُرَيْرَةَ فأسلم أيامَ خيبر.
وقال ابن إسحاق [6] : في هذه الغزوة سَارَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نزل نَخْلا [7] ، فلقي بِهَا جمعًا من غطفان، فتقارب النّاس ولم يكن بينهم حرب.
__________
[1] كراع الغميم: واد بعد عسفان بثمانية أميال، وقيل فيما بين عسفان ومرّ الظّهران، والكراع جبل أسود في طرف الحرّة يمتدّ إليه (معجم البلدان 4/ 443، ووفاء ألوفا: 354) .
[2] سيرة ابن هشام 3/ 297.
[3] قيل سمّيت بذلك لأنّ أقدامهم نقبت «رقّت جلودها» فكانوا يلفّون عليها الخرق وقيل بل سمّيت بذلك لأنهم رقّعوا راياتهم فيها، ويقال: ذات الرقاع شجرة بذلك الموضع. (انظر الدرر في المغازي والسير لابن عبد البر 176، وصحيح البخاري، باب غزوة ذات الرقاع) .
[4] سيرة ابن هشام 3/ 246.
[5] صحيح البخاري 5/ 51 باب غزوة ذات الرقاع.
[6] سيرة ابن هشام 3/ 246.
[7] في ع: النخلة، والتصحيح من البخاري وابن هشام وياقوت حيث قال في نخل: منزل في منازل بني ثعلبة من المدينة على مرحلتين، وقيل موضع بنجد من أرض غطفان مذكور في غزوة ذات الرقاع (معجم البلدان 5/ 276) .

(2/246)


وقد خاف النّاس بعضهم بعضًا، حتى صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه صلاة الخوف. ثُمَّ انصرف بالنّاس.
وقال الواقدي: إنّما سُمِّيت ذاتِ الرّقاع لأنّها [1] قِبَل جبلٍ كان فيه بُقَعُ حمرةٍ وسواد وبياض، فسُمِّي ذات الرّقاع.
قَالَ: وخرج رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعشرٍ خَلَوْن من المحرَّم، عَلَى رأس سبعة وأربعين شهرا، [و] قدم صرارًا [2] لخمسٍ بقين من المحرَّم. وذات الرِّقاع قريبة من النُّخَيل بين السَعد والشُقْرَة [3] .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَحَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ.
وَعَنْ مَالِكٍ، وَغَيْرِهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَدِمَ قَادِمٌ بجلب [4] له، فاشترى بسوق النّبط [5] ، وقالوا: مِنْ أَيْنَ جَلْبُكَ؟ قَالَ: جِئْتُ بِهِ مِنْ نَجْدٍ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْمَارًا وَثَعْلَبَةَ [6] قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ جُمُوعًا، وَأَرَاكُمْ هَادِينَ عَنْهُمْ. فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ. فَخَرَجَ في أربعمائة من أصحابه-
__________
[1] في ع: لأنّه. ولعلّ الوجه ما أثبتناه.
[2] صرار: موضع، وقيل ماء، وقيل بئر قديمة على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق (معجم البلدان 3/ 398) .
[3] النّخيل: بصيغة التصغير، منزل في طريق فيد به مياه وسوق قرية الكديد وهو معروف اليوم بقرب الكديد فوق الشقرة، والسعد: موضع بقرب المدينة شرقيّ النّخيل، وقيل جبل بينه وبين الكديد ثلاثون ميلا على جادّة طريق كان يسلك من فيد إلى المدينة. والشقرة: موضع بطريق فيد بين جمال حمر على نحو ثمانية عشر ميلا من النخيل، ولا تزال معروفة (من تعليقات العلامة الشيخ حمد الجاسر على هامش المغانم المطابة) . وانظر: معجم البلدان 3/ 22.
[4] الجلب: ما يجلب من الخيل والإبل والمتاع ونحوه.
[5] النبط: هم الأنباط، قوم كانوا ببلاد الشام من الآراميّين.
[6] أنمار وثعلبة: هما على الأرجح أنمار بن عمرو «ويروى: أنمار بن بغيض» وثعلبة بن قيس، بطنان من العرب من غطفان من العدنانية، انظر: أنساب الأشراف (1/ 340) والاشتقاق لابن دريد (277) ومعجم قبائل العرب لكحالة (1/ 47 و 144) .

(2/247)


وَقِيلَ سَبْعِمِائَةٍ- وَسَلَكَ عَلَى الْمَضِيقِ [1] ، ثُمَّ أَفْضَى إِلَى وَادِي الشُّقْرَةِ، فَأَقَامَ بِهَا يَوْمًا، وَبَثَّ السّرايا، فرجعوا إليه مع اللّيل وأخبروه أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا أَحَدًا، وَقَدْ وَطِئُوا آثَارًا حَدِيثَةً.
ثُمَّ سَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصحَابُهُ، حَتَّى أَتَى مَحَالَّهُمْ، فَإِذَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، وَهَرَبُوا إِلَى الْجِبَالِ، فَهُمْ مُطِّلُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَافَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا.
وَفِيهَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه صلاة الخوف.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ [2] : وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا ذَاتُ الرِّقَاعِ لأَنَّهُمْ رَقَعُوا فِيهَا رَايَاتِهِمْ. قَالَ: وَيُقَالُ ذَاتُ الرِّقَاعِ شَجَرَةٌ هُنَاكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا غَزْوَتَانِ.
وَقَالَ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سِنَانٌ الدُّؤَلِيُّ، وَأَبُو سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نجد، فلما قفل قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعَضَاةِ [3] ، فَنَزَلَ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعَضَاةِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ.
وَقَالَ: هُوَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلِقَ بِهَا سَيْفَهُ. فَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا فَأَجَبْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ. فَشَامَ [4] السَّيْفَ وَجَلَسَ. فَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [5] .
__________
[1] المضيق: قرية كبيرة في لحف جبل آرة قريبة من الفرع.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 246.
[3] العضاة: أعظم الشجر أو كلّ شجرة ذات شوك.
[4] شام السيف: أغمده.
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرّقاع. وكتاب الجهاد والسير، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة، وباب تفريق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر.

(2/248)


قَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ: اسْمُ الأَعَرَابِيِّ «غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ» .
ثُمَّ رَوَى أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَارِبَ خَصَفَةَ بِنَخْلٍ، فَرَأَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ غُرَّةً، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ، حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: اللَّهُ. فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: كنْ خيرَ آخِذ. قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: لا، وَلَكِنْ أُعَاهِدُكَ عَلَى أَنْ لا أُقَاتِلَكَ، وَلا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ. فَخَلَّى سَبِيلَهُ. فَأَتَى أَصْحَابَهُ وَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ.
ثُمَّ ذَكَرَ صَلاةَ الْخَوْفِ، وَأَنَّهُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [1] . وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [2] ، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ عَلَى جَمَلٍ لِي ضَعِيفٍ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ جَعَلَتِ الرِّفَاقُ تَمْضِي، وَجَعَلْتُ أَتَخَلَّفُ، حَتَّى أَدْرَكَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مالك يَا جَابِرُ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا. قَالَ: أَنِخْهُ. وَسَاقَ قِصَّةَ الْجَمَلِ.
غزوة بدر المَوْعِد
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَرَوَى عَنْ عُرْوَةَ: [3] أنّ رسول
__________
[1] المسند للإمام أحمد: 3/ 390.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 247.
[3] المغازي لعروة 183.

(2/249)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْفَرَ الْمُسْلِمِينَ لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ بَدْرًا. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم أهلا للصّدق والوفاء، فاحتمل الشيطان أَوْلِيَاءُ مِنَ النَّاسِ، فَمَشَوْا فِي النَّاسِ يُخَوِّفُونَهُمْ وَقَالُوا: أَخْبَرَنَا أَنْ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ مِثْلَ اللَّيْلِ مِنَ النَّاسِ، يَرْجُونَ أَنْ يُوَافِقُوكُمْ فَيَنْتَهُوا بِكُمْ، فَالْحَذَرُ لا تَغْدُوا. فَعَصَم اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ من تخويف الشيطان فاستجابوا الله وَلِرَسُولِهِ وَخَرَجُوا بِبَضَائِعَ لَهُمْ، وَقَالُوا: أَنْ لَقِيَنَا أَبَا سُفْيَانَ فَهُوَ الَّذِي خَرَجْنَا لَهُ، وَإنْ لَمْ نَلْقَهُ ابْتَعْنَا بِبَضَائِعِنَا. وَكَانَ بَدْرٌ مُتَّجِرًا يُوَافِي كُلَّ عَامٍ. فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا مَوْسِمَ بَدْرٍ، فَقَضَوْا مِنْهُ حَاجَتَهُمْ، وَأَخْلَفَ أَبُو سُفْيَانَ الْمَوْعِدَ، فَلَمْ يَخْرُجْ هُوَ وَلا أَصْحَابُهُ.
وَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حِلْفٌ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْكُمْ أَحَدٌ، فَمَا أَعْمَلُكُمْ إِلَى أَهْلِ هَذَا الْمَوْسِمِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يريد أن يَبْلُغَ ذَلِكَ عَدُوَّهُ مِنْ قُرَيْشٍ: إِعْمَالُنَا إِلَيْهِ مَوْعِدُ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ وَقِتَالُهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ مَعَ ذَلِكَ نَبَذْنَا إِلَيْكَ وَإِلَى قَوْمِكَ حِلْفَهُمْ ثُمَّ جَالَدْنَاكُمْ. فَقَالَ الضَّمْرِيُّ [1] : مَعَاذَ اللَّهِ. قَالَ: وَذَكَرُوا أَنَّ ابْنَ الْحَمَّامِ قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: هَذَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ يَنْتَظِرُونَكُمْ لِمَوْعِدِكُمْ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَدْ وَاللَّهِ صَدَقَ. فَنَفَرُوا وَجَمَعُوا الأَمْوَالَ، فَمَنْ نَشِطَ مِنْهُم قَوَّرَهُ [2] ، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ دُونَ أُوقِيَّةٍ. ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَقَامَ بِمَجَنَّةٍ [3] مِنْ عُسْفَانَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ، ثُمَّ ائْتَمَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا يُصْلِحُكُمْ إِلا خِصْبٍ ترعون فيه السّمر
__________
[1] في ع: الضميري، والصّواب ما أثبتناه، وفي سيرة ابن هشام 3/ 249 أنه مخشيّ بن عمرو الضّميري.
[2] قوّره: كذا في ع، ولم أهتد إلى الوجه فيها. وفي التاج: قار القانص الصّيد يقوّره أي ختله، ولعلّها هنا بهذا المعنى.
[3] مجنّة: سوق بأسفل مكة على بريد منها، وهي لكنانة وأرضها من أرضها (أخبار مكة 1/ 131) وانظر: معجم البلدان 5/ 58.

(2/250)


وَتَشْرَبُونَ مِنَ اللَّبَنِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ تُدْعَى غَزْوَةَ جَيْشِ السَّوِيقِ. وَكَانَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ [1] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ بَدْرُ الْمَوْعِدِ، وَتُسَمَّى بَدْرَ الصُّغْرَى، لِهِلالِ ذِي القعدة على رأس خمسة وأربعين شهرا مُنْ مُهَاجَرَهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَأَنَّهُ خَرَجَ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى المدينة عبد الله بن رواحة، وكان موسى بَدْرٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْعَرَبُ لِهِلالِ ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى ثَامِنِهِ. فَأَقَامَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ وَبَاعُوا بَضَائِعَهُمْ، فَرَبِحَ الدِّرْهَمُ دِرْهَمًا. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ.
غزوة الخندق
قَالَ موسى بن عُقْبة: كانت في شوّال سنة أربع. وقال ابن إسحاق:
كانت في شوّال سنة خمس [2] . فاللَّه أعلم.
ويقوّي الأوّلَ قولُ ابن عُمَر إنّه عُرِض يوم أُحُد وهو ابن أربع عشرة، فلم يُجِزْه [3] النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعُرِض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه. ولكنّ هذه التقوية مردودة بما سنذكره في سنة خمسٍ.
وفيها تُوُفّي عبد الله بن رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبوه عثمان رضي الله عنه عَنْ ستّ سنين. ونزل أبوه في حفرته [4] .
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 248، عيون الأثر 2/ 53، 54.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 258.
[3] في الأصل: يجده والوجه ما أثبتناه.
[4] تاريخ الطبري 2/ 555.

(2/251)


وفيها في شعبان (41 ب) وُلد [1] الحسين بن عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [2] .
وفيها قُتِل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح [3] وأصحابه. وقد ذكروا.
وكنية عاصم: أَبُو سليمان، واسم جدّه: الأقلح قيس بن عصمة بن بني عَمْرو بن عَوْف. ومن ذُرِيّته الأحوص الشاعر ابن عبد الله بن محمد بن عاصم بن ثابت.
وكان عاصم من الرُّماة المذكورين، ثبت يوم أُحُد وَقَتَلَ غيرَ واحد، وشهد بدْرًا.
وقُتل يوم بئر مَعْونة من الصَّحابة: عامر بن فُهَيْرَة [4] مولى الصِّدّيق، وكان من سادة المهاجرين.
ومن قُرَيش: الحَكَم بن كَيْسان المخزومي [5] ، ونافع بن بُدَيْلِ بن ورقاء السهمي [6] .
وَقُتِلَ يومئذٍ من الأنصار: الحارث بن الصمة [7] بن عَمْرو بن عتيك بن عَمْرو بن مبذول أبو سعد.
فعن محمد بن إبراهيم التَّيْمي، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بين الحارث بن الصمة وصُهَيْب. وقال الواقدي: شهد الحارثُ أُحُدًا، وَثَبَتَ مَع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبايعه عَلَى الموت، وقتل عثمان بن عبد الله بن المُغيرة. وعن المسور
__________
[1] من أول قوله: «ولد الحسين..» نرجع إلى نسخة الأصل بعد انتهاء السقط الّذي أشرنا إليه.
[2] تاريخ الطبري 2/ 555.
[3] الطبقات الكبرى 3/ 462.
[4] المغازي لعروة 182، الطبقات الكبرى 3/ 230.
[5] المغازي لعروة 182.
[6] في سيرة ابن هشام 3/ 232 «الخزاعي» .
[7] المغازي لعروة 182.

(2/252)


ابن رفاعة أنّ الحارث خَرَجَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر، فكُسر بالرَّوْحاء، فردّه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المدينة وضرب له بسهمه وآجَرَه. قال ابن سعد [1] :
وله ذرية بالمدينة وبغداد.
حَرام بن مِلْحان [2] : واسم مِلْحان مالك بن خالد بْنِ زَيْدِ بْن حَرَامِ بْن جُنْدُب بْن عَامِرِ بْن غَنْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ النَّجَّارِ، شهد بدْرًا، وهو أخو أمّ سُلَيْم. قَالَ لما طُعِنَ يوم بئر مَعُونة: فُزْتُ وربِّ الكعبة. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
عطية بن عَمْرو، من بني دينار. وهذا لم أره في الصّحابة لابن الأثير [3] .
المنذر بن عَمْرو [4] بن خُنَيْس بن حارثة بن لوذان بن عبد ودّ السّاعديّ، أحد النُّقباء ليلة العَقَبَة. شهد بدْرًا وَأُحُدًا. وخُنَيْس هو المعروف بالمُعْنق ليموت.
أنس بن معاوية بن أنس، أحد بني النّجّار.
أبو شيخ [5] بن ثابت بن المنذر، سهل بن عامر بن سعد، من بني النّجّار كلاهما.
مُعاذ بن مناعص [6] الزُّرْقي، بَدْري، عروة بن الصّلت السّلمى حليف الأنصار.
__________
[1] الطبقات الكبرى 3/ 508.
[2] الطبقات الكبرى 3/ 514.
[3] الإشارة هنا إلى كتاب «أسد الغابة في معرفة الصحابة» لأبي الحسن علي بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير، ولم يترجم فيه لعطية بن عمرو الديناري هذا. وانظر ترجمة موجزة له في الإصابة (2/ 485) .
[4] الطبقات الكبرى 3/ 555.
[5] الطبقات الكبرى 3/ 504.
[6] في طبعة القدسي 229 «ناعص» والتصحيح من الطبقات الكبرى 3/ 595.

(2/253)


مالك بن ثابت، وأخوه: سفيان، كلاهما من بني النبيت.
فهؤلاء الذين حُفِظَت أسماؤهم من الشّهداء السبعين الذين صحّ أنّه نزل فيهم بلِّغوا عنّا قومَنا أنّا لقينا ربَّنا فرضي عنّا وأرضانا ثُمَّ نُسِخَتْ.
وقيل: بل كانوا اثنين وعشرين راكبًا. ولعلّ الراوي عدّ الركابَ دون الرَّجَّالَةِ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، أنا ابْنُ الْبُنِّ، أنا جَدِّي، أنا ابْنُ أَبِي الْعَلاءِ، أنا ابْنُ أَبِي نَصْرٍ، أنا ابْنُ أَبِي الْعَقِبِ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْبُسْرِيِّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ، أَخْبَرَنِي حَجْوَةُ بْنُ مُدْرَكٍ الْغَسَّانِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَعَثَ عَامِرٌ ابْنَ مَالِكٍ مُلاعِبَ الأَسِنَّةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْعَثْ إِلَيَّ رَهْطًا مِمَّنْ مَعَكَ يُبَلِّغُونِي عَنْكَ وَهُمْ فِي جِوَارِي. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو فِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ رَاكِبًا، فَلَمَّا أَتَوْا أَدْنَى أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ بَعَثَ أَرْبَعَةً مِمَّنْ بَعَثَ إِلَى بَعْضِ مِيَاهِهِمْ، أَوْ قَالَ إِلَى بَعْضِهِمْ. قَالَ: وَسَمِعَ عَامِرُ بْنُ الطّفيل فأتاهم فقاتلهم فقتلهم قال:
[42 أ] وَرَجَعَ الأَرْبَعَةُ رَهْطٍ الَّذِينَ كَانَ وَجَّهَ بِهِمُ الْمُنْذِرُ، فَلَمَّا دَنَوْا إِذَا هُمْ بِنُسُورٍ تَحُومُ، قَالُوا: إِنَّا لَنَرَى نُسُورًا تَحُومُ، وَإِنَّا نَرَى أَصْحَابَنَا قَدْ قُتِلُوا.
فَلَمَّا أَتَوْهُمْ قَالَ رَجُلانِ مِنْهُمْ: لا نَطْلُبُ الشَّهَادَةَ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَقَاتَلا حَتَّى قُتِلا. وَرَجَعَ الرَّجُلانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ فَسَأَلاهُمَا مَنْ هُمَا فَأَخْبَرَاهُمَا فَقَتَلاهُمَا وَأَخَذَا مَا مَعَهُمَا. وَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ خَبَرَ أَصْحَابِهِمْ وَخَبَرَ الرجلين العاميين، وأتياه بما أصابها لَهُمَا.
فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّتَيْنِ كَانَ كَسَاهُمَا فَقَالَ: قَدْ كَانَا منّا في عهد.
فوادهما إِلَى قَوْمِهِمَا دِيَةَ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ. وَقَالَ حَسَّانٌ [1] بَعْدَ مَوْتِ عَامِرِ بْنِ مَالِكٍ يُحَرِّضُ ابْنَهُ ربيعة:
__________
[1] ديوانه 107.

(2/254)


بَنِي أُمِّ الْبَنِينَ أَلَمْ يَرُعْكُمْ
الأَبْيَاتِ فَقَالَ ربيعة: هل يرضى منّي حسّان طَعْنَةٌ أَطْعَنُهَا عَامِرًا؟ قِيلَ: نَعَمْ فَشَدَّ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ فَعَاشَ مِنْهَا.
وفيها تُوُفِّيَتْ أمّ المؤمنين زينب بنت خُزَيْمَة [1] بن الحارث بن عبد الله ابن عَمْرو بن عبد مَنَاف بن هلال بن عامر بن صَعْصَعَة القَيْسيّة الهَوَازِنيّة العامرية الهِلالِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وكانت تُسمَّى أمُّ المساكين لِإحسانها إليهم، تزوّجت أوّلًا بالطُّفَيْل بن الحارث بن المطّلب بن عبد مَنَاف، ثُمَّ طلقها فتزوجها أخوه عُبَيْدة بْن الحارث، فاستشهد يَوْم بدر، ثُمَّ تزوجها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رمضان سنة ثلاث، ومكثت عنده عَلَى الصّحيح ثمانية أشهر، وقيل كانت وفاتها في آخر ربيع الآخر، وصلّى عليها النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودفنها بالبقيع، ولها نحو ثلاثين سنة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وفيها تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ هندَ بنتَ أَبِي أُمَّية [2]- واسمه حُذَيفة، وقيل سُهَيْلٌ، ويُدْعَى زاد الراكب، ابن المغيرة بن عبد الله ابن عُمَر بن مخزوم- الْقُرشيّة المخزومية، وكانت قبله عند ابن عمة النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبي سَلَمَةَ عبد الله بن عبد الأسد بْنِ هِلالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر بْن مخزوم، وأمّه بَرَّة بنت عبد المطّلب، وهاجر بِهَا إلى الحبشة فولدت له هناك زينب، وولدت له سَلَمَةَ وعمر ودرَّة، وكان أخا النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرضاعة، أرضعتهما وحمزة ثُوَيْبَة مولاة أبي لَهَب، ويقال إنّه كان أسلم بعد عشرة أنفُس، وكان أوّل من هاجر إلى الحبشة، ثُمَّ كَانَ أول من هاجر إلى المَدِينَةِ، ولمّا عبر إلى اللَّه كان الذي أغمضه رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَليْه وَسَلَّمَ، ثم دعا له، وكان قد جرح بأحد
__________
[1] الطبقات الكبرى 8/ 115 تسمية أزواج النبيّ وأولاده لابن المثنّى 69.
[2] تسمية أزواج النبيّ وأولاده 56، الطبقات الكبرى 8/ 86.

