تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ت
تدمري
سَنَة ستٍّ مِنَ الهجَرة
قَالَ البكّائي، عَنِ ابن إِسْحَاق [1] : ثُمَّ أقام رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة ذا الْحَجَّةِ والمحرَّم
وصَفَرًا وشهرَيْ ربيع، وخرج فِي جُمَادى الأولى إلى بني لحْيان يطلب
بأصحاب الرَّجيع: خُبَيْب بْن عَدِيّ وأصحابه، وأظهر أنّه يريد الشام
ليصيب من القوم غِرَّةً، فوجدهم قد حذروا وتمنَّعوا فِي رءوس الجبال.
فقال: لو أنّا هبطنا عُسْفان لرأى أهلُ مكة أنّا قد جئنا مكة. فهبط فِي
مائتي راكب من أصحابه حتى نزلوا عسفان. ثم بعث فارسَيْن من أصحابه حتى
بلغا [2] كِراعَ الغَمِيم، ثُمَّ كَرّا، وراح قافلًا [3] .
غزوة الغابة أو غزوة ذي قرد [4]
ثم قدم فأقام بِهَا ليالي، فأغار عُيَيْنَة بْن حصْن فِي خيل من غطفان
على
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 297.
[2] في ع: بلغ. والتصويب من سيرة ابن هشام.
[3] انظر الخبر في تاريخ الطبري 2/ 595.
[4] قرد: قال السهيليّ: بضمّتين، هكذا ألفيته مقيّدا عن أبي علي،
والقرد في اللغة: الصوف
(2/333)
لِقَاحِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْغَابَةِ [1] ، وفيها رَجُل من بني غِفار وامرأة، فقتلوا
الرجل واحتملوا المرأة فِي اللّقاح.
وكان أوّل من نذر [2] بهم سَلَمَةُ بْن الأكْوَع، غدا يريد الغَابة
ومعه غلام لطلحة بْن عُبَيْد الله معه فَرَسه، حتى إذا علا ثَنِيَّةَ
الوداع [3] نظر إلى بعض خيولهم فأشرف فِي ناحية من سلع، ثم صرخ: وا
صباحاه، ثُمَّ خرج يشتدّ فِي آثار القوم، وكان مثل السّبع، حتى لحق
بالقوم. وجعل يردّهم بنَبْله، فإذا وُجّهت الخيل نحوه هرب ثُمَّ عارضهم
فإذا أمكنه الرمْي رمى. وبلغ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَلِكَ فصرخ بالمدينة: الفزع الفَزَعَ. فنزلت [4] الخيول
إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وكان أول من
انتهى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ
الفرسان] [5] المِقداد وعَبّاد بْن بشْر، وأسيد بْن ظُهَيْر [6] ،
وعُكّاشة بْن مِحْصَن وغيرهم.
فأمر عليهم سعدَ [7] بْن زيد، ثُمَّ قَالَ: أخرج فِي طلب القوم حتى
ألحقك بالنّاس. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فيما بلغني- لأبي عَيّاش: لو أعطيت فرسك رجلًا منك؟ فقلت:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أفرس النّاس. وضربت الفرس فو الله ما مشى بي
إلّا خمسين ذراعًا حتى طرحني فعجبت أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لو أعطيته أفرس منك وجوابي لَهُ.
ولم يكن سَلَمَةَ بْن الأكْوَع يومئذٍ فارسًا، وكان أوّل من لحق القومَ
عَلَى رِجْلَيْه. وتلاحق الفُرسان فِي طلب القوم. فأول من أدركهم محرز
بن نضلة
__________
[ () ] الرديء، يقال في مثل: عثرت على الغزل بآخرة فلم تدع بنجد قردة.
(الروض الأنف 4/ 14) .
[1] موضع قرب المدينة من ناحية الشام فيه أموال لأهل المدينة، بينه
وبين سلع ثمانية أميال. قال ابن سعد: الغابة وهي على بريد من المدينة
طريق الشام.
[2] في ع: بدر، تصحيف. ونذر بالشيء: علم به فحذره (سيرة ابن هشام 4/ 3)
.
[3] ثنيّة الوداع: هي ثنيّة مشرفة على المدينة يطؤها من يريد مكة.
[4] عند ابن هشام 4/ 3 «فترامت» .
[5] سقطت من ع، وزدناها من سيرة ابن هشام (4/ 3) .
[6] شك فيه ابن إسحاق في رواية ابن هشام والطبري 2/ 601 وعند الواقدي
أنه أسيد بن حضير.
[7] في ع: سعيد. والتصحيح من أسد الغابة والإصابة والسيرة 4/ 3 والطبري
2/ 601.
(2/334)
الأسَدي. فأدركهم ووقف بين أيديهم ثُمَّ
قَالَ: قفوا يا معشر بني اللّكيعَة حتى يلحق بكم من وراءكم من
المسلمين. فحمل عَلَيْهِ رَجُل منهم فقتله. ولم يُقتل من المسلمين سواه
[1] .
قَالَ عَبْد الملك بْن هشام [2] : وَقُتِل من المسلمين وقاص بْن مجزّز
[3] المُدْلجِي. وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [4] :
حَدَّثَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ، أَنَّ مُجَزِّزًا إِنَّمَا كَانَ عَلَى فَرَسِ عُكَّاشَةَ
يُقَالُ لَهُ الْجنَاحُ، فَقُتِلَ مُجَزِّزٌ وَاسْتُلِبَ الْجنَاحُ.
وَلَمَّا تَلاحَقَتِ الْخَيْلُ قَتَلَ أَبُو قَتَادَةَ بْنُ رِبْعِيٍّ،
حَبِيبَ بْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَغَشَّاهُ بِبُرْدِهِ، ثُمَّ
لَحِقَ بِالنَّاسِ. وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَرْجَعُوا وَقَالُوا:
قُتِلَ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ بِأَبِي قَتَادَةَ وَلَكِنَّهُ قَتِيلٌ
لأَبِي قَتَادَةَ وَضَعَ عَلَيْهِ بُرْدَهُ لِيَعْرِفُوا بِهِ
صَاحِبَهُ.
وَأَدْرَكَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ أو بارا [5] وَابْنَهُ عَمْرَو
بْنَ أوبَارٍ، كِلاهُمَا عَلَى بَعِيرٍ، فانتظمهما بالرمح فقتلهما
جميعا. واستنقذوا بَعْضَ اللِّقَاحِ.
وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نزل
بالجبل [6] ومن ذِي قَرَدٍ [7] ، وَتَلاحَقَ [النَّاسُ بِهِ] [8]
فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ،
وَأَقَامَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَقَالَ سَلَمَةُ:
يَا رَسُولَ الله لو سرّحتني في مائة رجل لاستنقذت بقيّة السّرح وأخذت
بأعناق
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 3، 4، تاريخ الطبري 2/ 602، 603.
[2] السيرة 4/ 4.
[3] في ع: محرز. والتصحيح من أسد الغابة والاستيعاب والسيرة. وفي تاريخ
الطبري «محرز» وهو تحريف.
[4] السيرة 4/ 4.
[5] أوبار: في ابن سعد أنه (أثار) وفي مغازي الواقدي (أوثار) .
[6] في ع: بالخيل، تصحيف، والتصحيح من ابن الملّا، والسيرة والطبري.
[7] ذو قرد: ماء على ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر.
[8] سقطت من ع وأثبتناها من ابن الملّا.
(2/335)
الْقَوْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا بَلَغَنِي: إِنَّهُمُ الآنَ
لَيُغْبَقُونَ [1] فِي غَطَفَانَ.
فَقَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
أَصْحَابِهِ، فِي كُلِّ مِائَةِ رَجُلٍ، جَزُورًا. وَأَقَامُوا
عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ [2] .
قَالَ: وَانْفَلَتَتِ امْرَأَةُ الْغِفَارِيِّ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ
إِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
قَدِمَتْ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: إِنِّي نَذَرْتُ للَّه أَنْ أَنْحَرَهَا
إِنْ نَجَّانِي اللَّهُ عَلَيْهَا. قَالَ:
فَتَبَسَّمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ: بِئْسَ مَا جَزَيْتِهَا أَنْ حَمَلَكِ اللَّهُ عَلَيْهَا
وَنَجَّاكِ بِهَا ثُمَّ تَنْحَرِينَهَا، إِنَّهُ لا نَذْرَ فِيمَا لا
يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ إِنَّمَا هِيَ نَاقَةٌ مِنْ إِبِلِي، ارْجِعِي
عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ [3] . قُلْتُ: هَذِهِ الْغَزْوَةُ تُسمَّى
غَزْوَةَ الْغَابَةِ، وَتُسمَّى غَزْوَةَ ذِي قَرَدٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي سَنَةِ
سِتٍّ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ [4] أَنَّهَا زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ.
قَالَ أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ: أَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ
عَمَّارٍ حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجْتُ أَنَا
وَرَباحٌ- غُلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَخَرَجْتُ بِفَرَسٍ لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ كُنْتُ أُرِيدُ
أَنْ أُنَدِّيَهُ [5] مَعَ الْإِبِلِ. فَلَمَّا كَانَ بِغَلَسٍ،
أَغَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُيَيْنَةَ عَلَى إِبِلِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَتَلَ رَاعِيهَا
وَخَرَجَ يَطْرُدُهَا وَأُنَاسٌ مَعَهُ فِي خَيْلٍ. فَقُلْتُ: يَا
رَبَاحُ اقْعُدْ عَلَى هَذَا الْفَرَسِ فَأَلْحِقْهُ بِطَلْحَةَ
وَأَخْبِرْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْخَبَرَ. فَقُمْتُ عَلَى تَلٍّ فَجَعَلْتُ وَجْهِي مِنْ قِبَلِ
الْمَدِينَةِ ثُمَّ نَادَيْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: يَا صَبَاحَاهُ. ثُمَّ
اتَّبَعْتُ الْقَوْمَ مَعَ سَيْفِي وَنَبْلِي فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ
وَأَعْقِرُ بِهِمْ وَذَلِكَ حِينَ يَكْثُرُ الشَّجَرُ، فَإِذَا رَجَعَ
إليّ فارس جلست له
__________
[1] يغبقون: يشربون اللبن بالعشيّ.
[2] سيرة ابن هشام 4/ 4، تاريخ الطبري 2/ 603، 604، عيون الأثر 2/ 86،
87.
[3] سيرة ابن هشام 4/ 4.
[4] صحيح مسلم 1807 كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها.
[5] ندّى الإبل يندّيها تندية: أي يوردها فتشرب قليلا ثم يرعاها قليلا
ثم يردها إلى الماء.
(2/336)
فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَمَيْتُ، فَلَا
يُقْبِلُ عَلِيَّ فَارِسٌ إِلَّا عَقَرْتُ بِهِ. فَجَعَلَتْ
أَرْمِيهِمْ وأقول:
أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع
فَأَلْحَقُ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَأَرْمِيهِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَةِ
رَحْلِهِ، فَيَقَعُ سَهْمِي فِي الرَّحْلِ [1] حَتَّى انْتَظَمَتْ
كَتِفُهُ، فَقُلْتُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ.
وَكُنْتُ إِذَا تَضَايَقَتِ الثَّنَايَا عَلَوْتُ عَلَى الْجَبَلِ
فَرَدَأْتُهُمْ بِالْحِجَارَةِ [2] ، فَمَا زَالَ ذَلِكَ شَأْنِي
وَشَأْنُهُمْ أَتَّبِعُهُمْ فأرتجز، حتى ما خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا
مِنْ سَرْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا
خَلَّفْتُهُ وَرَائِي وَاسْتَنْقَذْتُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ. ثُمَّ لَمْ
أَزَلْ أَرْمِيهِمْ حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ رُمْحًا
وَأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً يَسْتَخِفُّونَ [3] مِنْهَا،
وَلَا يُلْقُونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ
حِجَارَةً وَجَمَعْتُهُ عَلَى طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا مُدَّ الضُّحَاءُ [4] أَتَاهُمْ
عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ مَدَدًا لَهُمْ، وَهُمْ فِي
ثَنِيَّةٍ ضَيِّقَةٍ. ثُمَّ عَلَوْتُ الْجَبَلَ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ:
مَا هَذَا الَّذِي أَرَى؟ قَالُوا: لَقِينَا مِنْ هَذَا الْبَرْحِ [5]
، مَا فَارَقَنَا سَحَرًا حَتَّى الْآنَ وَأَخَذَ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ
فِي أَيْدِينَا وَجَعَلَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ:
لَوْلَا أَنَّ هَذَا يَرَى أَنَّ وَرَاءَهُ مَدَدًا لَقَدْ تَرَكَكُمْ،
لِيَقُمْ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْكُمْ. فَقَامَ إِلَيَّ أَرَبَعَةٌ
فَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ. فَلَمَّا أَسْمَعْتُهُمُ الصَّوْتَ قُلْتُ:
أَتَعْرِفُونِي؟ قَالُوا: وَمَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا ابْنُ
الْأَكْوَعِ، وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ لَا يَطْلُبُنِي
رَجُلٌ مِنْكُمْ فَيُدْرِكُنِي وَلَا أَطْلُبُهُ فَيَفُوتُنِي.
قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي أَظُنُّ، يَعْنِي كَمَا قَالَ. فَمَا
بَرِحْتُ مَقْعَدِي ذَلِكَ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى فَوَارِسِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَلَّلُونَ الشجر، وإذا
أوّلهم الأخرم
__________
[1] في ع: الرجل. والتصحيح من صحيح مسلم 3/ 1436 رقم 1807.
[2] ردأه وأردأه بالحجارة: رماه بها. وعبارة مسلم: أردّهم 3/ 1436.
[3] أي يخفّفون من أثقالهم.
[4] الضحاء: أكلة الضّحى، ويتضحّى أي يأكل في هذا الوقت كما يقال
يتغذّى ويتعشى.
[5] البرح: الشدّة.
(2/337)
الْأَسَدِيُّ، وَعَلَى إِثْرِهِ أَبُو
قَتَادَةَ، وَعَلَى إِثْرِهِ الْمِقدَادُ. فَوَلَّى الْمُشْرِكوُنَ.
فَأنْزلُ مِنَ الْجَبَلِ فَأعْرضُ لِلأَخْرَمِ فَآخذُ عِنَانَ فَرَسِهِ
فَقُلْتُ: يَا أَخْرَمُ أَنْذِرِ الْقَوْمَ يَعْنِي أُحَذْرُهُمْ
فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَقْطَعُوكَ [1] ، فَاتَّئِدْ حَتَّى يَلْحَقَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَقَالَ:
إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا تَحُلْ
بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ، قَالَ:
فَخَلَّيْتُ عِنانَ فَرَسِه فَيَلْحَقُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عُيَيْنَةَ وَيَعْطِفُ عَلَيْهِ عَبْدُ الرحمن فاختلفا طعنتين، فغفر
الْأَخْرَمُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَطَعَنَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
فَقَتَلَهُ.
وَتَحَوَّلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى فَرَسِ الْأَخْرَمِ فَيَلْحَقُ
أَبُو قَتَادَةَ بِهِ، فَاخْتَلَفَا طَعْنَتَيْنِ، فَعقَرَ بِأَبِي
قَتَادَةَ، وَقَتَلَهُ أَبُو قَتَادَةَ، وَتَحَوَّلَ عَلَى فَرَسِ
الْأَخْرَمِ. ثُمَّ خَرَجْتُ أَعْدُو فِي أَثَرِ الْقَوْمِ حَتَّى مَا
أَرَى مِنْ غُبَارِ أَصْحَابِي شَيْئًا.
وَيَعْرِضُونَ قَبْلَ الْمَغِيبِ إِلَى شِعْبٍ فِيهِ مَاءٌ يُقَالَ
لَهُ ذُو قَرَدٍ، فَأَرَادُوا أَنْ يَشْرَبُوا منه، فأبصروني أَعْدُو
وَرَاءَهُمْ، فَعَطَفُوا عَنْهُ وَاشْتَدُّوا فِي الثَّنِيَّةِ،
ثَنِيَّةِ ذِي دَبْرٍ [2] ، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَلْحَقُ رَجُلا
فَأَرْمِيهِ فَقُلْتُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَع. قَالَ
فَقَالَ: يَا ثُكْلَ أُمِّي، أَكْوَعِيٌّ بُكْرَةً [3] ؟ قُلْتُ:
نَعَمْ يَا عُدوَّ نَفْسِهِ، وَكَانَ الَّذِي رَمَيْتُهُ بُكْرَةً،
فَأَتْبَعْتُهُ سَهْمًا آخَرَ فَعَلِقَ بِهِ سَهْمَانِ. وَيُخَلِّفُونَ
فَرَسَيْنِ فَجِئْتُ بِهِمَا أَسُوقُهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي
حَلَّيْتُهُمْ عَنْهُ [4] ذُو قَرَدٍ، فَإِذَا نَبِيُّ اللَّهِ فِي
خَمْسِمِائَةٍ، وَإِذَا بِلَالٌ قَدْ نَحَرَ جَزُورًا مِمَّا
خَلَّفْتُ، فَهُوَ يَشْوِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ: يَا رسول الله خلّني فأنتخب [5]
__________
[1] في صحيح مسلم 3/ 1437 «يقتطعوك» .
[2] في ع: في البنية بنية ذي تبر: تصحيف والتصحيح من طبقات ابن سعد:
(2/ 83) وقال ياقوت: ذات الدبر ثنيّة، ولم يزد (معجم البلدان 2/ 437) .
[3] أكوعي بكرة: وردت في حديث مسلم «أكوعه بكرة» بالإضافة إلى ضمير
الغائب، وفي رواية «أكوعنا بكرة» بالإضافة إلى ضمير المتكلّمين،
ومعناها أأنت الأكوع الّذي كنت تتبعنا بكرة اليوم؟.
[4] في ع جلبتهم عنه (بالمعجمة والتصحيح من صحيح مسلم 3/ 1438 وأصل
حلّيتهم حلاتهم، بالهمزة يقال حلّأت الرجل عن الماء إذا منعته منه) .
[5] في ع: فانتجز. والتصحيح من صحيح مسلم 3/ 1439.
(2/338)
مِنْ أَصْحَابِكَ مِائَةً وَاحِدَةً
فَآخُذُ عَلَى الْكُفَّارِ بِالْعَشْوَةِ فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ
مُخْبِرٌ قَالَ:
أكُنْتَ فَاعِلا يَا سَلَمَةُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَالَّذِي أَكْرَمَكَ.
فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ فِي ضَوْءِ النَّارِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمْ
يُقْرَوْنَ الآنَ [1] بِأَرْضِ غَطَفَانَ. فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ
غَطَفَانَ قَالَ: مُرُّوا عَلَى فُلانٍ الْغَطَفَانِيِّ فَنَحَرَ
لَهُمْ جَزُورًا، فَلَمَّا أَخَذُوا يَكْشِطُونَ جِلْدَهَا رَأَوْا
غَبَرَةً [2] فَتَرَكُوهَا وَخَرَجُوا هِرَابًا.
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ
رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ. وَأَعْطَانِي سَهْمَ الرَّاجِلِ وَالْفَارِسِ
جَمِيعًا. ثم أردفني وراءه على العضباء [3] رَاجِعِينَ إِلَى
الْمَدِينَةِ.
فَلَمَّا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا قَرِيبًا مِنْ صَحْوَةٍ، وَفِي
الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لا يُسْبَقُ، فَجَعَلَ
يُنَادِي: هَلْ مِنْ مُسَابِقٍ؟ وَكَرَّرَ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لَهُ:
أَمَا تُكْرِمُ كَرِيمًا وَلا تَهَابُ شَرِيفًا؟ قَالَ: لا، إِلا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي وَأُمِّي خَلِّنِي فَلأُسَابِقْهُ. قَالَ:
إِنْ شِئْتَ. قُلْتُ: أذْهَبُ إِلَيْكَ. فَطَفَرَ [4] عَنْ
رَاحِلَتِهِ، وَثَنَيْتُ رِجْلَيَّ فَطَفَرْتُ عَنِ النَّاقَةِ. ثُمَّ
إِنِّي رَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا [5] أَوْ شَرَفَيْنِ، يَعْنِيَ
اسْتَبْقَيْتِ نَفْسِي، ثُمَّ إِنِّي غَدَوْتُ حَتَّى أَلْحَقَهُ
فَأَصُكَّ بَيْنَ كَتِفَيْهِ بِيَدِي. قُلْتُ: سَبَقْتُكَ وَاللَّهِ.
فَضَحِكَ وَقَالَ: أَنَا أَظُنُّ. فَسَبَقْتُهُ حَتَّى قَدِمْنَا
الْمَدِينَةَ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ أبي شيبة [6] ، عن هاشم [7] .
__________
[1] في ع: يقرون الأرض بأرض غطفان. والتصحيح من صحيح مسلم 3/ 1439
ويقرون:
يضافون.
[2] في ع: غيرة. وعبارة مسلم 3/ 1439 «رأوا غبارا» ، والغبرة الغبار.
[3] لقب ناقة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وقد مرّ ذكرها قبل الآن.
[4] طفر: وثب وقفز.
[5] ربطت عليه شرفا: أي حبست نفسي عن الجري الشديد: والشرف: ما ارتفع
من الأرض.
[6] في ع: عن شيخ. والتصحيح من صحيح مسلم.
[7] صحيح مسلم (1807) كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها (3/
1433- 1441)
(2/339)
قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ الغني الحرّاني بمصر، وعلى أبي حسن علي بن أَحْمَدَ
الْهَاشِمِيِّ بِالْإِسْكَنْدَرِيَةِ، وَعَلَى أَبِي سَعِيدٍ سُنْقُرَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِحَلَبَ، وَعَلَى أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ
الْمَقْدِسِيِّ بِقَاسِيُونَ، وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
السَّلَامِ الْفَقِيهِ، وَأَبُو الْغَنَائِمِ بْنُ مَحَاسِنَ، وَعُمَرُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَدِيبُ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ رُوزَبَةَ.
ح وَقَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ الْيُونِينِيِّ [1] ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ هَاشِمٍ الْعَبَّاسِيِّ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ
عُثْمَانَ الْفَقِيهُ، وَمُحَمَّدِ بْنِ حَازِمِ، وَعَلِيِّ بْنِ
بَقَاءٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَزِيزٍ، وَخَلْقٍ
سِوَاهُمْ، أَخْبَرَهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي
بَكْرِ ابن الزُّبَيْدِيِّ، قَالُوا: أَنْبَأَنَا أَبُو الْوَقْتِ
السِّجْزِيُّ، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، أَنَا أَبُو
مُحَمَّدِ بْنُ حَمَّوَيْهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، ثَنَا مَكِّيُّ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ
أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ:
خَرَجْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ ذَاهِبًا نَحْوَ الْغَابَةِ، حَتَّى إِذَا
كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الْغَابَةِ لَقِيَنِي غُلَامٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَوْفٍ قُلْتُ: وَيْحُكَ مَا بِكَ؟ قَالَ: أُخِذَتْ لِقَاحُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: مَنْ
أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ. فَصَرَخْتُ ثَلاثَ صَرَخَاتٍ
أَسْمَعَتْ ما بين لابتيها: يا صباحا، يَا صَبَاحَاهُ. ثُمَّ
انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُمْ وَقَدْ أَخَذُوهَا، فَجَعَلْتُ
أَرْمِيهِمْ وَأَقُولُ:
أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا. فَأَقْبَلْتُ
بِهَا أَسُوقُهَا، فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رسول الله إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ، وَإِنِّي
أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا
__________
[ () ] وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 80- 84.
[1] اليونيني: نسبة إلى بلدة يونين القريبة من مدينة بعلبكّ.
(2/340)
سقيهم، فابعث في أثرهم. فقال: يا بن
الْأَكْوَعِ مَلَكْتَ فَأَسْجِعْ، إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ [1] فِي
قَوْمِهِمْ [2] .
مقتل ابن أبي الحُقَيْق
وهو سلّام بْن أبي الحُقَيْق، وقيل عَبْد الله بْن أَبِي الحُقَيْق
اليهودي، لعنه الله.
قَالَ البكّائي، عَنِ ابن إِسْحَاق [3] : ولما انقضى شأن الخندق وأمرُ
بني قُرَيْظة، وكان سلّام بْن أَبِي الحُقَيْق أَبُو رافع فيمن حزَّب
الأحزاب عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكانت الأوس قبل أُحُد قد قتلت كعبَ بْن الأشرف. فاستأذنت الخزرجُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قتل ابن أبي
الحُقَيْق وهو بخيبر، فأَذِن لهم.
وحدّثني الزُّهري، عَنْ عَبْد الله بْن كعب بْن مالك قَالَ: كَانَ مما
صنع الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنّ هذين
الحيَّيْن من الأنصار كانا يتصاولان مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئا فيه غناء
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا قَالَتْ
الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلًا علينا عِنْدَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي الْإِسْلَام.
فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلَها. وإذا فعلت الخزرج شيئًا قَالَتْ الأوس
مثل ذَلِكَ.
ولما أصابت الأوس كعبَ بْن الأشرف في عداوته لرسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، قَالَتْ الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلًا علينا. فتذاكروا من
رَجُل لرَسُول اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم كابن الأشرف، فذكروا ابن
أَبِي الحُقَيْق وهو بخيبر. فاستأذنوا رسول
__________
[1] في ع: يعرفون والتصحيح من صحيح البخاري 5/ 71.
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب من رأى العدوّ فنادى بأعلى صوته
يا صباحاه حتى يسمع النّاس.
[3] سيرة ابن هشام 3/ 295.
(2/341)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فأذن لهم. فخرج إِلَيْهِ من الخزرج خمسة من بني سلمة: عبد
الله ابن عَتيك، ومسعود بْن سنان، وعبد الله بْن أنيس، وأبو قَتَادة
بْن ربعي، وآخر هُوَ أسود بْن خُزَاعيّ [1] ، حليف لهم. فأمر عليهم ابن
عَتيك، فخرجوا حتى قدِموا خيبر، فأتوا دار ابن أَبِي الحُقَيْق ليلًا،
فلم يَدعوا بيتًا فِي الدار إلّا أغلقوه عَلَى أهله، ثُمَّ قاموا عَلَى
بابه فاستأذنوا، فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ قَالُوا: نلتمس
الميرة. قَالَتْ: ذاكم صاحبكم، فادخلوا عَلَيْهِ.
قَالَ: فلما دخلنا عَلَيْهِ أغلقنا علينا وعليها الحُجْرة تخوُّفًا أن
يكون دونه مجاولة [2] تحُول بيننا وبينه. قَالَ: فصاحت امرأته فنَّوَهت
بنا، وابتدرناه وهو [3] [53 ب] عَلَى فراشه، والله ما يدلّنا عَلَيْهِ
فِي سواد البيت [4] إلّا بياضه، كأنّه قِبْطِيّة [5] مُلْقاه. فلما
صاحت علينا جعل الرجل منّا يرفع سيفه عليها ثُمَّ يذكر نَهْيَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قتل النساء، فيكفّ
يده. فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عَلَيْهِ عَبْد الله بْن أنيس بسيفه
فِي بطنه حتى أنفذه، وهو يَقْولُ: قطني قطني [6] ، أي حسبي. قال:
وخرجنا، وكان ابن عتيك سيّئ
__________
[1] في ع أسد بن خزاعيّ. والتصحيح من الإصابة (1/ 42) وسمّاه ابن
إسحاق: خزاعيّ بن الأسود (السيرة 3/ 295) .
[2] المجاولة: الممانعة والمدافعة.
[3] إلى هنا ينتهي السقط الثاني الّذي أشرنا إليه في نسخة الأصل،
والّذي بدأ في أواخر الكلام عن غزوة الخندق. وقد أشرنا إليه في الهامش
هناك.
[4] في ع والسيرة 3/ 295: «الليل» .
[5] القبطية: ثياب بيض رقاق من كتّان تتّخذ بمصر تنسب إلى القبط.
[6] يقال: قطني كذا وقطني من كذا أي حسبي. وقال بعضهم: إنّما هو قطي
ودخلت النّون على حال دخولها في قدني.
ومن العرب من يقول قطن فلانا أو فلان كذا، أي يكفيه، فيزيد نونا على
قطّ وينصب بها ويخفض ويضيف إلى نفسه فيقول: قطني. (لسان العرب) .
(2/342)
البصر فوقع من الدرجة، فوثئت يده وثأ [1]
شديدًا وحملناه حتى نأتي مَنْهَرًا [2] من عيونهم فندخل فِيهِ. فأوقدوا
النّيران واشتدّوا فِي كلّ وجه يطلبوننا [3] ، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى
صاحبهم فاكتنفوه. فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أنّه هلك؟
فقال رَجُل منّا: أَنَا أذهب فأنظر لكم. فانطلق حتى دخل فِي النّاس.
قَالَ:
فوجدتُها وفي يدها المصباح وحوله رجال وهي تنظر فِي وجهه وتحدّثهم
وتقول: أما والله لقد سَمِعْتُ صوت ابن عَتيك ثُمَّ أكذبت نفسي فقلت:
أنّي ابن عَتيك بهذه البلاد؟ ثُمَّ أقبَلَتْ عَلَيْهِ تنظر فِي وجهه،
ثُمَّ قَالَتْ: فاظ [4] ، وإله يهود. فما سَمِعْتُ من كلمة كانت ألذّ
إليّ منها. قَالَ: ثُمَّ جاء فأخبرنا بالخبر، فاحتملنا صاحبَنا
فقدِمْنا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فأخبرناه واختلفنا فِي قتله، فكلّنا يدّعيه. فقال: هاتوا أسيافكم.
فجئناه بِهَا، فقال لسيف عَبْد الله بْن أنيس: هذا قَتَلَه، أرى فِيهِ
أثر الطّعام والشراب. وَقَالَ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى
أَبِي رَافِعٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ
بَيْتَهُ لَيْلًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ نَائِمٌ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
[5] .
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ: بَعَثَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي رَافِعٍ
رِجَالا مِنَ الأَنْصَارِ، عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِيَ ابْنَ
عَتِيكٍ. وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ. وَكَانَ فِي حِصْنٍ
لَهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ. فَلَمَّا دَنَوْا وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ
وَرَاحَ النَّاسُ بسرحهم، قال عبد الله لأصحابه:
__________
[1] الوثء: وصم يصيب اللّحم ولا يبلغ العظم، أو هو توجّع في العظم بلا
كسر. ويقال في الدعاء: اللَّهمّ ثأ يده. (تاج العروس 1/ 481) .
[2] المنهر: شقّ في الحصن نافذ يجري منه الماء. (تاج العروس 14/ 316) .
[3] في الأصل «يطلبون» والتصحيح من البداية والنهاية لابن كثير 4/ 138.
[4] في الأصل: فاض. وأثبتنا رواية ع وسيرة ابن هشام 3/ 296، وكلاهما
بمعنى مات.
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب قتل أبي رافع عبد الله بن أبي
الحقيق (5/ 26) .
(2/343)
اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ
فَمُتَلَطِّفٌ لِلْبَوَّابِ لَعَلِّي أَدْخُلُ. فَأَقْبَلَ حَتَّى
دَنَا مِنَ الْبَابِ ثُمَّ تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِي
حَاجَتَهُ. وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ، فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ: يَا
عَبْدَ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلْ
لأُغْلِقَ. فَدَخَلْتُ فَكَمَنْتُ [1] ، فَأَغْلَقَ الْبَابَ وَعَلَّقَ
الأَقَالِيدَ عَلَى وُدٍّ [2] ، فَقُمْتُ فَفَتَحْتُ الْبَابَ.
وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُسْمَرُ عِنْدَهُ وَكَانَ فِي عَلالِيٍّ [3] .
فَلَمَّا أَنْ ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ صَعَدْتُ إِلَيْهِ،
وَجَعَلْتُ كُلَّمَا فَتَحْتُ بَابًا أُغْلِقُهُ عَلَيَّ مِنْ دَاخِلٍ،
وَقُلْتُ:
إِنَّ الْقَوْمَ نَذَرُوا بِي لَمْ يَخْلُصُوا إليّ حتى أقتله. فانتهيت
إليه [54 أ] فَإِذَا هُوَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَسْطَ عِيَالِهِ، لا
أَدْرِي أَيْنَ هُوَ مِنَ الْبَيْتِ. قُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ،
قَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ فَأَضْرِبُهُ
ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، وَأَنَا دَهِشٌ، فَمَا أَغْنَى شَيْئًا،
فَصَاحَ، فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ فَأَمْكُثُ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ
دَخَلْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: مَا هَذَا الضَّرْبُ يَا أَبَا رَافِعٍ؟
قَالَ: لأُمِّكَ الْوَيْلُ، إِنَّ رَجُلا فِي الْبَيْتِ ضَرَبَنِي
قَبْلُ بِالسَّيْفِ. قَالَ: فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أَثْخَنْتُهُ وَلَمْ
أَقْتُلْهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ صَدْرَ السَّيْفِ فِي بَطْنِهِ حَتَّى
أَخَذَ فِي ظَهْرِهِ فَعَلِمْتُ أَنِّي قَدْ قَتَلْتُهُ، فَجَعَلْتُ
أَفْتَحُ الأَبْوَابَ بَابًا فَبَابًا حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى
دَرَجَةٍ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي وَأَنَا أَرَى أَنِّي قَدِ انْتَهَيْتُ
إِلَى الأَرْضِ، فَوَقَعْتُ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ فَانْكَسَرَتْ
سَاقِي، فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَتِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ حَتَّى
جَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ. فَقَالَ: لا أَبْرَحُ اللَّيْلَةَ حَتَّى
أَعْلَمَ أَقَتَلْتُهُ أَمْ لا. فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ قَامَ
النَّاعِي عَلَى السُّورِ فَقَالَ:
أَنْعِي أَبَا رَافِعٍ. فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَقُلْتُ:
النَّجَاءَ النَّجَاءَ، فَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ أَبَا رَافِعٍ.
فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
وحدّثناه فقال: ابسط رجلك. فبسطتها.
__________
[1] في الأصل: فمكثت. والتصحيح من صحيح البخاري (5/ 27) .
[2] الأقاليد: جمع إقليد وهو المفتاح وردّ: الصنم المعروف. وفي رواية
أخرى للبخاريّ: «علّق الأغاليق على وتد» (5/ 27) .
[3] علالي: بفتح العين وتخفيف اللام فألف ولام مكسورة، فياء مشدّدة.
جمع علّيّة، بضم العين وكسر اللام المشدّدة، أي الغرفة. (انظر شرح
المواهب للزرقاني 2/ 167) .
(2/344)
فَمَسَحَهَا، فَكَأَنَّمَا لَمْ أشْكُهَا
قَطُّ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [1] . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا [2] مِنْ
حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنِ الْبَرَاءِ بِنَحْوِهِ. وَفِيهِ: ثُمَّ
انْطَلَقْتُ إِلَى أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ فَغَلَّقْتُهَا عَلَيْهِمْ
مِنْ ظَاهِرٍ. وَفِيهِ: ثُمَّ جِئْتُ كَأَنِّي أُغِيثُهُ وَغَيَّرْتُ
صَوْتِي، وَقُلْتُ: مالك يَا أَبَا رَافِعٍ. قَالَ: أَلا أُعْجِبُكَ،
دَخَل عَلَيَّ رَجُلٌ فَضَرَبَنِي بِالسَّيْفِ. قَالَ: فَعَمَدْتُ لَهُ
أَيْضًا فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، فَصَاحَ
وَقَامَ أَهْلُهُ، ثُمَّ جِئْتُ وَغَيَّرْتُ صَوْتِي كَهَيْئَةِ
الْمُغِيثِ، وَإِذَا هُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ، فَأَضَعُ
السَّيْفَ فِي بَطْنِهِ ثُمَّ أَتَّكِئُ عَلَيْهِ حَتَّى سَمِعْتُ
صَوْتَ الْعَظْمِ.
ثُمَّ خَرَجْتُ دَهِشًا إلى السّلّم، فسقطت فاختلعت رجلي فعصبتها. ثم
أتيت أصحابي أحجل فقلت: انْطَلِقُوا فَبَشِّرُوا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي لا أَبْرَحُ حَتَّى
أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ. فَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الصُّبْحِ صَعِدَ
النَّاعِيَةُ فَقَالَ: أَنْعِي أَبَا رَافِعٍ.
فَقُمْتُ أَمْشِي، مَا بِي قلبة [3] ، فأدركت أصحابي قَبْلُ أَنْ
يَأْتُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَشَّرْتُهُ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: ثنا أَبُو الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ:
كَانَ سَلامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ قَدْ أَجْلَبَ فِي غَطَفَانَ
وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ يَدْعُوهُمْ إِلَى قِتَالِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجْعَلُ لَهُمُ
الْجُعْلَ الْعَظِيمَ. فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَيْهِ جَمَاعَةً فَبَيَّتُوهُ لَيْلا.
وقال موسى بْن عقُبَةَ فِي مغازيه: فطرقوا أَبَا رافع اليهوديّ بخيبر
فقتلوه في بيته [4] .
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب قتل أبي رافع عبد الله بن أبي
الحقيق (5/ 26، 27) .
[2] البخاري 5/ 27، 28.
[3] القلبة: الدّاء والتعب. والمعنى أنه كان يمشي ولم يكن به ألم.
[4] راجع البداية والنهاية لابن كثير 4/ 139، 140.
(2/345)
قتل ابن نُبَيْح الهُذْليّ
[قَالَ] [1] ابْنُ لَهِيعَةَ: ثنا أَبُو الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ
قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ السُّلَمِيَّ إِلَى [خَالِدِ بْنِ] [2]
سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذْلِيِّ ثُمَّ اللِّحْيَانِيِّ
لِيَقْتُلَهُ وَهُوَ بِعُرَنَةَ وَادِي مَكَّةَ [3] .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سلمة، عن ابن إسحاق، [54 ب] حدثني محمد بن جعفر
بن الزبير، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ،
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ نُبَيْحٍ
الْهُذَلِيَّ يَجْمَعُ النَّاسَ لِيَغْزُونِي وَهُوَ بِنَخْلَةٍ أَوُ
بِعُرَنَةَ، فَأْتِهِ فَاقْتُلْهُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
انْعَتْهُ لِي حَتَّى أَعْرِفَهُ.
قَالَ: آيَةُ [4] مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَهُ
وَجَدْتَ قُشَعْرِيرَةً. فَخَرَجْتُ مُتَوَشِّحًا بِسَيْفِي، حَتَّى
دَفَعْتُ إِلَيْهِ فِي ظَعْنٍ يَرْتَادُ بِهِنَّ مَنْزِلا وَقْتَ
الْعَصْرِ. فَلَمَّا رَأَيْتُهُ وَجَدْتُ لَهُ مَا وَصَفَ لِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ القشعريرة. فأقبلت
نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصّلاة، فصلّيت وأنا
أمشي نَحْوَهُ أُومِئُ بِرَأْسِي إِيمَاءً. فَلَمَّا انْتَهَيْتُ
إِلَيْهِ قَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ سَمِعَ
بِكَ وَبِجَمْعِكَ لِهَذَا الرَّجُلِ، فَجَاءَ لِذَلِكَ. قَالَ: أَجَلْ
نَحْنُ فِي ذَلِكَ. فَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا أَمْكَنَنِي
حَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ خَرَجْتُ
وَتَرَكْتُ ظَعَائِنَهُ مُكِبَّاتٍ [5] عَلَيْهِ.
فَلَمَّا قدِمَتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: أَفْلَحَ الْوَجْهُ. قُلْتُ: قَدْ قَتَلْتُهُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَامَ بي فدخل بيته فأعطاني
عصا، فقال:
__________
[1] ليست في الأصل، وأثبتناها من ع.
[2] إضافة من سيرة ابن هشام 4/ 237 وسيشير إلى ذلك في آخر الخبر.
[3] عرنة: قال ياقوت «واد بحذاء عرفات وقيل مسجد عرفة والمسيل كله» بضم
العين. (معجم البلدان 4/ 111) .
[4] في الأصل: إنه، والتصحيح من ابن هشام (4/ 237) .
[5] في السيرة 4/ 238 «منكبات» .
(2/346)
أَمْسِكْ هَذِهِ عِنْدَكَ. فَخَرَجْتُ
بِهَا عَلَى النَّاسِ. فَقَالُوا: مَا هَذِهِ الْعَصا؟
فَقُلْتُ: أَعْطَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَهَا عِنْدِي. قَالُوا: أَفَلا
تَرْجِعُ فَتَسْأَلُهُ فَرَجَعْتُ فَسَأَلْتُهُ: لِمَ أَعْطَيْتَنِيهَا
يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: آيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ، إِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ الْمُتَخَصِّرُونَ يَوْمَئِذٍ
[1] . قَالَ: فَقَرَنَهَا عَبْدُ اللَّهِ بِسَيْفِهِ فَلَمْ تَزَلْ
مَعَهُ، حَتَّى إِذَا مَاتَ أُمِرَ بِهَا فَضُمَّتْ مَعَهُ فِي
كَفَنِهِ، فَدُفِنَا جَمِيعًا.
رَوَاهُ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ
فَقَالَ: إِلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ. وَقَالَ مُوسَى
بْنُ عُقْبَةَ: بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نُبَيْحٍ
الْهُذَلِيِّ.
__________
[1] المستخصرون: الذين يتّخذون المخصرة وهي العصا.
(2/347)
غزوة بني المصطلق
وهي غزوة المريسيع
قَالَ ابن إِسْحَاق: غزا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بني المُصْطَلِق من خُزَاعة، فِي شعبان سنة ستّ. كذا قَالَ
ابن إِسْحَاق [1] وقال ابن شهاب وعُرْوَة: هِيَ فِي شعبان سنة خمسٍ.
وكذلك يُرْوَى عَنْ قَتَادة.
وقاله أيضًا الواقدي [2] ، فقال: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الأثنين لليلتين خَلَتا من شعبان سنة خمسٍ،
وقدم المدينة لهلال رمضان.
قلت: وفيها حديث الإِفك، وقد تقدّم ذَلِكَ فِي سنة خمس. وهو الصّحيح.
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 6.
[2] المغازي 404.
(2/349)
سرية نَجْد [1]
قِيلَ إنّها كانت فِي المحرَّم سنة ستٍ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ:
حَدَّثَنِي سَعِيدُ الْمَقْبُرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ
يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَيْلًا قِبَل نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حُنَيْفَةَ
يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ [2] سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ،
فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِيَ الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ
إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
ما عندك؟ قال: عندي [55 أ] يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ
تَقْتُلْ ذَا دم، وإن تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ
الْمَالَ فسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَدِ،
فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ قَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتَ لَكَ
إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا
دم، وإن كنت تريد المال فسيل تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ.
فَقَالَ: أَطْلِقُوهُ. فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ
الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أبغض إليّ
من وجهك، وقد أصبح وجعك أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ.
وَاللَّهِ مَا كَانَ دِينٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ
دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ. وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ
بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ
الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا
أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ.
فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ يَا ثُمَامَةُ.
قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أسلمت، فو الله لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ
الْيَمَامَةِ حَبَّةٌ حَتَّى يَأْذَنَ فيها رسول الله صلى الله عليه
وسلم. متّفق عليه [3] .
__________
[1] ذكرها ابن كثير في بداية حوادث سنة ستّ من الهجرة، وقال هي سرية
محمد بن مسلمة قبل نجد (4/ 149) وذكرها ابن هشام بعنوان: أسر ثمامة بن
أثال الحنفي وإسلامه. (4/ 245) وانظر تاريخ الطبري 3/ 156.
[2] أثال: بضم الهمزة. (الإكمال 1/ 17 بالهامش) .
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن
أثال.
(2/350)
و (م) أيضا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ
بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، بِهِ [1] .
وخالفهما مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، فيما روى يونس بْن بُكَيْر عَنْهُ:
حَدَّثَنِي سَعِيد المَقْبُري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ
إسلام ثمامة بْن أُثال أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دعا الله حين عرض لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بما عرض لَهُ وهو مشرك، فأراد قتله، فأقبل معتمِرًا حتى دخل
المدينة، فتحيّر فيها حتى أخذ، فأُتي بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر بِهِ فربط إلى عمودٍ من عُمُد
المسجد. وفيه: وإنْ تسأل مالًا تُعْطه.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فجعلنا [نَحْنُ] [2] المساكين نقول: ما نصنع
بدم ثُمامة؟ والله لأَكْلَهُ من جَزورٍ سمينةٍ من فدائه أحبّ إلينا من
دمه.
قلت: وهذا يدلّ عَلَى أنّ إسلام ثمامة كَانَ بعد إسلام أَبِي
هُرَيْرَةَ، وهو فِي سنة سبع. فذكر الحديث، وفيه: فانصرف من مكة إلى
اليمامة، ومنع الحمل إلى مكة حتى جهِدَتْ قُريش، فكتبوا إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونه بأرحامهم أن يكتب
إلى ثُمامة يخلي لهم حَمْل الطعام. وكانت اليَمامةُ ريفَ مكة. قَالَ:
فأذِن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [3] .
وفيها: كَانَ من السّرايا، عَلَى ما زعم الواقدي [4] .
__________
[ () ] وصحيح مسلم (1764) كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه
وجواز المن عليه. وانظر سيرة ابن هشام 4/ 245، والإصابة 1/ 203 في
ترجمة ثمامة.
[1] م: (اختصار مسلم) وقد خرّج الحديث في الباب السابق نفسه.
[2] سقطت من الأصل، ع. ولعلّ الوجه ما أثبتناه.
[3] الإصابة 1/ 203.
[4] المغازي 2/ 550.
(2/351)
سرية عُكّاشة بْن مِحْصَن إلى الغَمْر
قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
ربيع الأول أو الآخر عُكّاشة بْن مِحْصَن فِي أربعين رجلًا إلى الغَمْر
[1] . وفيهم ثابت بْن أقرم [2] وشجاع [3] بْن وهب.
فأسرعوا، ونذر بهم القوم وهربوا. فنزل عُكَّاشة عَلَى مياههم وبعث
الطلائع فأصابوا من دَلَّهم عَلَى بعض ماشيتهم، فوجدوا مائتي بعيرٍ،
فساقوها إلى المدينة [4] .
[سرية أَبِي عبيدة إلى ذي القَصَّة] [5]
قَالَ: وفيها بَعَثَ سَرِيَّةَ أبي عبيدة إلى [ذي] [6] القَصَّة [7] ،
فِي أربعين رجلًا، فساروا ليلهم مشاةً ووافوا ذا القصّة مع عماية
الصُّبح. فأغار عليهم وأعجزهم هربًا فِي الجبال. وأصابوا رجلا فأسلم.
__________
[1] الغمر: ماء من مياه بني أسد على ليلتين من فيد، طريق الأول إلى
المدينة (معجم البلدان 4/ 212) . وفي طبقات ابن سعد (2/ 84) أنه غمر
مرزوق، وهو في الطبري (3/ 155) :
الغمرة.
[2] في الأصل و (ع) : ثابت بن أرقم، تحريف تصحيحه من أسد الغابة لابن
الأثير 1/ 220 والإصابة 1/ 190 والاستيعاب 1/ 191 وسيرة ابن هشام (2/
379) ومغازي الواقدي (2/ 550) .
[3] في الأصل و (ع) : سباع. والتصحيح من أسد الغابة 2/ 386 والإصابة 2/
138 رقم 3841 والاستيعاب 2/ 160 وطبقات ابن سعد (2/ 85) ومغازي الواقدي
(2/ 550) ونهاية الأرب للنويري 17/ 203.
[4] الطبقات الكبرى 2/ 85، عيون الأثر 2/ 103، 104 نهاية الأرب 17/
203، 204، البداية والنهاية 4/ 178، عيون التواريخ 1/ 247، تاريخ خليفة
85.
[5] العنوان في الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 86.
[6] إضافة من طبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري 2/ 641 و 3/ 154، والمغازي
للواقدي 2/ 552، ونهاية الأرب 17/ 204، عيون الأثر 2/ 105، البداية
والنهاية 4/ 178، عيون التواريخ 1/ 248.
[7] ذو القصّة: موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا وهو طريق
الرّبذة. كان يقطنه بنو ثعلبة وبنو عوال من ثعلبة. (معجم البلدان 4/
366) .
(2/352)
[سَرِيَّةُ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة إلى ذي
القَصَّة] [1]
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمدَ بْن مسلمة، فِي عشرة، فكمن
القومُ لهم حتى نام هُوَ وأصحابه، فما شعروا إلّا بالقوم. فقتل أصحابُ
مُحَمَّد، وأفلت هُوَ جريحًا [2] .
[سَرِيَّةُ زيدِ بْن حارثة إلى بني سُلَيْم بالجَمُوم] [3]
قَالَ: وفيها كانت سرية زيد بن حارثة [إلى بني سليم] [4] بالجموم.
فأصاب امرأة من مزينة، يقال لها: حليمة، فدلّتهم على مكان فأصابوا
مواشي وأسراء منهم زوجها. فوهبها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نفسَها
وَزَوْجَها [5] .
[سَرِيَّةُ زيد بْن حارثة إلى الطَّرف] [6]
وفيها سَرِيَّةُ زيدِ بْن حارثة إلى الطّرف [7] ، إلى بني ثعلبة في
خمسة
__________
[1] العنوان في طبقات ابن سعد 2/ 85.
[2] هذه السرية سرية محمد بن مسلمة سابقة على سرية أبي عبيدة في رواية
ابن سعد والواقدي، والمقريزي في إمتاع الأسماع، وابن سيّد الناس في
عيون الأثر 2/ 104 وعيون التواريخ 1/ 248، أما نسخة ابن كثير في
البداية والنهاية ففيها خلط بن سرية أبي عبيدة ومحمد بن مسلمة. (4/
178) .
[3] الجموم: أرض لبني سليم ناحية بطن نخل عن يسارها، وبطن نخل من
المدينة على أربعة برد.
(معجم البلدان 2/ 163، 164) .
والعنوان في طبقات ابن سعد 2/ 86.
[4] إضافة من ابن سعد.
[5] اكتفى ابن هشام بذكر الغزوة دون تفاصيل 4/ 234، وكذا فعل الطبري 3/
155، وانظر الخبر في طبقات ابن سعد 2/ 86، ونهاية الأرب 17/ 505 عيون
الأثر 2/ 105، 106 البداية والنهاية 4/ 178 عيون التواريخ 1/ 248.
[6] العنوان عن طبقات ابن سعد 2/ 17، وهي عنده متأخرة عن سريّته إلى
العيص.
[7] الطرف: ماء قريب من المرقى، وقيل المراض، دون النّخيل على ستة
وثلاثين ميلا من المدينة.
(معجم البلدان 4/ 31) وطبقات ابن سعد. وقال ابن إسحاق: الطرف من ناحية
نخل، من طريق العراق. (سيرة ابن هشام 4/ 236) .
(2/353)
عشر رجلا. فهربت الأعراب وخافوا، فأصاب من
نَعَمِهم عشرين بعيرًا.
وغاب أربع ليالٍ [1] .
[سرية زيد بْن حارثة إلى العِيص] [2]
وفيها كانت سرية زيد بْن حارثة إلى العيص [3] ، فِي جُمَادى الأول،
وأُخِذَت الأموال التي كانت مَعَ أَبِي العاص، فاستجار بزينب بِنْت
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأجارته [4] .
[سَرِيَّةُ زيدِ بْن حارثة إلى حِسْمَى] [5]
وحدثني موسى بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أقبل
دِحْية الكلبي من عند قَيْصر، قد أجازه بمال. فأقبل حتى كَانَ بحِسْمى
[6] ، فلقيَه ناسٌ من جُذام، فقطعوا عَلَيْهِ الطريق وسلبوه. فَجَاءَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أن يدخل
بيته فأخبره. فبعث زيدَ بْن حارثة إلى حِسْمى، وهي وراء وادي القُرَى
وكانت في جمادى الآخرة [7] .
__________
[1] انظر عنها: ابن سعد، والواقدي 2/ 555، والنويري 17/ 206، وابن سيد
الناس 2/ 106، وابن كثير 4/ 178، والكتبي 1/ 249.
[2] العنوان من الطبقات لابن سعد 2/ 87 وذكره قبل سريته إلى الطّرف.
[3] العيص: قال ابن سعد: بينها وبين المدينة أربع ليال، وبينها وبين ذي
المروة ليلة.
[4] ابن سعد 2/ 87 ونهاية الأرب 17/ 206، وعيون الأثر 2/ 106 والبداية
والنهاية 4/ 178 وعيون التواريخ 1/ 248.
[5] العنوان من طبقات ابن سعد 2/ 88.
[6] حسمى: بالكسرة ثم السكون، مقصور. أرض ببادية الشام، بينها وبين
وادي القرى ليلتان، وأهل تبوك يرون جبل حسمى في غربيّهم. وقيل هي لجذام
جبال وأرض بين أيلة وجانب تيه بني إسرائيل الّذي يلي أيلة وبين أرض بني
عذرة من ظهر حرّنهيا، فذلك كلّه حسمى. (معجم البلدان 2/ 258، 259) .
[7] انظر: سيرة ابن هشام 4/ 235، المغازي للواقدي 2/ 555، الطبقات لابن
سعد 2/ 88، تاريخ الطبري 2/ 641، 642، نهاية الأرب 17/ 207، عيون الأثر
2/ 106، 107 البداية والنهاية 4/ 178، 179، عيون التواريخ 1/ 249، 250.
(2/354)
[سَرِيَّةُ زيد إلى وادي القُرَى] [1]
ثُمَّ سَرِيَّةُ زيدٍ إلى وادي القُرَى [2] فِي رجب [3] .
[سَرِيَّةُ عليّ بْن أَبِي طَالِب إلى بني سعد بْن بَكْر بَفَدَكَ] [4]
ثُمَّ قَالَ: وَحَدَّثَنِي عبدَ اللَّهِ بْن جَعْفَر، عَنْ يعقوب بن
عُتْبَة قَالَ: خرج عليّ رَضِيَ الله عَنْهُ فِي مائةٍ إلى فَدَك إلى
حيِّ من بني سعد بْن بَكْر. ذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغه عَنْهُمْ أنّ لهم جَمْعًا يريدون أن
يمدُّوا يهودَ خيبر. فسار إليهم اللّيل وكَمَنَ النّهار، وأصاب عيْنًا
فأقرّ لَهُ أنّه بعث إلى خيبر يعرض عليهم نصرهم عَلَى أن يجعلوا لهم
تمر خيبر [5] .
قَالَ الواقدي [6] : وذلك فِي شعبان.
[سَرِيَّةُ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف إلى دُومة الجَنْدَل] [7]
قَالَ الواقدي: وفيها سَرِيَّةُ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف إلى دُومة
الجَنْدَل فِي شعبان. فقال لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أطاعوا فتزوّج ابنة ملكهم. فأسلم
__________
[1] العنوان من الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 89.
[2] وادي القرى: واد بين الشام والمدينة بين تيماء وخيبر فيه قرى كثيرة
وبها سمّى وادي القرى.
(معجم البلدان 5/ 345) .
[3] سيرة ابن هشام 4/ 237، تاريخ الطبري 3/ 155 نهاية الأرب 17/ 208،
عيون الأثر 2/ 107، الواقدي 2/ 562.
[4] فدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة، وهي مما
أفاء الله على رسوله صلحا بعد غزوة خيبر، وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام
عن هذه الغزوة. والعنوان من الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 89.
[5] تاريخ الطبري 3/ 154، طبقات ابن سعد 2/ 89، 90، نهاية الأرب 17/
209، 210، عيون الأثر 2/ 109، 110.
[6] المغازي 2/ 562.
[7] العنوان من طبقات ابن سعد 2/ 89 وهي قبل سرية علي إلى فدك.
(2/355)
القوم، وتزوّج عبدُ الرَّحْمَن تماضر بِنْت
الأصبغ، والدة أَبِي سَلَمَةَ [1] ، وكان أبوها ملكهم [2] .
[سَرِيَّةُ كُرْز بْن جَابِر الفِهْرِي إلى العُرَنيّين] [3]
وفي شوّال كانت سَرِيَّةُ كُرْز بْن جَابِر الفِهْرِيّ إلى
العُرَنِيّين الذين قتلوا راعي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ واستاقوا الإِبل. فبعثه فِي عشرين فارسًا وراءهم.
وَقَالَ ابُن أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ
رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ [4] أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّا أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ
ضَرْعٍ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، فَاسْتَوْخَمْنَا الْمَدِينَةَ.
فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِذَوْدٍ وَرَاعٍ [5] ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهَا
فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا. فَانْطَلَقُوا حَتَّى
إِذَا كَانُوا فِي نَاحِيَةِ [الْحَرَّةِ] [6] قَتَلُوا رَاعِيَ رسول
الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذّود، وكفروا [56 أ] بَعْدَ
إِسْلامِهِمْ. فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي طَلَبِهِمْ، فَأَمَرَ فَقَطَعَ أَيْديَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ
وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى
مَاتُوا وَهُمْ كَذَلِكَ.
قَالَ قَتَادَةُ: فَذَكَرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ
فِيهِمْ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ 5: 33
[7] الْآيَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان
__________
[1] هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المحدث الثقة الفقيه. ذكره ابن
سعد في الطبقة الثانية من المدنيين. ترجمته في تهذيب التهذيب (12/ 115)
.
[2] سيرة ابن هشام 4/ 242، طبقات ابن سعد 2/ 89 تاريخ الطبري 3/ 158،
نهاية الأرب 17/ 209، 210، البداية والنهاية 4/ 179، عيون الأثر 2/
108، 109.
[3] العنوان من الطبقات لابن سعد 2/ 93.
[4] عكل: بطن من طابخة من العدنانية، وهو اسم امرأة حضنت بني عوف بن
وائل ابن عبد مناة فغلبت عليهم وسمّوا باسمها. وعرينة: حيّ من قضاعة من
القحطانية (معجم قبائل العرب 2/ 776 و 804) .
[5] في الأصل، ع: بذود وزاد. والتصحيح من صحيح البخاري 5/ 70. والذود:
ثلاثة أبعرة إلى التسعة أو العشرة وقيل فوق ذلك.
[6] سقطت من الأصل، وزدناها من ع والبخاري 5/ 70.
[7] سورة المائدة: من الآية 33.
(2/356)
يَحُثُّ فِي خُطْبَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ
عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [1]
.
وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: مِنْ عُكْلٍ، أَوْ عُرَيْنَةَ.
رَوَاهُ شُعبة، وَهَمَّام، وغيرهما، عَنْ قَتَادة فقال: من عُرَيْنَة،
من غير شَكّ.
وكذلك قَالَ حُمَيْد، وثابت، وعبد العزيز بْن صُهَيْب، عَنْ أنس.
وقال زُهير: سِمَاك بْن حرب، عَنْ معاوية بْن قُرَّةَ، عَنْ أنس: إنَّ
نَفَرًا من عُرَينة أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فبايعوه، وقد وقع في المدينة الموم- وهو البرسام [2]-
فقالوا: هذا الوجع قد وقع يَا رَسُولَ اللَّهِ، فلو أذِنْتَ لنا فرُحنا
إلى الإِبل. قَالَ: فاخرجوا وكونوا فيها. فخرجوا، فقتلوا أحد الراعيين
وذهبوا بالإبل. وجاء الآخر وقد جرح، قال: قد قتلوا صاحبي وذهبوا
بالإِبل.
وعنده شُبَّان [3] من الأنصار قريب من عشرين، فأرسلهم إليهم وبعث معهم
قائفًا [4] يقتصّ أثرهم. فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وَسَمَرَ
أعينهم.
أَخْرَجَهُ مُسْلِم [5] . وقال أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ
أَنَسٍ قَالَ: قدم رَهْط من عُكْلَ فأسلموا فاجْتَوَوا المدينة، فذكره،
وفيه: فلم ترتفع الشمس حتى أُتي بهم،
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي: باب قصّة عكل وعرينة (5/ 70، 71)
وانظر: البداية والنهاية 4/ 179، 180، عيون التواريخ 1/ 253، نهاية
الأرب 17/ 213، 214، الطبقات الكبرى 2/ 93.
[2] الموم أو البرسام: ذات الجنب، وهو التهاب في الغشاء المحيط بالرئة
(المعجم الوسيط) .
والموم فارسية بمعنى الشمع، والبرسام فارسية كذلك مركبة من بر وهو
الصدر وسام أي الالتهاب (أدى شير) .
[3] لفظ مسلم 3/ 1298 «شباب» .
[4] القائف: من يتبع الأثر.
[5] صحيح مسلم (1671) كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والدّيات، باب
حكم المحاربين المرتدّين 3/ 1296- 1298.
(2/357)
فأمر بمسامير فأُحميت لهم، فكواهم [1] وقطع
أيديهم وأرجلهم، ولم يحسمهم [2] وألقاهم فِي الْحَرَّةِ يستسقون فلا
يسقون حتى ماتوا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ [3] .
إسلام أبي العاص مبسوطًا
أسلم أَبُو الْعَاصِ بْن الرَّبِيعِ بْن عَبْد العُزَّى بْن عَبْد شمس
بن عبد مناف ابن قُصَيّ العَبْشَمي، خَتَنِ [4] رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابنته زينب، أمّ أُمامة، فِي وسط سنة
ستٍ. واسمه لقيط، قاله ابن مَعِين والفلّاس. وقال ابن سعد:
اسمه مِقْسَم [5] وأمّه هالة بِنْت خُوَيْلِد خالة زوجته، فهما أبناء
خالة. تزوّج بِهَا قبل المبعث، فولدت لَهُ عليًّا فمات طفلًا، وأُمامة
التي صلّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حاملها وهي
التي تزوّجها عليّ بعد موت خالتها فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وكان
أَبُو العاص يُدْعَى جَرْوٌ البطْحاء، وأُسر يوم بدر، وكانت زينب بمكة.
قَالَ يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير، عن
أبيه، عن عائشة،
__________
[1] هكذا وردت في الأصل، ورواية البخاري: فكحّلهم.
[2] الحسم: قطع العرق ثم كيّه لئلّا يسيل دمه.
[3] صحيح البخاري: كتاب الحدود، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة،
باب لم يسق المحاربون والمرتدّون حتى ماتوا، وباب سمر النّبيّ صلّى
الله عليه وسلّم أعين المحاربين. ومثله في صحيح مسلم، كتاب القسامة،
باب المحاربين والمرتدّين (1671) .
[4] الختن: الصهر.
[5] هكذا في الأصل، ع: مقسم ولم أجده في ابن سعد. وقد اختلف في اسمه
فقيل: لقيط، وهشيم، ومهشم (أو مهشم) والقاسم، وياسر (قال ابن حجر:
وأظنّه محرّفا من ياسم) .
وقال البلاذري في أنساب الأشراف (1/ 397) :
والثبت أنّ اسمه لقيط. انظر عنه: نسب قريش 157، 158 تاريخ خليفة 119،
مشاهير علماء الأمصار رقم 156، جمهرة أنساب العرب لابن حزم 16 و 76 و
78 و 120، أسد الغابة 6/ 185، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 248، 249،
العبر 1/ 15، سير أعلام النبلاء 1/ 330- 335، مجمع الزوائد 9/ 379،
العقد الثمين 7/ 110 و 8/ 66، الإصابة 4/ 121- 123 الاستيعاب 4/ 125،
126.
(2/358)
قَالَتْ: فَبَعَثَتْ فِي فِدَائِهِ بِمَالٍ
مِنْهُ قِلَادَةٌ لَهَا كَانَتْ خَدِيجَةُ أَدْخَلَتْهَا بِهَا.
فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْقِلَادَةَ رق لها وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لَهَا أَسيَرَهَا
وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا فَافْعَلُوا» [1] . فَفَعَلُوا.
فَأَخَذَ عَلَيْهِ عَهْدًا أَنْ يُخَلِّيَ زَيْنَبَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرّا. وقال ابن إسحاق [2] :
فبعث رسول صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا [56 ب] [من الأنصار]
[3] ، فقال: كونا ببطن يأجج [4] حتى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ.
وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ. قال: وكان أبو العاص من رجال قريش
المعدودين مالا وأمانة وتجارة [5] . وكان الإسلام قَدْ فَرَّقَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَيْنَبَ، إِلا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لا يَقْدِرُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ يونس، عَنِ ابْنُ إِسْحَاقَ [6] : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَبِي بَكْر بْن حزم قَالَ: خرج أَبُو العاص تاجرًا إلى الشام،
وكان رجلًا مأمونًا. فكانت معه بضائع لقريش. فأقبل فلقيته سريةٌ
للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم، فاستاقوا عِيرَه وهرب. وقدِموا عَلَى
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أصابوا فقسمه
بينهم. وأتى أَبُو العاص حتى دخل عَلَى زينب فاستجار بِهَا، وسألها أن
تطلب لَهُ من رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردّ
ماله عَلَيْهِ. فَدَعَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ السَّريَّة فقال لهم: إنّ هذا الرجل منا حيث قد علمتم. وقد
أصبتم لَهُ مالًا ولغيره ممن كَانَ معه، وهو فَيْءٌ، فإنْ رأيتم أن
تردّوا عَلَيْهِ فافعلوا، وإنْ كرهتم فأنتم وحقّكم: قَالُوا: بل نردّه
عليه. فردّوا
__________
[1] أخرجه أحمد في مسندة 6/ 276، وأبو داود (2692) من طريق ابن إسحاق،
وصحّحه الحاكم في المستدرك على الصحيحين 3/ 236 وانظر سيرة ابن هشام 3/
58.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 58.
[3] إضافة من نهاية الأرب 17/ 58.
[4] يأجج: مكان من مكة على ثمانية أميال. (معجم البلدان 5/ 424) .
[5] سيرة ابن هشام 3/ 57.
[6] سيرة ابن هشام 3/ 59.
(2/359)
والله عَلَيْهِ ما أصابوا، حتى إنّ الرجل
ليأتي بالشّنَّة، والرجل بالإِداوة [1] وبالجبل. ثُمَّ خرج حتى قدِم
مكة، فأدّى إلى النّاس بضائعهم. حتى إذا فرغ قَالَ: يا معشر قريش، هَلْ
بقي لأحدٍ منكم معي مال؟ قَالُوا: لا فجزاك الله خيرًا. فَقَالَ أما
والله ما معنى أن أسلم قبل أن أقدِم عليكم إلّا تخوُّفًا أن تظنُّوا
أَنّي إنّما أسلمت لأذهب بأموالكم. فإنّي أشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلا
اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله [2] . وأما موسى بْن عُقْبة
فذكر أنّ أموال أَبِي العاص إنّما أخذها أَبُو بَصير فِي الهدنة بعد
هذا التاريخ.
وقال ابن نُمَيْر [3] ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قَالَ قدِم
أَبُو العاص من الشّام ومعه أموال المشركين. وقد أسلمت امرأته زينب
وهاجَرَت. فقيل لَهُ: هَلْ لك أن تُسْلم وتأخذ هذه الأموال التي معك؟
فقال: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي. وكفلت عَنْهُ امرأته أن
يرجع فيؤديّ إلى كلّ ذي حقٍ حقَّه، فيرجع ويُسْلم. ففعل. وما فرَّق
بينهما، يعني النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [4] .
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ الأَنْصَارِيِّ،
عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إِلَيْهَا زَوْجُهَا أَبُو
الْعَاصِ أَنْ خُذِي لِي أَمَانًا مِنْ أَبِيكِ. فَأَطْلَعَتْ رأسها من
باب
__________
[1] الشنّة: القربة لخلقة الصغيرة. والإداوة: إناء صغير من جلد يتّخذ
للماء.
[2] سيرة ابن هشام 3/ 69، 60، نهاية الأرب 17/ 60.
[3] في الأصل: أبو نمير. والتصحيح من ع ومن ترجمته في تهذيب التهذيب
(9/ 282) .
[4] ومن هذا الوجه عند أبي داود (2240) في الطلاق باب: إلى متى تردّ
عليه امرأته إذا أسلم بعدها، والترمذي (1143) في النكاح، باب ما جاء في
الزوجين المشركين يسلم أحدهما.
وروى ابن جميع الصيداوي في معجم الشيوخ 70، 71 رقم 12 من طريق ابن
عباس: «ردّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم زينب ابنته على أبي العاص ابن
الربيع على النكاح الأول بعد ست سنين» .
(2/360)
حُجْرَتِهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصُّبْحِ، فَقَالَتْ: أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا
زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَإِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ. فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّلاةِ قال:
أيّها النّاس إنّي لا علم لي بِهَذَا حَتَّى سَمِعْتُمُوهُ، أَلا
وَإِنَّهُ يُجِيرُ عَلَى النَّاسِ أَدْنَاهُمْ. وَقَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ [1] عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ [57 أ] ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ عَلَى النِّكَاحِ
الأَوَّلِ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ.
وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ
اللَّهِ الْعَرْزَمِيِّ [2]- وَهُوَ ضَعِيفٌ-، عَنْ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهَا بِمَهْرٍ جَدِيدٍ وَنِكَاحٍ
جَدِيدٍ.
قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهَا عَلَى
النِّكَاحِ الأَوَّلِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْعَاصِ رَجَعَ إِلَى
مَكَّةَ مسلما، فلم يشهد مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مَشْهَدًا.
ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فُتُوفِّيَ فِي آخِرِ سَنَةِ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ.
سَرِيَّةٌ عبدِ الله بْن رَوَاحة إلى أُسَيْر بْن زارم فِي شوّال
قِيلَ إنّ سلّام بْن أَبِي الحُقَيْق لما قُتِل أَمَّرَتْ يهود عليهم
أُسَيْر بن رازم [3]
__________
[1] سيرة ابن هشام 3/ 60.
[2] العرزميّ: نسبة إلى عرزم. بطن من فزارة. (اللباب 2/ 334) .
[3] في ع: زارم. وفي ابن هشام 4/ 237 اليسير بن رزام، ويقال ابن رازم.
وفي مغازي الواقدي
(2/361)
فسار فِي غَطَفان وغيرهم يجمعهم لحرب
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فوجَّه رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ رَوَاحة في ثلاثة
سرّا، فسأل عن خبره وغرّته فأخبره بذلك. فقدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره. فندب رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثين رجلًا، فبعث عليهم ابن رَوَاحة.
فقدموا عَلَى أُسَيْر فقالوا: نَحْنُ آمنون نعرض عليك ما جئنا لَهُ؟
قَالَ: نعم، ولي منكم مثل ذَلِكَ. فقالوا: نعم. فقالوا: أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنَا إليك لتخرج
إِلَيْهِ فيستعملُك عَلَى خيبر ويُحسن إليك. فطمع فِي ذَلِكَ فخرج،
وخرج معه ثلاثون من اليهود، مَعَ كلّ رجلٍ رديفٍ من المسلمين.
حتى إذا كانوا بقَرْقَرَة ثِبار [1] ندم أُسَيْر فقال عَبْد الله بْن
أنيسَ- وكان فِي السَرِيَّةٌ-: وأهوى بيده إلى سيفي ففطِنْتُ لَهُ
ودفعت بعِيري وقلت: غدرًا، أي عدوّ الله. فعل ذَلِكَ مرّتين. فنزلت
فسقت بالقوم حتى انفردت إلى أُسَيْر فضربته بالسيف فأندرتُ [2] عامة
فخذه، فسقط وبيده مخرش [3] فضربني فشجّني مأمومة [4] ، ومِلنا عَلَى
أصحابه فقتلناهم، وهرب منهم رَجُل. فقدِمْنا عَلَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لقد نجّاكم الله من القوم
الظّالمين [5] .
__________
[2] / 566 وإمتاع الأسماع للمقريزي: أسير بن زارم. وفي طبقات ابن سعد
2/ 92 «زارم» ، وفي تاريخ الطبري 3/ 155 «تيسير بن رزام» .
[1] كتبت في الأصل بغير إعجام وفي ع: تيار. والتصحيح من معجم البلدان
ووفاء ألوفا في (ثبار) ، وهو موضع على ستة أميال من خيبر. وانظر
الطبقات الكبرى 2/ 92.
[2] ندر الشيء: سقط، وأندرته: أسقطته.
[3] المخرش: المحجن وهو عصا معوجّة الرأس.
[4] الشجّة المأمومة: التي بلغت أمّ الرأس وهي الجلدة التي تجمع
الدماغ.
[5] الطبقات الكبرى 2/ 92، وانظر تاريخ الطبري 3/ 155، وعيون الأثر 2/
111، وسيرة ابن هشام 3/ 237.
(2/362)
قصة غزوة الحديبية وهي عَلَى تسعة أميال من
مكة
خرج إليها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذي
القعدة سنة ستٍ. قاله نافع، وقَتَادة، والزُّهري، وابن إِسْحَاق،
وغيرهم. وعُرْوة [1] فِي مغازية [2] ، رواية أَبِي الأسود.
وَتَفَرَّدَ عَلِيُّ بْنُ مُسْهَرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى
الْحُدَيْبِيَةِ فِي رَمَضَانَ.
وَكَانَتِ الْحُدَيْبِيَةُ فِي شَوَّالٍ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ هُدْبَةَ، عَنْ هَمَّامٍ، ثَنَا قَتَادَةُ،
أَنَّ أَنَسًا أَخْبَرَهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إِلَّا
الْعُمْرَةَ الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ: عُمَرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي
الْقِعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وعمرة من
الجعرانة، حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجّته [3] .
__________
[1] في طبعة القدسي 334 «عروبة» وهو تصحيف.
[2] المغازي 192.
[3] صحيح البخاري: كتاب الحجّ، أبواب العمرة، باب كم اعتمر النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 2/ 198، 199
(2/363)
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ
الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةِ
[57 ب] مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ
[1] قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ مِنْهَا. أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيّ [2] . وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ
[حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ] [3] بْنُ أَبِي أَوْفَى- وَكَانَ قَدْ
شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ- قَالَ: كُنَّا يَوْمَئِذٍ أَلْفًا
وَثَلاثَمِائَةٍ. وَكَانَتْ أَسْلَمُ يَوْمَئِذٍ ثُمْنَ
الْمُهَاجِرِينَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [4] . وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ
فِي صَحِيحِهِ [5] .
وَقَالَ حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي
الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ
لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [6] .
وَخَالَفَهُ الأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا
أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ. اتَّفَقَا أَيْضًا
عَلَيْهِ [7] .
وَكَأَنَّ جَابِرًا قَالَ ذَلِكَ عَلَى التَّقْرِيبِ. وَلَعَلَّهُمْ
كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً كَامِلَةً تَزِيدُ عَدَدًا لَمْ
يَعْتَبِرْهُ، أَوْ خَمْسَ عشرة مائة تنقض عددا لم يعتبره. والعرب
__________
[ () ] وكتاب المغازي، باب غزوة الحديبيّة 5/ 61، 62. وصحيح مسلم
(1253) ، كتاب الحج، باب بيان عدد عمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
[1] ذو الحليفة: قرية بينها وبين المدينة ستّة أميال أو سبعة، وهي
ميقات أهل المدينة. (معجم البلدان 2/ 295) .
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الحديبيّة. (5/ 61، 62) .
[3] سقطت من الأصل ع، واستدركناها من الصحيحين وكتب الرجال.
[4] صحيح مسلم (1857) كتاب الإمارة باب استحباب مبايعة الإمام الجيش
وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة 3/ 1485.
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الحديبيّة 5/ 63.
[6] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الحديبيّة 5/ 63 وصحيح مسلم
(1856) كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام إلخ. (3/ 1484) .
[7] صحيح البخاري وصحيح مسلم في الموضعين السابقين.
(2/364)
تَفْعَلُ هَذَا كَثِيرًا، كَمَا تَرَاهُمْ
قَدِ اخْتَلَفُوا فِي سِنِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلّم، فاعتبروا تَارَةً السَّنَةَ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا وَالَّتِي
تُوُفِّيَ فِيهَا فَأَدْخَلُوهُمَا فِي الْعَدَدِ. وَاعْتَبَرُوا
تَارَةً السِّنِينَ الْكَامِلَةَ وَسَكَتُوا عَنِ الشُّهُورِ
الْفَاضِلَةِ.
وَيُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ: كَمْ كَانَ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ؟
قَالَ: خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. قُلْتُ: إِنَّ جَابِرًا قَالَ:
كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ،
وَهِمَ. هُوَ حَدَّثَنِي أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [1] .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
يَقْولُ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ.
فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَنْتُمْ خَيْرُ أهل الأرض. اتّفقا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عُيَيْنَةَ [2] . وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ
جَابِرٍ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ.
صَحِيحٌ [3] .
وَقَالَ الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ: نَحَرْنَا
عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَبْعِينَ بَدَنَةً، الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ.
قُلْنَا لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَلْفًا
وَأَرْبَعَمِائَةٍ بِخَيْلِنَا وَرَجِلِنَا [4] .
وَكَذَلِكَ قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَمَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ،
وَسَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ،
وَالْمُسَيَّبُ بْنُ حَزْمٍ، مِن رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عن سعيد، عن
أبيه.
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الحديبيّة (5/ 63) .