(2/255)


جرحًا، ثُمَّ انتفض عليه، فمات منه في جُمَادى الآخرة سنة أربع. فلما تُوُفيَّ تزوّجها النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حين حلّت في شوّال، وكانت من أجمل النّساء، وهي آخر نسائه وفاةً.
ثُمَّ تزوّج بعدها بأيام يسيرة، بنت عمّته أمّ الحَكَم، زينب بنت جحش [1] بن رئاب الأسدي، وكان اسمها بَرَّة فسمّاها زينب. وكانت هي وإخوتها من المهاجرين، وأمّهم أُمَيْمَة بنت عبد المطّلب، وهي التي نزلت هذه الآية فيها: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها 33: 37 [2] .
وكانت تفخر عَلَى نساء النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقول: زوَّجَكُنّ أهاليكُنّ وزوَّجني الله من السّماء.
وفيها نزلت آية الحجاب [3] . وتزوّجها وهي بنت خمسٍ وثلاثين سنة.
وفي هذه السنة رجم النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليهوديّ واليهوديّة اللَّذَيْن زَنَيَا.
وفيها تُوُفِّيَتْ أمّ سعد بن عُبَادة [4] ، ورَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غائب في بعض مغازية، ومعه ابنها سعد، قَالَ قَتَادة، عَنْ سعيد بن المسيّب، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى على قبر أمّ سعد بعد أشهر، والله أعلم.
__________
[1] تسمية أزواج النبي وأولاده 61، الطبقات الكبرى 8/ 101.
[2] سورة الأحزاب الآية 37.
[3] هي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَالله لا يَسْتَحْيِي من الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ من وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ الله وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ من بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ الله عَظِيماً 33: 53 سورة الأحزاب: الآية 53.
[4] الطبقات الكبرى 3/ 614 و 8/ 338، أسد الغابة 5/ 587، الإصابة 4/ 367 رقم 747، الاستيعاب 4/ 362.

(2/256)


السَّنَةُ الْخَامِسَةُ
«غزوة ذات الرقاع»
خرج لَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر خَلَون من المحرَّم. قاله الواقدي [1] كما تقدّم. وقال ابن إسحاق [2] : إنّها في جُمَادى الأولى سنة أربع.
غزوة دُومَة الْجَنْدَل وهي بضمّ الدَّال
قِيلَ سُمِّيَتْ بدُومى بن إسماعيل عليه السلام، لكَوْنها كانت مَنْزِلَه [3] .
ودَوْمَة بالفتح موضعٌ آخر.
وهذه الغزوة كانت في ربيع الأوّل.
ورجع النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يصل إليها، ولم يلق كَيْدًا [4] .
وقال المدائنيّ: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المحرّم، يريد أكيدر دومة،
__________
[1] المغازي 1/ 395، الطبقات الكبرى 2/ 61، تاريخ الطبري 2/ 555.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 246.
[3] الروض الأنف 3/ 276.
[4] سيرة ابن هشام 3/ 258.

(2/257)


فهرب أُكَيْدَر، وانصرف النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِمَا، قَالُوا: أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يقْرُبَ إِلَى أَدْنَى الشَّامِ لِيُرْهِبَ قَيْصَرَ، وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ جَمْعًا عَظِيمًا يَظْلِمُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ. وَكَانَ بِهَا سُوقٌ وَتُجَّارٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ بِأَلْفٍ [مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ] [1] يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ النَّهَارَ، وَدَلِيلُهُ مَذْكُورٌ الْعُذْرِيُّ، فَنَكَبَ عَنْ طَرِيقِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُومَةَ يَوْمٌ قَوِيٌّ [2] ، قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ سَوَائِمَهُمْ تَرْعَى عِنْدَكَ، فَأَقِمْ حَتَّى أَنْظُرَ. وسار مذكور حتّى وجد آثَارِ النَّعَمِ، فَرَجَعَ وَقَدْ عَرَفَ مَوَاضِعَهُمْ، فَهَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَاشِيَتِهِمْ وَرِعَائِهِمْ فَأَصَابَ مَنْ أَصَابَ، وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى دُومَةَ فَتَفَرَّقُوا، وَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم.
وهي عن المدينة ستّة عشرة يوما، وبينها وَبَيْنَ دِمَشْقَ خَمْسُ لَيَالٍ لِلْمُجِدِّ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكُوفَةِ سَبْعُ لَيَالٍ، وَهِيَ أَرْضُ ذَاتِ نَخْلٍ، يزرعون الشَّعِيرَ وَغَيْرَهُ، وَيَسْتَقُونَ [3] عَلَى النَّوَاضِحِ، وَبِهَا عَيْنُ مَاءٍ.
غزوة المُرَيْسِيع
وتُسَمّى غزوة بني المُصْطَلِق، كانت في شعبان سنة خمسٍ عَلَى الصحيح، بل المجزوم به.
قَالَ الواقدي [4] : استخلف النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها عَلَى المدينة زيد بن حارثة.
__________
[1] ما بين الحاصرتين عن المغازي للواقدي 1/ 403.
[2] في المغازي للواقدي 403 «وبين دومة يوم أو ليلة، سير الراكب المعنق» بدل «يوم قوي» .
[3] في الأصل: يسقون.
[4] المغازي للواقدي 404.

(2/258)


فحدّثني شُعَيْب بن عَبّاد عَنِ المِسْوَر بن رِفاعة قَالَ: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سبعمائة.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [1] حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَعَاصِمُ بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر قَالُوا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبلغه أنّ بني المصطلق [2] يجمعون [43 أ] لَهُ، وَقَائِدُهُمُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ أَبُو جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ بِالْمُرَيْسِيعِ [3] ، مَاءٍ مِنْ مياههم، فأعدّوا رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَاحَفَ النَّاسُ فَاقْتَتَلُوا، فَهَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَنَفَّلَ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءُهْم وَأَمْوَالَهُمْ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ مِنْ نَاحِيَةِ قُدَيْدٍ [4] وَالسَّاحِلِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ [5] عَنْ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ كَانُوا يَنْزِلُونَ نَاحِيَة الْفَرْعِ، وَهُمْ حُلَفَاءُ بَنِي مُدْلِجٍ، وَكَانَ رَأْسَهُمُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ، وَكَانَ قَدْ سَارَ فِي قَوْمِهِ وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَابْتَاعُوا خَيْلا وَسِلاحًا، وَتَهَيَّأَ لِلْمَسِيرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الأبيض، عن أبيه،
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 6 تاريخ الطبري 2/ 604.
[2] بطن من خزاعة من القحطانية، وهم بنو المصطلق واسمه جذيمة بن سعد بن عمرو بن ربيعة (معجم قبائل العرب 3/ 1104) .
[3] المريسيع بالعين المهملة في أصحّ الروايات وأشهرها، وضبط بالغين المعجمة، وهو بناحية قديد إلى الساحل، قاله ابن إسحاق، وفي حديث للطبراني هو ماء لخزاعة بينه وبين الفرع نحو يوم، وقال المجد: الفرع على ساعة من المريسيع (وفاء ألوفا 2/ 373 ومعجم ما استعجم 4/ 1220) .
[4] قديد: قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياه، وقيل موضع قرب مكة وقيل موضع بين الحرمين، وقيل واد. (وفي تعليقات الشيخ حمد الجاسر على المغانم المطابة أنّ القرية لا تزال معروفة ولكنّها ضعيفة وتقع بين خليص وعسفان بقرب مكة) .
[5] المغازي 1/ 408.

(2/259)


عَنْ جَدَّتِهِ، وَهِيَ مَوْلاةُ جُوَيْرِيَةَ، [قَالَتْ] [1] سَمِعْتُ جُوَيْرِيَةَ تَقُولُ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحنُ عَلَى الْمُرَيْسِيعِ، فَأَسْمَعُ أَبِي يَقُولُ: أَتَانَا مَالا قِبَلَ لَنَا بِهِ، قَالَتْ: وَكُنْتُ أَرَى مِنَ النَّاسِ وَالْخَيْلِ وَالْعَدَدِ مَا لا أَصِفُ مِنَ الْكَثْرَةِ، فَلَمَّا أَنْ أَسْلَمْتُ وَتَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعْنَا جَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسُوا كَمَا كُنْتُ أَرَى، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ رُعْبٌ مِنَ اللَّهِ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَدْ أَسْلَمَ يَقُولُ: لَقَدْ كُنَّا نَرَى رِجَالا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بَلْقٍ، مَا كُنَّا نَرَاهُمْ قَبْلُ وَلا بَعْدُ.
قَالَ الواقدي [2] : ونزل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الماءَ، وضربت له قُبَّةٌ من أَدَم، ومعه عائشة وأمّ سَلَمَةَ، وصفّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه، ثُمَّ أمر عُمَر فنادى فيهم: قولوا: لا إله إلّا الله، تمنعوا بِهَا أنفسَكم وأموالكم، ففعل عُمَر، فأبَوْا. فكان أوّل من رمى رجلٌ منهم بسهم، فرمى المسلمون ساعة بالنَّبل، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أصحابه أن يحملوا، فحملوا، فما أفلت منهم إنسان، وقتل منهم عشرةٌ وأُسِرَ سائرُهم، وقتل من المسلمين رجل واحد.
وقال ابن عَوْن: كتبت إلى نافع أسأله عَنِ الدّعاء قبل القتال، فكتب إنّما كان ذَلِكَ في أول الَإسلام، قد أغار رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بني المُصْطَلِق وهم غارُّون، وأنعامُهم تُسْقَى عَلَى الماء، فقتل مقاتلهم وسَبَى سبْيهم، فأصاب يومئذٍ أحْسبُهُ قَالَ: جُوَيْرِية. وحدّثني ابنُ عُمَر بذلك، وكان في ذَلِكَ الجيش. مُتَّفَقٌ عليه [3] .
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ رَبِيعَةَ الرَّأْيِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنِ ابنِ مُحَيْرِيزٍ، سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني
__________
[1] إضافة من المغازي للواقدي 1/ 408.
[2] المغازي 1/ 407.
[3] صحيح مسلم (1730) كتاب الجهاد والسير، باب جواز الإغارة على الكفّار الذين بلغتهم دعوة الإسلام إلخ.

(2/260)


الْمُصْطَلِقِ فَسَبَيْنَا كَرَائِمَ الْعَرَبِ، وَطَالَتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ [1] ، وَرَغِبْنَا فِي الْفِدَاءِ فَأَرَدْنَا أَنْ نَسْتَمْتِعَ وَنَعْزِلَ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، مَا كَتَبَ اللَّهُ خَلْقَ نَسَمَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَتَكُونُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، عَنْ قتيبة عن إسماعيل [2] .
__________
[1] في الأصل: «الغربة» والتصحيح من صحيح البخاري 5/ 54.
[2] صحيح البخاري 5/ 54 كتاب المغازي، باب غزوة بني المصطلق وكتاب النّكاح باب العزل، وكتاب القدر، باب وكان أمر الله قدرا مقدورا، وصحيح مسلم: كتاب النّكاح، باب حكم العزة.

(2/261)


تزويج رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجويرية «رَضِيَ اللَّه عَنْهَا»
وَقَالَ يُونُسُ، عَنْ ابن إِسْحَاق [1] ، حدّثني مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزّبير، عن عروة، [43 ب] عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، أَوْ لابْنِ عَمٍّ لَهُ فَكَاتَبْتُهُ عَلَى نَفْسِهَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً حُلْوَةً مُلاحَةً [2] ، لَا يَرَاهَا أَحَدٌ إِلا أَخَذَتْ بِنَفْسِهِ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتَعِينُهُ فِي كتابتها، فو الله مَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُهَا فَكَرِهْتُهَا، وَقُلْتُ: سَيَرَى مِنْهَا مِثْلَ مَا رَأَيْتُ. فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ سَيِّدِ قَوْمِهِ، وَقَدْ أَصَابَنِي مِنَ الْبَلاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، وَقَدْ كَاتَبْتُ فَأَعِنِّي. فَقَالَ: أَوْ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، أُؤَدِّي عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ. فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَلَغَ النَّاسَ أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَهَا فَقَالُوا: أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَرْسَلُوا مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَلَقْد أَعْتَقَ بِهَا أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بركة
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 8، 9.
[2] الملّاحة: الشديدة الملاحة.

(2/263)


[على قومها] [1] منها. وكان اسمها برّة فسمّاها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جويرية [2] .
وقال يونس، عن ابن إسحاق [3] حدثني محمد بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، فِي قِصَّةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ: فَبَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمٌ هُنَاكَ، إِذِ اقْتَتَلَ عَلَى الْمَاءِ جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ الْغِفَارِيُّ أَجِيرُ عُمَرَ، وَسِنَانُ بْنُ وَبْرٍ [4] . قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَنَّهُمَا ازْدَحَمَا عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلا، فَقَالَ سِنَانٌ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ. وَقَالَ جَهْجَاهُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ. وَكَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَنَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، يَعْنِيَ ابْنَ سَلُولٍ، فَلَمَّا سَمِعَهَا قَالَ: قَدْ ثَاوَرُونَا فِي بِلادِنَا، وَاللَّهِ مَا أَعُدُّنَا [5] وجلاليب قُرَيْشٍ هَذِهِ إِلا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ. وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأذلّ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ: هَذَا مَا صَنَعْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلادَكُمْ وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ [1] .
أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كَفَفْتُمْ عَنْهُمْ لِتُحَوِّلُوا عَنْكُمْ مِنْ بِلادِكُمْ. فَسَمِعَهَا زَيْدٌ، فَذَهَبَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غُلَيْمٌ، وَعِنْدَهُ [6] عُمَرُ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَالَ: فَكَيْفَ إِذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؟ لا وَلَكِنْ نَادِ يَا عُمَرُ فِي الرَّحِيلِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ أُبَيٍّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُ، وَحَلَفَ لَهُ باللَّه مَا قَالَ ذَلِكَ، وَكَانَ عِنْدَ قَوْمِهِ بِمَكَانٍ.
__________
[1] زيادة من ع والواقدي.
[2] الطبقات الكبرى 8/ 118.
[3] سيرة ابن هشام 4/ 6، 7.
[4] في الأصل: زيد. والتصحيح من ابن هشام 4/ 7 والواقدي والإصابة. ويقال سنان بن وبر أو وبرة، وسنان بن تيم الجهنيّ.
[5] في الأصل: عزنا. والتصحيح من ابن هشام 4/ 7. وجلابيب قريش لقب لمن كان أسلم من المهاجرين، لقّبهم بذلك المشركون. وأصل الجلابيب الأزر الغلاظ واحدها جلباب، وكانوا يلتحفون بها، فلقّبوهم بذلك.
[6] في الأصل: وله. والتصحيح من ع، وابن هشام 4/ 7.

(2/264)


فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلامُ أَوْهَمَ. وَرَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم مهجرا في ساعة كان لا يَرُوحَ فِيهَا. فَلَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رُحْتُ فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ. فَقَالَ: أَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكَ ابْنُ أُبَيٍّ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَنتَ وَاللَّهِ الْعَزِيزُ وَهُوَ الذَّلِيلُ. ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْفِقْ به، فو الله لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِكَ وَإِنَّا لَنُنَظِّمُ لَهُ الخرز لنتوجّه فإنّه [44 أ] ليرى أن قد استبلته مُلْكًا. فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، حَتَّى أَصْبَحُوا وَحَتَّى اشْتَدَّ الضُّحَى. ثُمَّ نَزَلَ بِالنَّاسِ لِيُشْغِلَهُمْ عَمَّا كَانَ مِنَ الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَلْبَثِ [1] النَّاسُ أَنْ وَجَدُوا مَسَّ الأَرْضِ فَنَامُوا. وَنَزَلَتْ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ [2] . وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُ جَابِرًا يَقْولُ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ [3] رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لِلأَنْصَارِ. وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ: أو قد فعلوها؟ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ.
قَالَ: وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم ثم كثر المهاجرون بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [4] .
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى: أنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الأَزْدِيِّ، ثنا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان معنا ناس من
__________
[1] في الأصل «يأمر» وفي طبعة القدسي 239 «يأمن» وما أثبتناه عن سيرة ابن هشام 4/ 7.
[2] هي السورة رقم 63.
[3] كسعه: ضربه بيده أو برجله على دبره.
[4] صحيح البخاري كتاب التفسير 6/ 65، 66، سورة (المنافقون) . وصحيح مسلم (2584) كتاب البرّ والصلة، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما.

(2/265)


الأعراب. فكنّا نبتدر الماء، وكانت الأغراب يسبقوننا، فيسبق الأعرابيّ أصحابه: فيلا الْحَوْضَ وَيَجْعَلُ حَوْلَهُ حِجَارَةً، وَيَجْعَلُ النَّطْعَ حَتَّى يَجِيءَ أَصْحَابُهُ فَأَتَى الأَنْصَارِيُّ فَأَرْخَى زِمَامَ نَاقَتِهِ لِتَشْرَبَ فَمَنَعَهُ، فَانْتَزَعَ حَجَرًا فَفَاضَ [الْمَاءَ] [1] فَرَفَعَ الأَعْرَابِيُّ خَشَبَةً فَضَرَبَ بِهَا رَأْسَ الأَنْصَارِيِّ فَشَجَّهُ، فَأَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأَخْبَرَهُ فَغَضِبَ وَقَالَ: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، يَعْنِيَ الأَعْرَابَ. وَقَالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأذلّ. قَالَ زَيْدٌ: فَسَمِعْتُهُ فَأَخْبَرْتُ عَمِّي، فَانْطَلَقَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَلَفَ وَجَحَدَ، فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي. فَجَاءَ إِلَيَّ عَمِّي فَقَال: مَا أَرَدْتُ أَنْ مَقَتَكَ رَسُولُ اللَّهِ [أَوْ] كَذَّبَكَ الْمُسْلِمُونَ. فَوَقَعَ عَلَيَّ مِنَ الْغَمِّ مَا لَمْ يقع على أحد قطّ. فبينا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ خَفَقْتُ بِرَأْسِي مِنَ الْهَمِّ، إِذْ أَتَانِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي، فَمَا كَانَ يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الْخُلْدَ أَوِ الدُّنْيَا. ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَحِقَنِي فَقَالَ: مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا. فَقَالَ أَبْشِرْ. فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى بلغ منها: (الأذلّ) .
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الَّلِه بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ لأَصْحَابِهِ: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عند رسول الله حتى ينفضّوا مِنْ حَوْلِهِ. وَقَالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأذلّ.
فذكرت ذلك لعمّي فذكره لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَصَدَّقَهُمْ وَكَذَّبَنِي، فَأَصَابَنِي هَمٌّ، فأنزل الله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ 63: 1 [2] ، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [44 ب] فقرأها عليّ، وقال:
__________
[1] سقطت من الأصل وأثبتناها من ع.
[2] سورة المنافقون: من الآية 1.

(2/266)


إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ. أَخْرَجَهُ خ [1] . وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا الَّذِي أَوْفَى اللَّهُ لَهُ بِأُذُنِهِ» . أَخْرَجَهُ خ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَنَسٍ [2] . وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ هَاجَتْ رِيحٌ تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ. فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ. قَالَ: فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَإِذَا مُنَافِقٌ عَظِيمٌ مَاتَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [3] . وَقَالَ ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة [4] قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ عُمَانَ سَرَّحُوا ظُهُورَهُمْ [5] ، وَأَخَذَتْهُمْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، حَتَّى أَشْفَقَ النَّاسُ مِنْهَا، وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ هَذِهِ الرِّيحِ؟ فَقَالَ: مَاتَ الْيَوْمَ مُنَافِقٌ عَظِيمُ النِّفَاقِ، ولذلك عصفت الريح وليس عليكم مِنْهَا بَأْسٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ فِي قِصَّةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ. وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [6] ، عَنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمْ قِصَّةَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَالُوا: فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَقْعَاءِ [7] من
__________
[1] ، (2) صحيح البخاري 6/ 65 كتاب التفسير، سورة «المنافقون» وانظر تاريخ الطبري 2/ 608، وفي تفسير ابن كثير 28/ 70، 71.
[3] صحيح مسلم (2782) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.
[4] المغازي لعروة 190.
[5] في طبعة القدسي 241، وطبعة شعيرة 236 «ظهرهم» والتصويب من المغازي.
[6] سيرة ابن هشام 4/ 7.
[7] بقعاء: موضع على أربعة وعشرين ميلا من المدينة خرج إليه أبو بكر لتجهيز المسلمين لقتال أهل الرّدّة. وقال الواقدي: هو ذو القصّة. وهي الآن قرية من قرى جبل شمر المعروف قديما باسم جبلي طيِّئ وتقع شرقي حائل في شمال نجد. (من تعليقات الشيخ حمد الجاسر على المغانم المطابة ص 61) وانظر معجم البلدان 1/ 471.

(2/267)


أَرْضِ الْحِجَازِ دُونَ الْبَقِيعِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَخَافَهَا النَّاسُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَخَافُوا فَإِنَّهَا هَبَّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْكُفْرِ. فَوَجَدُوا رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ قَدْ مَاتَ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ الإِسْلامَ وَكَانَ كَهْفًا لِلْمُنَافِقِينَ. وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، أَتَاهُ عبد الله بن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ أَبِي، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلا فَمُرْنِي بِهِ فَأَنَا أَحْمِلُ إِلَيْكَ رأسه فو الله لَقَدْ عَلِمَتِ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ بِهَا رَجُلٌ أَبَرَّ بِوَالِدِهِ مِنِّي، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ رَجُلا مُسْلِمًا فَيْقَتُلَهُ، فَلا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ يَمْشِي فِي الأَرْضِ حَيًّا حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَأَقْتُلَ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ فَأَدْخُلَ النَّارَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ تُحْسِنَ صُحْبَتَهُ وَتَتَرَفَّقَ بِهِ ما صحبنا [1] .
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 8.

(2/268)


الأفك «وكان في هذه الغزوة»
قَالَ سُلَيْمَانُ: ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ. قَالَتْ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةِ الْمُرَيْسِيعِ، فَخَرَجَ سَهْمِي. فَهَلَكَ فِيَّ مَنْ هَلَكَ.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [1] ، وَالْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُمَا إِنَّ حَدِيثَ الإِفْكِ كَانَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قُلْتُ يَا أُمَّاهُ حَدِّثِينِي حَدِيثَكِ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ.
قَرَأْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، بِبَعْلَبَكَّ، أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنُ بن إبراهيم، أنا أبو الحسين عبد الحقّ اليوسفي، أنا أبو سعد ابن خُشَيْشٍ، أَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، أنا ميمون [45 أ] بن إسحاق،
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 10.

(2/269)


ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، ثَنَا يُونُسُ بن بكير، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَقَدْ تُحُدِّثَ بِأَمْرِي فِي الْإِفْكِ وَاسْتُفِيضَ فِيهِ وَمَا أَشْعُرُ. وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَسَأَلُوا جَارِيَةً لِي سَوْدَاءَ كَانَتْ تَخْدُمُنِي فَقَالُوا:
أَخْبِرِينَا مَا عِلْمُكِ بِعَائِشَةَ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا شَيْئًا أَعْيَبَ مِنْ أَنَّهَا تَرْقُدُ ضُحًى حَتَّى إِنَّ الدَّاجِنَ [1] دَاجِنَ أَهْلِ الْبَيْتِ تَأْكُلُ خَمِيرَهَا. فَأَدَارُوهَا وَسَأَلُوها حَتَّى فَطِنَتْ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَعْلَمُ عَلَى عَائِشَةَ إِلَّا مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ. قَالَتْ: فَكَانَ هَذَا وَمَا شَعَرْتُ.
ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَأَشِيرُوا عليّ في أناس أبنا [2] أَهْلِي، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي مِنْ سُوءٍ قَطُّ، وَأَبَنُوهُمْ بِمَنْ، وَاللَّهِ إِنْ عَلِمْتُ عَلَيْهِ سُوءًا قَطُّ، وَلَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِي إِلَّا وَأَنَا شَاهِدٌ، وَلَا غِبْتُ فِي سفر إلّا غاب معي. فقال سعد ابن مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ- وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانَ مِنْ رَهْطِهِ، وَكَانَ حَسَّانُ مِنْ رَهْطِهِ-: وَاللَّهِ مَا صَدَقْتَ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ مَا أَشَرْتَ بِهَذَا. فَكَادَ يَكُونُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ شَرٌّ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا عَلِمْتُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا ذَكَرَهُ لِي ذاكر. حتى أَمْسَيْتُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَخَرَجْتُ فِي نِسْوَةٍ لِحَاجَتِنَا، وَخَرَجَتْ مَعَنَا أُمُّ مِسْطَحٍ- بِنْتُ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَإِنَّا لَنَمْشِي وَنَحْنُ عَامِدُونَ لِحَاجَتِنَا، عَثَرَتْ أَمُّ مِسْطَحٍ فَقَالَتْ: تعس مسطح. فقلت: أي أم، أتسبين ابنك؟ فلم
__________
[1] الداجن: الشاة التي تأليف البيوت ولا تخرج إلى المرعى.
[2] أبنوا: مخفّفة، أي اتّهموا، ورواها الأصيلي بالتشديد. وفي رواية القسطلاني «أنبوا» بتقديم النّون.

(2/270)


تُرَاجِعْنِي. فَعَادَتْ فَعَثَرَتْ فَقَالَتْ [1] : تَعِسَ مِسْطَحٌ. فَقُلْتُ: أي أم أتسبين ابنك صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَلَمْ تُرَاجِعْنِي. ثُمَّ عَثَرَتْ الثَّالِثَةَ فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ. فَقُلْتُ: أَيْ أم، أتسبين ابنك صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ:
وَاللَّهِ مَا أَسُبُّهُ إِلَّا مِنْ أَجْلِكِ وَفِيكِ. فَقُلْتُ: وَفِي أَيِّ شَأْنِي؟ قَالَتْ: وَمَا عَلِمْتِ بِمَا كَانَ؟ فَقُلْتُ: لَا، وَمَا الَّذِي كَانَ؟ قَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّكِ مُبَرَّأةٌ مِمَّا قِيلَ فِيكِ. ثُمَّ بَقَرَتْ [2] لِيَ الْحَدِيثَ، فَأكِرُّ رَاجِعَةً إِلَى الْبَيْتِ مَا أَجِدُ مِمَّا خَرَجْتُ لَهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. وَرَكِبَتْنِي الْحُمَّى فَحُمِمْتُ. فَدَخَلَ عَلِيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَنِي عَنْ شَأْنِي، فَقُلْتُ: أَجِدُنِي مَوْعُوكَةً، ائْذَنْ لِي أَذْهَبُ إِلَى أَبَوَيَّ. فَأَذِنَ لِي، وَأَرْسَلَ مَعِيَ الْغُلَامَ، فَقَالَ: امْشِ مَعَهَا. فَجِئْتُ فَوَجَدْتُ أُمِّي فِي الْبَيْتِ الْأَسْفَلِ، وَوَجَدْتُ أَبِي يُصَلِّي فِي الْعُلُوِّ فَقُلْتُ لَهَا: أيْ أُمَّهْ، مَا الَّذِي سَمِعْتِ؟ فَإِذَا هِي لَمْ يَنْزِلْ بِهَا مِنْ حَيْثُ نَزَلَ مِنِّي، فَقَالَتْ: أَيْ بُنَيَّةَ وَمَا عَلَيْكَ، فَمَا مِنَ امْرَأَةٍ لَهَا ضَرَائِرُ تَكُونُ جَمِيلَةً يُحِبُّهَا زَوْجُهَا إِلَّا وَهِيَ يُقَالُ لَهَا بَعْضُ ذَلِكَ. فَقُلْتُ: وَقَدْ سَمِعَهُ أَبِي؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: وَسَمِعَهُ رسول الله صلّى الله عليه [45 ب] وسلم؟ فقالت: ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فَبَكَيْتُ، فَسَمِعَ أَبِي الْبُكَاءَ، فَقَالَ: مَا شَأْنُهَا؟ قَالَتْ: سَمِعْتُ الَّذِي تُحُدِّثَ بِهِ. فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ يَبْكِي، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةَ، ارْجِعِي إِلَى بَيْتِكِ، فَرَجَعْتُ، وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، حَتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بَيْنَ أَبَوَيَّ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِي وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِي، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ إِنْ كُنْتِ ظَلَمْتِ أَوْ أَخْطَأَتِ أَوْ أَسَأْتِ فَتُوبِي وَرَاجِعِي أَمْرَ اللَّهِ وَاسْتَغْفِرِي، فَوَعَظَنِي، وَبِالْبَابِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ سَلَّمَتْ، فَهِيَ جَالِسَةٌ بِبَابِ الْبَيْتِ فِي الْحُجْرَةِ، وَأَنَا أَقُولُ: أَلَا تَسْتَحِي أَنْ تَذْكُرَ هَذَا، وَالْمَرْأَةُ تَسْمَعُ، حَتَّى إِذَا قَضَى كَلَامَهُ قُلْتُ لِأَبِي وغمزته: ألا
__________
[1] في الأصل: «فعادت ثم عثرت فعادت تعس مسطح» والتصحيح من صحيح البخاري.
[2] أي فتحت وكشفت.

(2/271)


تُكَلِّمَهُ؟ فَقَالَ: وَمَا أَقُولُ لَهُ؟ وَالْتَفَتُّ إِلَى أُمِّي فَقُلْتُ: أَلَا تُكَلِّمِينَهُ؟ فَقَالَتْ:
وَمَاذَا أَقُولُ لَهُ؟ فَحَمِدْتُ اللَّهَ وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أهله ثم قلت: أما بعد فو الله لَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ أَنْ قَدْ فَعَلْتُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ أَنِّي لَبَرِيئَةٌ مَا فَعَلْتُ لَتَقُولَنَّ قَدْ بَاءَتْ بِهِ عَلَى نَفْسِهَا وَاعْتَرَفَتْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَمْ أَفْعَلْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَصَادِقَةٌ مَا أَنْتُمْ بِمُصَدِّقيِّ. لَقَدْ دَخَلَ هَذَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَاسْتَفَاضَ فِيكُمْ، وَمَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ، وَمَا أَعْرِفُ يَوْمَئِذٍ اسْمَهُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ 12: 18 [1] .
وَنَزَلَ الْوَحِيُ سَاعَةَ قَضَيْتُ كَلَامِي، فَعَرَفْتُ وَاللَّهِ الْبِشْرَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ. فَمَسَحَ جَبْهَتَهُ وجبينه ثُمَّ قَالَ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَكِ. وَتَلَا الْقُرْآنَ. فَكُنْتُ أَشَدَّ مَا كُنْتُ غَضَبًا، فَقَالَ لِي أَبَوَايَ:
قُومِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقلت: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلا أَحْمَدُهُ وَلَا إِيَّاكُمَا وَلَكِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي بَرَّأَنِي. لَقَدْ سَمِعْتُمْ فَمَا أَنْكَرْتُمْ وَلَا جَادَلْتُمْ وَلَا خَاصَمْتُمْ. فَقَالَ الرَّجُلُ الَّذِي قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ، حين بلغه نزول العذر: سبحان الله، فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا كَشَفْتُ قَطُّ كَنَفَ أُنْثَى. وَكَانَ مِسْطَحٌ يَتِيمًا فِي حُجْرِ أَبِي بَكْرٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، فَحَلَفَ لَا يَنْفَعُ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أبدا. فأنزل الله وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ 24: 22 إِلَى قَوْلِهِ أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ 24: 22 [2] . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ يَا رَبِّ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَغْفِرَ [لِي] [3] وَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَبَكَى، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَهَذَا [حَدِيثٌ] عَالٍ حسن الإسناد، أخرجه البخاري تعليقا، فقال:
__________
[1] سورة يوسف- الآية 18.
[2] سورة النور: من الآية 22.
[3] ليست في الأصل، وزدناها من ابن الملا.

(2/272)


وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ. فَذَكَرَه [1] .
وَقَالَ اللَّيْثُ- وَاللَّفْظُ لَهُ- وَابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ، وعبيد الله ابن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، حِينَ قَالَ لها أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ، وَكُلٌّ حَدَّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بعض. قالت:
كان رسول الله [46 أ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ. فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَهُ بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابُ، وَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأَنْزِلُ فِيهِ. فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ، وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ. فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظِفَارٍ [2] قَدْ انْقَطَعَ، فَالْتَمَسْتُهُ، وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ [3] لِي وَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَّلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ رَكِبْتُ. وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ. وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلَقَةَ [4] مِنَ الطَّعَامِ. فَلَمْ يَسْتَنْكِرُوا خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ. وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ.
فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا. فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ. فأَمَمْتُ مَنْزِلِي الّذي كنت فيه، وظننت أنّهم
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب التفسير، سورة النور حديث أبي أسامة عن هشام- باب: إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.. ج 6/ 11- 13.
[2] جزع ظفار: الجزع خرز يماني. وظفار مبنيّة على الكسر، مدينة باليمن قرب صنعاء، وقيل هي صنعاء نفسها. قال ياقوت: ولعلّ هذا كان قديما، فأما ظفار المشهورة اليوم فليست إلّا مدينة على ساحل بحر الهند (معجم البلدان 4/ 60) .
[3] هكذا في سيرة ابن هشام 4/ 10 وفي تاريخ الطبري 2/ 612 «يرجّلون» .
[4] العلقة: ما يتبلّغ به من الطعام.

(2/273)


سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عيني فنمت. وكان صفوان ابن الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ. فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نائم، فأتاني فعرفني حِينَ رَآنِي، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفْتُ، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ. فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي [الرَّاحِلَةَ] [1] حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ. فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ. وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْإِفْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ. فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي [2] قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَهُوَ يُرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي. إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلِيَّ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُ. فَذَلِكَ الَّذِي يُرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حَتَّى خَرَجْتُ يَوْمًا بَعْدَ مَا نَقِهْتُ. فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ [3] ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأَوَّلُ فِي التَّبَرُّزِ قَبْلَ الْغَائِطِ، وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَل بَيْتِي، قَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ. فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ: أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ قَالَتْ: أي هنتاه [4] ، أو لم تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ:
وَمَاذَا؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ. فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي. فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي وَدَخَلَ عَلِيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فَسَلَّمَ] [5] ثُمَّ قَالَ: [46 ب]
__________
[1] سقطت من الأصل، وزدناها من ع والبخاري 6/ 6.
[2] في الأصل: (من) والتصحيح من ع والبخاري 6/ 6.
[3] المناصع: جمع منصع وهو الموضع الّذي يتخلّى فيه لقضاء الحاجة.
[4] أي هنتاه: يقال يا هنتاه في النّداء للأنثى من غير تصريح بالاسم كيا هذه.
[5] سقطت من الأصل، وزدناها من ع. وفي صحيح البخاري «تعني سلّم ثم قال» 6/ 7.

(2/274)


كَيْف تِيكُمْ؟ فَقُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِي أَبَوَيَّ؟ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ لِي، فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهُ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟
قَالَتْ: يَا بنيّة هوّني عليك، فو الله لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ، إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا. فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ فَبَكَيْتُ اللَّيْلَةَ حَتَّى لَا يَرْقَأُ لِي دمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ. ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي.
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ- حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحِيُ- يَسْتَأْمُرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ. فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودّ، فقال أسامة: يا رسول الله أهلك وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا. وَأَمَّا عَلِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَاسْأَلِ الْجَارِيَةَ [1] تَصْدُقُكَ، قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ: أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يُرِيبُكِ؟ قَالَتْ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ [2] عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ.
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، فَقَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي [3] أَذَاهُ فِي أهل بيتي، فو الله ما علمت في أهلي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ- وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا- وَلَكِنْ احتملته الحميّة، فقال:
__________
[1] في صحيح البخاري 6/ 5 «وإن تسأل الجارية» .
[2] أغمصه: أعيبه.
[3] في الأصل: بلغنا. وأثبتنا عبارة ع. وصحيح البخاري 6/ 7.

(2/275)


كَذبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلَهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ: الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ.
قَالَتْ: فَبَكَيْتُ [1] يَوْمِي ذَلِكَ وَلَيْلَتِي لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ.
فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، حَتَّى ظَنَنْتُ [2] أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقُ كَبِدِي. فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي، اسْتَأْذَنَتْ عَلِيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي. فبينا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلْيَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ [مَا قِيلَ قَبْلَهَا [3]] وَلَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٍ. قَالَتْ:
فَتَشَهَّدَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةَ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فاستغفري الله [47 أ] وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثم تاب تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ، قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً. فَقُلْتُ لأبي: أجب رسول الله فِيمَا قَالَ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ.
فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ. قَالَتْ: مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَهُ. فَقُلْتُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ [4] هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى [5] اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بريئة، والله يعلم أنّي بريئة، لا تصدّقوني بذلك، ولئن اعترفت
__________
[1] في صحيح البخاري 6/ 8 «فمكثت» .
[2] في هامش الأصل: يظنّان، خ، أي في نسخة، ولعلّه يقصد البخاري، وهي لفظه 6/ 8.
[3] ليست عليه السّلام، وأثبتناها من ع والبخاري 6/ 8.
[4] في الأصل: سمعت. والتصحيح من صحيح البخاري 6/ 8.
[5] في طبعة القدسي 250 «حق» والتصحيح من صحيح البخاري 6/ 8.

(2/276)


لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ 12: 18 [1] ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ [اللَّهَ] [2] يُبَرِّئُنِي بِبَرَاءَتِي.
وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ اللَّهَ مُنَزِّلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ فِي نَفْسِي [3] أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِي بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رؤيا يبرّئني الله بها. قالت: فو الله مَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانُ [4] مِنَ الْعَرَقِ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ كَانَ أَوَّلُ كَلِمَةً تَكَلَّمَ بِهَا: يَا عَائِشَةُ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ. فَقَالَتْ أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ.
فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا الله. وأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ 24: 11 الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا [5] . فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ وَفَقْرِهِ-: وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لعائشة. فأنزلت وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ 24: 22 [6] قال أبو بكر: بلى والله إنّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت:
__________
[1] سورة يوسف- الآية 18.
[2] سقطت من الأصل، وزدناها من ع والبخاري 6/ 8.
[3] في صحيح البخاري «ولشأني في نفسي كان» 6/ 9.
[4] الجمان: الفضّة.
[5] سورة النور: الآيات 11- 21.
[6] سورة النور: من الآية 22.

(2/277)


وكأن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَتْ:
أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا. وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي [1] مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِفْكِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ الأَيْلِيِّ [2] .
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: حَدَّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الْوَلِيدِ بْنِ عبد الْمَلِكِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ عَنِ الأَرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا غَزْوَةَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَسَاهَمَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَخَرَجَ سَهْمِي وَسَهْمُ أُمِّ سَلَمَةَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهري قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الْوَلِيدِ بن [47 ب] عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَلِيٌّ. فَقُلْتُ: لا.
حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، وَعُرْوَةُ، وَعَلَقْمَةُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ كُلُّهُمْ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ. قَالَ فَقَالَ لِي: فَمَا كَانَ جُرْمُهُ؟ قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، [أَخْبَرَنِي رَجُلانِ [3]] مِنْ قَوْمِكَ: أَبُو سَلَمَةَ بن عبد الرحمن، وأبو بكر ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا عَائِشَةَ تَقُولُ: كَانَ مُسَلِّمًا [4] فِي أَمْرِي. أخرجه البخاري [5] .
__________
[1] تساميني: تفاخرني وتضاهيني.
[2] صحيح البخاري: كتاب التفسير: سورة النور، باب «وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ 24: 16» إلخ 6/ 5- 9 وصحيح مسلم (2770) كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف.
والأيلي: هو يونس بن يزيد الأموي، مولاهم أبو يزيد الأيلي. (بفتح الهمزة وسكون التحتانية.) تهذيب التهذيب 11/ 450.
[3] إضافة من صحيح البخاري 5/ 60 كتاب المغازي- باب حديث الإفك.
[4] في الأصل، ع: مسيئا، وأثبتنا نصّ صحيح البخاري 5/ 60.
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب حديث الإفك (5/ 60) .