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الحديبيّة 5/ 63، وصحيح مسلم
(1856) كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش 3/ 1884.
[3] صحيح مسلم (1856) كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش
3/ 1483.
[4] في الأصل: ورجالنا. والتصحيح من ع.
(2/365)
وقال معمر، عن الزهري، عن عروة، عن
الْمِسْوَرِ، وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَالَا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ
عَشْرَةِ مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي
الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ. وَبَعَثَ
بَيْنَ يَدَيْهِ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ يُخْبِرُهُ عَنْ
قُرْيَشٍ. وَسَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ [1]
قَرِيبًا مِنْ عُسْفَانَ أَتَاهُ عَيْنُه الْخُزَاعِيُّ فَقَالَ:
إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ قَدْ
جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ
الْبَيْتِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَشِيرُوا عَلَيَّ. أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيلَ إِلَى ذَرَارِي هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ؟
فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوتُورِينَ وَإِنْ لَجُّوا تكن عنقا [2]
قطعها [58 أ] اللَّهُ. أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ فَمَنْ
صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ: اللَّهُ ورسوله
أعلم، إنّما جئنا معتمرين ولم نجيء لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ مَنْ
حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتَ قَاتَلْنَاهُ. قَالَ: فَرُوحُوا
إِذًا [3] . قَالَ الزُّهري في الحديث: فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض
الطريق، قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن خَالِد
بْن الوليد بالغميم فِي خيلٍ لقُرَيْش طليعةً فخذوا ذات اليمين. فو
الله ما شعر بهم خَالِد حتى إذا هُمْ بقترة الجيش [4] ، فانطلق يركض
نذيرًا [5] لقريش. وسار النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حتى إذا كَانَ بالثنية [6] التي يهبط عليهم منها بركتْ راحلتُه فقال
النّاس: حَلْ حَلْ، فألحت، فقالوا: خلأت
__________
[1] غدير الأشطاط على ثلاثة أميال من عسفان مما يلي مكة (وفاء ألوفا 2/
352) .
[2] العنق: الجماعة من النّاس، أو الكبراء والاشراف منهم. وعبارة
البخاري 5/ 67: «فإن يأتونا كان الله عزّ وجلّ قد قطع عينا من المشركين
وإلّا تركناهم محروبين» . والعين الجاسوس، قال في التاج: أي كفى الله
منهم من كان يرصدنا ويتجسّس أخبارنا.
[3] انظر صحيح البخاري 5/ 67 كتاب المغازي باب غزوة الحديبيّة، ونهاية
الأرب 17/ 220.
[4] في الأصل: حتى إذا هو بصره الجيش. وأثبتنا نصّ البخاري. وقترة
الجيش: غباره.
[5] في الأصل: تدبرا، تصحيف.
[6] هي ثنيّة المرار كما في سيرة ابن هشام 4/ 25.
(2/366)
القصواء خلأت القصواء [1] . قال: فرحوا
إذًا [2] قَالَ الزُّهري: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ما رَأَيْت أحدًا
كَانَ أكثر مشاورة لأصحابه من رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
قَالَ المِسْوَر ومروان فِي حديثهما: فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض
الطريق قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن خَالِد
بْن الوليد بالغميم في خيل لقريش- رجع الحديث إلى موضعه- قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلأت القصواء وما
ذاك لَهَا بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل [3] » . ثُمَّ قَالَ: «والذي
نفسي بيده لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حُرُمات الله إلّا أعطيتهم
إيّاها» . ثُمَّ زجرها فوَثَبَتْ بِهِ. قَالَ: فَعَدل حتى نزل بأقصى
الحُدَيْبية عَلَى ثمد [4] قليل الماء، إنّما يتبرّضه النّاس تبرُّضًا
[5] ، فلم يُلَبِّثْه النّاس أنْ نَزَحُوه، فشكوا إِلَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العطش. فانتزع سهمًا من كِنانته
ثُمَّ أمرهم [أن يجعلوه فيه، فو الله ما زال يجيش لهم بالرّيّ حتى
صدروا] [6] عَنْهُ.
فبينما هُمْ كذلك إذ جاءه بُدَيْل بْن وَرْقاء الخُزَاعي فِي نفرٍ من
خُزاعة، وكانوا عَيْبَة نُصْحٍ [7] لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل تِهَامة. فقال: إنّي تركت كعب ابن لُؤَيّ
وعامر بْن لُؤَيّ نزلوا أعداد [8] مياهِ الحديبيّة، معهم العوذ
__________
[1] حل حل: كلمة زجر لإناث الإبل. وألحت: حرنت. وخلأت النّاقة: إذا
بركت وحرنت من غير علّة فلم تبرح مكانها. والقصواء: لقب ناقة الرسول
صلّى الله عليه وسلّم.
[2] نهاية الأرب 17/ 221.
[3] حابس الفيل: أي حبسها الله عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها.
[4] الثمد: الماء القليل، أو الحفرة في الأرض يكون فيها الماء القليل.
(شرح المواهب 2/ 185) .
[5] يتبرّضه الناس تبرّضا: أي يأخذونه قليلا قليلا. من البرض وهو الماء
القليل: ضد الغمر.
[6] سقطت من الأصل، ع واستدركناها من صحيح البخاري 3/ 178، 179، ونهاية
الأرب 17/ 222، وشرح المواهب 2/ 185 وتاريخ الطبري 2/ 625.
[7] عيبة نصح رسول الله، أي خاصته وأصحاب سرّه.
[8] الأعداد: جمع عد وهو الماء الجاري الّذي له مادة لا تنقطع كماء
العين والبئر.
(2/367)
المطافيل [1] ، وهم مُقاتلوك وصادُّوك عَنِ
البيت، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا
لم نجيء لقتال أحدٍ ولكّنا جئنا معتمرين، وإنّ قُريشًا قد نهكتهم الحرب
وأضرَّتْ بهم فإنْ شاءوا مادَدْتُهُم مدَّةً ويُخَلُّوا بيني وبين
النّاس [2] ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فِيهِ النّاس فعلوا، وإلّا
فقد جَمُّوا [3] ، وإنْ هم أبوا فو الّذي نفسي بيده لأقاتلّنهم عَلَى
أمري هذا حتى تنفرد سالفتي [4] أو ليُنْفِذَنَّ الله أمْرَه. فقال
بُدَيْلٌ: سأبلّغهم ما تَقُولُ. فانطلق حتى أتى قُرَيْشًا فقال: إنّا
قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يَقْولُ قولًا، فإنْ شئتم نعرضه
عليكم فعلْنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا فِي أن تحدّثنا عَنْهُ بشيء.
وقال ذَوُو الرأي منهم: هاتِ ما سَمِعْتُهُ. قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقْولُ
كذا وكذا. فحدّثهم بما قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فقام عُرْوة بْن مَسْعُود الثَّقَفي فقال: أي قوم أَلَسْتُم
بالوالد؟ قالوا:
بلى. قال: ألست بالولد؟ قَالُوا: بلى. قَالَ: هَلْ تتّهموني؟ قَالُوا:
لا.
قَالَ: ألستم تعلمون أنّي استنفرت أهل عُكاظ فلما بلّحوا عليّ [5] [57
ب] جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قَالُوا: بلى. قَالَ: فإنّ هذا قد
عرض عليكم خطّة رشد، فاقبلوها ودعوني آته. قالوا: ائته. فأتاه فجعل
يكلّم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال نحوًا من
قوله لبُدَيْلٍ. فقال: أي مُحَمَّد أرأيت إنْ استأصلت قومَك هَلْ
سَمِعْتُ بأحدٍ من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى
__________
[1] العوذ: الناقة ذات اللبن، والمطافيل: الأمهات اللاتي معها أطفالها،
والمراد أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام ليكون أدعى إلى
عدم الفرار. (شرح المواهب 2/ 187) .
[2] في نهاية الأرب 17/ 223 إضافة «فإن أظهر» وفي شرح المواهب اللدنيّة
2/ 187، 188 «إن شاءوا فإن أظهر» .
[3] جمّوا: استراحوا من جهد الحرب.
[4] السالفة: صفحة العنق، وكنّي بانفرادها عن الموت لأنّها لا تنفرد
عمّا يليها إلّا بالموت، وقيل أراد حتى يفرّق بين رأسي وجسدي (التاج) .
[5] بلّحوا عليّ: أبوا وامتنعوا.
(2/368)
فو الله إني لأرى وجوهًا وأرى أَوْباشا [1]
من النّاس خلقا أن يفرّوا وَيَدعوك.
فقال لَهُ أَبُو بَكْر رَضِيَ الله عَنْهُ: أَمْصَصْ بَظْرَ الّلات [2]
. أنحن نفرّ عَنْهُ ونَدَعُهُ؟ قَالَ: من ذا؟ قَالَ أَبُو بَكْر.
قَالَ: والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أَجْزِك بِهَا
لأجَبْتُك. قَالَ: وجعل يكلّم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، كلّما كلّمه أخذ بلحيته، والمُغيرة بْن شُعبة قائمٌ عَلَى
رَأْسِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ
السيف وعليه المغفر، فكلّما أهوى عُرْوة إلى لحية النَّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ضرب يده بنَعْل السّيف وقال: أخِّرْ يدك.
فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قَالُوا: المغيره بْن شُعبة. فقال: أي غدر،
أوَ لست أسعى فِي غدرتك؟ قَالَ: وكان المغيرة صحب قومًا فِي الجاهلية
فقتلهم وأخذ أموالهم، ثُمَّ جاء فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمّا الإِسلام فأقْبَل، وأما المال فلستُ
منه فِي شيء [3] . ثُمَّ إنّ عُرْوة جعل يَرْمُق صحابة النَّبِيّ
صَلَّى الله عليه وسلّم، فو الله ما تَنَخَّم رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخامةً إلّا وقعت فِي كفّ رجلٍ منهم يدلك
بِهَا وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروه، وإذا توضأ ثاروا يقتتلون
عَلَى وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون [4]
إِلَيْهِ النَّظَرَ تعظيمًا لَهُ. فرجع عُرْوة إلى أصحابه فقال: أي
قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وَفَدتُ عَلَى قَيْصر وكِسْرى
والنَّجاشيّ، والله إنْ رَأَيْت ملكًا قطّ يعظّمه أصحابُه ما يعظّم
أصحابُ محمدٍ محمدًا [5] . والله إنْ تنخّم نُخامةً إلّا وقعت فِي كفّ
رجلٍ منهم فدلك بِهَا وجهه وجلده. وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ
كادوا يقتتلون على
__________
[1] الأوباش: الاخلاط والسّفلة. ومثلها الأوشاب والأشواب، وهما نصّ
البخاري 3/ 179.
[2] جاء في شرح نهاية الأرب 17/ 224 (5) أقام أبو بكر رضي الله عنه
معبود عروة، وهو صنمه اللات مقام أمه لأن عادة العرب الشتم بلفظ الأم،
فأبدله الصدّيق باللات، فنزّله منزلة امرأة تحقيرا لمعبوده.
[3] انظر سيرة ابن هشام 4/ 26، 27، والبداية والنهاية 4/ 166، 167.
[4] يحدّون: يحدّقون.
[5] انظر سيرة ابن هشام 4/ 27، ونهاية الأرب 17/ 225، 226.
(2/369)
وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، ولا
يحدُّون إِلَيْهِ النّظر تعظيمًا له، وإنّه قد عرض عليكم خطّة رُشدٍ
فاقبلوها [1] . فقال رَجُل من بني كِنانة:
دعوني آتِه. فقالوا: ائتِه. فلمّا أشرف عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا فلان وهو من قومٍ يعظِّمون البُدْن [2] ،
فابعثوها لَهُ. فبُعِثَت لَهُ. واستقبله القوم يلبُّون. فلما رَأَى
ذَلِكَ قَالَ: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عَنِ البيت [3]
، فلما رجع إلى أصحابه قَالَ: رَأَيْت البُدْنَ قد قُلِّدت وأشْعِرَت،
فما أرى أن يُصَدُّوا عَنِ البيت. فقام رَجُل منهم يقال لَهُ مِكْرَز
بْن حفص فقال: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قَالَ
النَّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلم الله [49 أ] عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا
مِكْرَز وهو رجلٌ فاجر. فجعل يكلّم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فبينا هُوَ يكلّمه إذ جاء سُهَيْل بْن عَمْرو. قَالَ
مَعمَر: وَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ:
لَمَّا جَاءَ سُهَيْلٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ [4] . قَالَ الزُّهري فِي
حديثه: فجاء سُهَيْلُ بْن عَمْرو فقال: هات اكتب بيننا وبينك كتابًا.
فدعا الكاتبَ فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «أكتُبْ بسم الله الرَّحْمَن الرحيم» . فقال سهيل: أمّا
الرحمن فو الله ما أدرى ما هُوَ، ولكن اكتب [باسمك اللَّهمّ] [5] كما
كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلّا بسم الله الرَّحْمَن
الرحيم. فقال النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكتب
باسمك الّلهمّ» ثُمَّ قَالَ:
«هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ محمدٌ رَسُول اللَّهِ» . فقال سُهَيْل:
والله لو كنّا نعلم أنّك رَسُول اللَّهِ ما صدَدْناك عَنِ البيت ولا
قاتَلْناك، ولكنْ أكتب محمد بن
__________
[1] انظر نهاية الأرب 17/ 226.
[2] البدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة، وهي بالإبل أشبه.
[3] حتى هنا انظر تاريخ الطبري 2/ 626، 627.
[4] تاريخ الطبري 2/ 629.
[5] الإضافة من البداية والنهاية 4/ 168 وسيرة ابن هشام 4/ 28.
(2/370)
عَبْد الله. فقال النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي لَرَسُولُ اللَّهِ وإنْ كذَّبْتُموني، أكتب
مُحَمَّد بْن عَبْد الله.
قَالَ الزُّهري: وذلك لقوله لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حُرُمات الله
إلّا أعطيتهم إيّاها.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى أنْ
تُخَلُّوا بيننا وبين البيت فنطوف. فقال:
والله لا تتحدث العرب أنّا أُخِذْنا ضغطة [1] ، ولكن ذَلِكَ من العام
المقبل.
فكتب. فقال سُهَيْل: عَلَى أنّه لا يأتيك منّا رَجُل وإنْ كَانَ عَلَى
دينك إلّا رَدَدْتَه إلينا. فقال المسلمون: سبحان الله كيف يردّ إلى
المشركين وقد جاء مسلمًا؟ فبينما هُمْ كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن
عمرو [يوسف] [2] فِي قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين
أظْهُر المسلمين. فقال سُهَيْل: وهذا أول ما أقاضيك عَلَيْهِ أن تردّه.
فقال النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّا لم نقض الكتاب
بعد. قال: فو الله إذا لا نصالحك على شيء أبدا. قال النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم:
فأجره لي. قَالَ: ما أَنَا بمُجِيره لك. قَالَ: بلى، فافعل قَالَ: ما
انا بفاعل.
قَالَ مِكْرَز: بلى قد أجرناه. قال أبو جندل: معاشر المسلمين أردُّ إلى
المشركين وقد جئت مُسلِمًا، ألا تَرَوْن ما قد لقيت؟ وكان قد عُذِّب
عذابًا شديدًا فِي الله.
فقال عُمَر: والله ما شَكَكْتُ منذ أسلمتُ إلّا يومئذٍ [3] ، فأتيت
النَّبِيّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، ألستَ نبيَّ الله؟ قَالَ: «بلى» قلت: ألسنا على الحق وعدونا
على الباطل؟ قَالَ: «بلى» قلت: فلم نُعْطي الدَّنِيَّة فِي ديننا إذًا؟
قَالَ: «إنّي رَسُول اللَّهِ ولست أعصيه وهو ناصري» . قلت: أو لست
__________
[1] الضغطة: الضّيق والإكراه والشدّة.
[2] ليست في الأصل: وأثبتناها من ع. والبداية والنهاية 4/ 169.
[3] في المغازي للواقدي 2/ 607 «ارتبت ارتيابا لم أرتبه منذ أسلمت» .
(2/371)
كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيتَ فنطوف
حقًّا؟ قال: «بلى، أفأخبرتك [1] أنّك تأتيه العام؟ قلت: لا. قَالَ:
فإنّك آتيه ومُطَوِّف بِهِ. قَالَ: فأتيت أَبَا بَكْر فقلت: يا أَبَا
بَكْر أليس هذا نبيّ الله حقًا؟ قَالَ: بلى. قلت: أَلَسنا عَلَى الحقّ
وعدوّنا عَلَى الباطل؟ قَالَ: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟
قال: أيّها الرجل إنّه رَسُول اللَّهِ وليس يعصي الله [59 ب] وهو
ناصره، فاستمسك بغرزه [2] حتى تموت. فو الله إنّه لَعَلَى الحقّ. قلت:
أَوَ لَيْسَ كَانَ يحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟ قَالَ: بلى
فأخبرك أنّك تأتيه العام؟ قلت: لا. قَالَ: فإنّك آتيه ومُطَوِّف بِهِ
[3] .
قَالَ: الزّهري. قال عمر: فعملت ملك أعمالًا.
فلما فرغ من قضيّة الكتاب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال: فو الله ما قام
منهم رجلٌ حتى قَالَ ثلاث مرّات. فلما لم يقم منهم [أحد] [4] ، قام
فدخل عَلَى أَم سَلَمَةَ فذكر لَهَا ما لقي من النّاس. فقالت: يا نبيّ
الله أتحبّ ذَلِكَ؟ خرج ثُمَّ لا تكلّم أحدًا كلمةً حتى تنحر بُدْنك،
ثُمَّ تدعو بحالقك فيحلقك. فقام فخرج فلم يكلّم أحدًا حتى فعل ذَلِكَ.
فلما رأوا ذَلِكَ قاموا فنحروا وجعل بعضُهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم
يقتل بعضًا غَمًّا. ثُمَّ جاء نسوةٌ مؤمنات، وأنزل الله: إِذا جاءَكُمُ
الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ 60: 10 حتى بلغ وَلا
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ 60: 10
__________
[1] في الأصل، ع: أنا أخبرتك. ولعلّ الوجه ما أثبتناه هو عبارة البخاري
في بعض الأصول وفي نهاية الأرب 17/ 230 «هل أخبرتك» .
[2] الغرز: الركاب. واستمسك بغرزة أي اعتلق به واتّبعه ولا تخالفه.
[3] صحيح البخاري 3/ 182.
[4] سقطت من الأصل، وزدناها من ع والبخاري 3/ 182 والبداية والنهاية 4/
176 ونهاية الأرب 17/ 233.
(2/372)
الْكَوافِرِ 60: 10 [1] . فطلّق عمر يومئذ
امرأتين كانت لَهُ فِي الشِّرْك، فتزوّج إحداهما معاويةُ، والأخرى
صَفْوان بْن أُمّية [2] .
ثُمَّ رجع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
المدينة، فجاءه أَبُو بصير [3] ، رجلٌ من قريش، وهو مُسْلِم، فأرسلوا
فِي طلبه رجلين فقالوا: العهد الَّذِي جعلت لنا. فدفعه إلى الرجلين،
فخرجا بِهِ حتى بلغا بِهِ ذا الحُلَيْفة، فنزلوا يأكلون من تمرٍ لهم.
فقال أَبُو بصير لأحد الرَّجلين. والله إنّي لأرَى سيفك هذا جيّدًا
حَدًّا. فاسْتَلَّه الآخر فقال: أجل [4] ، والله إنّه لجيّد، لقد
جرَّبتُ بِهِ ثُمَّ جرَّبت. فقال أَبُو بصير: أرني إِلَيْهِ. فأمكنه
منه فضربه حتى بَرَد. وفرّ الآخر حتى بلغ المدينة فدخل المسجد يعدو،
فقال للنّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُتل والله صاحبي
وإنّي لَمَقْتُول. قَالَ: فجاء أَبُو بَصِير فقال: يا نبيّ الله قد
أوفى [الله] [5] ذمَّتك، والله قد رَدَدْتني إليهم ثُمَّ أنجاني الله
بسيفهم. فقال النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ويْلُ أُمِّهِ مِسْعَرُ حَرْبٍ [6] لو كَانَ لَهُ أحد» . فلما سَمِعَ
ذَلِكَ عرف أَنَّهُ سيردّه إليهم. فخرج حتى أتى سيف البحر. وينفلت [7]
منهم أَبُو جَنْدَل بْن سُهَيْل فلحق بابي بصير، فلا يخرج من قريش
رَجُل قد أسلم إلّا لحِق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة.
__________
[1] سورة الممتحنة: من الآية 10.
[2] صحيح البخاري 3/ 182.
[3] قال النويري في نهاية الأرب 17/ 244: اختلف في اسمه، فقيل عبيد بن
أسيد بن جارية، وقال ابن إسحاق: عتبة بن أسيد بن جارية، وعن أبي معشر
قال: اسمه عتبة بن أسيد بن جارية بن أسيد.
[4] في الأصل، ع: الرجل وأثبتنا نصّ البخاري 3/ 183.
[5] زيادة من البخاري 3/ 183 يقتضيها السياق.
[6] المسعر: موقد نار الحرب. يقال هو مسعر حرب إذا كان يؤرثها، أي تحمى
به الحرب. أما عبارة ابن هشام 4/ 31 فهي «محش حرب» وتاريخ الطبري 2/
639.
[7] في طبعة القدسي 344 «ينفتل» والتصويب من صحيح البخاري 3/ 183.
(2/373)
قال: فو الله لا يسمعون بعيرٍ لقريش خرجت
[1] إلى الشام إلّا اعترضوا لَهَا فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش
إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشدُه الله [2] والرَّحِم لما أرسل
إليهم، فمن أتاه منهم فهو آمن. فأرسل النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم فأنزل: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ 48: 24 حتى بلغ حَمِيَّةَ
الْجاهِلِيَّةِ 48: 26 [3] . وكانت حَمِيَّتُهم أنَّهم لم يُقرُّوا
بنبيّ الله ولم يُقِرُّوا ببسم الله الرَّحْمَن الرحيم، وحالوا بينهم
وبين الموت. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ، عَنِ الْمُسْنِدِي، عَنْ عَبْد
الرزّاق، عَنْ مَعْمَر، بطُوله [4] .
وَقَالَ قُرَّةُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صلّى الله [60 أ] عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ يَصْعَدِ
الثَّنِيَّةَ، ثِنَّيةَ الْمُرَارِ [5] ، فَإِنَّهُ يُحَطُّ عَنْهُ مَا
حُطَّ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَعِدَ خَيْلُ
بَنِي الْخَزْرَجِ. ثُمَّ تَبَادَرَ النَّاسُ بَعْدُ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كلُّكُمْ مَغْفُورٌ لَهُ
إِلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ. فَقُلْنَا:
تعالى يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: وَاللَّهِ لَأَنْ
أَجِدَ ضَالَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي
صَاحِبُكُمْ. وَإِذَا هُوَ رَجُلٌ يَنْشُدُ ضَالَّةً.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [6] . وَقَالَ [7] عُبَيْدُ [8] اللَّهِ بْنُ
مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ
قَالَ: تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كان فتح
مكة فتحا، ونحن نعدّ
__________
[1] العبارة عند البخاري «بعير خرجت لقريش إلى الشام» .
[2] هكذا في الأصل، وعند البخاري «باللَّه» .
[3] سورة الفتح: الآيات 24- 26.
[4] صحيح البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل
الحرب وكتابة الشروط 3/ 178- 183.
[5] ثنيّة المرار: من نواحي مكة وهي مهبط الحديبيّة (المغانم المطابة:
85) .
[6] صحيح مسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم. رقم (2880) 4/ 2144،
2145.
[7] في الأصل: وقال خ. وأحسبها مقحمة فليس هنا مكانها.
[8] في الأصل، ع: عبد الله والتصحيح من صحيح البخاري 5/ 62 وتهذيب
التهذيب (7/ 50) .
(2/374)
الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ. كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَالْحُدَيْبِيَةُ، بِئْرٌ،
فَنَزَحْنَاهَا فَمَا تَرَكْنَا [1] فِيهَا قَطْرةً. فَبَلَغَ ذَلِكَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهَا فَجَلَسَ
عَلَى شَفِيرِهَا ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ مِنْهَا
فَتَوَضَّأَ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَدَعَا ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا
فَتَرَكَهَا [2] غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ إِنَّهَا أَصْدَرَتْنَا [3]
نَحْنُ وَرِكَابَنَا. أَخْرَجَهُ خ [4] .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سلمة بن الأكوع،
عن أبيه قال:
قدمنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْحُدَيْبِيَةَ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَعَلَيْهَا
خَمْسُونَ شَاةً مَا تَرْوِيهَا. فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَبَاهَا [5] ، فَإِمَّا دَعَا
وَإِمّا بَزَقَ فِيهَا فَجَاشَتْ فَسَقَتْنَا وَأُسْقِينَا. أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ [6] .
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [7] : حَدَّثَنِي
الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ مِسْوَرٍ، وَمَرْوَانُ بْنُ
الْحَكَمِ أَنَّهُمَا قَالا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُ زِيَارَةَ
الْبَيْتِ، لا يُرِيدُ قِتَالا. وَسَاقَ مَعَهُ لِلْهَدْيِ سَبْعِينَ
بَدَنَةً، وَكَانَ النَّاسُ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، فَكَانَتْ كُلُّ
بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةِ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [8] : وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
فِيمَا بَلَغَنِي يَقُولُ: كُنَّا أَصْحَابَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ مِائَةً.
قلت: قد ذكرنا عَنْ جماعةٍ من الصّحابة كقول جابر.
__________
[1] عبارة البخاري «فلم نترك» .
[2] عند البخاري «فتركناها» .
[3] عند البخاري «أصدرنا ما شئنا» .
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الحديبيّة 5/ 62.
[5] الجبا: ما حول البئر، أو الحوض الّذي يجيء فيه الماء، وقيل ما حول
الحوض. ولفظ مسلم «جبا الركيّة» 3/ 1433.
[6] صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة قرد وغيرها. لفظه:
«فسقينا واستقينا» .
(1807) - ج 3/ 1433.
[7] سيرة ابن هشام 4/ 25.
[8] السيرة 4/ 25.
(2/375)
ثُمَّ ساق ابن إِسْحَاق، حديث الزُّهري
بطُوله، وفيه ألفاظٌ غريبة، منها، وجعل عُرْوَة بن مَسْعُود يكلّم
النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمُغيرَةُ واقفٌ عَلَى
رَأْسِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الحديد.
قَالَ: فجعَلَ يقرع يد عُرْوَةَ إذا تناول لحيَةَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقول: أكفُفْ يدك عَنْ لحية [1]
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [قَبْلَ] [2] أن لَا
تصل إليك. فيقول عُرْوَة: وَيْحك ما أفَظَّكَ وأغلظَكَ. قال:
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ عُرْوَة: من هذا يا مُحَمَّد؟ قَالَ: هذا ابن أخيك المُغِيرة
بْن شُعبة. قال: أي غدر، وهل غسلت سوأتك إلّا بالأمس؟ قَالَ ابن هشام
[3] : أراد عُرْوَة بقوله هذا أنّ المُغيرة قبْل إسلامه قتل ثلاثة عشر
رجلًا من بني مالك من [4] ثقيف، فتهايج [5] الحيّان من ثقيف [بنو مالك]
[6] المقتولين، والأحلاف رَهط المقتولين، والأحلاف رَهط المُغيرة [60
ب] ، فَوَدَى عُرْوَة المقتولين ثلاث عشرة دِيَة، وأصلح الأمر.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: ثنا أَبُو الأَسْوَدِ، قال عروة: [و] [7]
خرجت قُرَيْشٌ مِنْ مَكَّةَ، فَسَبَقُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَلْدَحٍ [8] وَإِلَى الْمَاءِ، فَنَزَلُوا
عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ سُبِقَ نَزَلَ عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ
فِي حَرِّ شَدِيدٍ وَلَيْسَ بِهَا إِلا بِئْرٌ وَاحِدَةٌ، فَأَشْفَقَ
الْقَوْمُ مِنَ الظَّمَإِ وَهُمْ كَثِيرٌ، فَنَزَلَ فِيهَا رِجَالٌ
يَمْتَحُونَهَا، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ فِي الدَّلْوِ وَمَضْمَضَ
فَاهُ ثم
__________
[1] في السيرة «وجه» بدل «لحية» .
[2] ليست في الأصل، ع، وزدناها من سيرة ابن هشام.
[3] السيرة 4/ 27.
[4] في الأصل، ع: بن والتصحيح من سيرة ابن هشام (4/ 27) .
[5] في طبعة القدسي 347 «فمتهايج» .
[6] زيادة من السيرة.
[7] زيادة من ع.
[8] بلدح: واد قبل مكة من جهة المغرب (معجم البلدان 1/ 480) .
(2/376)
مَجَّ فِيهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُصَبَّ فِي
الْبِئْرِ، وَنَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَأَلْقَاهُ فِي
الْبِئْرِ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَفَارَتْ بِالْمَاءِ حَتَّى
جَعَلُوا يَغْتَرِفُونَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْهَا، وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى
شَفَتِهَا. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَلَكَ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي بَلَغَهُ أَنَّ قُرَيْشًا
بِهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [1] : فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ، أَنَّ رَجُلا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَسَلَكَ بِهِمْ طَرِيقًا
وَعْرًا «أرجل [2] بَيْنَ [3] شِعَابٍ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهُ
وَقَدْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَفْضَوْا إِلَى أَرْضٍ
سَهْلَةٍ عِنْدَ مُنْقَطَعِ الْوَادِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قولوا «أستغفر اللَّهَ وَنَتُوبُ
إِلَيْهِ» فَقَالُوا: ذَلِكَ. فَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنَّهَا
لَلْحِطَّةُ [4] الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ
يَقُولُوهَا» . قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ [5] : فأمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم النَّاسَ فَقَالَ:
«اسْلُكُوا ذَاتَ الْيَمِينِ بَيْنَ ظَهْرَيِ المحمص [6] فِي طَرِيقٍ
تُخْرِجُهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْمُرَارِ، مَهْبِطِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ
أَسْفَلِ مَكَّةَ» فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ قَتَرَةَ الْجَيْشِ قَدْ
خَالَفُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ رَكَضُوا رَاجِعِينَ إِلَى قُرَيْشٍ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، وَغَيْرُهُ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي
الْجَعْدِ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَ الشَّجَرَةِ؟
قَالَ: كنّا ألفا وخمس مائة: وذكر عطشا
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 25.
[2] في الأصل: أحزل. تصحيف والتصحيح من السيرة. وأجرل: صلب غليظ. يقال:
أرض جرلة أي فيها حجارة وغلظ. والجرول الأرض ذات الحجارة، أو هي
الحجارة ذاتها.
[3] في الأصل: من. والتصحيح من سيرة ابن هشام (4/ 25) .
[4] الحطّة: من قوله تعالى لبني إسرائيل وَقُولُوا حِطَّةٌ 2: 58 أي
احطط عنّا خطايانا.
[5] السيرة 4/ 25.
[6] هكذا في الأصل، ع، ورواية ابن هشام في السيرة، الحمش 4/ 25.
(2/377)
أَصَابَهُمْ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ فِي تَوْرٍ [1] فَوَضَعَ
يَدَهُ فِيهِ، فَجَعَلَ الْمَاءَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ
كَأَنَّهُ الْعُيُونُ، فَشَرِبْنَا وَوَسِعَنَا وَكَفَانَا [2] ،
وَلَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُصَيْنٍ [3]
.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ نُبَيْحٍ
الْعَنَزِيِّ قَالَ: قال جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ: غَزَوْنَا أَوْ
سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ فِي
الْقَوْمِ مِنْ طَهُورٍ؟
فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْعَى بِإِدَاوَةٍ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ لَيْسَ
فِي الْقَوْمِ مَاءٌ غَيْرُهُ، فَصَبَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَدَحٍ ثُمَّ تَوَضَّأَ، ثُمَّ
انْصَرَفَ وَتَرَكَ الْقَدَحَ. قَالَ: فَرَكِبَ النَّاسُ ذَلِكَ
الْقَدَح وَقَالُوا: تَمَسَّحُوا تَمَسَّحُوا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكْمُ» ، حِينَ
سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ. قَالَ: فَوَضَعَ كَفَّهُ فِي الْمَاءِ
وَالْقَدَحِ وَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ» . ثُمَّ قَالَ: «أسبغوا
الوضوء» . فو الّذي ابتلاني ببصري لقد رأيت العيون [61 ب] عُيُونَ
الْمَاءِ تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَرْفَعْهَا حَتَّى تَوَضَّئُوا
أَجْمَعُونَ. رَوَاهُ مُسَدَّدٌ عَنْهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ
عَمَّارٍ الْعِجْلِيُّ، ثَنَا إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في غزوة، فَأَصَابَنَا جَهْدٌ، حَتَّى هَمَمْنَا أَنْ
نَنْحَرَ بَعْضَ ظَهْرِنَا. فَأَمَرَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَمَعْنَا مَزَاوِدَنَا [4] فَبَسَطْنَا لَهُ
نِطَعًا [5] ، فَاجْتَمَعَ زاد القوم على النّطع. فتطاولت لأحرزكم هو؟
فحزرته كربضة العنز [6] ونحن
__________
[1] التور: إناء تشرب فيه العرب (لسان العرب- مادة تور) .
[2] في طبقات ابن سعد 2/ 98 زيادة «قال: قلت كم كنتم؟ قال:» .
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الحديبة 5/ 63 وانظر الطبقات
الكبرى 2/ 98.
[4] المزاود: جمع مزود وهو الوعاء الّذي يجعل فيه الزاد.
[5] النّطع: البساط أو السّفرة من الأديم.
[6] ربضة العنز (بفتح الراء وكسرها) : أي قدر جسمها إذا ربضت.
(2/378)
أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ:
فَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ حَشَوْنَا جُرُبَنَا.
ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ
مِنْ وَضُوءٍ؟ فَجَاءَ رَجُلٌ بِإِدَاوَةٍ لَهُ، فِيهَا نُطْفةٌ
فأفرغها في قدح. فتوضّأنا كلّنا، ندغفقه [1] دغفقة، أَرْبَعَ عَشْرَةَ
مِائَةً. قَالَ: ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَقَالُوا:
هَلْ مِنْ طَهُورٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «فَرِغَ الْوُضُوءُ» .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [2] . وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لما رجع رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ كَلَّمَهُ بَعْضُ
أَصْحَابِهِ فَقَالُوا: جَهَدْنَا وَفِي النَّاسِ ظَهْرٌ [3]
فَانْحَرْهُ. فَقَالَ عُمَرُ: لا تَفْعَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ
النَّاسَ إِنْ يَكُنْ مَعَهُمْ بَقِيَّةُ ظَهْرٍ أَمْثَلَ. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْسُطُوا
أَنْطَاعَكُمْ وَعَبَاءَكُمْ. فَفَعَلُوا.
ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ بَقِيَّةٌ مِنْ زَادٍ وَطَعَامٍ
فَلْيَنْثُرْهُ. وَدَعَا لَهُمْ ثُمَّ قَالَ: قَرِّبُوا
أَوْعِيَتَكُمْ. فَأَخَذُوا مَا شَاءَ اللَّهُ. يُحَدِّثُهُ نَافِعُ
بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ مَرَّ [الظَّهْرَانِ] [4] فِي صُلْحِ قُرَيْشٍ
قَالَ أَصْحَابُهُ: لَوِ انْتَحَرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ
ظُهُورِنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لُحُومِهَا وَشُحُومِهَا وَحَسَوْنَا مِنَ
الْمَرَقِ أَصْبَحْنَا غَدًا إِذَا عَدَوْنَا عَلَيْهِمْ وَبِنَا
جُمَامٌ [5] . قَالَ: [لا] [6] ، وَلَكِنِ ائْتُونِي بِمَا فَضَلَ مِنْ
أَزْوَادِكُمْ. فَبَسَطُوا أَنْطَاعًا ثُمَّ صَبُّوا عَلَيْهَا فُضُولَ
أَزْوَادِهِمْ. فَدَعَا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بِالْبَرَكَةِ، فَأَكَلُوا حَتَّى تَضَلَّعُوا شِبَعًا، ثُمَّ
لَفَّفُوا فُضُولَ مَا فَضَلَ مِنْ أَزْوَادِهِمْ فِي جُرُبِهِمْ.
__________
[1] دغفق الماء: إذا صبّه كثيرا. (لسان العرب- دغفق) .
[2] صحيح مسلم (1729) : كتاب اللّقطة، باب استحباب خلط الأزواد إذا
قلّت والمؤاساة فيها.
[3] الظهر: الإبل التي يحمل عليها وتركب. (لسان العرب- ظهر) .
[4] سقطت من الأصل وأثبتناها من ع.
[5] الجمام: الراحة.
[6] سقطت من الأصل.
(2/379)
[وَقَالَ] [1] ، مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ
[بْنِ عَبْدِ اللَّهِ] [2] بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتْ
صَلاةُ الْعَصْرِ وَالْتَمَسُوا الْوُضُوءَ، فَلَمْ يَجِدُوهُ.
فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ
يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ. قَالَ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ
تَحْتِ أَصَابِعِهِ. فَتَوَضَّأَ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ
عِنْدِ آخِرِهِمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [3] .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: ثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا بِمَاءٍ فَأُتِيَ
بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ [4] فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَتَوَضَّئُونَ. فَحَزَرْتُ
مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ [5] إِلَى الثَّمَانِينَ مَنْ تَوَضَّأَ
مِنْهُ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ
أَصَابِعِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [6] .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ: نَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
حَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَقَامَ مَنْ كَانَ قَرِيبَ الدَّارِ إلى أهله
يتوضّأ [61 ب] وَبَقِيَ قَوْمٌ. فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِخْضَبٍ [7] مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ،
فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ فَتَوَضَّأَ
الْقَوْمُ. قُلْنَا: كَمْ هُمْ؟ قَالَ: ثَمَانُونَ وَزِيَادَةٌ،
أَخْرَجَهُ البخاري [8] . وجاء أنّهم كانوا بقباء.
__________
[1] ليست في الأصل، وزدناها من ع.
[2] زيادة في اسمه من البخاري ومن ترجمته في تهذيب التهذيب (1/ 239) .
[3] صحيح البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوّة في الإسلام، وصحيح
مسلم (2279) كتاب الفضائل، باب في معجزات النّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم.
[4] رحراح: ويقال له رحرح، وهو الواسع القصير الجدار.
[5] عند مسلم «الستين» .
[6] صحيح البخاري: كتاب الوضوء، باب الوضوء من التور 1/ 57، 58 وصحيح
مسلم (2279) كتاب الفضائل، باب في معجزات النّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم.
[7] المخضب: إناء يشبه الإجّانة التي تغسل فيها الثياب.
[8] صحيح البخاري: كتاب الوضوء، باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح
والخشب والحجارة (1/ 57) .
(2/380)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ بِالزَّوْرَاءِ [1] [مَعَ أَصْحَابِهِ] [2]
يَتَوَضَّئُونَ. فَوَضَعَ كَفَّهُ فِي الْمَاءِ، فَجَعَلَ الْمَاءَ
يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّئُوا. فَقُلْنَا
لِأَنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: زُهَاءُ ثَلَاثِ مِائَةٍ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [3] ، وَالْبُخَارِيُّ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ [4] ،
وَالزَّوْرَاءُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ السُّوقِ وَالْمَسْجِدِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ الرَّحْمَنِ المُقْرِيُّ: ثنا عَبْدُ الرحمن بن
زياد، حدّثني زياد ابن نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيُّ، سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ
الْحَارِثِ الصُّدَائِيَّ [5] قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فذكر حديثا فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلا مِنْهُ:
فَوَضَعَ كَفَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَاءِ
فَرَأَيْتُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ عَيْنًا تَفُورُ.
فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَوْلا أَنْ أَسْتَحْيِيَ مِنْ رَبِّي لَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ ضَعِيفٌ [6] .
وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى الْبَرَكَةِ فِي الْمَاءِ غَيْرَ
مَرَّةٍ.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ: عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ
عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
__________
[1] الزوراء: موضع عند سوق المدينة قرب المسجد (معجم البلدان 2/ 156) .
[2] زيادة يقتضيها السياق، ونص عبارة صحيح مسلم: «أَنَّ نَبِيَّ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بالزّوراء» .
[3] صحيح مسلم (2279) كتاب الفضائل، باب في معجزات النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم.
[4] صحيح البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النّبوّة في الإسلام.
[5] الصّدائي: بضم الصاد وفتح الدال المهملتين. نسبة إلى صدا، وهو من
مذحج، وهي قبيلة من اليمن. اللباب 2/ 236.
[6] يعني عبد الرحمن بن زياد الوارد في السند. وهو عَبْد الرحمن بْن
زياد بْن أنعم الإفريقي القاضي.
قال عنه ابن حجر: «الحقّ فيه أنّه ضعيف لكثرة روايته المنكرات وهو أمر
يعتري الصالحين» (تهذيب التهذيب 6/ 173) ، وانظر المغني في الضعفاء
للذهبي حيث قال عنه: «مشهور جليل» (2/ 280) والضعفاء الكبير للعقيليّ
2/ 332 رقم 927، وأحوال الرجال للجوزجانيّ 153 رقم 270، والضعفاء
والمتروكين للدار للدّارقطنيّ 119 رقم 337.
(2/381)
قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَسْمَعُ
تَسْبِيحَ الطَّعَامِ.
وَأُتِيَ بِإِنَاءٍ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ
أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: حَيَّ عَلَى
الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ. حَتَّى
تَوَضَّأْنَا كُلُّنَا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [1] . وَقَالَ أَبُو
كُدَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، [عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ] [2] قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فجعل أصابعه فِي فَمِ
الإِنَاءِ وَفَتَحَ أَصَابِعَهُ، فَرَأَيْتُ الْعُيُونَ تَنْبُعُ مِنْ
بَيْنِ أَصَابِعِهِ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: ثنا أَبُو الأَسْوَدِ قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ
[3] فِي نُزُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْحُدَيْبِيَةِ: فَزِعَتْ قُرَيْشٌ لِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ،
فَأَحَبَّ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَجُلا. فَدَعَا عُمَرَ
لِيَبْعَثَهُ فَقَالَ: إِنِّي لا آمَنُهُمْ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ
مِنْ بَنِي كَعْبٍ يَغْضَبُ لِي، فَأَرْسِلْ عُثْمَانَ فَإِنَّ
عَشِيرَتَهُ بِهَا. فَدَعَا عُثْمَانَ فَأَرْسَلَهُ وَقَالَ:
أَخْبِرْهُمْ أَنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالٍ، وَادْعُهُمْ إِلَى
الإِسْلامِ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ رِجَالا بِمَكَّةَ مُؤْمِنِينَ
وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَيُبَشِّرُهُمْ
بِالْفَتْحِ. فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ فَمَرَّ عَلَى قُرَيْشٍ
بِبَلْدَحٍ. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ: بَعَثَنِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ
لأَدْعُوَكُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَيُخْبِرُكُمْ أَنَّا لَمْ نَأْتِ
لِقِتَالٍ وَإِنَّمَا جِئْنَا عَمَّارًا.
فَدَعَاهُمْ عُثْمَانُ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: قَدْ سَمِعْنَا مَا تَقُولُ فَانْفُذْ
لِحَاجَتِكَ. وَقَامَ إِلَيْهِ أبان بن سعيد بن العاص فرحّب بن
وَأَسْرَجَ فَرَسَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ عُثْمَانَ فَأَجَارَهُ،
وَرَدَفَهُ أَبَانٌ حَتَّى جَاءَ مَكَّةَ. ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا
بَعَثُوا بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَالصُّلْحَ.
وَذَكَرَ أَنَّهُمْ أَمِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَزَاوَرُوا.
فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ، وَطَوَائِفُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي
الْمُشْرِكِينَ، إذ رمى رجل رجلا
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النّبوّة في الإسلام.
[2] زيادة من ع.
[3] المغازي 192، 193.
(2/382)
من الفريق [62 أ] الآخَرِ. فَكَانَتْ
مُعَارَكَةٌ، وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ.
وَصَاحَ الْفَرِيقَانِ وَارْتَهَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ
مِنْ فِيهِمْ، فَارْتَهَنَ الْمُسْلِمُونَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو
وَغَيْرُهُ، وَارْتَهَنَ الْمُشْرِكُونَ عُثْمَانُ وَغَيْرُهُ [1] .
وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْبَيْعَةِ. وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا إِنَّ الْقُدُسَ قَدْ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِالْبَيْعَةِ،
فَاخْرُجُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ فَبَايِعُوا. فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
تَحْتِ الشَّجْرَةِ، فَبَايَعُوهُ عَلَى أَنْ لا يَفِرُّوا أَبَدًا [2]
.
فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَفِيهَا: فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ
وَهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ عُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ: خَلَصَ عُثْمَانُ مِنْ بَيْنِنَا إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ
بِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَا أَظُنُّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ وَنَحْنُ مَحْصُورُونَ» . قَالُوا:
وَمَا يَمْنَعُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ خَلَصَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ
ظَنِّي بِهِ أَنْ لا يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ حَتَّى يَطُوفَ مَعَنَا» .
فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ عُثْمَانُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: اشْتَفَيْتَ
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ؟ فَقَالَ: بئس
ما ظننتم بي، فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ مَكَثْتُ بِهَا مُقِيمًا
سَنَةً وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمٌ
بِالْحُدَيْبِيَةِ مَا طُفْتُ بِهَا حَتَّى يَطُوفَ بِهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَقْد دَعَتْنِي
قُرَيْشٌ إِلَى الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَأَبَيْتُ. وَقَالَ
الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [3] : فَحَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ:
لا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ. فَدَعَا النَّاسَ إِلَى
الْبَيْعَةِ. فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.
فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: بَايَعَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَوْتِ، وَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ:
لَمْ يُبَايِعْنَا عَلَى الْمَوْتِ وَلَكِنْ بَايَعَنَا عَلَى أَنْ لا
نَفِرَّ.
__________
[1] انظر سيرة ابن هشام 4/ 27.
[2] السيرة 4/ 28.
[3] السيرة 4/ 28.
(2/383)
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [1]
: حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ عُثْمَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى
وَقَالَ: هَذِهِ لِي وَهَذِهِ لِعُثْمَانَ إِنْ كَانَ حَيًّا: ثُمَّ
بَلَغَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَرَجَعَ عُثْمَانُ: وَلَمْ
يَتَخَلَّفْ عَنْ بَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَحَدٌ إِلا الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ.
قَالَ جَابِرٌ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ لاصِقًا
بِإِبْطِ نَاقَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قد ضَبَأَ [2] إِلَيْهَا يَسْتَتِرُ بِهَا مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ الْبَجَلِيُّ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ- وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ قَالَهُ النَّسَائِيُّ [3]-
عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ كَانَ
عُثْمَانُ قَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ. فَبَايَعَ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَةِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى
فَكَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعُثْمَانَ خَيْرًا مِنْ أَيْدِيهِمْ لأَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ
عُيَيْنَةَ: ثنا الزّبير، سمع جابرا [62 ب] يَقُولُ: لَمَّا دَعَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى
الْبَيْعَةِ وَجَدْنَا رَجُلا مِنَّا يُقَالُ لَهُ الْجَدُّ بْنُ
قَيْسٍ مُخْتَبِئًا تَحْتَ إِبْطِ بَعِيرٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ
حَدِيثِ ابن جريج، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَبِهِ:
قَالَ لَمْ نُبَايِعِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لا نَفِرَّ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ [4] .
وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ،
وَقَالَ: فَبَايَعْنَاهُ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آخِذٌ بيده
تحت الشجرة، وهي سمرة [5] .
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 28 وانظر نهاية الأرب 17/ 227.
[2] ضبأ: لجأ واختبأ (تاج العروس 1/ 351) .
[3] الضعفاء والمتروكين 388 رقم 123 وانظر الضعفاء الكبير للعقيليّ 1/
257 رقم 314، وميزان الاعتدال 1/ 576 رقم 2187، والمغني في الضعفاء 1/
184 رقم 1664.
[4] صحيح مسلم (1856) كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش
عند إرادة القتال.
[5] صحيح مسلم (1856) كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش
عند إرادة القتال.
(2/384)
وَقَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنِ
الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَعْرَجِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ
قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ الشَّجَرَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النَّاسَ وَأَنَا رَافِعٌ
غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
مِائَةً. وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ
عَلَى أَنْ لا نَفِرَّ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [1] .
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: ثنا ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ
قَالَ: لَمَّا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ كَانَ أَوَّلَ مَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ
أَبُو سِنَانٍ الأَسْدِيُّ فَقَالَ: أَبْسِطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلامَ
تُبَايِعُنِي؟ قَالَ: [عَلَى] [2] مَا فِي نَفْسِكَ. وَقَالَ مَكِّيُّ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو عَاصِمٍ- وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنْ زَيْدِ
بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: بَايَعْتُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ. فَلَمَّا خَفَّ
النَّاسُ قَالَ: يَا بْنَ الْأَكْوَعِ أَلَا تُبَايِعُ؟ قُلْتُ [قَدْ
بَايَعْتُ] [3] يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَأَيْضًا. فَبَايَعْتُهُ
الثَّانِيَةَ. فَقُلْتُ لِسَلَمَةَ:
يَا أبا مسلم على أيّ شيء كنتم تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى
الْمَوْتِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [4] . وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ
عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ وَقَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا إلى البيعة في الأصل الشجرة، فبايعته أول
__________
[1] صحيح مسلم (1858) كتاب الإمارة وأخرجه النسائي من طريق جابر في
كتاب البيعة، باب البيعة على أن لا نفر. (7/ 140، 141) وانظر الطبقات
الكبرى لابن سعد 2/ 100.
[2] ليست في الأصل، وزدناها من ع.
[3] سقطت من الأصل، وزدناها من ع وصحيح البخاري.
[4] صحيح البخاري: كتاب الجهاد، باب البيعة في الحرب أن لا يفرّوا إلخ.
وصحيح مسلم (1860) كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند
إرادة القتال. وأخرجه النسائي في كتاب البيعة باب البيعة على الموت 7/
141.
(2/385)
النّاس وبايع [وبايع] [1] حتى إذا فِي
وَسَطِ النَّاسِ قَالَ: «بَايِعْنِي يَا سَلَمَةُ» . فَقُلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَايَعْتُكَ. قَالَ: «وَأَيْضًا» . قَالَ:
وَرَآنِي عَزِلًا [2] فَأَعْطَانِي حَجَفَةً أَوْ دَرَقَةً [3] . ثُمَّ
بَايَعَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ النَّاسِ قَالَ: «أَلَا
تُبَايِعْ» ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَايَعْتُكَ فِي
أَوَّلِ النَّاسِ وَأَوْسَطِهِمْ. قَالَ: «وَأَيْضًا» . فَبَايَعْتُ
الثَّالِثَةَ. فَقَالَ: «يَا سَلَمَةُ أَيْنَ حَجَفَتُكَ أَوْ
دَرَقَتُكَ الَّتِي أَعْطَيْتُكَ» ؟ قُلْتُ: لَقِيَنِي عَامِرٌ
فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهُ [4] .
فَضَحِكَ ثُمَّ قَالَ: «أنَّكَ كَالَّذِي قَالَ الْأَوَّلُ: اللَّهمّ
أَبْغِنِي حَبِيبًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي» . ثُمَّ إِنَّ
مُشْرِكِي مَكَّةَ رَاسَلُونَا بِالصُّلْحِ حَتَّى مَشَى بَعْضُنَا
إِلَى بَعْضٍ فَاصْطَلَحْنَا. وَكُنْتُ خَادِمًا لِطَلْحَةَ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ أَسْقِي فَرَسَهُ وَأَحُسُّهُ [5] وَآكُلُ مِنْ
طَعَامِهِ. وَتَرَكْتُ أَهْلِي وَمَالِي مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ. فَلَمَّا اصْطَلَحْنَا وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ
أَتَيْتُ شَجَرَةً فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا [6] فَاضَّطَجَعْتُ فِي
ظِلِّهَا. فَأَتَانِي أَرْبَعةٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا
يَقَعُونَ في رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَبْغَضْتُهُمْ،
فَتَحَوَّلَتْ إِلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى، فَعَلَّقُوا سِلَاحَهُمْ
وَاضْطَجَعُوا. فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَادَى مُنادٍ من أسفل
الوادي: (63 أ) يَا لِلْمُهَاجِرِينَ، قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ.
فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي فَشَدَدْتُ عَلَى أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ
وَهُمْ رُقُودٌ، فَأَخَذْتُ سِلَاحَهُمْ فَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا [7] فِي
يَدِي، ثُمَّ قُلْتُ، والّذي كرّم وجه محمد صلّى الله عليه وسلّم لا
يرفع أحد منكم رأسه إلّا ضربت الّذي فيه عيناه [8] . ثم جئت بهم
أَسُوقُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وجاء
__________
[1] زيادة من صحيح مسلم لتوضيح المعنى.
[2] عزلا: أعزل ليس معه سلاح.
[3] الجحفة والدرقة: شبيهتان بالترس.
[4] كذا في الأصل و (ع) ، وعبارة مسلم «فأعطيته إياها» ولعلّها أصحّ.
[5] الحسّ: نفض التراب عن الدّابّة بالمحسّة وهي الفرجون (الفرشاة) .
[6] كسحت شوكها: كنست ما تحتها من الشوك.
[7] الضغث: الحزمة.
[8] يريد رأسه.
(2/386)
عَمِّي عَامِرٌ بِرَجُلٍ مِنَ الْعَبَلَاتِ
[1] يُقَالُ لَهُ مِكْرَزٌ يَقُودُهُ [مُجَفَّفًا] [2] حَتَّى
وَقَفْنَا بِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في سَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ:
«دَعُوهُمْ، يَكُونُ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ وَثِنَاهُ» [3] .
فَعَفَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأُنْزِلَتْ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ 48: 24 [4] الآية.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [5] وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَنَسٍ،
أَنَّ رِجَالا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ جَبَلِ التَّنْعِيمِ [6]
لِيُقَاتِلُوهُ. قَالَ: فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخْذًا، فَأَعْتَقَهُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ
48: 24 الآية، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [7] .
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: ثنا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ
الْعُمَرِيُّ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّاسَ
كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ، قَدْ تَفَرَّقُوا فِي ظِلالِ الشَّجَرِ. فَإِذَا
النَّاسُ مُحْدِقُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ- يعني عمر-: يا
__________
[1] العبلات: بطن من أميّة الصّغرى من قريش، نسبوا إلى أمّهم عبلة بنت
عبيد من بني تميم.
[2] إضافة من تاريخ الطبري 2/ 630 والمعنى: لابسا الجفاف، وهو آلة
الحرب يلبسه الفرس والإنسان ليقي في الحرب.
[3] في الأصل، ع: بدؤ الفجور وثناؤه. والتصحيح من صحيح مسلم. والثني:
الأمر يعاد مرّتين. وفي بعض الروايات ثنياه. والمقصود أول الأمر وآخره.
[4] سورة الفتح: من الآية 24.
[5] صحيح مسلم (1807) ، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها،
وتاريخ الطبري 2/ 629، 630.
[6] التنعيم: موضع بمكة في الحلّ بين مكة وسرف. سمّي بذلك لأنّ جبلا عن
يمينه يقال له نعيم وآخر عن شماله يقال له ناعم والوادي نعمان ومنه
إحرام المكّيّين بالعمرة (معجم البلدان 472) .
[7] صحيح مسلم (1808) كتاب الجهاد والسير، باب قول الله تعالى «وَهُوَ
الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ 48: 24» الآية.
(2/387)
عَبْدَ اللَّهِ انْظُرْ مَا شَأْنُ
النَّاسِ؟ فَوَجَدَهُمْ يُبَايِعُونَ، فَبَايَعَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
عُمَرَ، فَخَرَجَ فَبَايَعَ.
أَخْرَجَهُ خ فَقَالَ: وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: ثنا الْوَلِيدُ
[1] . قُلْتُ: وَرَوَاهُ دُحَيْمٌ، عَنِ الْوَلِيدِ.
قُلْتُ: وَسُمِّيَتْ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ
عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً 48: 18 [2] .
قَالَ أَبُو عَوَانة، عَنْ طارق بْن عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ سَعِيد بْن
المسيّب قَالَ: كَانَ أَبِي ممّن بايع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الشجرة، قَالَ: فانطلقنا فِي قابلٍ حاجّين،
فخفي علينا مكانُها، فإنْ كانت تبيَّنتْ لكم فأنتم أعلم.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [3] .
وَقَالَ ابن جريج: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ أَنَّهُ
سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ:
أَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُبَشِّرٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ: «لَا
يَدْخُلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ
الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا أَحَدٌ» . قالت: بلى يا رسول الله،
فانتهرها، فقالت: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها 19: 71 [4] ، فقال:
قد
__________
[1] صحيح البخاري 5/ 69: كتاب المغازي، باب غزوة الحديبيّة، وقول الله
تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ
يُبايِعُونَكَ 48: 18 إلخ.
[2] سورة الفتح، الآية 18.
[3] صحيح البخاري 5/ 65 كتاب المغازي، باب غزوة الحديبيّة إلخ. وصحيح
مسلم (1859) كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة
القتال. إلخ. واللفظ له. وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 99.
[4] سورة مريم، من الآية 71.
(2/388)
قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا 19: 72 [1] .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [2] . قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ الْحَافِظِ بْنِ
بَدْرَانَ، أَخْبَرَكُمْ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ، وَالْحُسَيْنُ
بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالا: أَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بْنُ عِيسَى، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي
شُرَيْحٍ، ثنا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، نا الْعَلاءُ بْنُ
مُوسَى إِمْلاءً، سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، أنا
اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الَمكِّيِّ، عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ [63 ب] اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِمَّنْ
بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ النَّارَ» . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ [3]
. وَقَالَ قُتَيْبَةُ: نَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزّبير، عن جابر،
أنّ عبدا لحاطب ابن أَبِي بَلْتَعَةَ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو حَاطِبًا، قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا،
فَإنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ [4] » . وَقَالَ يُونُسُ
بْن بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [5] ، حدثني الزهري، عن عُرْوَة،
عَنِ المِسْوَر بْن مَخْرَمَة، ومروان في قصة الحديبية، قالا: فدعت
قريش سُهَيْل بْن عَمْرو، قَالُوا: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه ولا
يكوننّ فِي صُلْحه إلّا أنْ يرجع عنّا عامَهُ هذا، لا تحدّث العربُ
أنّه دخلها علينا عَنْوَةً.
فخرج سُهَيْل من عندهم، فلما رآه رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلا قال: «قد أراد القوم
__________
[1] سورة مريم، من الآية 72.
[2] صحيح مسلم (2496) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أصحاب الشجرة
أهل بيعة الرضوان. وأخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 2/ 100، 101
البداية والنهاية 4/ 171.
[3] لم أجده في كتاب البيعة عنده.
[4] صحيح مسلم (2495) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر وقصة
حاطب بن أبي بلتعة.
[5] سيرة ابن هشام 4/ 28.
(2/389)
الصُّلْحَ حين بعثوا هذا الرجل» . فوقع
الصلح عَلَى أن توضع الحرب بينهما عشر سنين، وأن يخلُّوا بينه وبين مكة
من العام المقبل، فيقيم بِهَا ثلاثًا، وأنه لا يدخلها إلّا بسلاح
الراكب والسيوف فِي القِرَب، وإنّه من أتانا من أصحابك بغير إذْن
ولِيِّه لم نردّه عليك، ومن أتاك منّا بغير إذن وليّه رددته علينا،
وأنّ بيننا وبينك عَيْبَةٌ مكفوفة [1] ، وأنه لا إسلال ولا إغلال. وذكر
الحديث.
الإِسلال: الخفية، وقيل الغارة، وقيل سلّ السيوف [2] والإِغلال:
الغارة.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ:
لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُشْرِكِي مَكَّةَ كَتَبَ كِتَابًا: «هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» .
قَالُوا: لَو عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ نُقَاتِلْكَ.
قَالَ لِعَلِيٍّ: «امْحُهُ» . فَأَبَى، فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ: هَذَا مَا
صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَاشْتَرَطُوا
عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمُوا ثَلَاثًا، وَأَنْ لَا يَدْخُلُوا مَكَّةَ
بِسِلَاحٍ إِلَّا جُلُبَّانَ السِّلَاحِ، يَعْنِي السَّيْفَ
بِقِرَابِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [3] .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ أو
قريبا منه.
أخرجه مسلم [4] .
__________
[1] عيبة مكفوفة: أي مشرحة معقودة، ويكنى بالعيبة عن الصدور والقلوب.
يريد أنّ الشرّ بيننا مكفوف كما تكلّف العيبة إذا أشرجت.
[2] قال السهيليّ: الإسلال: السرقة والخلسة ونحوها، وهي السلة، قالوا
في المثل: الخلة تدعو إلى السلّة. الروض الأنف 4/ 36.
[3] صحيح البخاري: كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان إلخ.
وصحيح مسلم (1783) . كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبيّة في
الحديبيّة. وانظر سيرة ابن هشام 4/ 28، 29، والطبقات لابن سعد 2/ 101 و
103.
[4] صحيح مسلم (1783) ، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبيّة في
الحديبيّة.
(2/390)
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ [1] ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ كَعْبٍ أَنَّ كَاتِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتُبْ: «هَذَا مَا
صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ
عَمْرٍو» . فَجَعَلَ عَلِيُّ يَتَلَكَّأُ وَيَأْبَى إِلَّا أَنْ
يَكْتُبَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبْ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَهَا
تُعْطِيهَا وَأَنْتَ مُضْطَهَدٌ» ، فَكَتَبَ:
هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ: نَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ
أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَامَ سَهْلُ [2] بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ
فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، لَقَدْ كُنَّا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا. فَأَتَى عُمَرُ
فَقَالَ:
أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى.
قَالَ: (أَلَيْسَ) [3] قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي
النَّارِ؟ قَالَ: بلى. قال: ففيم نعطي [64 أ] الدَّنِيَّةَ فِي
أَنْفُسِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ؟ قَالَ: يَا بْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ
وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ، فَانْطَلَقَ مُتَغَيِّظًا إِلَى أَبِي
بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَ الْقُرْآنَ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُمَرَ فَأَقْرَأَهُ
إِيَّاهُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ فَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ:
نَعَمْ، فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [4] .
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابن إسحاق [5] ، عن الزهري، عن عروة عن
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 28.
[2] في الأصل، ع: سهيل. والتصحيح من صحيح مسلم والإصابة وتهذيب
التهذيب.
[3] سقطت من الأصل، وزدناها من ع وصحيح مسلم.
[4] صحيح البخاري: كتاب الجزية، باب لم يسم بعد باب إثم من عاهد ثم
غدر. وكتاب التفسير، سورة الفتح. وصحيح مسلم (1785) كتاب الجهاد
والسير، باب صلح الحديبيّة في الحديبيّة.
[5] سيرة ابن هشام 4/ 29 نهاية الأرب 17/ 233.
(2/391)
الْمِسْوَرِ، وَمَرْوَانَ قَالَا: فَخَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدَ أُمِّ
سَلَمَةَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا حَتَّى أَتَى هَدْيَهُ فَنَحَرَ
وَحَلَقَ. فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَحَلَقَ
بَعْضٌ وَقَصَّرَ بَعْضٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهمّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ. فَقِيلَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ؟ فَقَالَ: اغْفِرْ
لِلْمُحَلِّقِينَ، ثَلَاثًا. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: وَلِلْمُقَصِّرِينَ. وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ
ابْنِ إِسْحَاقَ [1] حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لَهُ لِمَ ظَاهَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُحَلِّقِينَ
ثَلاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ
يَشُكُّوا [2] .
وَقَالَ يُونُسُ- هُوَ ابْنُ بُكَيْرٍ-، عَنْ هِشَامٍ
الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: حَلَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ
كُلُّهُمْ غَيْرَ رَجُلَيْنِ، قَصَّرَا وَلَمْ يَحْلِقَا.
أَبُو إِبْرَاهِيمَ مَجْهُولٌ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ
وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَارِبٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي،
فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ. قَالَ رَجُلٌ:
وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ
قَالَ:
وَالْمُقَصِّرِينَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ: ثنا زُهَيْرُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ
الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَحَرَ يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ سَبْعُونَ بَدَنَةً فِيهَا جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ،
فَلَمَّا صُدَّتْ عَنِ الْبَيْتِ حَنَّتْ كَمَا تَحِنُّ إلى أولادها.
__________
[1] السيرة 4/ 29، الطبقات لابن سعد 2/ 104.
[2] أي لم يشكّوا في الفتح.
(2/392)
وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى فِي عُمْرَةِ
الْحُدَيْبِيَةِ جَمَلا كَانَ لأَبِي جَهْلٍ، فِي أَنْفِهِ [1] بُرَةٌ
مِنْ ذَهَبٍ [2] أَهْدَاهُ لِيَغِيظَ بِهِ قُرَيْشًا [3] .
وَقَالَ فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا،
فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ. فَنَحَرَ
هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ عَلَى
أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، وَلا يَحْمِلَ سِلاحًا
عَلَيْهَا إِلا سُيُوفًا، وَلا يُقِيمَ بِهَا إِلا مَا أَحَبُّوا،
فَاعْتَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا كَمَا
صَالَحَهُمْ. فَلَمَّا أَنْ أَقَامَ بِهَا ثَلاثًا، أَمَرُوهُ أَنْ
يَخْرُجَ فَخَرَجَ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [4] .
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جابر: نحرنا بالحديبية
الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ. رَوَاهُ مسلم
[5] .
__________
[1] عند ابن هشام 4/ 29 «في رأسه» .
[2] البرة: حلقة تكون في أنف البعير.
[3] السيرة 4/ 29.
[4] صحيح البخاري: كتاب الصلح، باب الصلح مع المشركين (3/ 169) .
[5] صحيح مسلم (1318) كتاب الحجّ، باب الاشتراك في الهدي وإجزاء البقرة
والبدنة، كلّ منهما عن سبعة.
(2/393)
نزُولُ سُورة الفتح
قَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ
أَسْفَارِهِ، وَعُمَرُ مَعَهُ لَيْلًا. فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ
فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يجبه، ثم سأله فلم يجبه، [64
ب] فَقَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، نَزَرْتَ [1] رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي
حَتَّى تَقَدَّمَتْ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ في
القرآن، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ، قَالَ:
قُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ [2] فِيَّ قُرْآنٌ،
فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فسلّمت عليه،
فقال: «لقد أنزلت عليّ اللّيلة سورة هي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس»
، ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ
لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ 48: 1- 2 [3]
.
أخرجه البخاري [4] .
__________
[1] النزر: الإلحاح في السؤال. وقول عمر: نزرت رسول الله، يعني ألححت
عليه في المسألة إلحاحا أدّبك بسكوته عن جوابك.
[2] في الأصل: خشيت أن ينزل في قرآن. وحقّ العبارة مما أثبتناه من ع
وصحيح البخاري، والبداية والنهاية 4/ 177.
[3] سورة الفتح: الآيتان الأولى والثانية.
[4] صحيح البخاري 5/ 66، 67، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبيّة، وكتاب
التفسير باب
(2/395)
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ،
قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، جَعَلَتْ نَاقَتُهُ تُثْقِلُ،
فَتَقَدَّمْنَا، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ:
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً 48: 1.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً 48: 1، قَالَ: فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ
رَجُلٌ: هَنِيئًا مَرِيئًا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكَ، فَمَا
لَنَا؟ فأنزلت: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي 48: 5 [1] .
قَالَ شُعْبَةُ: فَقَدِمْتُ الْكُوفَةَ فَحَدَّثْتُهُمْ عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْبَصْرَةَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ
لِقَتَادَةَ فَقَالَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَعَنْ أَنَسٍ، وَأَمَّا
الثاني:
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ 48: 5، فَعَنْ عِكْرِمَةَ،
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [2] .
وَقَالَ هَمَّامٌ: ثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا
نَزَلَتْ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً 48: 1 إِلَى آخِرِ
الْآيَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَصْحَابُهُ مُخَالِطُو الْحُزْنِ
وَالْكَآبَةِ، فَقَالَ: «نَزَلَتْ عَلَيَّ آيةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنَ الدُّنْيَا» .
فَلَمَّا تَلَاهَا قَالَ رَجُلٌ: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكَ مَا
يَفْعَلُ بِكَ، فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا؟ فَأُنْزِلَتْ الَّتِي
بَعْدَهَا: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ 48: 5.
أَخْرَجَهُ مُسْلِم [3] . وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عن
الزّهري [4] ، عن عروة، عن
__________
[ () ] فضل سورة الفتح. (6/ 43، 44) وانظر نهاية الأرب 17/ 234.
[1] سورة الفتح: من الآية 5.
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الحديبيّة (5/ 66) .
[3] صحيح مسلم (1786) كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبيّة في
الحديبيّة.
[4] تاريخ الطبري 2/ 638.
(2/396)
الْمِسْوَرِ، وَمَرْوَانَ قَالا فِي
قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا.
فَلَمَّا أَنْ كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ نَزَلَتْ عَلَيْهِ
سُورَةُ الْفَتْحِ. فَكَانَتِ الْقَضِيَّةُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ
وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ. فَلَمَّا أَمِنَ النَّاسُ وَتَفَاوَضُوا، لَمْ يُكلَّمْ
أَحَدٌ بِالإِسْلامِ إِلا دَخَلَ فِيهِ. فَلَقَدْ دَخَلَ فِي تَيْنِكَ
السَّنَتَيْنِ فِي الإِسْلامِ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ فِيهِ قَبْلَ
ذَلِكَ. وَكَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ فَتْحًا عَظِيمًا.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: ثنا أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ،
قَالُوا: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَنْ الْحُدَيْبِيَةِ رَاجِعًا. فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا
هَذَا بِفَتْحٍ، لَقَدْ صُدِدْنَا عَنِ الْبَيْتِ وَصُدَّ هَدْيُنَا،
وعكسف رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَرَجَا.
فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُ
رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِفَتْحٍ.
فَقَالَ: «بِئْسَ الْكَلامِ، هَذَا أَعْظَمُ الْفَتْحِ، لَقَدْ رَضِيَ
الْمُشْرِكُونَ أن يدفعوكم بالرّواح عن بلادهم ويسألونكم [65 أ]
الْقَضِيَّةَ وَيَرْغَبُونَ إِلَيْكُمْ فِي الأَمَانِ، وَقَدْ رَأَوْا
مِنْكُمْ مَا كَرِهُوا، وَقَدْ أَظْفَرَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَرَدَّكُمْ سَالِمِينَ غَانِمِينَ مَأْجُورِينَ، فَهَذَا أَعْظَمُ
الْفُتُوحِ. أنسيتم يوم أحد. إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم
في أخراكم؟ أَنَسِيتُمْ يَوْمَ الأَحْزَابِ، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ
فَوْقِكِمْ وَمِنْ أَسْفَلِ مِنْكُمْ» ؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ:
صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، هُوَ أَعْظَمُ الْفُتُوحِ وَاللَّهِ يَا
نَبِيَّ اللَّهِ. وقال ابن أبي عَرُوبة، عَنْ قَتَادة، قَالَ: ظهرت
الروم عَلَى فارس عند مرجع المسلمين من الحُديبية. وقال مثل ذَلِكَ
عقيل، عن ابن شهاب، عَن عُبَيْد الله بْن عَبْد الله بْن عُتْبة بْن
مَسْعُود.
وكانت بين الروم وبين فارس ملحمةٌ مشهودة نَصَرَ الله فيها الروم. ففرح
المسلمون بذلك، لكوْن أهل الكتاب فِي الحملة نُصِروا عَلَى المجوس [1]
__________
[1] انظر نهاية الأرب للنويري 17/ 235.
(2/397)
وقال مُغيرة، عَنِ الشعبيّ فِي قوله:
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً 48: 1، قال: فتح الحديبيّة،
وبايعوا بيعة الرضوان، وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم عَلَى فارس.
ففرح المسلمون بتصديق كتاب الله ونصر أهل الكتاب على المجوس.
وقال شعبة، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي ليلى:
وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً 48: 18 [1] ، قال: خيبر. وَأُخْرى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْها 48: 21 [2] ، قَالَ:
فارس والروم.
وَقَالَ وَرْقَاءُ [3] ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ،
قَالَ: أُرِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ
آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَهُمْ وَمُقَصِّرِينَ، فَقَالُوا لَهُ
حِينَ نَحَرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ: أَيْنَ رُؤْيَاكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ
الرُّؤْيا بِالْحَقِّ 48: 27 إِلَى قَوْلِهِ فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ
فَتْحاً قَرِيباً 48: 27 [4] يَعْنِيَ النَّحْرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ
ثُمَّ رَجَعُوا فَفَتَحُوا خَيْبَرَ، فَكَانَ تَصْدِيقُ رُؤْيَاهُ فِي
السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ.
وقال هُشيم [5] : «أَنَا أَبُو بشر، عَنْ سَعِيد بْن جُبير، وعِكرمة:
سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ 48: 16 [6] ، قالا:
هوازن يوم حنين رواه سعيد بن منصور في سننه» .
__________
[1] سورة الفتح، من الآية 18.
[2] سورة الفتح، من الآية 21.
[3] هو ورقاء بن عمر بن كليب اليشكري أبو بشر الكوفي. (تهذيب التهذيب
11/ 113) .
[4] سورة الفتح، الآية 27.
[5] هو هشيم بن بشير بن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية الواسطي.
(تهذيب التهذيب 11/ 59) .
[6] سورة الفتح، من الآية 16.
(2/398)
وقال بندار [1] : ثنا غُنْدَر، [2] ثنا
شُعْبَة، عَنْ هشيم، فذكره، وزاد:
هوازن وبنو حنيفة.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ:
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ 17: 5، قال: فارس.
وقال: السَّكِينَةَ 48: 4 هي الرَّحْمَةُ.
وقال أَبُو حُذَيفة النَّهْدِيُّ: ثنا سُفْيَان، عَنْ سَلَمَةَ بْن
كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي الأحوص، عَنْ عليّ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ 48: 4 [3] قَالَ:
السكينة لَهَا وجهٌ كوجه الإِنسان، ثُمَّ هي بعد ريح هفافة.
وقال ورقاء، عَنِ ابن أَبِي نَجِيح، عَنْ مجاهد قَالَ: السكينة كهيئة
الريح، لَهَا رأس كرأس الهرَّة وجناحان.
وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ 13: 31 [4] ، قَالَ: السَّرِيَّةُ،
أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ 13: 31 [5] ، قَالَ: هُوَ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ
الله 13: 31 [6] ، قَالَ:
فَتْحُ مَكَّةَ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً من دارِهِمْ 13: 31، قال:
الحديبيّة ونحوها رواه [65 ب] شريك، عن منصور، عنه.
__________
[1] هو محمد بن بشار بن عثمان بن داود بن كيسان العبديّ أبو بكر الحافظ
البصري. قيل له بندار لأنه كان بندارا في الحديث جمع حديث بلده. (تهذيب
التهذيب 9/ 70) .
[2] هو محمد بن جعفر الهذلي مولاهم أو عبد الله البصري، صاحب الكرابيس.
مات سنة 93 هـ-.
(تهذيب التهذيب 9/ 97) .
[3] سورة الفتح، من الآية 4.
[4] ، (5) ، (6) سورة الرعد، من الآية 31.
(2/399)
وقال الليث، عن عقيل عن ابن شهاب، أخبرني
عُرْوة أنّه سَمِعَ مروان بْن الحَكَم، والمسور يخبران عَنْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كاتب سُهَيْلَ بْن عَمْرو، فذكر
الحديث، وفيه: وكانت أُمُّ كُلْثُومَ بِنْت عُقْبة بْن أَبِي مُعَيْط
ممّن خرج إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يومئذ وهي عاتق [1] ، فجاء أهلها يسألون رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرجعها إليهم، فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله
فيهن: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ،
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ
فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ 60: 10 [2] .
قَالَ عُرْوة: فأخبرتني عَائِشَةُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يمتحنهنّ بهذه الآية: إِذا جاءَكَ
الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ 60: 12 [3] الآية. قَالَتْ: فمن أقرّ بهذا
الشرط منهنّ قَالَ لَهَا قد بايعتك، كلامًا يكلِّمها بِهِ، والله ما
مسَّت يدُه يدَ امرأةٍ قطّ فِي المبايعة، ما بايعني إلّا بقوله.
أَخْرَجَهُ البخاري [4] .
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قَالَ: ولما رجع رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المدينة انفلت من ثقيف أَبُو بصير
[5] بْن أسيد بْن حارثة الثقفي من المشركين، فذكر من أمره نحوًا مما
قدَّمْنا. وفيه زيادة وهي: فخرج أَبُو بصير معه خمسةٌ كانوا قدِموا
(من) [6] مكة، ولم ترسل قريش فِي طلبهم كما أرسلوا فِي أَبِي بصير، حتى
كانوا بين العِيص وذي المروة من أرض جهينة
__________
[1] العاتق: الجارية أول ما أدركت أو هي التي لم تتزوج.