(2/278)


وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِصَّةَ الَّتِي نَزَلَ، بِهَا عُذْرِي عَلَى النَّاسِ، نَزَلَ فَأَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ مِمَّنْ كَانَ تَكَلَّمَ بِالْفَاحِشَةِ فِي عَائِشَةَ فَجُلِدُوا الْحَدَّ. قَالَ: وَكَانَ رَمَاهَا ابْنُ أُبَيٍّ، وَمِسْطَحٌ، وَحَسَّانٌ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ [1] .
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَشَبَّبَ بِأَبْيَاتٍ لَهُ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزِنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ [2]
قَالَتْ: لَسْتُ كَذَلِكَ.
قُلْتُ: تَدَعِينَ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ 24: 11 [3] ، قَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى؟ وَقَالَتْ:
كان يردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه [4] .
وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ قَالَ:
وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ قَدْ كَثَّرَ عَلَيْهِ حَسَّانٌ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ، وَقَالَ يُعَرِّضُ بِهِ:
أَمْسَى الْجَلابِيبُ قَدْ عَزُّوا [5] وَقَدْ كَثُرُوا ... وَابْنُ الْفُرَيْعَةِ أَمْسَى بَيْضَةَ البلد [6]
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 12.
[2] ديوانه: ص 324، وما تزنّ: أي ما تتّهم. وانظر: سيرة ابن هشام 4/ 14 وصحيح البخاري 5/ 61 والبداية والنهاية 3/ 164.
[3] سورة النور: من الآية 11.
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب حديث الإفك (5/ 61) .
[5] في طبعة القدسي 254 «غروا» والتصويب من سيرة ابن هشام 4/ 13 وتاريخ الطبري 2/ 618، وديوان حسان 104.
[6] قال السهيليّ في الروض الأنف: «الجلابيب: الغرباء، وبيضة البلد، يعني منفردا، وهو كلمة

(2/279)


فَاعْتَرَضَهُ صَفْوَانُ لَيْلَةً وَهُوَ آتٍ مِنْ عِنْدِ أَخْوَالِهِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ، فيغدو عَلَيْهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فَجَمَعَ يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ أَسْوَدَ وَقَادَهُ إِلَى دَارِ بَنِي حَارِثَةَ [1] ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَالَ: مَا هَذَا:؟
فَقَالَ: مَا أَعْجَبَكَ! عَدَا عَلَى حسّان بالسّيف، فو الله مَا أَرَاهُ إِلا قَدْ قَتَلَهُ.
فَقَالَ: هَلْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا صَنَعْتَ بِهِ؟ فَقَالَ: لا. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اجْتَرَأْتَ، خَلِّ سَبِيلَهُ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ الْمُعَطَّلِ؟ فَقَامَ إليه، فقال: ها أنا ذا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: مَا دَعَاكَ إِلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: آذَانِي وَكَثَّرَ عَلَيَّ وَلَمْ يَرْضَ حَتَّى عَرَّضَ بِي فِي الْهِجَاءِ، فَاحْتَمَلَنِي الغضب، وها أنا ذا، فَمَا كَانَ عَلَيَّ مِنْ حَقٍّ فَخُذْنِي بِهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادعوا لي حسّان، فَأَتَى بِهِ، فَقَالَ: يَا حَسَّانُ:
أَتَشَوَّهْتَ [2] عَلَى قَوْمِي أَنْ هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلإِسْلامِ، يَقُولُ: تَنَفَّسْتَ عَلَيْهِمْ يَا حَسَّانُ، أَحْسِنْ فِيمَا أَصَابَكَ. فَقَالَ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِيرِينَ الْقِبْطِيَّةَ. فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَأَعْطَاهُ أَرْضًا كَانَتْ لأَبِي طَلْحَةَ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [3] . وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عتبة، أنّ صفوان قال حين ضربه:
[48 أ] تَلَقَّ ذُبَابُ السَّيْفِ عَنِّي [4] فَإِنَّنِي ... غُلامٌ إِذَا هوجيت لست بشاعر
__________
[ () ] يتكلم بها في المدح تارة وفي معنى القلّ أخرى، يقال: فلان بيضة البلد أي أنه واحد في قومه، عظيم فيهم، وفلان بيضة البلد، يريد: أنه ذليل ليس معه أحد» (4/ 21) .
[1] في الأصل: بني جارية، والتصحيح من ع وهم بنو الحارث بن الخزرج. كما جاء في ابن هشام 4/ 13.
[2] أتشوّهت على قومي: أي أقبحت ذلك من فعلهم حين سمّيتهم الجلابيب من أجل هجرتهم إلى الله ورسوله.
[3] سيرة ابن هشام 4/ 13، 14 تاريخ الطبري 2/ 618، 619.
[4] في الأصل، «عنك» والمثبت عن هامش الأصل، وتاريخ الطبري 2/ 618 وفي سيرة ابن هشام 4/ 13 «تلقى» وفي طبعة شعيرة 247 «لا تلقّ» .

(2/280)


وَقَالَ حَسَّانٌ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا [1] :
رَأَيْتُكِ وَلْيَغْفِرْ لَكِ اللَّهُ، حُرَّةً ... مِنَ الْمُحْصَناتِ غَيْرِ ذَاتِ غَوَائلِ
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزِنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
وَإِنَّ الَّذِي قَدْ قِيلَ لَيْسَ بِلائِقٍ [2] ... بِكِ الدَّهْرَ بَلْ قِيلُ امْرِئٍ مُتَمَاحِلِ
فَإِنْ كُنْتُ أَهْجُوكُمْ كَمَا بَلَّغُوكُمُ [3] ... فَلا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَيَّ أَنَامِلِي
فَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حَيِيتُ وَنُصْرَتِي ... لآلِ رَسُولِ اللَّهِ زَيْنِ الْمَحافِلِ
وَإِنَّ لَهُمْ عِزًّا يُرَى النَّاسُ دونه ... قصارا، وطال العزّ كلّ التّطاول [4]
[و] منها:
مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللَّهُ خِيَمَهَا ... وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَبَاطِلِ
عَقِيلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ ... كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ [5]
اسْتُشْهِدَ صَفْوَانُ فِي وَقْعَةِ أَرْمِينِيَةَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ [6] .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَقَدْ سُئِلَ عَنِ ابْنِ الْمُعَطَّلِ فَوَجَدُوهُ حَصُورًا مَا يَأْتِي النِّسَاءَ. ثُمَّ قتل بعد ذلك شهيدا [7] .
__________
[1] ديوانه: ص 324، 325 باختلاف في اللفظ وترتيب الأبيات.
[2] في البداية والنهاية 3/ 164 «بلائط» وانظر البيت في سيرة ابن هشام 4/ 14.
[3] في سيرة ابن هشام 4/ 14 والبداية 3/ 164 «
فإن كنت قد قلت الّذي قد زعمتم
» .
[4] هذا البيت ليس في سيرة ابن هشام.
[5] البيتان في السيرة بتقديم الثاني على الأول 4/ 14.
[6] الإصابة 2/ 290، 291 رقم 4089.
[7] سيرة ابن هشام 4/ 14، تاريخ الطبري 2/ 619.

(2/281)


غزوَةُ الخَنَدق
قَالَ الواقديّ [1] : وهي غزوة الأحزاب، وكانت في ذي القِعْدَة.
قَالُوا: لمّا أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النَّضير ساروا إلى خَيْبَر، وخرج نفرٌ من وجوههم إلى مكة فألَّبُوا قُرَيْشًا ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم عَلَى قتاله، وواعدوهم لذلك وقتا. ثُمَّ أتوا غَطفانَ وسُلَيْما فدعوهم إلى ذَلِكَ، فوافقوهم.
وتجهَّزَتْ قُرَيْشُ وجمعوا عبيدهم وأتباعهم، فكانوا في أربعة آلاف، وقادوا معهم نحو ثلاثمائة فرس سوى [2] الِإبل. وخرجوا وعليهم أبو سُفيان ابن حرب، فوافتهم بنو سُلَيْم بمَرّ الظَّهْران، وهم سبعمائة. وتلقَّتهم بنو أسد يقودهم طلحة بن خُويلد الَأسَدي. وخرجت فِزارة وهم في ألف بعيرٍ يقودهم عُيَيْنَة بن حصْن. وخرجت أَشْجَعُ وهم أربعمائة يقودهم مسعود [3] بن رخيلة.
__________
[1] المغازي 2/ 440.
[2] في الأصل، ع: من سوى الإبل. ولعلّ الوجه ما أثبتناه كما يؤخذ من عبارة الواقدي: «وقادوا معهم ثلاثمائة فارس وكان معهم من الظهر ألف بعير وخمسمائة بعير» (المغازي: 2/ 443) .
[3] في سيرة ابن هشام 3/ 259 مسعر بن رخيلة. وانظر الإصابة (3/ 410) وأسد الغابة (5/ 161) وتاريخ الطبري 2/ 566 ففيها كما أثبتنا.

(2/283)


وخرجت بنو مرّة وهم أربعمائة يقودهم الحارث بن عَوْف. وقيل إنّه رجع ببني مُرّة، والأوّل أثبت.
فكان جميع الأحزاب عشرة آلاف، وأَمْرُ الكّل إلى أبي سُفيان.
وكان المسلمون في ثلاثة آلاف. هذا كلام الواقدي [1] .
وأمّا ابن إسحاق فقال: كانت غزوة الخندق في شوّال [2] .
قَالَ: وكان من حديثها أنّ سَلَام بن أبي الحُقَيْق، وحُيَيّ بن أخْطب، وكِنانة بن الرَّبيع، وهوْذَة، في نفرٍ من بني النّضير ونفر من بني وائل، وهم الذين حزَّبوا الأحزابَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدِموا مكَةَ فدعوا قريشًا إلى القتال، وقالوا: إنّا نكون معكم حتى نستأصل محمدا. فقالت لهم قريش [48 ب] : يا معشر يهود، إنّكم أهلُ كتاب وعِلْمٍ بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد. أَفَدِيننا خيرٌ أم دينُه؟ قالوا: بل دينكم خيرٌ من دينه وأنتم أولى بالحقّ وفيهم نزل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى من الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا 4: 51 [3] الآيات.
فلما قالوا: ذَلِكَ لقريش سَرَّهم ونشطوا إلى الحرب واستعدُّوا له. ثُمَّ خرج أولئك النّفر اليهود حتى جاءوا غَطفان، فدعوهم فوافقوهم [4] .
فخرجت قريش، وخرجت غَطفان وقائدهم عُيَيْنَة في بني فِزارة، والحارث بن عَوْف المُرِّي في قومه، ومسعود بن رُخَيلة فيمن تابعه من قومه
__________
[1] الواقدي: المغازي (2/ 440- 444) .
[2] سيرة ابن هشام 3/ 258.
[3] سورة النّساء- الآية 51.
[4] سيرة ابن هشام 3/ 259، تاريخ الطبري 2/ 565.

(2/284)


أشْجَع. فلما سَمِعَ بهم النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفر الخندق عَلَى المدينة وعمل فيه بيده، وأبطأ عَنِ المسلمين في عمله رجالٌ منافقون، وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه [1] .
وكان في حفْره أحاديث بلغتني، منها:
بلغني أنّ جابرًا كان يحدّث أنّهم اشتدّت عليهم كدية [2] فشكوها إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا بإناء من ماء فَتَفَلَ فيه، ثُمَّ دعا بما شاء الله، ثُمَّ نضح الماء عَلَى الكُدْية حتى عادت كثيبًا [3] وحدّثني سعيد بن ميناء، عَنْ جابر بن عبد الله قَالَ: عملنا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في الخندق، فكانت عندي شُوَيْهة، فقلت: والله لو صنعناها لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرتُ امرأتي فطحنتْ لنا شيئًا من شعير، فصنعتْ لنا منه خُبزًا، وذبحت تِلْكَ الشاة فشَوَيْناها، فلما أمسينا وأراد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الانصراف، وكنّا نعمل فِي الخندق نهارًا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنّي قد صنعت كذا وكذا، وأحبّ أن تنصرف معي، وإنّما أريد أن ينصرف معي وحده. فلما قلت له ذَلِكَ، قَالَ: نعم. ثُمَّ أمر صارخًا فصرخ أنِ انصرفوا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيت جابر. فقلت: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، فأقبل وأقبل النّاس معه، فجلس وأخرجناها إليه، فَبَرَكَ وسمَّى، ثُمَّ أكل، وتواردها النّاس، كلّما فرغ قومٌ قاموا وجاء ناسٌ، حتى صدر أهلُ الخندق عنها [4] . وحدّثني سعيد بن ميناء أنّه حُدِّث أنّ ابنة لبشير بن سعد قالت: دعتني
__________
[1] السيرة 3/ 259، الطبري 2/ 566.
[2] الكدية: صخرة غليظة صلبة فيها الفأس، على ما في (النهاية لابن الأثير) وغيرها.
[3] (سيرة ابن هشام 3/ 260.
[4] السيرة 3/ 260.

(2/285)


أمّي عمرةُ بنتُ رَواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثُمَّ قَالَتْ: أي بُنَيَّة اذهبي إلى أبيك وخالك، عبد الله بغذائهما. فانطلقتُ بِهَا فمررت برَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا ألتمس أبي وخالي، فقال: ما هذا معك؟ قلت: تمر بَعَثَتْ به أمي إلى أبي وخالي، قَالَ: هاتيه. فَصَبَبْتُهُ في كَفَّيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما ملأتهما [1] ثُمَّ أمر بثوبٍ فُبِسط، ثُمَّ دحا بالتمر عليه فتبدّد فوق الثوب، ثُمَّ قَالَ لِإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أنْ هلموا إلى الغداء. فاجتمعوا فجعلوا يأكلون مِنْهُ وجعل يزيد، حَتَّى صَدَرَ أهلُ الخندق [49 أ] عنه وإنه لَيَسْقُط من أطراف الثوب [2] . وحدّثني من لا أَتّهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كان يَقْولُ حين فُتِحَت هذه الأمصار في زمان عُمَر وعثمان وما بعده: افتحوا ما بدا لكم، والذي نفس أبي هُريرة بيده، ما افتتحتم من مدينةٍ ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلّا وقد أعطى الله محمدًا مفاتيحها قبل ذَلِكَ [3] .
قَالَ: وحدّثت عن سلمان الفارسيّ قَالَ: ضربت في ناحيةٍ من الخندق فغلُظَتْ عليّ، ورَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريبٌ منّي، فلما رآني أضرب نزل وأخذ المِعْوَلَ فضرب به ضربة فلمعتْ تحت المِعْوَل بَرْقَةٌ، ثُمَّ ضرب أخرى فلمعت تحته أخرى، ثُمَّ ضرب الثالثة فلمعت أخرى. قلت: بأبي أنت وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ قَالَ: أوَ قد رأيتَ؟ قلت: نعم. قَالَ: أمّا الأولى، فإنّ الله فتح عليّ بِهَا اليمن، وأمّا الثانية، فإنّ الله فتح عليّ بِهَا الشامَ والمغرب، وأمّا الثالثة فإنّ الله فتح عليّ بها المشرق [4] .
__________
[1] في الأصل «فملأتها» وما أثبتناه عن سيرة ابن هشام.
[2] السيرة 3/ 260.
[3] سيرة ابن هشام 3/ 261.
[4] السيرة 3/ 261، المغازي لعروة 185.

(2/286)


قَالَ ابن إسحاق: ولما فرغ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السُّيول من رُومة بين الجُرْف وزَغَابة [1] في عشرة آلاف من أحابيشهم ومَن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة وغطفان، فنزلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد بذنب نقمي [2] إلى جانب أُحُد. وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع [3] في ثلاثة آلاف، فعسكروا هنالك، والخندق بينه وبين القوم. فذهب حُيَيّ بنُ أخطب إلى كعب بن أسد القُرظي صاحب عهد بني قريظة وعقدهم، وقد كان وادع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قومه، فلما سَمِعَ كعبُ بحُيَيّ أغلق دونه الحصْنَ فأبى أن يفتح له، فناداه:
يا كعب افتحْ لي. قَالَ: إنّك امرؤٌ مشئوم، وإنّي قد عاهدت محمدًا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلّا وفاء وصدقا. قال: ويلك افتح لي أكلّمك. قَالَ: ما أنا بفاعل. قَالَ: والله إنْ أغلقت دوني إلّا عَنْ [4] جُشَيْشَتك [5] أن آكل معك منها. فأحْفَظَه ففتح له فقال: ويحك يا كعب، جئتك بعزّ الدّهر وببحر طام، جئتك بقريش عَلَى قادتها وسَادتها حَتَّى [6] أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان عَلَى قادتها وسادتها فأنزلتهم بذَنَب نَقَمَى إلى جانب أُحُد، قد عاهدوني وعاقدوني عَلَى [7] أن لا يبرحوا
__________
[1] رومة أرض بالمدينة فيها بئر رومة التي اشتراها عثمان بن عفان ثم تصدّق بها. والجرف موضع على ثلاثة أميال من المدينة من جهة الشام. وزغابة موضع قريب من المدينة وهي مجتمع السيول آخر العقيق غربيّ قبر حمزة وهي أعلى إضم (وفاء ألوفا) . وانظر معجم البلدان 1/ 299 و 3/ 141.
[2] ذنب نقمي: موضع من أعراض المدينة قريب أحد، كان لآل أبي طالب. ونقمى:
بالتحريك. انظر معجم البلدان 5/ 300.
[3] سلع: جبل بسوق المدينة، وقيل موضع بقرب المدينة (معجم البلدان 3/ 236) .
[4] في سيرة ابن هشام 3/ 261: «إلا تخوفت علي» .
[5] الجشيشة: طعام من حنطة تطبخ مع لحم أو تمر.
[6] في الأصل: على، تحريف.
[7] في الأصل: حتى، تحريف.

(2/287)


حتى نستأصل محمدًا ومن معه. قَالَ له كعب: جئتني والله بذُلّ الدَّهْر وبجهام [1] قد هراق ماءه برعد وَبرْقٍ لَيْسَ فيه شيء، يا حُيَيّ فَدَعْنِي وما أنا عليه فإنّي لم أر من محمدٍ إلّا صدْقًا ووفاءً. فلم يزل حُيَيّ بكعب حتى سمح له بأنْ أعطاه عهدًا لئن رجعتْ قريش وغَطفان ولم يصيبوا محمدًا أنْ أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك.
فنقض كعب عهده وبريء ممّا كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ [2] .
ولما انتهى الخبر إلى النّبيّ صَلَّى [49 ب] اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث [سعد] [3] بن مُعاذ، وسعد بن عُبَادة سيّدَ الأنصار، ومعهما عبد الله بن رَوَاحة وخَوّات بن جُبَيْر رَضِيَ الله عَنْهُم، فقال: انطلقوا حتى تنظروا أحَقٌ ما بلغنا عَنْ هَؤُلاءِ؟ فإنْ كان حقًا فالحنوا لي لحنًا أعرفه، ولا تَفُتُّوا في أعضاد النّاس، وإن كانوا عَلَى الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للنّاس. فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم عَلَى أخبث ما بلغهم، فشاتمهم سعد بن مُعاذ وشاتموه، وكان فيه حدة، فقال له ابن عُبَادة: دع عنك مُشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المُشاتمة. ثُمَّ رجعوا إلى النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلّموا عليه وقالوا:
عضل والقارة، أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرّجيع خُبيب وأصحابه.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين. فعظم عند ذلك الخوف [4] . قال الله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمن أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ 33: 10- 11
__________
[1] في هامش الأصل: هو السحاب الّذي لا ماء فيه.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 261.
[3] ليست في الأصل، وزدناها للتوضيح من سيرة ابن هشام 3/ 261.
[4] سيرة ابن هشام 3/ 261، 262.

(2/288)


وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً 33: 11 [1] الآيات.
وتكلّم المنافقون حتى قَالَ مُعَتّب بن قُشَيْر أحدُ بني عَمْرو بن عَوْف:
كان محمد يعدنا أن نأكل كنوزَ كِسْرى وقيصر وأحدُنا اليوم لا يأمن عَلَى نفسه أن يذهب إلى الغائط. فأقام رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقام عليه المشركون بضْعًا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلّا الرَّمْيُ بالنَّبل والحصار [2] .
ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى عُيَيْنَة بن حصْن وإلى الحارث بن عَوْف، فأعطاهما ثُلُثَ ثمار المدينة عَلَى أن يرجعا بمن معهما، فجرى بينه وبينهما الصُّلح [3] ، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصّلح، إلّا المراوضة في ذَلِكَ.
فلما أنْ أراد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يفعل، بعث إلى السَّعْدين فاستشارهما فقالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أمرًا تحبّه فنصنعه، أم شيئًا أمرك اللَّهمّ به لا بُدَّ لنا منه، أم شيئًا تصنعه لنا؟ قَالَ: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذَلِكَ إلّا لأنّي رأيت العربَ قد رمتكم عَنْ قَوسٍ واحدة، فأردت أنْ أكسر عنكم من شوكتهم. فقال سعد بن مُعاذ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشّرك ولا يطعمون أن يأكلوا منّا تمرة إلّا قِرًى [4] أو بيعًا، أَفَحِين أكرمنا الله بالِإسلام وأَعَزَّنَا بك نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلّا السَّيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قَالَ: فأنتَ وذاك. فأخذ سعد الصحيفة فمحاها، ثم قال: ليجهدوا علينا [5] .
__________
[1] سورة الأحزاب: الآيتان 10، 11.
[2] السيرة 3/ 262.
[3] في الأصل: صلح. وأثبتناه عبارة ع والسيرة 3/ 262.
[4] قرى: إطعام الضيف.
[5] السيرة 3/ 262.

(2/289)


وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحزاب، فلم يكن بينهم قتالٌ إلّا فوارس من قريش، منهم عَمْرو بن عبد وُدّ، وعِكْرِمة بن أبي جهل، وهُبَيْرَة بن أبي وهب، وضِرار بن الخطّاب، تلبَّسوا للقتال ثُمَّ خرجوا عَلَى خيلهم، حتى مرُّوا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيَّئوا للقتال يا بني كِنانة فستعلمون من [50 أ] الفُرسان اليوم، ثُمَّ أقبلوا تُعْنِق بهم خيلهم حتى وقفوا عَلَى الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إنّ هذه لمكِيدةٌ ما كانت العربُ تكِيدها.
فتيمَّموا مكانًا من الخندق ضيّقًا فضربوا خيلهم، فاقتحمت منه [فجالت] [1] بهم في السَّبخة بين الخندق وسَلع.
وخرج عليّ رَضِيَ الله عَنْهُ في نفرٍ من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة، فأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عَمْرو بن عبد وُدّ قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أُحُد، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه، فلما وقف وهو وخيلُه قَالَ: من يبارزني؟ فبرز له عليّ رَضِيَ الله عَنْهُ، فقال له عليّ: يا عَمْرو إنّك كنت عاهدتَ الله لا يدعوك رجلٌ من قريشٍ إلى إحدى خلّتين إلّا أخذتها [2] منه. قَالَ له: أجل. قَالَ له:
فإنّي أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الِإسلام. قَالَ: لا حاجة لي بذلك.
قَالَ: فإنّي أدعوك إلى النّزال. قَالَ له: لِمَ يا ابن أخي، فو الله ما أحبّ أن أقتلك. قَالَ عليّ رَضِيَ الله عَنْهُ: لكّني والله أحبّ أن أقتلك. فحمي عَمْرو واقتحم عَنْ فرسه فعقره وضرب وجهه، ثُمَّ أقبل عَلَى عليّ فتنازلا وتجاولا، فقتله عليّ. وخرجتْ خيلُهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق. وألقى عِكْرِمة يومئذٍ رُمْحه وانهزم. وقال عليّ رَضِيَ الله عَنْهُ في ذَلِكَ:
نَصَرَ الحجارةَ من سفاهةِ رأيهِ ... ونَصَرتُ دينَ [3] محمّد بضراب
__________
[1] سقطت من الأصل، والإضافة من السيرة 3/ 263.
[2] في الأصل: أخذتهما، وأثبتنا. عبارة ع والسيرة 3/ 263.
[3] في السيرة «رب» .