[2] سورة الممتحنة، من الآية 10.
[3] سورة الممتحنة، من الآية 12.
[4] صحيح البخاري: كتاب التفسير، سورة الممتحنة 6/ 60 وكتاب الطلاق،
باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذّمّي إلخ 6/ 173. وكتاب
الأحكام، باب بيعة النساء (8/ 125) .
[5] في المغازي للواقدي 2/ 624 «عتبة بن أسيد بن حارثة حليف بني زهرة»
.
[6] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع.
(2/400)
عَلَى طريق عِير قريش ممّا يلي سيف البحر،
لا يمرّ بهم عِيرٌ لقريش إلّا أخذوها وقتلوا أصحابها. وانفلت أَبُو
جَندل فِي سبعين راكبًا أسلموا وهاجروا، فلحقوا بأبي بصير، وقطعوا
مادَّةَ قريش من الشام، وكان أَبُو بصير يصلّي بأصحابه، فلما قدِم
عَلَيْهِ أَبُو جندل كَانَ يؤمُّهم [1] .
واجتمع إلى أَبِي جَنْدل حين سمعوا بقدومه ناسٌ من بني غِفار وأسلم
وجهينة وطوائف، حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون، فأرسلت قريش إلى
النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونه أن يبعث إلى أبي
بصير ومن معه فيقدموا عليه، وقالوا:
من خرج منّا إليك فأمْسِكه، قَالَ: ومرّ بأبي بصير أَبُو العاص بْن
الربيع من الشام فأخذوه، فقدم عَلَى امرأته زينب سرًّا. وقد تقدّم
شأنه. وأرسل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابه
[2] إلى أَبِي بصير أن لا يعترضوا لأحد. فقدم الكتاب عَلَى أَبِي جندل
وأبي بصير، وأبو بصير يموت. فمات وكتاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يده يقرؤه، فدفنه أَبُو جندل مكانه، وجعل عند
قبره مسجدًا [3] .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ نصب [4] في الركعة
الأخيرة بعد ما [66 أ] يَقُولُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» :
اللَّهمّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهمّ نَجِّ سَلَمَةَ
بْنَ هِشَامٍ، اللَّهمّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهمّ
نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهمّ اشْدُدُ
وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ. اللَّهمّ اجْعَلْهَا سِنِينَ مِثْلَ سنّي
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 31. تاريخ الطبري 2/ 639، نهاية الأرب 17/ 245، و
246 و 247، سيرة ابن هشام 4/ 31 عيون التواريخ 1/ 263، عيون الأثر 2/
128.
[2] لم تر وكتب السيرة نصّا لهذا الكتاب، وانظر: مجموعة الوثائق
السياسية للدكتور محمد حميد الله (ص 65) ، وإعلام السائلين عن كتب سيّد
المرسلين لابن طولون الدمشقيّ (ص 47) .
[3] نهاية الأرب 17/ 247، 248.
[4] نصب في الدعاء: جدّ فيه. (لسان العرب- مادة نصب) .
(2/401)
يُوسُفَ» [1] . ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَدْعُو
حَتَّى نَجَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ
بَعْدَ ذَلِكَ. وفي سنة ستّ:
مات سعد بْن خَوْلةَ [2] رَضِيَ الله عَنْهُ فِي الأسر بمكة. ورثى لَهُ
النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكونه مات بمكة.
وفيها: قُتل هشَام بْن صُبابة [3] أخو مِقْيسٍ، قتله رَجُل من المسلمين
وهو يظنّ أنّه كافر، فأعطى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِقيسًا دِيَتَه. ثُمَّ إنّ مِقْيسًا قتل قاتل أخيه، وكفر
وهرب إلى مكة.
وفي ذي الحجة: ماتت أمّ رُومان بِنْت عامر [4] بْن عُوَيْمر الكِنانية،
أمّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أخرج الْبُخَارِيّ من رواية
مسروق عَنْهَا حديثًا [5] وهو منقطع لأنّه لم يدركها، أو قد أدركها
فيكون تاريخُ موتها هذا خطأ [6] . والله أعلم.
__________
[1] أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء للمشركين
بالهدي ليتألّفهم.
(3/ 235) .
[2] هو سعد بن خولة القرشي العامري من بني مالك بْن حسل بْن عامر بْن
لُؤيّ. (الاستيعاب 2/ 43، الإصابة 2/ 24 رقم 3145) .
[3] في طبعة القدسي 372 «ضبابة» والتصحيح من: الاستيعاب 3/ 595،
والإصابة 3/ 603 حيث قال ابن حجر: صبابة، بضم المهملة وموحّدتين الأولى
خفيفة.
[4] الاستيعاب 4/ 448، الإصابة 4/ 450 رقم 1271 عيون التواريخ 1/ 162.
[5] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي، باب حديث الإفك، من رواية
مسروق بن الأجدع (5/ 60) .
[6] انظر ترجمة أم رومان في تهذيب التهذيب (12/ 467) ، ففيه يناقش هذه
الرواية بتوسع.
(2/402)
السنة السابعة
«غزوة خيبر»
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: كَانَ افْتِتَاحُ
خَيْبَرَ فِي عَقِبِ الْمُحَرَّمِ، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ صَفَرٍ.
قُلْتُ: وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ غَيْرِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي بَكْرٍ [1] .
وذكر الواقديّ، عَنْ شيوخه، فِي خروج النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خيبر: فِي أول سنة سبعٍ، وشذَّ الزُّهري فقال،
فيما رَوَاهُ عَنْهُ موسى بْن عقبة فِي مغازية قَالَ: ثُمَّ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خيبر يوم سنة
ستّ [2] .
وخيبر: بُلَيْدَةٌ عَلَى ثمانية برد من المدينة.
قَالَ وُهَيْب: ثنا خُثَيْم بْن عِراك [3] ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَفَرٍ
مِنْ بَنِي غِفَارٍ قَالُوا: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدِمَ
الْمَدِينَةَ وَقَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى خيبر، واستخلف
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 39، تاريخ خليفة 82.
[2] المغازي لعروة 195.
[3] في الأصل، ع: خيثم عن عراك. والتصحيح من ترجمته في تهذيب التهذيب
(3/ 136) .
(2/403)
عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ
عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيَّ [1] قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَوَجَدْنَاهُ
فِي صَلاةِ الصُّبْحِ، فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى كهيعص 19: 1
[2] ، وَقَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ 83: 1 [3] .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَقُولُ فِي صلاتي: ويل لأبي فُلانٍ لَهُ
مِكْيَالانِ، إِذَا اكْتَالَ اكْتَالَ بِالْوَافِي، وَإِذَا كَالَ
كَالَ بِالنَّاقِصِ. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنْ صَلاتِنَا
أَتَيْنَا سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ فَزَوَّدَنَا شَيْئًا حَتَّى
قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ، فَكَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ فَأَشْرَكُونَا فِي
سُهْمَانِهِمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ
يَسَارٍ، أخبرني سويد ابن النُّعْمَانِ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى
إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ- وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ- صَلَّى
الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بِأَزْوَادٍ فَلَمْ يُؤْتَ إِلا بِالسَّوِيقِ،
فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ [4] ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْنَا. ثُمَّ قَامَ إِلَى
الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ
يَتَوَضَّأْ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [5] .
وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ،
عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [66 ب] إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلًا. فَقَالَ
رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ: أَلَا تُسْمِعُنَا
مِنْ هُنَيْهَاتِكَ؟ [6] . وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلًا شَاعِرًا فَنَزَلَ
يَحْدُو بالقوم ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا [7] ... ولا تصدقنا ولا صلّينا
__________
[1] الإصابة 2/ 13 رقم 3080 وانظر الطبقات لابن سعد 2/ 106.
[2] سورة مريم: الآية الأولى.
[3] سورة المطففين: الآية الأولى.
[4] ثري السويق وغيره تثرية: صبّ عليه الماء ثم لبّ. والسّويق خبز يتخذ
من الحنطة والشعير.
[5] صحيح البخاري: كتاب الوضوء باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ. (1/
59) وكتاب الجهاد والسير، باب حمل الزاد في الغزو 3/ 222، وكتاب
المغازي، باب غزوة خيبر 5/ 72) .
[6] الهنيهات: ومثلها الهنات والهنيات: الكلمات والأراجيز (تاج العروس)
.
[7] عند ابن هشام في السيرة 4/ 39: «
والله لولا الله ما اهتدينا
» وانظر مناقب أمير المؤمنين عليّ للواسطي 129.
(2/404)
فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا
[1] ... وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
وَأَلْقِيَنْ سَكَينَةً عَلَيْنَا ... إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا
أَتَيْنَا [2]
وَبِالصِيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا [3]
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ
هَذَا السَّائِقُ» ؟ قَالُوا: عَامِرٌ. قَالَ:
«يَرْحَمُهُ اللَّهُ» . قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَجَبَتْ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، لَوْلَا أَمْتَعْتَنَا [4] بِهِ. فَأَتَيْنَا
خَيْبَرَ فَحَاصَرْنَاهُمْ، حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ.
فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ مَسَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي فُتِحَتْ
عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذِهِ النِّيرَانُ عَلَى
أَيِّ شَيْءٍ تُوقَدُ» ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمِ حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ [5]
. فَقَالَ: «أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا» . فَقَالَ رَجُلٌ: أَوَ
يُهْرِيقُوهَا وَيَغْسِلُوهَا [6] . قَالَ: أَوَ ذَاكَ.
قَالَ: فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ
قِصَرٌ، فَتَنَاوَلَ بِهِ سَاقَ يَهُودِيٍّ لِيَضْرِبَهُ، فَيَرْجِعُ
ذُبَابُ سَيْفِهِ فَأَصَابَ عَيْنَ رُكْبَةِ عَامِرٍ، فَمَاتَ مِنْهُ.
فَلَمَّا قَفَلُوا قَالَ سَلَمَةُ، وَهُوَ آخِذُ بِيَدِي (قَالَ) [7] :
لَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(سَاكِتًا) [8] : قَالَ: مَالَكَ؟ قُلْتُ: فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي،
زعموا أنّ عامرا حبط
__________
[1] عند البخاري 5/ 72 «أبينا» .
[2] اقتفينا: اتّبعنا وهي رواية مسلم، وفي البخاري: ما أبقينا.
[3] انظر سيرة ابن هشام 4/ 39 ففيه اختلاف عن هنا. وكذلك عيون الأثر 2/
130، وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 111 ونهاية الأرب 17/ 249،
وعيون التواريخ 1/ 264.
[4] في الأصل: ع: أمتعنا. وأثبتنا نص البخاري (5/ 72) .
[5] الحمر الإنسيّة: نسبة إلى الإنس، وهم النّاس لاختلاطهم بهم، بخلاف
حمر الوحش.
[6] هذه عبارة صحيح مسلم 3/ 1429 والفعل فيها مجزوم بلام الأمر
المحذوفة عند القائلين بجواز حذفها، أو هو مجزوم لوقوعه في جواب أمر
محذوف. وعبارة البخاري: أو نهريقها ونغسلها.
(5/ 72) وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 113.
[7] زيادة من صحيح مسلم لتوضيح السياق (3/ 1329) .
[8] في الأصل: شأ، وفوقها كلمة (كذا) . وهي تحريف ظاهر، تصحيحه من صحيح
مسلم (3/ 1429) .
(2/405)
عمله. قال، من قاله؟ قلت: فلان وفلان
وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ. فَقَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إِنَّ [1]
لَهُ أَجْرَانِ، وَجَمَعَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ، إِنَّهُ (لَجَاهِدٌ)
[2] مُجَاهِدُ قَلَّ عَرَبِيٌّ مَشَى بِهَا (مِثْلَهُ) [3] . مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ [4] . وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ إِلَى
خَيْبَرَ أَتَاهَا لَيْلًا. وَكَانَ إِذَا أَتَى قَوْمًا بِلَيْلٍ لَمْ
يُغِرْ [5] حتى يصبح. فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم، فَلَمَّا
رَأَوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ [6]
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُ
أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ. إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ
فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [7] .
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ [8] . وَقَالَ
غَيْرُ وَاحِدٍ: شُعْبَةُ، وَابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُسْلِمٍ
الْمُلائِيِّ [9] ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ الْمَرِيضَ، وَيَتْبَعُ
الْجِنَازَةَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَيَرْكَبُ
الْحِمَارَ. وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَوْمَ خَيْبَرَ عَلَى حِمَارٍ
خِطَامُهُ لِيفٌ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ
أَبِي حازم، أخبرني سهل بن سعد
__________
[1] ساقطة من طبعة القدسي 375 وأثبتناها من صحيح البخاري وصحيح مسلم.
[2] في الأصل: إنه مجاهده قل عربي. وفي ع: إنه يجاهد مجاهد. وأثبتنا
نصّ البخاري ومسلم.
[3] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع والبخاري ومسلم.
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 5/ 74، 73 وصحيح مسلم
(1802) كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر. (3/ 1427- 1429) .
[5] في الأصل، ع: يغز، وعبارة البخاري «لا يغير عليهم حتى» .
[6] عند ابن سعد 2/ 108 «الجيش» .
[7] صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم إلى الإسلام إلخ 4/ 5، وكتاب المغازي، باب غزوة خيبر (5/
73) وفيه: «لم يغر بهم حتى يصبح» ، وانظر طبقات ابن سعد 2/ 109.
[8] صحيح البخاري: كتاب الصلاة، باب ما يذكر في الفخذ 1/ 97، وصحيح
مسلم (1365) كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر.
[9] الملائي: بضم الميم. نسبة إلى الملاءة التي تستر بها النساء
(اللباب 3/ 277) .
(2/406)
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: لُأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ
غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ
يَدُوكُونَ [1] لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا؟ فَلَمَّا أَصْبَحَ
النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا. فَقَالَ: أَيْنَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ قِيلَ: هُوَ يَا رَسُولَ الله يشتكي
عينيه. قال: فأرسلوا [67 أ] إِلَيْهِ. فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا
لَهُ، فَبَرَأَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ. فَأَعْطَاهُ
الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ
حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ قَالَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتّى
تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ
وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فيه، فو
الله لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ
أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» . أَخْرَجَاهُ عَنْ قُتَيْبَةَ،
عَنْ يَعْقُوبَ [2] . وَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا يُحِبُّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ» .
فَقَالَ عُمَرُ: فَمَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ قَطُّ حَتَّى
يَوْمَئِذٍ. فَدَعَا عَلِيًّا فَبَعَثَهُ، ثُمَّ قَالَ:
«اذْهَبْ فَقَاتِلْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَلَا
تَلْتَفِتْ» ، قَالَ عَلِيٌّ: عَلامَ أُقَاتِلُ النَّاسَ؟ قَالَ:
«قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ
مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا،
وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [3] ، وَأَخْرَجَا
نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ سلمة بن الأكوع [4] .
__________
[1] يدوكون: يخوضون ويتحدّثون في ذلك.
[2] صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم إلى الإسلام وباب فضل بن أسلم على يديه رجل 4/ 5. وكتاب
المغازي، باب غزوة خيبر 5/ 76، 77، وصحيح مسلم (2406) كتاب فضائل
الصحابة، باب من فضائل عَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وانظر طبقات ابن سعد 2/ 110 و 111. وسيرة ابن هشام 4/ 42، ونهاية الأرب
17/ 253.
[3] صحيح مسلم (2405) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عَلِيِّ بْن
أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
[4] صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في لواء النّبيّ
صلّى الله عليه وسلم (4/ 12) وصحيح
(2/407)
وقال عكرمة بن عمار: حدثني إياس بن
سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ عَمَّهُ عَامِرًا
حَدَا بِهِمْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ. قَالَ: وَمَا خُصَّ بِهَا أَحَدٌ إِلا
اسْتُشْهِدَ. فَقَالَ عُمَرُ: هَلا مَتَّعْتَنَا بِعَامِرٍ؟
فَقَدِمْنَا خَيْبَرَ، فَخَرَجَ مرحب وهو يخطر بسيفه، ويقول:
عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي [1] السِّلاحِ بَطَلٌ
مُجَرَّبُ
إِذَا الْحَرْبُ أقْبَلَتْ تَلَهَّبُ [2]
فَبَرَزَ لَهُ عَامِرٌ، وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرُ ... شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ
مُغَامِرُ
قَالَ: فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ فِي
تُرْسِ عَامِرٍ، فَذَهَبَ عَامِرٌ يَسْفُلُ لَهُ، فَرَجَعَ بِسَيْفِهِ
عَلَى نَفْسِهِ فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ، وَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ.
قَالَ سَلَمَةُ: فَخَرَجَتْ فَإِذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ،
قَتَلَ نَفْسَهُ. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَنَا أبكي، قال «مالك» ؟ فَقُلْتُ:
قَالُوا إِنَّ عَامِرًا بَطَلَ عَمَلُهُ. قَالَ: «مَنْ قَالَ ذَلِكَ» ؟
قُلْتُ: نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِكَ. فَقَالَ: «كَذَبَ أُولَئِكَ بَلْ
لَهُ مِنَ الأَجْرِ مَرَّتَيْنِ» [3] قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ
يَدْعُوهُ وَهُوَ أَرْمَدُ فَقَالَ: لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ الْيَوْمَ
رَجُلا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ أَقُودُهُ. قَالَ: فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ،
فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ. قَالَ: فَبَرَزَ مَرْحَبٌ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ
مجرّب
إذا الحروب أقبلت تلهّب
__________
[ () ] مسلم (2407) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عَلِيِّ بْن
أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
[1] عند ابن سعد في الطبقات 2/ 111 «شاك» . وشاكي السلاح: حادّ السلاح
على ما في شرح السيرة النبويّة لأبي ذرّ الخشنيّ 2/ 345.
[2] انظر الرجز في سيرة ابن هشام 4/ 41، و 42، وتاريخ الطبري 3/ 10 و
11.
[3] انظر طبقات ابن سعد 2/ 111.
(2/408)
قَالَ: فَبَرَزَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ [1] ... كليث غابات كريه
المنظر،
أُوفِيهِمُ [2] ، بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ [3] .
فَضَرَبَ مَرْحَبًا فَفَلَقَ رأسه فقتله، وكان الفتح. [67 ب]
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [4] . وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ، فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ،
عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ نَصْرٍ الأَسْلَمِيِّ أَنَّ أَبَاهُ
حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ نفي مَسِيرِهِ لِخَيْبَرَ- لِعَامِرِ بْنِ
الأَكْوَعِ: خُذْ لَنَا مِنْ هَنَاتِكَ فَنَزَلَ يَرْتَجِزُ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا
صَلَّيْنَا
إِنَّا إِذَا قَوْمٌ بَغَوْا عَلَيْنَا ... وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً
أَبَيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ
لاقَيْنَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يرحمك
الله. فقال عمر: وَجَبَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ
أَمْتَعْتَنَا بِهِ. فَقُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ شَهِيدًا [5] . وَقَالَ
يُونُسُ بْن بُكَير عَنِ ابْنِ إِسْحَاق: حَدَّثَنِي بُرَيْدة بْن
سُفْيَان بْن فَروة الأَسْلَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
الأَكْوَعِ قَالَ: فخرج (عليّ) [6] رضي الله
__________
[1] حيدرة: الأسد.
[2] عند ابن سعد 2/ 112 «وأكيلهم» وانظر الاختلاف عند الطبري 3/ 13.
[3] كيل السندرة: أي كيلا وافيا، وقيل السندرة ضرب من الكيل واسع، وقيل
شجرة تصنع منها مكاييل عظام. (راجع مناقب أمير المؤمنين علي للواسطي
131) .
[4] صحيح مسلم (1807) كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها.
وانظر طبقات ابن سعد 2/ 110- 112، وتاريخ الطبري 3/ 10- 13 ومناقب أمير
المؤمنين علي 129- 131.
[5] سيرة ابن هشام 4/ 39.
[6] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع.
(2/409)
عَنْهُ بالراية يُهَرْوِلُ وأنا خلفه حتى
ركّزها فِي رضْمٍ [1] من حجارة تحت الحصْن. فاطلع إليه يهوديّ من رأس
الحصن فقال: من أنت؟ قَالَ: أَنَا عليّ بْن أَبِي طَالِب (قَالَ) [2] :
غلبتم وما أُنْزل عَلَى موسى. فما رجع حتى فتح الله عَلَيْهِ [3] .
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ الْمُسَيِّبُ بْنِ مسلم الأزدي،
حدّثنا عبد الله ابن بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّمَا أَخَذَتْهُ
الشَّقِيقَةُ [4] فَيَلْبَثُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ لَا يَخْرُجُ،
وَلَمَّا نَزَلَ خَيْبَرَ أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ فَلَمْ يَخْرُجْ
إِلَى النَّاسِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَخَذَ رَايَةَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَهَضَ فَقَاتَلَ قِتَالًا
شَدِيدًا، ثُمَّ رَجَعَ. فَأَخَذَهَا عُمَرُ فَقَاتَلَ قِتَالًا هُوَ
أَشَدُّ قِتَالًا مِنَ الْقِتَالِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَخْبَرَ
بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
«لَأُعْطِيَنَّهَا غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَأْخُذُهَا عَنْوَةً، وَلَيْسَ ثَمَّ
عَلِيٌّ. فَتَطَاوَلَتْ لَهَا قُرَيْشٌ، وَرَجَا كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ
أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ ذَلِكَ. فَأَصْبَحَ وَجَاءَ عَلِيٌّ عَلَى
بَعِيرٍ حَتَّى أَنَاخَ قَرِيبًا، وَهُوَ أَرْمَدُ قَدْ عَصَبَ
عَيْنَهُ بِشِقِّ بُرْدٍ قَطَرِيٍّ [5] . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مالك» ؟ قَالَ: رَمَدَتْ بَعْدَكَ، قَالَ: «ادْنُ مِنِّي» ، فَتَفَلَ
فِي عَيْنِهِ، فَمَا وَجَعَهَا (حَتَّى) [6] مَضَى لِسَبِيلِهِ، ثُمَّ
أَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَنَهَضَ بِهَا، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ
__________
[1] رضم ورضام: حجارة أو صخور بعضها على بعض، هي دون الهضبة. (النهاية
في غريب الحديث 2/ 231) .
[2] زيادة يقتضيها السياق، إذ القول على لسان اليهودي. كما جاء في سيرة
ابن هشام 4/ 42 «علوتم» .
[3] مناقب أمير المؤمنين علي للواسطي 132 رقم 217.
[4] الشقيقة: صداع يأخذ في نصف الرأس والوجه.
[5] القطر والقطرية: ضرب من البرود يكون من غليظ القطن، أو خمر لها
أعلام فيها بعض الخشونة.
[6] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع.
(2/410)
أُرْجُوانٍ حَمْرَاءُ قَدْ أَخْرَجَ
خَمْلَهَا، فَأَتَى مَدِينَةَ خَيْبَرَ [1] . وَخَرَجَ مَرْحَبُ
صَاحِبُ الْحِصْنِ وَعَلَيْهِ مِغْفَرٌ [2] مُظْهَرٌ [3] يَمَانِيٌّ
وَحَجَرٌ قَدْ ثَقَبَهُ مِثْلَ الْبَيْضَةِ عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ
يَرْتَجِزُ، فَارْتَجَزَ عَلِيٌّ وَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ،
فَبَدَرَهُ عَلِيٌّ بِضَرْبَةٍ، فَقَدَّ الْحَجَرَ وَالْمِغْفَرَ ورأسه
ووقع فِي الْأَضْرَاسِ، وَأَخَذَ الْمَدِينَةَ [4] وقال عَوْف
الأعرابيّ، عَنْ ميمون أَبِي عَبْد الله الأزْدي، عَنِ ابن بُرَيْدة،
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: فاختلف مَرْحَب وعليّ ضربتين، فضربه عليٌّ عَلَى
هامته حتى عضَّ السّيفُ بأضراسه. وسمع أهل العسكر صوتَ ضربته. وما
تتامّ آخرُ النّاس مَعَ عليّ حتى فتح الله لَهُ ولهم [5] .
وَقَالَ يُونُسُ، عن ابن إسحاق [6] ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْحَسَنِ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مولى [68 أ]
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَرَجْنَا
مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم
بِرَايَتِهِ. فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحِصْنَ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ
فَقَاتَلَهُمْ، فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ فَطَرَحَ تُرْسَهُ مِنْ
يَدَيْهِ، فَتَنَاوَلَ عَلِيٌّ الْحِصْنَ فَتَرَّسَ بِهِ عَنْ
نَفْسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ حَتَّى فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ، فَلَقَدْ رأيتني في
نفر معي سبعة إناث منهم، نَجْهَدُ أَنْ نَقْلِبَ الْبَابَ فَمَا
اسْتَطَعْنَا أَنْ نقلبه [7] .
__________
[1] رواه الشيخان، انظر اللؤلؤ والمرجان 3/ 122، وجامع الأصول لابن
الأثير 8/ 54، وتاريخ الطبري 3/ 12، 13.
[2] المغفر: زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة أو حلق يتقنّع بها. ومظهر:
صلب شديد.
[3] عند الطبري «معصفر» .
[4] تاريخ الطبري 3/ 3.
[5] مناقب أمير المؤمنين علي للواسطي 135، 136 رقم 222.
[6] سيرة ابن هشام 4/ 42، 43.
[7] رواه الطبري 3/ 13 وانظر تاريخ اليعقوبي 2/ 56.
(2/411)
رَوَاهُ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مُنْقَطِعًا، وَفِيهِ: فَتَنَاوَلَ
عَلِيٌّ بَابًا كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ. وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهُ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْعَبْدِيُّ: ثنا مُطَّلِبُ بْنُ
زِيَادٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَلِيًّا حَمَلَ الْبَابَ يَوْمَ
خَيْبَرَ حَتَّى صَعِدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ.
فَافْتَتَحُوهَا، وَإِنَّهُ خَرِبَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْمِلْهُ
أَرْبَعُونَ رَجُلا.
تَابَعَهُ فُضَيْلُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ مُطَّلِبٍ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، وَالْمِنْهَالِ بْنِ
عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ
عليّ يلبس في الحرّ والشتاء القباء المحشوّ الثّخين وما يبالي
الْحَرِّ، فَأَتَانِي أَصْحَابِي فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ رَأَيْنَا
مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا فَهَلْ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ:
وَمَا هُوَ؟
قَالُوا: رَأَيْنَاهُ يَخْرُجُ عَلَيْنَا فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ فِي
الْقَبَاءِ الْمَحْشُوِّ وَمَا يُبَالِي الْحَرَّ، وَيَخْرُجُ
عَلَيْنَا فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ فِي الثَّوْبَيْنِ الْخَفِيفَيْنِ
وَمَا يُبَالِي الْبَرْدَ، فَهَلْ سَمِعْتَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا؟
فَقُلْتُ: لا. فَقَالُوا: سَلْ لَنَا أَبَاكَ فَإِنَّهُ يَسْمُرُ
مَعَهُ.
فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. فَدَخَلَ
عَلَيْهِ فَسَمَرَ مَعَهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَوَ مَا
شَهِدْتَ مَعَنَا خَيْبَرَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَا أَبَا
بَكْرٍ فَعَقَدَ لَهُ وَبَعَثَهُ إِلَى الْقَوْمِ، فَانْطَلَقَ
فَلَقِيَ الْقَوْمَ، ثُمَّ جَاءَ بِالنَّاسِ وَقَدْ هُزِمُوا؟ فَقَالَ:
بَلَى. قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عُمَرَ فَعَقَدَ لَهُ وَبَعَثَهُ
إِلَى الْقَوْمِ، فَانْطَلَقَ فَلَقِيَ الْقَوْمَ فَقَاتَلَهُمْ ثُمَّ
رَجَعَ وَقَدْ هُزِمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: «لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلا
يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ
اللَّهُ عَلَيْهِ غَيْرَ فَرَّارٍ» فَدَعَانِي فَأَعْطَانِي
الرَّايَةَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهمّ اكْفِهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ،
فَمَا وَجَدْتُ بَعْدَ ذَلِكَ حَرًّا وَلا بَرْدًا.
(2/412)
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ
الضَّبِّيِّ، عَنْ أُمِّ مُوسَى قَالَتْ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ:
مَا رَمِدْتُ وَلا صَدَعْتُ مُذْ دَفَعَ إِلَيَّ اللَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ.
رواه أبو داود الطيالسي في مسندة [1]
__________
[1] منحة المعبود: كتاب السيرة النبويّة، باب ما جاء في غزوة خيبر (2/
105) أخرجه الواسطي في مناقب أمير المؤمنين علي 131 رقم 214 من طريق
جرير عن المغيرة عن أم موسى.
(2/413)
فصل فيمن ذكر أن مرحبا قتله مُحَمَّد بْن
مسلمة [1]
قَالَ موسى بْن عُقْبة، عَنِ ابن شهاب، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام يوم خيبر فوعظهم. وفيه: فخرج اليهود
بعاديتها [2] ، فقتل صاحب عادية اليهود فانقطعوا. وقتل مُحَمَّد بْن
مَسْلَمَة الأشهليّ مَرْحَبًا اليهوديّ [3] .
و [68 ب] قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَة
نحوهَ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [4] حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ سَهْلٍ الْحَارِثِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
خَرَجَ مَرْحَبٌ الْيَهُودِيُّ مِنْ حِصْنِ خَيْبَرَ، قَدْ جَمَعَ
سِلاحَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لِهَذَا؟
فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا لَهُ وَأَنَا وَاللَّهِ
الْمَوْتُورُ الثَّائِرُ، قَتَلُوا أَخِي بِالأَمْسِ.
قَالَ: «قُمْ إِلَيْهِ، اللَّهمّ أعِنْهُ عَلَيْهِ» . فَلَمَّا
تَقَارَبَا دخلت بينهما شجرة
__________
[1] في الأصل: سلمة. وهو يرد صحيحا في السياق بعد قليل.
[2] في الأصل: بغادتها، وغادته. والتصحيح من المغازي للواقدي (2/ 653)
. والعادية: الذين يعدون على أقدامهم أو أول من يحمل من الرجّالة
لأنّهم يسرعون العدو.
[3] انظر تاريخ خليفة 82 وعيون التواريخ 1/ 266.
[4] سيرة ابن هشام 4/ 41، 42.
(2/415)
عُمْرِيَّةٌ [1] ، فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا يَلُوذُ (بِهَا) [2] مِنْ صَاحِبِهِ، كُلَّمَا لاذَ بِهَا
أَحَدُهُمَا اقْتَطَعَ بِسَيْفِهِ مَا دُونَهُ، حَتَّى بَرَزَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَصَارَتْ بَيْنَهُمَا كَالرَّجُلِ
الْقَائِمِ مَا فِيهَا فَنَنٌ. ثُمَّ حَمَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ
فَضَرَبَهُ فَاتَّقَاهُ بِالدَّرَقَةِ، فَعَضَّتْ بِسَيْفِهِ
فَأَمْسَكَتْهُ، وَضَرَبَهُ مُحَمَّدٌ حَتَّى قَتَلَهُ [3] . فَقِيلَ
إِنَّهُ ارْتَجَزَ وَقَالَ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَاضِي ... حُلْوٌ إِذَا شِئْتُ وَسُمٌّ
قَاضِي
وَكَانَ ارْتِجَازُ مَرْحَبٍ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ
مُجَرَّبُ
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ ... وَأَحْجَمَتْ عَنْ صَوْلَةِ
الْمُغلَّبْ [4]
أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبُ ... إِنَّ حِمَايَ لِلْحِمَى لا
يُقْرَبُ
وقال الواقدي [5] : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن الفضل [6] بن عبيد الله عن
[7] رافع ابن خُدَيْج [8] عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِر قَالَ: وحدّثني
زكريّا بن زيد، عن عبد الله ابن أَبِي سُفْيَان، عَنْ أبيه، عَنْ
سَلَمَةَ بْن سلامة. قال: وعن مجمّع بن
__________
[1] عمرية: قديمة أتى عليها عمر طويل.
[2] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع.
[3] السيرة 4/ 42.
[4] كذا في الأصل، ع وفيه إقواء. وقد ورد في إحدى نسخ السيرة لابن
هشام: يحجم عن صولتي المجرب. (انظر ابن هشام: 4/ 41) . وإذا قرئت
الأبيات بسكون الباء، فلا إقواء. وراجع الأبيات في تاريخ الطبري 3/ 10
و 11 مع الاختلاف في الألفاظ وكذلك في نهاية الأرب 17/ 251 و 253.
[5] المغازي 2/ 654 ولعلّ السند كله محرّفا في الأصل وهو في مغازي
الواقدي (2/ 656) : حدّثني محمد بن الفضل، عن أبيه، عن جابر.
[6] في الأصل «الفضيل» والتصحيح من تهذيب التهذيب 9/ 401.
[7] في الأصل «ابن» والتصحيح من تهذيب التهذيب 3/ 229 إذ ليس له ولد
اسمه عبيد الله.
[8] لعلّ السند كله محرّفا في الأصل وهو في مغازي الواقدي (2/ 656) :
حدّثني محمد بن الفضل، عن أبيه، عن جابر.
(2/416)
يعقوب، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مجمّع بْن جارية
قَالُوا جميعًا: إنّ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ قتل مَرْحبًا.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَلِيًّا
حَمَلَ عَلَى مَرْحَبٍ فَقَطَرَهُ [1] على الباب، وفتح عليّ الباب
الآخر، وَكَانَ لِلْحِصْنِ بَابَانِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَقِيلَ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ ضَرَبَ
سَاقَيْ مَرْحَبٍ فَقَطَعَهُمَا، فَقَالَ: أَجْهِزْ عَلَيَّ يَا
مُحَمَّدُ. فَقَالَ: ذُقِ الْمَوْتَ كَمَا ذَاقَهُ أَخِي مَحْمُودٌ،
وَجَاوَزَهُ، وَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَأَخَذَ
سَلْبَهُ. فَاخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي سَلْبِهِ، فَأَعْطَاهُ مُحَمَّدًا. وَكَانَ عِنْدَ آلِ
مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِيهِ كِتَابٌ لا يُدْرَى مَا هُوَ، حَتَّى
قَرَأَهُ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ تَيْمَاءَ فَإِذَا هُوَ: هَذَا
سَيْفُ مَرْحَبٍ مَنْ يَذُقْهُ يُعْطَبْ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ [2] بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ [3] رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَرَزَ عَامِرٌ وَكَانَ طُوَالا جَسِيمًا،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
بَرَزَ وَطَلَعَ: «أَتَرَوْنَهُ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ» ؟ وَهُوَ يَدْعُو
إِلَى الْبِرَازِ، فَبَرَزَ لَهُ عَلِيٌّ فَضَرَبَهُ ضَرَبَاتٍ، كُلُّ
ذَلِكَ لا يَصْنَعُ شَيْئًا، حَتَّى ضَرَبَ سَاقَيْهِ فَبَرَكَ، ثُمَّ
دَفَّفَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ سِلاحَهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [4] :
ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَرْحَبٍ أَخُوهُ يَاسِرٌ، فَبَرَزَ لَهُ
الزُّبَيْرُ فَقَتَلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ.
وَرَوَاهُ موسى بن عقبة
__________
[1] في الأصل، ع: ففطره. والتصحيح من المغازي للواقدي (2/ 654) . وقطره
وأقطره: ألقاه على قطره أي جنبه.
[2] في الأصل «الفضيل» ، انظر الحاشية (6) من الصفحة السابقة.
[3] في الأصل «بن» ، والتصحيح من تهذيب 3/ 229، انظر الحاشية (7) من
الصفحة السابقة.
[4] سيرة ابن هشام 4/ 42.
(2/417)
- وَاللَّفْظُ لَهُ- قَالَ: ثُمَّ دَخَلُوا
حِصْنًا لَهُمْ مَنِيعًا يُدْعَى الْقَمُوصَ. فَحَاصَرَهُمُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم [69 أ] قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً.
وَكَانَتْ أَرْضًا وَخِمَةً شَدِيدَةَ الْحَرِّ.
فَجَهَدَ الْمُسْلِمُونَ جَهْدًا شَدِيدًا. فَوَجَدُوا أَحْمِرةً
لِيَهُودَ، فَذَكَرَ قِصَّتَهَا، وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِهَا.
ثُمَّ قَالَ: [1] وَجَاءَ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ كَانَ
فِي غَنَمٍ لِسَيِّدِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلَ خَيْبَرَ قَدْ أَخَذُوا
السِّلاحَ، سَأَلَهُمْ مَا يُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُقَاتِلُ هَذَا
الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ. فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ [ذِكْرُ
النَّبِيِّ] [2] فَأَقْبَلَ بِغَنَمِهِ حَتَّى عَمَدَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، وَقَالَ:
مَاذَا لِي؟ قَالَ: «الْجَنَّةُ» فَقَالَ: يا رسول الله إنّ هَذِهِ
الْغَنَمُ عِنْدِي أَمَانَةٌ. قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أخرِجْهَا مِنْ عَسْكَرِنَا وَارْمِهَا
بِالْحَصْبَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي عَنْكَ أَمَانَتَكَ» .
فَفَعَلَ، فَرَجَعَتِ الْغَنَمُ إِلَى سَيِّدِهَا. وَوَعَظَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ. إِلَى أَنْ قَالَ:
وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْعَبْدُ الأَسْوَدُ، فَاحْتَمَلُوهُ
فَأُدخِلَ فِي فُسْطَاطٍ. وَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطَّلَعَ فِي الْفُسْطَاطِ، ثُمَّ أَقْبَلَ
عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ هَذَا الْعَبْدَ
[3] ، وَقَدْ رَأَيْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْحُورِ
الْعِينِ [4] . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي حَيوَةُ بْنُ
شُرَيْحٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة خَيْبَرَ، فَخَرَجَتْ
سَرِيَّةٌ فَأَخَذُوا إِنْسَانًا مَعَهُ غَنَمٌ يَرْعَاهَا، فَجَاءُوا
بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنِّي قَدْ آمَنْتُ [بِكَ
وَبِمَا جِئْتَ بِهِ] [5]
__________
[1] من هنا يبدأ الموجود من مغازي عروة.
[2] إضافة من المغازي لعروة 200.
[3] في المغازي لعروة 200 زيادة: «وساقه إلى خيبر، قد كان الإسلام في
قلبه حقّا» .
[4] انظر سيرة ابن هشام 4/ 46: والمستدرك على الصحيحين 2/ 636، وعيون
الأثر 2/ 142.
والبداية والنهاية 4/ 190، 191.
[5] ما بين الحاصرتين إضافة من المستدرك على الصحيحين 2/ 136.
(2/418)
فَكَيْفَ بِالْغَنَمِ فَإِنَّهَا
أَمَانَةٌ، وَهِيَ لِلنَّاسِ الشَّاةُ وَالشَّاتَانِ [وَأَكْثَرُ مِنْ
ذَلِكَ] [1] ، قَالَ: احْصِبْ وُجُوهَهَا ترجع إلى أهلها. فأخذ قبضة من
حصباء أو تراب فرمى بها وجوهها، فَخَرَجَتْ تَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَتْ
كُلُّ شَاةٍ إِلَى أَهْلِهَا. ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى الصَّفِّ،
فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ. وَلَمْ يُصَلِّ للَّه سَجْدَةً قَطُّ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أدخلوه
الخباء» فأدخل خباء رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
دَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: «لَقْد حَسُنَ إِسْلامُ
صَاحِبِكُمْ، لَقَدْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَإِنَّ عِنْدَهُ
لَزَوْجَتَيْنِ لَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ» . وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنُ
أَوْ صَحِيحٌ [2] .
وَقَالَ مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: نا حَمَّادٌ، نا ثَابِتٌ عَنْ
أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ أَسْوَدُ
اللَّوْنِ، قَبِيحُ الْوَجْهِ. مُنْتِنُ الرِّيحِ، لا مَالَ لِي،
فَإِنْ قَاتَلْتُ هَؤُلاءِ حَتَّى أُقْتَلَ أَدْخُلِ الْجَنَّةَ؟
قَالَ:
«نَعَمْ» . فَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. فَأَتَى عَلَيْهِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَقْتُولٌ،
فَقَالَ:
«لَقَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ وَجْهَكَ وَطَيَّبَ رُوحَكَ وَكَثَّرَ
مَالَكَ» . قَالَ: وَقَالَ- لِهَذَا أَوْ لِغَيْرِهِ-: «لَقَدْ
رَأَيْتُ زَوْجَتَيْهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ يَتَنَازَعَانِهِ
جُبَّتَهُ عَنْهُ، تَدْخُلانِ فِيمَا بَيْنَ جِلْدِهِ وَجُبَّتِهِ» .
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ يونس، عن ابْنُ إِسْحَاقَ [3] : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ بَعْضِ أَسْلَمَ أَنَّ بَعْضَ بَنِي سَهْمٍ
مِنْ أَسْلَمَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ، فَقَالُوا:
يا رسول [69 ب] اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ جَهَدْنَا وَمَا
بِأَيْدِينَا شَيْءٌ. فَلَمْ يَجِدوُا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَقَالَ: «اللَّهمّ إِنَّكَ قَدْ
علمت حالهم وأنّهم ليست لهم قوّة
__________
[1] إضافة من المستدرك.
[2] قال الحاكم النيسابورىّ: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه وقال
الحافظ الذهبي: بل كان شرحبيل متّهما. قاله ابن أبي ذؤيب. (تلخيص
المستدرك 2/ 136) .
[3] سيرة ابن هشام 4/ 41.
(2/419)
وَلَيْسَ بِيَدِي مَا أُعْطِيهِمْ
إِيَّاهُ. فَافْتَحْ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ حِصْنٍ بِهَا غِنًى،
أَكْثَرُهُ طَعَامًا وَوَدَكًا [1] . فَغَدَا النَّاسُ فَفَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِصْنَ الصَّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَمَا بِخَيْبَرَ
حِصْنٌ أَكْثَرَ طَعَامًا وَوَدَكًا مِنْهُ. فَلَمَّا افْتَتَحَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُصُونِهِمْ
مَا افْتَتَحَ، وَحَازَ مِنَ الأَمْوَالِ مَا حَازَ، انْتَهَوْا إِلَى
حِصْنَيْهِمُ [2] الْوَطِيحِ وَالسُّلالِمِ، وَكَانَا آخِرَ حُصُونِ
خَيْبَرَ افْتِتَاحًا، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلّم بضع عشرة ليلة [3] .
__________
[1] الودك: الدّسم.
[2] في الأصل، ع: حصنهم وأثبتنا نصّ ابن هشام.
[3] انظر الخبر أيضا في تاريخ الطبري 3/ 14 وبعضه في نهاية الأرب 17/
255 و 27.
(2/420)
ذكر صفية
وقال البكّائي، عَنِ ابن إسحاق قَالَ: ويُدْني [1] رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأموال، يأخذها مالًا مالًا،
ويفتحها حصنًا حصنًا. فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم، وعنده قُتِل
محمود بْن مَسْلَمَة الأنصاريّ أخو مُحَمَّد، ألقيت عَلَيْهِ رَحَى
فقتلته. ثُمَّ القَمُوص، حصن ابن أَبِي الحُقَيْق. وأصاب رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم سبايا، منهنّ صفيَّة
بِنْت حُيَيّ بْن أخطب [2] ، وبنتا عمّ لَهَا، فأعطاهما دِحْيةَ
الكلبي.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابن إسحاق [3] ، حدّثني ابن لمحمد بْنِ
مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيُّ عَمَّنْ أَدْرَكَ مِنْ أَهْلِهِ،
وَحَدَّثَنِيهِ مِكْنَفٌ، قَالا: حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ فِي حِصْنَيْهِمُ [4]
الْوَطِيحِ وَالسُّلالِمِ، حَتَّى إِذَا أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ،
سَأَلوُا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ
يُسَيِّرَهُمْ وَيَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ، فَفَعَلَ. وَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَازَ الأَمْوَالَ
كُلَّهَا: الشَّقَّ وَالنَّطَّاةَ وَالْكُتَيْبَةَ وَجَمِيعَ
حُصُونِهِمْ، إِلا ما كان في
__________
[1] عند ابن كثير 4/ 192 «وتدنّى» .
[2] تاريخ خليفة 82 و 83.
[3] سيرة ابن هشام 4/ 43 وفتوح البلدان 1/ 27.
[4] في الأصل، ع: حصنهم. وأثبتنا نصّ ابن هشام، والطبري.
(2/421)
ذَيْنِكَ الْحِصْنَيْنِ. فَلَمَّا سَمِعَ
بِهِمْ أَهْلُ فَدَكٍ قَدْ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا، بَعَثُوا إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ أَنْ
يُسَيِّرَهُمْ وَيَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ، وَيُخْلُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الأَمْوَالِ، فَفَعَلَ. فَكَانَ مِمَّنْ مَشَى بَيْن يَدَيْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمْ، فِي ذَلِكَ،
مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ. فَلَمَّا نَزَلُوا عَلَى ذَلِكَ سَأَلُوا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَامِلَهُمْ
[فِي] [1] الأَمْوَالِ عَلَى النِّصْفِ، وَقَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ
بِهَا مِنْكُمْ وَأَعْمَرُ لَهَا. فَصَالَحَهُمْ عَلَى النِّصْفِ،
عَلَى أَنَّا إِذَا شِئْنَا أَنْ نُخْرِجَكُمْ أَخْرَجْنَاكُمْ.
وَصَالَحَهُ أَهْلُ فَدَكٍ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. فَكَانَتْ أَمْوَالُ
خَيْبَرَ فَيْئًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ فَدَكٌ خَالِصَةً
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأَنَّ
الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُجْلَبُوا عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ [2] .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ. وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ قَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ
وَسَبَى الذَّرِارِيَّ. فَصَارَتْ صَفِيَّةُ لِدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ،
ثُمَّ صَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
[3] .
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن عمرو (بن أبي عمرو) [4]
[70 أ] ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَالُ صَفِيَّةَ، وَكَانَتْ عَرُوسًا وَقُتِلَ
زَوْجُهَا، فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلّم لنفسه. فلما كنّا بسدّ الصّهباء [5]
__________
[1] إضافة من السيرة،. وعند الطبري «بالأقوال» .
[2] سيرة ابن هشام 4/ 43، 44 تاريخ الطبري 3/ 14، 15، تاريخ خليفة 83،
البداية والنهاية 4/ 198، فتوح البلدان 1/ 34.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. (5/ 74) وانظر عن زواج
النبي صلّى الله عليه وسلّم من صفية: الطبقات لابن سعد 8/ 85 وما
بعدها، تسمية أزواج النبي لأبي عبيدة 66، والاستيعاب 4/ 1871 وأسد
الغابة 5/ 490، والسمط الثمين 118، والإصابة 4/ 337، وإمتاع الأسماع
321 و 331، 332.
[4] انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (8/ 82) .
[5] سدّ الصهباء: قال ياقوت في صهباء (3/ 435) : اسم موضع بينه وبين
خيبر روحة، له ذكر في الأخبار.
(2/422)
حَلَّتْ، فَبَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاتَّخَذَ حَيْسًا [1] فِي نِطْعٍ
صَغِيرٍ، وَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ. فَرَأَيْتُهُ يُحَوِّي لَهَا
بِعَبَاءَةٍ خَلْفَهُ، وَيَجْلِسُ عِنْدَ نَاقَتِهِ، فَيَضَعُ
رُكْبَتَهُ فَتَجِيءُ صَفِيَّةُ فَتَضَعُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ
ثُمَّ تَرْكَبُ [2] . فَلَمَّا بَدَا لَنَا أُحُدٌ قَالَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا
وَنُحِبُّهُ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا،
وَمُسْلِمٌ [3] . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ:
أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ، سَمِعَ أَنَسًا قَالَ:
أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ
خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ يَبْنِي عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ.
فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلا
لَحْمٍ، وَمَا كَانَ إِلا أَنْ أَمَرَ [بِلالا] [4] بِالأَنْطَاعِ
فَبُسِطَتْ، وَأُلْقِيَ عَلَيْهَا التَّمْرُ وَالأَقِطُ وَالسَّمْنُ.
فقال المسلمون: إحدى أمّهات المؤمنين هي أو ما ملكت يمينه؟ قالوا: إن
حجبها فهي إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا
فَهِيَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ.
فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّأَ لَهَا خَلْفَهُ، وَمَدَّ الْحِجَابَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [5] .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ [6] . عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ-
فِيمَا أَحْسَبُ- عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنّ رَسُولَ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ حَتَّى
أَلْجَأَهُمْ إِلَى قَصْرِهِمْ، فَغَلَبَ عَلَى الأَرْضِ وَالزَّرْعِ
وَالنَّخْلِ، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَجْلُوا مِنْهَا، وَلَهُمْ مَا
حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلّم الصّفراء والبيضاء، ويخرجون منها.
__________
[1] الحيس: تمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديدا ثم يندر منه نواه وربّما
جعل فيه سويق (المحيط) .
[2] المغازي لعروة 199، فتح الباري 7/ 480.
[3] صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من غزا بصبيّ للخدمة. وكتاب
المغازي، باب غزوة خيبر (4211) وصحيح مسلم: كتاب النكاح، باب فضيلة
إعتاقه أمته ثم يتزوّجها.
[4] إضافة من البخاري 5/ 77 والبداية والنهاية 4/ 196.
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. 5/ 77، 78 وانظر
الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 122.
[6] انظر دلائل النبوّة للبيهقي، وفتوح البلدان للبلاذري 1/ 25.
(2/423)
وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لا يَكْتُمُوا
شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلُوهُ فَلا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلا عَهْدَ.
فَغَيَّبُوا مَسْكًا [1] فِيهِ مَالٌ وَحُلًى لِحُيَيِّ بْنُ أَخْطَبَ،
كَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ إِلَى خَيْبَرَ حِينَ أُجْلِيَتْ [بَنُو]
النَّضِيرِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَمِّ حُيَيٍّ: مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَيٍّ الَّذِي جَاءَ
بِهِ مِنَ النَّضِيرِ؟ قَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ.
فَقَالَ: الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الزُّبَيْرِ، فَمَسَّهُ بِعَذَابٍ. وَقَدْ كَانَ حُيَيٌّ قَبْلَ ذَلِكَ
دَخَلَ خَرَبَةً، فَقَالَ عَمُّهُ: قَدْ رَأَيْتَ حُيَيًّا يَطُوفُ فِي
خربة هاهنا: فَذَهَبُوا فَطَافُوا. فَوَجَدُوا الْمَسْكَ فِي
الْخَرَبَةِ. فَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ابْنَيْ [أَبِي] [2] حُقَيْقٍ، وَأَحَدُهُمَا زَوْجُ
صَفِيَّةَ. وَسَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَقَسَّمَ أَمْوَالَهُمْ بِالنَّكْثِ
الَّذِي نَكَثُوا.
وَأَرَادَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْهَا. فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ،
دَعْنَا نَكُونُ فِي هَذِهِ الأَرْضِ نُصْلِحُهَا وَنَقُومُ عَلَيْهَا.
وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلا لأَصْحَابِهِ غِلالٌ [3] يَقُومُونَ عَلَيْهَا، فَأَعْطَاهُمْ
عَلَى النّصف ما بعدا [4] لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ [5] . فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ يَأْتِيهِمْ
كُلَّ عَامٍ فَيَخْرُصُهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ يُضَمِّنُهُمُ الشَّطْرَ.
فَشَكَوْا إِلَى رسول الله] 70 ب] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شِدَّةَ خَرْصِهِ [6] ، وَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ فَقَالَ: يَا
أَعْدَاءَ اللَّهِ تُطْعِمُونِّي السُّحْتَ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ
جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلأَنْتُمْ
أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ،
وَلا يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ وَحُبِّي إِيَّاهُ عَلَى أَنْ لا
أَعْدِلَ عَلَيْكُمْ. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
__________
[1] المسك: الجلد عامة أو جلد السخلة خاصة (السخلة ولد الشاة) .
[2] ساقطة من الأصل.
[3] في طبعة القدسي 39 «غلمان» والتصحيح من البداية والنهاية 4/ 199.
[4] النقص واضح في العبارة، وفي البداية والنهاية 4/ 199 «فأعطاهم خيبر
على أنّ لهم الشطر من كل زرع ونخيل وشيء ما بدا لرسول الله» .
[5] رواه أبو داود في سنة 3/ 158 رقم 3006 كتاب الخراج والإمارة
والفيء.
[6] الخرص: الخزر والحدس والتخمين، وخرص العدد قدّره تقديرا بظنّ لا
إحاطة.
(2/424)
قَالَ: وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنِ صَفِيَّةَ خُضْرَةً، فَقَالَ: مَا
هَذِهِ؟
قَالَتْ: كَانَ رَأْسِي فِي حِجْرِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَأَنَا
نَائِمَةٌ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ قَمَرًا وَقَعَ فِي حِجْرِي
فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَلَطَمَنِي وَقَالَ: تَمَنِّينَ مَلِكَ
يَثْرِبَ؟ قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ أَبْغَضِ النَّاسِ إِلَيَّ، قَتَلَ أَبِي وَزَوْجِي.
فَمَا زَالَ يَعْتَذِرُ إِلَيَّ وَيَقُولُ: إِنَّ أَبَاكِ أَلَّبَ
الْعَرَبَ عَلَيَّ وَفَعَلَ وَفَعَلَ، حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ مِنْ
نَفْسِي.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي
كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ ثَمَانِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرِ كُلِّ
عَامٍ، وَعِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ [مِنْ خَيْبَرَ] [1] .
فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُمَرَ غَشُّوا الْمُسْلِمِينَ، وَأَلْقَوُا
ابْنَ عُمَرَ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ، ففدعوا [2] يديه، فقال عمر: من كان
لهم سَهْمٌ بِخَيْبَرَ فَلْيَحْضُرْ، حَتَّى قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ.
وَقَالَ رَئِيسُهُمْ: لا تُخْرِجْنَا، دَعْنَا نَكُونُ فِيهَا كَمَا
أَقَرَّنَا رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ. فَقَالَ لَهُ: أَتُرَاهُ
سَقَطَ عَنِّي [3] قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: كَيْفَ بِكَ إِذَا وَقِصَتْ [4] بِكَ رَاحِلَتُكَ نَحْوَ
الشَّامِ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا. وَقَسَّمَهَا عُمَرُ
بَيْنَ مَنْ كَانَ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ.
اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: وَرَوَاهُ
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ [5] . وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْمَرَّارُ بْنُ
حَمَّوَيْهِ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ، عَنْ مَالِكٍ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قال: لما فُدِعْتُ بِخَيْبَرَ قَامَ
عُمَرُ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ يَهُودَ خيَبْرَ عَلَى أَمْوَالِهَا،
وَقَالَ: نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ مَالُهُ هُنَاكَ، فَعُدِيَ عَلَيْهِ
من
__________
[1] إضافة من فتوح البلدان 1/ 27 وانظر سنن أبي داود (3007) كتاب
الخراج والإمارة والفيء.
[2] الفدع: اعوجاج الرسغ من اليد أو الرجل، أو زيغ بين القدم وعظم
السّاق.
[3] عند ابن كثير 4/ 200 «عليّ» .
[4] في طبعة القدسي 392 «وفضت» ، والصحيح ما أثبتناه، ووقص بمعنى كسر،
وهنا بمعنى اتجهت.
[5] صحيح البخاري: كتاب الشروط، باب إذا اشترط في المزارعة إذا شئت
أخرجتك.
(3/ 177، 178) ورواه أبو داود مختصرا من حديث حمّاد ابن سلمة. وقال ابن
كثير: ولم أره في الأطراف. (البداية والنهاية 4/ 199، 200) وانظر فتوح
البلدان 1/ 25، 27.
(2/425)
اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ يَدَاهُ، وَلَيْسَ
لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرُهُمْ، وَهُمْ تُهْمَتُنَا [1] ، وَقَدْ
رَأَيْتُ إِجْلاءَهُمْ. فَلَمَّا أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ أَتَاهُ أَحَدُ
بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
تُخْرِجُنَا وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ وَعَامِلُنَا؟ فَقَالَ:
أَظَنَنْتَ أَنِّي نَسِيتُ قول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ
تَعْدُو قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ. فَأَجْلاهُمْ
وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ مَالا وَإِبِلا
وَعَرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ. أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ [2] .
وَقَالَ ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ [3] ، عَنْ بَشِيرِ
بْنِ يَسَارٍ [4] عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ قَسَّمَهَا عَلَى سِتَّةٍ
وَثَلاثِينَ سَهْمًا، جَمَعَ كُلَّ سَهْمٍ مِائَةَ سَهْمٍ، فَكَانَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَزَلَ النِّصْفَ
الْبَاقِي لِمَنْ نَزَلَ بِهِ مِنَ الوفود والأمور ونوائب النّاس [71
أ] . أخرجه أَبُو دَاوُدَ [5] .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ
بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ [6] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ خَيْبَرَ سِتَّةً وَثَلاثِينَ سَهْمًا،
فَعَزَلَ لِلْمُسْلِمِينَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، فَجَمَعَ كُلَّ
سَهْمٍ مِائَةً، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَعَهُمْ وَلَهُ سَهْمٌ كَسَهْمِ أَحَدِهِمْ [7] .
وَعَزَلَ النِّصْفَ لِنَوَائِبِهِ وَمَا يَنْزِلُ بِهِ مِنْ أُمُورِ
الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ الوطيح
__________
[1] التهمة: (كهمزة) ما يتهم عليه. وهم تهمتنا أي نظنّ فيهم ما نسب
إليهم.
[2] صحيح البخاري: كتاب الشروط، باب إذا اشترط في المزارعة إذا شئت
أخرجتك.
(3/ 177، 178) .
[3] في الأصل، ع: سعد ويأتي صحيحا في سند الحديث التالي. وانظر ترجمته
في تهذيب التهذيب (11/ 220) .
[4] في الأصل: بشار. والتصحيح من ع ومن ترجمته في تهذيب التهذيب (1/
472) . ومن فتوح البلدان 1/ 28 و 29.
[5] سنن أبي داود: كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب ما جاء في حكم أرض
خيبر (2/ 142) وانظر: عيون الأثر لابن سيّد الناس 2/ 141.
[6] في الأصل: بشار. وانظر ما تقدّم.
[7] في الأصل: كسهم آخرهم. وما أثبتناه من ع وسنن أبي داود (2/ 143) .
(2/426)
وَالسُّلالِمَ وَالْكُتَيْبَةَ
وَتَوَابِعَهَا، فَلَمَّا صَارَتِ الأَمْوَالُ بِيَدِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَكُنْ
لَهُمْ عُمَّالٌ يَكْفُونَهُمْ عَمَلَهَا، فَدَعَا الْيَهُودُ
فَعَامَلَهُمْ [1] .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ [2] : وَهَذَا لأَنَّ بَعْضَ خَيْبَرَ فُتِحَ
عَنْوَةً، وَبَعْضَهَا صُلْحًا.
فَقَسَّمَ مَا فُتِحَ عَنْوةً بَيْنَ أَهْلِ الْخُمْسِ
وَالْغَانِمِينَ، وَعَزَلَ مَا فُتِحَ صُلْحًا لِنَوَائِبِهِ وَمَا
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ [ثنا] مَعْمَرٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ خَيْبَرَ يَوْمَ
أَشْرَكَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
فِيهَا زَرْعٌ وَنَخْلٌ فَكَانَ يُقَسِّمُ لِنِسَائِهِ كُلَّ سَنَةٍ
لكلّ واحدة منهنّ مائة وسق تمر، وعشرين وسق شعير لِكُلِّ امْرَأَةٍ.
رَوَاهُ الذُّهْلِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَأَسْقَطَ مِنْهُ:
ابْنَ عُمَرَ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنِي
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، عَنْ
عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ لِمِائَتَيْ فَرَسٍ يَوْمَ خَيْبَرَ
سَهْمَيْنِ سَهْمَيْنِ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَقَالَ لِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ، وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ
كَيْسَانَ قَالَ: كَانُوا يَوْمَ خَيْبَرَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ،
وَكَانَتِ الْخَيْلِ مِائَتَيْ فَرَسٍ [3] .
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عن
سعيد بن
__________
[1] قال البلاذري من رواية بشير بن يسار 28: «فدفعها» الى اليهود
يعملونها. على نصف ما خرج منها» وانظر: سنن أبي داود 3/ 160 رقم (3014)
كتاب الخراج والإمارة والفيء.
[2] في دلائل النبوّة.
[3] عيون الأثر 2/ 139.
(2/427)
الْمُسَيِّبِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
قَالَ: لَمَّا قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهْمَ ذَوِي
الْقُرْبَى مِنْ خَيْبَرَ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ،
مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلاءِ
إِخْوَتُكَ بَنُو هَاشِمٍ لا يُنْكَرُ فَضْلُهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي
جَعَلَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ. أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي
الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْكَ. فَقَالَ: إِنَّهُمْ: لَمْ
يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ، وَإِنَّمَا بَنُو
هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ شَبَّكَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا فِي
الأُخْرَى. اسْتَشْهَدَ بِهِ خ [1] .
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ
فَالْتَزَمْتُهُ، وَقُلْتُ: هَذَا لا أُعْطِي أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا.
فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَتَبَسَّمُ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [2] .
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: نا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُجَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
أَوْفَى قَالَ: قُلْتُ أَكُنْتُمْ تُخَمِّسُونَ الطعام في عهد رسول [71
ب] اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أَصَبْنَا
طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ
مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
[3] .
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي
عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ- أَوْ عَنْ أَبِي قِلابَةَ- قَالَ: لَمَّا
قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ
قَدِمَ وَالثَّمَرَةَ خضرة، فأشرع
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (5/ 79) .
[2] صحيح البخاري: كتاب فرض الخمس، باب ما يصيب من الطعام في أرض
الحرب، وكتاب المغازي، باب غزوة خيبر 3/ 78. وصحيح مسلم: كتاب الجهاد
والسير، باب أخذ الطعام من أرض العدو.
[3] سنن أبي داود: كتاب الجهاد، باب في النّهي عن النّهي إذا كان في
الطعام قلّة في أرض العدو (2/ 60) .
(2/428)
النَّاسُ فِيهَا فَحُمُّوا، فَشَكَوْا
ذَلِكَ إِلَيْهِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقَرِّسُوا الْمَاءَ فِي
الشِّنَانِ [1] ، ثُمَّ يَحْدُرُونَ [2] عَلَيْهِمْ بَيْنَ أَذَانَيِ
الْفَجْرِ، وَيَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، قَالَ:
فَفَعَلُوا فَكَأَنَّمَا نَشِطُوا مِنْ عَقْلٍ.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ،
حَدَّثَنِي عُمَيْرٌ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ، قَالَ: شَهِدْتُ
خَيْبَرَ، مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ سَيْفًا،
فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي
بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ، أَيْ رَدِيئَهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُدَ [3] .
ذِكْرُ من استشهد عَلَى خيبر
عَلَى ما ذكر ابن إِسْحَاق [4] ، قَالَ:
من حلفاء بني أُميَّة: ربيعة بن أكثم. وثقف [5] بن عمرو. ورفاعة ابن
مسروح.
ومن بني أسد بْن عَبْد العُزَّى. عَبْد الله بن الهبيب [6] .
ومن الأنصار.
فُضَيْل بْن النُّعمان السَّلمي، ومسعود بْن سعد الزُّرَقي. وأبو
الضّيّاع [7]
__________
[1] قرس الماء تقريسا: بردّه: والشّنان: الأسقية.
[2] الحدر: الإسراع.
[3] سنن أبي داود: كتاب الجهاد باب في المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة
(2/ 67) .
[4] سيرة ابن هشام 4/ 49.
[5] في سيرة ابن هشام 4/ 49 «ثقيف» ، والمثبت عن: المغازي لعروة 199،
وطبقات ابن سعد 398/ 98 وتاريخ خليفة 83، وحلية الأولياء 1/ 352
والإصابة 1/ 202 رقم 960.
[6] قال ابن هشام: بضم الهاء ويقال بفتحها.
[7] هو: أبو ضياح بن ثابت بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس بن ثعلبة
بن عمرو بن عوف (السيرة 4/ 49) وقال في المغازي لعروة 199 «أبو الصباح
أو أبو ضياح» .
(2/429)
ابن ثابت، أحد بني عَمْرو بْن عَوْف.
والحارث بْن حاطب، وعُرْوة بْن مُرّة [1] .
وأوس بْن القائد [2] . وأنيف بْن حبيب. وثابت بْن أثلة [3] . وطلحة [4]
.
وعمارة بْن عُقبة الغِفَاريّ.
وقد تقدّم: عامر بْن الأكْوع، ومحمود بْن سَلَمَةَ. والأسود الراعي.
وزاد عَبْد الملك بْن هشام [5] ، فقال: مَسْعُود بْن ربيعة، حليف بني
زُهرة وأوس بْن قَتَادَة الأنصاريّ.
وزاد بعضهم فقال: ومبشّر بْن عَبْد المنذر، وأبو سُفْيَان بْن الحارث
[6] وليس بالهاشميّ.
قدوم جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب ومَن معه
خ، م [7] قَالا: ثنا أَبُو كُرَيْبٍ، ثنا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي
بُرَيْدٌ عَنْ [8] أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ
قَالَ:
__________
[1] في السيرة «عروة بن سراقة» وهو: عروة بن مرة بن سراقة. كما في
الإصابة 2/ 477.
[2] في الأصل: القائف، تصحيف. وقد اختلف في اسم أبيه فقيل الفائد
والفاتك والفاكه. انظر ترجمته في أسد الغابة (1/ 174) والإصابة (1/ 86)
.
[3] في الأصل: أيلة. والتصحيح من ترجمته في أسد الغابة (1/ 265) .
والإصابة (1/ 190) وسيرة ابن هشام 4/ 49.
[4] ورد في أسد الغابة والإصابة غير منسوب. وفي شرح أبي ذرّ أنه «طلحة
بن يحيى بن مليل بن ضمرة» .
[5] سيرة ابن هشام 4/ 49.
[6] تاريخ خليفة 84.
[7] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. 5/ 79- 81 وصحيح مسلم
(2502) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل جعفر بن أبي طالب إلخ.
[8] في الأصل (بن) . خطأ تصحيحه من الصحيحين وتهذيب التهذيب. وهو بريد
بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري 1/ 431 رقم 795 أما أبو
بردة الّذي يروي عنه فهو عمرو بن يزيد التميمي الكوفي (التهذيب 8/ 119
رقم 200) .
(2/430)
بَلَغَنَا مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا
مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ، أَنَا وَأَخَوَانٌ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمُ،
أَحَدُهُمَا أَبُو رُهْمٍ، وَالآخَرُ أَبُو بُرْدَةَ، إِمَّا قَالَ:
بِضعٌ، وَإِمَّا قال: في ثلاثة، أو اثنين وخمسين رجلا من قومي. فركبنا
سفينة، فألقتنا سَفِينَتَنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ.
فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ.
فَقَالَ جَعْفَرٌ. إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بعثنا وَأَمَرَنَا، يَعْنِي بِالإِقَامَةِ، فَأَقِيمُوا
مَعَنَا، فَأَقَمْنَا مَعَهُ، حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَتَحَ
خَيْبَرَ. فَأَسْهَمَ لَنَا، وَمَا قَسَمَ لأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ
خَيْبَرَ شَيْئًا إِلا لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ، إِلا أَصْحَابَ
سَفِينَتِنَا، مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ.
قَالَ: فَكَانَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ يَقُولُونَ لَنَا: سَبَقْنَاكُمْ
بِالْهِجْرَةِ.
قَالَ: وَدَخَلَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَهِيَ مِمَّنْ قَدِمَ
مَعَنَا، عَلَى حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ زَائِرَةً [72 أ] وَقَدْ كَانَتْ هَاجَرَتْ إِلَى
النَّجَاشِيِّ. فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى حَفْصَةَ وَأَسْمَاءُ عِنْدَهَا،
فَقَالَ عُمَرُ حِينَ رَأَى أَسْمَاءَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ:
أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ. قَالَ عُمَرُ: آلْحَبَشِيَّةُ هَذِهِ؟
آلْبَحْرِيَّةُ هَذِهِ؟ فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: نَعَمْ. فَقَالَ عُمَرُ:
سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ، نَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَتْ، فَقَالَتْ كَلِمَةً:
[كَذَبْتَ] [1] يَا عُمَرُ! كَلا وَاللَّهِ، كُنْتُمْ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ
وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا فِي دَارِ- أَوْ أَرْضِ- الْبُعَدَاءِ،
أَوِ الْبُغَضَاءِ، بِالْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ تَعَالَى
وَفِي رَسُولِهِ. وَايْمُ اللَّهِ لا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلا أَشْرَبُ
شَرَابًا حَتَّى أَذْكُرَ مَا قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ كُنَّا نُؤْذَى وَنَخَافُ وَسَأَذْكُرُ
لَهُ ذَلِكَ وَأَسْأَلُهُ. فَلَمَّا جَاءَ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ
اللَّهِ، إِنَّ عُمَرَ قَالَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: «لَيْسَ بِأَحَقَّ
بِي مِنْكُمْ، لَهُ وَلأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكُمْ
أَنْتُمْ- أَهْلَ السَّفِينَةِ- هِجْرَتَانِ» . قَالَتْ: فَلَقَدْ
رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ يَأْتُونِي أَرْسَالا،
يَسْأَلُونِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ. مَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ هُمْ
به
__________
[1] سقطت من الأصل، ع: وزدناها من صحيح مسلم.
(2/431)
أَفْرَحُ وَلا أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ
مِمَّا قَالَ لهم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا
مُوسَى وَإِنَّهُ لَيَسْتَعِيدُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنِّي. وَقَالَ:
لَكُمُ الْهِجْرَةُ مَرَّتَيْنِ، هَاجَرْتُمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ
وَهَاجَرْتُمْ إِلَيَّ [1] .
وَقَالَ أَجْلَحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:
لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ مِنَ الْحَبَشَةِ تَلَقَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ، ثُمَّ قَالَ:
«وَاللَّهِ مَا أَرَى [2] بِأَيِّهِمَا أَفْرَحُ، بِفَتْحِ خَيْبَرَ
أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ [3] وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَنْ أَجْلَحَ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: ثنا
الزُّهْرِيُّ، أنه سمع عنبسة بن سعيد القرشيّ [يحدّث] [4] عن أبي
هريرة، قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عليه وسلّم بخيبر حين افتتحها، فسألته عن أَنْ يُسْهِمَ لِي.
فَتَكَلَّمَ بَعْضُ وَلَدِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: لا نُسْهِمُ
لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقُلْتُ: هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ [5]
. فَقَالَ، أَظُنُّهُ ابْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: يَا عَجَبِي
لِوَبْرٍ قَدْ تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قُدُومِ ضَالٍّ [6]
يُعَيِّرُنِي بِقَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى
يَدِي، وَلَمْ يُهِنِّي عَلَى يَدَيْهِ.
لَفْظُ د [7] ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، لَكِنْ قَالَ: مِنْ
قُدُومِ ضَأْنٍ [8] .
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عن الزّهري،
أخبرني عنبسة
__________
[1] انظر البداية والنهاية 4/ 205، 206.
[2] في سيرة ابن هشام 4/ 52 «ما أدري» .
[3] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 22/ 100 والحاكم في المستدرك على
الصحيحين 3/ 211 من غير هذا الطريق وبلفظ مختلف.
[4] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع وسنن أبي داود.
[5] هو النعمان بن قوقل الأنصاري الصحابي، قتله أبان يوم أحد. (الإصابة
3/ 564 رقم 8755) .
[6] في صحيح البخاري 5/ 82 قال أبو عبد الله الضالّ السّدر.
[7] سنن أبي داود: كتاب الجهاد، باب فيمن جاء بعد الغنيمة لا سهم له
(2/ 67) .
[8] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (5/ 82) .
(2/432)
ابن سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ يُخْبِرُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَانَ عَلَى سَرِيَّةٍ
قِبَل نَجْدٍ، فَقَدِمَ أَبَانُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَيْبَرَ بَعْدَ فَتْحِهَا،
وَإِنَّ حُزُمَ خَيْلِهِمْ لَلِيفٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا
تَقْسِمْ لَهُمْ.
فَقَالَ أَبَانٌ: أَنْتَ بِهَذَا يَا وَبْرُ تَحَدَّرُ مِنْ رَأْسِ
ضَالٍّ [1] . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا أَبَانُ، اجْلِسْ، فَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ.
عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، فَقَالَ: وَيُذْكَرُ عَنِ
الزُّبَيْدِيِّ [2] . وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب [72 ب] قَالَ:
كانت بنو فزارة ممّن قدِم أهل خيبر ليُعِيُنوهم. فراسلهم رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لا يعينوهم، وسألهم
أن يخرجوا عَنْهُمْ، ولكم من خيبر كذا وكذا. فأَبَوا عَلَيْهِ. فلما
فتح الله خيبرَ، أتاه من كَانَ هنالك من بني فزارة، قَالَوا: [اعْطِنا]
[3] حظَّنا الَّذِي وعدْتنا. فقال: «حظّكم» ، أو قَالَ لكم ذو الرقيبة-
جبل من جبال خيبر- قَالُوا: إذًا نقاتلك. فقال: «موعدكم جَنَفَاء» .
فلما سمعوا ذَلِكَ هربوا. جنفاء ماء من مياه بني فزارة.
وقال خ [4] ، ثنا مكّي بْن إِبْرَاهِيم، نا يزيد بْن أَبِي عُبَيْد
قَالَ: رَأَيْت أثر ضربة فِي ساق سَلَمَةَ فقلت: يا أَبَا مُسْلِم، ما
هذه الضربة؟ فقال: هذه ضربة أصابتني يومَ خيبر، فقال النّاس: أصيب
سَلَمَةَ، فأتيت النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَثَ
فيها ثلاث نَفَثَاتٍ، فما اشتكيتها حتى السّاعة.
__________
[1] ويروى: من رأس ضأن كما تقدّم، والضأن: قيل هو جبل بهذا الاسم، وقيل
هو الغنم. كأنّه يعرّض بأبي هريرة لقوله: لا تقسم لهم.
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (5/ 82) .
[3] في الأصل: أحظنا. والتصحيح من معجم البلدان (جنفاء) وقد أورد
الحديث بتمامه من رواية موسى بن عقبة التي هنا. وجنفاء: موضع في بلاد
بني فزارة، وموضع بين خيبر وفيد، ذكرهما ياقوت 2/ 172 ونسب إليه
السمهوري (2/ 283) قوله عن الموضع الثاني أنه هو الّذي وقع ذكره في
غزوة خيبر. وليس في المطبوع ما يشير إلى ذلك.
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. (5/ 75، 76) وعيون
الأثر 2/ 142.
(2/433)
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي
حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ
مَغَازِيهِ، فَاقْتَتَلُوا. فَمَالَ كُلُّ فَرِيقٍ [1] إِلَى
عَسْكَرِهِمْ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ لِلْمُشْرِكِينَ
شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً [2] إِلا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ
[3] . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» . فَقَالُوا:
أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟
فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ لَا يَمُوتُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ أَبَدًا،
فَاتَّبَعَهُ حَتَّى جُرِحَ، فَاشْتَدَّتْ جِرَاحَتُهُ وَاسْتَعْجَلَ
الْمَوْتَ، فَوَضَعَ سَيْفَهُ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ
ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَجَاءَ
الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: أَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: «وَمَا ذَاكَ» ؟
فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا
يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ
لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ
وَإِنَّهُ لِمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [4] .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ [5] مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ [6] بْنِ أَبِي
حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر، فَقَالَ لِرَجُلٍ، يَعْنِيَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ. فَذَكَرَ نَحْوَ
حَدِيثِ سهل بن سعد.
__________
[1] في صحيح البخاري «قوم» بدل «فريق» .
[2] الشاذ: هو الّذي يكون مع الجماعة ثم يفارقهم. والفاذّ هو الّذي لم
يكن قط قد اختلط بهم والتأنيث فيهما باعتبار النفس والتاء للوحدة (شرح
الكرماني) .
[3] في صحيح البخاري زيادة: «فقيل يا رسول الله ما أجزأ أحد ما أجزأ
فلان» .
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 5/ 76 وصحيح مسلم (112)
كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه إلخ.
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. (5/ 74، 75) .
[6] في الأصل: سعيد، تحريف تصويبه من صحيح البخاري ومن ترجمته في تهذيب
التهذيب (4/ 351) .
(2/434)
وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَغَيْرُهُ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ سعيد، عن محمد بن يحيى ابن حِبَّانَ، عَنْ أَبِي
عَمْرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلًا
تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ.
فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ: فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ. فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ، فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ
خَرَزِ الْيَهُودِ يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ.