(2/290)


نازلتُهُ فتركتُهُ مُتَجدّلًا [1] ... كالجذْع بين دَكَادكٍ وروابي [2]
لا تَحْسَبَنَّ الله خاذلٌ دينَهُ ... ونبيَّه يا معشر الأحزابِ [3]
وحدّثني أبو ليلى عبد الله بن سهل، أنّ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكانت أمّ سعد بن مُعاذ معها في الحصن، فمرّ سعد وعليه درعٌ مُقَلَّصَة [4] قد خرجت منها [5] ذراعهُ كلّها، وفي يده حربة يرفل [6] بِهَا ويقول:
لَبّثْ قليلًا يَشْهَدِ الهَيْجا حمل ... لا بأسَ بالموتِ إذا حانَ الَأجَلْ [7]
فقالت له أُمُّهُ: الحق أي بنيّ فقد أخّرت. قالت عائشة: فقلت لَهَا يا أمّ سعد لوددت أنّ درع سعِد كانت أسبغ [8] مما هي. فرمي سعد بسهم قطع منه الأكْحَل [9] رماه ابن العَرِقة، [10] ، فلما أصابه قَالَ: خُذها منّي وأنا ابن العرقة. فقال له سَعْد: عرَّق الله وجهكَ في النّار، اللَّهمّ إنْ كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لَهَا فإنّه لا قوم أحبّ إليّ [11] أن أجاهدهم فيك من
__________
[1] في السيرة «
فصددت حين تركته متجدّلا
» .
[2] الدكادك: جمع دكداك وهو من الرمل ما تكبّس واستوى.
[3] في السيرة بيت رابع لم يرد هنا.
[4] الدرع المقلّصة: المجتمعة المنضمّة. يقال قلّصت الدرع وتقلصت.
[5] في الأصل: منه. وما أثبتناه عن السيرة 3/ 264 وتاريخ الطبري 2/ 575.
[6] يرفل: يجرّ ذيله ويتبختر. وفي تاريخ الطبري 2/ 575 «ويرقد» .
[7] قال السهيليّ في الروض الأنف 3/ 280 «هو بيت تمثّل به، يعني به حمل بن سعدانة بن حارثة بن معقل بن كعب بن عليم بن جناب الكلبي» .
[8] أسبغ: أكمل.
[9] الأكحل: عرق في اليد أو هو عرق الحياة.
[10] ابن العرقة: هو حبّان بن قيس بن العرقة، والعرقة هي قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم تكني أم فاطمة، سمّيت العرقة لطيب ريحها. (الروض الأنف 3/ 280) .
[11] في الأصل، أحبّ إليّ من أن أجاهدهم. والمثبت عن السيرة 3/ 264، وتاريخ الطبري 2/ 575.

(2/291)


قوم آذوا رسولكَ وكذَّبوه وأخرجوه، اللَّهمّ إنْ كنت وضعتَ الحربَ بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تُمِتْني حتى تقرّ عيني من بني قريظة.
وكانت صفية بنتُ عبد المطّلب في فارغ [1]- حصن حسّان بن ثابت- وكان [50 ب] معها فيه مع النّساء والولْدان. قَالَتْ: فمرّ بنا يهودي فجعل يطيف بالحصْن، وقد حاربت بنو قُرَيظة ونقضت وليس بيننا وبينهم أحدٌ يدفع عنّا، والنّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون في نُحور عدوّهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا. فقلت: يا حسّان إنّ هذا اليهوديّ كما ترى يطيف بالحصن، وإليّ والله ما آمنُه أن يدل عَلَى عورتنا من وَراءنا من يهود، وقد شُغِل عنّا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فانزِلْ إليه فاقُتْله. قَالَ: يغفر [2] لك الله يا ابنةَ عبد المطّلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. فلما قَالَ لي ذَلِكَ ولم أر عنده شيئًا، احتجزت [3] ثُمَّ أخذت عمودًا ونزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته. فلما فرغتُ رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسّان انزل إليه فاسلبه، فإنّه لم يمنعني من سلبه إلّا أنّه رجل. قال: ما لي بسَلَبه من حاجة [4] .
وأقام رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدّوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
وروى نحوه يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه.
__________
[1] فارع: أطم من آطام المدينة، وقيل حصن بالمدينة.
[2] في الأصل، ع: فغفر، وأثبتنا نصّ ابن هشام 3/ 264.
[3] احتجز: شدّ إزاره على وسطه.
[4] سيرة ابن هشام 3/ 264، تاريخ الطبري 2/ 577 وقد نقد السهيليّ هذه الرواية 3/ 281 فقال:
«ويحمل هذا الحديث عند الناس على أن حسّانا كان جبانا شديد الجبن، وقد دفع هذا بعض العلماء، وأنكره، وذلك أنه حديث منقطع الإسناد، وقال: لو صحّ هذا لهجي به حسّان، فإنه كان يهاجي الشعراء كضرار وابن الزبعري وغيرهما، وكانوا يناقضونه ويردّون عليه..» .

(2/292)


ثُمَّ إنّ نُعَيْم بن مسعود الغَطفاني أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم. وقال: إنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فَمُرْنِي بما شئت يا رسول الله. قَالَ إنّما أنت فينا رجلٌ واحد فاخذل عنّا منا استطعت فإنّ الحرب خُدْعة. فأتى قريظة- وكان نديمًا لهم في الجاهلية- فقال لهم: قد عرفتم وُدّي إيّاكم. قالوا: صدقتَ. قَالَ: إنّ قريشًا وغَطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكُم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم، لا تقدرون عَلَى أنْ تتحوّلوا منه إلى غيره، وإنّ قريشًا وغَطفان قد جاءوا لحرب محمدٍ وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدُهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإنْ كان غير ذَلِكَ لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، فلا طاقة لكم به إنْ خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رَهنًا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم عَلَى أن يقاتلوا معكم محمدًا حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشًا فقال لأبي سُفيان ومَن معه: قد عرفتم وُدّي لكم وفراقي محمدًا، وإنّه قد بلغني أمرٌ قد رأيت عليّ حقًا أن أُبلِّغكموه نصحًا لكم فاكتموه عليّ. قالوا: نفعل. قَالَ: تعلَّموا [1] أنّ معشر يهود قد ندموا عَلَى ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد: وأرسلوا إليه أنّا قد ندِمنا عَلَى ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم، فنعطيكهم فنضرب أعناقهم، ثُمَّ نكون معك عَلَى من بقي منهم حتى تستأصلهم. فأرسل إليهم: نعم. فإنْ بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنًا منكم من [51 أ] رجالكم فلا تفعلوا.
ثُمَّ خرج فأتى غَطفان فقال: يا معشر غَطفان أنتم أصلي وعشيرتي
__________
[1] في معالم التنزيل للبغوي 6/ 515 «تعلمون» والصحيح ما أثبتناه كما في السيرة لابن هشام 3/ 266.

(2/293)


وأحبّ النّاس إليّ، ولا أراكم تتّهموني. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمُتَّهم قَالَ: فاكتموا عنّي. قالوا: نفعل. ثُمَّ قَالَ لهم مثل ما قَالَ لقريش، وحذّرهم ما حذّرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوّال، وكان من صُنعِ الله لرسوله أنّه أرسل أبو سُفيان ورءوس غَطفان، إلى بني قُريظة، عِكْرِمَة بنَ أبي جهل في نفرٍ من قريش وغَطفان، فقالوا: إنّا لسنا بدار مقام، قد هلك الخُفّ والحافر، فاغْدُوا للقتال حتى نناجز محمدًا. فأرسلوا إليهم أنّ اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئًا، وقد كان بعضُنا أحدث فيه حَدَثًا فأصابه ما لم يخفَ عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدًا حتى تعطونا رُهُنًا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نُناجز محمدًا، فإنّا نخشى إنْ ضرَّستكم الحربُ أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك.
فلما رجعت إليهم الرُسلُ بما قَالَتْ بنو قُرَيْظة قَالَتْ قريش وغَطفان:
والله لقد حدّثكم نعيم بن مسعود بحقّ. فأرسلوا إلى بني قُريظة: إنّا والله ما ندفع إليكم رجلا من رجالنا، فإنْ كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قُرَيظة حين انتهت إليهم الرُّسلُ بهذا: إنّ الذي ذكر لكم نُعَيْم لَحَقّ، ما يريد القوم إلّا أن يقاتلوا، فإنْ رأوا فرصة انتهزوها. وإنْ كان غير ذَلِكَ انشَمَرْوا إلى بلادهم. فأرسلوا إلى قريش وغَطفان: إنّا والله لا نقاتل معكم حتى تعطُونا رُهُنًا. فأَبَوا عليهم. وخذل الله بينهم.
فلما أنهى ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دعا حُذَيْفة بنَ اليَمان فبعثه ليلًا لينظر ما فعل القوم [1] .
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 265، 262، تاريخ الطبري 2/ 578، 579.

(2/294)


قَالَ: فحدّثني يزيد بن أبي زياد، عَنْ محمد بن كعب القُرَظي: قَالَ رجل من [أهل] [1] الكوفة لحُذَيْفَة: يا أبا عبد الله، رأيتم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحِبْتُموه؟ قَالَ: نعم يا ابن أخي قَالَ: فكيف كنتم تصنعون؟ قَالَ: والله لقد كنّا نجهد، فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي عَلَى الأرض ولَحَمَلناه عَلَى أعناقنا. فقال: يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخندق، وصلّى هَوِيًّا [2] من الليل، ثُمَّ التفت إلينا فقال: مَن رجلٌ يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثُمَّ يرجع- يشرُطُ لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجعة- أَسأَل الله أن يكون رفيقي في الجنّة. فما قام أحدٌ من شدّة الخوف وشدّة الجوع والبرد. فلما لم يقم أحدٌ دعاني فلم يكن لي من القيام بُدٌّ حين دعاني، فقال: يا حُذَيْفَة اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يفعلون ولا تحدّثني شيئًا حتى تأتينا.
فذهبتُ فدخلتُ في القوم، والرّيح وجنودُ الله تفعل بهم ما تفعل، لا يقرّ لهم قِدْرًا ولا نارًا [3] ولا بناء. فقام أبو سُفيان فقال: يا معشر قريش، [51 ب] إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكُراع والخُفّ، وأخلفتنا بنو قُريظة وَبَلَغَنَا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح ما ترون، ما تطمئنّ لنا قِدْر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناءٌ، فارتحلوا فإنّي مُرْتحل. ثُمَّ قام إلى جَمَله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فو الله ما أطلق عقاله إلّا وهو قائم. ولولا عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أنْ لا تُحدِث شيئًا حتى تأتيني، ثُمَّ شئتُ لقتلتُه بسهم» . قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو قائم يصلّي في مرط [4] لبعض
__________
[1] زيادة من ع والسيرة 3/ 266 والطبري 2/ 580.
[2] الهويّ من الليل: القطعة منه والهزيع.
[3] في طبعة القدسي 268 وفي طبعة شعيرة 259 «لا يقر لهم قرار ولا نار» وما أثبتناه عن السيرة 3/ 266 والطبري 2/ 580.
[4] المرط: كساء من صوف أو خز.

(2/295)


نسائه مراجل [1]- وهو ضربٌ «من وشي اليمن» فسّره ابن هشام [2]- فلما رآني أدخلني [إلى] [3] رِجليه وطرح عليّ طَرَفَ المِرْط، ثُمَّ ركع وسجد وإنّي لَفِيه فلما سلّم أخبرتُه الخبر.
وسمعتْ غَطفان بما فعلت قُريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم [4] .
قَالَ الله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً 33: 25 [5] .
وهذا كلُّه من رواية البكّائيّ عَنْ محمد بن إسحاق.
وقال يونس بن بُكَيْر، عَنْ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أنّ رجلًا قَالَ لحُذَيْفة: صَحِبْتُم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأدركتموه، فذكر الحديث نحو حديث محمد بن كعب، وفي آخره: فجعلت أُخُبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أبي سُفيان، فجعل يضحك حتى جعلتُ أنظر إلى أنيابه.
وقال موسى بن عُقْبة، عَنِ ابن شهاب، أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتل يوم بدر في رمضان سنة اثنتين. ثُمَّ قاتل يوم أُحُد في شوّال سنة ثلاث. ثُمَّ قاتل يوم الخندق، وهو يوم الأحزاب وبني قُرَيْظة، في شوّال سنة أربع، وكذا قَالَ عُرْوة في حديث ابن لَهِيعة عَنْ أبي الأسود عنه. كذا قالا: سنة أربع، وقالا في قصّة الخندق إنّها كانت بعد أُحُد بسنتين.
__________
[1] مراجل: كذا في الأصل وابن هشام. وفي اللسان والتاج: المرجّل كمعظّم المعلّم من البرود والثياب، وبرد مرجّل فيه صور كصور الرجال، والمرحّل (بالحاء) ضرب من برود اليمن سمّي مرحّلا لأنّ عليه تصاوير رحل، ومرط مرحل عليه تصاوير الرحال. وقد ورد كذلك في حديث عائشة. ويجمعان على مراجل ومراحل وراحولات.
[2] السيرة 3/ 266.
[3] سقطت من الأصل وأثبتناها من ع والسيرة، وفي تاريخ الطبري 2/ 581 «بين» .
[4] راجع الخبر في السيرة 3/ 265، 266، وتاريخ الطبري 2/ 578- 581.
[5] سورة الأحزاب: الآية 25.

(2/296)


وقال قَتَادة من رواية شَيْبان عنه: كان يومُ الأحزاب بعد أُحُد بسنتين، فهذا هو المقطوع به. وقول موسى وعُرْوة إنّها في سنة أربعٍ وَهَمٌ بين، ويُشْبُهُه قول عُبَيْد اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَر: «عرضني رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُد، وَأَنَا ابنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَلَمْ يُجِزْني. فلما كان يوم الخندق عُرِضتُ عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني» فيُحْمَل قولُه عَلَى أنّه كان قد شرع في أربع عشرة، وأنه يوم الخندق كان قد استكمل خمس عشرة سنة، وزاد عليها بعد تِلْكَ [1] الزيادة. والعرب تفعل هذا في مددها وتواريخها وأعمارها كثيرًا، فتارة يعتدّون بالكسر ويعدُّونه سنة، وتارة يُسقِطونه. وذهب بعض العلماء إلى ظاهر هذا الحديث وعضَّدوه بقول موسى بن عُقْبة: «وغزوة الأحزاب في شوّال سنة أربع» وذلك مخالفٌ لقول الجماعة، ولما اعترف به موسى وعُرْوة من أنّ بين أُحُد والخندق سنتين والله أعلم [2] .
[52 أ] وقال أبو إسحاق الفزاريّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ إِلَى الْخَنْدَقِ، وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ.
الْخَنْدَقَ بِأَيْدِيهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ،: فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ الْجُوعِ وَالنَّصَبِ قَالَ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ، ... فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ
__________
[1] في الأصل: بعد ذلك الزيادة. وما أثبتناه من ع والخبر في صحيح البخاري 5/ 45.
[2] قال ابن حجر في فتح الباري 7/ 393 «وقد بيّن البيهقي سبب هذا الاختلاف وهو أن جماعة من السلف كانوا يعدّون التاريخ من المحرّم الّذي وقع بعد الهجرة ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول. وعلى ذلك جرى يعقوب بن سفيان في تاريخه، فذكر أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى، وأن غزوة أحد كانت في الثانية، وأن الخندق كانت في الرابعة. وهذا عمل صحيح على ذلك البناء، لكنه بناء واه مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة، وعلى ذلك تكون بدر في الثانية، وأحد في الثالثة، والخندق في الخامسة، وهو المعتمد» .

(2/297)


فَقَالُوا: مُجِيبِينَ لَهُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [1] . وَلِمُسْلِمٍ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ [2] . وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ قَالَ: وَيُؤْتُونَ بِمِلْءِ حِفْنَتَيْنِ شَعِيرًا يُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ [3] وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ، فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَوْمِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [4] .
وَقَالَ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ: [أَبُو] إِسْحَاقَ، سَمِعَ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ [5] وَهُوَ يَقُولُ [6] :
الَّلهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أبينا [7]
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق 5/ 45.
[2] صحيح مسلم 1788: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب.
[3] الإهالة: الودك وما أذيب من الشحم وكلّ دهن اؤتدم به: والسّنخة: المتغيّر الريح. قال الفيروزآبادي في القاموس: السنخة والسناخة هي الريح المنتنة.
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق 5/ 45.
[5] في الأصل «إبطه» والتصويب عن صحيح البخاري 5/ 47، والطبقات الكبرى 2/ 71، والمغازي للواقدي 2/ 449.
[6] الأبيات لعبد الله بن رواحة (ديوانه: 106) وتنسب كذلك لعامر بن الأكوع.
[7] البيت في شرح المواهب للزرقاني 2/ 107
إن الألى قد رغبوا علينا ... وإذا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

(2/298)


رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [1] . وَعِنْدَهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَيَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ [2] .
وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: كُنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ الْخَنْدَقَ فَعَرَضَتْ فِيهِ كُدْيةٌ [3]- وَهِيَ الْجَبَلُ- فَقُلْنَا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ كُدْيَةً قَدْ عَرَضَتْ فَقَالَ: رُشُّوا عَلَيْهَا. ثُمَّ قَامَ فَأَتَاهَا وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ مِنَ الْجُوعِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ أَوِ الْمِسْحَاةَ فَسَمَّى ثَلاثًا ثُمَّ ضَرَبَ فَعَادَتْ كَثِيبًا أَهْيَلَ [4] فَقُلْتُ لَهُ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَفَعَلَ، فَقُلْتُ لِلْمَرْأَةِ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ وَذَكَرَ نَحْوَ مَا سُقْنَاهُ مِنْ مَغَازِي ابْنِ إِسْحَاقَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [5] . وَقَالَ هَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ: ثنا عَوْفٌ الأَعْرَابِيُّ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أُسَتَاذٍ الزَّهْرَانِيِّ [6] ، حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ حِينَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، عَرَضَ لَنَا فِي بَعْضِ الْخَنْدَقِ صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ شَدِيدَةٌ لا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهَا أَخَذَ الْمِعْوَلَ وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَهَا. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ [إِنِّي] [7] لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ وَقَطَعَ ثُلُثًا آخَرَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيَح فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الأَبْيَضَ. ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فقال: الله أكبر أعطيت
__________
[1] ، (2) صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق 5/ 47، 48.
[3] في الأصل: كدانة. ولعلّها مصحفة عن كداية وهي الكدية. وأثبتنا نصّ البخاري 5/ 45.
[4] عادت كثيبا أهيل: أي رملا سائلا، وفي البخاري: أهيل أو أهيم (5/ 46) .
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق 5/ 45، 46.
[6] الزّهراني: بفتح الزاي وسكون الهاء. نسبة إلى زهران بن كعب بن الحارث. بطن من الأزد.
(اللباب لابن الأثير 2/ 82) .
[7] سقطت من الأصل وأثبتناها من ع ومن السيرة الحلبية 1/ 100 طبعة الحلبي.

(2/299)


مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي السَّاعَةَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: ثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: مَنْ يأتينا بخبر القوم؟ فقال [52 ب] الزُّبَيْرِ: أَنَا.
فَقَالَ: مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا. فَقَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [1] . وَقالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، عن أبيه، عن ابن عبّاس:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها 33: 9 [2] قَالَ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ أَبِي سُفْيَانَ، يَوْمَ الأَحْزَابِ.
وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ 33: 13 [3] ، قَالَ هُمْ بَنُو حَارِثَةَ، قَالُوا: بُيُوتُنَا مَخْلِيَّةٌ نخشى عليها السّرق.
قوله: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ 33: 22 الآية [4] ، قَالَ: لأَنَّ اللَّهَ قَالَ لَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ الله 2: 214 [5] ، فَلَمَّا مَسَّهُمُ الْبَلاءُ حَيْثُ رَابَطُوا الأَحْزَابَ فِي الْخَنْدَقِ، تَأَوَّلَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَزِدْهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: أنا حَجَّاجٌ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق 5/ 49.
[2] سورة الأحزاب: الآية 9.
[3] سورة الأحزاب: الآية 13.
[4] سورة الأحزاب: الآية 22.
[5] سورة البقرة: الآية 214.

(2/300)


عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُتِلَ يَوْمَ الأَحْزَابِ، فَبَعَثَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ ابعث إِلَيْنَا بِجَسَدِهِ وَنُعطِيَهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَقَالَ: لا خَيْرَ فِي جَسَدِهِ وَلا فِي ثَمَنِهِ. وقال الأصمعيّ: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزّناد قَالَ: ضرب الزُّبَيْرُ بن العوّام يوم الخَنْدَق عثمانَ بنَ عبد الله بن المغيرة بالسيف عَلَى مِغْفَرِه فَقَدَّه إلى القُرْبُوس [1] ، فقالوا: مَا أجْوَدَ سيفك، فغضب، يريد إنّ العمل ليده لا لسيفه.
قَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ قَاعِدًا عَلَى فُرْضَةٍ مِنْ فُرَضِ الْخَنْدَقِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، أَوْ بُطُونَهُمْ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [2] . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ عُمَرَ [جَاءَ] [3] يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرُبَتِ الشَّمْسُ جَعَلَ يَسُبُّ كفَّارَ قُرَيْشٍ وَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ. فَنَزَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ أَحْسَبُهُ قَالَ إِلَى بُطْحَانَ [4] ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ وَتَوَضَّأْنَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرُبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صلّى المغرب. متّفق عليه [5] .
__________
[1] القربوس: (بفتح أوله وثانيه وضمّ الأول وتسكين الثاني لغة مشهورة) حنو السّرج، وهما قربوسان، وهما مقدّم السّرج ومؤخّره.
[2] صحيح مسلم (628) : كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. ومثله في صحيح البخاري 5/ 48 كتاب المغازي، باب غزوة الخندق.
[3] إضافة من صحيح البخاري.
[4] بطحان: واد بالمدينة، وهو أحد أوديتها الثلاثة: العقيق وبطحان وقناة. (معجم البلدان 1/ 446) .
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق 5/ 48، 49. وصحيح مسلم (629)

(2/301)


وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ. فَقَالَ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَاكَ، لَقَدْ رَأَيْتَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ رِيحٍ شَدِيدَةٍ وَقَرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ معي يوم القيامة؟ فلم يجبه منّا [53 أ] أَحَدٌ، ثُمَّ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ مِثْلَهُ. ثُمَّ قَالَ: يَا حُذَيْفَةُ قُمْ فَائْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ. فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ. فَقَالَ ائْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلَا تَذْعَرْهُمْ [1] عَلَيَّ. قَالَ:
فَمَضَيْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ [2] حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ يُصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ. فَوَضَعْتُ سَهْمِي فِي كَبِدِ قَوْسِي وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَذْعَرْهُمْ عَلِيَّ، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأصَبْتُهُ. قَالَ: فَرَجَعْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَصَابَنِي الْبَرْدُ حِينَ فَرَغْتُ وَقُرِرْتُ، وَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَلْبَسَنِي مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى الصُّبْحِ، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«قُمْ يَا نَوْمَانُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [3] . وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: ثنا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي الْمُخْتَارِ، عَنْ بِلالٍ الْعَبْسِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ النَّاسَ تَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الأَحْزَابِ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلا فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَاثٍ مِنَ الْبَرْدِ فَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى عَسْكَرِ الأَحْزَابِ. فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا قُمْتُ إليك من البرد إلّا حياء منكم. قال: فانطلق يا ابن الْيَمَانِ فَلا بَأْسَ عَلَيْكَ مِن حَرٍّ وَلا بَرْدٍ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيَّ. فَانْطَلَقْتُ إِلَى عَسْكَرِهِمْ،
__________
[ () ] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
[1] في طبعة شعيرة 264 «تدعوهم» وهو تصحيف.
[2] يعني أنه يجد البرد الّذي يجده الناس.
[3] صحيح مسلم (1788) كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب.

(2/302)


فَوَجَدْتُ أَبَا سُفْيَانَ يُوقِدُ النَّارَ فِي عُصْبَةٍ حَوْلَهُ، قَدْ تَفَرَّقَ الأَحْزَابُ عَنْهُ، حَتَّى إِذَا جَلَسْتُ فِيهِمْ، حَسَّ أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ دَخَلَ فِيهِمْ مَنْ غَيْرُهُمْ، فَقَالَ: يَأْخُذُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِيَدِ جَلِيسِهِ، قَالَ: فَضَرَبْتُ بِيَدِي عَلَى الَّذِي عَنْ يَمِينِي فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، ثُمَّ ضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى الَّذِي عَنْ يَسَارِي فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ. فَكُنْتُ فِيهِمْ هُنَيَّةً. ثُمَّ قُمْتُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قائم يُصَلِّي، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِيَدِهِ أَنْ: ادْنُ، فَدَنَوْتُ. ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَيَّ فَدَنَوْتُ. حَتَّى أَسْبَلَ عَلَيَّ مِنَ الثَّوْبِ الَّذِي عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي. فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: مَا الْخَبَرُ؟ قُلْتُ: تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلا فِي عُصْبَةٍ يُوقِدُ النَّارَ، قَدْ صَبَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَرْدِ مِثْلَ الَّذِي صَبَّ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْجُو مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُو. وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ أخَيِ حُذَيْفَةَ قَالَ: ذَكَرَ حُذَيْفَةُ مَشَاهِدَهُمْ، فَقَالَ جُلَسَاؤُهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا شَهِدْنَا ذَلِكَ لَفَعَلْنَا وَفَعَلْنَا. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لا تَمَنَّوْا ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ الأَحْزَابِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ مُطَوَّلا.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: ثَنَا ابْنُ أَبِي أَوْفَى قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَحْزَابِ فَقَالَ: اللَّهمّ مُنَزِّلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، اللَّهمّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [1] .
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أعزّ جنده [2] ، ونصر
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق 5/ 49 وصحيح مسلم (1742) كتاب الجهاد والسير، باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدوّ.
[2] من أول قوله: «ونصر عبده» سقط في نسخة الأصل مقداره نحو سبع عشرة ورقة من نسخة ع وقد نقلناه عنها. وينتهي هذا السقط عند أوائل الكلام عن مقتل ابن أبي الحقيق. وسنشير إلى مكانه.

(2/303)


عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [1] .
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حين أَجْلَى عَنْهُ الْأَحْزَابَ: الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا، نَسِيرُ إِلَيْهِمْ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [2] . وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابن عبّاس: عَسَى الله أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [3] 60: 7، قَالَ: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَصَارَتْ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَارَ مُعَاوِيَةُ خَالَ الْمُؤْمِنِينَ. كَذَا رَوَى الْكَلْبِيُّ [4] وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ فِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِهِنَّ وَلا يتعدّى التحريم إلى بناتهنّ ولا إخوانهنّ ولا أخواتهنّ [5] .
واستُشْهد يوم الأحزاب:
عبد الله بن سهل بن رافع الأشهلي، تفرّد ابن هشام [6] بأنّه شهد بدرا.
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق 5/ 49. وصحيح مسلم (2724) كتاب الذكر والدعاء، باب التعوّذ من شرّ ما عمل ومن شرّ ما لم يعمل.
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق (5/ 48) .
[3] سورة الممتحنة: من الآية 7.
[4] هو محمد بن السائب الكلبي. انظر عنه: التاريخ الصغير للبخاريّ 158، والضعفاء الصغير له 275، والضعفاء والمتروكين للنسائي 303 رقم 514، أحوال الرجال 54 رقم 37، والضعفاء والمتروكين للدار للدّارقطنيّ 151 رقم 468، الضعفاء الكبير للعقيليّ 4/ 76 رقم 1632، الكامل في الضعفاء لابن عديّ 6/ 2127، المغني في الضعفاء 2/ 584 رقم 5542، ميزان الاعتدال 3/ 556 رقم 7574.
[5] وردت هذه العبارة في ع محرفة هكذا «وذهب العلماء في أمّهات المؤمنين هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِهِنَّ وَلا يَتَعَدَّى التَّحْرِيمُ إلى بناتهنّ ولا إلى إخواتهنّ ولا أخواتهنّ» والتصحيح من ابن الملّا.
[6] سيرة ابن هشام 3/ 275.

(2/304)


وأَنَس بن أَوْس بن عتيك الأشهلي، والطُّفَيْل بن النُّعمان بن خنساء، وثعلبة بن غنمة [1] ، كلاهما من بني جَشَم بن الخزرج.
وكعب بن زيد أحد بني النَّجَّار، أصابه سهم غرِب، وقد شهد هَؤُلَاءِ الثلاثة بدرًا.
ذكر ابن إسحاق [2] أنّ هَؤُلَاءِ الخمسة قُتِلوا يوم الأحزاب.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ لِيُوَثِّبَهُ الْخَنْدَقَ فَوَقَعَ فِي الْخَنْدَقِ فَقَتَلَهُ اللَّهُ، وَكَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا نُعْطِيَكُمُ الدِّيَةَ عَلَى أَنْ تَدْفَعُوهُ إِلَيْنَا فَنَدْفِنَهُ. فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ خَبِيثُ الدِّيَةِ لَعَنَهُ اللَّهُ وَلَعَنَ دِيَتَهُ وَلا نَمْنَعُكُمْ أَنْ تدفنوه، ولا أرب لنا في ديته.
__________
[1] في ع: عتمة: والتصحيح من ابن هشام وأنساب الأشراف (1/ 248) .
[2] سيرة ابن هشام 3/ 275.

(2/305)


غزوة بني قريظة [1]
وكانوا قد ظاهروا قريشا وأعانوهم عَلَى حرب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفيهم نزلت وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ من أَهْلِ الْكِتابِ من صَياصِيهِمْ 33: 26 [2] الآيتين.
قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَقَالَ: وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ وَاللَّهِ مَا وَضَعْنَاهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ. قَالَ: فأين [3] ؟ قال: هاهنا.
وَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [4] . وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ هِلالٍ، عَنْ أَنَسٍ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْغُبَارِ سَاطِعًا مِنْ سِكَّةِ بَنِي غَنْمٍ، مَوْكِبَ جبريل حين سار إلى بني قريظة. [5] .
__________
[1] بنو قريظة: فخذ من جذام إخوة النضير، ويقال أنّ تهوّدهم كان في أيام عاديا أي السموأل، ثم نزلوا بجبل يقال له قريظة فنسبوا إليه. (تاريخ اليعقوبي 2/ 52) .
[2] سورة الأحزاب: الآية 26.
[3] عند البخاري «فإلى أين» .
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب مَرجعَ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأحزاب. إلخ. 5/ 49، 50.
وصحيح مسلم (1769) كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد إلخ.
[5] صحيح البخاري 5/ 50.

(2/307)


وَقَالَ جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَادَى فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ انْصَرَفَ مِنَ الأَحْزَابِ أَنْ لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلُّوا دُونَ قُرَيْظَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لا نُصَلِّي إِلا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ. فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [1] .
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: الظُّهْرَ بَدَلَ الْعَصْرِ. وَكَأَنَّهُ وَهِمَ.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَمَّهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ [2] أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ طَلَبِ الأحزاب وضع عنه اللأمة [3] واغتسل واستجمر، فتبدّى لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: عَذِيرَكَ مِنْ مُحَارِبٍ، أَلا أَرَاكَ [4] قَدْ وَضَعْتَ اللأْمَةَ وَمَا وَضَعْنَاهَا بَعْدُ. فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِعًا فَعَزَمَ عَلَى النَّاسِ أَنْ لا يُصَلُّوا الْعَصْرَ حَتَّى يَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَةَ. فَلَبِسُوا السِّلاحَ، فَلَمْ يَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ: فَاخْتَصَمَ النَّاسُ عِنْدَ غُرُوبِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَمَ عَلَيْنَا أَنْ لا نُصَلِّيَ حَتَّى نَأْتِيَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإِنَّمَا نَحْنُ فِي عَزِيمَةِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فليس علينا إثم. وصلّى طائفة من النّاس احتسابا.
وتركت طائفة حتى غربت الشمس فصلّوا حين جاءوا بني قريظة. فلم يعنّف رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ [5] . وَقَالَ نَحْوَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَفِيهِ أَنَّ رَجُلا سَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ فِي الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب مرجع صلّى الله عليه وسلّم من الأحزاب. (5/ 50) .
[2] في طبعة القدسي 280 «عبيد الله بن بني كعب» وهو خطأ. انظر: تهذيب التهذيب 7/ 44.
[3] في ع: السلامة، تصحيف.
[4] في ع: الأراك. والتصحيح من مغازي الواقدي (2/ 497) .
[5] سيرة ابن هشام 3/ 267، والبداية والنهاية 4/ 117.

(2/308)


فَزِعًا، فَقُمْتُ فِي إِثْرِهِ، فَإِذَا بِدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا جِبْرِيلُ يَأْمُرُنِي أَنْ أَذْهَبَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ: وَضَعْتُمُ السِّلاحَ، لَكِنَّا لَمْ نَضَعِ السِّلاحَ، طَلَبْنَا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى بَلَغْنَا حَمْرَاءَ الأسَدِ. وَفِيهِ: فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَجَالِسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَالَ: هَلْ مَرَّ بِكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟
قَالُوا [1] : مَرَّ عَلَيْنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ تَحْتَهُ قَطِيفَةُ دِيبَاجٍ. قَالَ:
لَيْسَ ذَاكَ بِدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَلَكِنَّهُ جِبْرِيلُ أُرْسِلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لِيُزَلْزِلَهُمْ وَيَقْذِفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. فَحَاصَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَسْتُرَهُ بِالْجُحَفِ حَتَّى يُسْمِعَهُمْ كَلامَهُ. فَنَادَاهُمْ: يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ. فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ لَمْ تَكُ فَحَّاشًا. فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانُوا حُلَفَاءَهُ، [2] فَحَكَمَ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ [3] . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: [فَجَاءَهُ] [4] جِبْرِيلُ وَعَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ فَقَالَ: أَوَضَعْتَ السِّلاحَ؟ وَاللَّهِ مَا وَضَعَتِ الْمَلائِكَةُ، اخْرُجْ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَلَبِسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وَأَذِنَ بِالرَّحِيلِ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى بَنِي غَنْمٍ [5] فَقَالَ: مَنْ مَرَّ بِكُمْ؟ قَالُوا: دِحْيَةُ. وَكَانَ دِحْيَةُ تُشْبِهُ لِحْيَتُهُ وَوَجْهُهُ جِبْرِيلَ. فَأَتَاهُمْ فَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ [6] .
__________
[1] في ع: قال. وفي البداية والنهاية 4/ 118 «فقالوا» .
[2] في طبعة القدسي 281 «حلفاء» والتصحيح عن البداية والنهاية.
[3] قال ابن كثير: ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها. البداية والنهاية 4/ 118.
[4] سقطت من ع وزدناها من مسند أحمد.
[5] في ع: بني عمرو. والتصحيح من مسند أحمد 6/ 142 وفيه أنّ بني غنم هم جيران المسجد حوله.
[6] مسند أحمد: مسند أحاديث عائشة (6/ 141- 142) ط الميمنية 1313 هـ-. وانظر سيرة ابن هشام 3/ 267.

(2/309)


وقال يونس، عَنِ ابن إسحاق، قدِم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا معه رايته [1] وابتَدَرَ النّاس.
وقال موسى بن عقبة [2] . وخرج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أثر جبريل، فمرّ عَلَى مجلس بني غنم وهم ينتظرون رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألهم: مَرَّ عليكم فارس آنفًا؟ فقالوا: مرّ علينا دحية عَلَى فرسٍ أبيض تحته نمطٌ أو قطيفة من ديباج عليه اللأّمة. قَالَ: ذاك جبريل. وكأن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشبّه دِحيةَ بجبريل [3] . قَالَ: ولما رأى عليّ بن أبي طالب [رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] [4] مُقْبِلا تلقّاه. وقال: ارجع يَا رَسُولَ اللَّهِ، فإنّ الله كافيك اليهود. وكان عليّ سَمِعَ منهم قولًا سبيبيّ [5] لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأزواجه. فكره عليّ أن يسمع ذَلِكَ، فقال: لِمَ تأمرني بالرجوع؟ فكتمه ما سَمِعَ منهم. فقال: أظنّك سَمِعْتُ لي [6] منهم أذى؟ فامضِ فإنّ أعداء الله لو قد رأوني لم يقولوا شيئًا ممّا سَمِعْتُ.
فلما نَزَلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحصنهم، وكانوا في أعلاه، نادى بأعلى صوته نفرًا من أشرافها حتى أسمعهم فقال: أجيبونا يا معشر يهود يا أخوة القِرَدَة، لقد نزل بكم خِزْي الله. فحاصرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة، وردّ الله حُيَيّ بنَ أخطب حتى دخل حصنَهُم، وقذف الله في قلوبهم الرُّعب، واشتدّ عليهم الحصار، فصرخوا بأبي لُبابة بن عبد المنذر وكانوا حلفاء الأنصار. فقال: لا آتيهم حتى يأذن لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ:
__________
[1] العبارة عند ابن كثير «وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بن أبي طالب ومعه رايته وابتدارها الناس» .
[2] المغازي لعروة 186- 187.
[3] البداية والنهاية 4/ 119.
[4] إضافة من المغازي لعروة 186 والبداية والنهاية.
[5] سبيبي: (وزن خليفي) السبّ أو أكثر منه. وفي البداية والنهاية «سيئا» وكذلك في المغازي لعروة.
[6] في البداية والنهاية «في» .

(2/310)


قد أذِنْتُ لك. فأتاهم، فبكوا وقالوا: يا أبا لُبابة، ماذا ترى، فأشار بيده إلى حلْقه، يريهم إنّما يراد بكم القتل. فلما انصرف سُقِط في يده [1] ورأى أنّه قد أصابته فتنةٌ عظيمة فقال: والله لا أنظر في وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أحدِث للَّه توبةً نَصُوحًا يعلمها الله من نفسي. فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذعٍ من جذوع المسجد. فزعموا أنّه ارتبط قريبًا من عشرين لَيْلَةٍ [2] .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما ذُكر، حين راث عليه [3] أبو لُبابة: أما فرغ أبو لُبابة من حلفائه قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قد والله انصرف من عند الحصن، وما ندري أين سلك. فقال: قد حدث له أمر. فأقبل رجل فقال: يَا رسول الله، رأيت أبا لبابة ارتبط بحبل إلى جِذْعٍ من جذوع المسجد. فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد أصابته بعدي فتنة، ولو جاءني لاستغفرت لَهُ. فإذا فعل هذا فلن أحرّكه من مكانه حتى يقضي الله فيه ما شاء [4] . قَالَ ابْنُ لَهِيعة، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَة، فذكر نحو ما قصّ موسى ابن عقبة. وعنده: فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمَتَه وأذَّن بالخروج، وأمرهم أن يأخذوا السّلاح. ففرغ النّاس للحرب. وبعث عليًّا عَلَى المقدّمة ودفع إليه اللواء. ثُمَّ خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى آثارهم. ولم يقل بضع عشرة ليلة.
وقال يونس بن بُكَيْرَ، والبكائي- واللَّفظ له- عَنِ ابن إسحاق [5] قَالَ:
حاصرهم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسًا وعشرين ليلةً، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرُّعب. وكان حُيَيّ بنُ أخطب دخل مع بني قُرَيْظة في حصنهم حين رجعت عنهم قُريش وغَطفان، وفاءً لكعب بن أسد بما كان
__________
[1] سقط في يده، وأسقط في يده (مضمومتين) زلّ وأخطأ وندم.
[2] جاء في جوامع السيرة لابن حزم 193 أنه أقام مرتبطا بالجذع ست ليال لا يحل إلّا للصلاة.
[3] راث عليه: أبطأ، وفي المغازي لعروة 717 «حين غاب عليه»
[4] البداية والنهاية 4/ 119 وسيرة ابن هشام 3/ 268 والمغازي لعروة 187.
[5] سيرة ابن هشام 3/ 268.

(2/311)


عاهده عليه، فلما أيقنوا بأنّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير منصرف عنهم حتى يناجيزهم، قَالَ كعب بن أسد: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنّي عارضٌ عليكم خِلالًا ثلاثًا، فخُذُوا أيّها شئتم. قالوا: وما هي؟ قَالَ: نبايع هذا الرجل ونصدقه، فو الله لقد تعيّن لكم أنّه لَنَبِيّ مُرْسَل، وأنّه للَّذي تجدونه في كتابكم. فتأْمَنون عَلَى دمائكم وأموالكم. قالوا: لا نفارق حُكم التَّوراة أبدًا ولا نستبدل به غيرَه. قَالَ: فإذا أبيتم عَلَى هذه.
فهلُمَّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثُمَّ نخرج إلى محمد وأصحابه مُصْلِتين السُّيوف لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك ولم نترك وراءنا نَسْلًا نخشى عليه، وإنْ نظهر فَلَعَمْري لَنَتّخِذَنَّ النّساء والأبناء. قالوا:
نقتل هَؤُلاءِ المساكين، فما خير العيش بعدهم؟ قَالَ فإنْ أبيتم هذه فإنّ الليلة ليلة السبت وإنّه عسى أنْ يكون محمدٌ وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلَّنا نُصيب من محمد وأصحابه غِرَّة. قالوا: نُفسد سبْتَنَا وتحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا، إلّا مَن قد علِمْتَ فأصابه ما لم يخْفَ عليك من المَسْخ؟
قَالَ: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمُّهُ ليلةً واحدة من الدَّهر حازما.
رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ. لكنّه قال عن أبيه، عن معبد ابن كعب بن مالك، فذكره وزاد فيه: ثُمَّ بعثوا يطلبون أبا لُبابة، وذكر ربْطَه نفسه.
وقال سعيد بن المسيّب: إنَّ ارتباطه بسارية التَّوبة كان بعد تخلُّفه عَنْ غزوة تبوك حين أعرض عنه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عليمٌ، بما فعل يوم قُرَيْظة، ثُمَّ تخلّف عَنْ غزوة تَبُوك فيمن تخلّف. والله أعلم.
[وذكر] [1] عليّ بن أبي طلحة، وعطّية العَوْفي، عَنِ ابن عبّاس في ارتباطه حين تخلّف عَنْ تبوك ما يؤكد قولَ ابن المسيّب، قَالَ: نزلت هذه
__________
[1] كتبت في أصل المخطوطة بالحمرة ولم تظهر في التصوير، ولعلها ما أثبتناه أو ما في معناه.