شَأْنُ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْمَعُوا من كان هاهنا
من اليهود» . فجمعوا [73 أ] لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ
فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ» ؟ قَالُوا: نعَمَ، يَا أَبَا
الْقَاسِمِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَنْ أَبُوكُمْ» ؟ قَالُوا: أَبُونَا فُلانٌ. قَالَ:
«كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلانٌ» ، قَالُوا: صَدَقْتَ وبرزت. قَالَ
لَهُمْ: «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ
عَنْهُ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ
عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ في آبائنا [1] ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَهْلُ النَّارِ» ؟
فَقَالُوا:
نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «اخسئوا فيها، فو الله لَا
نَخْلُفَنَّكُمْ فِيهَا أبدًا» ، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ أَنْتُمْ
صَادِقِيَّ (فِي شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ) » ؟ قالوا: نعم.
قال: «أجعلتم في هذه الشاة سمّا» ؟
قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ» ؟ قَالُوا:
أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وَإِنْ
كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ. أَخْرَجَهُ خ [2] .
__________
[1] عند ابن سعد 2/ 115 «أبينا» .
[2] صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب إذا غدر المشركون بالمسلمين
هل يعفى عنهم 4/ 66. وكتاب الطب، باب ما يذكر في سمّ النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم. (7/ 32) وانظر البداية والنهاية 4/ 208، 209، والطبقات
الكبرى 2/ 115، 116.
(2/435)
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ: ثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيَّةَ
أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ
مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، قَالَتْ:
أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ. فَقَالَ: «مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ
عَلَى ذَلِكَ» . أَوْ قَالَ: «عَلَيَّ» ، قالوا:. لا نَقْتُلُهَا.
قَالَ: «لَا» .
فَمَا زِلْتُ، أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ خَالِدٍ
[1] .
وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ أَهْدَتْ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً مَسْمُومَةً،
فَقَالَ: «أَمْسِكُوا فَإِنَّهَا مَسْمُومَةً» ، قَالَ: «وَمَا
حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ» ؟ قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ إِنْ
كُنْتَ نَبِيًّا فَسَيُطْلِعُكَ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا
أُرِيحُ النَّاسَ مِنْكَ قَالَ: فَمَا عَرَضَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [2] . وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ
نَحْوَهُ. وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً مَصْلِيَّةً [3]
بِخَيْبَرَ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا، ثُمَّ قَالَ:
«أَمْسِكُوا» . وَقَالَ لَهَا: «هَلْ سمّيت هَذِهِ الشَّاةَ» ؟
قَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَكَ؟
قَالَ: «هَذَا الْعَظْمُ» . قَالَتْ: نَعَمْ. فَاحْتَجَمَ عَلَى
الْكَاهِلِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَاحْتَجَمُوا، فَمَاتَ بَعْضُهُمْ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَسْلَمَتْ، وتركها [4] .
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب الهبة، باب قبول الهدية من المشركين. 3/ 141
وصحيح مسلم (2190) . كتاب السلام، باب السم. البداية والنهاية 4/ 209.
[2] البداية والنهاية 4/ 209 وقال: رواه أبو داود عن هارون بن عبد الله
عن سعيد بن سليمان به.
وانظر الطبقات الكبرى 2/ 200.
[3] مصلية: مشويّة، من الصّلي وهو الشّيّ.
[4] البداية والنهاية 4/ 210.
(2/436)
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: ثنا
سُلَيْمَانُ الْمَهْدِيُّ، نا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: كَانَ جَابِرٌ يُحَدِّثُ أَنَّ يَهُودِيَّةً
سَمَّتْ شَاةً أَهْدَتْهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. الْحَدِيثَ [1] .
وَقَالَ خَالِدٌ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً، نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ.
قَالَ: فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَأَمَرَ بِهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقُتِلَتْ [2] .
ويحتمل [73 ب] أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهَا أَوَّلا، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ
بِشْرٌ قَتَلَهَا [3] .
وَبِشْرٌ [4] شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا، وَأَبُوهُ قَائِدُ
النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ. وَهُوَ الَّذِي قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي سَلَمَةَ، مَنْ
سَيِّدُكُمْ» ؟ قَالُوا: الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، عَلَى بُخْلٍ فِيهِ.
فَقَالَ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟ بَلْ سَيِّدُكُمُ
الأَبْيَضُ الْجَعْدُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ» [5] . وقال موسى بْن
عُقْبة، وابن شهاب، وعُرْوة، والَّلفظ لموسى قَالُوا:
لما فُتحت خيبر أهدت زينبُ بِنْت الحارث اليهودية- وهي ابْنَة أخي
مَرْحَب- لصفية شاةً مَصْلِيَّةً وَسَمَّتْها وأكثرت فِي الذَّراع،
لأنّه بَلَغَها أنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحبّ
الذراع. وذكر الحديث [6] .
__________
[1] سنن أبي داود: كتاب الديات، باب فيمن سقى رجلا سما أو أطعمه فمات
أيقاد منه؟
(2/ 482) .
[2] انظر الطبقات الكبرى 2/ 200.
[3] البداية والنهاية 4/ 208.
[4] تاريخ خليفة 84.
[5] الطبقات الكبرى 3/ 571، عيون التواريخ 1/ 274.
[6] انظر المغازي لعروة 198.
(2/437)
[حديث الحجَّاج بْن عِلاط السُّلَمي] [1]
وعن عُرْوة، وموسى بْن عُقْبة قالا: كَانَ بين قريش حين سمعوا بمخرج
النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تراهنٌ وتبايع، منهم من
يَقْولُ: يظهر مُحَمَّد ومنهم من يَقْولُ:
يظهر الحليفان ويهود خيبر. وكان الحَجَّاج بْن عِلاط السُّلمي البَهْزي
[2] قد أسلم وشهد فتح خيبر، وكانت تحته أمّ شَيْبة العَبْدَرية، وكان
الحَجَّاج ذا مالٍ، وله معادن من أرض بني سُلَيْم. فلما ظهر النبي صلى
الله عليه وسلم عَلَى خيبر، قَالَ الحَجَّاج: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنّ
لي ذَهَبًا عند امرأتي، وإنْ تعلَمْ هِيَ وأهلُها بإسلامي فلا مال لي،
فائذنْ لي فأُسْرِعُ السيرَ ولا يسبق الخبر.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ- وَاللَّفْظُ لَهُ- وَعَبْدُ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ، عَنْ
أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خيبر، قال الحجّاج ابن عِلاطٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ
لِي بِمَكَّةَ مَالا، وَإِنَّ لِي بِهَا أَهْلا أُرِيدُ إِتْيَانَهَمُ،
فَأَنَا فِي حِلٍّ إِنْ أَنَا قُلْتُ مِنْكَ وَقُلْتُ شَيْئًا؟ فَأَذِن
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ
لامْرَأَتِهِ، وَقَالَ لَهَا: أَخْفِي عَلَيَّ وَاجْمَعِي مَا كَانَ
عِنْدَكِ لِي، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْ غَنَائِمِ
مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ قَدِ اسْتُبِيحُوا وَأُصِيبَتْ
أَمْوَالُهُمْ.
فَفَشَا ذَلِكَ بِمَكَّةَ، وَاشْتَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبَلَغَ
مِنْهُمْ. وَأَظْهَرَ الْمُشْرِكُونَ فَرَحًا وَسُرُورًا. فَبَلَغَ
الْعَبَّاسَ الْخَبَرُ فَعُقِرَ وَجَعَلَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ.
قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ، عَنْ مِقْسَمٍ
قَالَ: فَأَخَذَ الْعَبَّاسُ ابْنًا لَهُ يُقَالُ لَهُ قُثَمُ
وَاسْتَلْقَى وَوَضَعَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
حِبِّي قثم شبيه ذِي الأَنْفِ الأَشَمْ ... فَتًى ذِي النَّعَمِ
بِرَغْمِ من رغم [3]
__________
[1] العنوان عن سيرة ابن هشام 4/ 46.
[2] البهزي: بفتح الباء الموحّدة وسكون الهاء وبعدها زاي. نسبة إلى بهز
بن امرئ القيس.
(اللباب 1/ 192) وانظر ترجمته في الإصابة 1/ 313 رقم 1622 وأسد الغابة
1/ 381.
[3] انظر هذا القول على اختلاف في اللفظ في: المعرفة والتاريخ والبداية
والنهاية 4/ 216 والطبقات الكبرى 4/ 17.
(2/438)
قَالَ مَعْمَرٌ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ:
فَأَرْسَلَ الْعَبَّاسُ غُلامًا لَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ، أَنْ:
وَيْلَكَ، مَا جِئْتَ بِهِ وَمَا تَقُولُ؟ وَالَّذِي وَعَدَ اللَّهُ
خَيْرٌ مِمَّا جِئْتَ بِهِ. قَالَ الْحَجَّاجُ: يَا غُلامُ، أَقْرِئْ
أَبَا الْفَضْلِ السَّلامَ، وَقُلْ لَهُ فَلْيُخْلِ لِي فِي بَعْضِ
بُيُوتِهِ فَآتِيهِ، فَإِنَّ الأَمْرَ عَلَى مَا يَسُرُّهُ. فَلَمَّا
بَلَغَ الْعَبْدُ بَابَ الدَّارِ، قَالَ: أَبْشِرْ يَا أَبَا
الْفَضْلِ. فَوَثَبَ الْعَبَّاسُ فَرَحًا حَتَّى قَبَّلَ مَا بَيْنَ
عَيْنَيْهِ وَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحَجَّاجُ فَأَخْبَرَهُ
بِافْتِتَاحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وَغَنْمِ
أَمْوَالِهِمْ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اصطفى صفيّة، ولكن جئت لمالي، وأنّي استأذنت [74 أ] النّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم فأذن لي، فأخف عَلَيَّ يَا أَبَا الْفَضْلِ
ثَلاثًا، ثُمَّ اذْكُرْ مَا شِئْتَ. قَالَ: وَجَمَعَتْ لَهُ
امْرَأَتُهُ مَتَاعَهُ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ
ثَلاثٍ، أَتَى الْعَبَّاسُ امْرَأَةَ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ
زَوْجُكِ؟ قَالَتْ: ذَهَبَ، لا يُحْزِنُكَ اللَّهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ
لَقَدْ شَقَّ عَلَيْنَا الَّذِي بَلَغَكَ. فَقَالَ: أجل، لا يحزنني
اللَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ بِحَمْدِ اللَّهِ إِلا مَا أُحِبُّ، فَتَحَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَجَرَتْ سِهَامُ اللَّهِ فِي خَيْبَرَ،
وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ لك في زوجك حاجة فَالْحَقِي بِهِ.
قَالَتْ:
أَظُنُّكَ وَاللَّهِ صَادِقًا. ثُمَّ أَتَى مَجَالِسَ قُرَيْشٍ
وَحَدَّثَهُمْ. فَرَدَّ اللَّهُ مَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ
كَآبَةٍ وَجَزَعٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ [1] .
__________
[1] الحديث بكاملة في المعرفة والتاريخ 1/ 507- 509 ورواه أحمد في
مسندة 3/ 138، وأبو يعلى، والبزار 165، 166، وعبد الرزاق في المصنف
19771، وسيرة ابن هشام 4/ 46، 47 وتاريخ الطبري 3/ 17- 19، والطبقات
الكبرى لابن سعد 4/ 17، 18، والمعجم الكبير للطبراني 3/ 247- 249 رقم
3196، وتاريخ اليعقوبي 2/ 57، ونهاية الأرب للنويري 17/ 266- 268،
والبداية والنهاية 4/ 215- 217 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 155:
ورجال أحمد رجال الصحيح.
(2/439)
غزوة وادي القرى
مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا
وَرَقًا، إِلَّا الثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ. فَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ وَادِي الْقُرَى [1] .
وَقَدْ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَبْدٌ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ. حَتَّى إِذَا كَانُوا بِوَادِي
الْقُرَى، بَيْنَمَا يَحُطُّ رَحْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ فَقَالَ النَّاسُ:
هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلا، والذي نفسي بيده، إن الشملة الَّتِي
أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْغَنَائِمِ لَمْ تصبها المقاسم
لتشتغل عَلَيْهِ نَارًا» . فَلَمَّا سَمِعُوا بِذَلِكَ، جَاءَ رَجُلٌ
بِشِرَاكٍ [2] أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ قَالَ:
شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [3] . وَقَالَ
الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَنْ خيبر
__________
[1] وادي القرى: واد بين المدينة والشام، من أعمال المدينة، وهو بين
تيماء وخيبر، فيه قرى كثيرة وبها سمّي وادي القرى.
[2] الشراك: سير النعل الّذي يكون على وجهها.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 5/ 81 وصحيح مسلم (115)
كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنّة إلّا
المؤمنون.
(2/441)
إِلَى وَادِي الْقُرَى. وَكَانَ رِفَاعَةُ
بْنُ زَيْدٍ الْجُذَامِيُّ قَدْ وَهَبَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ. فَلَمَّا
نَزَلْنَا بِوَادِي الْقُرَى، انْتَهَيْنَا إِلَى يَهُودَ وَقَدْ ثَوَى
إِلَيْهَا نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ. فَبَيْنَمَا مِدْعَمٌ يحط رحل رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اسْتَقْبَلَنَا
يَهُودُ بِالرَّمْيِ حَيْثُ نَزَلْنَا. وَلَمْ نَكُنْ عَلَى
تَعْبِئَةٍ، وَهُمْ يَصِيحُونَ فِي طَلَبِهِمْ، فَيُقْبِلُ سَهْمٌ
عَائِرٌ، فَأَصَابَ مِدْعَمًا فَقَتَلَهُ. فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا
لَهُ الْجَنَّةَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كلا، والذي
نفسي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ
من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نَارًا» . فَلَمَّا سَمِعَ
بِذَلِكَ النَّاسُ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: «شِراكٌ،
أَوْ شِرَاكَانِ، مِنْ نَارٍ» فَعَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ وَصَفَّهُمْ،
وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَدَفَعَ رَايَةً
إِلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَرَايَةً إِلَى سَهْلِ بْنِ
حَنِيفٍ، وَرَايَةً إِلَى عَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى
الإِسْلامِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ أَسْلَمُوا [74 ب]
أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ وَحَقَنُوا دِمَاءَهُمْ، فَبَرَزَ رَجُلٌ،
فَبَرَزَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ آخَرُ،
فَبَرَزَ إِلَيْهِ [عَلِيٌّ] [1] فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ آخَرُ،
فَبَرَزَ إِلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ، حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ
أَحَدَ عَشَرَ رَجُلا [2] ثُمَّ أُعْطُوا مِنَ الْغَدِ بِأَيْدِيهِمْ.
وَفَتَحَهَا اللَّهُ عَنْوَةً [3] .
وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي
الْقُرَى أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ
تَيْمَاءَ صَالَحُوا عَلَى الْجِزْيَةِ. فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ،
أَخْرَجَ يَهُودَ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ، وَلَمْ يُخْرِجْ أَهْلَ تَيْمَاءَ
وَوَادِي الْقُرَى لأَنَّهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي أَرْضِ الشَّامِ،
وَيَرَى أَنَّ مَا دُونَ وَادِي الْقُرَى إِلَى الْمَدِينَةِ حجاز، وما
وراء ذلك من الشام [4] .
__________
[1] سقطت من الأصل، واستدركناها من ع. ومن نهاية الأرب 17/ 269.
[2] وهكذا في دلائل النبوّة للبيهقي، وفي نهاية الأرب للنويري 17/ 269
«اثنا عشر رجلا» .
[3] انظر: تاريخ الطبري 3/ 16، ونهاية الأرب 17/ 268، 269 وعيون الأثر
2/ 144، والبداية والنهاية 4/ 218.
[4] انظر فتوح البلدان 1/ 39 وعيون الأثر 2/ 145 ونهاية الأرب 17/ 269،
270، والبداية والنهاية 4/ 218.
(2/442)
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي
يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، فَسَارَ لَيْلَهُ
حَتَّى إِذَا أَدْرَكْنَا الْكَرَى عَرَّسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لِبِلَالٍ: اكْلَأْ [1] لَنَا
اللَّيْلَ.
فَغَلَبَتْ بِلَالًا عَيْنَاهُ فَلَمْ يَسْتَيْقِظِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِلَالٌ إِلَّا بِحَرِّ الشَّمْسِ.
الْحَدِيثَ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [2] . وَرُوِيَ أنّ ذلك كان في طريق الحديبيّة،
رواه شُعْبَةُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَيُحْتَمَلُ أنْ
يَكُونَ نَوْمُهُمْ مَرَّتَيْنِ.
وَقَدْ رَوَاهُ زَافِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعْبَةَ، فَذَكَرَ
أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ.
وَقَدْ رَوَى النَّوْمَ عَنِ الصَّلاةِ: عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ،
وَأَبُو قتادة الأنصاريّ.
والحديثان وصحيحان رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ [3] ، وَفِيهِمَا طُولٌ.
وَقَالَتْ [عَائِشَةُ] [4] : لَمَّا افتتحنا خَيْبَرَ، قُلْنَا: الآنَ
نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أنا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عن أنس قال:
لما قدم
__________
[1] الكلاءة الحفظ والحراسة، على ما في (النهاية) .
[2] صحيح مسلم (680) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة
الفائتة واستحباب تعجيل قضائها.
[3] كتاب المساجد ومواضع الصلاة رقم 681 و 683.
[4] في الأصل (وقال) ثم بياض بمقدار كلمة، وهي ساقطة من ع. والحديث
أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 5/ 83، بهذا الإسناد:
حدّثني محمد بن بشّار، حدّثنا حرميّ، حدثنا شعبة، قال أخبرني عمارة، عن
عكرمة، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
«لَمَّا فتحت خيبر قلنا الآن نشبع من التمر.» .
(2/443)
الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ قَدِمُوا
وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ. وَكَانَ الأَنْصَارُ أَهْلَ أَرْضٍ،
فَقَاسَمُوا الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْ أَعْطَوْهُمْ أَنْصَافَ
ثِمَارِ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ، وَيَكْفُونَهُمُ الْعَمَلَ
وَالْمَئُونَةَ. وَكَانَتْ أُمُّ أَنَسٍ، وَهِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ،
أَعْطَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِذَاقًا
لَهَا، فَأَعْطَاهُنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ أم أيمن مولاته أمّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ.
فَأَخْبَرَنِي أَنَسٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ خَيْبَرَ، وَانْصَرَفَ
إِلَى الْمَدِينَةِ، ردّ المهاجرون إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ،
وَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
أُمِّي عِذَاقَهَا [1] ، وَأَعْطَى أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ
حَائِطِهِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ مِنْ شَأْنِ أُمِّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
أَنَّهَا كَانَتْ وَصِيفَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ. وَكَانَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ. فَلَمَّا وَلَدَتْ آمِنَةُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أمّ أيمن
تحضنه حتى كبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَعْتَقَهَا، ثم أنكحها زيد بن حارثة. ثم توفّيت بعد ما تُوُفِّيَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةِ
أَشْهُرٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [2] .
وَقَالَ مُعْتَمِرٌ [3] : حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ
الرَّجُلَ كَانَ يُعْطِي مِنْ مَالِهِ النَّخَلاتِ أَوْ مَا شَاءَ
اللَّهُ مِنْ مَالِهِ، النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
حَتَّى فُتِحَتْ عَلَيْهِ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، فَجَعَلَ يَرُدُّ
بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَمَرَنِي أَهْلِي أَنْ آتِيَهُ فَأَسْأَلُهُ الّذي
[75 أ] كَانُوا أَعْطُوهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ أُمَّ أَيْمنَ، أَوْ كَمَا شَاءَ
اللَّهُ، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِيهُنَّ. فَجَاءَتْ أُمُّ
أَيْمَنَ فَلَوَتِ الثَّوْبَ فِي عُنُقِي، وَجَعَلَتْ تَقُولُ: كَلَّا
وَاللَّهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَا نُعْطِيكَهُنَّ وَقَدْ
أَعْطَانِيهِنَّ. فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «يَا أُمَّ أَيْمَنَ اتْرُكِي كَذَا وَكَذَا» . وَهِيَ
تَقُولُ لَا وَاللَّهِ. حَتَّى أَعْطَاهَا عَشَرَةَ أَمْثَالِ ذَلِكَ،
أَوْ نَحْوَهُ. وفي لفظ في الصّحيح: وهي تقول:
__________
[1] أي نخلاتها.
[2] صحيح مسلم (1771) كتاب الجهاد والسير، باب ردّ المهاجرين إلى
الأنصار منائحهم إلخ.
[3] في طبعة القدسي 411 «معمر» وهو تصحيف، والتصحيح من صحيح البخاري 5/
51.
(2/444)
كَلَّا وَاللَّهِ حَتَّى أُعْطَى عَشَرَةَ
أَمْثَالِهِ. أَخْرَجَاهُ [1] . وفي سنة سبع: قدِم حاطبُ بْن أَبِي
بلتعة من الرّسيلة [2] إلى المقوقس ملك ديار مصر، ومعه منه هديةُ
للنّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي مارية القبطية، أمّ
إِبْرَاهِيم ابْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأختها
سيرين التي وهبط لحسّان بْن ثابت، وبغلة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُلْدُلٌ، وحماره يَعْفُور [3] .
وفيها: تُوُفِّيَتْ ثويبة [4] مُرْضعة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلبن ابنها مسروح [5] وكانت مولاة لأبي لهب
أَعْتَقَها عامَ الهجرة. وكان النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يبعث إليها من مكة بصلة وكِسْوة. حتى جاءه موتُها سنة سبعٍ
مرجعه من خيبر، فقال: «ما فعل ابنُها مسروح» [6] ؟ قَالُوا: مات قبلها
[7] وكانت خديجة تُكْرِمُها، وطلبت شراءها من أَبِي لَهَبٍ فامتنع.
رَوَاهُ الواقديُّ عَنْ غير واحد. أرضعت النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل حليمة أيامًا، وأرضعت أيضًا حمزةَ بْن عَبْد
المطَّلب، وأبا سَلَمَةَ بْن عَبْد الأسد.
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب مَرجعَ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأحزاب إلخ. وصحيح مسلم (1771) كتاب الجهاد
والسير، باب ردّ المهاجرين إلى الأنصار منائحهم.
[2] علّق القدسي على هذه الكلمة وظنّها اسما لمكان فقال: لم أقف عليها
في كتب البلدان، ولم يرد لها ذكر فيما بين يدي من كتب السير والمغازي.
وأقول: إن اللفظ ليس اسم مكان، بل يراد به إرسال الرسول. ويوضّحه
السياق.
[3] تاريخ الطبري 3/ 21، 22، تاريخ الخليفة 86، البداية والنهاية 4/
236، وانظر عن مارية في الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 212.
[4] انظر عن ثويبة: أسد الغابة 5/ 414، الإصابة 4/ 257، 258 رقم 213.
[5] عبارة الأصل: «وفيها توفيت مرضعة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
ثويبة بلبن ابنها مسروح» . وأثبتنا عبارة ع وهي أقوم.
[6] انظر عنه في ترجمة أمّه ثويبة (الإصابة 4/ 257 و 3/ 408) .
[7] عيون التواريخ 1/ 274، 275.
(2/445)
سَرِيّة أبي بَكْر إلى نجد
وكانت بعد خيبر سنة سبعٍ.
وَقَالَ عِكْرَمَةُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ
بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى
بَنِي فِزَارَةَ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا دَنَوْنَا مِنَ
الْمَاءِ عَرَّسَ بِنَا أَبُو بَكْرٍ، حَتَّى إِذَا مَا صَلَّيْنَا
الصُّبْحَ، أَمَرَنَا فَشَنَنَّا الْغَارَةَ، فَوَرَدْنَا الْمَاءَ.
فَقَتَلَ أَبُو بَكْرٍ مَنْ قَتَلَ، وَنَحْنُ مَعَهُ، فَرَأَيْتُ
عُنُقًا [1] مِنَ النَّاسِ فِيهِمْ الذَّرَارِيُّ. فَخَشِيتُ أَنْ
يَسْبِقُونِي إِلَى الْجَبَلِ، فَأَدْرَكْتُهُمْ، فَرَمَيْتُ
بِسَهْمِي. فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامُوا، فَإِذَا امْرَأَةٌ عَلَيْهَا
قَشْعٌ [2] مِنْ أَدَمٍ، مَعَهَا ابْنَتُهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ
فَجِئْتُ أَسُوقُهُمْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَنَفَّلَنِي أَبُو بَكْرٍ
ابْنَتَهَا، فَلَمْ أَكْشِفْ لَهَا ثَوْبًا حَتَّى قَدِمْتُ
الْمَدِينَةَ، ثُمَّ بَاتَتْ عِنْدِي فَلَمْ أَكْشِفْ لَهَا ثَوْبًا.
حَتَّى لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي السُّوقِ فَقَالَ: «يَا سَلَمَةُ، هَبْ لِيَ الْمَرْأَةَ» .
قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي وَمَا
كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا.
فَسَكَتَ حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ: «يَا سَلَمَةُ، هَبْ لِيَ
المرأة للَّه أبوك» .
قُلْتُ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَبَعَثَ بها رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَفَدَى
بِهَا أَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [3] .
وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ.
سرِيّة عُمَر إلى عَجُزِ هَوَازِن
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثنا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عن
أبي بكر بن عمر بن
__________
[1] أي جماعة.
[2] القشع: النطع.
[3] صحيح مسلم (1755) كتاب الجهاد والسير، باب التنفيل وفداء المسلمين
بالأسارى، وأحمد في مسندة 4/ 46، وابن سعد في الطبقات الكبرى 2/ 118،
وابن كثير في البداية والنهاية 4/ 220، و 221 وابن سيد الناس في عيون
الأثر 2/ 146.
(2/446)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر إلى [75 ب] تُرَبَةِ
عَجُزِ هَوَازِنَ [1] ، فِي ثَلاثِينَ رَاكِبًا، فَخَرَجَ وَمَعَهُ
دَلِيلٌ. فَكَانُوا يَسِيرُونَ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُونَ النَّهَارَ.
فَأَتَى الْخَبَرُ هَوَازِنَ، فَهَرَبُوا. وَجَاءَ عُمَرُ
مَحَالَّهُمْ، فَلَمْ يَلْقَ مِنْهُم أَحَدًا، فَانْصَرَفَ إِلَى
الْمَدِينَةِ، حَتَّى سَلَكَ النَّجْدِيةَ [2] . فَلَمَّا كَانُوا
بِالْجَدْرِ [3] ، قَالَ الدَّلِيلُ لِعُمَرَ: هَلْ لَكَ فِي جَمْعٍ
آخَرَ تَرَكْتَهُ مِنْ خَثْعَمٍ جَاءُوا سَائِرِينَ، قَدْ أَجْدَبَتْ
بِلادُهُمْ؟ فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ.
وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ [4] .
سرية بشير بْن سعد
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
الْفَضْلِ [5] ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ فِي ثَلاثِينَ رَجُلا
إِلَى بَنِي مُرَّةَ بِفَدَكٍ.
فَخَرَجَ فَلَقِيَ رُعَاءَ الشَّاءِ، فَاسْتَاقَ الشَّاءَ وَالنَّعَمِ
[6] مُنْحَدِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ.
فَأَدْرَكَهُ الطَّلَبُ عِنْدَ اللَّيْلِ، فَبَاتُوا يُرَامُونَهُمْ
بِالنَّبْلِ حَتَّى فَنِيَ نَبْلُ أَصْحَابِ بَشِيرٍ، فَأَصَابُوا
أَصْحَابَهُ وَوَلَّى مِنْهُمْ مَنْ وَلَّى، وَقَاتَلَ بَشِيرٌ قِتَالا
شَدِيدًا حَتَّى ضُرِبَ كَعْبَاهُ. وَقِيلَ قَدْ مَاتَ، وَرَجَعُوا
بِنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ، وتحامل بشير حتى
__________
[1] تربة: واد بالقرب من مكة على مسافة يومين منها يصبّ في بستان بني
عامر، وقيل واد يأخذ من السّراة ويفرغ في نجران، وقيل موضع بناحية
العبلاء على أربع ليال من مكة طريق صنعاء ونجران. (معجم البلدان 2/ 21)
وعجز هوازن هم بنو نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبنو جشم بن بكر بن
هوازن.
[2] النّجدية: لم يرد لها ذكر فيما وقفت عليه من كتب البلدان، ولعلّها
موضع في الطريق النّجدي إلى مكة.
[3] الجدر: قرارة في الحرّة على ستة أميال من المدينة ناحية قباء (معجم
البلدان 2/ 114) .
[4] انظر المغازي للواقدي: 2/ 722، والطبقات لابن سعد 2/ 117، وتاريخ
الطبري 3/ 22، والبداية والنهاية 4/ 221، وعيون الأثر 2/ 145، ونهاية
الأرب 17/ 270.
[5] كذا في الأصل، ع. وفي المغازي للواقدي (2/ 723) : عبد الله بن
الحارث بن الفضيل.
[6] في الأصل: الغنم. وأثبتنا لفظ ع والواقدي.
(2/447)
انْتَهَى إِلَى فَدَكٍ، فَأَقَامَ عِنْدَ
يَهُودِيٍّ حَتَّى ارْتَفَعَ مِنَ الْجِرَاحِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
الْمَدِينَةِ [1] .
سَرِيَّةُ غالب بْن عَبْد الله الليثي
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ
بن محمد بن عبد الله ابن زَيْدٍ، الَّذِي أُرِيَ الأَذَانَ [2] ،
قَالَ: كَانَ مَعَ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ،
عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الأَنْصَارِيُّ، وَكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ،
وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ. فَلَمَّا دَنَا غَالِبٌ مِنْهُمْ لَيْلا
وَقَدِ احْتَلَبُوا [3] وَهَدَءُوا، قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عليه وأمر بالطّاعة، قال: وإذا كبّرت فكبّروا، وجرّدوا السّيوف. فذكر
الحديث في إحاطتهم. بهم. قَالَ: وَوَضَعْنَا السُّيُوفَ حَيْثُ شِئْنَا
مِنْهُمْ، وَنَحْنُ نَصِيحُ بِشِعَارِنَا: أَمِتْ أَمِتْ، وَخَرَجَ
أُسَامَةُ يَحْمِلُ عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ.
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ [4] .
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ [5] ،
حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَسْلَمَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا:
بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْكَلْبِيَّ، كَلْبَ لَيْثٍ، إِلَى أَرْضِ بَنِي
مُرَّةَ، فَأَصَابَ بِهَا مِرْدَاسَ بْنَ نَهِيكٍ،
__________
[1] انظر المغازي للواقدي: 2/ 723، والطبقات لابن سعد 2/ 118، 119،
وتاريخ الطبري 3/ 22، ونهاية الأرب 17/ 272، وعيون الأثر 2/ 147، 148،
والبداية والنهاية 4/ 221، 222، عيون التواريخ 1/ 271، تاريخ دمشق-
تحقيق دهمان 10/ 150.
[2] عبارة الأصل: «عن بشير بن محمد الّذي أرى الأذان عبد الله بن زيد»
وأثبتنا عبارة ع، وهي أصحّ، فالذي أرى الأذان هو عبد الله بن زيد.
والأذان لم يثبت بالرؤيا فقط، على ما هو محقّق في مظانّه.
[3] هكذا في الأصل، ع ورواية الواقدي «اجتلبوا» ، ولكليهما وجه.
[4] انظر المغازي للواقدي: 2/ 724، والبداية والنهاية لابن كثير 4/
222. وسيأتي الحديث عن صحيح البخاري 5/ 88.
[5] سيرة ابن هشام 4/ 239.
(2/448)
حليف لَهُمْ مِنَ الْحُرَقَةِ [1]
فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ. فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أُسَامَةَ بْنِ
زَيْدٍ قَالَ: أَدْرَكْتُهُ، يَعْنِي مِرْدَاسًا، أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ
الأَنْصَارِ، فَلَمَّا شَهَرْنَا عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ: أَشْهَدُ
أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَلَمْ نَنْزِعْ عَنْهُ حَتَّى
قَتَلْنَاهُ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْنَاهُ خَبَرَهُ، فَقَالَ:
«يَا أُسَامَةُ مَنْ لَكَ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ» ؟ فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ. قَالَ:
«فَمَنْ لَكَ بِلا إله إلّا الله» . فو الّذي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، مَا
زَالَ يُرَدِّدُهَا عَلَيَّ حَتَّى لوددت أنّ ما [76 أ] مَضَى مِنْ
إِسْلامِي لَمْ يَكُنْ. وَأَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ وَلَمْ
أَقْتُلْهُ [2] . وَقَالَ هُشَيْمٌ: نَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، ثَنَا أَبُو ظَبْيَانَ، سَمِعْتُ أسامة ابن زَيْدٍ
يُحَدِّثُ قَالَ: أَتَيْنَا الْحُرَقَةَ مِنْ جُهَيْنَةَ. قَالَ:
فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ.
وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ،
فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
قَالَ: فَكَفَّ عَنْهُ الْأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ أَنَا بِرُمْحِي
حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَقَتَلْتَه بَعْدَ مَا
قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ:
فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ
أَسْلَمْتُ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [3] . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بن عتبة،
__________
[1] الحرقة: هم بنو حميس من قبائل جهينة (الاشتقاق لابن دريد (549) .
[2] انظر: سيرة ابن هشام 4/ 239، الطبقات لابن سعد 2/ 119، تاريخ
الطبري 3/ 22، نهاية الأرب 17/ 272، 273، عيون الأثر 2/ 147، البداية
والنهاية 4/ 222.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب بعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة 5/ 88. وصحيح مسلم (96) كتاب
الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلّا الله. وقال
البغوي في شرح السّنّة: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استغفر بعد لأسامة ثلاث مرّات وقال له: أعتق رقبة.
(2/449)
عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْجُهَنِيِّ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ مَكِيثٍ [1] الْجُهَنِيِّ، قَالَ:
بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى بَنِي الْمُلَوِّحِ بِالْكُدَيْدِ [2] ،
وَأَمَرَهُ أَنْ يُغيِرَ عَلَيْهِمْ، وَكُنْتُ فِي سَرِيَّتِهِ.
فَمَضَيْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِقُدَيْدٍ [3] ، لَقِينَا بِهِ
الْحَارِثَ بْنَ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ اللَّيْثِيَّ،
فَأَخَذْنَاهُ فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا جِئْتُ لأُسْلِمَ.
فَقَالَ لَهُ غَالِبٌ: إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ لِتُسْلِمَ فَلا
يَضُرُّكَ رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى غَيْرِ
ذَلِكَ اسْتَوْثَقْنَا مِنْكَ، قَالَ: فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا وَخَلَّفَ
عَلَيْهِ رُوَيْجِلا أَسْوَدَ، قَالَ: امْكُثْ عَلَيْهِ حَتَّى نَمُرَّ
عَلَيْكَ، فَإِنْ نَازَعَكَ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَأَتَيْنَا بَطْنَ
الْكُدَيْدِ فَنَزَلْنَاهُ بَعْدَ الْعَصْرِ. فَبَعَثَنِي أَصْحَابِي
إِلَيْهِ، فَعَمَدْتُ إِلَى تَلٍّ يُطْلِعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ،
فَانْبَطَحْتُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْغُرُوبِ. فَخَرَجَ رَجُلٌ
فَنَظَرَ فَرَآنِي مُنْبَطِحًا عَلَى التَّلِّ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ،
إِنِّي لأَرَى سَوَادًا عَلَى هَذَا التَّلِّ مَا رَأَيْتُهُ فِي
أَوَّلِ النَّهَارِ، فَانْظُرِي لا تَكُونُ الْكِلابُ اجْتَرَّتْ
بَعْضَ أَوْعِيَتِكِ.
فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ ما أفقد شيئا. قال: فناولني قَوْسِي
وَسَهْمَيْنِ مِنْ نَبْلِي.
فَنَاوَلَتْهُ فَرَمَانِي بِسَهْمٍ فوضعه في جبيني، أو قال: في جبني،
فنزعته فوضعته ولم اتحرّك، ثم رماني بالآخر، فوضعه في رأس منكبي،
فَنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرَّكْ. فَقَالَ لامْرَأَتِهِ:
أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ خَالَطَهُ سَهْمَايَ، وَلَوْ كَانَ زَائِلا
لَتَحَرَّكَ، فَإِذَا أَصْبَحْتِ فَابْتَغِي سَهْمَيَّ فَخُذِيهِمَا،
لا تَمْضُغُهُمَا عَلَيَّ الْكِلابُ.
قَالَ: وَمَهِّلْنَا حَتَّى رَاحَتْ رَوَائِحُهُمْ، وَحَتَّى إِذَا
احْتَلَبُوا وَعَطَفُوا وَذَهَب عَتَمَةٌ مِنَ اللَّيْلِ شَنَنَّا
عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ فَقَتَلْنَا مَنْ قَتَلْنَا وَاسْتَقْنَا
النَّعَمَ فَوَجَّهْنَا قَافِلِينَ بِهِ، وَخَرَجَ صَرِيخُ الْقَوْمِ
إِلَى قَوْمِهِمْ. قَالَ: وَخَرَجْنَا سِرَاعًا حتى نمرّ بالحارث
__________
[1] مكيث: بفتح الميم وكسر الكاف. (انظر: المشتبه للذهبي 2/ 611) .
[2] الكديد: موضع على اثنين وأربعين ميلا من مكة، بين عسفان وأمج.
(معجم البلدان 4/ 442) وقيل عين بعد خليص بثمانية أميال لجهة مكة يمنة
الطريق.
[3] قديد: قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياه وقيل موضع قرب مكة
(معجم البلدان 4/ 313) .
(2/450)
ابن مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ
وَصَاحِبِهِ، فَانْطَلَقَا بِهِ مَعَنَا. وأتانا صريخ النّاس فجاءنا
مالا قِبَلَ لَنَا بِهِ. حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ إِلا بَطْنُ الْوَادِي مِنْ قُدَيْدٍ، بَعَثَ [1] اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ شَاءَ مَاءً مَا رَأَيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ مَطَرًا وَلا
سَحَابًا [2] ، فَجَاءَ بِمَا لا يَقْدِرُ أَحَدٌ يَقْدَمُ عَلَيْهِ،
لَقَدْ رأيتهم وقوفا ينظرون إلينا [76 ب] مَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ
أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ، وَنَحْنُ نَحْدُوهَا. فَذَهَبْنَا سِرَاعًا
حَتَّى أَسْنَدْنَا بِهَا فِي الْمُشَلَّلِ [3] ، ثُمَّ حَدَرْنَا
عَنْهُ وَأَعْجَزْنَاهُمْ [4] .
سَرِيَّةُ الجِناب [5]
قَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي مَغَازِيهِ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ بَشِيرِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ
مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لَهُ: حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ، وَكَانَ
دَلِيلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ،
فَقَالَ لَهُ:
[مِنْ] [6] أَيْنَ يَا حُسَيْلُ؟ قَالَ: مِنْ يَمَنٍ وَجُبَارٍ [7] ،
وَمَا وَرَاءَكَ؟ قال: تركت
__________
[1] في الأصل: بعثه، وأثبتنا لفظ ع، والبداية والنهاية 4/ 223.
[2] في الأصل: مطرا ولا أرحالا (؟) وأثبتنا لفظ ع وهو يطابق رواية
الواقدي (2/ 752) . وفي البداية والنهاية 4/ 223 «مطرا ولا حالا» .
[3] المشلّل: جبل يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر. (معجم البلدان 5/
136) وفي البداية والنهاية 4/ 223 «المسلك» . وفي عيون الأثر 2/ 151
«المسيل» وكذلك في طبقات ابن سعد 2/ 125 وفي نهاية الأرب 17/ 275
«السيل» .
[4] سيرة ابن هشام 4/ 234.
[5] في الأصل: سرية حنان. وتابعه في ذلك ع وابن الملا. وهو خطأ تصحيحه
من الواقدي (2/ 727) ، وعيون الأثر (2/ 148) حيث قال: «والجناب بكسر
الجيم من أرض غطفان، وذكره أيضا الحازمي وقال: «من بلاد فزارة» . وكذلك
ورد في إمتاع الأسماع (335) وفيه «. أنّ جمعا من غطفان بالجناب قد
واعدوا عيينة بن حصن ... حتى أتوا يمن وجبار وهي نحو الجناب، والجناب
يعارض سلاح وخيبر ووادي القرى» . وفي معجم البلدان 2/ 164:
«والجناب موضع بعراض خيبر وسلاح ووادي القرى، وقيل هو من منازل بني
مازن، وقال نصر: الجناب من ديار بني فزارة بين المدينة وفيد» . وفي
تاريخ دمشق 10/ 151 «جبار» .
[6] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع.
[7] في الأصل: حنان، تصحيف تصحيحه من ع. وجبار: ماء لبني حميس بين
المدينة وفيد،
(2/451)
جَمْعًا مِنْ يَمَنٍ وَغَطَفَانَ وَجُبَارٍ
وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ عُيَيْنَةُ إِمَّا أَنْ تَسِيرُوا إِلَيْنَا
وَإِمَّا أَنْ نَسِيرَ إِلَيْكُمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ أَنْ سِرْ
إِلَيْنَا، وَهُمْ يُرِيدُونَكَ أَوْ بَعْضَ أَطْرَافِكَ.
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بَكْرٍ
وَعُمَرَ فَذَكَرَ لَهُمَا ذَلِكَ فَقَالا جَمِيعًا: ابْعَثْ
إِلَيْهِمْ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ، فَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَبَعَثَ
مَعَهُ ثَلاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا اللَّيْلَ
وَيَكْمُنُوا النَّهَارَ، فَفَعَلُوا، حَتَّى أَتَوْا أَسْفَل
خَيْبَرَ، فَأَغَارُوا وَقَتَلُوا عَيْنًا لِعُيَيْنَةَ. ثُمَّ لَقُوا
جَمْعَ عُيَيْنَةَ فَنَاوَشُوهُمْ، ثُمَّ انْكَشَفَ جَمْعُ عُيَيْنَةَ
وَأُسِرَ مِنْهُمْ رَجُلانِ، وَقَدِمُوا بِهِمَا عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَا [1] .
سَرِيَّةُ أَبِي حَدْرَد إلى الغابة
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ مَا حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي حَدْرَدٍ، قَالَ:
تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي، فَأَصْدَقْتُهَا مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى نِكَاحِي، فَقَالَ: كَمْ أَصْدَقْتَ؟
قُلْتُ: مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَقَالَ:
سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُمْ تَأْخُذُونَهَا مِنْ
بَطْنِ وَادٍ مَا زِدْتُمْ [2] ، لا وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مَا
أُعِينُكَ بِهِ، فَلَبِثَ أَيَّامًا، ثُمَّ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ جشم
بن معاوية يقال له رفاعة ابن قَيْسٍ (أَوْ قَيْسُ) [3] بْنُ رِفَاعَةَ،
فِي بَطْنٍ عظيم من جشم، حتى نزل بقومه
__________
[ () ] ويمن: ماء لغطفان بين بطن قوّ ورؤاف على الطريق بين تيماء وفيد،
وقيل ماء لبني صرمة بن مرّة. (معجم البلدان 5/ 449) وقد ضبط الزرقاني
«جبار» بفتح الجيم، وياقوت بالضم، وكذلك الزبيدي في تاج العروس. وضبطها
في عيون الأثر ووفاء ألوفا للمسهودي بالفتح وتخفيف الباء.
[1] المغازي للواقدي 2/ 727، الطبقات الكبرى 2/ 120 تاريخ الطبري 3/
23، نهاية الأرب 17/ 273، 274، عيون الأثر 2/ 147، 148، عيون التواريخ
1/ 272، إمتاع الأسماع 335.
[2] في الأصل: «من وادي ما زاد» وفي ع: «من وادي تم» . وأثبتنا نص ابن
هشام في السيرة 4/ 241.
[3] سقطت من الأصل، وزدناها من ع ومن السيرة لابن هشام 4/ 241.
(2/452)
وَمَنْ مَعَهُ بِالْغَابَةِ [1] ، يُرِيدُ
أَنْ يَجْمَعَ قَيْسًا على حرب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ ذَا شَرَفٍ، فَدَعَانِي النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
فَقَالَ: «اخْرُجُوا إِلَيْهِ، حَتَّى تَأْتُوا مِنْهُ بِخَبَرٍ
وَعِلْمٍ» ، وَقَدَّمَ لَنَا شَارِفًا عَجْفَاءَ [2] ، فَحَمَلَ
عَلَيْهَا أَحَدَنَا، فو الله مَا قَامَتْ [3] بِهِ ضَعْفًا، حَتَّى
دَعَّمَهَا الرِّجَالُ مِنْ خَلْفِهَا بِأَيْدِيهِمْ، حَتَّى
اسْتَقَلَّتْ وَمَا كَادَتْ. وَقَالَ: تَبَلَّغُوا عَلَى هَذِهِ،
فَخَرَجْنَا، حَتَّى إِذَا جِئْنَا قَرِيبًا مِنَ الْحَاضِرِ مَعَ
غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَمَنْتُ فِي نَاحِيَةٍ، وَأَمَرْتُ صَاحِبَيَّ
فَكَمَنَّا فِي نَاحِيَةٍ، وَقُلْتُ: إِذَا سَمِعْتُمَانِي قَدْ
كَبَّرْتُ وَشَدَدْتُ في العسكر، فكبّروا وشدّوا معي، فو الله إِنَّا
لَكَذَلِكَ نَنْتَظِرُ أَنْ نَرَى غِرَّةً وَقَدْ ذَهَبَتْ فَحْمَةُ
الْعِشَاءِ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ رَاعٍ قَدْ سَرَّحَ فِي ذَلِكَ
الْبَلَدِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ زَعِيمُهُمْ رِفَاعَةُ
فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَقَالَ: لأَتْبَعَنَّ أَثَرَ رَاعِينَا، فَقَالُوا:
نَحْنُ نَكْفِيكَ، قَالَ: لا، وو الله [77 أ] لا يَتْبَعُنِي أَحَدٌ
مِنْكُمْ، وَخَرَجَ حَتَّى مَرَّ بِي، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي نَفَحْتُهُ
بِسَهْمٍ فَوَضَعْتُهُ فِي فؤاده، فو الله ما نطق، فوثبت إليه، فاحترزت
رَأْسَهُ، ثُمَّ شَدَدْتُ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ وَكَبَّرْتُ وكبّر
صاحباي، فو الله مَا كَانَ إِلا النَّجَاءُ مِمَّنْ كَانَ فِيهِ
عِنْدَكَ بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ نِسَائِهِمْ
وَأَبْنَائِهِمْ وَمَا خَفَّ مَعَهُمْ، وَاسْتَقْنَا إِبِلا عَظِيمَةً
وَغَنَمًا كَثِيرَةً، فَجِئْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجِئْتُ بِرَأْسِهِ أَحْمِلُهُ مَعِي،
فَأَعْطَانِي مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ ثَلاثَةَ عَشَرَ بعيرا في صداقي،
فجمعته إلى أهلي [4] .
__________
[1] الغابة: موضع قرب المدينة من ناحية الشام، فيه أموال لأهل المدينة.
(معجم البلدان 4/ 182) .
[2] الشارف العجفاء من النوق: المسنّة الهرمة.
[3] في الأصل: قدمت. والتصحيح من ع ومن السيرة لابن هشام 4/ 242.
[4] سيرة ابن هشام 4/ 241، 242، عيون الأثر 2/ 162، 163، تاريخ الطبري
(حوادث سنة 8 هـ-) 3/ 34، 35، البداية والنهاية 4/ 223، 224.
(2/453)
سَرِيَّةُ مُحَلِّم بْن جَثَّامة
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي
يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنِ ابْنِ [1] عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَنَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِضَمٍ [2] فِي
نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ أَبُو قَتَادَةَ، وَمُحَلِّمُ
بْنُ جَثَّامَةَ بْنِ قَيْسٍ. حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَطْنِ إِضَمٍ،
مَرَّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الأَضْبَطِ الأَشْجَعِيُّ عَلَى قَعُودٍ
لَهُ، مَعَهُ مُتَيِّعٌ [3] لَهُ، وَوطْبٌ [4] مِنْ لَبَنٍ، فَسَلَّمَ
عَلَيْنَا بِتَحِيَّةِ الإِسْلامِ.
فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ، وَحُمِلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمٌ فَقَتَلَهُ
لِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَخَذَ بَعِيرَهُ وَمَتَاعَهُ،
فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَاهُ الْخَبَرَ. فَنَزَلَ فِينَا القرآن:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ
لَسْتَ مُؤْمِناً 4: 94 [5] ، إلى آخر الآية [6] .
رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ
ضُمَيْرَةَ بْنِ سَعْدٍ [7] الضَّمْرِيَّ يُحَدِّثُ عن أبيه وجدّه، وقد
شهد حُنَيْنًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَجَلَسَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَقَامَ
إِلَيْهِ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ يَطْلُبُ بِدَمِ عامر بن الأضبط، سيّد
قيس، وجاء الأقرع ابن حَابِسٍ يَرُدُّ عَنْ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ،
وَهُوَ سَيِّدُ خِنْدِفٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
[1] انظر حول اسمه: سيرة ابن هشام 4/ 240 وتاريخ الطبري 3/ 35، 36.
[2] إضم: الوادي الّذي تجتمع فيه أودية المدينة. وانظر تفصيل الكلام
عنه. في وفاء ألوفا 2/ 219.
[3] متيّع: تصغير متاع، أي ما يستمتع به الإنسان من حوائج أو مال.
[4] الوطب: وعاء اللبن.
[5] سورة النساء: من الآية 94.
[6] سيرة ابن هشام 4/ 240، تاريخ الطبري 3/ 35، 36 نهاية الأرب 17/
286، الطبقات الكبرى 2/ 133 عيون الأثر 2/ 161، 162، البداية والنهاية
4/ 224.
[7] ويقال: زياد بن سعد بن ضميرة. انظر: سنن أبي داود 4/ 71، تهذيب
التهذيب 3/ 369 رقم 677.
(2/454)
لِقَوْمِ عَامِرٍ: «هَلْ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِنَّا الآنَ [1] خَمْسِينَ بَعِيرًا، وَخَمْسِينَ إِذَا
رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ» ؟ فَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ:
وَاللَّهِ لا أَدَعُهُ حَتَّى أُذِيقَ نِسَاءَهُ مِنَ الْحَرِّ مِثْلَ
مَا أَذَاقَ نِسَائِي. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُقَالُ لَهُ:
مُكَيْتِلٌ [2] ، وَهُوَ قَصِيرٌ [3] مِنَ الرِّجَالِ، فَقَالَ: (يَا)
[4] رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجِدُ لِهَذَا الْقَتِيلِ مَثَلا فِي
غُرَّةِ الإِسْلامِ إِلا كَغَنَمٍ وَرَدَتْ فَرُمِيَتْ أُولاهَا
فَنَفَرَتْ [5] أُخْرَاهَا، أُسْنُنِ الْيَوْمَ وَغَيِّرْ غَدًا [6] ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ
لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا خَمْسِينَ بَعِيرًا الآنَ وَخَمْسِينَ إِذَا
رَجَعْنَا؟ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى رَضَوْا بِالدِّيَةِ. قَالَ
قَوْمُ مُحَلِّمٍ: ائْتُوا بِهِ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ
طُوَالٌ ضَرْبُ اللَّحِمِ [7] فِي حُلَّةٍ قَدْ تَهَيَّأَ فِيهَا
لِلْقَتْلِ، فَقَامَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
«اللَّهمّ لا تَغْفِرْ لِمُحَلِّمٍ» . قَالَهَا ثَلاثًا. فَقَامَ
وَإِنَّهُ لَيَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ [8] . قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: زَعَمَ قَوْمُهُ أنه استغفر له بعد.
وقال أبو داود في سننه [9] : [77 ب] ثنا موسى بن إسماعيل، نا
__________
[1] في الأصل: الأمان. والتصحيح من ع، وسيرد في الأصل صحيحا بعد سطور.
وفي السيرة ابن هشام 4/ 241 «بل تأخذون الدية خمسين في سفرنا هذا» .
[2] في الأصل: مكيتيل. وفي ع: ابن مكيتيل. والتصحيح من ترجمته في أسد
الغابة (5/ 259) والإصابة (3/ 457) وسيرة ابن هشام، وقيل: مكيثر (4/
241) .
[3] وفي طبعة القدسي 422 «قصد» والتصحيح من السيرة والبداية والنهاية
4/ 225.
[4] سقطت من الأصل، وزدناها من ع وسيرة ابن هشام 4/ 241.
[5] في الأصل ففرت. وأثبتنا لفظ ع والسيرة وفي سنن أبي داود 4/ 171
«فنفر» .
[6] اسنن اليوم وغيّر غدا: أي اعمل اليوم بسنّتك التي سننتها في القصاص
ثم بعد ذلك إذا شئت أن تغيّر فغيّر.
[7] ضرب اللّحم: أي خفيف اللّحم ليس برهل.
[8] سيرة ابن هشام 4/ 240، 241، سنن أبي داود 4/ 171، 172 البداية
والنهاية 4/ 224، 225.
[9] سنن أبي داود 4/ 171 رقم 4503 كتاب الديات، باب الإمام يأمر بالعفو
في الدم.
(2/455)
حَمَّادٌ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
قَالَ: فَحَدَّثَنِي محمد بن جعفر، سمعت زياد ابن ضُمَيْرَةَ. ح. قَالَ
وَثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَوَهْبُ بْنُ بَيَانٍ،
(قَالا ثنا) [1] ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّهُ زِيَادُ بْنُ سَعْدِ بْنِ ضُمَيْرةَ
السُّلَمِيُّ. وَهَذا حَدِيثُ وَهْبٍ وَهُوَ أَتَمُّ، يُحَدِّثُ [2]
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، قَالَ مُوسَى:
وَجَدُّهُ، وَكَانَا شَهِدَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا، يَعْنِي أَبَاهُ وَجَدَّهُ. ثُمَّ
رَجَعْنَا إِلَى حَدِيثِ وَهْبٍ: أَنَّ مُحَلِّمَ بْنَ جَثَّامَةَ
قَتَلَ رَجُلا مِنْ أَشْجَعَ فِي الإِسْلامِ. وَذَلِكَ أَوَّلُ غِيَرٍ
[3] قَضَى به رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَتَكَلَّمَ عُيَيْنَةُ فِي (قَتْلِ) [4] الأَشْجَعِيِّ لأَنَّهُ مِنْ
غَطَفَانَ، وَتَكَلَّمَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ
إِلَى أَنْ قَالَ: وَمُحَلَّمٌ رَجُلٌ طَوِيلٌ آدَمُ، وَهُوَ فِي
طَرَفِ النَّاسِ، فَلَمْ يَزَالُوا حَتَّى تَخَلَّصَ فَجَلَسَ بَيْنَ
يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ
فَعَلْتُ الَّذِي بَلَغَكَ، وَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ،
فَاسْتَغْفِرْ لِي يَا رسول الله. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : «أَقَتَلْتَهُ بِسِلاحِكَ فِي غُرَّةِ
الإِسْلامِ؟ الَّلهُمَّ لا تَغْفِرْ لِمُحَلِّمٍ» . بِصَوْتٍ عالٍ.
زَادَ أَبُو سَلَمَةَ: فَقَامَ وَإِنَّهُ [5] لَيَتَلَقَّى دُمُوعَهُ
بِطَرَفِ ردائه [6] .
__________
[1] في الأصل، ع: وهيب بن بنان بن وهب. والتصحيح والزيادة من سنن أبي
داود وتهذيب التهذيب (11/ 160) .
[2] في الأصل، ع: بحديث. والتصحيح من سنن أبي داود 4/ 171.
[3] الغير: جمع الغيرة وهي الدّية.
[4] سقطت من الأصل وزدناها من ع وسنن أبي داود.
[5] في الأصل، ع فقال إنه. وأثبتنا لفظ أبي داود في السنن 4/ 172.
[6] سنن أبي داود: كتاب الدّيات باب الإمام يأمر بالعفو في الدم (4/
171، 172) .
(2/456)
سَرِيَّةُ عَبْد الله بْن حُذَافَة بْن قيس
(ابن عديّ السّهميّ) [1]
قال ابن جريج: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ 4: 59 [2] نزلت
فِي عَبْد الله بْن حُذَافَة السَّهْمِيّ، بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ. أخْبَرَنيه يَعْلَى
بْن مُسْلِم، عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
أخرجاه فِي الصّحيح [3] .
وَقَالَ الأَعْمَشُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا مِنَ
الأَنْصَارِ عَلَى سَرِيَّةٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ.
فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ: اجْمَعُوا لِي حَطَبًا،
فَجَمَعُوا. وَأَمَرَهُمْ فَأَوْقَدُوهُ. ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ
يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
تَسْمَعُوا لِي وَتُطِيعُوا؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَادْخُلُوهَا.
فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَقَالُوا:
إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ. فَسَكَنَ غَضَبُهُ، وَطُفِئَتِ النَّارُ.
فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا
خَرَجُوا مِنْهَا.
إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. أَخْرَجَاهُ [4] .
وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ
سَنَةَ أَرْبَعٍ، وأوردنا الخلاف فيها.
__________
[1] هذه الزيادة في العنوان من ع.
[2] سورة النساء: من الآية 59.
[3] صحيح البخاري: كتاب التفسير، سورة النساء، باب قوله أَطِيعُوا الله
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ 4: 59 إلخ.
وصحيح مسلم (1834) كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية
إلخ.
[4] صحيح البخاري: كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن
معصية 8/ 106 وصحيح مسلم (1840) كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء.
(2/457)
عُمْرَةُ القَضيَّة [1]
روى نافع [بْن عَبْد الرَّحْمَن] [2] بْن أَبِي نُعيم، عَنْ نافع مولى
ابن عُمَر قَالَ: كانت عُمْرة القضيّة فِي ذي القِعدة سنة سبعٍ.
وَقَالَ مُعْتَمر بْن سُلَيْمَان، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لما رجع رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ خيبر، بعث سرايا وأقام
بالمدينة حتى [استهلّ] [3] ذو القعدة. ثُمَّ نادى فِي النّاس أنْ
تجهّزوا العُمْرة [78 أ] فتجهَّزُوا، وخرجوا معه إلى مكة.
وقال ابن شهاب: ثُمَّ خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي ذي القِعدة حتى بلغ يَأْجَجَ [4] وضع الأداة كلها:
الحَجَف والمَجَانّ [5] والرماح والنّبْل. ودخلوا بسلاح الراكب:
السيوف. وبعث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَعْفَرًا بين يديه إلى ميمونة بنت الحارث بن بنت حَزْن العامريّة
فخطبها عَلَيْهِ، فجعلت أمرَها إلى العبّاس،
__________
[1] وتسمّى: عمرة القضاء، ويقال لها عمرة القصاص. (عيون الأثر 2/ 148)
.
[2] زيادة في اسمه من ترجمته في تهذيب التهذيب (10/ 407) وقد ينسب كذلك
إلى جدّه.
[3] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع.
[4] يأجج: بالهمزة والفتح، مكان من مكة على ثمانية أميال، وكان من
منازل عبد الله بن الزبير، (معجم البلدان 5/ 424) .
[5] في الأصل: المجنّ. وأثبتنا لفظ ع وهو صيغة الجمع من المجنّ أي
الترس.
(2/459)
وكانت أختها تحته وهي أمّ الفضل فزوّجها
العبّاس رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا قدم أمر أصحابه فقال: اكشفوا عَنِ المناكب واسعوا فِي
الطَّواف، ليرى المشركون جَلَدَهم وقوَّتهم، وكان يكايدهم بكلّ ما
استطاع. فاستكفّ أهل مكة- الرجال والنّساء والصّبيان- ينظرون إِلَى
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وهم
يطوفون بالبيت. وعبد الله بْن رواحة يرتجز بين يدي رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوشّحًا بالسيف يَقْولُ [1] :
خَلُّوا بني الكُفَّار عَنْ سبيله ... أَنَا الشهيد أنّه رسولهْ
قد أنزل الرَّحْمَن فِي تنزيلهْ ... فِي صحف تُتْلى عَلَى رسولهْ
فاليوم نضربكم عَلَى تأويلِهْ ... كما ضَربْناكم عَلَى تنزيلهْ
ضرْبًا يُزيل الهامَ عَنْ مَقِيلَهْ ... وَيُذْهِلُ الخليلَ عَنْ
خليلهْ
وتغيّب رجال من أشرافهم أن ينظروا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْظًا وحنقًا، ونفاسة وحَسَدًا، خرجوا إلى
الخَنْدَمَة [2] . فَقَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بمكة، وأقام ثلاث ليالٍ، وكان ذَلِكَ آخر الشرط. فلما أصبح
من اليوم الرابع أتاه سُهَيْلُ بْن عَمْرو وغيره، فصاح حُوَيْطِب بْن
عَبْد العُزَّى: نناشدك الله والعقد لما خرجتَ من أرضنا فقد مضت
الثلاث. فقال سعد بْن عُبَادة: كذبتَ لا أُمّ لك لَيْسَ بأرضك ولا بأرض
آبائك، [والله] [3] لا نخرج. ثُمَّ نادى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُهَيلًا وحُوَيْطبًا، فقال: «إنّي قد نكحت فيكم
امرأةً فما يضرّكم أن أمكث حتى أدخل بِهَا، ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون
معنا» . قَالُوا: نناشدك الله والعقد، إلّا خرجت عنّا. فأمر رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أبا رافع فأذّن بالرحيل. وركب
__________
[1] ديوانه: ص 100- 101 باختلاف في الألفاظ وفي ترتيب الأبيات، وكذلك
في سيرة ابن هشام 4/ 69، والطبقات لابن سعد 2/ 121، وتاريخ الطبري 3/
24 والمغازي لعروة 202.
[2] الخندمة: جبل من جبال مكة. (معجم البلدان 2/ 392) .
[3] ليست في الأصل، وأثبتناه من ع.
(2/460)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى نزل بطن سَرِف [1] وأقام المسلمون، وخلَّف رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رافع ليحمل ميمونة
إِلَيْهِ حين يُمسي. فأقام بسرِف حتى قدِمت عَلَيْهِ، وقد لقيت عناءً
وأذى من سُفهاء قريش، فبنى بِهَا. ثُمَّ أدلج فسار حتى قدِم المدينة.
وقدّر الله أن يكون موتُ ميمونة بسَرِف بعد حين [2] .
وَقَالَ فُلَيْحٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا،
فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ. فَنَحَرَ
هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ.
وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، وَلا
يَحْمِلَ سِلاحًا إِلا سُيُوفًا، وَلا يُقِيمَ بِهَا إِلا مَا
أَحَبُّوا. فَاعْتَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَدَخَلَهَا كَمَا
صَالَحَهُمْ. فَلَمَّا أَنْ أَقَامَ بِهَا ثَلاثًا أَمَرُوهُ أَنْ
يَخْرُجَ، فَخَرَجَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [3] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ [4] : [78 ب] ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ تَكُنْ هَذِهِ
الْعُمْرَةُ قَضَاءً وَلَكِنْ شَرْطًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ
يعتمروا قابل فِي الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ.
وقال مُحَمَّد بْن سلمة، عَنِ ابن إِسْحَاق، عَنْ عَمْرو بْن ميمون،
سَمِعْتُ أَبَا حاضر الحَضْرَميّ أنّ ميمون بْن مِهْران قَالَ: خرجت
معتمِرًا سنة حُوصِر ابن الزُّبير. وبعث معي رجال من قومي بهَدْي. فلما
انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الْحَرَمَ فنحرت الهدي مكاني،
ثُمَّ أحللتُ ثُمَّ رجعتُ.
فلما كَانَ من العام المقبل، خرجت لأقضي عُمْرَتي، فأتيت ابن عبّاس
__________
[1] سرف: موضع على أميال من مكة، وهو الّذي فيه مسجد ميمونة أمّ
المؤمنين. (معجم البلدان 3/ 212) .
[2] سيرة ابن هشام 4/ 69، 70، الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 120- 122،
تاريخ الطبري 3/ 23- 25، تسمية أزواج النّبيّ لأبي عبيدة 67، عيون
الأثر 2/ 148، 149، البداية والنهاية 4/ 226- 230، عيون التواريخ 1/
272، 273، المغازي لعروة 201- 203.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب عمرة القضاء. (5/ 85) .
[4] المغازي 2/ 731.
(2/461)
فسألته، فقال: أبدل الهدْي الَّذِي نحروا
عام الحُدَيبية فِي عُمْرة القضاء. زاد فِيهِ يونس عَنِ ابن إِسْحَاق
قَالَ: فَعَزَّت الإِبل عليهم، فرخَّص لهم رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي البقر [1] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ [2] : حَدَّثَنِي غَانِمُ بْنُ أَبِي غَانِمٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَدْ
سَاقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْقَضِيَّةِ
سِتِّينَ بَدَنَةً.
قَالَ: وَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ
الظَّهْرَانِ، وَقَدَّمَ السِّلاحَ إِلَى بَطْنِ يَأْجَجَ، حَيْثُ
يَنْظُرُ إِلَى أَنْصَابِ الْحَرَمِ. وَتَخَوَّفَتْ قُرَيْشٌ،
فَذَهَبَتْ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ وَخَلَّوْا مَكَّةَ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا
دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مَكَّةَ فِي
عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، مَشَى ابْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ
يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... قَدْ أَنْزَلَ
الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ
بِأَنَّ خَيْرَ الْقتْلِ فِي سَبِيلِهِ ... نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى
تَأْوِيلِهِ
كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ... يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ
بِقِيلِهِ [3]
وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَكَّةَ، وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَقَالَ
الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمُ
الْحُمَّى، وَلَقُوا مِنْهَا شَرًّا. فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ
عَلَى مَا قَالُوهُ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ
الثلاثة، وأن يمشوا بين المشركين. فَلَمَّا رَأَوْهُمْ رَمَلُوا،
قَالُوا:
هَؤُلاءِ الَّذِينَ ذَكَرْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى وَهَنَتْهُمْ؟ هَؤُلاءِ
أَجْلَدُ مِنَّا. قَالَ ابن عبّاس: ولم
__________
[1] تفرّد به أبو داود من حديث أبي حاضر عثمان بن حاضر الحميري عن ابن
عباس فذكره. وانظر الطبري 3/ 25.
[2] المغازي 2/ 732، البداية والنهاية 4/ 231.
[3] قارن الأبيات بالأبيات التي مرت قبل قليل.
(2/462)
[يَمْنَعْهُ أَنْ] [1] يَأْمُرَهُمْ أَنْ
يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلا الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ.
أَخْرَجَاهُ [2] .
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: أنا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي
الطُّفَيْلِ قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رَمَلَ
وَأَنَّهَا سُنَّةٌ. قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم مَكَّةَ
وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى قُعَيْقِعَانَ [3] ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ
قوما حسّدا، فجعلوا يتحدّثون بَيْنَهُمْ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ
ضُعَفَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَرُوهُمْ مَا يَكْرَهُونَ مِنْكُمْ. فَرَمَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرِيَهُمْ قُوَّتَهُ
وَقُوَّةَ أَصْحَابِهِ، وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [4]
. وَقَدْ بَقِيَ الرَّمَلُ سُنَّةً فِي طَوَافِ الْقُدُومِ، وَإِنْ
كَانَ قَدْ زَالَتْ عِلَّتُهُ فَإِنَّ جَابِرًا قَدْ حَكَى فِي حَجَّةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنَّهُ] [5] رَمَلَ
ورَمَلُوا فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَّانَةِ.
وقال إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى سمعه
يَقْولُ: اعتمرنا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فكنّا [79 أ] نستره- حين طاف- من صبيان مكة لا يُؤْذونه.
وأرانا ابن أَبِي أوفى ضربةً أصابته مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم
خيبر. خ [6] .
__________
[1] زيادة من الصحيحين تستقيم بها العبارة.
[2] صحيح البخاري: كتاب الحجّ، باب كيف بدأ الرمل 2/ 161. وكتاب
المغازي، باب عمرة القضاء 5/ 86، وصحيح مسلم (1264) كتاب الحجّ، باب
استحباب الرمل في الطواف والعمرة. وانظر الطبقات الكبرى 2/ 123.
[3] قعيقعان: جبل بأسفل مكة. وهو بالضم ثم الفتح. (معجم البلدان 4/
379) .
[4] صحيح مسلم (1266) ، كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف
والعمرة.
[5] سقطت من الأصل، وحرفت (رمل) بعدها إلى رملة. وأثبتنا عبارة ع.
[6] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب عمرة القضاء (5/ 86) .
(2/463)
تَزْوِيجُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمَيْمُونَةَ
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [1] حدثني
أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَكَانَ الَّذِي
زَوَّجَهُ الْعَبَّاسُ. فَأَقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة
ثَلَاثًا. فَأَتَاهُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، فِي نَفَرٍ
مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: قَدِ انْقَضَى أَجَلُكَ فَاخْرُجْ عَنَّا.
قَالَ: «لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَعرَّسْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ،
وَصَنَعْنَا طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ» . قَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا
بِهِ. فَخَرَجَ، وَخَلَّفَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ عَلَى مَيْمُونَةَ،
حَتَّى أَتَاهُ بِهَا بِسَرِفٍ، فَبَنَى عَلَيْهَا. وَقَالَ وُهَيْبٌ:
ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ
وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَمَاتَتْ بِسَرِفٍ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [2] .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ لِي الثَّوْرِيُّ: لا تَلْتَفِتْ
إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 70 تاريخ الطبري 3/ 25، طبقات ابن سعد 2/ 122
المغازي لعروة 201.
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب عمرة القضاء. (5/ 86) ، وانظر
الطبقات لابن سعد 8/ 133.
(2/465)
وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَقَدْ رَوَاهُ
الثَّوْرِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُمَا فِي الصَّحِيحِ.
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: ثنا عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ
وَهُوَ محرم. فقال سعيد بن المسيّب: وهو وَإِنْ كَانَتْ خَالَتَهُ. مَا
تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا
بَعْدَ مَا أَحَلَّ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي
الْمُغِيرَةِ، عَنْهُ [1] .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنْ
مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ يَزِيدَ [بْنِ] الأَصَمِّ، عَنْ
مَيْمُونَةَ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ حَلالانِ بِسَرِفٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
[2] . وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ من وجه آخر عن يزيد ابن الأَصَمِّ
[3] .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، نا مَطَرٌ
[4] الْوَرَّاقُ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: تَزَوَّجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ
حَلالٌ، وَبَنى بِهَا وَهُوَ حَلالٌ. وَكُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ:
اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي
الْقِعْدَةِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَفِيهِ: فَخَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي مِنْ
مَكَّةَ، فَتَبِعَتْهُمُ ابْنَةُ حمزة، فنادت: يا عمّ. فتناولها عليّ
رضي الله عنه، وقال لفاطمة: دونك، فحملتها. قال: فاختصم فيها عَلِيٌّ
وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا
أَخَذْتَهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ. ابنة عمّي،
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المحصر وجزاء الصيد، باب تزويج المحرم. (2/
214) .
[2] سنن أبي داود: كتاب المناسك، باب المحرم يتزوّج (2/ 169 رقم 1843)
.
[3] صحيح مسلم (1411) كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة
خطبته.
[4] في طبقات ابن سعد 8/ 134 «مطرّف» وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه،
انظر تهذيب التهذيب 10/ 167.
(2/466)
وَخَالَتُهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ:
ابْنَةُ أَخِي. فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِهَا لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ
الْأُمِّ» وَقَالَ لِعَلِيٍّ «أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ» ، وَقَالَ
لِجَعْفَرٍ: أَشْبَهْتَ خُلُقِي وَخَلْقِي، وَقَالَ لِزَيْدٍ: أَنْتَ
أَخُونَا وَمَوْلانَا، أخرجه [79 ب] الْبُخَارِيُّ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ عَنْهُ [1] . وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي
خَيْثَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَارَةَ بِنْتَ حَمْزَةَ، وَأُمَّهَا سُلْمَى
بِنْتَ عُمَيْسٍ كَانَتَا بِمَكَّةَ. فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَلَّمَ عَلِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَلامَ نَتْرُكُ بِنْتَ
عَمِّنَا يَتِيمَةً بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ؟ فَلَمْ يَنْهَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِخْرَاجِهَا.
فَخَرَجَ بِهَا، فَتَكَلَّمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَكَانَ وَصِيَّ
حَمْزَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
آخَى بَيْنَهُمَا. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَضَى بِهَا
لِجَعْفَرٍ وَقَالَ: تَحْتَكَ خَالَتِهَا، وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ
عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَمَّتِهَا [2] . وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ
عُمْرَتِهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ بَعَثَ ابْنَ أَبِي
الْعَوْجَاءِ [3] في خمسين إلى بني سليم.
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب عمرة القضاء. (5/ 85) .
[2] انظر فتح الباري لابن حجر 7/ 506.
[3] في طبعة القدسي 433 «العرجاء» ، والتصويب من طبقات ابن سعد 2/ 123،
وعيون الأثر 2/ 149، وتاريخ الطبري 3/ 26 وغيره.
(2/467)
ثمّ دخلت سنة ثمان من الهجرة
[مسير ابن أبي العجواء إلى بني سليم]
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ
عَمِّهِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:
سَارَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءَ [1] السُّلَمِيُّ فِي خَمْسِينَ رَجُلا
إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، وَكَانَ عَيْنٌ لِبَنِي سُلَيْمٍ مَعَهُ.
فَلَمَّا فَصَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ، خَرَجَ الْعَيْنُ إِلَى قَوْمِهِ
فَحَذَّرَهُمْ.
فَجَمَعُوا جَمْعًا كَثِيرًا. وَجَاءَهُمُ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ
وَهُمْ مُعِدُّونَ. فَلَمَّا رَآهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأَوْا جَمْعَهُمْ، دَعُوهُمْ إِلَى
الإِسْلامِ. فَرَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ، وَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُمْ،
فَرَمَوْهُمْ سَاعَةً، وَجَعَلَتِ الأَمْدَادُ تَأْتِي، وَأَحْدَقُوا
بِهِمْ. فَقَاتَلُوا حَتَّى قُتِلَ عَامَّتُهُمْ، وَأُصِيبَ بن أَبِي
الْعَوْجَاءِ جَرِيحًا فِي الْقَتْلَى. ثُمَّ تَحَامَلَ حَتَّى بَلَغَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمَ
الْمَدِينَةَ فِي أَوَّلِ صَفَرٍ [2] .
إسلام عَمْرو بْن العاص وخالد بْن الوليد
وفيها: أسلمَ عَمْرو بْن العاص، وخالد بْن الوليد.
__________
[1] وفي طبعة القدسي 434 «العرجاء» وهو تصحيف، وقد صحّحت الاسم في أكثر
من موضع.
[2] الطبقات لابن سعد 2/ 123، تاريخ الطبري 3/ 26، عيون الأثر 2/ 149،
150 البداية والنهاية 4/ 235، 236.
(2/469)
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: [1] أنا عَبْدُ
الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ:
كُنْتُ لِلإِسْلامِ مُجَانِبًا مُعانِدًا. حَضَرْتُ بَدْرًا مَعَ
الْمُشْرِكِينَ فَنَجَوْتُ، ثُمَّ حَضَرْتُ أُحُدًا وَالْخَنْدَقَ
فَنَجَوْتُ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَمْ أُوضَعُ، وَاللَّهِ
لَيَظْهَرَنَّ مُحَمَّدٌ عَلَى قُرَيْشٍ. فَلَحِقْتُ بِمَالِي
بِالْوَهْطِ [2] . فَلَمَّا كَانَ الصُّلْحُ بِالْحُدَيْبِيَةِ،
جَعَلْتُ أَقُولُ، يَدْخُلُ [3] مُحَمَّدٌ قَابِلا مَكَّةَ
بِأَصْحَابِهِ، مَا مَكَّةُ بِمَنْزِلٍ وَلا الطّائف، وما شيء خير مِنَ
الْخُرُوجِ. فَقَدِمتُ مَكَّةَ فَجَمَعْتُ رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ
كَانُوا يَرَوْنَ رَأْيِي وَيَسْمَعُونَ مِنِّي، فَقُلْتُ: تَعَلَّمُوا
[4]- وَاللَّهِ- إِنِّي لأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو عُلُوًّا
مُنْكَرًا، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا. قَالُوا: وما هو؟ قلت:
نلحق بالنّجاشيّ فنكون معه، فإن يظهر محمد كنّا عند النّجاشيّ، [فنكون
تحت يد النّجاشيّ] [5] ، وأحبّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ
يَدِ مُحَمَّدٍ. وَإِنْ تَظْهَرْ قُرَيْشٌ فَنَحْنُ مَنْ عَرَفُوا.
قَالُوا: هَذَا الرَّأْيُ. قُلْتُ: فَاجْمَعُوا مَا تُهْدُونَهُ لَهُ.
وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الأَدَمُ.
فَجَمَعْنَا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى
أَتَيْنَاهُ، فَأَنَا لَعِنْدَهُ، إِذْ جَاءَ عَمْرُو ابن أُمَيَّةَ
الضَّمْرِيُّ بِكِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى النَّجَاشِيِّ لِيُزَوِّجَهُ بِأُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أبي
__________
[1] المغازي 2/ 742.