(2/312)


الآية في أبي لبابة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا الله وَالرَّسُولَ 8: 27 [1] .
وقال البكّائيّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، أَنَّ تَوْبَةَ أَبِي لُبَابَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ [فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ] [2] ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّحَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ، [قَالَتْ] [3] فَقُلْتُ: مِمَّ [4] تَضْحَكُ؟ قَالَ: تِيبَ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ. [قَالَتْ] [5] قُلْتُ: أَفَلا أُبَشِّرُهُ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتِ. قَالَ: فَقَامَتْ عَلَى بَابِ حُجْرَتِهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَبْشِرْ فَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ.
قَالَتْ: فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ لِيُطْلِقُوهُ. قَالَ: لا وَاللَّهِ حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنِي بِيَدِهِ. فَلَمَّا مَرَّ عَلَيْهِ خَارِجًا إِلَى صَلاةِ الصُّبْحِ أَطْلَقَهُ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ [6] : أَقَامَ أَبُو لُبَابَةَ مُرْتَبِطًا بِالْجِذْعِ سِتَّ لَيَالٍ:
تَأْتِيهِ امْرَأَتُهُ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلاةٍ تُحِلُّهُ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ يعود فيرتبط بالجذع، وفيما حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَالآيَةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِي تَوْبَتِهِ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً 9: 102 [7] الآية.
قَالَ ابن إسحاق: ثُمَّ إنّ ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد [8] ابن عُبَيْد، وهم نفر من [بني] [9] هدل، أسلموا تِلْكَ الليلة التي نزل فيها بنو
__________
[1] سورة الأنفال: من الآية 27. وانظر سيرة ابن هشام 3/ 268 برواية سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْد الله بن أبي قتادة.
[2] إضافة من سيرة ابن هشام 3/ 268.
[3] إضافة من السيرة.
[4] في ع: بم يضحك. والتصحيح من سيرة ابن هشام 3/ 268.
[5] عن السيرة.
[6] السيرة 3/ 268.
[7] سورة التوبة: من الآية 102.
[8] في ع: أسيد. والتصحيح من ترجمته في أسد الغابة (1/ 85) والإصابة (1/ 33) .
[9] إضافة من السيرة 3/ 269.

(2/313)


قُرَيْظة عَلَى حُكْم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ شُعْبَةُ: أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعْدٍ قَالَ: نَزَلَ أَهْلُ قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُ عَلَى حِمَارٍ. فَلَمَّا دَنَا قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ، أَوْ إِلَى خَيْرِكُمْ فَقَالَ [1] : إِنَّ هَؤُلاءِ قَدْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ، فَقَالَ: نَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ وَنُسْبِي ذَرَارِيَّهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لقد حكم عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ. وَرُبَّمَا قَالَ: بِحُكْمِ الْمَلِكِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [2] .
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْر، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [3] قال: فأومئوا إليه فقالوا: يا أبا عَمْرو، قد ولّاك رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مواليكم لتحكم فيهم. فقال سعد:
عليكم بذلك عهدُ الله وميثاقه؟ قالوا: نعم. قَالَ: وعلى مَنْ هاهنا من النّاحية التي فيها النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَن معه، وهو مُعرضٌ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجلالًا له، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ. فقال سعد: أحكم بأنْ تقتل الرجال وتقسّم الأموال وتسبي الذّراري [4] . وقال شُعْبة وغيره، عَنْ عبد الملك بن عُمَيْر، عَنْ عطّية القرظِيّ قَالَ:
كنت في سبْي قُرَيْظة، فأمر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن أنبت [5] أن يُقْتَلَ، فكنت فيمن لم ينبت [6] .
__________
[1] في طبعة القدسي 286 «فقالت» والتصويب عن البخاري ومسلم.
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب مَرجعَ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأحزاب (5/ 50) وصحيح مسلم (1768) كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد، وجواز إنزال أهل الحصن عن حكم حاكم عدل أهل للحكم.
[3] سيرة ابن هشام 3/ 269.
[4] في السيرة أيضا «والنساء» .
[5] أنبت: بلغ الحلم.
[6] انظر البداية والنهاية 4/ 125 وقد قال ابن كثير: رواه أهل السنن الأربعة من حديث عبد الملك ابن عمير بن عطية القرظي.

(2/314)


قَالَ موسى بن عُقْبة: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سألوه أن يحكِّم فيهم رجلًا: اختاروا من شئتم من أصحابي؟ فاختاروا سعد بن مُعاذ، فرضي بذلك رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزلوا عَلَى حُكْمه. فأمر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسلاحهم فجُعِل في قُبَّته، وأمر بهم فكُتِّفوا [1] وأوثقوا وجعلوا في دار أُسامة، وبعث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سعد، فأقبل عَلَى حمار أعرابيّ يزعمون أنّ وِطاء بَرْذَعَته من ليف، واتبعه رجلٌ من بني عبد الأشهل، فجعل يمشي معه ويعظّم حقَّ بني قُرَيْظة ويذكر حِلْفَهم [2] والذي أَبْلوه يوم بعاث، ويقول: اختاروك عَلَى من سواك رجاءَ رحمتِك وتحنُّنك عليهم، فاسْتَبْقِهِم فإِنَّهم لك جمال وعُدَد. فأكثر ذَلِكَ الرجل، وسعد لا يرجع إليه شيئًا، حتى دَنَوْا، فقال الرجل: ألا ترجع إليّ فيما أكلّمك فيه؟ فقال سعد: قد آن لي أن لا تأخذني في الله لَوْمَةُ لائم. ففارقه الرجل، فأتاني قومه فقالوا: ما وراءك؟ فأخبرهم أنّه غير مُسْتَقِيم، وَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل مُقاتلتهُم، وكانوا فيما زعموا ستمائة مُقاتل قُتِلوا عند دار أبي جهم بالبلاط، فزعموا أنّ دماءهم بلغتْ أحجار الزَّيت التي كانت بالسّوق، وسبى نساءهم وذراريهم، وقسّم أموالهم بين مَن حضر من المسلمين. وكانت خيل المسلمين ستًّا وثلاثين فرسًا. وأخرج حُيَيّ بنَ أخطب فقال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل أخزاك الله؟ قَالَ له: ظهرتَ عليَّ وما ألوم إلّا نفسي في جهادك والشدة عليك. فأمر به فضُرِبَتْ عُنُقُه. كلّ ذَلِكَ بعين سعد [3] .
وكان عَمْرو بن سعد اليهودي في الأسرى، فلما قدَّموه ليقتلوه ففقدوه فقيل: أين عَمْرو؟ قالوا: والله ما نراه، وإنّ هذه لرمّته [4] التي كان فيها،
__________
[1] في ع: فتكفوا.
[2] في المغازي لعروة 188 «خلقهم» .
[3] المغازي لعروة 188 ومجمع الزوائد للهيثمي 6/ 138، 139 نقلا عن المعجم الكبير للطبراني.
[4] الرمّة: قطعة من حبل.

(2/315)


فما ندري كيف انفلت؟ فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أفلت بما علم الله في نفسه. وأقبل ثابت بن قيس بن شماس إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هب لي الزُّبَير، يعني ابن باطا وامرأته. فوهبهما له، فرجع ثابت إلى الزُّبَير. فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني- وكان الزبير يومئذٍ كبيرًا أعمى- قَالَ: هل ينكر الرجل أخاه؟ قَالَ ثابت: أردت أن أجزيك اليوم بيدك. قَالَ: أفعل، فإنّ الكريم يجزي الكريم، فأطلقه. فقال: لَيْسَ لي قائد، وقد أخذتم امرأتي وبَنيّ. فرجع ثابت إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله ذرّيَة الزُّبَير وامرأته، فوهبهم له، فرجع إليه فقال: قد ردّ إليك رَسُول الله صلّى الله عليه وسلّم امرأتك وبينك. قَالَ الزُّبير:
فحائط لي فيه أعذق لَيْسَ لي ولأهلي عيش إلّا به. فوهب لَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ له ثابت: أسلم قال: ما فعل المجلسان؟ فذكر رجالا من قومه بأسمائهم. فقالت ثابت: قد قُتِلوا وفُرِغ منهم، ولعلّ الله أنْ يهديك. فقال الزُّبَير: أسألك باللَّه وبيدي عندك إلّا ما ألحقتني بهم، فما في العيش خير بعدهم. فذكر ذَلِكَ ثابت لرَسُول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمر بالزُّبَير فقتل.
قَالَ الله تعالى في بني قُرَيْظة في سياق أمر الأحزاب: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ 33: 26 يعني الذين ظاهروا قُريشًا: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً 33: 26 [1] .
وقال عروة في قوله: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها 33: 27 [2] . هي خَيْبَر.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لِسَعْدٍ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فوق سبعة أرقعة [3] .
__________
[1] سورة الأحزاب: الآية 26.
[2] سورة الأحزاب: من الآية 27.
[3] الأرقعة: جمع رقيع وهي السماء. والخبر في السيرة ابن هشام 3/ 269.

(2/316)


وقال البكّائي، عَنِ ابن إسحاق [1] : فحبسهم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دار بنت الحارث النَّجَّارية، وخرج إلى سوق المدينة، فخندق بِهَا خنادق، ثُمَّ بعث إليهم فضرب أعناقهم في تِلْكَ الخنادق. وفيهم حُيَيّ بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة. وقد قالوا لكعب وهو يذهب بهم إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسالًا [2] : يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قَالَ: أفي كلّ وطن لا تعقلون. أما ترون الدّاعي لا ينزع، وأنّه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتْل. وأتى حُيَيّ بن أخطب وعليه حلة فقاحية [3] قد شقّها من كل ناحية قدر أنمُلَة لئلّا يسلبها، مجموعة يداه إلى عُنُقه بحبل، فلما نظر إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
أَمَا والله ما لمست نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يُخذل. ثُمَّ أقبل عَلَى النّاس فقال: أيّها النّاس إنّه لا بأس بأمر الله. كتاب وقدر وملحمة كُتبت عَلَى بني إسرائيل. ثُمَّ جلس فضُربت عُنُقُه.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [4] ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمِّهِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَائِهِمْ إِلا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، قَالَتْ: إِنَّهَا وَاللَّهِ لَعِنْدِي تُحَدِّثُ مَعِي وَتَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَرَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يَقْتُلُ رِجَالَهُمْ بِالسُّيُوفِ، إِذْ هَتَفَ هَاتِفٌ: يَا بِنْتَ فُلانَةٍ. قَالَتْ: أَنَا وَاللَّهِ. قُلْتُ: وَيْلَكِ، مالك؟ قَالَتْ: أُقْتَلُ. قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: حَدَثٌ أَحْدَثْتُهُ. فَانْطَلَقَ بِهَا فَضُرِبَتْ عُنُقُهَا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: صياصيهم: حصونهم.
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 270.
[2] أرسالا: طائفة بعد أخرى.
[3] حلة فقاحية: أي على لون الورد حين همّ أن يتفتح. قال ابن هشام: ضرب من الوشي..
[4] سيرة ابن هشام 3/ 270.

(2/317)


وقال يونس، عَنِ ابن إسحاق [1] : ثُمَّ بعث النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سعدَ بن زيد، أخا بني عبد الأشهل بسبايا بني قُرَيْظة إلى نجد. فابتاع له بهم خيلًا وسلاحًا. وكان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد اصطفى لنفسه رَيْحانة بنت عَمْرو بن خنافة، وكانت عنده حتى تُوُفّي وهي في مِلْكه، وعرض عليها أن يتزوَّجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ بل تتركني في مالك فهو أخفّ عليك وعليّ فتركها.
وقد كانت أوّلًا توقّفت عَنِ الإِسلام ثُمَّ أسلمت، فَسَرَّ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ.
وفي ذي الحجة من هذه السنة:
وفاة سعد بن مُعَاذ
قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ، رَمَاهُ فِي الأَكْحَلِ [2] . فَضَرَبَ [3] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ [4] . فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْخَنْدَقِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إِنَّ كَلْمَهُ تَحَجَّرَ لِلْبُرْءِ [5] فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَ فِيكَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ وَأَخْرَجُوهُ، اللَّهمّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ [شَيْءٌ] [6] فَأَبْقِنِي لَهُمْ حَتَّى أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ. وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وبينهم فافجرها واجعل
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 271، 272.
[2] الأكحل: هو عرق في وسط الذراع، فقال النووي: وهو عرق الحياة في كل عضو منه شعبة لها اسم.
[3] في ع: فضرب على رسول الله. وأثبتنا نص البخاري 5/ 50.
[4] الطبقات الكبرى 3/ 425.
[5] في ع: لكبر. والتصحيح من صحيح مسلم 3/ 1390 رقم 67.
[6] سقطت من ع، وزدناها من صحيحي البخاري ومسلم.

(2/318)


مَوْتِي فِيهَا. قَالَ فَانْفَجَرَتْ لَبَّتُهُ [1] ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ- وَمَعَهُمْ أَهْلُ خَيْمَةٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ- إِلا وَالدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ، مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟ فَإِذَا سَعْدٌ جُرْحُهُ يَغِذُّ دَمًا [2] فَمَاتَ مِنْهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [3] .
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رُمِيَ سَعْدٌ يَوْمَ الأَحْزَابِ فَقَطَعُوا أَكْحَلَهُ، فَحَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّارِ، فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ، فَتَرَكَهُ، فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَحَسَمَهُ أُخْرَى. فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ:
اللَّهمّ لا تُخْرِجْ نَفْسِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَاسْتَمْسَكَ عِرْقَهُ فَمَا قَطَرَتْ مِنْهُ قَطْرَةٌ. حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَكَمَ أَنْ يُقْتَلَ رِجَالُهُمْ وَيُسْتَبِيَ نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ. قَالَ: وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَتْلِهِمْ، انْفَتَقَ عِرْقُهُ فَمَاتَ [4] . حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ رَاهُوَيْهِ: ثنا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ- يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ- وَشَيَّعَ جِنَازَتَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلِكٍ، لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ [5] . وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ: اهْتَزَّ عَرْشُ الرحمن فرحا بروحه [6] .
__________
[1] لبّته: نحره.
[2] في ع: يغدوا. والتصحيح من صحيح مسلم، وعبارة البخاري: فإذا سعد يغذو جرحه دما.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب مَرجعَ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة 5/ 50، 51.
وصحيح مسلم (1769) : كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد. إلخ.
[4] الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 424.
[5] انظر الطبقات لابن سعد 3/ 329.
[6] الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 434.

(2/319)


وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النَّجَّارِ، عَنْ مُعَاذٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي مَاتَ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتَحَرَّكَ الْعَرْشُ؟ قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرِهِ وَهُوَ يُدْفَنُ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ قَالَ:
سُبْحَانَ اللَّهِ- مَرَّتَيْنِ- فَسَبَّحَ الْقَوْمُ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَكَبَّر الْقَوْمُ.
فَقَالَ: عَجِبْتُ لِهَذَا الْعَبْدِ الصَّالِحِ شُدِّدَ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ حَتَّى كَانَ هَذَا حِينَ فُرِّجَ لَهُ [1] .
[ذَكَرَ] [2] بَعْضَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ، أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، عَنْ جَابِرٍ [3] . وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيُّ قَالَ:
أَخْبَرَنِي مَنْ شِئْتُ [4] مِنْ رِجَالِ قَوْمِي أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم في جوف اللّيل معتجرا بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ هَذَا الْمَيِّتُ الَّذِي فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ؟ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُبَادِرًا إِلَى سعد ابن مُعَاذٍ فَوَجَدَهُ قَدْ قُبِضَ. وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم، عن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: كَانَ سَعْدٌ رَجُلا بَادِنًا، فَلَمَّا حَمَلَهُ النَّاسُ وَجَدُوا لَهُ خِفَّةً. فَقَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَبَادِنًا وَمَا حَمَلْنَا مِنْ جِنَازَةٍ أَخَفَّ مِنْهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ لَهُ حَمَلَةً غَيْرَكُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بيده لقد استبشرت
__________
[1] انظر مثله في طبقات ابن سعد 3/ 432 وقد أخرجه أحمد في مسندة 3/ 327 و 360 و 377.
[2] كتبت في الأصل بالحمرة ولم تظهر في التصوير، وأثبتناها ترجيحا.
[3] سيرة ابن هشام 3/ 275.
[4] أثبتها القدسي في طبعته 292 «نسيت» معتمدا على الطبعة الأولى من سير أعلام النبلاء 1/ 213، (انظر الطبعة الجديدة منه 1/ 294 «شئت» ) .

(2/320)


الْمَلائِكَةُ بِرُوحِ سَعْدٍ وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ [1] . وَقَالَ يونس، عن ابن إسحاق: حدثني أمية بن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَأَلَ بَعْضَ أَهْلِ سَعْدٍ: مَا بَلَغَكُمْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا؟ فَقَالُوا: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ يُقَصِّرُ فِي بَعْضِ الطُّهُوِر مِنَ الْبَوْلِ [2] . وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْتُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَقْفُو آثَارَ النَّاسِ، فَسَمِعْتُ وَئِيدَ [3] الأَرْضِ: تَعْنِي حِسَّ الأَرْضِ وَرَائِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ [4] يَحْمِلُ مِجَنَّهُ. فَجَلَسْتُ، فَمَّر سَعْدٌ وَهُوَ يَقُولُ:
لبِّثْ قليلًا يُدْرِكِ الهَيْجا حَمَلْ ... مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إِذَا حَانَ الأَجَلْ
قَالَتْ: وَعَلَيْهِ دِرْعٌ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا أَطْرَافُهُ، فَتَخَوَّفْتُ عَلَى أَطْرَافِهِ، وَكَانَ مِنْ أطول النَّاسِ وَأَعْظَمِهِمْ. قَالَتْ: فَاقْتَحَمْتُ حَدِيقَةً [5] ، فَإِذَا فِيهَا نَفَرٌ فِيهِمْ عُمَرُ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ مِغْفَرٌ. فَقَالَ لِي عُمَرُ: مَا جَاءَ بِكَ؟ وَاللَّهِ إِنَّكِ لَجَرِيئَةٌ، وَمَا يُؤْمِنُكِ أَنْ يُصِيبُوا تَحُوُّزًا [6] وَبَلاءً. فَمَا زَالَ يَلُومُنِي حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنَّ الأَرْضَ انْشَقَّتْ سَاعَتِي ذِي [7] فَدَخَلْتُ فِيهَا. فَرَفَعَ الرجل المغفر عن
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 274، 275.
[2] انظر الطبقات الكبرى 3/ 430.
[3] في ع: وبيد. والوئيد الصوت.
[4] هكذا ذكر في الحديث. وقد ورد قبل، أنّ الحارث بن أوس ابن أخي سعد بن معاذ كان ممن استشهد يوم أحد. انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 437.
[5] في ع: حذيفة والتصحيح من الطبقات لابن سعد 3/ 421.
[6] أثبتها القدسي 293 «تحرزا» معتمدا على الطبعة الأولى من سير أعلام النبلاء 1/ 206، والعبارة في الطبعة الجديدة 1/ 284 «ما يؤمنك أن يكون بلاء» .
[7] في الطبقات الكبرى 3/ 422 وسير أعلام النبلاء 1/ 284 «ساعتئذ» .

(2/321)


وَجْهِهِ، فَإِذَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، وَأَيْنَ التَّحَوُّزُ [1] وَالْفِرَارُ إِلا إِلَى اللَّهِ؟ قَالَتْ: وَيَرْمِي سَعْدًا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ، بِسَهْمٍ، فَقَالَ: خُذْهَا، وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ. فَأَصَابَ أكْحَلَهُ. فَدَعَا اللَّهَ سَعْدٌ فَقَالَ: اللَّهمّ لا تُمِتْنِي حَتَّى تَشْفِيَنِي مِنْ قُرَيْظَةَ. وَكَانُوا مَوَالِيهِ وَحُلَفَاءَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَرَقَأَ كَلْمُهُ وَبَعَثَ اللَّهُ الرِّيحَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَسَاقَتِ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَفِيهِ قَالَتْ: فَانْفَجَرَ كَلْمُهُ وَقَدْ كان بريء حَتَّى مَا يُرَى مِنْهُ إِلا مِثْلُ الْخَرْصِ [2] . وَرَجَعَ إِلَى قُبَّتِهِ. قَالَتْ: وَحَضَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
فَإِنِّي لأَعْرِفُ بُكَاءَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ بُكَاءِ عُمَرَ، وَأَنَا فِي حُجْرَتِي، وَكَانُوا كَمَا قَالَ الله تعالى رُحَماءُ بَيْنَهُمْ 48: 29 [3] . قَالَ: فَقُلْتُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ؟
قَالَتْ: كَانَتْ عَيْنَاهُ لا تَدْمَعُ عَلَى أَحَدٍ [4] وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا وَجَدَ فَإِنَّمَا هُوَ آخِذٌ بِلِحْيَتِهِ [5] .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عبد الرحمن بن عمرو ابن سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ نَزَلُوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأُتِيَ بِهِ مَحْمُولا عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُضْنًى [مِنْ جُرْحِهِ] [6] ، فَقَالَ لَهُ: أشِرْ عَلَيَّ فِي هَؤُلاءِ. فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكَ فِيهِمْ بِأَمْرٍ أَنْتَ فَاعِلُهُ. قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنْ أَشِرْ عَلَيَّ فِيهِمْ، فَقَالَ: لَوْ وُلِّيتُ أَمْرَهُمْ قَتَلْتُ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَيْتُ ذَرَارِيَّهُمْ وَقَسَّمْتُ أَمْوَالَهُمْ. فَقَالَ: والّذي نفسي بيده
__________
[1] انظر الطبقات الكبرى 3/ 430.
[2] الخرص: الخاتم أو حلقة القرط.
[3] سورة الفتح: من الآية 29.
[4] بل كان عليه الصلاة والسلام رقيق القلب، فقد وردت أحاديث في بكائه رحمة وشفقة على الميت أو خوفا على أمّته أو خشية من الله أو اشتياقا ومحبّة. (الشمائل للترمذي وجامع الأصول وغيرهما) .
[5] الطبقات الكبرى 3/ 423 ورواه أحمده في مسندة 6/ 141، 142 وإسناده حسن.
[6] الإضافة من سير أعلام النبلاء 1/ 288.

(2/322)


لَقَدْ أَشَرْتَ فِيهِمْ بِالَّذِي أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ [1] .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ [2] حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ التَّمَّارُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعَ عَامِرَ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ أَنْ يُقْتَلَ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي [3] ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ حَكَمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سماوات [4] . وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أنا يَزِيدُ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: لَمَّا قَضَى سَعْدٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ثُمَّ رَجَعَ انْفَجَرَ جُرْحُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُ فَأَخَذَ رَأْسَهُ فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ، وَسُجِّيَ بِثَوْبٍ أَبْيَضَ إِذَا مُدَّ عَلَى وَجْهِهِ بَدَتْ رِجْلاهُ، وَكَانَ رَجُلا أَبْيَضَ جَسِيمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهمّ إِنَّ سَعْدًا قَدْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِكَ وَصَدَّقَ رَسُولَكَ وَقَضى الَّذِي عَلَيْهِ، فَتَقَبَّلْ رُوحَهُ بِخَيْرِ مَا تَقَبَّلْتَ رُوحَ رَجُلٍ. فَلَمَّا سَمِعَ سَعْدٌ كَلامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: وَأُمُّهُ تَبْكِي وَتَقُولُ:
وَيْلُ أُمِّ سعد سعدا [5] ... حزامة وجدّا
__________
[1] الطبقات الكبرى 3/ 425 وأخرجه أحمد في مسندة 3/ 22، والبخاري في الجهاد 3043 و 3804 و 4121 و 6262، ومسلم 1768 في الجهاد.
[2] في طبعة القدسي 294 «محمد» والتصحيح من الطبقات الكبرى 3/ 426.
[3] في ع: «الموسى» وكذلك في أنساب الأشراف 1/ 347، وأثبتها القدسي في طبعته 295 «المواثيق» بالاعتماد على الطبعة القديمة من سير أعلام النبلاء 1/ 209، وما أثبتناه يؤيّد ما في الطبقات الكبرى 3/ 426 وسير أعلام النبلاء (الطبعة الجديدة) 1/ 288، والمواسي: جمع موسى وهي الآلة التي يحلق بها.
[4] رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 3/ 426 وسنده حسن، ورواه ابن حجر في فتح الباري 7/ 412 ونسبه إلى النسائي.
[5] في الطبقات لابن سعد 3/ 427 وسير أعلام النبلاء 1/ 286 «ويل أمّك سعدا» .

(2/323)


فَقِيلَ لَهَا: أَتَقُولِينَ الشِّعْرَ عَلَى سَعْدٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهَا فَغَيْرُهَا مِنَ الشُّعَرَاءِ أَكْذَبُ. وقال عبد الرحمن بن الغسيل، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَه عَنْ محمود ابن لبيد قَالَ: لما أُصيب أَكْحَلُ سعدٍ حولوه عند امرأةٍ يقال لَهَا رُفَيْده، وكانت تداوي الجَرْحَى، قَالَ: وكان النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مرّ به يَقْولُ: كيف أصبحت؟
وإذا أمسى قَالَ: كيف أمسيتَ؟ فتخبره، فذكر القصّة. وقال: فأسرع النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشي إلى سعد، فشكا ذَلِكَ إليه أصحَابه، فقال: إنّي أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسّلت حنظلة. فانتهى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى البيت وهو يغسّل، وأمّه تبكيه وتقول:
وَيْلُ أمّ سعدٍ سعدا ... حَزَامَةً وجِدّا
فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كلّ نائحة تكذب إلّا أمّ سعد. ثُمَّ خرج به فقالوا: ما حَمَلْنا ميتًا أخفَّ منه. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يمنعه [1] أن يَخِفّ عليكم وقد هبط من الملائكة كذا، وكذا لم يهبطوا قطّ، قد حملوه معكم [2] . وقال شُعبة: أخبرني سِماك بن حرب، سَمِعْتُ عبد الله بنَ شدّاد يَقْولُ: دَخَلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سعد بن مُعاذ وَهوَ يكيد [3] بنفسه فقال:
جزاك الله خيرًا من سيّد قومٍ، فقد أنجزت الله ما وعدْتَه وليُنْجزنَّك الله ما وَعَدَكَ [4] . وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: بلغني أنّه
__________
[1] في ع وطبقات ابن سعد 3/ 428: ما يمنعكم. والتصحيح من سير أعلام النبلاء (1/ 287) .
[2] الطبقات الكبرى 3/ 428، سير أعلام النبلاء 1/ 287.
[3] يكيد بنفسه: يجود بها.
[4] الطبقات الكبرى 3/ 429.

(2/324)


شَهِدَ سَعْدًا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَمْ يَنْزِلُوا إِلَى الأَرْضِ. [1] زَادَ غَيْرُهُ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عن نافع فقال: عن ابن عمر [2] .
وقال شبابه: أنا أبو معشر، عن المقبري قال: لَمَّا دَفَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدًا قَالَ: لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ لَنَجَا سَعْدٌ وَلَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً اخْتَلَفَتْ فِيهَا أَضْلاعُهُ مِنْ أَثَرِ الْبَوْلِ [3] . وقال يزيد بن هارون: أنا محمد بن عمرو، عَنْ [محمد بن المنكدر، عَنْ] [4] محمد بن شُرَحبيل، أن رجلًا أخذ قبضةً من تراب قبر سعد يوم دُفِن، ففتحها بعد فإذا هي مِسْك [5] .
وقال محمد بن موسى الفِطري: أنا مُعاذ بن رِفاعة الزُّرقي قَالَ: دُفن سعد بن مُعاذ إلى أُسّ دار عقيل بن أبي طَالِب [6] .
قَالَ محمد بن عَمْرو بن عَلْقَمَةَ حدّثني عاصم بن عُمَر بن قَتَادَةَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استيقظ فجاءه جبريل، أو قَالَ: مَلَكٌ [فَقَالَ] [7] من رجل من أُمَّتك مات الليلة استبشر بموته [أهلُ] [8] السماء؟ قَالَ: لا أعلمه، إلّا أنّ سعد ابن مُعاذ أمسى دنيّا [9] . ما فعل سعد؟ قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُبِض وجاء قومُه فاحتملوه إلى دارهم. فصلّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ الصُّبح، ثُمَّ خرج وخرج
__________
[1] الطبقات 3/ 430.
[2] الطبقات 3/ 430.
[3] الطبقات 3/ 430.
[4] ما بين الحاصرتين ساقط، استدركته من الطبقات.
[5] الطبقات الكبرى 3/ 431.
[6] الطبقات 3/ 433.
[7] زيادة يقتضيها السياق من طبقات ابن سعد.
[8] سقطت من ع، وزدناها من ابن الملا، وابن سعد (3/ 423) .
[9] الدنيّ: الضعيف الّذي إذا آواه الليل لم يبرح ضعفا. وعبارة ابن سعد: «دنفا» (3/ 423) .

(2/325)


النّاس مشيًا حتى إنّ شسوع نعالهم تقطع [1] من أرجلهم وإنّ أرديتهم لتسقُط من عواتقهم، فقال قائل: يَا رَسُولَ اللَّهِ قد بَتَتَّ [2] النّاس مشيًا قَالَ: أخشى أن تسبقنا إليه الملائكة كما سبقتنا إلى حنظلة [3] . قَالَ شُعْبَةُ: أنا سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً، وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِيًا مِنْهَا لَنَجَا مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ [4] . وَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بن شرحبيل قال: لما انفجر جرح سعد بْنُ مُعَاذٍ الْتَزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: وَاكَسْرَ ظَهْرَاهُ، فَقَالَ: مَهْ يَا أَبَا بَكْرٍ. ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. رَوَى عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سعد بني إِبْرَاهِيمَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، مَرْفُوعًا: لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ لَنَجَا مِنْهَا سَعْدٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا، وَمَا فِيهِ صَفِيَّةُ.
وَلَيْسَ هَذَا الضَّغْطُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنْ رَوْعَاتِ الْمُؤْمِنِ كَنَزْعِ رُوحِهِ، وَكَأَلَمِهِ مِنْ بُكَاءِ حَمِيمِهِ، وَكَرَوْعَتِهِ مِنْ هُجُومِ مَلَكَيِ الامْتِحَانِ عَلَيْهِ، وَكَرَوْعَتِهِ يَوْمَ الْمَوْقِفِ وَسَاعَةَ [5] وُرُودِ جَهَنَّمَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِنَا.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: أنا مُحَمَّدُ بن عمرو، عن أبيه، عن جدّه، عن
__________
[1] في طبقات ابن سعد 424 «لتنقطع» .
[2] بتّت النّاس مشيا: انقطعت من التعب.
[3] الطبقات لابن سعد 423، 424.
[4] الطبقات 430 من طريق شبابة بن سوّار عن أبي معشر عن سعيد المقبري.
[5] في ع: سابحة، تصحيف.

(2/326)


عائشة قالت: ما كان أحد أَشَدَّ فَقْدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبيه أو أحدهما مِنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ [1] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أنا عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنِ الْحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: كَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ [رَجُلا] [2] أَبْيَضَ طِوَالا [3] ، جَمِيلا، حَسَنَ الْوَجْهِ، أَعْيَنَ، حَسَنَ اللِّحْيَةِ. فَرُمِيَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ سَنَةَ خَمْسٍ فَمَاتَ مِنْهَا، وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَثَلاثِينَ سَنَةً. وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ [4] .
وقال أبو معاوية، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اهْتَزَّ عَرْشُ اللَّهِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. [5] . وَقَالَ عَوْفٌ [6] عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ [7] . وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ امْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأُمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: أَلا يَرْقَأُ دَمْعُكِ وَيَذْهَبُ حُزْنُكِ بِأَنَّ ابْنَكِ أَوَّلُ مَنْ ضَحِكَ اللَّهُ لَهُ وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ؟ [8] . وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ جَدَّتِهِ رُمَيْثَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولو أشاء أن أقبّل الخاتم
__________
[1] الطبقات لابن سعد 3/ 433.
[2] إضافة من طبقات ابن سعد.
[3] في ع: طويلا. وأثبتنا نص ابن سعد.
[4] الطبقات الكبرى 3/ 433.
[5] الطبقات 3/ 433، 434.
[6] في ع: عون. تصحيف، وهو عوف الأعرابي. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (8/ 166) .
[7] طبقات ابن سعد 3/ 434.
[8] الطبقات لابن سعد 3/ 434.

(2/327)


الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِنْ قُرْبِي مِنْهُ لَفَعَلْتُ- يَقُولُ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ يَوْمَ مَاتَ: اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ [1] . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِحُبِّ لِقَاءِ اللَّهِ سَعْدًا. قَالَ: إِنَّمَا يَعْنِيَ السَّرِيرَ.
قَالَ: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ 12: 100 [2] قَالَ: تَفَسَّخَتْ أَعْوَادُهُ. قَالَ: وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَهُ فَاحْتُبِسَ، فَلَمَّا خَرَجَ قِيلَ لَهُ. يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا حَبَسَكَ؟
قَالَ: ضُمَّ سَعْدٌ فِي الْقَبْرِ ضَمَّةً فَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ [3] . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِثَوْبٍ حَرِيرٍ، فَجَعَلَ [أَصْحَابُهُ [4]] يَتَعَجَّبُونَ مِنْ لِينِهِ فَقَالَ: إنّ مناديل سعد ابن مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَلْيَنُ مِنْ هَذَا [5] . مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بن سعد ابن مُعَاذٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وكان واقد [6] من أعظم النّاس وأطولهم، فَقَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا وَاقِدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
فَقَالَ: إِنَّكَ بِسَعْدٍ لَشَبِيهٌ، ثُمَّ بَكَى فَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ. ثُمَّ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ سَعْدًا، كَانَ مِنْ أعظم النّاس وأطولهم. ثُمَّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا إِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ، فَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحبّة مِنْ دِيبَاجٍ مَنْسُوجٌ فِيهَا الذَّهَبُ، فَلَبِسَها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمْسَحُونَهَا وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذِهِ الجبّة؟ قالوا: يا رسول الله مَا رَأَيْنَا ثَوْبًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، قَالَ: فو الله
__________
[1] الطبقات 3/ 435.
[2] سورة يوسف: الآية 100.
[3] الطبقات لابن سعد 3/ 433.
[4] سقطت من ع وزدناها من ابن الملا.
[5] الطبقات لابن سعد 3/ 435.
[6] في ع: ذا قد. والتصحيح من طبقات ابن سعد 3/ 435.

(2/328)


لَمَنادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِمَّا تَرَوْنَ [1] . قلت: هو سعد بن مُعاذ بن النُّعمان بن امرئ القَيْس بن زيد بن عبد الأشهل بن الحارث بن الخزرج بْن عَمْرو بْن مالك بْن الأوس، أخي الخزرج، وهما ابنا حارثة بن عَمْرو، ويُدعى حارثة العنقاء، وإليه جماع الأوس والخزرج أَنْصَارَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وُيكنى سعد أبا عَمْرو، وأمّه المذكورة كَبْشة بنت رافع الأنصارية، من المُبايعات. أسلم هو وأسيد بن الحُضَير عَلَى يد مُصْعب بن عُمَيْر. وكان مُصْعب قَدِم المدينة قبل العقبة الآخرة يدعو إلى الإسلام ويُقْرئ القرآن. فلما أسلم سعد لم يبق من بني عبد الأشهل- عشيرة سعد- أحدٌ إلّا أسلم يومئذٍ. ثُمَّ كان مُصْعب في دار سعد هو وأسعد بن زرارة، يدعون إلى الله. وكان سعد وأسعد ابني خالة.
وآخى النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين سعد بن مُعاذ وأبي عُبَيْدة بن الجرّاح. قاله ابن إسحاق [2] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَغَيْرِهِ:
آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ [3] .
شهد سعد بدرًا، وَثَبَتَ مَع رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أُحُد حين ولّى النّاس [4] .
رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيُّ، ثنا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْحُمَّى فَقَالَ: مَنْ كَانَتْ بِهِ فَهِيَ حظّه من النّار. فسألها سعد ابن مُعَاذٍ رَبَّهُ، فَلَزِمَتْهُ فَلَمْ تُفَارِقْهُ حَتَّى فَارَقَ الدنيا [5] .
__________
[1] الطبقات الكبرى 3/ 435، 436.
[2] الطبقات الكبرى 3/ 420، 421.
[3] الطبقات الكبرى 3/ 421.
[4] الطبقات 3/ 421.
[5] الطبقات 3/ 421.

(2/329)


وكان لسعد من الولد: عَمْرو، وعبد الله، وأمُّهما: عمّة أسيد بن الحُضَير هند بنت سماك من بني عبد الأشهل، صحابيّة. وكان تزوّجها أوس ابن مُعاذ أخو سعد- وقيل: عبد الله بن عَمْرو بن سعد- يوم الْحَرَّةِ [1] .
وكان لعمرو من الولد: واقد بن عَمْرو، وجماعة قِيلَ إنّهم تسعة.
وقتل عَمْرو وأخو سعد بن مُعاذ يوم أحد. وقتل ابن أخيهما [2] الحارث ابن أوس يومئذٍ شابًا. وقد شهدوا بدرًا. والحارث أصابه السّيف ليلة قتل كعب بن الأشرف، واحتمله أصحابه. وشهد بعد ذَلِكَ أُحُدًا.
روى عَنْ سعد بن مُعاذ: عبد الله بن مسعود، وقصّته بمكة مع أُميَّة بن خلف، وذلك في صحيح البخاري.
وحصن بني قُرَيْظة عَلَى أميالٍ من المدينة، حاصرهم النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسًا وعشرين ليلة.
واستشهد من المسلمين: خلّاد بن سُويد الأنصاري الخزرجي، طُرحت عليه رَحَى، فَشَدَخَتْه [3] .
ومات في مدّة الحصار أبو سنان [4] بن محصَن، بدريّ مهاجري، وهو
__________
[1] الطبقات 3/ 420.
[2] في ع: ابن أختهما. وقد تقدم منذ قليل أنه ابن أخي سعد، وذلك في حديث عائشة، وفيه «فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ يَحْمِلُ مِجَنَّهُ» كما ورد كذلك في الكلام عن شهداء غزوة أحد «وَمِنَ الْأَنْصَارِ عَمْرُو بْنُ مُعَاذِ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَوْسِيُّ أَخُو سَعْدٍ، وَابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أوس بن معاذ» .
[3] سيرة ابن هشام 3/ 276.
[4] في ع: سفيان. والتصحيح من السيرة 3/ 276 وترجمته في الإصابة (4/ 76) . وقد ذكر ابن حجر أنه غير أبي سفيان بن محصن الّذي حضر حجّة الوداع. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث النّهي عن لبس القميص يوم النّحر حتى يفيض.

(2/330)


أخو عكّاشة بن مِحصَن الأسدي.
شهد هو وابنه سِنان بدْرًا. ودُفن بمقبرة بني قُرَيْظة التي يتدافن بِهَا من نزل دُورهم من المسلمين. وعاش أربعين سنة. ومنهم من قَالَ: بقي إلى أن بايع تحت الشَّجرة.
إسلام ابني سَعْيَة وأسد بْن عُبَيْد
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عاصم بْن عُمَر بْن قَتَادَة، عَنْ شيخ [من] [1] بني قُرَيْظة قَالَ: هل تدري عَمَّ كَانَ إسلامُ ثَعْلَبَة وأسد [2] ابني سَعْيَة، وأسد بْن عُبَيْد، نفر من هَدْل [3] ، لم يكونوا من بني قُرَيْظة ولا نَضير، كانوا فوق ذَلِكَ [4] ، قلت: لا. قَالَ: إنّه قدِم علينا رَجُل من الشام يهوديّ، يقال لَهُ ابن الهَيْبَان، ما رأينا خيرًا منه. فكنّا نقول إذا احتبس المطر: استسْق لنا. فيقول: لا والله، حتى تُخْرِجوا صدقة صاعٍ من تمر أو مُدَّيْن [من] شعير. فنفعل، فيخرج بنا إلى ظاهر حرّتنا. فو الله ما يبرح مجلسه حتى تمرّ بنا الشِّعاب بسيل. وفعل ذَلِكَ غير مرّة ولا مرتين. فلما حضرته الوفاة قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، مَا تَرَوْنَهُ أَخْرَجَنِي مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ إِلَى أَرْضِ الْبُؤْسِ والجوع؟ قُلْنَا: أنت أعلم. قَالَ: أخرجني نبيُّ أتوقّعه يُبعث الآن فهذه البلدة مُهَاجره، وإنّه يُبعث بسفك الدماء وسبي
__________
[1] زيادة لازمة لصحّة العبارة.
[2] ويقال: أسيد (بفتح الهمزة وكسر السّين) وأسيد (بضم الهمزة وفتح السّين) . قال ابن ماكولا: «أسيد بن سعية القرظي أسلم وأخوه ثعلبة وحسن إسلامهما» الإكمال 1/ 53.
انظر: أسد الغابة (1/ 85 و 110) ، والإصابة (1/ 33 و 49) .
[3] الهدل- بالدال المهملة- هم إخوة قريظة، على ما في اللباب 3/ 382 وتبصير المنتبه.
[4] عند ابن هشام 3/ 269 «نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم» .

(2/331)


الذرية، فلا يمنعنّكم ذَلِكَ منه ولا تُسبقنَّ إِلَيْهِ. ثُمَّ مات.
زاد يونس بْن بُكَيْر فِي حديثه: فلما كانت الليلة التي افتُتِحت فيها قُرَيْظة قَالَ أولئك الثلاثة، وكانوا شُبَّانًا أحداثًا: يا معشر يهود، هذا الَّذِي كَانَ ذكر لكم ابن الهَيبان. قَالُوا: ما هُوَ؟ قَالُوا: بلى والله إنّه لهو بصفته. ثُمَّ نزلوا فأسلموا وخلُّوا أموالَهم وأهلَهم [1] ، وكانت فِي الحصن، فلما فتح ردّ ذلك عليهم.
__________
[1] انظر بعض الخبر في الإصابة لابن حجر 1/ 33 وفي جرمة أسد بن سعية

(2/332)