[2] الوهط: بستان عظيم كان لعمرو بن العاص بالطائف على ثلاثة أميال من
وجّ، وهو كرم موصوف.
[3] في الأصل، ع: يا رجل. والتصحيح من المغازي للواقدي (2/ 742)
والبداية والنهاية (4/ 236) .
[4] (تعلّموا) فعل أمر بمعنى (اعلموا) ولا يستعمل ماضيا ولا مضارعا
بهذا المعنى. وقوله (إنّي لأرى.. إلخ) جملة محتوية على لام الابتداء
التي تقتضي تعليق الفعل. ولهذا كسرت همزة (إنّ) ولم تكسر في التي بعدها
لعدم التعليق. وقد حرّف بعض المؤلّفين والنّساخ والمحقّقين هذه الكلمة
إلى (تعلّمون) مع أنّ السياق ينكرها.
[5] زيادة من الواقدي (2/ 742) .
(2/470)
سفيان [80 أ] فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ
خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي: لَوْ دَخَلْتُ عَلَى
النَّجَاشِيِّ، وَسَأَلْتُهُ [1] هَذَا فَأَعْطَانِيهِ لَقَتَلْتُهُ
لأُسِرَّ بِذَلِكَ قُرَيْشًا. فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَجَدْتُ لَهُ
فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي، أَهْدَيْتَ لِي مِنْ بِلادِكَ شَيْئًا؟
قُلْتُ:
نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَهْدَيْتُ لَكَ أَدَمًا. وَقَرَّبْتُهُ
إِلَيْهِ، فَأَعْجَبَهُ، فَفَرَّقَ مِنْهُ أَشْيَاءَ بَيْنَ
بَطَارِقَتِهِ. ثُمَّ قُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلا خَرَجَ مِنْ
عِنْدِكَ وَهُوَ رَسُولُ عدوّ لنا قد وترنا وقتل أشرافنا، فأعطينه
فَأَقْتُلَهُ. فَغَضِبَ وَرَفَعَ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفِي
ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنَّهُ كَسَرَهُ، فَابْتَدَرَ مَنْخَرَاي
فَجَعَلْتُ أَتَلَقَّى الدَّمَ بِثِيَابِي. فَأَصَابَنِي مِنَ الذُّلِّ
مَا لَوِ انْشَقَّتْ لِي الأَرْضُ دَخَلْتُ فِيهَا فَرَقًا مِنْهُ.
ثُمَّ قُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ: لَوْ ظَنَنْتَ أَنَّكَ تَكْرَهُ مَا
قُلْتُ مَا سَأَلْتُكَهُ. قَالَ:
فَاسْتَحَى وَقَالَ: يَا عَمْرُو، تَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَكَ رَسُولَ
مَنْ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى
وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلامُ لِتَقْتُلَهُ؟ قَالَ عَمْرٌو:
وَغَيَّرَ اللَّهُ قَلْبِي عَمَّا كُنْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ فِي
نَفْسِي: عَرَفَ هَذَا الْحَقَّ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ وَتُخَالِفُ
أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَتَشْهَدُ أَيُّهَا الْمَلِكُ بِهَذَا؟ قَالَ:
نَعَمْ، أَشْهَدُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ يا عمرو، فأطعني واتّبعه، فو
الله إِنَّهُ لَعَلَى الْحَقِّ، وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ،
كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ. قُلْتُ: أَفَتُبَايِعُنِي لَهُ
عَلَى الإِسْلامِ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعَنِي عَلَى الإِسْلامِ، ثُمَّ
دَعَا بَطَسْتٍ، فَغَسَلَ عَنِّي الدَّمَ، وَكَسَانِي ثِيَابًا،
وَكَانَتْ ثِيَابِي قَدِ امْتَلأَتْ بِالدَّمِ فَأَلْقَيْتُهَا.
وَخَرَجْتُ عَلَى أَصْحَابِي- فَلَمَّا رَأَوْا كِسْوَةَ النَّجَاشِيِّ
سُرُّوا بِذَلِكَ وَقَالُوا:
هَلْ أَدْرَكْتَ مِنْ صَاحِبِكَ مَا أَرَدْتَ؟ فَقُلْتُ: كَرِهْتُ أَنْ
أُكَلِّمَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَقُلْتُ أَعُودُ إِلَيْهِ-
فَفَارَقْتُهُمْ، وَكَأَنِّي أَعْمِدُ لِحَاجَةٍ- فَعَمَدْتُ إِلَى
موضع السفن
__________
[1] في الأصل، ع: «لو دخلت على النّجاشيّ لو سألت النّجاشيّ هذا..» وقد
عدلنا بالعبارة إلى ما أثبتناه وهو قريب من عبارة الواقدي وابن هشام.
(3/ 296) .
(2/471)
فَأَجِدُ سَفِينَةً قَدْ شُحِنَتْ تُدْفَعُ
[1] . فَرَكِبْتُ مَعَهُمْ، وَدَفَعُوهَا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى
الشُّعَيْبَةِ [2] . وَخَرَجْتُ مِنَ الشّعيبةِ [3] وَمَعِي
نَفَقَةٌ، فَابْتَعْتُ بَعِيرًا، وَخَرَجْتُ أُرِيدُ الْمَدِينَةَ،
حَتَّى خَرَجْتُ عَلَى مَرَّ الظَّهْرَانِ. ثُمَّ مضيت حتى إذا كنت
بالهدة، فَإِذَا رَجُلانِ قَدْ سَبَقَانِي بِغَيْرِ كَثِيرٍ،
يُرِيدَانِ مَنْزِلا، وَأَحَدُهُمَا دَاخِلٌ فِي خَيْمَةٍ،
وَالآخَرُ قَائِمٌ يُمْسِكُ الرَّاحِلَتَيْنِ. فَنَظَرْتُ فَإِذَا
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. فَقُلْتُ:
أَبَا سُلَيْمَانَ؟ قَال: نَعَمْ. أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ:
مُحَمَّدًا، دَخَلَ النَّاسُ فِي الإِسْلامِ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ
بِهِ طَمَعٌ [4] ، وَاللَّهِ لَوْ أَقَمْتَ لأَخَذَ بِرِقَابِنَا
كَمَا يُؤْخَذُ بِرَقَبَةِ الضَّبُعِ فِي مَغَارَتِهَا. قُلْتُ:
وَأَنَا وَاللَّهِ قَدْ أَرَدْتُ مُحَمَّدًا وَأَرَدْتُ
الإِسْلامِ.
فَخَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَرَحَّبَ بِي، فَنَزَلْنَا
جَمِيعًا ثُمَّ تَرَافَقْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَا أَنْسَى
قَوْلَ رَجُلٍ لقِيَنَا بِبِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ [5] يَصِيحُ: يَا
رَبَاحُ، يَا رَبَاحُ. فَتَفَاءَلْنَا بِقَوْلِهِ، وَسِرْنَا ثُمَّ
نَظَرَ إِلَيْنَا، فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: قد أعطت مكة المقادة بعد
هذين. [80 ب] فظننت أنّه [يعنيني وخالد بن الوليد. ثم ولّى مدبرا
إلى المسجد سريعا فَظَنَنْتُ أَنَّهُ] [6] بَشَّرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِنَا، فَكَانَ كَمَا
ظَنَنْتُ.
وَأَنَخْنَا بِالْحَرَّةِ فَلَبِسْنَا مِنْ صَالِحِ ثِيَابِنَا،
وَنُودِيَ بِالْعَصْرِ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى اطَّلَعْنَا
عَلَيْهِ، وَإِنَّ لِوَجْهِهِ تَهَلُّلا، وَالْمُسْلِمُونَ
حَوْلَهُ قَدْ سُرُّوا بِإِسْلامِنَا. وَتَقَدَّمَ خَالِدٌ
فَبَايَعَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَبَايَعَ،
ثُمَّ تقدّمت فو الله ما هو إلّا أن جلست
__________
[1] في الأصل: قد سحبت بدفع. وما أثبتناه من ع، وهو لفظ البداية
والنهاية (4/ 237) . وفي المغازي للواقدي (2/ 744) : قد شحنت برقع.
(الرقع جمع رقعة، كهمزة، شجرة عظيمة) .
[2] الشّعيبة: مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز، وكان مرفأ ومرسى
سفنها قبل جدّة. وقيل قرية على شاطئ البحر على طريق اليمن (معجم
البلدان 3/ 351) .
[3] هكذا في الأصل، ع والواقدي، وهي في البداية والنهاية وابن
الملا: السفينة.
[4] في الأصل، ع وابن كثير: طعم. وأثبتنا لفظ الواقدي (2/ 744) .
[5] في الأصل، بدير أبي عينه. وكذا في ع بغير إعجام. والتصحيح من
الواقدي. وبئر أبي عنبة، بلفظ واحدة العنب، بئر بينها وبين المدينة
مقدار ميل. (معجم البلدان 1/ 301) .
[6] سقطت من الأصل، ع، وزدناها من الواقدي (2/ 744) .
(2/472)
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ
أَرْفَعَ طَرْفِي إِلَيْهِ حَيَاءً مِنْهُ، فَبَايَعْتُهُ عَلَى
أَنْ يَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي، وَلَمْ يَحْضُرْنِي
مَا تَأَخَّرَ. فَقَالَ: «إِنَّ الإِسْلامَ يَجُبُّ مَا كَانَ
قَبْلَهُ، وَالْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا» . فو الله
مَا عَدَلَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِخَالِدٍ أَحَدًا فِي أَمْرٍ حَزَبَهِ مُنْذُ أَسْلَمْنَا.
وَلَقَدْ كُنَّا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ.
وَلَقْد كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بِتِلْكَ الْحَالِ، وَكَانَ عُمَرُ
عَلَى خَالِدٍ كَالْعَاتِبِ.
قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ: فَذَكَرْتُ هَذَا
الْحَدِيثَ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي
رَاشِدٌ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ حَبِيبٍ،
عَنْ عَمْرٍو، نَحْوَ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لِيَزِيدَ: أَلَمْ يتوقّت
لَكَ مَتَى قَدِمَ عَمْرٌو وَخَالِدٌ؟
قَالَ: لا، إِلا أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ الْفَتْحِ. قُلْتُ: فَإِنَّ
أَبِي أَخْبَرَنِي أَنَّ عَمْرًا وَخَالِدًا وَعُثْمَان قَدِمُوا
الْمَدِينَةَ لِهِلالِ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ [1] .
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي
يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَاشِدٍ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ
أَبِي أَوْسٍ، (عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ) [2] ، حَدَّثَنِي
عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، قَالَ: لَمَّا انْصَرَفْنَا مِنَ
الْخَنْدَقِ، جَمَعْتُ رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ
إِنِّي لأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو عُلُوًّا مُنْكَرًا،
وَاللَّهِ مَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا مَا
أَدْرِي كَيْفَ رَأْيُكُمْ فِيهِ؟ قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ:
أَنْ نَلْحَقَ بِالنَّجَاشِيِّ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، لَكِنْ
فِيهِ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ أَنْفَ نَفْسِهِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ
قَدْ كَسَرَهُ. وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهُ مُخْتَصَرٌ [3] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ [4] : حَدَّثَنِي يَحْيَى بن المغيرة بن عبد
الرحمن بن
__________
[1] المغازي للواقدي 2/ 742- 744، البداية والنهاية 4/ 236- 238.
[2] سقطت من الأصل، وهي زيادة واجبة في السند، استدركناها من ابن
هشام (2/ 276) والطبري 3/ 29 وغيره وترد في اسمه الروايتان: حبيب
بن أوس، وحبيب بن أبي أوس (انظر تهذيب التهذيب 2/ 177) .
[3] سيرة ابن هشام 3/ 296، تاريخ الطبري 3/ 29- 31، عيون الأثر 2/
81- 83.
[4] المغازي 2/ 745.
(2/473)
الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، سَمِعْتُ أَبِي
يُحَدِّثُ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ
اللَّهُ بِي مَا أَرَادَ مِنَ الْخَيْرِ قَذَفَ فِي قَلْبِي
الإِسْلامَ، وَحَضَرَنِي رُشْدِي، وَقُلْتُ:
قَدْ شَهِدْتُ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا عَلَى مُحَمَّدٍ
فَلَيْسَ مَوْطِنٌ أَشْهَدُهُ إِلا أَنْصَرِفُ وَأَنَا أَرَى فِي
نَفْسِي أَنِّي مُوضَعٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا
سَيَظْهَرُ. فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ، خَرَجْتُ فِي خَيْلِ
الْمُشْرِكِينَ، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ بِعُسْفَانَ، فَأَقَمْتُ
بِإِزَائِهِ وَتَعَرَّضْتُ لَهُ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ
أَمَامَنَا، فَهَمَمْنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِ. ثُمَّ لَمْ
يَعْزِمْ لَنَا، وَكَانَتْ فِيهِ خِيَرَةٌ، فَاطَّلَعَ عَلَى مَا
فِي أَنْفُسِنَا مِنَ الْهُمُومِ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ
الْعَصْرِ صَلاةَ الْخَوْفِ. فَوَقَعَ ذَلِكَ مِنَّا مَوْقِعًا،
وَقُلْتُ: الرَّجُلُ مَمْنُوعٌ. فَافْتَرَقْنَا، وَعَدَلَ عَنْ
سَنَنِ خَيْلِنَا، وَأَخَذْتُ ذَاتَ الْيَمِينِ.
فَلَمَّا صَالَحَ قُرَيْشًا قُلْتُ: أَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ؟ أَيْنَ
الْمَذْهَبُ؟ إِلَى النَّجَاشِيِّ؟ فَقَدِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا
وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ آمِنُونَ. فَأَخْرُجُ إِلَى هِرَقْلَ؟
فَأَخْرُجُ مِنْ دِينِي إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ
[81 أ] فأقيم مَعَ عَجَمٍ تَابِعًا مَعَ عَنَتِ ذَلِكَ [1] ؟ أَوْ
أُقِيمُ فِي دَارِي فِيمَنْ بَقِيَ؟ فَأَنَا عَلَى ذَلِكَ، إِذْ
دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، فَتَغَيَّبْتُ.
وَكَانَ أَخِي الْوَلِيدُ (بْنُ الْوَلِيدِ) [2] قَدْ دَخَلَ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ
الْقَضِيَّةِ. فَطَلَبَنِي فَلَمْ يَجِدْنِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ
كِتَابًا فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْد، فَإِنِّي لَمْ أَرَ
أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِكَ عَنِ الإِسْلامِ. وَعَقْلُكَ
عَقْلُكَ، وَمَثَلُ الإِسْلامِ يَجْهَلُهُ أَحَدٌ؟ قَدْ سَأَلَنِي
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
أَيْنَ خَالِدٌ؟ فَقُلْتُ: يَأْتِي اللَّهُ بِهِ.
فَقَالَ: مَا مَثَلُهُ جَهِلَ الإِسْلامَ، وَلَوْ كَانَ جَعَلَ
نكايته وجدّه مع المسلمين على
__________
[1] في الأصل: فأقيم مع عجم تابع من عنت ذلك. ولعلّه تحريف عمّا
أثبتناه ورواية الواقدي:
فأقيم مع عجم تابعا.
[2] زيادة من ع.
(2/474)
الْمُشْرِكِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ
وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ. فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا
قَدْ فَاتَكَ.
فَلَمَّا جَاءَنِي كِتَابُهُ، نَشِطْتُ لِلْخُرُوجِ، وَزَادَنِي
رَغْبَةً فِي الإِسْلامِ. وَأَرَى فِي النَّوْمِ كَأَنِّي فِي
بِلادٍ ضَيِّقَةٍ جَدْبَةٍ، فَخَرَجْتُ إِلَى بِلادٍ خَضْرَاءَ
وَاسِعَةٍ قُلْتُ: إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا. فَلَمَّا قَدِمْنَا
الْمَدِينَةَ قُلْتُ: لأَذْكُرَنَّهَا لأَبِي بَكْرٍ،
فَذَكَرْتُهَا، فَقَالَ: هُوَ مَخْرَجُكَ الَّذِي هَدَاكَ اللَّهُ
لِلإِسْلامِ، وَالضَّيِّقُ هُوَ الشِّرْكُ. قَالَ: فَلَمَّا
أَجْمَعْتُ الْخُرُوجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالضَّيِّقُ هُوَ الشِّرْكُ. قَالَ: فَلَمَّا
أَجْمَعْتُ الْخُرُوجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قلت: من أصحاب إلى محمد؟ فلقيت صفوان ابن
أُمَيَّةَ، فَقُلْتُ يَا أَبَا وَهْبٍ. أَمَا تَرَى إِلَى مَا
نَحْنُ فِيهِ، إِنَّمَا كُنَّا كَأَضْرَاسٍ [1] ، وَقَدْ ظَهَرَ
مُحَمَّدٌ عَلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَلَوْ قَدِمْنَا عَلَى
مُحَمَّدٍ فَاتَّبَعْنَاهُ فَإِنَّ شَرَفَهُ لَنَا شَرَفٌ. فَأَبَى
أَشَدَّ الإِبَاءِ وَقَالَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ غَيْرِي مَا
اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا. فَافْتَرَقْنَا وَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ
قُتِلَ أَخُوهُ بِبَدْرٍ. فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ
فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ مَا قُلْتُ لِصَفْوَانَ، فَقَالَ لِي مِثْلَ
مَا قَالَ صَفْوَانُ. قُلْتُ: فَاكْتُمْ ذِكْرَ مَا قُلْتُ لَكَ.
وَخَرَجْتُ إِلَى مَنْزِلِي، فَأَمَرْتُ بِرَاحِلَتِي أَنْ
تَخْرُجَ إِلَيَّ، [فَخَرَجْتُ بِهَا إِلَى] [2] أَنْ أَلْقَى
عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ. فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا لِي صَدِيقٌ،
فَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، إِنِّي عَمَدْتُ الْيَوْمَ،
وإنّي أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بفخّ [3] منَاخَةَ، قَالَ:
فَاتَّعَدْتُ أَنَا وَهُوَ بِيَأْجَجَ، وَأَدْلَجْنَا سَحَرًا،
فَلَمْ يَطْلَعِ الْفَجْرُ حَتَّى الْتَقَيْنَا بِيَأْجَجَ،
فَغَدَوْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْهَدَّةِ [4] . فَنَجِدُ
عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بِهَا، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ.
فَقُلْنَا: وبك.
__________
[1] في الواقدي (2/ 747) : «إنّما نحن أكلة رأس» أي هم قلّة يشبعهم
رأس واحد. ورواية ابن كثير عن الواقدي كما في الأصل.
[2] زيادة من الواقدي يقتضيها السياق.
[3] فخّ: هو بفتح أوله وتشديد ثانيه واد بمكة، هو فيما قيل وادي
الزاهر.
[4] الهدّة: بالفتح ثم التشديد موضع بين مكة والطّائف. وقد خفف
بعضهم دالة. (معجم البلدان 5/ 395) .
(2/475)
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ: كَانَ
قُدُومُنَا فِي صَفَرٍ سنة ثمان. فو الله مَا كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِ أَسْلَمْتُ
يَعْدِلُ بِي أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا حَزَبَهُ [1] .
سَرِيَّةُ شجاع بْن وهْب الأسديّ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ [2] : حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ
إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ عُمَرَ
بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ فِي أَرْبَعَةٍ
وَعِشْرِينَ رَجُلا، إِلَى جَمْعٍ مِنْ هَوَازِنَ [3] . وَأَمَرَهُ
أَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ. فَخَرَجَ يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ
النَّهَارَ، حَتَّى صَبَّحَهُمْ غَارِّينَ، فَأَصَابُوا نَعَمًا
وَشَاءً، فَاسْتَاقُوا ذَلِكَ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَكَانَتْ
سُهْمَانُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ.
وَعَدَلُوا الْبَعِيرَ بِعَشَرَةٍ [4] مِنَ الغنم. وغابت السرية
[81 ب] خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً [5] .
قَالَ ابن أَبِي سَبْرة: فحدّثت بِهِ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ
بْن عَمْرو بْن عثمان، فقال: كذبوا. قد أصابوا فِي ذَلِكَ الحاضر
نسوةً فاستاقوهنّ، فكانت فيهنّ جارية وضِيئة، فقدموا بِهَا
المدينة، ثُمَّ قدِم وفْدُهم مسلمين، فكلّموا رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السبْي. فكلّم النَّبِيّ
صَلَّى الله عليه وسلّم شجاعا وأصحابه في
__________
[1] المغازي للواقدي 2/ 745- 748، الطبقات الكبرى لابن سعد 4/ 252،
البداية والنهاية 4/ 238.
[2] انظر: المغازي للواقدي (2- 753) .
[3] زاد في الطبقات الكبرى أنّ هذا الجمع من هوازن كان بالسّيّ
ناحية ركية من وراء المعدن، وهي من المدينة على خمس ليال. (2/ 127)
.
[4] في الأصل، ع: بعشرين من الغنم. وأثبتنا رواية الواقدي (2- 754)
، وعند ابن سعد (2- 127) «بعشر» .
[5] حتى هنا ينتهي الخبر عند ابن سعد في الطبقات 2/ 127 وورد
مختصرا في تاريخ الطبري 3/ 29 وانظر عيون الأثر 2/ 152، وعيون
التواريخ 1/ 277 والبداية والنهاية 4/ 240 ونهاية الأرب 17/ 276.
(2/476)
ردّهنّ. فردّهنّ. قَالَ ابن أَبِي سَبْرة:
فأخبرت شيخا من الأنصار بذلك، فقال: أما الجارية الوضيئة فأخذها
بثمنٍ فأصابها. فلما قدِم الوفد، خيَّرها فاختارت شجاعًا. فَقُتِلَ
يوم اليَمامة وهي عنده.
سَرِيَّةُ نَجْدٍ
قَالَ نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً قِبَل نَجْدٍ وَأَنَا فِيهِمْ.
فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً. فَبَلَغَتْ سُهْمَانُهُمْ لِكُلِّ
وَاحِدٍ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، ثُمَّ نُفِّلُوا بَعِيرًا
بَعِيرًا، فَلَمْ يغير رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [1] .
سرية كعب بْن عُمَيْر
قَالَ الْوَاقِدِيُّ [2] : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبَ بْنَ عُمَيْرٍ الْغِفَارِيَّ، فِي
خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى ذَاتِ أَطْلاحٍ
[3] مِنَ الشَّامِ. فَوَجَدُوا جَمْعًا مِنْ جَمْعِهِمْ كَثِيرًا،
فَدَعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ،
وَرَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ
قَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ، حَتَّى قُتِلُوا، فَأَفْلَتَ
مِنْهُمْ رَجُلٌ جريح في القتلى، فلما برد عَلَيْهِ اللَّيْلُ،
تَحَامَلَ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَهَمَّ بِالْبَعْثِ [4] إِلَيْهِمْ، فَبَلَغَهُ [5]
أنّهم ساروا إلى موضع آخر، فتركهم [6] .
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب فرض الخمس، باب ومن الدليل على أنّ الخمس
لنوائب المسلمين.
وصحيح مسلم (1749) كتاب الجهاد والسير، باب الأنفال.
[2] المغازي للواقدي 2/ 752.
[3] في الأصل، ع: ذات أطالع. والتصحيح من الواقدي (2/ 752) وابن
سعد (2/ 127) .
(وذات أطلاح موضع من وراء وادي القرى إلى المدينة. (معجم البلدان
1/ 218) .
[4] في الأصل، ع: بالبعثة. وأثبتنا لفظ الواقدي وابن سعد.
[5] في طبعة القدسي 443 «فبلغتم» والتصحيح من المصادر المعتمدة.
[6] انظر: المغازي للواقدي 2/ 752، والبداية والنهاية 4/ 241.
(2/477)
غزوة مؤته
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ [1] : أنا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ،
حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ
قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْحَارِثَ بْنَ عُمَيْرٍ الأَزْدِيَّ إِلَى مَلِكِ بُصْرَى [2]
بِكِتَابِهِ. فَلَمَّا نزل مؤتة [3] عرض للحارث شرحبيل ابن عَمْرٍو
الْغَسَّانِيُّ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الشَّامَ. قَالَ:
لَعَلَّكَ مِنْ رُسُلِ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ
فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَلَمْ يُقْتَلْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ غَيْرُهُ.
وبلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبر، فاشتدّ
عَلَيْهِ، وَنَدَبَ النَّاسَ فَأَسْرَعُوا. وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ
خُرُوجِهِمْ إِلَى غَزْوَةِ مُؤْتَةَ [4] .
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [5] ،
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جعفر بن
__________
[1] الطبقات الكبرى 2/ 128.
[2] بصرى: من أعمال دمشق بالشام، وهي قصبة كورة حوران. (معجم
البلدان 1/ 441) .
[3] مؤتة: قرية من قرى البلقاء في حدود الشام، والبلقاء كورة من
أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى. (معجم البلدان 5/ 219، 220) .
[4] ابن سعد، نهاية الأرب للنويري 17/ 277.
[5] سيرة ابن هشام 4/ 70.
(2/479)
الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَدِمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمْرَةِ
الْقَضَاءِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى
بَعَثَ إِلَى مُؤْتَةَ فِي جُمَادَى مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ، وأمّر
على النّاس زيد بن حارثة. وَقَالَ: إِنْ أُصِيبَ فَجَعْفَرٌ،
فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فعبد الله ابن رَوَاحَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ
فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ رَجُلا. فَتَهَيَّئُوا لِلْخُرُوجِ،
وَوَدَّعَ النَّاسُ أُمَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَبَكَى ابْنُ رَوَاحَةَ، فَقَالُوا: مَا
يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ:
أَمَا وَاللَّهِ مَا بِي حُبٌّ لِلدُّنْيَا، وَلا صَبَابَةٌ
إِلَيْهَا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ الله يقول وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا
وارِدُها 19: 71 [1] ، فلست أدري [82 أ] كَيْفَ لِي بِالصَّدْرِ
بَعْدَ الْوُرُودِ؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ
وَرَدَّكُمْ إِلَيْنَا صَالِحِينَ وَدَفَعَ عَنْكُمْ. فَقَالَ
ابْنُ رَوَاحَةَ [2] :
لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ
فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا [3]
أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ
تُنْفِذُ الأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا
حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي ... يَا أَرْشَدَ
اللَّهِ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا [4]
ثُمَّ إِنَّهُ وَدَّعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَالَ [5] :
فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ ... تَثْبِيتَ مُوسَى،
وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا
إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الْخَيْرَ نَافِلَةً ... وَاللَّهُ
يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ الْبَصَرِ
أَنْتَ الرَّسُولُ فَمَنْ يُحْرَمُ نَوَافِلَهُ ... وَالْوَجْهَ
منه فقد أزرى به القدر [6]
__________
[1] سورة مريم: من الآية 71.
[2] ديوانه: ص 88، باختلاف يسير في البيت الثالث.
[3] ذات فرغ: ذات سعة، وفي رواية: ذات فرع. والزبد هنا: رغوة الدم.
[4] في سيرة ابن هشام 4/ 70 «أرشده الله» وفي تاريخ الطبري 3/ 37
«أرشدك الله» وانظر عيون الأثر 2/ 153، والبداية والنهاية 4/ 242،
وعيون التواريخ 1/ 279، 280 وفيه كما هنا، والمغازي لعروة 204،
205.
[5] الديوان: ص 94، باختلاف في ترتيب الأبيات وفي بعض الألفاظ.
[6] انظر الأبيات باختلاف أيضا في: سيرة ابن هشام 4/ 71، مغازي
عروة 205، البداية والنهاية 4/ 242.
(2/480)
ثُمَّ خَرَجَ الْقَوْمُ حَتَّى نَزَلُوا
مَعَانَ [1] ، فَبَلَغَهُمْ أَنَّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ [2]
فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ، وَمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ
الْمُسْتَعْرِبَةِ، فَأَقَامُوا بِمَعَانَ يَوْمَيْنِ، وَقَالُوا:
نَبْعَثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِخَبَرِهِ. فَشَجَّعَ النَّاسُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ،
فَقَالَ: يَا قَوْمُ، وَاللَّهِ إِنَّ الَّتِي تَكْرَهُونَ
لَلَّتِي خَرَجْتُمْ لَهَا تَطْلُبُونَ، الشَّهَادَةَ.
وَلا نُقَاتِلُ النَّاسَ [3] بِعَدَدٍ وَلا كَثْرَةٍ، وَإِنَّمَا
نُقَاتِلُهُمْ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِهِ،
فَإِنْ يُظْهِرْنَا اللَّهُ بِهِ فَرُبَّمَا فَعَلَ، وَإِنْ تَكُنِ
الأُخْرَى فَهِيَ الشَّهَادَةُ، وَلَيْسَتْ بِشَرِّ
الْمَنْزِلَتَيْنِ، فَقَالَ النَّاسُ: وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقَ
فَانْشَمَرَ النَّاسُ، وَهُمْ ثَلاثَةُ آلافٍ، حَتَّى لَقُوا
جُمُوعَ الرُّومِ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ يُقَالُ
لَهَا مَشَارِفُ [4] ، ثُمَّ انْحَازَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى
مُؤْتَةَ، قَرْيَةٍ فَوْقَ الْحِسَاءِ [5] . وَكَانُوا ثَلاثَةَ
آلافٍ.
وقال الواقدي [6] : حدثني ربيعة بن عثمان عن الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ شَهِدْتُ مُؤْتَةَ، فَلَمَّا رَأَيْنَا
الْمُشْرِكِينَ [7] رَأَيْنَا مَا لا قِبَلَ لأَحَدٍ بِهِ مِنَ
الْعُدَّةِ [8] وَالسِّلاحِ وَالْكَرَاعِ وَالدِّيبَاجِ
وَالذَّهَبِ. فَبَرِقَ بَصَرِي، فَقَالَ لِي ثَابِتُ بْنُ
__________
[1] معان: مدينة في طرف بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي
البلقاء. (معجم البلدان 5/ 153) .
[2] في الأصل، ع: بمأرب. والتصحيح من ابن هشام 4/ 71 وابن سعد 2/
129 والواقدي 2/ 760 ومآب مدينة في طرف الشام من نواحي البلقاء.
(معجم البلدان 5/ 31) .
[3] في الأصل (الله) وهو سهو واضح. والتصحيح من ع، ومن السيرة
وغيره.
[4] (في الأصل، ع: شراف. والتصحيح من ابن هشام (4/ 72) وتاريخ
الطبري (3- 29) ومعجم البلدان في (المشارف) و (مؤتة) . (5/ 131 و
220)
[5] الحساء ومثلها الأحساء: جمع حسي وهو الماء الّذي تنشّفه الأرض
من الرمل، فإذا صار إلى صلابة أمسكته، فتحفر العرب عنه الرمل
فتستخرجه. (معجم البلدان 1/ 111) وفي ع:
أحساء وانظر الخبر في سيرة ابن هشام 4/ 70- 72، مغازي عروة 204،
205 تاريخ الطبري 3/ 39، نهاية الأرب 17/ 279، عيون الأثر 2/ 154،
البداية والنهاية 4/ 242، 243 عيون التواريخ 1/ 281.
[6] انظر: المغازي للواقدي (2/ 760) .
[7] في الأصل، ع: فلما رآنا المشركون. والتصحيح من الواقدي (2/
760) .
[8] في مغازي الواقدي «العدد» .
(2/481)
أقرم [1] : مالك يَا أَبَا هُرَيْرَةَ،
كَأَنَّكَ تَرَى جُمُوعًا كَثِيرَةً؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ:
لَمْ تَشْهَدْ مَعَنَا بَدْرًا، إِنَّا لَمْ نُنْصَرْ
بِالْكَثْرَةِ.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَإِنْ
قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنْتُ مَعَهُمْ،
فَفَتَّشْنَاهُ يَعْنِي ابْنَ رَوَاحَةَ، فَوَجَدْنَا فِيمَا
أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ بِضْعًا وَسَبْعِينَ، بَيْنَ طَعْنَةٍ
وَرَمْيَةٍ.
وَقَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عن مغيرة: بِضْعًا
وَتِسْعِينَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [2] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ [3] : حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ،
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ
النُّعْمَانُ بْنُ فنحص [4] الْيَهُودِيُّ، فَوَقَفَ مَعَ
النَّاسِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَمِيرُ النَّاسِ، فَإِنْ قُتِلَ
فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، إن
قتل عبد الله فليرتض المسلمون. [82 ب] رجلا فليجعلوه عَلَيْهِمْ» .
فَقَالَ النُّعْمَانُ: أَبَا الْقَاسِمِ، إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا،
فَسَمَّيْتَ مَنْ سَمَّيْتَ قَلِيلا أَوْ كَثِيرًا أُصِيبُوا
جَمِيعًا. إِنَّ الأَنْبِيَاءَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا
إِذَا اسْتَعْمَلُوا الرَّجُلَ عَلَى الْقَوْمِ، فَقَالُوا: إِنْ
أُصِيبَ فُلانٌ فَفُلانٌ، فَلَوْ سَمَّوْا مِائَةً أُصِيبُوا
جَمِيعًا. ثُمَّ جَعَلَ الْيَهُودِيُّ يَقُولُ لِزَيْدٍ: اعْهَدْ،
فَلا تَرْجِعْ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا. قال زيد: أشهد أنّه
نبي بار صادق.
__________
[1] في الواقدي ونهاية الأرب 17/ 281 وتاريخ الطبري 3/ 40، أنه
ثابت بن أرقم، وانظر ترجمته في أسد الغابة (1/- 265) والإصابة (1/
190) والإستيعاب على هامشها (1/ 191) .
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام. (5/
87) .
[3] انظر المغازي للواقدي (2/ 756) .
[4] في الأصل، ع. مهض وكتبها ابن الملا: نهيض. وأثبتنا رواية ابن
كثير عن الواقديّ.
(4/ 241) .
(2/482)
وَقَالَ يُونُسُ، [عَنِ] ابْنِ إِسْحَاقَ
[1] : كَانَ عَلَى ميمنة المسلمين قطبة ابن قَتَادَةَ
الْعُذْرِيُّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عَبَايَةُ بْنُ مَالِكٍ
الأنصاريّ، والتقى النّاس.
فحدّثني يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزّبير،
عن أبيه، حدّثني أَبِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَكَانَ أَحَدُ بَنِي
مُرَّةَ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: وَاللَّهِ لَكَأنِّي أَنْظُرُ إِلَى
جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ مُؤْتَةَ حِينَ اقْتَحَمَ عَنْ
فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَقَرَهَا ثُمَّ تَقَدَّمَ فَقَاتَلَ
حَتَّى قُتِلَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عُقِرَ
فِي الْإِسْلَامِ [2] . وَقَالَ:
يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرابُها ... طَيِّبَةً وَبَارِدَةً
[3] شَرابُها
وَالرُّومُ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا ... عَلِيَّ إِنْ لَاقَيْتُهَا
ضِرَابُهَا [4]
فَلَمَّا قُتِلَ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ.
حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عُرْوة قَالَ: أخذها عَبْد الله
بْن رَواحة فالتقوى بِهَا بعضَ الالتواءِ، ثُمَّ تقدّم عَلَى فرسه
فجعل يستنزل نفسَه [5] ويتردّد [6] .
حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي بَكْر، أَنَّ ابن رَوَاحة
قَالَ عند ذَلِكَ [7] ،
أقسمْتُ يا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّهْ ... طائعةً أو لتكرهنّه
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 72 تاريخ الطبري 3/ 39.
[2] رجاله ثقات، وإسناده قويّ، أخرجه أبو داود في الجهاد (2573)
باب في الدابة تعرقب في الحرب وذكره ابن حجر في فتح الباري 7/ 511،
وابن سعد في الطبقات 4/ 27، وأبو نعيم في الحلية 1/ 118، وابن
الأثير في أسد الغابة 3/ 343، والزرقاني في شرح المواهب اللدنية 2/
271، 272، ورواه الطبراني كما قال عروة في المغازي 206، والهيثمي
في مجمع الزوائد 6/ 157.
[3] في الأصل، ع: باردة، وأثبتنا رواية ابن هشام 4/ 72، ونهاية
الأرب 17/ 280.
[4] انظر سيرة ابن هشام 4/ 72 ونهاية الأرب 17/ 280 ففيهما اختلاف
في البيت الثاني.
[5] أي يطلب نزولها عمّا أرادت وهمّت به.
[6] سيرة ابن هشام 4/ 72، تاريخ الطبري 3/ 39، نهاية الأرب 17/
280.
[7] ديوانه: ص 108.
(2/483)
إن أجلب النّاس وشدّوا الرّنّة [1] ... ما
لي أراك تَكْرَهين الجَنَّة
قد طالما [قد] [2] كنتِ مطمئنّه ... هل أنت إلّا نطفة فِي شَنَّهْ
[3]
ثُمَّ نزل فقاتل حتى قُتِل.
قَالَ ابن إِسْحَاق: وقال أيضًا [4] :
يا نفس إنْ لا تُقتلي تموتي ... هذا حِمامُ الموتِ قد صُلِيت
وما تمنَّيتِ فقد أُعْطيِتِ ... إنْ تفعلي فعلهما هُديتِ
وإنْ تأخَّرتِ فقد شَقِيتِ [5]
فلما نزل أتى ابن عمّ لَهُ بعَرق لحم فقال: أَقِمْ بِهَا صُلْبَك،
فنهش منها نهشةً [6] ، ثُمَّ سمح الحَطْمة [7] فِي ناحيةٍ فقال:
وأنت فِي الدنيا؟ فألقاه من يده. ثُمَّ قاتل حتى قُتِل.
فحدّثني مُحَمَّد بْن جَعْفَر، عَنْ عُرْوة قَالَ: ثُمَّ أخذ
الراية ثابت بْن أقرم، فقال: اصطلحوا يا معشر المسلمين عَلَى
رَجُل. قَالُوا: أنت لَهَا.
فقال: لا. فاصطلحوا [8] ، على خَالِد بْن الوليد. فجاش بالنّاس،
فدافع وانحاز وتُحُيِّزَ عنه [9] ، ثم انصرف بالنّاس.
__________
[1] الرّنّة: صوت فيه ترجيع شبه البكاء.
[2] سقطت من الأصل، ع، وزدناها من ابن هشام 4/ 72 والديوان.
[3] راجع الأبيات باختلاف في سيرة ابن هشام 4/ 72 وتاريخ الطبري 3/
39، 40، ونهاية الأرب 17/ 280، 281، و «الشنّة» الوعاء البالي،
انظر: الروض الأنف 4/ 80.
[4] ديوانه: ص 87.
[5] انظر سيرة ابن هشام 4/ 73، ونهاية الأرب 17/ 281، وتاريخ
الطبري 3/ 40 باختلاف في الألفاظ.
[6] في السيرة: انتهس منه نهسة.
[7] الحطمة: رحمة الناس ودفع بعضهم بعضا.
[8] في الأصل: فأصلحوا. والتصحيح من ع. ومن السيرة والطبري.
[9] في الأصل: وأخبر عنه. والتصحيح من تاريخ الطبري (3/ 40) ، وفي
السيرة «نحيز عنه» .
(2/484)
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ
أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَعَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعْفَرًا وَزَيْدَ
بْنَ حَارِثَةَ وَابْنَ رَوَاحَةَ، نَعَاهُمْ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ
خَبَرُهُمْ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
[1] ، وَزَادَ فِيهِ: فَنَعَاهُمْ، وَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ
زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ
أَخَذَهَا ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ. ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ
بَعْدَهُمْ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ.
قَالَ: فَجَعَلَ يُحَدِّثُ النَّاسَ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: ثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ
شَيْبَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سُمَيْرٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا
عَبْدُ الله [83 أ] بْنُ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَتِ
الْأَنْصَارُ تُفَقِّهُهُ، فَغَشِيَهُ النَّاسُ، فَغَشِيتُهُ
فِيمَنْ غَشِيَهُ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَ: اثنا أَبُو قَتَادَةَ
فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ
الْأُمَرَاءِ، وَقَالَ: «عَلَيْكُمْ زيد ابن حَارِثَةَ، فَإِنْ
أُصِيبَ فَجَعْفَرٌ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ رَوَاحَةَ» ، فَوَثَبَ جَعْفَرٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، مَا كُنْتُ أَذْهَبُ [2] أَنْ تَسْتَعْمِلَ زَيْدًا
عَلِيَّ.
قَالَ: فَامْضِ. فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ خَيْرٌ.
فَانْطَلَقُوا، فَلَبِثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ.
فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمِنْبَرِ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ.
فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أُخْبِرُكُمْ عَنْ جَيْشِكُمْ هَذَا:
إِنَّهُمْ انْطَلَقُوا فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَقُتِلَ زَيْدٌ
شَهِيدًا» ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: «أَخَذَ اللِّوَاءَ
جَعْفَرٌ فَشَدَّ عَلَى الْقَوْمِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا، شَهِدَ
لَهُ بِالشَّهَادَةِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ. «ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَأَثْبَتَ قَدَمَيْهِ حَتَّى
قُتِلَ شَهِيدًا، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ «ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَهُوَ
أَمَّرَ نَفْسَهُ» ، ثُمَّ قَالَ:
«اللَّهمّ إِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِكَ، فَأَنْتَ تَنْصُرُهُ» .
فَمِنْ يَوْمِئِذٍ سمّي خالد «سيف الله» [3]
__________
[1] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة. (5/ 87) .
[2] في الأصل، ع: أرهب. والتصحيح من تاريخ الطبري (3/ 41) .
[3] الخبر بسنده ونصّه في تاريخ الطبري 3/ 40، 41 والبداية
والنهاية 4/ 246.
(2/485)
وقال البكّائي، عَنِ ابن إِسْحَاق:
بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: «أخذ الرايةَ زيدُ فقاتل بِهَا حتى قُتِل شهيدًا،
ثُمَّ أخذها جَعْفَر فقاتل حتى قُتل شهيدًا» ، ثُمَّ صمت، حتى
تغيَّرت وجوهُ الأنصار، وظنّوا قد كانت فِي عَبْد الله بعضُ ما
يكرهون. فقال: «ثُمَّ أخذها عَبْد الله بْن رَوَاحة فقاتل بِهَا
حتى قُتِل شهيدًا، ثُمَّ قَالَ: «لقد رُفِعوا إلى الجنة فيما يرى
النّائم عَلَى سُرُرٍ من ذهب. فرأيت فِي سرير عَبْد الله ازورارًا
عَنْ سريرَيْ صاحبَيْه. فقلت:
عمَّ هذا؟ فقيل لي: مَضَيا وتردّد عَبْد الله بعضَ التردّد ثُمَّ
مضى [1] » . وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ [2] : حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
لَمَّا أَخَذَ الرَّايَةَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الآنَ حَمِيَ
الْوَطِيسُ» [3] . قَالَ: فحدّثني العَطَّاف بْن خَالِد قَالَ: لما
قُتِل ابن رَوَاحة مساءً، بات خَالِد، فلما أصبح غدا وقد جعل
مقدّمته ساقةً، وساقَتَه مقدِّمة، وميمَنَتَه مَيْسَرَةً،
ومَيْسَرَتَهُ مَيْمَنَةً. فأنكروا ما كانوا يعرِفون من راياتهم
وهيئتهم، وقالوا: قد جاءهم مدد، فرُعِبُوا فانكشفوا منهزمين،
فقُتِلوا مَقْتَلةً لم يُقْتَلْها قومٌ.
وَقَالَ إسماعيل بْن أبي خالد، عَنْ قيس، سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ
الْوَلِيدِ يَقُولُ: لَقَدِ انْدَقَّ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ
تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ
يَمَانِيةٌ. أَخْرَجَهُ البخاري [4] .
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 73، وانظر الطبقات لابن سعد 2/ 130.
[2] انظر المغازي للواقدي (2/ 764) والطبقات الكبرى لابن سعد 2/
129.
[3] حمي الوطيس: أي حمي الضرب وجدّت الحرب واشتدت.
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، غزوة مؤتة. (5/ 87) .
(2/486)
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ [1] : حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ التَّمَّارُ، عن عاصم بن عمر ابن
قَتَادَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: «لَمَّا قُتِلَ زَيْدٌ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرٌ
فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْحَيَاةَ وَكَرَّهَ
إِلَيْهِ الْمَوْتَ وَمَنَّاهُ الدُّنْيَا، فَقَالَ: الآنَ حِينَ
اسْتَحْكَمَ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، تُمَنِّينِي
الدُّنْيَا؟ ثُمَّ مَضَى قُدُمًا حَتَّى اسْتُشْهِدَ» ، فَصَلَّى
عَلَيْهِ وَدَعَا له، وقال [83 ب] : «اسْتَغْفِرُوا لَهُ،
فَإِنَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ
بِجَنَاحَيْنِ مِنْ يَاقُوتٍ حَيْثُ يَشَاءُ مِنَ الْجَنَّةِ» .
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ
ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ، قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يا بن ذِي الْجَنَاحَيْنِ.
رَوَاهُ خ [2] .
وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ، أَخَبَرَتْنِي عَمْرَةُ، سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ:
لَمَّا جَاءَ قَتْلُ جَعْفَرٍ وَابْنِ حَارِثَةَ وَابْنِ
رَوَاحَةَ، جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا
أَطَّلِعُ مِنْ شِقِّ الْبَابِ. فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ نساء جعفر، وذكر بكاءهنّ، فأمره أَنْ
يَنْهَاهُنَّ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَى فَقَالَ: قد
نهيتهنّ. وذكر أنّهن لم يطعنه.
فأمره الثَّانِيَةَ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَى
فَقَالَ: وَاللَّهِ قَدْ غَلَبْنَنَا. فَزَعَمْتُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَاحْثُ فِي
أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ» . فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ
أَنْفَكَ، مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَنَاءِ، أَخْرَجَاهُ
عَنْ محمد بن المثنّى عنه [3] .
__________
[1] انظر: المغازي للواقدي (2- 761- 762) .
[2] كتب الحرف في الأصل بالحمرة ولم يظهر في المصوّرة وأثبتناه عن
ح. والحديث رواه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة. (5/ 87)
.
[3] صحيح البخاري: كتاب الجنائز، باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه
الحزن. وصحيح مسلم (1935) كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة.
وانظر سيرة ابن هشام 4/ 73 برواية عبد الرحمن بن القاسم بن محمد،
عن أبيه، عن عائشة.
(2/487)
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [1]
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ
أُمِّ عِيسَى الْجَزَّارِ [الْخُزَاعِيَّةِ] [2] ، عَنْ أُمِّ
جَعْفَرٍ [3] عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، قَالَتْ:
لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ، دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عَجَنْتُ
عَجِينِي وَغَسَلْتُ بَنِيَّ وَدَهَنْتُهُمْ وَنَظَّفْتُهُمْ.
فَقَالَ: «ائْتِينِي بِبَنِي جَعْفَرٍ» . فَأَتَيْتُهُ بِهِمْ،
فَشَمَّهُمْ، فَدَمَعَتْ [4] عَينَاهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا يُبْكِيكَ؟ أَبَلَغَكَ عَنْ
جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ [شَيْءٌ] [5] ؟ فَقَالَ:
«نَعَمْ. أُصِيبُوا هَذَا الْيَوْمَ» . فَقُمْتُ أَصِيحُ،
وَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ. فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ: «لا تَغْفَلُوا آلَ
جَعْفَرٍ أَنْ تَصْنَعُوا لَهُمْ طَعَامًا، فَإِنَّهُمْ قَدْ
شُغِلُوا بِأَمْرِ صَاحِبِهِمْ» . قَالَ ابن إِسْحَاق: فسمعت عَبْد
الله بْن أَبِي بَكْر يَقْولُ: لقد أدركت النّاسَ بالمدينة إذا مات
مَيِّتٌ، تكلّف جيرانُهم يومَهم ذَلِكَ طعامَهم، فَلَكَأَنّي أنظر
إليهم قد خبزوا خُبزًا صِغارًا، وصنعوا لحمًا، فُيجعل فِي
جَفْنَةٍ، ثُمَّ يأتون بِهِ أهلَ الميّت، وهم يبكون على ميّتهم
مشتغلين فيأكلونه. ثُمَّ إنّ النّاس تركوا ذَلِكَ.
[فَائِدَةٌ] [6] : أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ [7] ، مِنْ
حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: خَرَجْتُ فِي غَزْوَةِ
مُؤْتَةَ، فَرَافَقَنِي مدديّ من أهل اليمن، ليس
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 73.
[2] زيادة ليست في الأصل. وهي أمّ عيسى الخزاعية، ويقال: أم عيسى
الجزّار (انظر ترجمتها في تهذيب التهذيب: 12/ 475) . وانظر سيرة
ابن هشام 4/ 73.
[3] هي أمّ عون بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب الهاشمية، ويقال لها
أمّ جعفر (تهذيب التهذيب: 12- 474) وانظر سيرة ابن هشام 4/ 73.
[4] في السيرة: «فتشمّمهم وذرفت عيناه» .
[5] إضافة من السيرة.
[6] هذه الفائدة تفرّدت بها «ح» ، وأثبتناها عنها.
[7] صحيح مسلم (1753) كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب
القتيل.
(2/488)
مَعَهُ غَيْرُ سَيْفِهِ. فَنَحَرَ رَجُلٌ
جَزُورًا فَسَأَلَهُ الْمَدَدِيُّ [1] طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ،
فَأَعْطَاهُ فَاتَّخَذَهُ كَهَيْئَةِ الدَّرَقَةِ. وَمَضَيْنَا
فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ لَهُ
أَشْقَرَ وَعَلَيْهِ سَرْجٌ مُذَهَّبٌ وَسِلَاحٌ مُذهَّبٌ،
فَجَعَلَ يُغْرِي بِالْمُسْلِمِينَ. وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ
خَلْفَ صَخْرَةٍ، فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ،
فَخَرَّ وَعَلَاهُ فَقَتَلَهُ وَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ.
فَأَخَذَهُ مِنْهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَأَتَيْتُهُ
فَقُلْتُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلْبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى،
وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ. قُلْتُ:
لَتَرُدَّنَّهُ أَوْ لَأُعِرْفَنَّكُمَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَاجْتَمَعْنَا،
فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ لِخَالِدٍ:
«مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ» ؟ قَالَ:
اسْتَكْثَرْتُهُ. قَالَ: «رُدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ» . فَقُلْتُ:
دُونَكَ يَا خَالِدٌ، أَلَمْ أَقُلْ لَكَ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَا ذَلِكَ» ؟ فَأَخْبَرْتُهُ. قَالَ:
فَغَضِبَ وَقَالَ: «يا خَالِدُ لَا تَرُدَّهُ عَلَيْهِ. هَلْ
أَنْتُمْ تَارِكُو لِي أُمَرَائِي، لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ
وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ] . وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ [2] : حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْلَى، سَمِعْتُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ يَقُولُ: أَنَا أَحْفَظُ حِينَ
دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عَلَى
أُمِّي، فَنَعَى لَهَا أَبِي، فَأَنْظُرُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَمْسَحُ
عَلَى رَأْسِي وَرَأْسِ أَخِي، وَعَيْنَاهُ تُهْرِقَانِ الدُّمُوعَ
ثُمَّ قَالَ: «اللَّهمّ إِنَّ جَعْفَرًا قَدْ قَدِمَ إِلَيْكَ
إِلَى أَحْسَنِ ثَوَابٍ [3] ، فَاخْلُفْهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ
بِأَحْسَنَ مَا خَلَفْتَ أَحَدًا مِنْ عِبَادِكَ فِي ذُرِّيَّتِهِ»
. ثُمَّ قَالَ: «يَا أَسْمَاءُ، أَلا أُبَشِّرُكِ» ؟ قَالَتْ:
بَلَى، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ
لِجَعْفَرٍ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا في الجنّة» . قالت: فأعلم
النّاس ذلك. وذكر الحديث.
__________
[1] المددي: الرجل من المدد الذين جاءوا يمدّونهم بمؤتة
ويساعدونهم.
[2] انظر: المغازي للواقدي (2/ 766- 767) .
[3] في الأصل، ع: إليك أحسن ثوابه. والتصحيح من (ح) وفي الواقدي
(2/ 767) : إلى أحسن ثواب.
(2/489)
وقال الواقديّ [1] : حدّثني سليمان بن بلال
[84 أ] حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ،
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أُصِيبَ بِهَا نَاسٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَ أَمْتِعَةِ
الْمُشْرِكِينَ. فَكَانَ مِمَّا غَنَمُوا خَاتَمٌ جَاءَ بِهِ
رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ: قَتَلْتُ صَاحِبَهُ يَوْمَئِذٍ، فَنَفَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ.
وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ: لَقِينَاهُمْ فِي
جَمَاعَةٍ مِنْ قُضَاعَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ،
فَصَافُّوا، فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ يَشْتَدُّ [2] عَلَى
الْمُسْلِمِينَ. فَجَعَلْتُ أَقُولُ فِي نَفْسِي: مَنْ لِهَذَا؟
وَقَدْ رَافَقَنِي رَجُلٌ مِنْ أَمْدَادِ حِمْيَرٍ [3] ، لَيْسَ
مَعَهُ إِلا السَّيْفُ، إِذْ نَحَرَ رَجُلٌ جَزُورًا فَسَأَلَهُ
الْمَدَدِيُّ طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ، فَوَهَبَهُ مِنْهُ،
فَجَعَلَهُ فِي الشَّمْسِ وَأَوْتَدَ عَلَى أَطْرَافِهِ
أَوْتَادًا، فَلَمَّا جَفَّ اتَّخَذَ مِنْهُ مِقْبَضًا وَجَعَلَهُ
دَرَقَةً. قَالَ: فَلَمَّا رَأَى [ذَلِكَ] [4] الْمَدَدِيُّ فِعْلَ
الرُّومِيِّ، كَمَنَ لَهُ خَلْفَ صَخْرَةٍ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِ
خرج عليه فعرقب فرسه، فقعد الفرس على رجليه وخرّ عنه العلج [5] ،
فشدّ عَلَيْهِ فَعَلاهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ
غَزِيَّةَ [6] بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَضَرْتُ
مُؤْتَةَ فَبَارَزَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَأَصَبْتُهُ وَعَلَيْهِ
بَيْضَةٌ لَهُ فِيهَا يَاقُوتَةٌ، فَأَخَذْتُهَا، فَلَمَّا
انْكَشَفْنَا فَانْهَزَمْنَا رَجَعْتُ إِلَى المدينة، فأتيت بها
__________
[1] انظر: المغازي للواقدي (2/ 768) وفي سنده: حدّثني عبد الله بن
محمد، عن ابن عقيل.
وهو خطأ صوابه ما ورد في الأصل، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب (6/
13) .
[2] في المغازي للواقدي «يسلّ» .
[3] الأمداد: جمع مدد، وهم الأعوان الذين كانوا يمدّون المسلمين في
الجهاد.
[4] سقطت من الأصل وزدناها من ع، «ح» .
[5] العلج: قال في الصحاح 330 هو الرجل من كفّار العجم.
[6] في الأصل، وفي طبعة القدسي 454 «خزيمة» والتصويب من المغازي
للواقدي 2/ 369 ومن ترجمته في تهذيب التهذيب 7/ 422 حيث جاء فيه:
غزية: بفتح المعجمة وكسر الزاي بعدها تحتانية ثقيلة.
(2/490)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَنَفَلَنِيهَا، فَبِعْتُهَا زَمَنَ عُثْمَانَ بِمِائَةِ
دِينَارٍ، فَاشْتَرَيْتُ بِهَا حَدِيقَةَ نَخْلٍ [1] .
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [2]
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا
أَقْبَلَ أَصْحَابُ مُؤْتَةَ تَلَقَّاهُمْ رسول الله صلى الله عليه
وسلم والمسلمون مَعَهُ.
فَجَعَلُوا يَحْثُونَ عَلَيْهِمُ التُّرَابَ وَيَقُولُونَ: يَا
فُرَّارُ، فَرَرْتُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسُوا بِالفُرَّارِ،
وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» . فَحَدَّثَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ
لامْرَأَةِ سلَمَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: مَا لِي لا
أَرَى سَلَمَةَ يَحْضُرُ الصَّلاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: وَاللَّهِ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ
يَخْرُجَ، كُلَّمَا خَرَجَ صَاحَ بِهِ النَّاسُ: يَا فُرَّارُ،
فَرَرْتُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَكَانَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ [3]
.
وقال [أَبُو عَبْد الله] [4] عَنْ زَيْدِ بْن أَرْقَمَ قَالَ:
كُنْتُ يَتِيمًا لعبد الله بْن رَوَاحة فِي حِجْره، فخرج بي فِي
سَفَره ذَلِكَ، مردفي على حقيبة رحله، فو الله إنّه لَيَسِير إذ
سَمِعْتُهُ ينشد أبياته هذه [5] :
إذا أدْنَيْتَني وحملتِ رَحلي ... مَسيرةَ أربعٍ بعد الحِساءِ
فشأنُكِ أنعم وخَلاكِ ذم ... ولا أَرْجعْ إلى أهلي وَرَائي
وآبَ المسلمون وغادرُوني ... بأرضِ الشامِ مُشتهر الثَّواء [6]
وردَّكَ كلّ ذي نَسَبٍ قريب ... إلى الرحمن منقطع الإخاء
__________
[1] أضاف الواقدي 2/ 769 «بيني خطمة» .
[2] سيرة ابن هشام 4/ 74، نهاية الأرب 17/ 282.
[3] السيرة 4/ 74.
[4] بياض في النسخ الثلاث بمقدار كلمتين، وقد استدركناه من الواقدي
(2/ 759) .
[5] ديوانه: ص 79- 80 باختلاف في بعض الألفاظ. وقد أنقص الواقدي
منها بيتا وانظر البداية والنهاية 4/ 243 ففيه اختلاف في الألفاظ
أيضا.
[6] ثوى بالمكان ثواء، إذا أطال الإقامة به أو نزل فيه. (القاموس
المحيط للفيروزآبادي 4/ 310) .
(2/491)
لك لا أُباليَ طلع بعل ... ولا نخل،
أَسَافِلُها رواء [1]
[84 ب] فلما سمعتهنّ بكيت، فَخَفَقَني بالدِّرَّة وقال: ما عليك يا
لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شُعْبَتَيْ الرحل! وَقَالَ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ [2] : حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ
أَنَّ جَعْفَرًا أَخَذَ اللِّوَاءَ بِيَمِينِهِ فَقُطِعَتْ،
فَأَخَذَهُ بِشِمَالِهِ فَقُطِعَتْ، فَاحْتَضَنَهُ بِعَضُدَيْهِ
حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
فَأَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ جناحين في الجنّة يَطِيرُ
بِهِمَا حَيْثُ شَاءَ. وَرَوَى أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ بِالرِّمَاحِ.
قُلْتُ: وَكَانَ جَعْفَرٌ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ،
هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ. قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي» [3] . وَقَالَ
عِكْرِمَةُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، [إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ جَعْفَرٍ] [4] مَا احْتَذَى النِّعَالَ وَلا رَكِبَ
الْمَطَايَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَكُنَّا نُسَمِّيهِ أَبَا الْمَسَاكِينِ.
وَقَالَ مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ قَالَ: مَا سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
شَيْئًا بِحَقِّ جَعْفَرٍ إِلا أَعْطَانِيهِ.
وعن ابن عُمَر قَالَ: وجدت فِي مقدَّم جَسَد جَعْفَر يوم مُؤْتة
بِضعًا وأربعين ضَرْبةً. ولما قدِم جعفرُ من الحَبَشَة عند فتح
خيبر، روى أنّ النّبيّ
__________
[1] البعل: كلّ نخل وشجر وزرع لا يسقى، أو ما سقته السماء.
[2] سيرة ابن هشام 4/ 72.
[3] رواه البخاري 2698 في الصلح، باب كيف يكون.. و 4251 في
المغازي، باب عمرة القضاء، والترمذي (3769) في المناقب. باب مناقب
جعفر. وأحمد 1/ 98 و 115 وأبو داود 2280 في الطلاق، باب من أحقّ،
بالولد من حديث عليّ وأخرجه أحمد 1/ 108 من طريق إِسْرَائِيلُ،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ هَانِئِ بْنِ هانئ، عن عليّ.
[4] زيادة من ع.
(2/492)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتنقه
وقال: «ما أدري أَنَا أُسَرّ بقدُومُ جَعْفَر أو بفتح خيبر» ؟ [1]
. وَقَالَ مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمَّا نَعَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعْفَرًا أَتَانَا
فَقَالَ: أَخْرِجُوا إِلَيَّ بَنِي أَخِي. فَأَخْرَجَتْنَا
أُمُّنَا أُغَيْلِمَةً ثَلاثَةً كَأَنَّهُمْ أَفْرَاخٌ: عَبْدُ
اللَّهِ، وَعَوْنٌ، وَمُحَمَّدٌ. وَأَمَّا أبو أسامة زيد بن حارثه
[2] بن شراحيل الْكَلْبِيُّ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ الْمَوَالِي،
فَإِنَّهُ مِنْ كِبَارِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ وَكَانَ مِنَ
الرُّمَاةِ الْمَذْكُورِينَ. آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَعَاشَ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَهُوَ الَّذِي
سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ
مِنْها وَطَراً 33: 37 يعني من زينب بنت جحش: زَوَّجْناكَها 33: 37
[3] . وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَدْعُونَهُ زَيْدَ بْنَ النَّبِيِّ
حَتَّى نَزَلَتْ: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ
33: 40 [4] . وقال تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ
33: 4 [5] . وَقَالَ:
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ
تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما
تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ 33: 5 [6] .
رَوَى عَنْ زَيْدٍ ابْنُهُ أُسَامَةُ وَأَخُوهُ جَبَلَةَ.
وَاخْتُلِفَ فِي سَنَةٍ. فَرَوَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ
بْنَ الْحَسَنِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَبَيْنَ زَيْدِ بْنِ حارثة عشر
__________
[1] أخرجه ابن سعد في الطبقات 4/ 35، وانظر: أسد الغابة 1/ 342
وسير أعلام النبلاء 1/ 213، والإصابة 2/ 86، وأخرجه الحاكم في
المستدرك 3/ 211.
[2] انظر سير أعلام النبلاء 1/ 220 ففي حاشيته مصادر ترجمته.
[3] سورة الأحزاب: من الآية 37.
[4] سورة الأحزاب: من الآية 40.
[5] سورة الأحزاب: من الآية 4.
[6] سورة الأحزاب: من الآية 5.
(2/493)
سِنِينَ، رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] أَكْبَرُ مِنْهُ، وَكَانَ قَصِيرًا شَدِيدَ
الأُدْمَةِ [1] أفْطَسَ [2] .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَذَا صِفَتُهُ فِي هَذِهِ
الرِّوَايَةِ. وَجَاءَتْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ كَانَ أَبْيَضَ
وَكَانَ ابْنُهُ أَسْوَدَ. وَلِذَلِكَ أُعْجِبَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ مُجزِّزٍ المدلجي القائف:
«إنّ هذه الأقدام [85 أ] بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» [3] .
قُلْتُ: وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ عُمْرُهُ خَمْسِينَ
سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السّبيْعيُّ إِنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ
أَغَارَتْ عَلَيْهِ خَيْلٌ مِنْ تِهَامَةَ، فَوَقَعَ إِلَى
خَدِيجَةَ فَاشْتَرَتْهُ، ثُمَّ وَهَبَتْهُ لِلنَّبيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُرْوَى أنَّهَا اشْتَرَتْهُ
بِسِبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا عَلِمْنَا أَحَدًا أَسْلَمَ قَبْلَهُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ثنا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدًا إِلا زَيْدَ
بْنَ مُحَمَّدٍ. فنزلت: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ 33: 5 [4] .
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
الْأَكْوَعِ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ حارثة تسع غزوات،
كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُؤَمِّرُهُ عَلَيْنَا. كَذَا
رَوَاهُ الْفَسَوِيُّ [5] عَنْ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ زَيْدٍ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ،
سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يقول: إنّ
__________
[1] الأدمة: السمرة الشديدة.
[2] الطبقات الكبرى 3/ 30.
[3] أخرجه أحمد 6/ 82 و 226، والبخاري 2555 في المناقب، باب صفة
النبيّ، و 3731 في فضائل الصحابة، باب مناقب زيد بن حارثة، و 6770
و 6771 في الفرائض، باب القائف من طريق ابن شهاب عن عروة عن عائشة.
[4] سورة الأحزاب: من الآية 5.
[5] المعرفة والتاريخ 1/ 299، وأخرجه البخاري في المغازي (4272)
باب بعث النبيّ أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، ورواه ابن سعد
في الطبقات 3/ 31.
(2/494)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَّرَ أُسَامَةَ عَلَى قَوْمٍ، فَطَعَنَ النَّاسُ فِي
إِمَارَتِهِ. فَقَالَ، «إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ
طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ
لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ
إِلِيَّ وَإِنَّ ابْنَهُ هَذَا لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ
بَعْدَهُ» [1] . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَبِي: «يَا زَيْدُ أَنْتَ مَوْلاي وَمِنِّي وَإِلَيَّ وَأَحبُّ
الْقَوْمِ إِلَيَّ» [2] . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ [3] :
ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَائِشَةَ
أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: «لَوْ أَنَّ زَيْدًا كَانَ حَيًّا
لَاسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ» [4] .
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ:
ثَنَا وَائِلُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ الْبَهِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ: مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فِي جَيْشٍ قَطُّ إِلَّا
أَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَهُ لاستخلفه [5] .
__________
[1] أخرجه أحمد في مسندة 2/ 20 و 98 و 106 و 110 من عدّة طرق،
والبخاري (6627) في الأيمان والنذور، باب قول النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم: وايم الله، و (3730) في فضائل الصحابة، باب مناقب زيد
ابن حارثة، و (4250) في المغازي، باب غزوة زيد بن حارثة، و (7187)
في الأحكام، باب من لم يكترث بطعن من لا يعلم في الأمراء حديثا،
ومسلم (2426) في فضائل الصحابة، باب فضائل زيد بن حارثة، والترمذي
(3818) في المناقب، باب مناقب زيد بن حارثة.
[2] أخرجه أحمد في مسندة مطوّلا 5/ 204، وابن سعد في طبقاته 3/ 29،
30 ورجاله ثقات.
وصحّحه الحاكم في المستدرك 3/ 217، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وسير
أعلام النبلاء 1/ 226، وحسّنه ابن حجر في الإصابة 4/ 50.
[3] في الأصل: عبيد الله. وفي هامش تهذيب التهذيب (9/ 327) عن
التقريب أنه بغير إضافة.
وكذلك ورد في السند التالي.
[4] سير أعلام النبلاء 1/ 228.
[5] أخرجه أحمد 6/ 226 و 227 و 254 و 218، وابن سعد 3/ 31، وابن
الأثير في أسد الغابة 2/ 283 من طريق محمد بن عبيد الطنافسي، عن
وَائِلُ بْنُ دَاوُدَ عَنِ الْبَهِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ. وهذا سند
حسن. وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 215 من طريق سهل بن عمّار
العتكيّ، عن محمد بن عبيد، به. وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء
1/ 228 «أخرجه النسائي» .
(2/495)
وقال حسين بن واقد، عن عبيد اللَّهِ بْنِ
بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَاسْتَقْبلَتْنِي
جَارِيَةٌ [شَابَّةٌ] [1] ، فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ:
لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ [2] .
إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، رَوَاهُ الرُّويَانِيُّ [3] فِي مُسْنَدِهِ،
وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هَارُونَ
الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، يَرْفَعُهُ. وَقَالَ حَمَّادُ
بْنُ زَيْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ:
أُصِيبَ زَيْدٌ فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَنْزِلَهُ، فَجَهَشَتْ بِنْتُ زَيْدٍ فِي وَجْهِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَكَى
حَتَّى انْتَحَبَ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ، «شَوْقُ الْحَبِيبِ إِلَى حَبِيبِهِ»
[4] . وأما عَبْد الله بْن رَوَاحة [5] بْن ثعلبة الخَزْرَجي
الأنصاريّ أَبُو عَمْرو أحد النُّقباء ليلة العَقَبة شهِد بدْرًا
والمشاهدَ، وكان شاعر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وأخا أَبِي الدَّرْداء لأمّه.
روى عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وابنُ أخته النُّعمان بْن بشير، وزيد
بْن أرقم، وأَنَس، قوله. وأرسل عَنْهُ جماعة من التّابعين. وقال
الواقديّ: كنْيَتُه أَبُو مُحَمَّد. وقيل: أَبُو رَوَاحة.
وَرَوَتْ أَمُّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ:
كُنَّا [85 ب] مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم
__________
[1] زيادة من (ح) .
[2] كنز العمّال (33299) و (33302) .
[3] الروياني: نسبة إلى رويان مدينة بنواحي طبرستان. وهو أبو بكر
محمد بن هارون، توفي سنة 307 هـ. قال ابن حجر عن مسندة: إنّه ليس
دون السنن في الرتبة (الرسالة المستطرفة للكتّاني: 61) .
[4] الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 32 وفيه «خالد بن شمير» وهو تصحيف.
[5] انظر مصادر ترجمته في سير أعلام النبلاء 1/ 230.
(2/496)
في السفر في يوم شديد الحرّ، ومنا فِينَا
صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ رَوَاحَةَ [1] .
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أَبِي لَيْلَى قَالَ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ رَوَاحَةَ فَقَالَ لَهَا: هَلْ تَدْرِينَ لِمَ تَزَوَّجْتُكِ؟
قَالَتْ: لا.
قَالَ: لِتُخْبِرِينِي عَنْ صَنِيعِ عَبْدِ اللَّهِ فِي بَيْتِهِ.
فَذَكَرَتْ لَهُ شَيْئًا لا أَحْفُظُهُ، غَيْرَ أَنَّهَا قَالَتْ:
كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لا
يَدَعُ ذَلِكَ أَبَدًا [2] .
وقال هشام بْن عُرْوة، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لما نزلت:
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ 26: 224 [3] ، قَالَ ابن
رَوَاحة: قد علم الله أنّي منهم. فأُنزلت: إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ 26: 227 [4] الآية.
وقيل هذا البيت لعبد الله بْن رَوَاحة يخاطب زيد بْن أرقم:
يا زيد زيد اليَعمُلات الذُّبل ... تطاول اللّيل هُدِيتَ فانزِلِ
[5]
يعني: انزل فسق بالقوم.
وعن مُصْعَب بْن شَيْبة قَالَ: لما نزل ابن رَواحة للقتال طُعِنَ
فاستقبل الدَّم بيده، فدلك بِهِ وجهه. ثُمَّ صُرع بين الصَّفَّيْن
يَقْولُ: يا معشر المسلمين
__________
[1] أخرجه البخاري (1945) في الصوم. باب 35 عن أبي الدرداء، بلفظ
مختلف، ومسلم (1122) في الصيام، باب التخيير في الصوم والفطرة
بالسفر. وأبو داود (2409) في الصوم، باب من اختار الصيام، وابن
ماجة (1663) في الصيام، باب ما جاء في الصوم في السفر.
[2] رجاله ثقات، ونسبه ابن حجر في الإصابة 6/ 78، 79 إلى ابن
المبارك في الزهد وصحّح سنده.
[3] سورة الشعراء: من الآية 224.
[4] سورة الشعراء: من الآية 227 وانظر طبقات ابن سعد 3/ 81
والإصابة 6/ 79.
[5] ديوانه: 99- 100، واليعملات: جمع يعملة وهي الناقة السريعة.
القوية على العمل.
الذبل: الضامرة من طول السفر.
(2/497)
ذبّوا عَنْ لحم أخيكم. فكانوا يحملون حتى
يجوزونه. فلم يزالوا كذلك حتى مات مكانه.
وقال ابن وهْب: حَدَّثَنِي أسامة بْن زيد اللَّيْثي، حَدَّثَنِي
نافع، قَالَ:
كانت لابن رَوَاحة امْرَأَة وكان يتّقيها. وكانت لَهُ جارية فوقع
عليها، فقالت لَهُ وفرقتْ أن يكون قد فعل فقال: سبحان الله.
قَالَتْ: اقرأ عليّ إذًا، فإنّك جُنُب. فقال [1] :
شهدتُ بإذنِ الله أنّ محمدا ... رسول الّذي فوق السموات من عَل
وإنّ أَبَا يحيى ويحيى كِلاهُما ... له عمل من ربّه متقبّل
وقد رويا لحسّان [2] .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلْمَانَ،
عَنِ ابْنِ الْهَادِ، أَنَّ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
رَوَاحَةَ رَأَتْهُ عَلَى جَارِيَةٍ لَهُ فَجَحَدَهَا. فَقَالَتْ
لَهُ: فَاقْرَأْ.
فَقَالَ [3] :
شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... وَأَنَّ النَّارَ
مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ
رَبُّ الْعَالَمِينَا
وَتَحْمِلُهُ مَلائِكَةٌ كِرَامٌ ... مَلائِكَةُ الإِلَهِ
مُقَرَّبِينَا
فَقَالَتْ: آمَنْتُ باللَّه وَكَذَّبْتُ الْبَصَرَ. فَحَدَّثَ
ابْنُ رَوَاحَةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَضَحِكَ [4] .
وَقَالَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: ثنا عَبْدُ
الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونُ، عَنِ
__________
[1] ديوانه 97، باختلاف يسير في بعض الألفاظ.
[2] انظر ديوان حسان: 319 ورجاله ثقات لكنّه مرسل. انظر الاستيعاب
6/ 187، 189.
[3] ديوانه: ص 106، باختلاف يسير في البيت الأخير.
[4] تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر 7/ 395.
(2/498)
الثِّقَةِ أَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ
اتَّهَمَتْهُ امْرَأَتُهُ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يُعَقِّبْ ابْنُ رَوَاحَةَ.
واستشهد بمؤْتة:
عبّاد بْن قيس الخَزْرَجي، أحدُ من شهد بدْرًا. والحارث بْن
النُّعمان بْن أساف النّجّاري، ومسعود بْن سُوَيْد [1] بْن حارثة
الأنصاريّ. ووهب بن سعد ابن أبي سرح العامريّ. وزيد بن [86 أ] عبيد
بن المعلّى الخزرجيّ، الّذي قتل أبوه يوم أحد. وعبد الله بن سعيد
بن العاص بْن أمية الأموي، وقيل: قُتِل هذا يوم اليَمامة. وأبو
كلاب [2] ، وجابر ابنا أَبِي صعصعة الخزرجيّ [3] .
__________
[1] عند ابن هشام 4/ 76 والهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 161 وابن كثير
في البداية والنهاية 4/ 259 «مسعود بن الأسود» وكذا في المغازي
للواقدي 2/ 769.
[2] في سيرة ابن هشام 4/ 76 والبداية والنهاية 4/ 259 «أبو كليب» .
[3] انظر في أسماء شهداء مؤتة: سيرة ابن هشام 4/ 76، المغازي لعروة
206، مجمع الزوائد للهيثمي 6/ 161، والبداية والنهاية 4/ 259،
والمغازي للواقدي 2/ 769.
(2/499)
ذِكْرُ رُسُلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَفِي هَذِهِ السنة كتب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى ملوك النَّواحي يدعوهم إلى الله تعالى.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ،
أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ
قَبْلَ مَوْتِهِ: إِلَى كِسْرَى، وَإِلَى قَيْصَرَ، وَكَتَبَ إِلَى
النَّجَاشِيِّ، يَعْنِي الَّذِي مَلَكَ الْحَبَشَةِ بَعْدَ
النَّجَاشِيِّ الْمُسْلِمِ، وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ
إِلَى اللَّهِ.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ [1] .
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ الثَّانِي
يَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. بَلْ ذَلِكَ
مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ
النَّجَاشِيِّ الأَوَّلِ الْمُسْلِمِ. وَمَوْتُهُ كَمَا سَيَأْتِي
فِي سَنَةِ تِسْعٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ،
عن ابن شهاب، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى
الْإِسْلَامِ. وَبَعَثَ بكتابه إليه مع دحية الكلبيّ [2] ، وأمره
__________
[1] صحيح مسلم (1774) كتاب الجهاد والسير، باب كتب النَّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ملوك الكفّار إلخ.
[2] سيرة ابن هشام 4/ 232.
(2/501)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ
إِلَى قيصر. فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر، [وكان قَيْصَرَ] [1] لَمَّا
كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ، مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى
إِيلِيَاءَ [2] شُكْرًا لِمَا أَبْلاهُ اللَّهُ. فَلَمَّا أَنْ
جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ حِينَ قَرَأَهُ: الْتَمِسُوا لِي هَاهُنَا
أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ
كَانَ بِالشَّامِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا
لِلتِّجَارَةِ، فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رسول الله
صلى الله عليه وسلم وبين كُفَّارِ قُرَيْشٍ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَجَدَنَا رَسُولَ قَيْصَرَ بِبَعْضِ
الشَّامِ، فَانْطَلَقَ بِنَا حَتَّى قَدِمْنَا إيليا عليه،
فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِهِ
وَعَلَيْهِ التَّاجُ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، فَقَالَ
لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُم أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا
[3] الرَّجُل الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ قُلْتُ: أَنَا
أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا. قَالَ: مَا قَرَابَةُ مَا بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ؟ قُلْتُ: هُوَ ابْنُ عَمِّي. وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ
يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافَ غَيْرِي، قَالَ:
أَدْنُوهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِأَصْحَابِي فَجَعَلَهُمْ خَلَفَ
ظَهْرِي، عِنْدَ كَتِفِي، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ
لِأَصْحَابِهِ إِنِّي سَائِلُهُ عَنْ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ
أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ
أَنْ يَأْثُرَ عَنِّي أَصْحَابِي الْكَذِبَ لَكَذَّبْتُهُ [4]
عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ كَيْفَ نَسَبُ
هَذَا الرَّجُلُ فِيكُمْ؟
قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ: قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا
الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ:
لَا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ
أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَهَلْ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ:
فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ
__________
[1] سقطت من الأصل، ع وأثبتناها من ح.
[2] إيلياء: اسم مدينة بيت المقدس، وقيل معناه بيت الله.
[3] في الأصل: بهذا. وأثبتنا لفظ البخاري ومسلم.
[4] في البداية والنهاية 4/ 264 «لكذبت» .
(2/502)
ضعفاؤهم؟ قلت بل ضعفاؤهم. قال: [86 ب]
فَيَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟
قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدَّ أَحَدٌ سُخَطَةً
لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، قُلْتُ: لَا قَالَ: فَهَلْ
يَغْدُرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ الْآنَ مِنْهُ فِي مَدَّةٍ-
يُشِيرُ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي قَاضَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ
وَآخِرُهَا يَوْمُ الْفَتْحِ- وَنَحْنُ نَخَافُ مِنْهُ أَنْ
يَغْدُرَ، وَلَمْ يُمَكِّنِّي كَلِمَةً أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا
أَنْتَقِصُهُ بِهَا، لَا أَخَافُ أَنْ تُؤْثِرَ عَنِّي غَيْرَهَا.
قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ؟ قَلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ:
فَكَيْفَ حَرْبُكُمْ وَحَرْبُهُ؟ قُلْتُ: كَانَتْ دُوَلًا
وَسِجَالًا، يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرَّةَ وَيُدَالُ عَلَيْهِ
الْأُخْرَى قَالَ: فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ؟ قُلْتُ:
يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ، وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا،
وَيَنْهَانَا عَمَّا كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بِالصَّلَاةِ
وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ
الْأَمَانَةِ.
قَالَ: فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ
نَسَبِهِ فِيكُمْ، فَزَعَمْتُ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ
الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ
قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، فَزَعَمْتَ أَنْ لَا،
فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ
قَبْلَهُ لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأَتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ
قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ
قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فزعمت أن لا، فعرفت أنّه لم يكن
ليدع الكذب عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ.
وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، فَزَعَمْتُ
أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ
رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ
يَتَّبِعُونَهُ أَوْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّ
ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.
وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ، فَزَعَمْتَ
أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ.
وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سُخْطَةً [1] لِدِينِهِ
بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ
الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لا يسخطه
__________
[1] سخطة لدينه: كراهة له وعدم الرضا به.
(2/503)
أَحَدٌ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدُرُ،
فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا يَغْدُرُونَ.
وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنْ
قَدْ فَعَلَ، وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ يَكُونُ دُوَلًا،
وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ.
وَسَأَلْتُكَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ،
وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ
وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.
وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ، قَدْ كُنْتُ أَعْلَمَ أَنَّهُ خَارِجٌ،
وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، وَإِنْ يَكُنْ مَا قُلْتَ
حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ،
وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقْيَهُ [1]
، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ. قَالَ: ثُمَّ
دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَمَرَ فَقُرِئَ فَإِذَا فِيهِ [2] :
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عظيم الروم:
سلام عَلَى من اتَّبع الْهُدَى. أما بعدُ، [87 أ] فَإِنِّي
أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ
يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ. وَإِنْ تَوَلَّيْتَ
فَعَلَيْكَ إثم الأريسيّين [3] . [و] يا أَهْلَ الْكِتابِ
تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ، أَلَّا
نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا
يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ 3: 64
__________
[1] لقيه: (بالضم والكسر) لقاءه. وهي في البدآية والنهاية 4/ 265
«لقاءه» .
[2] في مراجع هذا الكتاب الشريف واختلاف روآياته انظر: مجموعة
الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة للدكتور محمد حميد
الله (ص 80- 82) وانظر أيضا في إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين
(ص 10 وما بعدها) .
[3] الأريسيون: الأكارون، ويراد بهم فلاحو السواد، وهي لغة شامية،
مفردة أريس وإريس (كجليس وسكيت) . وقد ذكرت فيهم أقوال شتى، فقيل
هم قوم من المجوس لا يعبدون النار ويزعمون أنهم على دين إبراهيم
عليه السلام. وقيل إنه كان في رهط هرقل تعرف بالأورسية نسبوا
إليها. وقيل أنهم أتباع عبد الله بن أريس رجل كان في الزمن الأول
قتلوا نبيا بعثه الله إليهم. وقيل غير ذلك. (انظر لسان العرب ج 7/
300 مصورة بولاق) .
(2/504)
اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ 3: 64 [1] . قَالَ أَبُو
سُفْيَانَ: فَلَمَّا أَنْ قَضَى مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ
الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ وَكَثُرَ لَغَطهُمْ،
فَلَا أَدْرِي مَا قَالُوا وَأَمَرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا. فَلَمَّا
أَنْ خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي وَخَلَوْتُ بِهِمْ قُلْتُ لَهُمْ:
لَقَدْ أَمَرَ ابْنُ أبي كبشة [2] ، هذا ملك بني الأصغر يَخَافُهُ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ ذليلا، مستيقنا بأنّ
أمره سيظهره حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبِي الْإِسْلَامَ وَأَنَا
كَارِهٌ. أَخْرَجَاهُ [3] مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ.
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ، [عَنِ] [4] ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا
سُفْيَانَ حَدَّثَهُ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي
كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّامِ. فَذَكَرَ كَحَدِيثِ
إِبْرَاهِيمَ [5] .
وَرَوَاهُ يُونُسُ بن بكير، عن ابن إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
بِسَنَدِهِ. وَفِيهِ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا كَانَتْ
هُدْنَةُ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجْتُ تَاجِرًا إلى الشام. فو الله
مَا عَلِمْتُ بِمَكَّةَ امْرَأَةً وَلا رَجُلا إِلا قَدْ
حَمَّلَنِي بِضَاعَةً. فَقَدِمْتُ غَزَّةَ، وَذَلِكَ حِينَ ظَهَرَ
قَيْصَرُ عَلَى مَنْ كَانَ بِبِلادِهِ مِنَ الفرس، فأخرجهم
__________
[1] سورة آل عمران- الآية 64.
[2] أمر أمره: عظم شأنه وكبر. وابن أبي كبشة أراد به النّبيّ صلى
الله عليه وسلم، وذكر النوويّ أنّ أبا كبشة رجل من خزاعة خالف
قريشا في عبادة الأوثان فعبد الشّعرى فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق
المخالفة في دينهم.
[3] صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسّير، باب دعاء النّبيّ صلّى
الله عليه وسلّم إلى الإسلام والنّبوّة إلخ 4/ 2- 5 وصحيح مسلم
(1773) كتاب الجهاد والسير، باب كِتَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هرقل يدعوه إلى الإسلام.
[4] في الأصل: عن عبد الله بن عبّاس. والتصحيح من ح وصحيح البخاري.
(4/ 2) .
[5] صحيح البخاري: كتاب التفسير، سورة آل عمران باب قل يا أهل
الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء 5/ 167 وصحيح مسلم (1773) كتاب الجهاد
والسير، باب كِتَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى هرقل يدعوه إلى الإسلام.
(2/505)
مِنْهَا. وَرَدَّ عَلَيْهِ صَلِيبَهُ
الأَعْظَمَ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ بِحِمْصَ فَخَرَجَ مِنْهَا
مُتَنَكِّرًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، تُبْسَطُ لَهُ الْبُسُطُ
وَيُطْرَحُ لَهُ عَلَيْهَا الرَّيَاحِينُ. حَتَّى انْتَهَى إِلَى
إِيلِيَاءَ، فَصَلَّى بِهَا. فَأَصْبَحَ ذات غداة مهموما يقلّب
طرفه إلى السماء، فقالت له بطارقته: أيّها الملك، لقد أصبحت
مَهْمُومًا. فَقَالَ: أَجَلْ.
قَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أُرِيتُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ
أَنَّ مَلَكَ الْخِتَانِ ظَاهِرٌ. فَقَالُوا:
وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تَخْتَتِنُ إِلا
يَهُودَ، وَهُمْ تَحْتَ يَدِكِ وَفِي سُلْطَانِكَ، فَإِنْ كَانَ
قَدْ وَقَعَ هَذَا فِي نَفْسِكَ مِنْهُمْ، فَابْعَثْ فِي
مَمْلَكَتِكَ كُلِّهَا فَلا يَبْقَى يَهُودِيٌّ إِلا ضُرِبَتْ
عُنُقُهُ فَتَسْتَرِيحُ مِنْ هَذَا الْهَمِّ.
فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ، إِذْ أَتَاهُمْ رَسُولُ صَاحِبِ
بُصْرَى بِرَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ وَقَعَ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ:
أَيُّهَا الْمَلِكُ هَذَا رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ
الشَّاءِ وَالإِبِلِ، يُحَدِّثُكَ عَنْ حَدَثٍ كَانَ بِبِلادِهِ،
فَسَلْهُ عَنْهُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ قَالَ
لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُ مَا هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي كَانَ فِي
بِلادِهِ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ خَرَجَ
يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ تَبِعَهُ أَقْوَامٌ وَخَالَفَهُ
آخَرُونَ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مَلاحِمُ فَقَالَ: جَرِّدُوهُ.
فَإِذَا هُوَ مَخْتُونٌ فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي أُرِيتُ،
لا مَا تَقُولُونَ. ثُمَّ دَعَا صَاحِبَ شُرْطَتِهِ فَقَالَ لَهُ:
قَلِّبْ لِي الشَّامَ ظَهْرًا وَبَطْنًا حَتَّى تَأْتِيَ بِرَجُلٍ
مِنْ قَوْمِ هَذَا أَسْأَلُهُ عن شأنه. فو الله أنّي وأصحابي [87
ب] لَبِغَزَّةَ [1] إِذْ هَجَمَ عَلَيْنَا فَسَأَلَنَا: مِمَّنْ
أَنْتُمْ؟ فأخبرناه. فساقنا إليه جميعا.
فلما انتهى إليه- قال أبو سفيان: فو الله مَا رَأَيْتُ مِنْ رَجُلٍ
[قَطُّ] [2] أَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ أَدْهَى مِنْ ذَلِكَ
الأَغْلَفِ [3]- يَعْنِي هِرَقْلَ- فلما انتهينا إلى قَالَ:
أَيُّكُمْ أَمَسُّ بِهِ رَحِمًا؟ فَقُلْتُ: أَنَا. قَالَ:
أَدْنُوهُ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ
__________
[1] غزّة: المدينة المعروفة على ساحل فلسطين.
[2] زيادة من (ح) ، والبداية والنهاية 4/ 363.
[3] الأغلف: الّذي لم يختن، ومثله الأقلف.
(2/506)
كِتَابًا. وَفِيهِ كَمَا تَرَى أَشْيَاءَ
عَجِيبَةً تَفَرَّدَ بِهَا ابْنُ إِسْحَاقَ دُونَ مَعْمَرٍ
وَصَالِحٍ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ،
حَدَّثَنِي أُسْقُفٌّ مِنَ النَّصَارَى قَدْ أَدْرَكَ ذَلِكَ
الزَّمَانَ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ دِحيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ عَلَى
هِرقْلَ بِالْكِتَابِ، وَفِيهِ:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ
اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الروم: سلام عَلَى من اتَّبع
الْهُدَى. أما بعدُ، فأسلم تسلم، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ
أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ
الأَكَّارِينَ [1] عَلَيْكَ» . فَلَمَّا قَرَأَهُ وَضَعَهُ بَيْنَ
فَخْذِهِ وَخَاصِرَتِهِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ
رُومِيَّةَ [2] ، كَانَ يَقْرَأُ مِنَ الْعَبْرَانِيَّةِ مَا
يَقْرَأُ، يُخْبِرُهُ عَمَّا جَاءَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ النَّبِيُّ
الَّذِي يُنْتَظَرُ لا شَكَّ فِيهِ فَاتَّبَعَهُ. فَأَمَرَ
بِعُظَمَاءِ الرُّومِ فَجُمِعُوا لَهُ فِي دَسْكَرَةِ مُلْكِهِ،
ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فأُشْرِجَتْ [3] عَلَيْهِمْ، وَاطَّلَعَ
عَلَيْهِمْ مِنْ عِلِّيَّةٍ لَهُ، وَهُوَ مِنْهُمْ خَائِفٌ
فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ إِنَّهُ قَدْ جَاءَنِي كِتَابُ
أَحْمَدَ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَلنَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا
نَنْتَظِرُ وَنَجِدُ ذِكْرَهُ فِي كِتَابِنَا، نَعْرِفُهُ
بِعَلامَاتِهِ وَزَمَانِهِ.
فَأَسْلِمُوا وَاتَّبِعُوهُ تَسْلَمْ لَكُمْ دُنْيَاكُمْ
وَآخِرَتُكُمْ. فَنَخَرُوا نَخْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَابْتَدَرُوا
أَبْوَابَ الدَّسْكَرَةِ، فَوَجَدُوهَا مُغْلَقَةً عَلَيْهِمْ.
فَخَافَهُمْ، فَقَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ. فَكَرُّوهُمْ عَلَيْهِ،
فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ لَكُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَغْمِزُكُمْ
بِهَا لأَنْظُرَ كَيْفَ صَلابَتُكُمْ فِي دِينِكُمْ، فَقَدْ
رَأَيْت مِنْكُمْ مَا سَرَّنِي. فوقعوا له سجّدا، ثم
__________
[1] الأكارون: جمع أكار، وهو الريفي الّذي يحرث الأرض ويزرعها. وفي
رواية اليعقوبي: فإنّ عليك إثم الريفيين (انظر الوثائق السياسية
82) .
[2] رومية: بتخفيف الياء: مدينة رياسة الروم وعلمهم، واسمها
بالرومية رومانس وتقع شمال وغربي القسطنطينية بينهما مسيرة خمسين
يوما أو أكثر. (معجم البلدان 2/ 100) وهي مدينة روما المعروفة.
[3] في هامش ح: أغلقت.
(2/507)
فُتِحَتْ لَهُمُ الأَبْوَابُ فَخَرَجُوا
[1] .
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: ثنا أَبُو الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ [2]
قَالَ: خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ تَاجِرًا وَبَلَغَ هِرَقْلَ شَأْنُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَأُدْخِلَ
عَلَيْهِ أبو سُفْيَانُ فِي ثَلاثِينَ رَجُلا، وَهُوَ فِي
كَنِيسَةِ إِيلِيَاءَ. فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: سَاحِرٌ كَذَّابٌ.
فَقَالَ:
أَخْبِرُونِي بأعلمكم بِهِ وَأَقْرَبِكُمْ مِنْهُ. قَالُوا: هَذَا
ابْنُ عَمِّهِ. وَذَكَرَ شَبِيهًا بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ خ [3] : ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، نَا
اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ
اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى،
وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ
لِيَدْفَعَهُ إِلَى كِسْرَى. فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى مَزَّقَهُ.
فَحَسِبْتُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كلَّ
مُمَزَّقٍ [4] .
وَقَالَ الذُّهْلِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
صَالِحٍ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عبد القاري، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ ذَاتَ
يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ وَتَشَهَّدَ، ثم قال: «أما بعد، فإنّي [88 أ] أُرِيدُ
أَنْ أَبْعَثَ بَعْضُكُمْ إِلَى مُلُوكِ الْأَعَاجِمِ، فَلَا
تَخْتَلِفُوا عَلَيَّ كَمَا اخْتَلَفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى
عِيسَى» . فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: وَاللَّهِ لَا نَخْتَلِفُ
عَلَيْكَ فِي شَيْءٍ، فَمُرْنَا وَابْعَثْنَا. فَبَعَثَ شُجَاعَ
__________
[1] حديث هرقل مع أبي سفيان أخرجه البخاري في صحيحه، بدء الوحي 6
من طريق عبد الله بن عباس عن أبي سفيان بن حرب مطوّلا. وانظر
الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 259 ومسند أحمد 3/ 441، 442، و 4/ 74.
[2] المغازي لعروة 196، 197، فتح الباري لابن حجر 1/ 36.
[3] صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب دعوة اليهوديّ
والنّصرانيّ ... وما كتب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى كسرى وقيصر. (3/ 235) .
[4] انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 260، وقد أخرجه أحمد في مسندة
1/ 243 وفيه: «قال ابن شهاب: فحسبت ابن المسيّب قال....» وانظر 1/
305.
(2/508)
ابن وَهْبٍ إِلَى كِسْرَى. فَخَرَجَ حَتَّى
قَدِمَ عَلَى كِسْرَى، وَهُوَ بِالْمَدَائِنِ، وَاسْتَأْذَنَ
عَلَيْهِ. فَأَمَرَ كِسْرَى بِإِيوَانِهِ أَنْ يُزَيَّنَ، ثُمَّ
أَذِنَ لِعُظَمَاءِ فَارِسَ، ثُمَّ أَذِنَ لِشُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ.
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَمَرَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْبَضَ مِنْهُ.
قَالَ شُجَاعٌ: لَا، حَتَّى أَدْفَعَهُ أَنَا كَمَا أَمَرَنِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ
كِسْرَى:
ادْنُهُ، فَدَنَا فَنَاوَلَهُ الْكِتَابَ ثُمَّ دَعَا كَاتِبًا
لَهُ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ:
«مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ
فَارِسَ» .
فَأَغْضَبَهُ حِينَ بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ، وَصَاحَ وَغَضِبَ وَمَزَّقَ
الْكِتَابَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ مَا فِيهِ، وأمر بشجاع فأخرج،
فركب رَاحِلَتَهُ وَذَهَبَ، فَلَمَّا سَكَنَ غَضَبُ كِسْرَى،
طَلَبَ شُجَاعًا فَلَمْ يَجِدْهُ. وَأَتَى شُجَاعٌ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:
«اللَّهمّ مَزِّقْ مُلْكَهُ» [1] . وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ
سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتَفْتَحَنَّ عِصَابَةٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ كُنُوزَ كِسْرَى الَّتِي فِي الْقَصْرِ
الْأَبْيَضِ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [2] . رَوَاهُ أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنْ
سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرٍ فَزَادَ قَالَ: فَكُنْتُ [3] أَنَا وَأَبِي
فِيهِمْ، فَأَصَابَنَا مِنْ ذَلِكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ. وَقَالَ
أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْفَحَّامُ: ثَنَا أَسْوَدُ بْنُ
عَامِرٍ، أَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ
فَارِسَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
رَبِّي قد قتل ربّك، يعني كسرى.
__________
[1] انظر مسند أحمد 3/ 442.
[2] صحيح مسلم (2919) كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم
الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيتمنّى أن يكون مكان الميت من
البلاء. وفيه: « ... من المسلمين أو من المؤمنين كنز آل كسرى ... »
.
[3] في الأصل: كنت. وأثبتنا عبارة ع، ح.
(2/509)
قَالَ: وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ قَدِ اسْتَخْلَفَ بِنْتَهُ فَقَالَ:
«لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ تَمْلِكُهُمُ [1] امْرَأَةٌ» [2] . وَيُرْوَى
أَنَّ كِسْرَى كَتَبَ إِلَى بَاذَامَ عَامِلِهِ بِالْيَمَنِ
يَتَوَعَّدُهُ وَيَقُولُ: أَلَا تَكْفِينِي رَجُلًا خَرَجَ
بِأَرْضِكَ يَدْعُونِي إِلَى دينه؟ لتكفينه أَوْ لَأَفْعَلَنَّ
بِكَ. فَبَعَثَ الْعَامِلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلًا وَكِتَابًا، فَتَرَكَهُمُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً،
ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ فَقُولُوا: إِنَّ
رَبِّي قَدْ قَتَلَ رَبَّكَ اللَّيْلَةَ» [3] . وَرَوَى أَبُو
بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَقْبَلَ سَعْدُ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلَكَ-
أَوْ قَالَ: قُتِلَ- كِسْرَى. فَقَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ كِسْرَى،
أَوَّلُ النَّاسِ هَلاكًا فَارِسٌ ثُمَّ الْعَرَبُ» [4] . وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: ثنا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ صَالِحٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ. وَقَدْ رَوَاهُ
اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، كِلاهُمَا يَقُولُ
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَاللَّفْظُ لِصَالِحٍ قَالَ: بَلَغَنِي
أَنَّ كِسْرَى بَيْنَمَا هُوَ فِي دَسْكَرَةِ مُلْكِهِ، بُعِثَ
لَهُ- أَوْ قُيِّضَ لَهُ- أو قيّض له- عارض فعرض عَلَيْهِ
الْحَقُّ، فَلَمْ يَفْجَأْ كِسْرَى إِلا الرَّجُلُ يَمْشِي وَفِي
يَدِهِ عَصًا فَقَالَ: يَا كِسْرَى هَلْ لَكَ فِي الإِسْلامِ
قَبْلَ أَنْ أَكْسِرَ هَذِهِ الْعَصَا؟ قَالَ كِسْرَى: نَعَمْ؟
فَلا تَكْسِرْهَا. فولّى الرجل. فلما ذهب [88 ب] أُرْسِلَ كِسْرَى
إِلَى حُجَّابِهِ فَقَالَ: مَنْ أَذِنَ لِهَذَا؟ قَالُوا: مَا
دَخَلَ عَلَيْكَ أَحَدٌ. قَالَ: كَذَبْتُمْ. وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ
وَعَنَّفَهُمْ، ثُمَّ تَرَكَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ رَأْسُ الْحَوْلِ
أَتَاهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِالْعَصَا فَقَالَ كَمَقَالَتِهِ.
فَدَعَا كِسْرَى الْحُجَّابَ وَعَنَّفَهُمْ. فَلَمَّا كان الحول
المستقبل، أتاه ومعه العصا
__________
[1] في طبعة القدسي أثبتها «تملكتهم» ... وما أثبتناه عن مسند
أحمد.
[2] أخرجه أحمد في مسندة 5/ 43.
[3] أخرجه أحمد في مسندة 5/ 43 وهو في الحديث الّذي قبله، وانظر
طبقات ابن سعد 1/ 260 و.
[4] أخرجه أحمد في مسندة 2/ 513 من طريق عبد الله عن أبيه عن
الأسود بن عامر عن أبي بكر بن عياش، عن داود، عن أبيه، عن أبي
هريرة، وفيه قدّم هلاك العرب على الفرس.
(2/510)
فَقَالَ: هَلْ لَكَ يَا كِسْرَى فِي
الإِسْلامِ قَبْلَ أَنْ أَكْسِرَ الْعَصَا؟ قَالَ: لا تَكْسِرْهَا.
فَكَسَرَهَا فَأَهْلَكَ اللَّهُ كِسْرَى عِنْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ. وَإِذَا
هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ.
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهَا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [1] . وَرَوَى يُونُسُ بْنُ
بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ:
كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
كِسْرَى وَقَيْصَرَ. فَأَمَّا قَيْصَرُ فَوَضَعَهُ، وَأَمَّا
كِسْرَى فَمَزَّقَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَمَّا هَؤُلاءِ فَيُمَزَّقُونَ،
وَأَمَّا هَؤُلاءِ فسيكون لهم بَقِيَّةٌ» . وَقَالَ الرَّبِيعِ:
أنا الشَّافِعِيُّ قَالَ: حَفِظْنَا أَنَّ قَيْصَرَ أَكْرَمَ
كِتَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَضَعَهُ
فِي مَسْكٍ [2] . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «ثُبِّتَ مُلْكُهُ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَطَعَ
اللَّهُ الأَكَاسِرَةَ عَنِ الْعِرَاقِ وَفَارِسَ، وَقَطَعَ
قَيْصَرُ وَمَنْ قَامَ بِالأَمْرِ بَعْدَهُ عَنِ الشَّامِ. وَقَالَ
فِي كِسْرَى، «مُزِّقَ مُلْكُهُ» ، فَلَمْ يَبْقَ لِلأَكَاسِرَةِ
مُلْكٌ، وَقَالَ فِي قَيْصَرَ «ثُبِّتَ مُلْكُهُ» فَثُبِّتَ لَهُ
مُلْكُ بِلادِ الرُّومِ إِلَى الْيَوْمِ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: ثنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ (الْقَارِيِّ) [3] أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ حَاطِبَ بْنَ
أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ صاحب الإسكندرية، فمضى
بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَبَّلَ الْكِتَابَ وَأَكْرَمَ حَاطِبًا وَأَحْسَنَ نُزُلَهُ،
وَأَهْدَى مَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بغلة وكسوة وجاريتين، إحداهما أمّ
__________
[1] صحيح مسلم (2918) كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم
الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل إلخ. وأوّله: «قد مات كسرى..» .
[2] مسك: بفتح الميم. أي جلد.
[3] سقطت من النسخ الثلاث. وأثبتناه من السند نفسه في موضع سابق.
(2/511)
إِبْرَاهِيمَ، وَالأُخْرَى وَهَبَهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَهْمِ بْنِ
قُثَمَ [1] الْعَبْدِيِّ، فَهِيَ أُمُّ زكريا ابن جَهْمٍ،
خَلِيفَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى مِصْرَ [2] .
وَقَالَ أَبُو بِشْرٍ الدَّوْلابِيُّ: ثنا أَبُو الْحَارِثِ
أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْفِهْرِيُّ، ثنا هَارُونُ بْنُ يَحْيَى
الْحَاطِبِيُّ، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ
أَبِيهِ، يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ قَالَ:
بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَجِئْتُهُ بِكِتَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَنِي
فِي مَنْزِلِهِ، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ وَقَدْ
جَمَعَ بَطَارِقَتَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَأُكَلِّمُكَ بِكَلامٍ
وَأُحِبُّ أَنْ تَفْهَمَهُ مِنِّي. قُلْتُ: نَعَمْ، هَلُمَّ.
قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَاحِبِكَ، أَلَيْسَ هُوَ نَبِيٌّ؟
قُلْتُ: بَلَى، هُوَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: فَمَا لَهُ حَيْثُ
كَانَ هَكَذَا لَمْ يَدْعُ عَلَى قَوْمِهِ حَيْثُ أَخْرَجُوهُ.
قُلْتُ: عِيسَى، أَلَيْسَ تَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَمَا
لَهُ حَيْثُ أَخَذَهُ قَوْمُهُ فَأَرَادُوا أَنْ يَصْلِبُوهُ أَنَّ
لا يَكُونَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ حَتَّى
رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ (الدُّنْيَا) [3]
قَالَ: أنت [89 أ] حَكِيمٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ. هَذِهِ
هَدَايَا أَبْعَثُ مَعَكَ إِلَيْهِ. فَأَهْدَى ثَلاثَ جَوَارٍ،
مِنْهُنَّ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ وَوَاحِدَةٌ وَهَبَهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي جَهْمِ بْنِ
حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيِّ [4] ، وَوَاحِدَةٌ وَهَبَهَا لِحَسَّانِ
بْنِ ثَابِتٍ. وَأَرْسَلَ بطرف من طرفهم.
__________
[1] في طبعة القدسي 474 «قيس» والتصحيح من الإصابة. أما جهم بن قيس
فهو ابن عبد شرحبيل بن هشام.. العبدري أبو خزيمة. وقد ذكره ابن حجر
في الإصابة أيضا. وابن قثم ذكره ابن عبد البر في الإستيعاب 1/ 245
مختصرا، وقد تحرّف في البداية والنهاية 4/ 272 إلى محمد بن قيس.
[2] رواه ابن حجر في الإصابة 1/ 254 في ترجمة «جهم بن قثم العبديّ»
رقم 1247، وانظر طبقات ابن سعد 1/ 260.
[3] زيادة من ح.
[4] ترجمته في الإصابة 4/ 35 رقم 207 وليس فيها هذا الخبر، ولا في
أسد الغابة 5/ 162، 163 وقد سبق في الخبر الّذي قبله أن الّذي وهبه
الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو: الجهم بن قثم العبديّ. كما لم
يذكر الحافظ الذهبي الخبر في ترجمة أبي الجهم بن حذيفة في سير
أعلام النبلاء 1/ 556.
(2/512)
غزوة ذات السلاسل
قِيلَ إنه ماء بأَرض جُذام [1] .
قَالَ ابن لَهِيعة: نا أَبُو الأسود، عن عروة [2] . ورواه موسى بن
عقبة، واللفظ لَهُ، قالا: غزوة ذات السلاسل من مشارف الشام فِي
بَليّ [3] وسعد اللَّه ومن يليهم من قُضاعة [4] .
وفي رواية عُرْوة [5] : بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرو بن العاص فِي بليّ، وهم أخوال العاص بْن
وائل، وبعثه فيمن يليهم من قُضَاعة وأمّره عَلَيْهِمْ.
قَالَ ابن عقْبة: فخاف عَمْرو من جانبه الَّذِي هو بِهِ، فبعث
إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمدّه،
فندب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرين،
فانتدب فيهم أبو بكر وعمر
__________
[1] جذام: حيّ أو قبيلة من اليمن كانت تنزل بجبال حسمى وراء وادي
القرى ومساكنها بين مدين إلى تبوك فإلى أذرح، ومنها فخذ مما يلي
طبرية من أرض الأردن إلى عكا. وجذام أول من سكن مصر من العرب حين
جاءوا في الفتح مع عمرو بن العاص (معجم قبائل العرب 1/ 174) .
[2] المغازي 207.
[3] بليّ: بفتح الباء وكسر اللام وتشديد الياء.
[4] قضاعة: قبيلة من حمير من القحطانية، وحمير من بني سبإ. وبليّ
بطن من قضاعة، وسعد الله بطن من بليّ (نهاية الأرب في معرفة أنساب
العرب) .
[5] المغازي لعروة 207.
(2/513)
وجماعة، أمّر عليهم أَبَا عبيدة. فأَمدَّ
بهم عَمْرًا. فلمّا قدِموا عَلَيْهِ قَالَ: أنا أميركم، وأنا أرسلت
إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أستمدّه
بكم. فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عُبَيْدة أمير
المهاجرين. قَالَ: إنّما أنتم مَدَد أُمْدِدْتُهُ. فلمّا رَأَى
ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدة،. وكان رجلًا حَسَن الخُلُق ليّن الشيمة،
سعى لأمر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهده،
قَالَ: تعلم يا عَمْرو أنّ آخر مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ قَالَ: إذا قدِمتَ عَلَى
صاحبك فتطاوعا، وإنّك إن عصيتني لأطيعنّك. فسلّم أبو عبيدة الإمارة
لعَمْرو [1] .
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [2] ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ [بْنِ عَبْدِ اللَّهِ] [3] بْن الحصين
التميمي، عن غزوة ذَاتِ السَّلَاسِلِ مِنْ أَرْضِ بَلِيٍّ
وَعُذْرَةَ [4] ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ لِيَسْتَنْفِرَ
الْعَرَبَ إِلَى الْإِسْلامِ. وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّ الْعَاصِ بْنِ
وَائِلٍ كَانَتْ مِنْ بَلِيٍّ، فَبَعَثَهُ إِلَيْهِمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتَأَلَّفُهُمْ
بِذَلِكَ. حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ جُذَامٍ، عَلَى مَاءٍ
يُقَالُ لَهُ السَّلاسِلُ، خَافَ فَبَعَثَ يَسْتَمِدُّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ: أَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ
أَبِي عُثْمَانُ النَّهْدِيِّ، سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ
يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى جَيْشِ ذِي السَّلَاسِلِ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ. فَحَدَّثْتُ نَفْسِي أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْنِي
عَلَيْهَا إِلَّا لِمَنْزِلَةٍ لِي عِنْدَهُ، فَأَتَيْتُهُ حَتَّى
قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ
أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «عَائِشَةُ» قُلْتُ: إِنِّي
لَمْ أَسْأَلْكَ عَنْ أَهْلِكَ. قَالَ:
«فَأَبُوهَا» قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «عُمَرُ» قُلْتُ: ثُمَّ
مَنْ حَتَّى عَدَّ رهطا،
__________
[1] المغازي لعروة 207 وانظر سيرة ابن هشام 4/ 239.
[2] سيرة ابن هشام 4/ 239.
[3] زيادة من ح، ولم أقف على ترجمته.
[4] عذرة بطن من قضاعة، وهم المعروفون بالحبّ العذريّ.
(2/514)
قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي لَا أَعُودُ
أَسْأَلُ عَنْ هَذَا.
رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ خَالِدٍ؟ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
مُخْتَصَرًا [1] . (وَكِيعٌ، وَغَيْرُهُ، ثَنَا مُوسَى بْنُ
عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ عَمْرَو بْنَ
الْعَاصِ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «يَا عَمْرُو أُشْدُدْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ وَائْتِنِي»
.
فَفَعَلْتُ، فَجِئْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ
الْبَصَرَ وَصَوَّبَهُ وَقَالَ: «يَا عَمْرُو إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أَبْعَثَكَ وَجْهًا فَيُسَلِّمُكَ اللَّهُ وَيُغْنِمُكَ،
وَأَرْغَبُ لَكَ رَغْبَةً فِي الْمَالِ صَالِحَةً» . قُلْتُ:
إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ إِنَّمَا أَسْلَمْتُ
رَغْبَةً فِي الْجِهَادِ وَالْكَيْنُونَةِ مَعَكَ. قَالَ: «يا عمرو
نعمّا بالمال الصالح للمرء الصالح» [2] . أنبأ ابن عون وَغَيْرُهُ،
عَنْ مُحَمَّدٍ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرًا عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ
وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُهَاجِرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ بِنَحْوِهِ [3] .
وَكِيع، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ،
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا وَلاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي عَمْرًا عَلَيْنَا لِعِلِمْهِ
بِالْحَرْبِ [4] .
قُلْتُ: وَلِهَذَا اسْتَعْمَلَ أَبُو بَكْرٍ عَمْرًا على غزو
الشام) [5] .
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب فضائل أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم،
باب قول النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كُنْتُ
مُتَّخِذًا خليلا 4/ 192، وكتاب المغازي، غزوة ذات السلاسل 5/ 113
وصحيح مسلم (2384) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر
الصّديق رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد في مسندة 4/ 197 و 202، والبخاري في الأدب المفرد
(299) من طرق عن موسى ابن علي، عن أبيه، عن عمرو بن العاص، وهذا
سند صحيح. وصحّحه ابن حبّان (1089) والحاكم في المستدرك 2/ 2
ووافقه الذهبي في تلخيصه.
[3] أخرجه البخاري 7/ 18، 19 في الفضائل و 8/ 59، 60 في المغازي،
ومسلم (2384) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصّديق.
[4] رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (مخطوط الظاهرية) 13/ 254 ب.
[5] ما بين الحاصرتين لم يرد في الأصل ع، وهو في نسخة ح.
(2/515)
وقال الواقدي [1] : حدثني ربيعة بن عثمان،
عن يزيد بْنِ رُومَانَ: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمَّا أَتَى
عَمْرًا صَارُوا خَمْسَمِائَةٍ، وَسَارَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
حَتَّى وطئ بلاد بليّ ودوّخها، وكلّما [80 ب] انْتَهَى إِلَى
مَوْضِعٍ بَلَغَهُ أَنَّهُ كَانَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ جَمْعٌ،
فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ تَفَرَّقُوا حَتَّى انتهى إِلَى أَقْصَى
بِلادِ بَلِيٍّ وَعُذْرَةَ وَبَلْقَيْنَ [2] . وَلَقِي فِي آخِرِ
ذَلِكَ جَمْعًا، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ.
وَرُمِيَ يَوْمَئِذٍ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَأُصِيبَ ذراعه.
وحمل المسلمون عليهم فهربوا وأعجزوها هَرَبًا فِي الْبِلادِ.
وَدَوَّخ عَمْرٌو مَا هُنَاكَ. وَأَقَامَ أَيَّامًا يُغِيرُ
أَصْحَابُهُ عَلَى الْمَوَاشِي.
(وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ:
بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو
بْنَ الْعَاصِ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلاسِلِ، فَأَصَابَهُمْ
بَرْدٌ فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: لا يُوقِدَنَّ أَحَدٌ نَارًا.
فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شَكَوْهُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَانَ فِي
أَصْحَابِي قِلَّةٌ فَخَشِيتُ أَنْ يَرَى الْعَدُوُّ قِلَّتَهُمْ،
وَنَهَيْتُهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا الْعَدُوَّ مَخَافَةَ أَنْ
يَكُونَ لَهُمْ كَمِينٌ. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) [3] .
وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ
ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ،
فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِيَ الصُّبْحَ.
فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: «يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ» .
فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ:
إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً 4: 29
__________
[1] المغازي 2/ 769، 770.
[2] بلقين: وهي في البخاري برسم «بني القين» ، قبيلة من العرب
المستعربة.
[3] لم يرد هذا الخبر في الأصل، ع، وتفرّدت به ح وأثبتناه عنها.
وقد رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق 13/ 254 ب.
(2/516)
[1] ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا [2] . وَقَالَ عَمْرُو
بْنُ الْحَارِثِ. وَغَيْرُهُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ،
عَنْ عِمْرَانَ ابن أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ
عَمْرًا كَانَ عَلَى سَرِيَّةٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. قَالَ: فَغَسَلَ
مَغَابِنَهُ [3] ، وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ صَلَّى
بِهِمْ. لَمْ يَذْكُرِ التَّيَمُّمَ. أَخْرَجَهُمَا أَبُو دَاوُدَ
[4] .
غزوة سيف البحر [5]
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عن عمرو بن جَابِرٍ: بَعَثَنَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ،
وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، نَرْصُدُ عِيرًا
لِقُرَيْشٍ. فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ، حَتَّى أَكَلْنَا
الْخَبَطَ [6] فَسُمِّيَ جَيْشَ الْخَبَطِ.
قَالَ: وَنَحَرَ رَجُلٌ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ
جَزَائِرَ، ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا
عُبَيْدَةَ نَهَاهُ. قَالَ: فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً
يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ
وَادَّهَنَّا مِنْهُ، حَتَّى ثَابَتْ مِنْهُ أَجْسَامُنَا
وَصَلُحَتْ، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ،
فَنَظَرَ إِلَى رَجُلٍ فِي الْجَيْشِ وَأَطْوَلَ جَمَلٍ
__________
[1] سورة النساء: من الآية 29.
[2] إسناده صحيح. أخرجه أبو داود (335) في الطهارة، باب إذا خاف
الجنب البرد تيمّم، والبيهقي 1/ 226 من طريق ابن وهب، عن ابن
لهيعة، وعمرو بن الحارث بهذا الإسناد، وصحّحه ابن حبّان (202) ،
ورواه ابن عساكر 13/ 255 ب، وصحّحه الحاكم 1/ 177، ووافقه الذهبي
في التلخيص، وحسّنه المنذري.
[3] المغابن: الأرفاغ، وهي بواطن الأفخاذ عند الحوالب جمع مغبن من
غبن الثوب: إذا ثناه وعطفه.
[4] سنن أبي داود: كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمّم؟
(334 و 335) ، وانظر مصادر تخريج الحديث الّذي قبله، وزاد المعاد
3/ 388، وتاريخ اليعقوبي 2/ 75.
[5] وتعرف بسريّة الخبط. (انظر طبقات ابن سعد 2/ 132 والمغازي
للواقدي 2/ 774) .
[6] الخبط: ورق العضاة من الطلح والسلم ونحوه يخبط بالعصا فيتساقط،
وكانت تعلفه الإبل.
يقال: عضه البعير، كفرح إذا اشتكى من أكل العضاة ورعيه.
(2/517)
فَحَمَلَهُ عَلَيْهِ وَمَرَّ تَحْتَهُ.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [1] .
[2] (زاد البخاري [3] في حديث عمرو بن جَابِر: قَالَ جَابِر: وكان
رَجُل فِي القوم نحر ثلاث جزائر، ثم ثلاثا، ثمّ ثلاثًا. ثمّ إنّ
أَبَا عُبَيْدة نهاه.
قَالَ: وكان عَمْرو يَقُولُ: نا أَبُو صالح أنّ قيس بْن سعد قَالَ
لأبيه: كنت فِي الجيش فجاعوا قَالَ أَبُوهُ: انْحَرْ. قَالَ: نحرت،
قال: ثم جاعوا. قال:
انحر قال: نحرت، قال: ثم جاعوا. قال: انحر. قال: نُهِيت) .
وقال مالك، عَنْ وهْب بْن كَيْسان، عَنْ جَابِر قَالَ: بَعَثَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثًا قِبَل
الساحل، وأمرّ عليهم أبا عبيدة وهم ثلاثمائة وأنا فيهم. حتّى إذا
كنّا ببعض الطريق فني الزّاد. فأمر أَبُو عُبَيْدة بأزواد ذَلِكَ
الجيش، فجُمِع ذَلِكَ كلّه. فكان مِزْوَدَيْ تمر، فكان يقوتنا كلّ
يوم قليلا قليلا، حتى فني. ولم يكن يصيبنا إلّا تمرة تمرة. قَالَ
فقلت: وما تُغني تمرة؟ قَالَ: لقد وجدنا فَقْدَنا حين فنِيَتْ. ثمّ
انتهينا إلى البحر، فإذا حُوت مثل الظَّرِب [4] ، فأكل منه ذَلِكَ
الجيش ثماني عشرة ليلة. ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا،
ثمّ أمر براحلةٍ فرُحِلَت، ثمّ مُرَّت تحتهما [5] فلم تُصِبْهما.
أخرجاه [6] .
وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عن أبي الزّبير، عن جابر [90
أ] قَالَ: بَعَثَنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزُوِّدْنَا جِرَابًا مِنْ تمر.
فكان أبو عبيدة
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة سيف البحر 5/ 113 وصحيح
مسلم (1935) كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة ميتة البحر.
[2] هذا الخبر مما تفردت به ح وأثبتناه عنها.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة سيف البحر. (5/ 114) .
[4] الجبل الصغير. (النهاية في غريب الحديث 3/ 54) .
[5] في طبعة القدسي 481 «مرّ» وما أثبتناه عن صحيح البخاري.
[6] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة سيف البحر 5/ 114 وصحيح
مسلم (1935) كتاب الصيد والذبائح. باب إباحة ميتة البحر وانظر،
المغازي للواقدي 2/ 777.
(2/518)
يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً. وَكُنَّا
نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ
فَنَأْكُلُهُ. فَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَرَفَعَ
لَنَا كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا دَابَّةٌ
تُدْعَى الْعَنْبَرُ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ ثُمَّ
قَالَ: لا، بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ
فَكُلُوا. فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلاثُمِائَةٍ
حَتَّى سَمِنَّا.
وَلَقَدْ كُنَّا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ [1] عَيْنِهِ بِالْقِلَالِ
الدُّهْنَ وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ [2] كَالثَّوْرِ.
وَلَقَدْ أَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا
فَأَقْعَدَهُمْ فِي عَيْنِهِ، وَأَخَذَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ
فَأَقَامَهَا ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمُ بَعِيرٍ مِنْهَا فَمَرَّ
تَحْتَهَا. وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ [3] فَلَمَّا
قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «هُوَ رِزْقٌ
أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ
تُطْعِمُونَنَا؟» قَالَ: فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَأَكَلَ. أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ [4] . قلت: زعم بعض النّاس أنّ هذه السرّية كانت فِي رجب
سنة ثمانٍ
سَرِيَّةُ أَبِي قَتَادَة إلى خَضِرَة [5]
قَالَ الواقديّ فِي مَغَازيه [6] : قَالُوا بَعَثَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا قَتَادَة بْن رِبْعيّ
الأنصاريّ إلى غَطَفان فِي خمسة عشر رجلا. وأمره. أن يشنّ عليهم
الغارة.
__________
[1] الوقب: كلّ نقر في الجسد كنقر العين والكتف. ووقب العين نقرتها
التي تستقرّ فيها. (انظر الصحاح 234) .
[2] الفدرة: القطعة من كلّ شيء. أو القطعة من اللّحم المطبوخ
البارد.
[3] الوشائق: جمع وشقية ووشيق. وهو اللّحم يقدّد حتى ييبس أو يغلي
إغلاءة ثم يقدّد.
[4] صحيح مسلم (1935) كتاب الصيد والذبائح. باب إباحة ميتة البحر.
وانظر: تاريخ الطبري 3/ 33، وسيرة ابن هشام 4/ 243، والمغازي
للواقدي 2/ 777، ونهاية الأرب 17/ 284، 285، وعيون الأثر 2/ 160،
والبداية والنهاية 4/ 276، وعيون التواريخ 1/ 286، 287، والسيرة
الحلبية 2/ 315.
[5] انظر عنها: الطبقات الكبرى 2/ 132، ونهاية الأرب 17/ 285، 286،
وعيون الأثر 2/ 161، وإمتاع الأسماع 1/ 356، وعيون التواريخ 1/
287، 288.
[6] انظر المغازي للواقدي، 2/ 887- 780.
(2/519)
فسار وهجم عَلَى حاضر منهم عظيم فأَحاط به.
فصرخ رجل منهم: يا خضرة [1] وقاتل منهم رجال فقتلوا من أشرف [2]
لهم. واستاقوا النَّعَم، فكانت مائتي بعيرٍ وألفَيّ [3] شاةٍ.
وسبوا سبيًا كثيرًا. وغابوا خمس عشرة ليلة. وذلك فِي شعبان من
السّنة.
ثمّ كانت سريَّتُه إلى إضَم [4] عَلَى أثر ذَلِكَ فِي رمضان [5] .
وَفَاةُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
وَكَانَتْ أَكْبَرَ بَنَاتِهِ. تُوُفِّيَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
[6] وَغَسَّلَتْهَا أُمُّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةُ
وَغَيْرُهَا. وَأَعْطَاهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَقْوَهُ [7] فَقَالَ: «أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» [8] .
وبِنْتُها أُمامة بِنْت أَبِي العاص [9] ، هي التي كَانَ النّبيّ
صَلَّى الله عليه وسلّم يحملها في الصّلاة.
__________
[1] خضرة: أرض لمحارب بنجد. وقيل هي بتهامة من أعمال المدينة.
(معجم البلدان 2/ 377) .
[2] في الأصل، ع: أشراف. والتصحيح من ح والواقدي 2/ 779 وطبقات ابن
سعد 2/ 132.
[3] في المغازي للواقدي 2/ 780 «ألف» والتصويب من المصادر الأخرى
للسريّة.
[4] إضم: بالكسر ثم الفتح، ماء يطؤه الطريق بين مكة واليمامة عند
السمينة. ويقال هو واد بجبال تهامة، وهو الوادي الّذي فيه المدينة.
ويسمّى من عند المدينة القناة، ومن أعلى منها عند السّدّ يسمّى
الشظاة، ومن عند الشظاة إلى أسفل يسمّى إضما إلى البحر. (معجم
البلدان 1/ 214، 215) .
[5] انظر عنها: سيرة ابن هشام 4/ 240، الطبقات الكبرى 2/ 133،
تاريخ الطبري 3/ 35، 36، نهاية الأرب 17/ 286، عيون الأثر 2/ 161،
162 إمتاع الأسماع 1/ 356.
[6] تاريخ خليفة 92، تاريخ الطبري 3/ 27.
[7] الحقو: الكشح، ويطلق مجازا على الإزار. يقال رمى فلان بحقوه
إذا رمى بإزاره.
[8] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 8/ 35 من طريق معن بن عيسى،
عن مالك بن أنس، عن أيوب، عن محمد بن سيرين.
[9] انظر عنها (الإصابة 4/ 23 رقم 70) .
(2/520)
فتح مكة [1] «زادها اللَّه شرفًا» [2]
قَالَ البكّائي، عَنِ ابن إِسْحَاق [3] : ثمّ إنّ بني بَكْر بْن
عَبْد مَنَاة بْن كِنانة عدت عَلَى خُزَاعَة [4] ، وهم عَلَى ماءٍ
بأَسفل مكة يقال لَهُ الوَتير [5] . وكان الَّذِي هاج ما بين بَكْر
وخُزَاعة رجلًا من بني الحَضْرَميّ [6] خرج تاجرًا، فلمّا توسّط
أرضَ خُزاعة عَدَوا عَلَيْهِ فقتلوه وأخذوا ماله. فَعَدَت بنو بكرٍ
عَلَى رجلٍ من خُزاعةَ فقتلوه، فَعَدَتْ خُزَاعة قُبَيْل الإسلام
على سلمى وكلثوم وذؤيب
__________
[1] انظر عن الفتح: سيرة ابن هشام 4/ 84، طبقات ابن سعد 2/ 134،
تاريخ اليعقوبي 2/ 58، تاريخ خليفة 87، المغازي لعروة 208، المغازي
للواقدي 2/ 780، فتوح البلدان 1/ 41، تاريخ الطبري 3/ 42، الروض
الأنف 4/ 95، عيون الأثر 2/ 163، البداية والنهاية 4/ 278، نهاية
الأرب 17/ 287، عيون التواريخ 1/ 288، الدرر في المغازي والسير
لابن عبد البرّ 224، جوامع السيرة لابن حزم 223، السنن الكبرى
للبيهقي 9/ 120، فتح الباري لابن حجر 8/ 4، صحيح البخاري 5/ 89،
صحيح مسلم 3/ 1405 (1780) جامع الأصول لابن الأثير 8/ 358.
[2] هذا الدعاء من زيادات الأصل ولم يرد في ع، ح.
[3] سيرة ابن هشام 4/ 84.
[4] بنو بكر: بطن من كنانة بن خزيمة من العدنانية. وخزاعة: قبيلة
من الأزد من القحطانية، اختلف في نسبهم بين المعديّة واليمانيّة.
[5] الوتير ماء لخزاعة بأسفل مكة، قيل إنه ما بين عرفة إلى أدام.
[6] هو فيما يرويه ابن هشام: مالك بن عبّاد الحضرميّ، وكذا عند
الطبري 3/ 43.
(2/521)
بني الأسود بْن رَزْن الدّيليّ، وهم
مَنْخَر [1] بني كنانة وأشرافهم، فقتلوهم بعرفة.
فبينا [90 ب] بنو بَكْر وخُزاعة عَلَى ذَلِكَ حَجَز بينهم
الْإِسْلَام، وتشاغل النّاس بِهِ. فلمّا كَانَ صُلح الحُدَيْبية
بين رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين قريش،
كَانَ فيما شرطوا لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَشَرَطَ لهم أنّه مَن أحبَّ أنَّ يدخل فِي عقد رسول
الله وعهده فليدخل فيه [2] ومن أحبَّ أنَّ يدخل فِي عقد قريش
وعهدهم فلْيدْخل فِيهِ. فدخلت بنو بَكْر فِي عقد قريش، ودخلت
خُزاعة فِي عقد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مؤمنُها وكافرُها.
فلمّا كانت الهدنةُ اغتنمها بنو الدّيْل، أحد بني بَكْر من خُزاعة،
وأرادوا أنَّ يصيبوا منهم ثأرًا بأولئك الإِخوة. فخرج نوفل بْن
معاوية الدِّيليّ فِي قومه حتّى بيت خُزاعة عَلَى الوَتِير،
فاقتتلوا. ورَدَفَتْ قريشٌ بني الديل بالسلاح، وقومٌ من قريش أعانت
خُزاعة بأنفسهم، مُسْتَخفين بذلك، حتّى حازوا [3] خُزاعة إلى
الحَرَم. فقال قومُ نوفل، اتقِ إلهك ولا تَسْتَحِلّ الحَرَم. فقال:
لا إله لي اليوم، والله يا بني كِنانة إنّكم لَتَسْرِقون فِي
الحَرَم، أفلا تصيبون فِيهِ ثأركم؟ فقتلوا رجلًا من خُزاعة. ولجأت
خُزاعة إلى دار بُدَيْل بْن وَرقاء الخُزَاعي، ودار رافع مولى
خُزاعة.
فلمّا تظاهر [4] بنو بَكْر وقريش عَلَى خُزاعة، كَانَ ذَلِكَ
نقْضًا للهُدنة التي بينهم وبين رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وخرج عَمْرو بْن سالم الخزاعيّ فقدم على
النّبيّ
__________
[1] في طبعة القدسي 485 «مفخر» والتصحيح من سيرة ابن هشام، وتاريخ
الطبري. والمنخر هم المتقدّمون، لأن الأنف هو المقدّم من الوجه.
[2] في النسخ الثلاث (معه) وما أثبتناه عن السيرة، وتاريخ الطبري.
[3] في الأصل: جازوا. وحازوهم: ساقوهم.
[4] في السيرة 4/ 86 وتاريخ الطبري 3/ 44 «تظاهرت» .
(2/522)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
طائفةٍ مستغيثين بِهِ، فوقف عَمْرو عَلَيْهِ، وهو جالس فِي المسجد
بين ظَهْرَيِ [1] النّاس فقال:
يا ربّ إنّي ناشدٌ محمَّدا ... حلف أبينا وأبيه الأْتلَدا
قد كنتُمُ ولدًا وكنّا والدا ... ثمت أَسْلَمنا فلم ننزعْ يَدَا
فانصُرْ هَدَاك اللَّه نَصْرًا أعْتَدَا ... وادع عبادَ اللَّه
يأتُوا مَدَدا
فيهم رَسُول اللَّهِ قد تجرَّدا ... إنْ سِيمَ خسفًا وجهه
تَرَبّدَا
فِي فيلق كالبحر يجري مُزْبدا ... إنّ قُريشًا أَخْلفوك المَوْعِدا
ونقضوا ميثاقَكَ المُؤَكَّدا ... وجعلوا لي فِي كَدَاءَ رَصَدا
وزعموا أنْ لستُ أدعو أحدَا ... وهم أذَلُّ وأقَلُّ عَدَدا
هم بَيَّتُونا بالوَتِير هُجَّدا ... وقتلونا رُكَّعًا وسجدا
فانصُرْ، هداكَ اللَّه، نصرًا أيّدا [2]
فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«نُصِرْتَ يا عَمْرو بْن سالم» .
ثمّ عُرِضَ لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عنان [3] من السّماء، فقال: إنّ هذه السحابة لتستهلّ [4] بنصر بني
كعب، يعني خُزاعة. ثمّ قدم بُدَيل بْن وَرْقاء فِي نفرٍ من خُزاعة
عَلَى النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه. وقال
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كأنّكم بأبي
سُفْيَان قد جاءكم ليشدّ العقْد ويزيد فِي الْمُدَّةِ. ومضى
بُدَيْل وأصحابه فلقوا أَبَا سُفْيَان ابن حرب بعُسْفان، قد جاء
ليشدّ العقد ويزيد في المدّة، وقد رهبوا الّذي
__________
[1] يقال هو بين ظهريهم وظهرانيهم أي وسطهم وفي معظمهم.
[2] انظر الأبيات في السيرة، والمغازي للواقدي 2/ 789، تاريخ
الطبري 3/ 45، نهاية الأرب 17/ 287، 288، عيون التواريخ 1/ 288،
عيون الأثر 2/ 164 البداية والنهاية 4/ 278، وشفاء الغرام بتحقيقنا
2/ 175.
[3] العنان: السحاب، واحدته عنانة.
[4] استهلّ المطر، واستهلّ السّحاب بالمطر: اشتدّ انصبابه وارتفع
صوت وقعه.
(2/523)
صنعوا. فلمّا لقى بُدَيْل بْن وَرْقَاء
قَالَ: من أَيْنَ أقبلت يا بُدَيْل؟ وظنّ إِنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: سرتُ فِي خُزاعة على
الساحل. قَالَ: أَوَ ما جئتَ محمّدًا؟ قَالَ: لا. فلمّا راح
بُدَيْل إلى مكة قَالَ أَبُو سُفْيَان: لئن كَانَ جاء إلى المدينة
لقد علف بها النَّوى. فأتى مَبْرَكَ راحلته ففتَّه فرأى فِيهِ
النَّوى فقال: أحلِفُ باللَّه لقد أتى محمَّدًا.
ثمّ قدِم أبو سُفْيَان المدينةَ فدخل عَلَى ابنته أمّ حبيبة أمّ
المؤمنين. فلمّا ذهب ليجلس عَلَى فراش رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوَتْه عَنْهُ، فقال: ما أدري
أَرَغِبْتِ بي عَنْ هذا الفراش أم رغبت بِهِ عنّي؟ قالت: بل هو
فراش رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ
رجلٌ مُشْرِكٌ، نجس. قَالَ: والله لقد أصابك يا بُنَيَّةُ بعدي
شَرٌّ.
ثمّ خرج حتّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فلم يردّ عَلَيْهِ شيئًا. فذهب إلى أَبِي بَكْر فكلّمه
أنَّ يكلّم لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: ما أنا بفاعل. ثمّ أتى إلى عُمَر فكلّمه فقال: أنا أشفع
لكم إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فو
الله لو لم أجد إلّا الذر لجالَدْتُكُم عَلَيْهِ. ثمّ خرج حتّى أتى
عليًّا وعنده فاطمة وابنها الحَسَن وهو غلام يَدبّ، فقال: يا عليّ
إنّك أَمَسُّ القوم بي رَحِمًا، وإنّي قد جئت فِي حاجةٍ فلا أرجعنّ
كما جئت خائبا، فاشفع لي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ويْحَك يا أَبَا سُفْيَان، لقد عزم
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أمرٍ ما
نستطيع أنَّ نكلّمه فِيهِ.
فالتفت إلى فاطمة فقال: يا ابْنَة مُحَمَّد، هَلْ لك أنَّ تأمري
بُنَيَّكِ هذا فيجير بين النّاس فيكون سيّد العرب إلى آخر الدَّهر؟
قالت: والله ما بلغ بُنيَّ ذَلِكَ، وما يجير أحدٌ عَلَى رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: يا أَبَا حَسَن، إنّي أرى الأمور قد اشتدّت عليّ فانصحني.
قَالَ:
والله ما أعلم شيئًا يغني عنك، ولكنك سيّد بني كِنانة، فقُم
فأَجِرْ بين النّاس ثمّ الحقْ بأرضك. قَالَ: أو ترى ذَلِكَ
مُغْنِيًا عنّي؟ قَالَ: لا والله ما أظنّه،
(2/524)
ولكنْ لا أجد لك غيرَ [ذَلِكَ] [1] . فقام
أَبُو سُفْيَان فِي المسجد فقال: أيّها النّاس إنّي قد أجَرتْ بين
النّاس. ثمّ ركب بعيره وانطلق. فلمّا قدِم عَلَى قريش، قالوا: ما
وراءك؟ فقصّ شأنَه، وأنّه أجار بين النّاس. قالوا: فهل أجاز ذَلِكَ
مُحَمَّد؟ قَالَ: لا. قالوا: والله إنْ زاد الرجلُ عَلَى أنْ
لَعِبَ بك.
ثمّ أَمْرُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بالجهاز، وأمر أهله أن يجهّزوه. ثم أعلى النّاس بأنّه يريد مكة،
وقال: اللَّهمّ خُذْ العيونَ والأخبارَ عَنْ قريش حتّى نَبْغَتَهُم
فِي بلادهم. فعن عُرْوة وغيره قالوا: لما أجمع رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْرَ إلى مكة، كتب حاطب
بْن أَبِي بلتعة إلى قريش بذلك مَعَ امْرَأَة، فجعلته فِي رأسها ثم
فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونها ثم خرجت بِهِ. وأتى النّبيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحيُ بفعْله. فأرسل فِي طلبها عليًّا
والزُّبير. وذكر الحديث [2] .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحَرَمِ القرشيّ [91 ب]
وَجَمَاعَةٌ، قَالُوا: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى
الْمَخْزُومِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رِفَاعَةَ، أَنَا
عَلِيُّ بْنُ الحسن الشافعي، أنا عبد الرحمن بن عمر بْنِ
النَّحَّاسِ، أَنْبَأَ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ
السَّمَرْقَنْدِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَعْبَانَ، ثَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ حَسَنِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ-
وَهُوَ كَاتِبُ عَلِيٍّ- قَالَ:
سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، قَالَ:
انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ [3] ، فَإِنَّ بِهَا
ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا.
__________
[1] سقطت من الأصل وأثبتناها من ع، ح، ومن السيرة لابن هشام 4/ 87،
وتاريخ الطبري 3/ 47.
[2] انظر سيرة ابن هشام 4/ 84- 88، تاريخ الطبري 3/ 42- 49،
المغازي للواقدي 2/ 780- 798، نهاية الأرب 17/ 287- 291، عيون
الأثر 2/ 163- 167، البداية والنهاية 4/ 278- 283، عيون التواريخ
1/ 288- 291، شفاء الغرام 2/ 176- 178.
[3] روضة خاخ: موضع بين الحرمين بقرب حمراء الأسد من المدينة.
ذكرها ياقوت ولم يعرّف بموقعها (معجم البلدان 2/ 88) .
(2/525)
فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا
حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ. قُلْنَا: أَخْرِجِي
الْكِتَابَ قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، قُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ
الْكِتَابَ أَوْ لَنَقْلَعَنَّ الثِّيَابَ. فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ
عِقَاصِهَا [1] فَأَتَيْنَا بِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي
بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ
أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَاطِبُ مَا
هَذَا» ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ الله لا تعجل، إنّي كنت امرأ
مُلْصَقًا [2] فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا،
وَكَانَ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَعَكَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ
يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَكُنْ لِي
قَرَابَةٌ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا- إِذْ
فَاتَنِي ذَلِكَ- يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُهُ
كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ
الْإِسْلامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ» . فَقَالَ عُمَرُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ دَعْني أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ.
قَالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ
اللَّهَ تَعَالَى اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا
مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ [3] وَمُسْلِمٌ عَنِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ [4] وَأبَوُ دَاوُدَ عَنْ مُسَدَّدٍ [5]
كلّهم عن سفيان [6] .
__________
[1] العقاص: جمع عقيصة، وهي ضفيرة الشعير.
[2] عند السهيليّ في الروض الأنف 4/ 98 «كنت عريرا» ثم فسّر العرير
وقال: هو الغريب.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الفتح. (5/ 89) وهو عن
قتيبة عن سفيان بالسند المذكور. وباب فضل من شهد بدرا، وفي كتاب
الجهاد، باب الجاسوس، وباب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل
الذمّة والمؤمنات إذا عصين الله وتجريدهنّ، وفي تفسير سورة
الممتحنة في فاتحتها، وفي الاستئذان، باب من نظر في كتاب من يحذر
من المسلمين ليستبين أمره، وفي استتابة المرتدّين، باب ما جاء في
المتأولين. (جامع الأصول 8/ 360، 361) .
[4] صحيح مسلم (2494) كتاب فضائل الصحابة. باب من فضائل أهل بدر
وقصة حاطب بن أبي بلتعة.
[5] سنن أبي داود: كتاب الجهاد. باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما
(2/ 44) .
[6] وأخرجه الترمذي رقم (3302) في تفسير القرآن، باب ومن سورة
الممتحنة. وانظر سيرة ابن هشام 4/ 88.
(2/526)
أَبُو حُذَيْفَةَ النَّهْدِيُّ [1] : ثنا
عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: قال عمر: كَتَبَ حَاطِبٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ
بِكِتَابٍ فَجِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا حَاطِبُ مَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا؟ قَالَ:
كَانَ أَهْلِي فِيهِمْ وَخَشِيتُ أَنْ يَصْرِمُوا عَلَيْهِمْ،
فَقُلْتُ أَكْتُبُ كِتَابًا لا يَضُرُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
فَاخْتَرَطْتُ [2] السَّيْفَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَضْرِبُ عُنُقَهُ فَقَدْ كَفَرَ. فَقَالَ:
«وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهُ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ
فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ [3] .
وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ نَحْوَهُ [4] ، وَزَادَ: فَنَزَلَتْ: يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِياءَ 60: 1 [5] . وعن ابن إِسْحَاق [6] ، قَالَ: عَنِ ابن
عبّاس قَالَ: ثمّ مضى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لسَفَره، واستعمل عَلَى المدينة أَبَا رُهْم الغِفَاريّ.
وخرج لعشْرٍ مضين من رمضان. فصام وصام النّاس معه، حتّى إذا كَانَ
بالكُدَيْد، بين عُسْفان وأمَج أفطر. اسم أبي رُهْم: كُلْثوم بْن
حُصَيْن.
وقال سَعِيد بْن بشير، عَنْ قَتَادَة: إنّ خُزاعة أسلمت فِي دارهم،
فقبل رسولا اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إسلامَها،
وجعل إسلامها فِي دارها.
وقال سَعِيد بْن عَبْد العزيز، وَغَيْرُهُ: إِنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدخل فِي عهده يوم الحُدّيبية
خزاعة.
__________
[1] في الأصل: الزيدي. والتصحيح من ع، ح ومن ترجمته في تهذيب
التهذيب (10/ 370) .
[2] في الأصل: فاختطفت. وأثبتنا عبارة ع، ح.
[3] قال ابن كثير في البداية والنهاية 4/ 284: أخرجه بقية الجماعة
إلا ابن ماجة من حديث سفيان ابن عيينة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وانظر الطبري 3/ 49.
[4] سيرة ابن هشام 4/ 88.
[5] سورة الممتحنة: من الآية الأولى.
[6] سيرة ابن هشام 4/ 88، تاريخ الطبري 3/ 50، شفاء الغرام 2/ 180.
(2/527)
وقال [92 أ] الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ:
أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: كَانَتْ خُزَاعَةُ حِلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنُفَاثَةُ [1] حِلْفَ أَبِي سُفْيَانَ.
فَعَدَتْ نُفَاثَةُ على خزاعة، فأمدّتها قريش. فلم يغز رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا حَتَّى
بَعَثَ إِلَيْهِمْ ضَمْرَةَ، فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ إِحْدَى ثَلاثٍ:
أَنْ يَدُوا قَتْلَى خُزَاعَةَ، وَبَيْنَ أَنْ يَبْرَءُوا مِنْ
حِلْفِ نُفَاثَةَ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ على سواء. قالوا:
ننبذ عَلَى سَوَاءٍ. فَلَمَّا سَارَ نَدَمَتْ قُرَيْشٌ،
وَأَرْسَلَتْ أَبَا سُفْيَانَ يَسْأَلُ تَجْدِيدَ الْعَهْدِ.
وَقَالَ: ابْنُ لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال [2] : كَانَتْ
بَيْنَ نُفَاثَةَ مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَبَيْنَ بَنِي كَعْبٍ،
حَرْبٌ. فَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ وَبَنُو كِنَانَةَ بَنِي نُفَاثَةَ
عَلَى بَنِي كَعْبٍ. فَنَكَثُوا الْعَهْدَ إِلَّا بَنُو مُدْلِجٍ،
فَإِنَّهُمْ وَفَوْا بِعَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَشِعْرَ عَمْرِو بْنِ
سَالِمٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْ بَنِي كَعْبٍ مِمَّا
أَنْصُرُ مِنْهُ نَفْسِي» . فَأَنْشَأَتْ سَحَابَةٌ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذِهِ
السَّحَابَةَ تَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ، أَبْصِرُوا أَبَا
سُفْيَانَ فَإِنَّهُ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ يَلْتَمِسُ تَجْدِيدَ
الْعَهْدِ وَالزِّيَادَةَ فِي الْمُدَّةِ» [3] .
فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ جدّد العهد
وَزِدْنَا فِي الْمُدَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ لِذَلِكَ قَدِمْتَ؟ هَلْ كان من حَدَثَ
قَبْلَكُمْ؟» قَالَ:
مَعَاذَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «فَنَحْنُ عَلَى عَهْدِنَا وَصُلْحِنَا» . ثُمَّ ذَكَرَ
ذَهَابَهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ،
وَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَنْتَ أَكْبَرُ قُرَيْشٍ فَأَجِرْ
بَيْنَهَا.
قَالَ: صَدَقْتَ إِنِّي كَذَلِكَ فَصَاحَ: أَلا إِنِّي قَدْ
أَجَرْتُ بين النّاس، وما أظنّ أن يردّ جِوَارِي وَلا يَحْقِرَ
بِي. قَالَ: أَنْتَ تَقُولُ ذاك يا أبا حنظلة؟ ثم خرج.
__________
[1] نفاثة: بطن من كنانة من بني الدئل بن بكر بن عبد مناة.
[2] المغازي لعروة 208.
[3] انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 134 والمغازي للواقدي 2/ 791.
(2/528)
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَدْبَرَ: «اللَّهمّ سُدَّ عَلَى
أَبْصَارِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ فَلا يَرَوْنِي إِلا بَغْتَةً» .
فَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَحَدَّثَ
قَوْمَهُ، فَقَالُوا: أَرَضِيتَ بِالْبَاطِلِ وَجِئْتَنَا بِمَا لا
يُغْنِي عَنَّا شَيْئًا، وَإِنَّمَا لَعِبَ بِكَ عَلَيَّ.
وَأَغْبَرَ [1] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الْجِهَازِ، مُخْفِيًا لِذَلِكَ. فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى
ابْنَتِهِ، فَرَأَى شَيْئًا مِنْ جِهَازِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، فأنكر وقال: أين يريد رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ:
تَجَهَّزَ [2] ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غَازٍ قَوْمَكَ، قَدْ غَضِبَ لِبَنِي كعب. فدخل رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشْفَقَتْ عَائِشَةُ
أَنْ يَسْقُطَ أَبُوهَا بِمَا أَخْبَرَتْهُ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، فأشارت إلى أبيها
بعينها، فسكت. فمكث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَاعَةً يَتَحَدَّثُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ قَالَ:
«هَلْ تَجَهَّزْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ؟ قَالَ: لِمَاذَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِغَزْوِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُمْ قَدْ
غَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وَإِنَّا غَازُونَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ» .
وَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْغَزْوِ، فَكَتَبَ حَاطِبٌ إِلَى
قُرَيْشٍ فَذَكَرَ حَدِيثَهُ. وَقَالَ:
ثُمَّ [3] خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي اثني عشر ألفا من المهاجرين، [92 ب] وَالأَنْصَارِ،
وَأَسْلَمَ، وَغِفَارٍ، وَمُزَيْنَةَ، وَجُهَيْنَةَ، وَبَنِي
سُلَيْمٍ. وَقَادُوا الْخُيُولَ حَتَّى نَزَلُوا بِمَرِّ
الظَّهْرَانِ، وَلَمْ تَعْلَمْ بِهِمْ قُرَيْشٌ. قَالَ، فَبَعَثُوا
حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ وَأَبَا سُفْيَانَ وَقَالُوا: خُذُوا لَنَا
جِوَارًا أَوِ آذِنُوا [4] بِالْحَرْبِ. فَخَرَجَا فَلَقِيَا
بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ فَاسْتَصْحَبَاهُ، فَخَرَجَ مَعَهُمَا
حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالأَرَاكِ [5] بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ
عِشَاءً، رَأَوُا الْفَسَاطِيطَ وَالْعَسْكَرَ، وسمعوا صهيل الخيل
ففزعوا. فقال:
__________
[1] أغبر في الأمر: جدّ في طلبه.
[2] في الأصل: نجهزه والتصحيح من ح.
[3] من هنا يبدأ الحديث في المطبوع من المغازي لعروة 209.
[4] في مغازي عروة «آذنوه» .
[5] الأراك: فرع من دون ثافل (جبل) قرب مكة، وقيل موضع من نمرة في
موضع من عرفة.
(معجم البلدان 1/ 135) .
(2/529)
هَؤُلاءِ بَنُو كَعْبٍ جَاشَتْ بِهِمُ
الْحَرْبُ. قَالَ بديل: هؤلاء أكثر من بني كعب، ما بلغ تأليبها
هَذَا [1] .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَ
بَيْنَ يَدَيْهِ خَيْلا [2] لا يَتْرُكُونَ أَحَدًا يَمْضِي.
فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ عَسْكَرَ
الْمُسْلِمِينَ أَخَذَتْهُمُ الْخَيلُ تَحْتَ اللَّيْلِ وَأَتَوْا
بِهِمْ. فَقَامَ عُمَرُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ فَوَجَأَ عُنُقَهُ،
وَالْتَزَمَهُ الْقَوْمُ وَخَرَجُوا بِهِ لِيَدْخُلُوا عَلَى
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم به، فحسبه الْحَرَسُ أَنْ يَخْلُصَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَافَ
الْقَتْلَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
خَالِصَةً لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ:
أَلا تَأْمُرُ بِي [3] عَبَّاسُ؟ فَأَتَاهُ فَدَفَعَ عَنْهُ،
وَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ. فَرَكِبَ بِهِ تَحْتَ اللَّيْلِ، فَسَارَ
بِهِ فِي عَسْكَرِ الْقَوْمِ حَتَّى أَبْصَرَهُ [4] أَجْمَعَ.
وَكَانَ عُمَرُ قَالَ لَهُ حِينَ وَجَأَهُ: لا تَدْنُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَمُوتَ.
فَاسْتَغَاثَ بِالْعَبَّاسِ وَقَالَ: إِنِّي مَقْتُولٌ. فَمَنَعَهُ
مِنَ النَّاسِ. فَلَمَّا رَأَى كَثْرَةَ الْجَيْشِ قَالَ: لَمْ
أَرَ كَاللَّيْلَةِ جَمْعًا لِقَوْمٍ. فَخَلَّصَهُ [5] عَبَّاسٌ
مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَقَالَ: إِنَّكَ مَقْتُولٌ إِنْ لَمْ تُسْلِمْ
وَتَشْهَدْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَجَعَلَ يُرِيدُ
أَنْ يقول الّذي يأمره عبّاس، ولا ينطلق بِهِ لِسَانُهُ وَبَاتَ
مَعَهُ.
وَأَمَّا حَكِيمٌ وَبُدَيْلٌ فَدَخَلا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَا. وَجَعَلَ
يَسْتَخْبِرُهُمَا عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ.
فَلَمَّا نُودِيَ بِالْفَجْرِ تَجَسَّسَ الْقَوْمُ، فَفَزِعَ أَبُو
سفيان وقال: [يا] [6]
__________
[1] في المغازي لعروة زيادة بعدها: «أفتنتجع هوازن أرضنا؟ والله ما
نعرف هذا أيضا إن هذا لمثل حاج النّاس» .
[2] في المغازي لعروة 209 «بين يديه خيلا تقبض العيون وخزاعة على
الطريق لا يتركون أحدا يمضي» . وانظر فتح الباري لابن حجر 8/ 7.
[3] في المغازي لعروة 209 «لي» .
[4] في المغازي لعروة 209 «أبصروه» .
[5] في الأصل: فجعله. والتصحيح من ح. ومغازي عروة 210.
[6] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ح. ومن مغازي عروة.
(2/530)
عَبَّاسُ، مَا يُرِيدُونَ؟ قَالَ: سَمِعُوا
النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ فَتَبَشَّرُوا [1] بِحُضُورِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَبْصَرَهُمْ أَبُو
سُفْيَانَ يَمُرُّونَ إِلَى الصَّلاةِ، وَأَبْصَرَهُمْ يَرْكَعُونَ
وَيَسْجُدُونَ إِذَا سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: يَا عَبَّاسُ، مَا يَأْمُرُهُمْ بِشَيْءٍ إِلا
فَعَلُوهُ؟! فَقَالَ:
لَوْ نَهَاهُمْ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لأَطَاعُوهُ،
فَقَالَ، يَا عَبَّاسُ، فَكَلِّمْهُ فِي قَوْمِكَ، هَلْ عِنْدَهُ
مِنْ عَفْوٍ عَنْهُمْ؟ فَانْطَلَقَ عَبَّاسٌ بِأَبِي سُفْيَانَ
حَتَّى أَدْخَلَهُ على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ.
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مُحَمَّدُ قَدِ اسْتَنْصَرْتَ
بِإِلَهِي واستنصرت بإلهك، فو الله مَا لَقِيتُكَ مِنْ مَرَّةٍ
إِلا ظَهَرْتَ عَلَيَّ، فَلَوْ كَانَ إِلَهِي مُحِقًّا وَإِلَهُكَ
بَاطِلا ظَهَرْتُ عَلَيْكَ، فَأَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلا
اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ.
وَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ
تَأْذَنَ لِي إلى قومك فأنذرهم مَا نَزَلَ بِهِمْ، وَأَدْعُوهُمْ
إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَأَذِنَ لَهُ. قَالَ: كَيْفَ أَقُولُ
لَهُمْ؟ قَالَ: «من قال لا إله إلّا الله [93 أ] وَحْدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَشَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
وَكَفَّ يَدَهُ، فَهُوَ آمِنٌ. وَمَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ
وَوَضَعَ سِلاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ. وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ
فَهُوَ آمِنٌ» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبُو سُفْيَانَ
ابْنُ عَمِّنَا، فَأُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ مَعِي، وَقَدْ خَصَصْتَهُ
[2] بِمَعْرُوفٍ. فَقَالَ:
مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ. فَجَعَلَ أَبُو
سُفْيَانَ يَسْتَفْهِمُهُ [3] . وَدَارَ أَبِي سُفْيَانَ بِأَعْلَى
مَكَّةَ. وَقَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارَكَ يَا حَكِيمُ فَهُوَ آمِنٌ.
وَدَارُ حَكِيمٍ فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ.
وَحَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعَبَّاسَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ الَّتِي أَهْدَاهَا
إِلَيْهِ دِحْيةُ الْكَلْبِيُّ، فَانْطَلَقَ الْعَبَّاسُ وَأَبُو
سُفْيَانَ قَدْ أَرْدَفَهُ. ثُمَّ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِثْرِهِ، فَقَالَ: أَدْرِكُوا
الْعَبَّاسَ فَرُدُّوهُ عَلَيَّ. وَحَدَّثَهُمْ بِالَّذِي خَافَ
عَلَيْهِ. فَأَدْرَكَهُ
__________
[1] في المغازي لعروة «يتيّسرون لحضور» .
[2] في المغازي لعروة: 21 «فلو اختصصته بمعروف» .
[3] في المغازي لعروة «يستفقهه» .
(2/531)
الرَّسُولُ، فَكَرِهَ عَبَّاسٌ الرُّجُوعَ،
وَقَالَ: أَتَرْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَرْجِعَ أَبُو
سُفْيَانَ رَاغِبًا فِي قِلَّةِ النَّاسِ فَيَكْفُرَ بَعْدَ
إِسْلامِهِ؟ فَقَالَ: احْبِسْهُ فَحَبَسَهُ. فَقَالَ أَبُو
سُفْيَانَ: غَدْرًا يَا بَنِي هَاشِمٍ؟ فَقَالَ عَبَّاسٌ: إِنَّا
لَسْنَا نَغْدِرُ، وَلَكِنْ بِي إِلَيْكَ بَعْضُ الْحَاجَةِ.
فَقَالَ: وَمَا هِيَ، فَأَقْضِيهَا لَكَ؟ قَالَ: إِنَّمَا
نَفَاذُهَا حِينَ يَقْدَمُ عَلَيْكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ. فَوَقَفَ عَبَّاسٌ بِالْمَضِيقِ
دُونَ الأَرَاكِ، وَقَدْ وَعَى مِنْهُ أَبُو سُفْيَانَ حَدِيثَهُ.
ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْخَيْلَ بَعْضَهَا عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ، وَقَسَمَ الْخَيْلَ
شَطْرَيْنِ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ فِي خَيْلٍ عَظِيمَةٍ. فَلَمَّا
مَرُّوا بأبي سفيان قال للعبّاس:
مَنْ هَذَا؟ قَالَ: الزُّبَيْرُ. وَرِدْفُهُ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ بِالْجَيْشِ مِنْ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَقُضَاعَةَ،
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا يَا عَبَّاسُ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ هَذَا
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي
كَتِيبَةِ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: الْيَوْمَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ،
الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ. ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فِي كَتِيبَةِ الإِيمَانِ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.
فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ وُجُوهًا كَثِيرَةً لا يَعْرِفُهَا
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْتَرْتَ هَذِهِ الْوُجُوهَ عَلَى
قَوْمِكَ؟ قَالَ: أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ وَقَوْمُكَ. إِنَّ
هَؤُلاءِ صَدَّقُونِي إِذْ كَذَّبْتُمُونِي، وَنَصَرُونِي إِذْ
أَخَّرْتُمُونِي، وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَعَبَّاسُ بْنُ
مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ، فَلَمَّا
أَبْصَرَهُمْ حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: مَنْ هؤلاء يا عبّاس؟ قال: هذه كتيبة النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم، ومع هذه الموت الأحمر، هَؤُلاءِ الْمُهَاجِرُونَ
وَالأَنْصَارُ، قَالَ: امْضِ يَا عَبَّاسُ، فَلَمْ أَرَ
كَالْيَوْمِ جُنُودًا قَطُّ وَلا جَمَاعَةً، وَسَارَ الزُّبَيْرُ
بِالنَّاسِ حَتَّى إِذَا وَقَفَ بِالْحَجُونِ [1] ، وَانْدَفَعَ
خَالِدٌ حَتَّى دَخَلَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ. فلقيته بنو بكر
فقاتلهم
__________
[1] الحجون: جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها. وهو بالفتح ثم الضم.
(معجم البلدان 2/ 225) .
(2/532)
فَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا
مِنْ عِشْرِينَ، وَمِنْ هذيل ثلاثة [93 ب] أَوْ أَرْبَعَةً،
وَهُزِمُوا وَقُتِلُوا بِالْحَزْوَرَةَ [1] ، حَتَّى دَخَلُوا
الدُّورَ، وَارْتَفَعَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُ عَلَى الْجَبَلِ عَلَى
الْخَنْدَمَةِ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِالسُّيُوفِ.
وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، وَنَادَى مُنَادٍ: مَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ
دَارَهُ وَكَفَّ يَدَهُ فَهُو آمِنٌ [2] . وَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَازِلا بِذِي طُوًى، فَقَالَ:
«كَيْفَ قَالَ حَسَّانٌ» ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ:
قَالَ:
عدمت بنيّتي [3] إن لم تروها ... تثير النّفع مِنْ كَتِفَيْ
كُدَاءِ [4]
فَأَمَرَهُمْ فَأَدْخَلُوا الَخْيَل مِنْ حَيْثُ قَالَ حَسَّانٌ.
فَأُدْخِلَتْ مِنْ ذِي طُوًى مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ. وَاسْتَحَرَّ
الْقَتلُ بِبَنِي بَكْرٍ. فَأَحَلَّ اللَّهُ لَهُ مَكَّةَ سَاعَةً
مِنْ نَهَارٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى لا أُقْسِمُ بِهذَا
الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ 90: 1- 2 [5] فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أُحِلَّتِ
الْحُرْمَةُ لأَحَدٍ قَبْلِي وَلا بَعْدِي، وَلا أُحِلَّتْ لِي
إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.
وَنَادَى أَبُو سُفْيَانَ بِمَكَّةَ: أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا [6] .
وَكَفَّهُمُ اللَّهُ عَنْ عَبَّاسٍ.
فَأَقْبَلَتْ هِنْدٌ فَأَخَذَتْ بِلِحْيَةِ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ
نَادَتْ: يَا آلَ غَالِبٍ اقْتُلُوا الشَّيْخَ الأَحْمَقَ. قَالَ:
أَرْسِلِي لِحْيَتِي، فأقسم لئن أنت لم تسلمي ليضربنّ
__________
[1] الحزورة: بالفتح ثم السكون وفتح الواو والراء. وهو في اللغة:
الرابية الصغيرة وجمعها حزاور. سوق مكة وقد دخلت في المسجد لما زيد
فيه. (معجم البلدان 2/ 255) .
[2] حتى هنا رواية عروة في المغازي 211.
[3] وفي رواية «ثنيّتي» ، والبيت من جملة أبيات ستأتي بعد قليل.
[4] كداء: (بالفتح والمد) بأعلى مكة عند المحصب، دار النبي صلّى
الله عليه وسلّم، من ذي طوى إليها. وقيل هي العقبة الصغرى التي
بأعلى مكة وهي التي تهبط منها إلى الأبطح والمقبرة منها عن يسارك،
وأما العقبة الوسطى التي بأسفل مكة فهي كدي (بالضمّ والقصر) . وقد
اختلف في ذلك، (انظر معجم البلدان 4/ 439- 441) .
[5] سورة البلد. الآيتان 1، 2.
[6] في الأصل: أسلموا أسلموا. وأثبتنا عبارة ع، ح. ومغازي عروة
211.
(2/533)
عُنُقُكِ، وَيْلَكِ، جَاءَنَا بِالْحَقِّ
ادْخُلِي بَيْتَكِ وَاسْكُنِي.
وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَطَافَ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ [1] .
وَفَرَّ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ عَامِدًا لِلْبَحْرِ، وَفَرَّ
عِكْرِمَةُ عَامِدًا لِلْيَمَنِ. وَأَقْبَلَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَمِّنْ صَفْوَانَ فَقَدْ هَرَبَ، وَقَدْ
خَشِيتُ أَنْ تَهْلِكَ نَفْسُهُ فَأَرْسِلْنِي إِلَيْهِ بِأَمَانٍ
قَدْ أمّنت الأحمر والأسود، وفقال:
أَدْرِكْهُ فَهُوَ آمِنٌ. فَطَلَبَهُ عُمَيْرٌ فَأَدْرَكَهُ
وَدَعَاهُ فَقَالَ: قَدْ أمَّنَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ صَفْوَانُ: وَاللَّهِ لا أُوقِنُ لَكَ حَتَّى أَرَى
عَلامَةً بِأَمَانِي أَعْرِفُهَا. فَرَجَعَ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْدَ حَبْرَةٍ كَانَ
مُعْتَجِرًا بِهِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ، فَأَقْبَلَ عُمَيْرٌ،
فَقَالَ صَفْوَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَنِي مَا
يَقُولُ هَذَا مِنَ الأَمَانِ؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: اجْعَلْ لِي شَهْرًا قَالَ: لَكَ شَهْرَانِ، لَعَلَّ
اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَكِ [2] . وَاسْتَأْذَنَتْ أُمُّ حَكِيمٍ
بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمَةٌ،
وَهِيَ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ. فَاسْتَأْذَنَتْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِ
زَوْجِهَا، فَأَذِنَ لَهَا وَأَمَّنَهُ، فَخَرَجَتْ بِعَبْدٍ لَهَا
رُومِيٍّ فَأَرَادَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَلَمْ تَزَلْ تُمَنِّيهِ
وَتُقَرِّبُ لَهُ حَتَّى قَدِمَتْ عَلَى نَاسٍ مِنْ عَكٍّ [3]
فَاسْتَغَاثَتْهُمْ عَلَيْهِ فَأَوْثَقُوهُ، فَأَدْرَكَتْ
زَوْجَهَا بِبَعْضِ تِهَامَةَ وَقَدْ رَكِبَ فِي السَّفِينَةِ،
فَلَمَّا جَلَسَ فِيهَا نَادَى بِاللاتِ وَالْعُزَّى.
فَقَالَ أَصْحَابُ السفينة: لا يجوز هاهنا مِنْ دُعَاءٍ بِشَيْءٍ
إِلا اللَّهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا، فقال عكرمة: والله لئن كان في
الْبَحْرُ، إِنَّهُ لَفِي الْبَرِّ وَحْدَهُ [4] ، أُقْسِمُ
باللَّه،
__________
[1] المغازي لعروة 211 وقال: رواه الطبراني مرسلا وفيه ابن لهيعة،
وحديثه حسن وفيه ضعف.
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 170- 173.
[2] وفي سيرة هشام 4/ 105 «قال: أنت بالخيار فيه أربعة أشهر» .
[3] عك قبيلة من قبائل اليمن.
[4] في ح: لئن كان في البحر إنه لفي البر وحده. وما أثبتناه عن
الأصل وع، وعن المغازي لعروة 212.
(2/534)
لأَرْجِعَنَّ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَرَجَعَ
عِكْرِمَةُ مَعَ امْرَأَتِهِ، فدخل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايعه، وقبل منه.
ودخل [94 أ] رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَلامَتْهُ
وَعَيَّرَتْهُ بِالْفِرَارِ، فَقَالَ:
وَأَنْتِ لَوْ رَأَيْتِنَا بِالْخَنْدَمَهْ ... إِذْ فَرَّ
صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ
قَدْ لَحِقَتْهُمُ السُّيُوفُ الْمُسلِمَهْ ... يَقْطَعْنَ كُلَّ
سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ
لَمْ تَنْطِقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ [1]
وَكَانَ دُخُولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ. وَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَفْوَانَ فِيمَا زَعَمُوا مِائَةَ دِرْعٍ
وَأَدَاتِهَا، وَكَانَ أَكْثَرَ شَيْءٍ سِلاحًا.
وَأَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ
بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [2] : مَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ فِي عَشَرَةِ
آلافٍ. فَسَبَّعَتْ سُلَيْمٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَلَّفَتْ
سُلَيْمٌ، وَأَلَّفَتْ مُزَيْنَةُ [3] . وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ
مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.
وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ. قَالَ عبد الملك ابن
هشام: لقيه بالجحفة [4] مهاجرا بعياله.
__________
[1] الخبر والشعر في المغازي لعروة 212 وانظر سيرة ابن هشام 4/ 92،
وتاريخ الطبري 3/ 58، ونهاية الأرب 17/ 306، وعيون الأثر 2/ 173،
وعيون التواريخ 1/ 300 والبداية والنهاية 4/ 297 وقال عروة: رواه
الطبراني، وهو مرسل، وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وفيه ضعف. وأورده
الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 174، 175، والحاكم في المستدرك 3/ 241،
242، والقاضي المكيّ الفاسي في شفاء الغرام 2/ 222.
[2] سيرة ابن هشام 4/ 106.
[3] سبّعت سليم، يعني كانوا سبعمائة، وألّفت: كانوا ألفا.
[4] الجحفة: قرية على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل، وهي أحد
المواقيت وكانت تسمّى مهيعة، فاجتحفها السيل في بعض الأعوام فسمّيت
الجحفة. (معجم البلدان 2/ 111) .
(2/535)
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [1] : وَقَدْ
كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بن أبي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَدْ
لَقِيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِنَبْقِ الْعُقَابِ [2]- فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ-
فَالْتَمَسَا الدُّخُولَ عَلَيْهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ
فِيهِمَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ عَمِّكَ وَابْنُ
عَمَّتِكَ وَصِهْرُكَ. قَالَ: لا حاجة لي بهما، أمّا ابن عمّي فهتك
عِرْضِي، وَأَمَّا ابْنُ عَمَّتِي فَهُوَ الَّذِي قَالَ لِي
بِمَكَّةَ مَا قَالَ. فَلَمَّا بَلَغَهُمَا قَوْلُهُ قَالَ أَبُو
سُفْيَانَ: وَاللَّهِ لَتَأْذَنَنَّ لِي أَوْ لآخُذَنَّ بِيَدِ
بُنَيَّ هَذَا ثُمَّ لَنَذْهَبَنَّ فِي الأَرْضِ حَتَّى نَمُوتَ
عَطَشًا وَجُوعًا. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ لَهُمَا، وَأَذِنَ لَهُمَا
فَدَخَلا وَأَسْلَمَا وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
لَعَمْرُكَ إِنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً ... لِتَغْلِبَ خَيْلُ
اللاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ
لَكَالْمُدْلِجِ [3] الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ ... فَهَذَا
أَوَانِي حِينَ أُهْدِي وَأَهْتَدِي
هَدَانِي هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي وَنَالَنِي ... إِلَى اللَّهِ مَنْ
طَرَّدْتُ [4] كُلَّ مُطَرَّدِ
أَصُدُّ وَأَنْأَى جَاهِدًا عَنْ مُحَمَّدٍ ... وَأُدْعَى وَإِنْ
لَمْ أَنْتَسِبْ مِن مُحَمَّدِ [5]
فَذَكَرُوا أَنَّهُ حِينَ أَنْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ ضَرَبَ فِي صَدْرِهِ وقال: أنت طردتني
كلّ مطرد [6] . وقال سعيد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَطِيَّةَ
بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا
لِغَزْوَةِ فَتْحِ مَكَّةَ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ صُوَّامًا.
فَلَمَّا كُنَّا بِالْكَدِيدِ، أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفطر.
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 88، 89.
[2] نبق العقاب: موضع بين مكة والمدينة قرب الجحفة. (معجم ما
استعجم 595) .
[3] المدلج: الّذي يسير ليلا.
[4] في طبعة القدسي 500 «طرده» والتصحيح من السيرة وغيرها.
[5] الأبيات في سيرة ابن هشام 4/ 89، ونهاية الأرب 17/ 307،
والبداية والنهاية 4/ 287، وعيون التواريخ 1/ 292 مع اختلاف بعض
الألفاظ في بعضها.
[6] سيرة ابن هشام 4/ 89.
(2/536)
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ فِي مَخْرَجِهِ ذَلِكَ حَتَّى
بَلَغَ الْكَدِيدَ فَأَفْطَرَ وَأَفْطَرَ النَّاسُ. أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ [1] . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ
أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: دَخَلَ أَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بمرّ الظّهران، وهو يتغدّى فَقَالَ: «الْغَدَاءُ»
فَقَالَا: إِنَّا صَائِمَانِ، فَقَالَ: «اعْمَلُوا لصاحبيكم،
ارحلوا لصاحبيكم، كلا، كلا» . مرسل [94 ب] وَقَوْلُهُ: هَذَا
مُقَدَّرٌ بِالْقَوْلِ يَعْنِي يُقَالُ هَذَا لِكَوْنِكُمَا
صَائِمَيْنِ [2] . وَقَالَ مَعْمَرٌ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ
يَقُولُ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي
رَمَضَانَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَذَلِكَ
عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ
الْمَدِينَةِ، فَسَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى
مَكَّةَ، يَصُومُ وَيَصُومُونَ. حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ، وَهُوَ
بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ، فَأَفْطَرَ، وَأَفْطَرَ النَّاسُ.
قَالَ الزُّهْرِيّ: وَكَانَ الْفِطْرُ آخِرَ الأَمْرَيْنِ.
وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بالآخر فالآخر مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ لِثَلاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خلت من
رمضان. أخرجه (خ) و (م) دُونَ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ [3] . وَكَذَا
وَرَّخَهُ يُونُسُ عَنِ الزّهريّ [4] .
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان (5/ 90)
.
[2] أخرجه النسائي في كتاب الصيام، ما يكره من الصيام في السفر،
باب ذكر اسم الرجل (4/ 177) .
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان 5/ 90
وفي الصوم، باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر، وفي الجهاد، باب
الخروج في رمضان، وصحيح مسلم (113) كتاب الصيام، باب جواز الصوم
والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إلخ.
[4] صحيح مسلم 2/ 785.
(2/537)
وقال عَبْد اللَّه بْن إدريس، عَنِ ابن
إسحاق، عن ابن شهاب، ومحمد ابن عليّ بن الحسين، وعمرو بْن شُعَيْب،
وعاصم بْن عُمَر وغيرهم قَالُوا:
كان فتح مكة في شعر بقين من رمضان.
وقال الواقديّ [1] : خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الأربعاء لعشر خَلَوْن من رمضان بعد
العصر. فما حلّ عقْده حتى انتهى إلى الصُلْصُل [2] . وخرج المسلمون
وقادوا الخيلَ وامتَطُوا الإِبل، وكانوا عشرة آلاف [3] .
وذكر عُرْوَةُ وموسى بْن عُقْبة أنّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خرج فِي اثني عشر ألفًا [4] .
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ
الْعَبَّاسُ بِأَبِي سُفْيَانَ فَأَسْلَمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ
الْفَخْرَ، فَلَوْ جَعَلْتَ لَهُ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، مَنْ
دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ
فَهُوَ آمِنٌ [5] .
زَادَ فِيهِ الثِّقَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادِهِ:
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَمَا تَسَعُ دَارِي؟ قَالَ: مَنْ دَخَلَ
الْكَعْبَةَ فَهُوَ آمِنٌ قَالَ: وَمَا تَسَعُ الْكَعْبَةُ؟ قَالَ:
مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ. قَالَ: وَمَا يَسَعُ
الْمَسْجِدُ؟ قَالَ: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ. فَقَالَ:
هَذِهِ وَاسِعَةٌ [6] . وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ
أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ
__________
[1] انظر: المغازي للواقدي (2/ 801) .
[2] الصلصل: موضع بنواحي المدينة على سبعة أميال منها. (معجم
البلدان 3/ 421) .
[3] وهذا الرقم يؤيّده ابن هشام في السيرة 4/ 106.
[4] هذا الخبر ليس موجودا في المطبوع من المغازي لعروة. وانظر:
شفاء الغرام 2/ 248.
[5] سيرة ابن هشام 4/ 90.
[6] سيرة ابن هشام 4/ 91.
(2/538)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرِّ
الظَّهْرَانِ، قَالَ الْعَبَّاسُ وَقَدْ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ: يَا
صَبَاحَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ لَئِنْ بَغَتَهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَنْوَةً، إِنَّهُ
لَهَلاكُ قُرَيْشٍ آخِرَ الدَّهْرِ. فَجَلَسَ عَلَى بَغْلَةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْضَاءِ،
وَقَالَ أَخْرُجُ إِلَى الأَرَاكِ لَعَلِّي أَرَى حُطَّابًا أَوْ
صَاحِبَ لَبَنٍ، أَوْ دَاخِلا يَدْخُلُ مَكَّةَ. فَيُخْبِرُهُمْ
بِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ليأتوه فيستأمنوه، فخرجت فو الله إِنِّي لأَطُوفُ بِالأَرَاكِ إِذْ
سَمِعْتُ صَوْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ
وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَقَدْ خَرَجُوا يَتَجَسَّسُونَ
الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَسَمِعْتُ صَوْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ يَقُولُ: مَا
رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ نِيرَانًا، فَقَالَ بُدَيْلٌ: هَذِهِ
نِيرَانُ خُزَاعَةَ حَمَشَتْهَا [1] الحرب، فقال [95 أ] أَبُو
سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَلأَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَذَلُّ. فَعَرَفْتُ
صَوْتَهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَنْظَلَةَ، فَقَالَ: أَبُو
الْفَضْلِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: لَبَّيْكَ، فِدَاكَ أَبِي
وَأُمِّي، مَا وَرَاءَكَ؟ قُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ فِي
النَّاسِ قَدْ دَلَفَ إِلَيْكُمْ بِمَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ فِي
عَشَرَةِ آلافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَكَيْفَ الْحِيلَةُ؟
فِدَاك أَبِي وَأُمِّي.
فَقُلْتُ: تَرْكَبُ فِي عَجُزِ هَذِهِ الْبَغْلَةِ، فَأَسْتَأْمِنُ
لَكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَئِنْ ظَفِرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ.
فَرَدَفَنِي فَخَرَجْتُ أَرْكُضُ بِهِ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلَّمَا مَرَرْتُ بِنَارٍ
مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ نَظَرُوا إِلَيَّ وَقَالُوا: عَمُّ
رَسُولِ اللَّهِ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَتَّى مَرَرْتُ بِنَارِ عُمَرَ فَقَالَ
لأَبِي سُفْيَانَ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي أَمْكَنَ مِنْكَ
بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلا عَقْدٍ. ثُمَّ اشْتَدَّ نَحْوَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَكَضَتِ
الْبَغْلَةُ حَتَّى اقْتَحَمَتْ بَابَ الْقُبَّةِ وَسَبَقَتْ
عُمَرَ بِمَا تَسْبِقُ بِهِ الدَّابَّةُ الْبَطِيئَةُ الرَّجُلَ
الْبَطِيءَ [2] .
وَدَخَلَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَبُو
سُفْيَانَ عَدُوُّ اللَّهِ، قَدْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ بِغَيْرِ
عَهْدٍ وَلا عَقْدٍ، فَدَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إنّي قد
__________
[1] حمشتها الحرب: أي جمعتها وأثارتها.
[2] انظر سيرة ابن هشام 4/ 89، 90.
(2/539)
أمَّنْتُهُ. ثُمَّ جَلَسْتُ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْتُ بِرَأْسِهِ
وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا يُنَاجِيهِ اللَّيْلَةَ أَحَدٌ دُونِي.
فَلَمَّا أَكْثَرَ فيه عمر، قلت: مهلا يا عمر، فو الله مَا
تَصْنَعُ هَذَا إِلا لأَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ.
وَلَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ مَا قُلْتَ هَذَا.
فَقَالَ: مهلا يا عبّاس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إليّ
من إسلام الخطّاب لو أسلم. وما ذاك إلّا لأنّي قد عرفت أنّ إسلامك
كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ إِسْلامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ بِهِ
فَقَدْ آمَنَّاهُ، حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ عَلَيَّ الْغَدَاةَ،
فَرَجَعَ بِهِ الْعَبَّاسُ إِلَى مَنْزِلِهِ [1] .
فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟ فَقَالَ: بِأَبِي وَأُمِّي مَا
أَوْصَلَكَ وَأَكْرَمَكَ، وَاللَّهِ ظَنَنْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ
اللَّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى شَيْئًا بَعْدُ. فَقَالَ:
وَيْحَكَ أَوَ لَمْ يَأْنِ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟
قَالَ: بِأَبِي وَأُمِّي مَا أَوْصَلَكَ وَأَكْرَمَكَ، أَمَّا
هَذِهِ فَإِنَّ فِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْئًا. فَقَالَ
الْعَبَّاسُ فَقُلْتُ:
وَيْلَكَ تَشَهَّدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ قَبْلَ، وَاللَّهِ، أَنْ
تُضْرَبَ عُنُقُكَ. فَتَشَهَّدَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَشَهَّدَ: «انْصَرِفْ بِهِ يَا
عَبَّاسُ فَاحْبِسْهُ عِنْدَ حَطْمِ الْجَبَلِ [2] بِمَضِيقِ
الْوَادِي، حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهِ جُنُودُ اللَّهِ» .
فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ
يُحِبُّ الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا يَكُونُ لَهُ فِي
قَوْمِكَ فَقَالَ: «نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ
فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ
أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ» . فَخَرَجْتُ بِهِ حَتَّى حبسته
عند حطم الْجَبَلِ بِمَضِيقِ الْوَادِي. فَمَرَّتْ عَلَيْهِ
الْقَبَائِلُ، فَيَقُولُ: من
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 90.
[2] حطم الجبل: الموضع الّذي حطم منه أي ثلم فبقي منقطعا، أو هو
مضيق الجبل حيث يزحم بعضه بعضا. وفي رواية: خطم الجبل أي أنفه
البادر منه. وفي البخاري: حطم الخيل، رواية أخرى. (انظر صحيح
البخاري- المغازي، باب أين ركّز النّبي صلّى الله عليه وسلّم
الراية يوم الفتح- 5/ 91) .
(2/540)
هَؤُلاءِ يَا عَبَّاسُ؟ فَأَقُولُ:
سُلَيْمٌ. فَيَقُولُ: مَا لي ولسليم. وتمرّ به [95 ب] القبيلة
فيقول: من هذه؟ فأقول: أَسْلَمُ. فَيَقُولُ مَا لِي وَلأَسْلَمَ.
وَتَمُرُّ جُهَيْنَةُ. حَتَّى مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فِي الْحَدِيدِ، لا يُرَى مِنْهُمْ
إِلا الْحَدَقُ. فَقَالَ يَا أَبَا الْفَضْلِ، مَنْ هَؤُلاءِ؟
فَقُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ. فَقَالَ: يَا أَبَا
الْفَضْلِ، لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ عَظِيمًا.
فَقُلْتُ: وَيْحَكَ، إِنَّهَا النُّبُوَّةُ، قَالَ:
فَنَعَمْ إِذَنْ. قُلْتُ: الْحَقِ الآنَ بِقَوْمِكَ فَحَذِّرْهُمْ.
فَخَرَجَ سَرِيعًا حَتَّى جَاءَ مَكَّةَ، فَصَرَخَ فِي
الْمَسْجِدِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ
جَاءَكُمْ بِمَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ. فَقَالُوا: فَمَهْ؟ قَالَ:
مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ آمِنٌ. فَقَالُوا: وَمَا دَارُكَ، وَمَا
تُغْنِي عَنَّا؟ قَالَ: مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ،
وَمَنْ أَغْلَقَ دَارَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ.
هَكَذَا رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ ابْنُ إِسْحَاقَ [1] ، عَنْ
حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْصُولا،
وَأَمَّا أَبُو أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيُّ فَأَرْسَلَهُ. وقد رواه
ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَعْنَاهُ.
وَقَالَ عُرْوَةُ: أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ
مُطْعِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ: يَا
أبا عبد الله، هاهنا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرَكِّزَ الرَّايَةَ.
قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ
كَدَاءٍ. وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ كُدًى، فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلانِ:
حُبَيْشُ بْنُ الأشعر، وكرز بن جابر الفهريّ [2] .
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 89، 90 تاريخ الطبري 3/ 52- 54، الأغاني 6/
352- 354، نهاية الأرب 17/ 299- 302.
[2] أخرجه البخاري في المغازي، باب أين ركّز النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم الراية يوم الفتح (5/ 91، 92) .
(2/541)
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَغَيْرُهُ: أَخْفَى
اللَّهُ تَعَالَى مَسِيرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ، حَتَّى نَزَلَ بِمَرِّ
الظَّهْرَانِ.
وَفِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ:
«لِمَ قَاتَلْتَ، وَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنِ الْقِتَالِ» ؟ قَالَ:
هُمْ بَدَءُونَا بِالْقِتَالِ وَوَضَعُوا فِينَا السِّلَاحَ
وَأَشْعَرُونَا بِالنَّبْلِ، وَقَدْ كَفَفْتُ يَدَيْ مَا
اسْتَطَعْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ» [1] . ويقال: قَالَ أَبُو
بَكْر يومئذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أراني فِي المنام وأراك
دَنَوْنا من مكة، فخرجتْ إلينا كلْبةٌ تهرّ [2] . فلمّا دنونا منها
استلْقَتْ عَلَى ظهرها، فإذا هِيَ تشخبُ لَبَنًا [3] . فقال: ذهبَ
كلْبُهم وأقبل درُّهُم، وهم سائلوكم بأرحامكم وإنّكم لاقون بعضَهم،
فإنْ لقيتم أَبَا سُفْيَان فلا تقتلوه» . فلقوا أَبَا سُفْيَان
وحكيمًا بمرّ [الظَّهْران] [4] . وقال حسّان: [5]
عدِمْتُ بُنَيَّتي إنْ لم تروها ... تُثِير النقع موعِدُها كداء
ينازعن الأعنّة مصحبات ... يلطمهنّ بالخُمُرِ النّساءُ
فإنْ أعرضْتُم عنّا اعْتَمْرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
__________
[1] المغازي لعروة 121 وأورده البيهقي في السنن الكبرى 9/ 121
بإسناده عن ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة، وعن طريق موسى بن
عقبة واللفظ له.
[2] هرّ الكلب إليه يهرّ، بالكسر، هريرا وهرّة، أي هرير الكلب،
صوته. وهو دون نباحه من قلّة صبره على البرد. (تاج العروس 14/ 420)
.
[3] شخبت اللّبن: حلبته.
[4] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع.
[5] ديوانه: ص 4- 10 باختلاف كبير في الألفاظ وانظر: عيون الأثر 2/
181، 182، شفاء الغرام 2/ 221، سيرة ابن هشام 4/ 106، 107 البداية
والنهاية 4/ 310 عيون التواريخ 1/ 310، 312.
(2/542)
وإلّا فاصْبِروا لجلاد يومٍ ... يُعِزّ
اللَّه فِيهِ مَن يشاءُ
وجبريلُ رَسُول اللَّهِ فينا ... وَرُوحُ القدُسِ ليس لَهُ كفاءُ
هجوتَ محمَّدًا فأجبتُ عنهُ ... وعندَ الله في ذاك الجزاء
[96 أ] فمن يهجو رَسُول اللَّهِ منكم ... ويمدحهُ وينصرُهُ سَوَاءُ
لساني صارمٌ لا عيبَ فِيهِ ... وبحري ما تُكَدِّرُهُ الدِّلاءُ
فذكروا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تبسّم إلى أَبِي بَكْر حين رَأَى النّساء يلطمن الخيل بالخُمُر، أي
ينفضن الغُبار عَنِ الخيل.
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ
أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«اهجو قُرَيْشًا فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقِ
النَّبْلِ» . وأرسل إلى ابن رواحة فقال: «اهجم» . فهجاهم فلم يرض،
فأرسل إلى كعب ابن مَالِكٍ، ثُمَّ أُرْسِلَ إِلَى حَسَّانَ بْنِ
ثَابِتٍ. فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا
إِلَى هَذَا الْأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ [1] . ثُمَّ أَدْلَعَ
[2] لِسَانَهُ فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ لَأَفْرِيَنَّهُمْ فَرْيَ الْأَدِيمِ [3] . فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا تَعْجَلْ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ
بِأَنْسَابِهَا وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نَسَبًا، حَتَّى يُخَلِّصَ [4]
لِي نَسَبِي» . فَأَتَاهُ حَسَّانُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ قد أخلص [4] لي نسبك، فو الّذي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ [5] الشَّعْرةُ
من العجين.
__________
[1] الضارب بذنبه: المراد بذنبه: لسانه.
[2] أدلع لسانه: أخرجه عن الشفتين.
[3] أي لأمزّقنّ أعراضهم تمزيق الجلد.
[4] في صحيح مسلم «يلخّص» و «لخّص» .
[5] في الأصل: لأنسلنّك منهم نسل الشعرة، والتصحيح من ح وصحيح
مسلم.
(2/543)
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ لِحَسَّانَ:
«إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لا يزال يؤيّدك ما نافحت عَنِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ» . وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى
وَاشْتَفَى [1] . وَذَكَرَ الْأَبْيَاتَ، وَزَادَ فِيهَا [2] :
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا [3] ... رَسُولَ اللَّهِ
شِيمتُهُ الْوَفَاءُ
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَه وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحمَّدٍ
مِنْكُمْ وِقَاءُ
فإنْ أَعْرَضْتُمُ عَنَّا اعْتَمَرْنا ... وَكَانَ الْفَتْحُ
وانْكَشَفَ الغِطاءُ
وَقَالَ اللَّهُ: قَدِ أَرْسَلْتُ عَبْدًا ... يَقُولُ الْحَقَّ
لَيْسَ بِهِ خَفَاءُ
وَقَال اللَّهُ: قَدْ سَيَّرْتُ [4] جُنْدًا ... هُمُ الْأَنْصَارُ
عُرْضَتُهَا [5] اللِّقَاءُ
لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ ... سِبابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ
هِجَاءُ
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [6] .
وَقَالَ سليمان بن المغيرة وغيره: ناثابت الْبُنَانِيُّ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ قَالَ: وَفَدْنا إِلَى مُعَاوِيَةَ
وَمَعَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ بَعْضُنَا يَصْنَعُ لِبَعْضٍ
الطَّعَامَ.
وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِمَّنْ يَصْنَعُ لَنَا فَيُكْثِرُ،
فَيَدْعُو إِلَى رَحْلِهِ. قُلْتُ: لَوْ أَمَرْتُ بِطَعَامٍ
فَصُنِعَ وَدَعَوْتُهُمْ إِلَى رَحْلِي، فَفَعَلْتُ. وَلَقِيتُ
أَبَا هُرَيْرَةَ بِالْعَشِيِّ فَقُلْتُ:
الدَّعْوَةُ عِنْدِي اللَّيْلَةَ. فَقَالَ: سَبَقْتَنِي يَا أَخَا
الْأَنْصَارِ. قَالَ: فَإِنَّهُمْ لَعِنْدِي إِذْ قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: أَلا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا
معشر الأنصار؟ فذكر فتح
__________
[1] في الأصل: وأشفى. وأثبتنا عبارة مسلم.
[2] ديوانه: ص 5- 8 باختلاف في بعض الألفاظ وفي ترتيب الأبيات.
[3] وفي صحيح مسلم «تقيّا» .
[4] في صحيح مسلم «يسّرت» .
[5] في طبعة القدسي 508 «عرصتها» ، والتصحيح من صحيح مسلم.
[6] صحيح مسلم (2490) كتاب فضائل الصحابة. باب فضائل حسّان بن ثابت
رضي الله عنه.
(2/544)
مَكَّةَ. وَقَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى
إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ [1] ، وَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى
الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى، وَبَعَثَ أبا عبيدة على الحسر. ثم رآني
[96 ب] فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. قُلْتُ: لَبَّيْكَ
وَسَعْدَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:
اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ وَلَا تَأْتِنِي إِلَّا
بِأَنْصَارِيٍّ. قَالَ: فَفَعَلْتُهُ. ثُمَّ قَالَ: انْظُرُوا
قُرَيْشًا وَأَوْبَاشَهُمْ فَاحْصُدُوهْم حَصْدًا.
فَانْطَلَقْنَا فما أحد منهم يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا، وَمَا
مِنَّا أَحَدٌ يُرِيدُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا أَخَذَهُ. وَجَاءَ
أَبُو سُفْيَانَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أُبِيدَتْ [2]
خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ [3] لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَخَلَ
دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ
فَهُوَ آمِنٌ» فَأَلْقَوْا سِلَاحَهُمْ.
وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَبَدَأَ بِالْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ سَبْعًا وَصَلَّى
خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ جَاءَ وَمَعَهُ الْقَوْسُ
[وَهُوَ] [4] آخِذٌ بِسِيَتِهَا [5] ، فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِهَا فِي
عَيْنِ صَنَمٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ، وَهُوَ يَقُولُ: جاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً 17: 81 [6] .
ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى الصَّفَا [7] ، فَعَلَا مِنْهُ
حَتَّى يَرَى الْبَيْتَ، وَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيَدْعُوهُ،
وَالْأَنْصَارُ عِنْدَهُ يَقُولُونَ: أَمَّا الرَّجُلُ
فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ.
وَجَاءَ الْوَحْيُ، وَكَانَ الْوَحْيُ إِذَا جَاءَ لَمْ يَخْفَ
عَلَيْنَا. فَلَمَّا أَنْ رَفَعَ الْوَحْيُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ
الْأَنْصَارِ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، كَلَّا فَمَا اسْمِي إِذًا؟
كَلَّا، إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. الْمَحْيَا
مَحْيَاكُمْ
__________
[1] المجنبتين: هما الميمنة والمسيرة، والقلب بينهما.
[2] وفي رواية «أبيحت» .
[3] خضراء قريش: أي جماعتهم.
[4] زيادة من صحيح مسلم تقتضيها صحة العبارة.
[5] سيتها: أي بطرفها، وهي خفيفة الياء.
[6] سورة الإسراء: من الآية 81.
[7] الصّفا: مكان مرتفع من جبل أبي قبيس بينه وبين المسجد الحرام
عرض الوادي ومنه يبدأ السعي بين الصّفا والمروة من مناسك الحجّ.
(معجم البلدان 3/ 411) .
(2/545)
وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ. فَأَقْبَلُوا
يَبْكُونَ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قُلْنَا إِلَّا
الضِّنَّ باللَّه وَبِرَسُولِهِ. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيُعْذِرَانِكُمْ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [1] . وَعِنْدَهُ: كَلَّا إِنِّي عَبْدُ
اللَّهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ. وَفِي
الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى الْإِذْنِ بِالْقَتْلِ قَبْلَ عَقْدِ
الْأَمَانِ.
وَقَالَ سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ: حَدَّثَنِي ثَابِتُ
الْبُنَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا قُتِلَ يَوْمَ الْفَتْحِ إِلَّا أَرْبَعَةٌ.
ثُمَّ دَخَلَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ الْكَعْبَةَ وَهُمْ يَظُنُّونَ
أَنَّ السَّيْفَ لَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ. ثُمَّ طَافَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى
الْكَعْبَةَ فَأَخَذَ بِعُضَادَتَيِ الْبَابِ فَقَالَ: «مَا
تَقُولُونَ وَمَا تَصْنَعُونَ» ؟ قَالُوا:
نَقُولُ ابْنُ أَخٍ وَابْنُ عَمٍّ حَلِيمٌ رَحِيمٌ. فَقَالَ:
«أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفَ: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ،
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ 12: 92 [2] » . قَالَ: فَخَرَجُوا كَمَا
نُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ. فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ. وقال
عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم الفتح من كَداء من أعلى مكَّة [3] .
وقال عَبْد اللَّه بْن عُمَر [4] ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَر
قَالَ: لما دَخَلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَامَ الفتح رَأَى النّساء يَلْطُمْنَ وجوهَ الخيل
بالخُمُر، فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى أبي بكر وقال: «كيف قال حسّان» ؟ فأنشده أبو بكر:
__________
[1] صحيح مسلم (1780) كتاب الجهاد والسير: باب فتح مكة. وفي رواية
له: «ألا فما اسمي إذا! «ثلاث مرات» أنا محمد عبد الله ورسوله» .
وانظر: سيرة ابن هشام 4/ 95، ورواه أبو داود، رقم (3024) في الخراج
والإمارة، باب ما جاء في خبر مكة.
[2] سورة يوسف: من الآية 92.
[3] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب دخول النّبيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مكة 5/ 93 طبقات ابن سعد 2/ 140، شفاء
الغرام 2/ 222.
[4] هو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر، كما في (تهذيب
التهذيب 5/ 326) .
(2/546)
عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من
كنفي كداء
ينازعني الأعنَّةَ مُسْرجات ... يَلْطمُهُنّ بالخُمُر النّساء
فقال: «ادخلوها من حيث قَالَ حسّان» [1] . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ،
عَنْ أَنَسٍ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم [97 أ] عَامَ الْفَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ
الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا وَضَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَذَا ابْنُ
خَطَلَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَقَالَ: اقْتُلُوهُ.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [2] .
وكأن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أهدر دم
ابن خَطَلَ وثلاثة غيره [3] .
وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ: ثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ،
عَنْ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ.
قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَطَلٍ يَوْمَ أَخْرَجُوهُ مِنْ تَحْتَ
الْأَسْتَارِ. فَضَرَبَ عُنُقَهُ بَيْنَ زَمْزَمَ وَالْمَقَامِ.
ثُمَّ قَالَ: «لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ بَعْدَهَا صَبْرًا» .
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمَّارٍ الدُّهْنِيُّ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ
عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [4]
.
وَفِي مُسْنَدِ الطيَّالِسيِّ [5] حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ
__________
[1] رواه الفاكهي في تاريخ مكة، شفاء الغرام 2/ 221.
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب أين ركّز النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم الراية يوم الفتح 5/ 92، وصحيح مسلم (1375) كتاب الحجّ،
باب جواز دخول مكة بغير إحرام، والموطّإ 1/ 423 في الحج، باب جامع
الحج، وأبو داود (2685) في الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه
الإسلام، والترمذي (1693) في الجهاد، باب ما جاء في المغفر،
والنسائي 5/ 210، في الحج، باب دخول مكة بغير إحرام، مسند الحميدي
2/ 509 رقم 1212، طبقات ابن سعد 2/ 139، الفوائد العوالي تخريج
الصوري 9 أ، مخطوطة الظاهرية (الجزء الخامس) شفاء الغرام 2/ 215.
معجم الشيوخ لابن جميع الصيداوي (بتحقيقنا) ص 72.
[3] انظر شفاء الغرام (بتحقيقنا) ج 2/ 224.
[4] صحيح مسلم (1358) كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام.
[5] منحة المعبود: كتاب اللباس والزينة، ما جاء في العمامة إلخ (1/
351) . ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 2/ 140 من طريق الفضل بن
دكين، عن شريك، عن عمّار الدهني عن أبي
(2/547)
جَابِرٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ
عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ.
وَقَالَ مُسَاوِرٌ الْوَرَّاقُ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ عَمْرِو
بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ
سَوْدَاءُ خُرْقَانِيَّةٌ [1] ، قَدْ أَرْخَى طَرَفَهَا بَيْنَ
كَتِفَيْهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [2] .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ،
أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ أَبْيَضَ،
وَرَايَتُهُ سَوْدَاءَ، قِطْعَةٌ مِنْ مِرْطٍ لِي مُرَجَّلٌ،
وَكَانَتِ الرَّايَةُ تُسَمَّى الْعُقَابُ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: لَمَّا نَزَلَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذي طَوَى وَرَأَى مَا
أكرمه اللَّه بِهِ من الفتح جعل يتواضع للَّه حتّى إنّك لتَقُول قد
كاد عُثْنُونُه أنَّ يُصيب واسطةَ الرَّحْلِ.
وَقَالَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَذَقْنُهُ عَلَى
رَحْلِهِ مُتَخَشِّعًا. حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، سَمِعَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ سُورَةَ الْفَتْحِ
وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ، فَرَجَّعَ فِيهَا. ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ
يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عليه وسلّم. متّفق عليه، ولفظه للبخاريّ [3] .
__________
[ () ] الزبير، عن جابر. ورواه عن عفان بن مسلم وكثير بن هشام،
عَنْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جابر،
به.
[1] خرقانية: أي مكوّرة كعمامة أهل الرساتيق. ويروى: حرقانية أي
التي على لون ما أحرقته النّار.
[2] صحيح مسلم (1359) كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب أين ركّز النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم الراية يوم الفتح 5/ 92. وصحيح مسلم (794) كتاب صلاة
المسافرين وقصرها، باب ذكر قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم سورة
الفتح يوم فتح مكّة.
(2/548)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ
ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ
فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما
يُعِيدُ 34: 49 [1] . جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ
الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً 17: 81 [2] . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [3] .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ،
قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
يَوْمَ الْفَتْحِ، وَعَلَى الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةِ صَنَمٍ،
فَأَخَذَ قَضِيبَهُ [4] فَجَعَلَ يَهْوِي بِهِ إِلَى صَنَمٍ
صَنَمٍ، وَهُوَ يَهْوِي حَتَّى مَرَّ عَلَيْهَا كُلِّهَا. حَدِيثٌ
حَسَنٌ.
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ- وهو ضعيف
[5]- عن عبد الله بن
__________
[1] سورة سبإ: الآية 49.
[2] سورة الإسراء: من الآية 81.
[3] صحيح البخاري: كتاب المظالم والغصب، باب هل تكسر الدّنان التي
فيها الخمر إلخ.
3/ 108 وفي كتاب المغازي، باب أين ركّز النّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم الراية يوم الفتح، وفي تفسير سورة بني إسرائيل، باب وقل جاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً 17:
81. وصحيح مسلم (1781) كتاب الجهاد والسير، باب إزالة الأصنام من
حول الكعبة، والترمذي (3137) في التفسير، باب ومن سورة بني
إسرائيل.
[4] في الأصل: قصبة، وأثبتنا لفظ ع، ح.
[5] قال أحمد: ليس بشيء كان يكذب، ويضع الحديث، وقال يحيى بن
مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَقَالَ مَرَّةً: كَذَّابٌ. وَقَالَ أبو حاتم والنسائي: متروك،
وقال الدار الدّارقطنيّ: ضعيف. وقال البخاري: سكتوا عنه.
انظر عنه في: التاريخ لابن معين 2/ 481 رقم 686، التاريخ الصغير
للبخاريّ 181، الضعفاء الصغير له 273 رقم 302، الضعفاء الكبير
للعقيليّ 3/ 472- 474 رقم 1529، التاريخ الكبير للبخاريّ 4/ 173،
المجروحين لابن حبّان 2/ 212، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 7/
111، 112، رقم 643، أحوال الرجال للجوزجانيّ 133 رقم 224، الضعفاء
والمتروكين للدار للدّارقطنيّ 143 رقم 439، الكامل في الضعفاء لابن
عديّ 6/ 2058، 2059، المغني في الضعفاء للذهبي 2/ 519 رقم 4992.
ميزان الاعتدال له 3/ 371، 372 رقم 6812، الكاشف له: 2/ 336 رقم
4585، الكشف الحثيث لبرهان الدين الحلبي 337 رقم 592، تهذيب
التهذيب لابن حجر 8/ 320، تقريب التهذيب له 2/ 118.
(2/549)
دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ
مَكَّةَ وَجَدَ بها ثلاثمائة [97 ب] وَسِتِّينَ صَنَمًا. فَأَشَارَ
إِلَى كُلِّ صَنَمٍ بِعَصًا مِنْ غَيْرَ أَنْ يَمَسَّهَا. وَقَالَ:
جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً
17: 81 [1] ، فَكَانَ لَا يُشِيرُ إِلَى صَنَمٍ إِلَّا سَقَطَ [2]
. وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ
وَفِيهِ الْآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ.
فَأَخْرَجَ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَفِي
أَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ، فَقَالَ: «قاتَلَهُمُ اللَّهُ، أَمَا
وَاللَّهِ لَقَدْ علِموا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقسِما بِهَا قَطُّ»
. وَدَخَلَ الْبَيْتَ وَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [3] . وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ،
عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي الْبَيْتِ
لَمْ يَدْخُلْهُ حَتَّى أُمِرَ بِهَا فَمُحِيَتْ. وَرَأَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِأَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ،
فَقَالَ: «قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، وَاللَّهِ مَا اسْتَقْسَما بها
قطّ» .
صحيح [4] . وقال أبو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْ
الْبَيْتَ حَتَّى محيت الصّور. صحيح.
__________
[1] سورة الإسراء، الآية 81.
[2] الحديث على ضعفه لضعف القاسم بن عبد الله العمري، يقوّيه
الحديث الّذي أخرجه البخاري، في كتاب المغازي، باب أين ركّز
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الراية يوم الفتح (5/ 92) من طريق
مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة يوم
الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا
بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ
17: 81 جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ 34:
49. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب إزالة الأصنام من حول
الكعبة (1781) ، وابن سعد في الطبقات 2/ 136.
[3] في كتاب المغازي، باب أين ركّز النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
الراية يوم الفتح (5/ 93) وانظر السيرة لابن هشام 4/ 94 و 104.
[4] رواه أحمد في المسند 1/ 365، والبخاري في كتاب المغازي، باب
أين ركّز النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الراية يوم الفتح (5/ 93) ،
وأخرجه في كتاب الحج، باب من كبّر في نواحي الكعبة (2/ 160) ،
وانظر السيرة لابن هشام 4/ 94.
(2/550)
[وَقَالَ هَوْذَةُ: ثنا عَوْفٌ
الأَعْرَابِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، قال: دعار رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ، شَيْبَةَ بْنَ
عُثْمَانَ فَأَعْطَاهُ الْمِفْتَاحَ، وَقَالَ لَهُ: دُونَكَ هَذَا،
فَأَنْتَ أَمِينُ اللَّهِ عَلَى بَيْتِهِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ:
هَذَا غَلَطٌ، إِنَّمَا أَعْطَى الْمِفْتَاحَ عُثْمَانَ بْنَ
طَلْحَةَ، ابْنَ عَمِّ شَيْبَةَ، يَوْمَ الْفَتْحِ، وَشَيْبَةُ
يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ. وَلَمْ يَزَلْ عُثْمَانُ عَلَى الْبَيْتِ
حَتَّى مَاتَ ثُمَّ وُلِّيَ شيبة.
قلت: قول الواقديّ لمن يَزَلْ عُثْمَانُ عَلَى الْبَيْتِ حَتَّى
مَاتَ، فِيهِ نَظَرٌ.
فَإِنْ أَرَادَ لَمْ يَزَلْ مُنْفَرِدًا بِالْحِجَابَةِ، فَلا
نُسَلِّمُ. وَإِنْ أَرَادَ مُشَارِكًا لِشَيْبَةَ، فَقَرِيبٌ.
فَإِنَّ شَيْبَةَ كَانَ حَاجِبًا فِي خِلافَةِ عُمَرَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَفَّى الْحِجَابَةِ لِشَيْبَةَ لَمَّا أَسْلَمَ. وَكَانَ
إِسْلامُهُ عَامَ الْفَتْحِ، لا يَوْمَ الْفَتْحِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمْرَانَ، أنا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ
مُسَافِعِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ فَصلَّى، فَإِذَا
فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَقَالَ: يَا شَيْبَةُ، اكْفِنِي هَذِهِ.
فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: طَيِّنْهَا
ثُمَّ الْطَخْهَا بِزَعْفَرَانَ. فَفَعَلَ [1] .
تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ مُقَارِبٌ لِلأَمْرِ] [2] .
وَقَالَ يُونُسُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنّ رَسُولَ
الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ
مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُرْدِفًا أُسَامَةَ،
وَمَعَهُ بِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، مِنَ الْحَجَبَةِ،
حَتَّى أَنَاخَ فِي الْمَسْجِدِ. فَأَمَرَ عُثْمَانَ أَنْ يَأْتِي
بِمِفْتَاحِ الْبَيْتِ، فَفَتَحَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُسَامَةَ وَبِلَالٍ وَعُثْمَانَ.
فَمَكَثَ فِيهَا نَهَارًا طَوِيلًا. ثُمَّ خَرَجَ فَاسْتَبَقَ
النَّاسُ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَوَّلَ مَنْ
دَخَلَ، فَوَجَدَ بِلَالًا وَرَاءَ الْبَابِ، فَسَأَلَهُ: أَيْنَ
صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فَأَشَارَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ.
__________
[1] رواه ابن قانع في معجمه، وانظر «شفاء الغرام» بتحقيقنا 1/ 230.
[2] ما بين الحاصرتين انفردت به النسخة (ح) .
(2/551)
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَنَسِيتُ أَنْ
أَسْأَلَهُ: كَمْ صَلَّى مِنْ سَجْدَةٍ؟. صَحِيحٌ. عَلَّقَهُ
الْبُخَارِيُّ مُحْتَجًّا بِهِ [1] .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: لَمَّا
اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَكَّةَ، طَافَ عَلَى بَعِيرِهِ، يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ
بِالْمِحْجَنِ [2] . ثُمَّ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَوَجَدَ فِيهَا
حَمَامَةً [مِنْ] عِيدَانٍ [3] فَاكْتَسَرَهَا، ثُمَّ قام بها على
الباب الْكَعْبَةِ- وَأَنَا أَنْظُرُ- فَرَمَى بِهَا.
وَذَكَرَ أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ،
عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، أَمَّنَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، إِلا
أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ:
اقْتُلُوهُمْ، وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعلِّقِينَ بِأَسْتَارِ
الْكَعْبَةِ: عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
خَطَلٍ، وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ [4] ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. فَأَمَّا ابْنُ خَطَلٍ فَأُدْرِكَ
وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالأَسْتَارِ، فَاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ
بْنُ حُرَيْثٍ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَسَبَقَ سَعِيدٌ
عَمَّارًا، فَقَتَلَهُ. وَأَمَّا مِقْيَسٌ فَقَتَلُوهُ فِي
السُّوقِ. وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ الْبَحْرَ، وَذَكَرَ
قِصَّتَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ. وَأَمَّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ
فَاخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ،
جَاءَ بِهِ عُثْمَانُ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ. فرفع [98 أ] رأسه فنظر إليه
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب دخول النبي صلّى الله عليه
وسلّم من أعلى مكة (5/ 93) ، وانظر:
المسند لأحمد 6/ 15، وشرح معاني الآثار للطحاوي 1/ 391، وشفاء
الغرام (بتحقيقنا) 1/ 228.
[2] في الأصل (ح) «يستلم المحجن» ، والتصحيح من (ع) .
[3] في الأصل «جماعة عيدان» ، وفي نسختي: ع، ح: «جماعة عيدان» ،
والمثبت يتفق مع رواية ابن هشام في السيرة 4/ 93.
[4] ورد «مقيس بن حبابة» بالحاء بدل الصاد، في سيرة ابن هشام 2/ 93
وأضاف إلى الأربعة:
«الحويرث بن نقيد بن وهب بن عبد قصيّ» ، وقينتي عبد الله بن خطل:
«فرتنى وصاحبتها» وهي سارة مولاة لبعض بني عبد المطّلب. وانظر:
شفاء الغرام (بتحقيقنا 1/ 56) .
(2/552)
ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى،
فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلاثٍ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ
فَقَالَ: «أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى
هَذَا، حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ، فَيَقْتُلُهُ؟» .
قَالُوا: مَا يُدْرِينَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا فِي نَفْسِكَ،
هَلا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ؟
قَالَ: «إِنَّهُ لَا يَنْبغي أَنْ يَكُونَ لنَبِيٍ خَائِنَة
الأَعْيُن» [1] . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاق: حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر، قال: قدِم مِقْيس بْن صُبابة عَلَى رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، وقد أظهر
الإِسلامَ، يطلُب بِدَمِ أخيه هِشام. [وكان قتله رجلٌ من المسلمين
يَوْم بني المُصْطَلِق ولا يحسبه إلّا مُشْرِكًا] [2] . فَقَالَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّما قُتِل
أخوك خطأ. وأمرَ لَهُ بديَته، فأخذها، فمَكَث مَعَ المسلمين شيئًا،
ثمّ عَدَا عَلَى قاتل أخيه فقتله، ولحِق بمكة كافرًا. فأمر رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عامَ الفتح- بقَتْله،
فقتله رجلٌ من قومه يقال لَهُ نُمَيْلَة بْن عَبْد اللَّه، بين
الصَّفَا والمَرْوَة [3] . وحدّثني عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر،
وأبو عُبَيْدة بْن مُحَمَّد بْن عمّار: أَنّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّما أمر بقتل ابن أَبِي سَرْح لأنه
كَانَ قد أسلم، وكتب لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الوَحْيَ. فرجع مُشْرِكًا ولَحِق بمكة [4] .
قَالَ ابن إِسْحَاق: وإنّما أمر بقتل عَبْد اللَّه بْن خَطَلَ، أحد
بني تَيْم بْن غَالب، لأنه كَانَ مسلمًا، فبعثه، رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم مصدّقا [5] ، وبعث معه رجلا من
__________
[1] قال ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث 2/ 6) : أي يفسّر
في نفسه غير ما يظهر، فإذا كفّ لسانه وأومأ بعينه فقد خان، وإذا
كان ظهور تلك الحالة من قبل العين سمّيت خائنة الأعين. وانظر:
المغازي للواقدي 2/ 856، وسيرة ابن هشام 4/ 92، وعيون الأثر لابن
سيّد الناس 2/ 175، وشفاء الغرام 2/ 187.
[2] ما بين الحاصرتين من نسخة (ح) .
[3] انظر سيرة ابن هشام 4/ 93، وعيون الأثر 2/ 176، والمغازي
للواقدي 2/ 860، 861، شفاء الغرام 2/ 228.
[4] انظر: السيرة لابن هشام 4/ 92، والمغازي للواقدي 2/ 855، وعيون
الأثر 2/ 175، وشفاء الغرام 2/ 225.
[5] مصدّقا: أي جابيا للصدقات.
(2/553)
الأنصار، وكان معه مَوْلًى يخدمه وكان
مسلمًا. فنزل منزلًا، فأمر الموْلى أنَّ يذبح تَيْسًا ويصنع لَهُ
طعامًا، ونام فاستيقظ ولم يصنع لَهُ شيئًا فقتله وَارْتَدَّ.
وكان لَهُ قَيْنَة وصاحبتُها تغنّيان بهجاء رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر بقتلهما معه. وكان ممّن يؤذي
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [1] .
وَقَالَ يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي
الْمُغِيرَةِ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى، قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ،
جَاءَتْ عَجُوزٌ حَبَشِيَّةٌ شَمْطَاءُ تَخْمِشُ وَجْهَهَا
وَتَدْعُو بِالْوَيْلِ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنا
كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: «تِلْكَ نَائِلَةُ [2] أَيِست أَنْ تُعبد
بِبَلَدِكُمْ هَذَا أَبَدًا» . كَأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ [3] . وَقَالَ
يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ
الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ، هُوَ ابْنُ بَرْصَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
الْفَتْحِ يَقُولُ: «لَا تُغْزَى مَكَّةَ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» [4] . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
فُضَيْلٍ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ،
قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَكَّةَ، بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى
نَخْلَةٍ، وَكَانَتْ بِهَا الْعُزَّى.
فَأَتَاهَا خَالِدٌ وَكَانَتْ عَلَى ثَلاثِ سَمُرَاتٍ. فَقَطَعَ
السَّمُرَاتِ وَهَدَمَ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا. ثُمَّ
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ.
فَقَالَ: «ارْجِعْ، فَإِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا» .
فَرَجَعَ خَالِدٌ. فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ السَّدَنَةُ، وَهُمْ
حُجَّابُهَا، أمعنوا في الجبل وهم
__________
[1] السيرة لابن هشام 4/ 92، 93، والمغازي للواقدي 2/ 859، 860،
وعيون الأثر 2/ 176، والسيرة لابن كثير 3/ 564، وشفاء الغرام 2/
226 و 227.
[2] هي نائلة بنت زيد، من جرهم، دخلت مع إساف بن يعلى الكعبة،
فوجدا غفلة من الناس، ففجر بها. فمسخا حجرين، فعبدتهما خزاعة
وقريش. (الأصنام لابن الكلبي ص 9 و 29) .
[3] روى مثله الأزرقي في (أخبار مكة 1/ 122) عن جدّه، عن محمد بن
إدريس، عن الواقدي، عن أشياخه. وانظر، شفاء الغرام 2/ 447.
[4] الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 137 وقال أيضا: «لا تغزى قريش بعد
هذا اليوم إلى يوم القيامة» ، ومثله في المغازي للواقدي 2/ 862 من
طريق: يزيد بن فراس، عن عراك بن مالك، عن الحارث بن البرصاء. وفي
آخره: «يعني على الكفر» .
(2/554)
يَقُولُونَ: يَا عُزَّى خَبِّلِيهِ، يَا
عُزَّى عَوِّرِيهِ [1] ، وإلّا فموتي برغم. فأتاها [98 ب] خَالِدٌ،
فَإِذَا امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا تَحْثُو
التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهَا.
فَعَمَّمَهَا بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهَا. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ.
فَقَالَ: «تِلْكَ الْعُزَّى» [2] . أَبُو الطُّفَيْلِ لَهُ
رُؤْيَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي
بَعْضُ آلِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، أَمَرَ بِلالا
فَعَلا عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَأَذَّنَ عَلَيْهَا. فَقَالَ
بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ
سَعِيدًا إِذْ قَبَضَهُ قَبْلَ أَنْ يَرَى هَذَا الأَسْوَدَ عَلَى
ظَهْرِ الْكَعْبَةِ.
وَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ [بِلالا] [3] يَوْمَ الْفَتْحِ فَأَذَّنَ عَلَى
الْكَعْبَةِ [4] .
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبِ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي هِنْدَ [5] : أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلٍ
حَدَّثَهُ، أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَتْهُ،
لَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ فَرَّ إِلَيْهَا رَجُلَانِ مِنْ
بَنِي مَخْزُومٍ، فَأَجَارَتْهُمَا. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ
عَلِيٌّ فَقَالَ: أَقْتُلُهُمَا. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ،
فَلَمَّا رَآنِي رَحَّبَ فَقَالَ: «مَا جَاءَ بِكِ يَا أُمِّ
هَانِئٍ؟ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كُنْتُ قَدْ أَمَّنْتُ
رَجُلَيْنِ مِنْ أَحْمَائِي فَأَرَادَ عليّ قتلهما. فقال: «قد
أجرنا من أجزت» . ثم قام إلى غسله،
__________
[1] خبّليه: دعاء عليه بالخيل، وهو الفالج أو قطع اليد أو المنع أو
الحبس أو الجنون. وكلّها من معانيه. وعوّريه: ردّيه. يقال: عورته
عن حاجته رددته عنها.
[2] سيرة ابن هشام 4/ 113، الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 145، 146،
المغازي للواقدي 3/ 873، 874، تاريخ الرسل والملوك للطبري 3/ 65،
عيون الأثر لابن سيّد الناس 2/ 184، السيرة النبويّة لابن كثير 3/
597، 598، نهاية الأرب للنويري 17/ 314، 315، عيون التواريخ 1/
319، 320.
[3] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح.
[4] الحديث مرسل. وأخرجه ابن سعد في الطبقات 3/ 167 من طريق: عارم
بن الفضل، عن حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة وغيره.
ورجاله ثقات، لكنه مرسل أيضا.
[5] في الأصل «سعيد بن أبي بلال» وصحّحه في هامش (ح) : سعيد بن أبي
هلال. والتصويب من صحيح مسلم 1/ 182، وتهذيب التهذيب لابن حجر 4/
93.
(2/555)
فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ. ثُمَّ
أَخَذَ ثَوْبًا فَالْتَحَفَ بِهِ ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ،
سُبْحَةَ الضُّحَى. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [1] . وَقَالَ اللَّيْثُ،
عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ، أَنَّهُ
قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَث الْبُعُوثَ إِلَى
مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أُحَدِّثُ قَوْلًا
قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ؟ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ
قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، [أَنَّهُ]
[2] حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ
اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، وَلَا
يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ
يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدُ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ
أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، فَقُولُوا لَهُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ
أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي
فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا
الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ. فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ
الْغَائِبَ» . فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَاذَا قَالَ لَكَ
عَمْرٌو؟ قَالَ: قَالَ أَنَا أَعْلَمُ بِذَاكَ مِنْكَ يَا أَبَا
شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا
بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ [3] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [4] .
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَمَّنْ
حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ عَلَى
دَرَجَةِ الْكَعْبَةِ: «الحمد للَّه الذي صدق وعده، ونصر عبده،
وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ. أَلا إِنَّ قَتِيلَ الْعَمْدِ
الْخَطَإِ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ
الْإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا
أَوْلَادُهَا. أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأَثُرةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
وَدَمٍ وَمَالٍ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا مَا كَانَ من
سدانة البيت
__________
[1] صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب تستّر المغتسل بثوب ونحوه (1/ 182-
183) ، وكتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى وأنّ
أقلّها ركعتان وأكملها ثمان ركعات (2/ 157- 158) .
[2] زيادة من النسختين: ع، ح. وصحيح مسلم.
[3] الخربة: البلية.
[4] أخرجه البخاري في كتاب العلم (6/ 176 و 177) باب: ليبلّغ
الشاهد الغائب، وفي الحج، باب: لا يعضد شجر الحرم، وفي المغازي (5/
98) ، باب منزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ومسلم (1354)
في الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ... ، وانظر: شفاء
الغرام (بتحقيقنا) 1/ 107.
(2/556)
وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ، فَقَدْ
أَمْضَيْتُهَا لِأَهْلِهَا» [1] . ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ.
وقال ابن إسحاق [99 أ] حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ عَامَ الْفَتْحِ، ثُمَّ
قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّهُ لَا حِلْفَ فِي
الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا شِدَّةً.
وَالْمُؤْمِنُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يُجِيرُ عَلَيْهِمْ
أَدْنَاهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، يَرُدُّ
سَرَايَاهُمْ عَلَى قَعِيدَتِهِمْ. لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ
بِكَافرٍ. دِيَةُ الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. لَا
جَلَبَ وَلَا جَنَبَ. وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي
دُورِهِمْ» [2] . وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَنْزِلُنَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِذَا فَتَحَ
اللَّهُ، الْخَيْفُ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ» .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [3] . وَقَالَ أَبُو الأَزْهَرِ
النَّيْسَابُورِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ
الأَنْبارِيُّ، أنا ابن جريج، وأخبرنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُثْمَانَ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ،
أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ الأَسْوَدَ حَضَرَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ الناس يوم الفتح، وجلس عند
قرن
__________
[1] أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/ 11 من طريق: سفيان، عن ابن
جدعان، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر، و 3/ 410 من طريق هشام، عن
خالد، عن القاسم بن ربيعة بن جوشن، عن عقبة بن أوس، عَنْ رَجُلٍ
مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
[2] أخرج أوّله الإمام مسلم في فضائل الصحابة (204/ 2529) و (206/
2530) ، باب مؤاخاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه رضي
الله عنهم، من طريق: عبد الله بن نمير، وأبي أسامة، عن زكريا، عن
سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم. وأخرج أبو داود أوّله
أيضا في الفرائض (2925 و 2926) ، وأحمد في المسند 1/ 190 و 317 و
329، ورواه أحمد كاملا في مسندة 2/ 180، وانظر 2/ 205 و 207 و 213
و 215، و 3/ 162 و 281، و 4/ 83 و 5/ 61.
[3] في كتاب المغازي (5/ 92) باب أين ركّز النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم الراية يوم الفتح، وأخرجه أبو داود في الفرائض (2910) باب هل
يرث المسلم الكافر؟ وفيه إن الخيف هو خيف بني كنانة حيث تقاسمت
قريش على الكفر، يعني المحصّب، وذاك أنّ بني كنانة حالفت قريشا على
بني هاشم: أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم، ولا يؤوهم. قال الزهري:
والخيف الوادي. وانظر معجم مع استعجم 2/ 526.
(2/557)
مَسْقَلَةَ [1] ، فَجَاءَهُ الصِّغَارُ
وَالْكِبَارُ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَبَايَعُوهُ عَلَى
الإِسْلامِ وَالشَّهَادَةِ [2] .
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ
عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ
بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ
وَنَزَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا طُوًى، قَالَ أَبُو
قُحَافَةَ لابْنَةٍ لَهُ كَانَتْ مِنْ أَصْغَرِ وَلَدِهِ: أَيْ
بُنَيَّةُ: أَشْرِفِي بِي عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَقَدْ كُفَّ
بَصَرُهُ. فَأَشَرَفَتْ بِهِ عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَاذَا تَرَيْنَ؟
قَالَتْ:
أَرَى سَوَادًا مُجْتَمِعًا، وَأَرَى رَجُلا يَشْتَدُّ بَيْنَ
ذَلِكَ السَّوَادِ مُقْبِلا وَمُدْبِرًا. فَقَالَ:
تِلْكَ الْخَيْلُ يَا بُنَيَّةُ، وَذَلِكَ الرَّجُلُ الْوَازِعُ
[3] . ثُمَّ قَالَ: مَاذَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَى السَّوَادَ
انْتَشَرَ. فَقَالَ: فَقَدْ وَاللَّهِ إِذَنْ دُفِعَتِ الْخَيْلُ،
فَأَسْرِعِي بِي إِلَى بَيْتِي.
فَخَرَجَتْ سَرِيعًا، حَتَّى إِذَا هَبَطَتْ بِهِ الأَبْطَحَ،
لَقِيَتْهَا الْخَيْلُ، وَفِي عُنُقِهَا طَوْقٌ لَهَا مِنْ وَرِقٍ،
فَاقْتَطَعَهُ إِنْسَانٌ مِنْ عُنُقِهَا. فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم المسجد، خرج أبو بكر حتى
جاء بأبيه يقوده. فلما رآه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَلا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ
حَتَّى أَجِيئَهُ» ؟ فَقَالَ: يَمْشِي هُوَ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَحَقَّ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَيْهِ. فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ وَقَالَ: «أَسْلِمْ تَسْلَمْ» .
فَأَسْلَمَ.
ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِيَدِ أُخْتِهِ فَقَالَ:
أَنْشُدُ باللَّه وَالإِسْلامِ طوق أختي. فو الله مَا أَجَابَهُ
أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ، فَمَا أَجَابَهُ أَحَدٌ.
فَقَالَ: يَا أُخَيَّةُ، احْتَسِبِي طَوْقَكِ،
__________
[1] قرن مسقلة: قال الأزرقي: هو قرن قد بقيت منه بقية بأعلى مكة في
دبر دار سمرة عند موقف الغنم بين شعب ابن عامر وحرف دار رابغة في
أصله، ومسقلة: رجل كان يسكنه في الجاهلية. (أخبار مكة 2/ 270)
[2] يبايعونه بأعلى مكة عند سوق الغنم، قال محقّق كتاب «أخبار مكة»
السيد رشدي الصالح ملحس: يقع سوق الغنم قديما في الوادي الواقع
شرقي جبل الرقمتين، ويسمّى هذا السوق اليوم (سوق الجودرية) ويوجد
ثمة مسجد صغير يسمّى (مسجد الغنم) ولا يبعد أن يكون هذا المسجد هو
الّذي أشار إليه الأزرقي في بحث المساجد. (أخبار مكة 2/ 271) حاشية
رقم (1) .
[3] في الأصل (ح) : الوادع. والتصحيح من النسخة (ع) . والوازع في
الحرب من يدير أمور الجيش والموكل بالصفوف يردّ من شدّ منهم ويزع
من تقدّم أو تأخّر بغير أمره.
(2/558)
فو الله إِنَّ الأَمَانَةَ الْيَوْمَ فِي
النَّاسِ لَقَلِيلٌ [1] . وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ
جَابِرٍ: أَنَّ عُمَرَ أَخَذَ بِيَدِ أَبِي قُحَافَةَ فَأَتَى بِهِ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
«غَيِّرُوا هَذَا الشَّيْبَ وَلَا تُقَرِّبُوهُ سَوَادًا» [2] .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَنَّأَ أَبَا بَكْرٍ بِإِسْلامِ
أَبِيهِ.
مُرْسَلٌ.
وقال مالك، عَنِ ابن شهاب: أَنَّهُ بلغه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عَلَى عهده نساء يُسْلِمْن
بأَرْضِهنّ، منهنّ ابْنَة الوليد بْن المُغِيرة، وكانت تحت صَفْوان
بْن أميّة، فأسلمت يوم الفتح [99 ب] وهرب صفوان. فبعث إِلَيْهِ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ عمّه
عُمَيْر بْن وهب برداء رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أمانًا لصفوان، ودعاه إلى الإسلام، وأن يَقْدَم
عَلَيْهِ، فإنْ رَضِي أمرًا قَبِله، وإلا سيّره شهرين.
فقدم فنادى على رءوس النّاس: يا مُحَمَّد، هذا عُمير بن وهب جاءني
بردائك وزعم أنّك دعوتني إلى [3] القدوم عليك، فإنّ رضيتُ أمرًا
قبلته، وإلّا سيَّرتَني شهرين. فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انزِلْ أَبَا وهب. فقال: لا والله، لا
أنزل حتّى تبيّن لي. فقال: بل لك تَسْيِير أربعة أشهر. فَخَرَجَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَل هَوازِن،
فأرسل إلى صفوان يستعيره أداةً وسلاحًا. فقال صفوان: أَطَوْعًا أو
كَرْهًا؟
فقال: بلْ طوعًا. فأعاره الأداة والسلاح. وخرج مَعَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو كافر، فشهد حنينا والطائف،
وهو كافر وامرأته مسلمة. فلم يفرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم
بينهما حتّى أسلم، واستقرّت عنده بذلك النِّكاح. وكان بين إسلامهما
نحو من شهر [4] .
__________
[1] السيرة النبويّة لابن هشام 4/ 91.
[2] أخرجه أحمد في المسند 3/ 338.
[3] في الأصل «على» والتصحيح من (ع) و (ح) .
[4] أخرجه الإمام مالك (الموطّأ 2/ 75، 76) في النكاح، باب نكاح
المشرك إذا أسلمت زوجته قبله، وهو من بلاغات مالك التي لا يعلم
اتصاله من وجه صحيح. قال ابن عبد البرّ: وهو
(2/559)
وكانت أمّ حكيم بِنْت الحارث بْن هشام تحت
عِكْرِمة بْن أَبِي جهل، فأسلمت يوم الفتح، وهرب عكرمة حتى قدم
اليمن. فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن ودعته إلى الإسلام
فأسلم، وقدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فلمّا رآه وثب فرحًا بِهِ، ورمى عَلَيْهِ رداءه حتّى
بايعه. فثبتا عَلَى نكاحهما ذَلِكَ [1] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن يزيد
الهُذَليّ، عَنْ أَبِي حُصَيْن الهُذليّ قَالَ: اسْتَقْرَض رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صفوان بْن أمية
خمسين ألف درهم، ومن عَبْد اللَّه بْن أَبِي ربيعة أربعين ألفًا،
ومن حُوَيْطِب بْن عَبْد العُزَّى أربعين ألفًا، فقسمها بين أصحابه
من أهُل الضَّعْف. ومن ذلك المال بعث إلى جذيمة [2] .
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ،
قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبةَ بْنِ رَبِيعَةَ،
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ مِمَّا عَلَى ظَهْرِ
الْأَرْضِ [أَهْلُ] [3] أَخْباءٍ، أَوْ خباء [4] أحبّ إليّ أن
يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ
عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ
يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ. قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَيْضًا، وَالَّذِي نَفْسُ
مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا
سُفْيَانَ رَجُلٌ مُمْسِكٌ- أَوْ قَالَتْ: مِسِّيكٌ- فَهَلْ
عَلِيَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ؟ قَالَ:
«لَا، بِالْمَعْروُفِ» . أخرجه البخاري [5] .
__________
[ () ] حديث مشهور معلوم عند أهل السير، وابن شهاب إمام أهل السير،
وكذلك الشعبي. انظر:
سير أعلام النبلاء 2/ 565، والسيرة النبويّة لابن هشام 4/ 105.
[1] أخرجه مالك في الموطّأ، كتاب النكاح 46، وابن عساكر في تاريخ
دمشق (تراجم النساء) بتحقيق سكينة الشهابي 502.
[2] المغازي (2/ 863) .
[3] سقطت من الأصل وبقية النسخ، وأثبتناها من صحيح البخاري.
[4] أخباء: جمع خباء وهو بيت صغير من وبر أو صوف.
[5] صحيح البخاري: كتاب مناقب الأنصار، باب ذكر هند بنت عتبة بن
ربيعة رضي الله عنها
(2/560)
وَأَخْرَجَاهُ [1] ، مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ
بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَعِنْدَهُ:
فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ
عِيَالُنَا. قَالَ: لَا عَلَيْكَ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ
بِالْمَعْرُوفِ.
وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ: ثنا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ
أَبِي السَّفَرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رَأَى أَبُو
سُفْيَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وَالنَّاسُ يَطَئُونَ
عَقِبَهُ. فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ عَاوَدت هَذَا الرَّجُل
القتالَ. فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى ضَرَبَ بِيَدِهِ في صدره، فقال: إذا [100 أ]
يُخْزِيكَ اللَّهُ. قَالَ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُ
اللَّهَ.
وَرَوَى نَحْوَهُ، مُرْسلا، أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ. وَقَالَ مُوسَى
بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ دَخَلَ
النَّاسُ مَكَّةَ، لَمْ يَزَالُوا فِي تَكْبِيرٍ وَتَهْلِيلٍ
وَطَوَافٍ بِالْبَيْتِ حَتَّى أَصْبَحُوا. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ
لِهِنْدٍ: أَتَرِي هَذَا مِنَ اللَّهِ؟ ثُمَّ أَصْبَحَ فَغَدا
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ
له: «قلت لهند أترين هَذَا مِنَ اللَّهِ، نَعَمْ، هَذَا مِنَ
اللَّهِ» . فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.
وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ أَبُو سُفْيَانَ، مَا سَمِعَ قَوْلِي
هَذَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلا اللَّهُ وَهِنْدٌ. وقال ابن
المبارك، أخبرنا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ:
__________
[ () ] (4/ 232) وكتاب المظالم (3/ 101، 102) باب قصاص المظلوم إذا
وجد مال ظالمه، وكتاب النفقات (6/ 192) باب نفقة المرأة إذا غاب
عنها زوجها ونفقة الولد، وكتاب الأحكام (8/ 109) باب من رأى للقاضي
أن يحكم بعلمه في أمر الناس إذا لم يخف الظنون والتهمة، ومسلم (ص
1339) كتاب الأقضية (1714/ 9) باب قضيّة هند.
[1] انظر ما قبله.
(2/561)
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [1] .
وَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ: سَبْعَةَ
عَشَرَ يَوْمًا.
صَحِيحٌ [2] .
وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ، أَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي
نَضْرَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، يَقُولُ: يَا
أَهْلَ الْبَلَدِ صَلُّوا أَرْبَعَةً، فَإِنَّا سَفْرٌ [3] .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ [4] . عَلَيٌّ ضَعِيفٌ [5] .
وَقَالَ ابن إسحاق، عَنِ الزُّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْد اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ خَمْسَ عَشْرَةَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ
[6] .
ثُمَّ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ جَمَاعَةٍ، مِثْلَ هَذَا. قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: الأَصَحُّ رِوَايَةً ابن المبارك التي اعتمدها
البخاري.
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب مقام النبي صلّى الله عليه
وسلّم بمكة زمن الفتح (5/ 95) وأحمد في المسند 1/ 223.
[2] أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة (1232) باب: متى يتمّ المسافر.
وأحمد في المسند 1/ 303 و 315.
[3] السفر: بسكون الفاء. المسافرون.
[4] في كتاب الصلاة (1229) باب: متى يتمّ المسافر؟
[5] انظر عنه: أحوال الرجال للجوزجانيّ 114 رقم 185، الجرح
والتعديل لابن أبي حاتم 6/ 186 رقم 1021، التاريخ الكبير للبخاريّ
6/ 275 رقم 2389، التاريخ لابن معين 2/ 417 رقم 352، تهذيب التهذيب
لابن حجر 8/ 322 رقم 544، تقريب التهذيب له 2/ 37، الكامل في ضعفاء
الرجال لابن عديّ 5/ 1840- 1845، المجروحين لابن حبّان 2/ 103،
الضعفاء الكبير للعقيليّ 3/ 229- 231 رقم 1231، ترتيب الثقات
للعجلي 346 رقم 1186، تهذيب الكمال للمزّي 2/ 967، ميزان الاعتدال
للذهبي 3/ 127 رقم 5844، المغني في الضعفاء له 2/ 447 رقم 4265،
الكاشف له 2/ 248 رقم 3975.
[6] أخرجه النسائي في كتاب تقصير الصلاة في السفر 3/ 121 باب
المقام الّذي يقصر بمثله الصلاة، وانظر السيرة لابن هشام 4/ 113،
والمغازي للواقدي 2/ 871.
(2/562)
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ [1] : وَفِي
رَمَضَانَ بُعِثَ [2] خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى الْعُزَّى،
فَهَدَمَهَا [3] . وَبُعِثَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى سُوَاعٍ
[4] فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ صَنَمُ هُذَيْلٍ، فَهَدَمَهُ. وَقَالَ
قُلْتُ لِلسَّادِن: كَيْفَ رَأَيْتَ؟ قَالَ: أَسْلَمْتُ للَّه [5]
.
[قَالَ] [6] : وَفِي رَمَضَانَ بُعِثَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ
الأَشْهَلِيُّ إِلَى مَنَاةَ، وَكَانَتْ بِالْمُشَلَّلِ، لِلأَوْسِ
وَالْخَزْرَجِ وَغَسَّانَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ بَعَثَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ
زَيْدٍ الأَشْهَلِيَّ فِي عِشْرِينَ فَارِسًا حَتَّى انْتَهَى
إِلَيْهَا. وَتَخْرُجُ إِلَى سَعْدٍ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ
عُرْيَانَةٌ ثَائِرَةُ الرَّأْسِ تَدْعُو بِالْوَيْلِ، فَقَالَ
لَهَا السَّادِنُ: مَناةُ، دُونَكِ بَعْضَ غَضَبَاتِكَ. وَسَعْدٌ
يَضْرِبُهَا، فَقَتَلَهَا. وَأَقْبَلَ إِلَى الصَّنَمِ،
فَهَدَمُوهُ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ [7] .
وَقَالَ مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، [عَنْ طَاوُسٍ] [8] ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ
وَنِيَّةٌ، وَإِنِ اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» .
قَالَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [9] .
__________
[1] في المغازي 2/ 870.
[2] في الأصل «بعثة» ، والتصحيح من نسخة (ح) .
[3] سيرة ابن هشام 4/ 113، الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 145، تاريخ
الرسل والملوك للطبري 3/ 65، عيون الأثر لابن سيد الناس 2/ 184،
نهاية الأرب 17/ 314، 315.
[4] انظر عنه كتاب الأصنام للكلبي 9 و 10.
[5] الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 146، تاريخ الطبري 3/ 66، نهاية
الأرب 17/ 315، عيون الأثر 2/ 185، عيون التواريخ 1/ 321، المغازي
للواقدي 2/ 870.
[6] ليست في الأصل. وأثبتناها من نسختي: ع، ح.
[7] المغازي للواقدي 2/ 870، الطبقات لابن سعد 2/ 146، 147، تاريخ
الطبري 3/ 66، عيون التواريخ 1/ 321، عيون الأثر 2/ 185.
قال الكلبي إنّ مناة أقدم الأصنام كلها، وكان منصوبا على ساحل
البحر من ناحية المشلّل بقديد، بين المدينة ومكة. (الأصنام 13) .
[8] الاستدراك على الأصل من صحيحي البخاري ومسلم.
[9] أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير (3/ 200) باب فضل الجهاد
والسير، ومسلم في كتاب الإمارة (1353/ 85) باب المبايعة بعد فتح
مكة على الإسلام والجهاد، والخير، وأبو داود في كتاب الجهاد (2480)
باب في الهجرة هل انقطعت، والترمذي في كتاب السير
(2/563)
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ: سَمِعْتُ
أَبَا الْبَخْتَرِيِّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
قَالَ: لَمَّا نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ 110: 1 [1]
قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثُمَّ قَالَ:
«إِنِّي وَأَصْحَابِي حَيِّزٌ، وَالنَّاسُ حَيِّزٌ، لا هِجْرَةَ
بَعْدَ الْفَتْحِ» . فَحَدَّثْتُ بِهِ مَرْوَانَ ابن الْحَكَمِ-
وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ- فَقَالَ: كَذَبَتْ. وَعِنْدَهُ زيد بن
ثابت، ورافع ابن خديج، وكانا [100 ب] مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ.
فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَيْنِ لَوْ شَاءَا لَحَدَّثَاكَ، وَلَكِنَّ
هَذَا، يَعْنِي زَيْدًا، يَخَافُ أَنْ تَنْزِعَهُ عَنِ
الصَّدَقَةِ، وَالْآخَرُ يَخَافُ أَنْ تَنْزِعَهُ عَنْ عَرَافَةِ
قَوْمِهِ. قَالَ: فَشَدَّ عَلَيْهِ بِالدِّرَّةِ، فَلَمَّا رَأَيَا
ذَلِكَ قَالَا:
صَدَقَ [2] .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي أَبُو
قِلابَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ حَيٌّ،
أَلا تَلْقَاهُ فَتَسْمَعُ مِنْهُ؟ فَلَقِيتُ عَمْرًا فَحَدَّثَنِي
بِالْحَدِيثِ، قَالَ: كُنَّا بِمَمَرِّ النَّاسِ، فَتَمُرُّ بِنَا
الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ: مَا هَذَا الأَمْرُ؟ وَمَا
لِلنَّاسِ؟
فَيَقُولُونَ: نَبِيٌّ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَرْسَلَهُ،
وَأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ كَذَا وَكَذَا. وَكَانَتِ
الْعَرَبُ تَلَوَّمُ [3] بِإِسْلامِهَا الْفَتْحَ، وَيَقُولُونَ:
أَنْظِرُوهُ، فَإِنْ ظَهَرَ فَهُوَ نَبِيٌّ فَصَدِّقُوهُ.
فَلَمَّا كَانَ وَقْعَةُ الْفَتْحِ، بَادَرَ [4] كُلُّ قَوْمٍ
بِإِسْلامِهِمْ. فَانْطَلَقَ أَبِي بِإِسْلامِ حِوَائِنَا [5]
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَدِمَ فَأَقَامَ عِنْدَهُ كَذَا وَكَذَا. ثُمَّ جَاءَنَا
فَتَلَقَّيْنَاهُ، فَقَالَ:
جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ حَقًّا، وَإِنَّهُ
يَأْمُرُكُمْ بِكَذَا، وَصَلاةِ كَذَا وَكَذَا. وَإِذَا حَضَرَتِ
الصَّلاةُ فليؤذّن أَحَدُكُمْ، وَلَيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ
قُرْآنًا. فَنَظَرُوا فِي أَهْلِ حوائنا فلم يجدوا أَكْثَرَ
قُرْآنًا مِنِّي فَقَدَّمُونِي، وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سنين، أو ستّ
سنين.
__________
[ () ] (1638) باب ما جاء في الهجرة، وأحمد في المسند 1/ 226 و 316
و 355، و 3/ 22 و 401، و 5/ 187، و 6/ 466.
[1] أول سورة النصر.
[2] رواه أحمد في المسند 3/ 22 و 5/ 187.
[3] تلوّم: أصلها تتلوّم. وتلوّم في الأمر تمكّث وانتظر.
[4] في الأصل: بادى. والتصحيح من ح وصحيح البخاري.
[5] الحواء: جماعة البيوت المتدانية.
(2/564)
فَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ، فَإِذَا
سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ بُرْدَةٌ عَلَيَّ. تَقُولُ امْرَأَةٌ مِنَ
الْحَيِّ:
غَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ هَذَا. قَالَ: فَكُسِيتُ معقدةً
مِنْ معقدِ [1] الْبَحْرَيْنِ بِسِتَّةِ دَرَاهِمَ أَوْ سَبْعَةٍ،
فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ كَفَرَحِي بِذَلِكَ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [2] ، عَنْ سليمان بن حرب، عنه.
__________
[1] المعقد: ضرب من برود هجر.
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب: وقال الليث، بعد باب مقام
النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة زمن الفتح (5/ 95، 96) ، والنسائي
في كتاب الأذان (2/ 9، 10) باب اجتزاء المرء بأذان غيره في الحضر،
وأحمد في المسند 3/ 475 و 5/ 30 و 71.
(2/565)
غزوة بني حُذيَمة [1]
قَالَ ابن إِسْحَاق: وبعث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ السرايا فيما حول مكة يدعون إلى اللَّه تعالى، ولم
يأمرهم بقتالٍ. فكان ممّن بعث، خَالِد بْن الوليد، وأمره أنَّ يسير
بأسفل تِهامة داعيا، ولم يبعثه مقاتلا. فوطئ بني جَذِيمة بن عامر
بْن عَبْد مَنَاة بْن كِنَانة، فأصاب منهم.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ،
قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى- أَحْسَبُهُ قَالَ- بَنِي
جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ. فَلَمْ يُحْسِنُوا [أنْ]
[2] يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا،
صَبَأْنَا. وَجَعَل خَالِدٌ [يَأْمُرُ] [3] بِهِمْ قَتْلا
وَأَسْرًا، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرًا. حَتَّى
إِذَا أَصْبَحَ يَوْمًا أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ
مِنَّا أَسِيرَهُ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقُلْتُ وَاللَّهِ لا
أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي
أَسِيرَهُ. قَالَ: فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
[1] انظر: المغازي للواقدي 3/ 875، تاريخ الطبري 3/ 66، تاريخ
خليفة 87، 88، عيون التواريخ 1/ 313، الطبقات الكبرى لابن سعد 2/
147، عيون الأثر 2/ 185، نهاية الأرب 17/ 316، السيرة لابن كثيرة
3/ 593.
[2] ليست في الأصل، وأثبتناها من صحيح البخاري (5/ 107) .
[3] في الأصل «وجعل خالد بهم قتلا وأسرا» . وما زدناه على الأصل
يقتضيه السياق، ففي لفظ البخاري: «فجعل خالد يقتل منهم ويأسر» .
(2/567)
فَذُكِرَ لَهُ صَنِيعُ خَالِدٍ. فَقَالَ،
وَرَفَعَ يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهمّ
إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» . مَرَّتَيْنِ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [1] . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ،
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعَثَ
خالد بن الوليد، فخرج حتى [101 أ) نَزَلَ بِبَنِي جَذِيمَةَ،
وَهُمْ عَلَى مَائِهِمْ، وَكَانُوا قَدْ أَصَابُوا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ عَمَّهُ الْفَاكِهَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَوَالِدَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ:
فَأَمَرَ خَالِدٌ بِرِجَالٍ مِنْهُمْ فَأُسِرُوا وَضُرِبَتْ
أَعْنَاقُهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اللَّهمّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ
مِمَّا عَمِلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ» .
ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلِيًّا فَقَالَ: «اخْرُجْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَأَدِّ
دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ
تَحْتَ قَدَمَيْكَ» . فَخَرَجَ عَلِيٌّ، وَقَدْ أَعْطَاهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالًا، فَوَدَى لَهُمْ
دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُعْطِيهُمْ ثَمَنَ
مِيلَغَةِ [2] الْكَلْبِ. فَبَقِيَ مَعَ عَلِيٍّ بَقِيَّةٌ مِنْ
مَالٍ، فَقَالَ: أَعْطِيكُمْ هَذَا احْتِياطًا لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا لَا يَعْلَمُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيمَا لَا
تَعْلَمُونَ. فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ. ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبره الخبر فَقَالَ:
أَحْسَنْتَ وَأَصَبْتَ [3] . وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي
حَدْرَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ فِي الْخَيْلِ الَّتِي
أَصَابَ فِيهَا خَالِدٌ بَنِي جَذِيمَةَ، إِذَا فتى منهم مجموعة
يده إلى عنقه
__________
[1] في كتاب المغازي (5/ 107) باب بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلى بني
جذيمة. وانظر:
تاريخ الطبري 3/ 67، والمغازي للواقدي 3/ 881، وطبقات ابن سعد 2/
248. ومسند أحمد 2/ 151.
[2] الميلغة والميلغ (بالكسر) : الإناء بلغ فيه الكلب. (النهاية في
غريب الحديث لابن الأثير 4/ 230) .
[3] السيرة لابن هشام 4/ 111، المغازي للواقدي 3/ 882، الطبقات
لابن سعد 2/ 148، عيون الأثر 2/ 186، تاريخ الطبري 3/ 67، نهاية
الأرب 17/ 316 و 319 و 321 و 322، السيرة لابن كثير 3/ 592، عيون
التواريخ 1/ 314، 315.
(2/568)
بِرُمَّةٍ- يَقُولُ: بِحَبْلٍ- فَقَالَ:
يَا فَتَى، هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِهَذِهِ الرُّمَّة فَمُقَدِّمِي
إِلَى هَذِهِ النِّسْوَةِ، حَتَّى أَقْضِيَ إِلَيْهِنَّ حَاجَةً،
ثُمَّ تَصْنَعُونَ [بِي] [1] مَا بَدَا لَكُمْ؟
فَقُلْتُ: لَيَسِيرٌ مَا سَأَلْتَ. ثُمَّ أَخَذْتُ بِرُمَّتِهِ
فَقَدَّمْتُهُ إِلَيْهِنَّ، فَقَالَ: اسْلَمِي [2] حُبَيْشٌ، عَلَى
نَفَدِ الْعَيْشِ. ثُمَّ قَالَ:
أَرَيْتَكِ [3] إِنْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ ... بِحَلْيَةَ
أَوْ أَدْرَكْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ
أَلَمْ يَكُ حَقًّا أَنْ يُنَوَّلَ عَاشِقٌ ... تَكَلَّفَ إِدْلاجَ
السُّرَى وَالْوَدَائِقِ [4]
فَلا ذَنْبَ لِي، قَدْ قُلْتُ، إِذْ أَهْلُنَا مَعًا ... أَثِيبِي
[5] بِوُدٍّ قَبْلَ إِحْدَى الصَّفَائِقِ [6]
أَثِيبِي بِوُدٍّ قَبْلَ أَنْ تَشْحَطَ [7] النَّوَى ... وَيَنْأَى
الأَمِيرُ [8] بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ
فَإِنِّيَ لا سِرًّا لَدَيَّ أَضَعْتُهُ ... وَلا رَاقَ عَيْنِي
بَعْدَ وَجْهِكِ رَائِقُ
عَلَى أَنَّ مَا بِي لِلْعَشِيرَةِ شَاغِلٌ ... عَنِ اللَّهْوِ
إِلا أَنْ تَكُونَ بَوائِقُ [9]
فَقَالَتْ: وَأَنْتَ حُيِّيتَ عَشْرًا، وَسَبْعًا وِتْرًا، وثمانيا
تترى. ثم قدّمناه فضربنا عنقه.
__________
[1] زيادة من النسخة (ع) .
[2] في الأصل وبقية النسخ: «أسلم» . والتصويب من سيرة ابن هشام 4/
111 وغيره. قال السهيليّ: ذكر قول الرجل للمرأة: أسلمي حبيش على
نفد العيش. النفد: مصدر نفد إذا فني، وهو النفاد. وحبيش مرخّم من
حبيشة. (الروض الأنف 4/ 121) وحبيشة هي معشوقة قائل الأبيات
المذكورة.
[3] في الأصل، ح: «أرأيت» . وفي (ع) : «أرأيتك» ، وما أثبتناه عن
سيرة ابن هشام وغيره.
[4] الودائق: جمع وديقة، وهي شدّة الحرّ في الظهيرة. والإدلاج:
السير ليلا.
[5] في الأصل: أبيني: والتصحيح من ع، ح. وأثيبي: أفضلي بالثواب.
[6] الصفائق: كالصوافق: الحوادث وصوارف الخطوب. الواحدة: صفيقة.
[7] تشحط: تبعد.
[8] في الأصل (ع) : الأمين، والمثبت من (ح) .
[9] البوائق: جمع بائقة، وهي الداهية والبليّة تنزل بالقوم.
انظر الأبيات باختلاف في الألفاظ في: سيرة ابن هشام 4/ 112، طبقات
ابن سعد 2/ 149، المغازي للواقدي 3/ 879، تاريخ الطبري 3/ 69، عيون
الأثر 2/ 187، نهاية الأرب 17/ 322، 323، عيون التواريخ 1/ 317،
السيرة لابن كثير 3/ 595، الأغاني 7/ 279 وفيه بيتان.
(2/569)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنَا أَبُو
فِرَاسٍ الأَسْلَمِيُّ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ قَدْ
شَهِدُوا هَذَا مع خالد، قالوا: فلما قُتِلَ قَامَتْ إِلَيْهِ،
فَمَا زَالَتْ تَرْشُفُهُ حَتَّى ماتت عليه [1] .
__________
[1] في هامش (ح) : «هذه القصة رواها النسائي: من حديث ابن عباس.
ولها طريق أخرى» .
(2/570)
غزوَة حُنَين [1]
قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ
عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،
عَنْ أَبِيهِ. وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ،
وَالزُّهْرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ حَدِيثِ
حُنَيْنٍ [2] ، حِينَ سَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَارُوا إِلَيْهِ. فَبَعْضُهُمْ
يُحَدِّثُ بِمَا لا يُحَدِّثُ [101 ب] بِهِ بَعْضٌ. وَقَدِ
اجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ، جَمَعَ
عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ النّصريّ بني نصر وبني جشم وبني سعد بن بكر،
وأوزاعا [3] من بني هلال، وهم قليل، وناسا من بني عَمْرِو بْنِ
عَامِرٍ، وَعَوْفِ بْنِ عَامِرٍ، وَأَوْعَبَتْ مَعَهُ ثَقِيفُ [4]
الأَحْلافِ، وَبَنُو مَالِكٍ.
ثُمَّ سَارَ بهم إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وساق معه الأموال والنساء والأبناء.
__________
[1] انظر عنها: المغازي لعروة 214، سيرة ابن هشام 4/ 121، الروض
الأنف 4/ 138، المغازي للواقدي 3/ 885، الطبقات الكبرى لابن سعد 2/
149، تاريخ الطبري 3/ 70، تاريخ خليفة 88، نهاية الأرب 17/ 323،
عيون الأثر 2/ 187، السيرة النبويّة لابن كثير 3/ 610، عيون
التواريخ 1/ 321.
[2] حنين: واد قريب من مكة، وقيل هو واد قبل الطائف، وقيل: واد
بجنب ذي المجاز. قال الواقدي بينه وبين مكة ثلاث ليال. وهو يذكّر
ويؤنّث. (معجم البلدان 2/ 313) .
[3] الأوزاع: الجماعات المتفرقة.
[4] في الأصل: «نصف الأحلاف» ، والتصحيح من نسختي: ع، ح.
(2/571)
فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيَّ، فَقَالَ:
«اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ، حَتَّى تَعْلَمَ لَنَا مِنْ
عِلْمِهِمْ» . فَدَخَلَ فِيهِمْ، فَمَكَثَ فِيهِمْ يَوْمًا أَوِ
اثْنَيْنِ. ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فأخبره خَبَرَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: «أَلا
تَسْمَعُ مَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ» ؟ فَقَالَ عُمَرُ:
كَذِبَ.
فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَذَّبْتَنِي يَا
عُمَرُ لَرُبَّمَا كَذَّبْتَ بِالْحَقِّ. فَقَالَ عُمَرُ: أَلا
تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ؟
فَقَالَ: «قَدْ كُنْتَ يَا عُمَرُ ضَالا فَهَدَاكَ اللَّهُ» .
ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، فَسَأَلَهُ أَدْرَاعًا عِنْدَهُ،
مِائَةَ دِرْعٍ، وَمَا يُصْلِحُهَا مِنْ عُدَّتِهَا. فَقَالَ:
أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ.
ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَائِرًا [1] . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثنا الزُّهْرِيُّ قَالَ:
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
حُنَيْنٍ فِي أَلْفَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، وَعَشَرَةِ آلافٍ كَانُوا
مَعَهُ، فَسَارَ بِهِمْ [2] .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ
بْنَ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ ابْنِ أُمَيَّةَ [3] .
وَبِالإِسْنَادِ الأَوَّلِ: أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ أَقْبَلَ
فِيمَنْ مَعَهُ مِمَّنْ جَمَعَ مِنْ قَبَائِلِ قَيْسٍ وَثَقِيفٍ،
وَمَعَهُ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ [4] ، شَيْخٌ كَبِيرٌ فِي
شِجَارٍ [5] لَهُ يُقَادُ بِهِ، حَتَّى
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 122، 123.
[2] ، (3) سيرة ابن هشام 4/ 123.
[4] دريد بن الصمّة: هو أبو قرّة الهوازني، واسم الصمّة: معاوية.
من شعراء العرب وشجعانهم وذوي أسنانهم. عاش نحوا من مائتي سنة حتى
سقط حاجباه على عينيه. وخرجت به هوازن يوم حنين تتيمّن برأيه فقتل
كافرا.
انظر عنه في: المحبّر لابن حبيب 298، الشعر والشعراء 2/ 635 رقم
178، المؤتلف والمختلف للآمدي 114، الأغاني 10/ 3، المغازي للواقدي
3/ 889، السمط الثمين 39، المعمّرين 20، أسماء المغتالين 223،
تهذيب تاريخ دمشق 5/ 226، الوافي بالوفيات 14/ 11 رقم 11، التذكرة
السعدية 102، معجم الشعراء في لسان العرب 150 رقم 344، خزانة الأدب
للبغدادي 4/ 422، شعراء النصرانية 1/ 752، الأعلام 3/ 16.
[5] الشجار: الهودج الصغير الّذي يكفي شخصا واحدا فقط، أو مركب دون
الهودج مكشوف الرأس.
(2/572)
نَزَلَ النَّاسُ بِأَوْطَاسٍ [1] . فَقَالَ
دُرَيْدٌ حِينَ نُزُلوِهَا فَسَمِعَ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنَهِيقَ
الْحَمِيرِ وَيُعَارَ [2] الشَّاءِ وَبُكَاءَ الصَّغِيرَةِ:
بِأَيِّ وَادٍ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: بِأَوْطَاسٍ. فَقَالَ: نِعْمَ
مَجَالُ الْخَيْلِ، لا حَزْنٌ ضَرِسٌ، ولا سهل دهس [3] . ما لِي
أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ وَيُعَارَ
الشَّاءِ؟ قَالُوا: سَاقَ مَالِكٌ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ
وَذَرَارِيَّهُمْ قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ فَدُعِيَ مَالِكٌ.
فَقَالَ: يَا مَالِكُ، إِنَّكَ أَصْبَحْتَ رَئِيسَ قَوْمِكَ،
وَإِنَّ هذا يوم كائن له ما بَعْدَهُ مِنَ الأَيَّامِ، فَمَا
دَعَاكَ إِلَى أَنْ تَسُوقَ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ
وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَ
خَلْفَ كُلِّ رَجُلٍ أَهْلَهُ وَمَالَهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ.
فَأَنْقَضَ بِهِ [4] دُرَيْدٌ وَقَالَ: رَاعِي ضَأْنٍ [5]
وَاللَّهِ، وَهَلْ يَرُدُّ وَجْهَ الْمُنْهَزِمِ شَيْءٌ؟ إِنَّهَا
إِنْ كَانَتْ لَكَ لَمْ يَنْفَعْكَ إِلا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ
وَرُمْحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ فُضِحْتَ فِي أَهْلِكَ
وَمَالِكَ. فَارْفَعِ الأَمْوَالَ وَالنِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ
إِلَى عُلْيَا قَوْمِهِمْ وَمُمْتَنِعِ بِلادِهِمْ. ثُمَّ قَالَ
دُرَيْدٌ: وَمَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلابٌ؟ فَقَالُوا: لَمْ
يَحْضُرْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَقَالَ: غَابَ الْحَدُّ والجدّ، فمن
حضرها؟ قالوا: عمرو ابن [102 أ] عَامِرٍ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ
فَقَالَ: ذَانِكَ الْجَذَعَانِ [6] لا يَضُرَّانِ وَلا
يَنْفَعَانِ.
فَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدٍ فِيهَا رَأْيٌ، فَقَالَ:
إِنَّكَ قَدْ كَبِرْتَ وَكبِرَ عِلْمُكَ، وَاللَّهِ
لَتُطِيعَنَّنِي [7] يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، أَوْ لأَتْكِئَنَّ
عَلَى هَذَا السَّيْفِ [8] حَتَّى
__________
[1] أوطاس: واد في ديار هوازن.
[2] اليعار: صوت الغنم أو المعزى، أو الشديد من أصوات الشاء.
[3] الحزن: بفتح الحاء المهملة، ما غلظ من الأرض. والضرس: الأرض
الخشنة. والدّهس:
المكان السهل اللين ليس برمل ولا تراب، أو هو الّذي تغيب فيه
القوائم.
[4] أنقض به: نقر بلسانه في فيه ثم صوّت في حافّتيه،. كما يزجر
الدّابّة، وكل ما نقرت به فقد أنقضت به. وفي تهذيب ابن عساكر:
«أنغص» .
[5] في أوصل (ح) : «يا راعي ضأن والله» . والمثبت هو لفظ (ع) .
[6] في الأصل، ح: ذلك الجذعان. وأثبتنا لفظ ع وهو أصح. والجذعان:
مثنى جذع، وهو الشاب الحدث.
[7] في الأصل، ح: لتطيعن. وأثبتنا لفظ ع، وبه يرد في كل المصادر
التي روت هذا الخبر.
[8] في الأصل: على سيفي هذا. وأثبتنا عبارة ع، ح. وهي كذلك في جميع
مصادر الخبر.
(2/573)
يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي. فَقَالُوا:
أَطَعْنَاكَ. ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ لِلنَّاسِ: إِذَا
رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونُ سُيُوفِكُمْ [1] ، ثُمَّ
شُدُّوا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ [2] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ [3] : سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ،
فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لا نُغْلَبُ
الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. فَانْتَهَوْا إِلَى حُنَيْنٍ، لِعَشْرٍ
خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ. وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِالتَّعْبِئَةِ وَوَضَعَ
الأَلْوِيَةَ وَالرَّايَاتِ فِي أَهْلِهَا. وَرَكِبَ بَغْلَتَهُ
وَلَبِسَ دِرْعَيْنِ وَالْمِغْفَرَ وَالْبَيْضَةَ.
فَاسْتَقْبَلَهُمْ مِنْ هَوَازِنَ شَيْءٌ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ
مِنَ السَّوَادِ وَالْكَثْرَةِ، وَذَلِكَ فِي غَبَشِ الصُّبْحِ.
وَخَرَجَتِ الْكَتَائِبُ مِنْ مَضِيقِ الْوَادِي وشعبه. فحملوا
حملة واحدة، فانكشفت خيل بني سليم مولّية، وتبعهم أهل مكة،
وَتَبِعَهُمُ النَّاسُ.
فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: «يَا أَنْصَارَ اللَّهِ، وَأَنْصَارَ رَسُولِهِ، أَنَا
عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» . وَثَبَتَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ:
عَمُّهُ الْعَبَّاسُ، وَابْنُهُ الْفَضْلُ، وَعَلِيُّ بْنُ أبي
طالب، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَأَخُوهُ رَبِيعَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ،
وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَجَمَاعَةٌ [4] .
وقال يونس، عَنِ ابن إِسْحَاق: حدّثني أُمَيّة بْن عَبْد اللَّه
بْن عَمْرو بْن عُثْمَانَ، أَنَّهُ حُدِّث أنّ مالك بْن عَوْفُ بعث
عُيونًا، فأتوه وقد تقطّعت أَوْصالهم.
فقال: ويلكم، ما شأنكم؟ فقالوا: أتانا رجالٌ بيض على خيل بلق، فو
الله ما تماسَكْنا أنَّ أَصابنا ما ترى. فما ردَّه ذَلِكَ عَنْ
وجهه أَن مضى عَلَى ما يريد [5] .
منقطع.
__________
[1] جفن السيف: غمده.
[2] تهذيب تاريخ دمشق 5/ 229، 230، تاريخ الطبري 3/ 71، 72،
الأغاني 10/ 10، 31، سيرة ابن هشام 4/ 122، نهاية الأرب 17/ 324،
325، معجم البلدان 1/ 281.
[3] المغازي (3/ 889 وما بعدها) .
[4] انظر سيرة ابن هشام 4/ 124، الطبري 3/ 74، المغازي لعروة 215،
طبقات ابن سعد 2/ 150، 151 نهاية الأرب 17/ 328.
[5] المغازي للواقدي 3/ 892، تاريخ الطبري 3/ 82، سيرة ابن هشام 4/
122.
(2/574)
وعن الربيع بْن أَنَس، أنّ رجلًا قَالَ: لن
نُغَلب من قلّة. فشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النّبيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزلت وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ
كَثْرَتُكُمْ 9: 25 [1] .
وقال معاوية بن سلام، عن زيد بن سَلامٍ، سَمِعَ أَبَا سَلامٍ [2]
يَقُولُ:
حَدَّثَنِي السَّلُولِيُّ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ سَهْلُ بْنُ
الْحَنْظَلِيَّةِ، أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَأَطْنَبُوا
السَّيْرَ حَتَّى كَانَ عَشِيَّةً، فَحَضَرْتُ صَلاةَ الظُّهْرِ
عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَجَاءَ فَارِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي انْطَلَقْتُ
بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذْ
أَنَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، بِظُعُنِهِمْ
وَنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ، اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ.
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ: «تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ» ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟ قَالَ أَنَسُ
بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ: أنا يا رسول الله. قال: فاركب.
فركب فَرَسًا لَهُ، وَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «اسْتقبِلْ هَذَا الشّعب حتى
تكون في أعلاه، ولا تغرّنّ [3] مِنْ قِبَلِكَ اللَّيْلَةَ» .
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُصَلاهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ
قَالَ:
أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ؟ قَالُوا: يا رسول الله، لا. فثوّب
بالصلاة [102 ب] فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَيَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ، حَتَّى إِذَا
قَضَى صَلاتَهُ وَسَلَّمَ قَالَ:
«أَبْشِرْوا، فَقَدْ جَاءَ فَارِسُكُمْ» . فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ
إِلَى خِلالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ،
حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فقال: إِنِّي كُنْتُ انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي
أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ اطَّلَعْتُ
الشِّعْبَيْنِ، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا. فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هَلْ نَزَلْتَ
اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: لا، إِلا مُصَلِّيًا أَوْ قَاضِيَ حَاجَةٍ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«قد
__________
[1] سورة التوبة- الآية 25.
[2] في الأصل «سمع سلام أبا سلام» ، والتصحيح من ع، ح، وسنن أبي
داود.
[3] لا تغرّنّ: لا تؤخذ على غرّة.
(2/575)
أَوْجَبْتَ [1] ، فَلا عَلَيْكَ أَنْ لا
تَعْمَلَ بَعْدَهَا» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ [2] . وَقَالَ
يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى
حُنَيْنٍ، فَسَبَقَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَيْهَا، فَأَعَدُّوا وَتَهَيَّئُوا فِي مَضَايِقِ
الْوَادِي وَأَحْنَائِهِ. وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فَانْحَطَّ بِهِمْ فِي
الوادي في عماية الصبح. فلما انحطّ النَّاسُ ثَارَتْ فِي
وُجُوهِهِمُ الْخَيْلُ فَشَدَّت عَلَيْهِمْ، وَانْكَفَأَ النَّاسُ
مُنْهَزِمِينَ لا يُقْبِلُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. وَانْحَازَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ
الْيَمِينِ يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا، إِنِّي أَنَا
رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله» . فلا ينثني [3]
أَحَدٌ. وَرَكِبَتِ الإِبِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا. فَلَمَّا رَأَى
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر النَّاسِ،
وَمَعُه رَهْطٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَرَهْطٌ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ، وَالْعَبَّاسُ آخِذٌ بِحَكَمَةِ [4] بَغْلَتِهِ
الْبَيْضَاءِ، وَثَبَت مَعَهُ عَلِيٌّ، وَأَبُو سُفْيَانَ،
وَرَبِيعَةُ، ابْنَا الْحَارِثِ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ،
وَأَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَأُسَامَةُ، وَمِنَ
الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. قَالَ: وَرَجُلٌ مِنْ
هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أحمر بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ
أَمَامَ هَوَازِنَ، إِذَا أَدْرَكَ النَّاسَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ،
وَإِذَا فَاتَهُ النَّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ
فَيَتْبَعُوهُ. فَلَمَّا انْهَزَمَ مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ جفاة أهل مكة،
تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضّعن. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ
بْنُ حَرْبٍ: لا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبُحُورِ.
وَإِنَّ الأَزْلامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ [5] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ قَالَ: سَارَ أَبُو سُفْيَانَ إلى حنين، وإنّه ليظهر
الإسلام، وإنّ الأزلام التي يستقسم بها في كنانته [6] .
__________
[1] أوجبت: أي عملت عملا يوجب لك الجنة.
[2] سنن أبي داود: كتاب الجهاد، باب في فضل الحرس في سبيل الله
تعالى (2501) .
[3] في الأصل: «يثني» . وفي ع: «يلبي» . وأثبتنا لفظ ح.
[4] الحكمة: ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه.
[5] سيرة ابن هشام 4/ 124، المغازي للواقدي 3/ 898، تاريخ الطبري
3/ 74.
[6] المغازي للواقدي 3/ 896.
(2/576)
قَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ
الْعَبْدَرِيُّ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي- وَكَانَ أَبُوهُ
قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ- الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمَّدًا. قَالَ:
فَأَدَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ لأَقْتُلَهُ، فَأقْبَلَ شَيْءٌ
حَتَّى تَغَشَّى فُؤَادِي، فَلَمْ أُطِقْ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ
مَمْنُوعٌ [1] .
وَحَدَّثَنِي عَاصِمٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
رَأَى مِنَ النَّاسِ مَا رَأَى قَالَ: «يَا عَبَّاسُ، اصْرُخْ: يَا
مَعْشرَ الأَنْصَارِ، يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ» : فَأَجَابُوهُ:
لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ. فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَذْهَبُ
لِيَعْطِفَ بَعِيرَهُ، فَلا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَقْذِفُ [2]
دِرْعَهُ مِنْ عنقه، ويؤمّ [103 أ] الصَّوْتَ، حَتَّى اجْتَمَعَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ
مِائَةٌ. فَاسْتَعْرَضُوا النَّاسَ، فَاقْتَتَلُوا. وَكَانَتِ
الدَّعْوَةُ أَوَّلَ مَا كَانَتْ لِلأَنْصَارِ، ثُمَّ جُعِلَتْ
آخِرًا بِالْخَزْرَجِ، وَكَانُوا صُبُرًا عِنْدَ الْحَرْبِ،
وَأَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
رَكَائِبِهِ، فَنَظَرَ إِلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ فقال:
«الآن حمي الوطيس» . قال: فو الله مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النَّاسِ
إِلا وَالأُسَارَى عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فقتل اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَانْهَزَمَ مَنِ
انْهَزَمَ مِنْهُمْ، وَأَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ [3] .
وَقَالَ ابْنُ لَهْيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ
[4] . وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ
إِلَى حُنَيْنٍ، فَخَرَجَ مَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، لَمْ يَتَغَادَرْ
مِنْهُمْ أَحَدٌ، رُكْبَانًا وَمُشَاةً، حَتَّى خَرَجَ النِّسَاءُ
مُشَاةً [5] ، يَنْظُرُونَ وَيَرْجُونَ الْغَنَائِمَ، وَلَا
يَكْرَهُونَ الصَّدْمَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عُقْبَةَ: جَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ كُلَّمَا سَقَطَ
تُرْسٌ أَوْ سَيْفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ،
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 124.
[2] في الأصل: «فنفذت» . والتصحيح من ع، ح.
[3] سيرة ابن هشام 4/ 125، المغازي للواقدي 3/ 899، 900، طبقات ابن
سعد 2/ 151، تاريخ الطبري 3/ 76.
[4] في المغازي 214.
[5] في المغازي لعروة زيادة «على غير دين» .
(2/577)
نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أَعْطُونِيهِ أَحْمِلْهُ، حَتَّى أَوْقَرَ جَمَلَهُ.
قَالا: فَلَمَّا أَصْبَحَ الْقَوْمُ، اعْتَزَلَ أَبُو سُفْيَانَ،
وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَحَكِيمُ
بْنُ حِزَامٍ، وَرَاءَ تَلٍّ، يَنْظُرُونَ لِمَنْ تَكُونُ
الدَّبْرَةُ [1] . وَركِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَقْبَلَ الصُّفُوفَ، فَأَمَرَهُمْ،
وَحَضَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ. فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ حَمَلَ
الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ [2] رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَوَلُّوا
مُدْبِرِينَ. فَقَالَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ: لَقَدْ
حَزَرْتُ مَنْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَدْبَرَ النَّاسُ فَقُلْتُ مِائَةُ
رَجُلٍ: وَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى صفوان فقال: أبشر
بهزيمة محمد وأصحابه، فو الله لا يَجْتَبْرُونَهَا [3] أَبَدًا.
فَقَالَ: أَتُبَشِّرُنِي بِظُهُورِ الأَعْرَابِ؟ فو الله لَرَبٌّ
مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبًّ مِنَ الأَعْرَابِ. ثُمَّ
بَعَثَ غُلامًا لَهُ فَقَالَ: اسْمَعْ لِمَنِ الشِّعَارُ؟
فَجَاءَهُ الْغُلامُ فَقَالَ: سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: يَا بَنِي
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، [يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ] [4] ، يَا بَنِي
عُبَيْدِ اللَّهِ. فَقَالَ: ظَهَرَ مُحَمَّدٌ. وَكَانَ ذَلِكَ
شِعَارَهُمْ فِي الْحَرْبِ. وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا غَشِيَهُ الْقِتَالُ قَامَ فِي
الرِّكَابَيْنِ، وَيَقُولُونَ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى يَدْعُوهُ، يَقُولُ: «اللَّهمّ إِنِّي أَنْشُدُكَ مَا
وَعَدْتَنِي، اللَّهمّ لا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا
عَلَيْنَا» . وَنَادَى أَصْحَابَهُ: «يَا أَصْحَابَ الْبَيْعَةِ
يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، اللَّهَ اللَّهَ، الْكَرَّةَ عَلَى
نَبِيِّكُمْ» . وَيُقَالُ قَالَ: «يَا أَنْصَارَ اللَّهِ
وَأَنْصَارَ رَسُولِهِ، يَا بَنِي الْخَزْرَجِ» [5] . وَأَمَرَ
مَنْ يُنَادِيهِمْ بِذَلِكَ. وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ
فَحَصَبَ بِهَا وُجُوهَ الْمُشْرِكِينَ، وَنَواصِيَهُمْ كُلَّهَا.
وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» . وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ
سِرَاعًا، وَهَزَمَ الله المشركين. وفرّ مالك بن عوف
__________
[1] في المغازي لعروة «الدائرة» .
[2] في الأصل «حمل» ، والمثبت من نسختي: ع، ح.
[3] في الأصل، ح: «يحتبرونها» ، وفي ع: «يختبرونها» . ولعل الوجه
ما أثبتناه، أخذا عن لفظ المقريزي في الإمتاع: والله لا يجتبرها
محمد وأصحابه أبدا. من جبر الكسر والمصيبة وغيرهما، واجتبر الشيء
أصلح أمره وأقامه.
[4] سقطت من الأصل، وزدناها من ع، ح. ومغازي عروة.
[5] في مغازي عروة زيادة «يا أصحاب سورة البقرة» .
(2/578)
حَتَّى دَخَلَ حِصْنَ الطَّائِفِ فِي نَاسٍ
مِنْ قومه.
وأسلم حينئذ ناس كثير مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، حِينَ رَأَوْا نَصْرَ
اللَّهِ رسوله.
مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُقْبَةَ [1] . وَلَيْسَ عِنْدَ
عُرْوَةَ قِيَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الرِّكابَيْنِ [2] ، وَلا قَوْلُهُ: يَا أَنْصَارَ اللَّهِ.
وقال شعبة: عن أبي إسحاق، سمع البراء، وقال له رجل: يا أبا عمارة،
[103 ب] أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ لَمْ يَفِرَّ. إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا رُماةً، فَلَمَّا
لَقَيْنَاهُمْ وَحَمَلْنَا عَلَيْهِمْ انْهَزَمُوا، فَأَقْبَلَ
النَّاسُ عَلَى الْغَنَائِمِ، فَاسْتُقْبِلُوا بِالسِّهَامِ،
فَانْهَزَمَ النَّاسُ. فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ
بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ:
أَنَا النّبيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [3] .
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [4] وَمُسْلِمٌ [5] . مِنْ حَدِيثِ
زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. وَفِيهِ:
وَلَكِنْ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا
لَيْسَ عَلَيْهِمْ كثير سلاح، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم
سهم. وزاد فيه مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي
زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: اللَّهمّ نَزِّلْ نَصْرَكَ.
قَالَ: وكنا إذا
__________
[1] انظر النص في المغازي لعروة 214، 215، ورواه البيهقي.
[2] يقول خادم العلم عمر بن عبد السلام تدمري إن قِيَامُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الركابين، موجود
في المغازي لعروة، خلافا لقول المؤلّف رحمه الله. (انظر المغازي
215) .
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ 9: 25 (5/ 98) . وصحيح
مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين (78/ 1776) ، والترمذي
في كتاب الجهاد (1738) باب ما جاء في الثبات عند القتال، وأحمد في
المسند 4/ 280 و 281 و 289 و 304.
[4] في كتاب الجهاد والسير (3/ 233) باب من صفّ أصحابه عند الهزيمة
ونزل عن دابّته واستنصر.
[5] في كتاب الجهاد والسير (80/ 1776) باب في غزوة حنين.
(2/579)
حَمِيَ [1] الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، أَخْبَرَنِي سِيَابَةُ بْنُ عَاصِمٍ: أَنّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ
حُنَيْنٍ: «أَنَا ابْنُ الْعَوَاتِكِ» [2] . وَقَالَ أَبُو
عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ: «أَنَا ابْنُ
الْعَوَاتِكِ» . وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي
كَثِيرُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: قَالَ
الْعَبَّاسُ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَلَزِمْتُهُ أَنَا وَأَبُو
سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ. وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، أَهْدَاهَا
لَهُ فروة ابن نُفَاثَةَ الْجُذَامِيُّ. فَلَمَّا الْتَقَى
الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ، وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ.
فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ، وَأَنَا آخِذٌ
بِلِجَامِهَا، أُكُفُّهَا إِرَادَةَ أَنْ لا تُسْرِعَ، وَأَبُو
سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ عَبَّاسُ، نَادِ أَصْحَابَ السّمرة [3] .
فقال عباس- وكان رجلا صيّتا- فقلت بأعلى صوتي:
أيّ [4] أصحاب السّمرة. قال: فو الله، لَكَأَنَّمَا عَطْفَتَهُمْ
حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي، عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلادِهَا،
فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَاهُ، يَا لَبَّيْكَاهُ [5] .
فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالْكُفَّارُ، وَالدَّعْوَةُ فِي الأَنْصَارِ
يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ.
ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ
الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ،
يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ،
كالمتطاول
__________
[1] في صحيح مسلم «إذا احمرّ» ، والمثبت عن الأصل وبقية النسخ.
[2] العواتك: جمع عاتكة اسم علم للأنثى منقول من الصفات. والعاتكة
المرأة المحمّرة من الطيب أو هي المصفّرة من الزعفران.
[3] السمرة: هي الشجرة التي بايعوا تحتها بيعة الرضوان.
[4] كذا في النسخ الثلاث، ولفظ مسلم: «أين» .
[5] عند مسلم: «يا لبّيك يا لبّيك» .
(2/580)
عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ فَقَالَ:
«هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ» ، ثُمَّ أَخَذَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى
بِهِنَّ فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ. ثُمَّ قَالَ: «انْهَزِمُوا
وَرَبِّ مُحَمَّدٍ» . فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ، فَإِذَا الْقِتَالُ
عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أرى، فو الله مَا هُوَ إِلا أَنْ
رَمَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلا وَأَمْرَهُمْ
مُدْبِرًا. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [1] . وَرَوَى مَعْمَرٌ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ كَثِيرٍ، نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ: فَرْوَةُ
بْنُ نُعَامَةَ الْجُذَامِيُّ، وَقَالَ: «انهزموا وربّ الكعبة» [2]
. وقال [104 أ] عكرمة بن عمار: حدثني إياس بن سلمة، حَدَّثَنِي
أَبِي، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا، فَلَمَّا وَاجَهْنَا العدوّ، تقدّمت
فأعلو ثَنِيَّةً فَأَسْتَقْبِلُ رَجُلًا مِنَ الْعَدُوِّ
فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ، وَتَوَارَى عَنِّي، فَمَا دَريْتُ مَا
صَنَعَ. ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى الْقَوْمِ، فَإِذَا هُمْ قَدْ
طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى، [فَالْتَقَوْا] [3] هُمْ
وَالْمُسْلِمُونَ، فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ، فَأَرْجِعُ
مُنْهَزِمًا، وَعَلَيَّ بُرْدَتَانِ مُؤْتَزِرًا بِإِحْدَاهُمَا،
مُرْتَدِيًا [4] بِالْأُخْرَى. وَمَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْهَزِمًا وَهُوَ عَلَى
بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَى ابْنُ الَأَكْوَعِ
فَزَعًا. فَلَمَّا غَشَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَنِ [5] الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ
قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ. ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ،
فَقَالَ:
«شَاهَتِ الْوُجُوهُ» . فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا
إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ.
فَوَلُّوا مُدْبِرِينَ. وَقَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [6] . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي مُسْنَدِهِ:
ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ
__________
[1] صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين (76/ 1775) .
[2] صحيح مسلم (77/ 1775) .
[3] سقطت من الأصل، واستدركناها من نسختي: ع، ح، وصحيح مسلم.
[4] في الأصل «مرتد بالآخر» ، وفي نسختي: ع، ح «مرتد بالأخرى» .
والمثبت من صحيح مسلم.
[5] في النسخ الثلاث «من» ، والتصحيح من صحيح مسلم.
[6] صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير،. باب في غزوة حنين (81/ 1777)
.
(2/581)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُنَيْنٍ. فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَحَدَّثَنِي مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ
مِنِّي أَنَّهُ أَخَذَ حَفْنةً مِنْ تُرَابٍ، فَحَثَا بِهَا فِي
وُجُوهِ الْقَوْمِ، وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» . قال يعلى ابن
عَطَاءٍ: فَأَخْبَرَنا أَبْنَاؤُهُمْ عَنْ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ
قَالُوا: مَا بَقِيَ مِنَّا أَحَدٌ إِلا امْتَلأَتْ عَيْنَاهُ
وَفَمُهُ مِنَ التُّرَابِ. وَسَمِعْنَا صَلْصَلَةً مِنَ السَّمَاءِ
كَمَرِّ الْحَدِيدِ عَلَى الطَّسْتِ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ [1] .
وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، ثنا الْحَارِثُ بْنُ
حَصِيرَةَ، ثنا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حُنَيْنٍ، فَوَلَّى عَنْهُ
النَّاسُ، وَبَقِيتُ مَعَهُ فِي ثَمَانِينَ رَجُلا مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ
عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ. قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ يَمْضِي قدما، فحادت
الْبَغْلَةَ فَمَالَ عَنِ السَّرْجِ، فَشَدَّهُ نَحْوَهُ،
فَقُلْتُ: ارْتَفِعْ، رَفَعَكَ اللَّهُ. قَالَ: «نَاوِلْنِي كَفًّا
مِنْ تُرَابٍ» . فَنَاوَلْتُهُ، فَضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ،
فَامْتَلأَتْ أَعْيُنُهُمْ ترابا. قال: «أين المهاجرون والأنصار» ؟
قلت: هم هاهنا. قَالَ:
«اهْتِفْ بِهِمْ» . فَهَتَفْتُ بِهِمْ، فَجَاءُوا وَسُيُوفُهُمْ
بِأَيْمَانِهِمْ كَأَنَّهُمُ الشُّهُبُ وَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ
أَدْبَارَهُمْ [2] . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ [3] :
ثنا أَبُو عَاصِمٍ، ثنا عبد الله بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الطَّائِفِيُّ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضِ بْنِ
الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى هَوَازِنَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا،
فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِثْلُ مَنْ
قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَرَمَى بِهِ
وُجُوهَنَا، فانهزمنا.
__________
[1] منحة المعبود: كتاب السيرة النبويّة، باب غزوة هوازن يوم حنين
(2/ 107) ، وأخرجه أحمد في المسند 2/ 222، وابن سعد في الطبقات 2/
156.
[2] رواه أحمد في المسند 1/ 453، 454.
[3] التاريخ الكبير 4/ 19.
(2/582)
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: ثنا
عَوْفٌ، ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَوْلَى أُمِّ بُرْثُنٍ، عَمَّنْ
شَهِدَ حُنَيْنًا كَافِرًا، قَالَ: لَمَّا الْتَقَيْنَا
وَالْمُسْلِمُونَ لَمْ يَقُومُوا لَنَا حَلْبَ شَاةٍ [1] ،
فَجِئْنَا نَهُشُّ سُيُوفَنَا بين [104 ب] يدي رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا غَشِينَاهُ إِذَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ رِجَالٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ، فَقَالُوا:
شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَارْجِعُوا. فَهُزِمْنَا مِنْ ذَلِكَ
الْكَلامِ. [إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ] [2] .
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَغَيْرُهُ، حَدَّثَنِي ابْنُ
الْمُبَارَكِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: لَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَدْ
عَرِيَ [3] ، ذَكَرْتُ أَبِي وَعَمِّي وَقَتْلَ عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ
إِيَّاهُمَا. فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْ
مُحَمَّدٍ. فَذَهَبْتُ لأَجِيئَهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِذَا أَنَا
بِالْعَبَّاسِ قَائِمٌ، عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضَاءُ كَأَنَّهَا
فِضَّةٌ يَكْشِفُ عَنْهَا الْعَجَاجُ، فَقُلْتُ عَمُّهُ وَلَنْ
يَخْذُلَهُ. قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ عَنْ يَسَارِهِ، فَإِذَا أَنَا
بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ، فَقُلْتُ ابْنُ عَمِّهِ وَلَنْ
يَخْذُلَهُ.
قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ خَلْفِهِ فَلَمْ يَبْقَ إِلا أَنْ
أُسَوِّرَهُ سَوْرَةً بِالسَّيْفِ، إِذْ رُفِعَ لِي شُوَاظٌ مِنْ
نَارٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ كَأَنَّهُ بَرْقٌ، فَخِفْتُ يَمْحَشُنِي
[4] ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى بَصَرِي وَمَشَيْتُ الْقَهْقَرَى.
وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ: «يا شيب [5] » يَا شَيْبُ، ادْنُ مِنِّي، اللَّهمّ
أَذْهِبْ عَنْهُ الشَّيْطَانَ» . فَرَجَّعْتُ إِلَيْهِ بَصَرِي،
فَلَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي. وَقَالَ: «يَا
شَيْبُ، قَاتِلِ الْكُفَّارَ» . غَرِيبٌ جِدًّا [6] . وَقَالَ
أَيُّوبُ بْنُ جَابِرٍ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُصْعَبِ
[7] بْنِ شيبة، عن
__________
[1] لم يقوموا لنا حلب شاة: أي لم يصمدوا للقتال مقدار ما يستغرقه
حلب الشاة من الوقت.
[2] زيادة من ح. وانظر: المغازي للواقدي 3/ 906.
[3] في الأصل: «غزي» . والتصحيح من ع، ح. وعري: انكشف.
[4] محشه وأمحشه: يحرقه.
[5] في الأصل: «يا شبيب» . والمثبت من ح. وشيب: مرخّم شيبة.
[6] أخرجه ابن عساكر، انظر: تهذيب تاريخ دمشق 6/ 350، والمغازي
للواقدي 3/ 909، 910.
[7] في الأصل، ع: «منصور بن شيبة» . والتصحيح من (ح) ومن ترجمته في
تهذيب التهذيب (10/ 162) .
(2/583)
أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ مَا
أَخْرَجَنِي إِسْلامٌ، وَلَكِنْ أَنِفْتُ أَنْ تَظْهَرَ هَوَازِنُ
عَلَى قُرَيْشٍ. فَقُلْتُ وَأَنَا وَاقِفٌ مَعَهُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنِّي أَرَى خَيْلا بُلْقًا. قَالَ: «يَا شَيْبَةُ،
إِنَّهُ لا يَرَاهَا إِلا كَافِرٌ» . فَضَرَبَ يَدَهُ عَلَى
صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهمّ اهْدِ شَيْبَةَ» ، فَعَلَ ذَلِكَ
ثَلاثًا، حَتَّى مَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَبَّ
إِلَيَّ مِنْهُ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وقال ابن إِسْحَاق: وقال مالك بْن عَوْفُ، يذكر مَسيرهم بعد
إسلامه:
اذْكُرْ مَسِيرَهُمُ للنَّاس إِذْ جَمَعُوا ... ومَالِكٌ فَوْقَهُ
الرَّايَاتُ تَخْتَفقُ
ومالك مالِكٌ ما فَوْقَه أحدٌ ... يَوْمَيْ حُنَيْنٍ عَلَيْه
التَّاجُ يأْتَلِق
حَتَّى لَقُوا النَّاسَ خَيْرَ النَّاسِ يَقْدُمُهُمْ ...
عَلَيْهِمُ البَيْضُ والأَبْدَانُ والدَّرَق
فضَارَبُوا النَّاسَ حتّى لَمْ يَرَوْا أَحَدًا ... حَوْلَ
النَّبِيِّ وَحَتَّى جَنَّهُ الغَسَق
حَتَّى تَنَزَّل جِبْريلٌ بِنَصْرِهمُ ... فَالْقَوْمُ مُنْهَزِمٌ
مِنْهُمْ وَمُعْتَنَق
مِنَّا وَلَوْ غَيْرُ جبريل يقاتلنا ... لمنعتنا إذا أسيافنا الغلق
وقد وفى عمر الْفَارُوقُ إِذْ هُزِمُوا ... بِطَعْنَةٍ بَلَّ
مِنْها سرجه العلق [1]
وقال مالك، في الموطّأ [2] ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى
أَبِي قَتَادَة، عَنْ أَبِي قَتَادَة، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُنَيْنٍ،
فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ. قَالَ:
فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا [105 أ]
رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْتُ لَهُ فَضَرَبْتُه
بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عاتِقِهِ [3] ، فَأَقْبَلَ عَلِيَّ
فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ. ثُمَّ
أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي. فَأَدْرَكْتُ عُمَرَ
فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ.
ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا. وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتيلًا لَهُ
عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ
__________
[1] في الأصل: «بل منه بسرجه» . والتصحيح من ح. وفي هامش ح: «العلق
الدم الغليظ» .
وانظر الأبيات في سيرة ابن هشام (4/ 137) باختلاف يسير في بعض
الألفاظ.
[2] كتاب الجهاد، ما جاء في السلب في النفل- ص 301 رقم 981.
[3] ما بين العنق والكتف.
(2/584)
فَلَهُ سَلَبُه» . فَقُمْتُ ثُمَّ قُلْتُ:
مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ. ثُمَّ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ
قتيلا له عليه بينة فله سلبه» . فقمت ثُمَّ قُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ
لِي. ثُمَّ الثَّالِثَةَ، فَقُمْتُ، فَقَالَ: «مَالَكَ يَا أَبَا
قَتَادَة؟» فَاقْتصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ
الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَسَلَبُ ذَلِكَ
الْقَتِيلِ عِنْدي، فَأَرْضِهِ مِنْهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ: لَاهَا اللَّهِ ذَا [1] ، يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ
أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ،
فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صدق، فأعطه إيّاه» .
فأعطانيه. فبعث الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا [2] فِي
بَنِي سَلَمَةَ. فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأثَّلْتُهُ [3] فِي
الْإِسْلَامِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [4] ، وَأَبُو دَاوُدَ،
عَنِ الْقَعْنَبيِّ [5] ، وَمُسْلِمٌ [6] . وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلا فَلَهُ سَلَبُهُ» . فَقَتَلَ
يَوْمَئِذٍ أَبُو طَلْحَةَ عِشْرِينَ رَجُلا وَأَخَذَ
أَسْلابَهُمْ. صَحِيحٌ [7] . وَبِهِ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَقِيَ
أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَمَعَهَا
خِنْجَرٌ، فَقَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا هَذَا؟ قَالَتْ:
أَرَدْتُ إِنْ دَنَا مِنِّي بَعْضُهُمْ أَنْ أَبْعَجَ بِهِ
بَطْنَهُ. فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. أَخْرَجَهُ مسلم [8] .
__________
[1] في الموطأ (302) : «لا هاء الله إذا، لا يعمد ... » .
[2] المخرف: البستان من النخل، وقيل نخلة أو نخلات يسيرة إلى عشرة،
وما فوق ذلك فهو بستان.
[3] تأثل الرجل المال: اكتسبه وجمعه واتخذه لنفسه.
[4] صحيح البخاري: كتاب فرض الخمس، باب من لم يخمّس الأسلاب ومن
قتل قتيلا فله سلبه (4/ 112- 113) وكتاب المغازي، باب قول الله
تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ 9: 25
(5/ 196) ، وأحمد في المسند 5/ 12 و 295 و 306.
[5] سنن أبي داود: كتاب الجهاد، باب في السلب يعطى القاتل (2/ 70
رقم 2717) .
[6] صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل
(41/ 1751) .
[7] أخرجه ابن أبي داود في الجهاد (2718) باب في السلب يعطى
القاتل، والدارميّ في السير (43) .
[8] في كتاب الجهاد والسير (134/ 1809) باب غزوة النساء مع الرجال،
وأبو داود في الجهاد (2718) باب في السلب يعطى القاتل. وأحمد في
المسند 3/ 109 و 190 و 279 و 286.
(2/585)
غزوَة أوطَاس [1]
وقال شيخنا الدِّمْيَاطي [2] فِي «السِّيرة» لَهُ: كَانَ سِيمَا
الملائكة يوم حُنَين عمائم حُمْرًا قد أَرْخَوها بين أكتافهم [3] .
وقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قتل
قتيلا عَلَيْهِ بيِّنة فله سلَبه» [4] . وأمر بطلب العدوّ. فانتهى
بعضهم إلى الطّائف، وبعضهم نحو نَخلة [5] ، وَوَجَّه قوم منهم إلى
أَوْطاس. فعقد النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي
عامر الأَشْعَري لواءً ووجّهه فِي طلبهم، وكان معه سَلَمَةُ بْن
الأَكْوَع، فانتهى إلى عَسْكرهم، فإذا هُمْ ممتنعون. فقتل أَبُو
عامر منهم تسعةً مُبارزةً. ثمّ برز لَهُ العاشر مُعْلَمًا بعمامة
صفراء، فضرب أَبَا عامر فقتله. واسْتَخْلَف أَبُو عامر أبا موسى
الأشعريّ،
__________
[1] أوطاس: واد في ديار هوازن. (معجم البلدان 1/ 281) .
[2] هو العلامة الحافظ الحجة شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف
التوني الدمياطيّ الشافعيّ، مولده في آخر سنة 613 ووفاته سنة سنة
705 هـ. ترجمته في تذكرة الحفاظ (4/ 1477) والدرر الكامنة (3/ 30)
وفوات الوفيات (2/ 7) وشذرات الذهب (6/ 12) وغيرها. وقد أشار في
كشف الظنون (2/ 1013) إلى مصنفه في مختصر السيرة النبويّة، وقال في
الشذرات إنه في مجلد. و (التوني) نسبة إلى تونة وهي جزيرة قرب تنيس
بمصر.
[3] طبقات ابن سعد 2/ 151.
[4] مرّ تخريج هذا الحديث قبل قليل.
[5] نخلة: واد من الحجاز بينه وبين مكّة مسيرة ليلتين. (معجم
البلدان 5/ 278) .
(2/587)
فقاتلهم. حتّى فتح اللَّه عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ [1]
، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُنَيْنٍ، بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ
عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ ابن الصِّمَّةِ،
فَقُتِلَ دُرَيْدٌ، وَهَزَمَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ، وَرُمِيَ أَبُو
عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُشَمَ،
فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ:
يَا عَمِّ، مَنْ رَمَاكَ؟ فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنَّ ذَاكَ قَاتِلِي
تَرَاهُ. فَقَصَدْتُ لَهُ، فَاعْتَمَدْتُهُ، فَلَحِقْتُهُ.
فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى عَنِّي ذَاهِبًا، فَاتَّبَعْتُهُ،
وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ: أَلا تَسْتَحِي؟ أَلَسْتَ عَرَبِيًّا؟
ألا تثبت؟ [105 ب] فكفّ، فالتقينا، فاختلفنا ضَرْبَتَيْنِ، أَنَا
وَهُوَ، فَقَتَلْتُهُ. ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي عَامِرٍ
فَقُلْتُ: قَدْ قَتَلَ اللَّهُ صَاحِبَكَ. قال: فانتزع هذا السهم.
فنزعته، فنزا منه الماء. فقال: يا بن أخي، انْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقره منّي السلام، ثم
قل له يستغفر لي. قال: واستخلفني أبو عامر على النّاس.
فمكث يَسِيرًا وَمَاتَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
[2] .
وقال ابن إِسْحَاق [3] : وقُتل يوم حنين من ثقيف سبعون رجلًا تحت
رايتهم. وانهزم المشركون، فأتوا الطائف ومعهم مالك بْن عَوْفُ.
وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نَخْلَة. وتَبِعت خَيْلُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القوم، فأدرك
ربيعة بْن رُفَيْع، ويقال ابن الدُّغُنَّة [4] ، دُرَيْد بْن
الصِّمَّة، فأخذ بخِطام جمله، وهو يظنّ أنّه امْرَأَة، فإذا شيخ
كبير ولم يعرفه الغلام. فقال له
__________
[1] في الأصل «ع» : «عن بريد بن أبي بردة» ، والتصحيح من (ح)
وصحيحي البخاري ومسلم.
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي: باب غزاة أوطاس (5/ 101، 102) ،
وصحيح مسلم:
كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين
رضي الله عنهما (164/ 2497) .
[3] سيرة ابن هشام 4/ 136.
[4] في النسخ الثلاث: «ابن لدغة» . ورواية ابن إسحاق أنه ابن
الدّغنّة، وهي أمه غلبت على اسمه، ويقال اسمها لدغة: وانظر ترجمته
في أسد الغابة (2/ 211) والإصابة (1/ 507) وتجريد أسماء الصحابة
(1/ 179) .
(2/588)
دُرَيد: ماذا تريد بي؟ قَالَ: أقتلك.
قَالَ: ومن أنت؟ قَالَ: ربيعة بْن رُفيع السُّلَميّ. ثمّ ضربه
بسيفه فلم يُغْن شيئًا. فقال: بِئْسَ مَا سَلَّحَتْك أُمُّك. خُذْ
سيفي هذا من مُؤَخَّر الرَّحْل، ثمّ اضرب بِهِ، وارفع عَنِ العِظام
[1] ، واخْفِض عَنِ الدِّمَاغ، فإنّي كذلك كنتُ أضرب الرجال. ثمّ
إذا أتبعت أمّك فأَخْبِرْها أنّك قتلتَ دُريد بْن الصّمة، فرُبَّ
يومٍ والله قد مَنَعْتُ فِيهِ نِساءَك. فقتله.
فقيل: لما ضربه ووقع تَكَشَّف، فإذا عِجَانه وبُطُون فَخِذَيْه
أبيض كالقِرْطاس من ركوب الخيل أَعْراء [2] . فلمّا رجع إلى أمّه
أخبرها بقتله، فقالت: أَمَا والله لقد أَعْتق أُمَّهاتٍ لك [3] .
وبعث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثار
من توجّه إلى أوطاس، أبا عامر الأشعريّ فرُمي بسهمٍ فقُتل. فأخذ
الراية أَبُو مُوسَى فهزمهم. وزعموا أن سَلَمَةَ بْن دُرَيْد هُوَ
الَّذِي رَمَى أَبَا عامرٍ بسهمٍ [4] .
واستُشهد يوم حُنَين [5] : أَيْمَن بْن عُبَيْد، وَلَد أمّ أيمن،
مَوْلى بني هاشم.
ويَزيد بْن زَمَعَة بْن الأسْوَد الأَسَدِيّ القُرَشِيّ. وسُرَاقَة
بْن حُباب [6] بْن عَدِيّ العَجْلَانّي الأَنْصاريّ. وأبو عامرٍ
عُبَيْد الأَشْعَرِيّ.
ثمّ جُمعت الغنائم، فكان عليها مَسْعَود بْن عَمْرو [7] . وإنّما
تقَسّم بعد الطَّائف.
__________
[1] في الأصل: «الطعام» . والتصويب من السيرة لابن هشام 4/ 128.
[2] أعراء: جمع عرى وهو الفرس لا سرج له.
[3] ، (4) سيرة ابن هشام 4/ 128 و 129.
[5] انظر الأسماء في المغازي لعروة 219 وفيها نقص، ومجمع الزوائد
للهيثمي 6/ 198- 190، وسيرة ابن هشام 4/ 130، وطبقات ابن سعد 2/
152، وتاريخ خليفة 88، 89، والمغازي للواقدي 3/ 922.
[6] ويقال: سراقة بن الحارث، وهي رواية ابن هشام في السيرة 4/ 130،
عن ابن إسحاق، وابن سعد في الطبقات 2/ 152.
[7] سيرة ابن هشام 4/ 131.
(2/589)
غزوة الطائف [1]
فَسَارَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ
حُنين يريد الطائف فِي شوال. وقدَّم خَالِد بْن الوليد عَلَى
مقدّمته. وقد كانت ثقيف رَمُّوا حِصنهم وأدخلوا فِيهِ ما يكفيهم
سَنةً. فلمّا انهزموا من أَوْطاس دخلوا الحصن وتهيّئوا للقتال [2]
.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ
الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: ثم سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بلغ الطائف [106 أ] فَحَاصَرَهُمْ،
وَنَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنْ عَبِيدِهِمْ
فَهُوَ حُرٌّ.
فَاقْتَحَمَ إِلَيْهِ مِنْ حِصْنِهِمْ نفر، منهم أبو بكرة ابن
مَسْرُوحٍ أَخُو زِيَادٍ مِنْ أَبِيهِ، فَأَعْتَقَهُمْ. وَدَفَعَ
كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ
لِيَحْمِلَهُ. فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَلَى الْجِعْرَانَةِ [3] . فَقَالَ:
«إِنِّي معتمر» .
__________
[1] انظر عنها في: المغازي لعروة 216، سيرة ابن هشام 4/ 148،
المغازي للواقدي 3/ 922، تاريخ خليفة 89، الطبقات الكبرى لابن سعد
2/ 158، تاريخ الطبري 3/ 82، نهاية الأرب للنويري 17/ 335، عيون
الأثر لابن سيد الناس 2/ 200، صحيح البخاري 5/ 102، صحيح مسلم 3/
1402، السيرة لابن كثير 3/ 652، عيون التواريخ للكتبي 1/ 333، معجم
البلدان 4/ 11، 12، جوامع السيرة لابن حزم 242، الدرر في المغازي
والسير 243.
[2] عن الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 158.
[3] الجعرانة: بكسر أوله إجماعا، وأصحاب الحديث يكسرون عينه
ويشدّدون راءه، وأهل الأدب
(2/591)
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة.
وقال إسماعيل بن إبراهيم ابن عُقْبَةَ، عَنْ عَمِّهِ مُوسَى،
قَالا: ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ، وَتَرَكَ السَّبْيَ بِالْجِعْرَانَةِ،
وَمُلِئَتْ عُرُشُ [1] مَكَّةَ مِنْهُمْ. وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَكَمَةِ عِنْدَ حِصْنِ
الطَّائِفِ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، يُقَاتِلُهُمْ. وَثَقِيفٌ
تَرْمِي بِالنَّبْلِ، وَكَثُرَتِ الْجِرَاحُ، وَقَطَعُوا طَائِفَةً
مِنْ أَعْنَابِهِمْ لِيَغِيظُوهُمْ بِهَا [2] . فَقَالَتْ ثَقِيفٌ:
لا تُفْسِدُوا الأَمْوَالَ فَإِنَّهَا لَنَا أَوْ لَكُمْ.
وَاسْتَأْذَنَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي مُنَاهَضَةِ الْحِصْنِ
فَقَالَ: مَا أَرَى أَنْ نَفْتَحَهُ، وَمَا أُذِنَ لَنَا فِيهِ.
وَزَادَ عُرْوَةُ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْطَعَ كُلُّ رَجُلٍ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَمْسَ نَخْلاتٍ أَوْ حَبَلاتٍ مِنْ
كُرُومِهِمْ. فَأَتَاهُ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إِنَّهَا عَفَاءُ لَمْ تُؤْكَلْ ثِمَارُهَا. فَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَقْطَعُوا مَا أُكِلَتْ ثَمَرَتُهُ، الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ [3] .
وَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: مَنْ خَرَجَ إِلَيْنَا فَهُوَ
حُرٌّ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يَشْهَدْ حُنَيْنًا وَلا
حِصَارَ الطَّائِفِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَلا غَيْلانُ بْنُ
سَلَمَةَ، كَانَا بِجُرَشَ [4] يَتَعَلَّمَانِ صَنْعَةَ
الدَّبَّابَاتِ وَالْمَجَانِيقِ [5] .
ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[عَلَى نَخْلَةٍ] [6] إِلَى الطَّائِفِ، وَابْتَنَى بِهَا
مَسْجِدًا وَصَلَّى فِيهِ. وَقُتِلَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ
بِالنَّبْلِ. وَلَمْ يَقْدِرِ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَدْخُلُوا
حَائِطَهُمْ، أَغْلَقُوهُ دُونَهُمْ. وَحَاصَرَهُمُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً،
ومعه
__________
[ () ] يخطّئونهم ويسكّنون العين ويخفّفون الراء. وهي ماء بين
الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب. (معجم البلدان 2/ 142) .
[1] العرش: جمع عرش، وهو ركن الشيء، أو الخيمة، أو البيت الّذي
يستظلّ به كالعريش. يريد بيوتها وأركانها.
[2] حتى هنا أورده البيهقي في السنن الكبرى 9/ 84، وعروة في
المغازي 216.
[3] حتى هنا رواية عروة في المغازي 217، والبيهقي في السنن الكبرى
9/ 84. وانظر مغازي الواقدي 3/ 929.
[4] جرش: مخلاف من مخاليف اليمن من جهة مكة.
[5] انظر تاريخ الطبري 3/ 84، سيرة ابن هشام 4/ 148.
[6] زياد من ح.
(2/592)
امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ، إِحْدَاهُمَا
أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ. فَلَمَّا أَسْلَمَتْ
ثَقِيفٌ بَنَى عَلَى مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ
مَسْجِدًا. وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ سَارِيَةٌ لا تَطْلُعُ
عَلَيْهَا الشَّمْسُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فِيمَا يَذْكُرُونَ،
إِلا سُمِعَ لَهَا نَقِيضٌ. وَالنَّقِيضُ صَوْتُ الْمَحَامِلِ [1]
.
وقال يونس بن بكير، عن هشام بن سَنْبَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي
طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ، قَالَ: حَاصَرْنَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْرَ
الطَّائِفِ. فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ فَلَهُ دَرَجَةٌ فِي
الْجَنَّةِ» . فَبَلَغْتُ يَوَمَئِذٍ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا.
وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: «مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ [لَهُ]
[2] عِدْلُ مُحَرَّرٍ» [3] . وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا،
قَالَتْ: كَانَ عِنْدِي مُخَنَّثٌ، فَقَالَ لأخي عبد [106 ب]
اللَّهِ: إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا،
فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى ابْنَةِ غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ
بَأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ فَقَالَ: «لَا يَدْخُلَنَّ
هذا عليكم» [4] . متّفق عليه بمعناه [5] .
__________
[1] المحامل: الرحال. والنقيض كذلك مطلق الصوت. وانظر الخبر في
سيرة ابن هشام 4/ 149، والمغازي للواقدي 3/ 927.
[2] سقطت من الأصل، وأضفتها من سنن الترمذي 3/ 96.
[3] أخرجه الترمذي في الجهاد (1689) باب ما جاء في فضل الرمي في
سبيل الله، وقال: «هذا حديث حسن صحيح، وأبو نجيح هو عمرو بن عبسة
السّلمي» . والنسائي في كتاب الجهاد 6/ 27 باب ثواب من رمى بسهم في
سبيل الله عزّ وجلّ. وأحمد في المسند 4/ 113 و 384.
[4] في صحيح البخاري 5/ 102: عليكنّ» .
[5] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (5/ 102) وصحيح
مسلم: كتاب السلام، باب منع المخنّث من الدخول على النساء الأجانب
(32/ 2180) ، والموطّأ لمالك في كتاب الأقضية (ص 544، 545) رقم
1453 باب ما جاء في المؤنّث من الرجال ومن أحق بالولد.
(2/593)
وقال الواقديّ [1] عَنْ شيوخه، أنّ سَلْمان
[الفارسي] [2] قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى أنَّ
تَنْصِب المَنْجِنيق عَلَى حِصْنهم- يعني الطائف- فإنّا كُنَّا
بأرض فارس نَنْصِبه عَلَى الحصون، فإنْ لم يكن مَنْجنيق طَالَ
الثَّواء. فأمره رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فعمل منجنيقًا بيده، فنصبه عَلَى حصن الطائف. ويقال: قدِم
بالمنجنيق يَزيد بْن زَمعة، ودبَّابَتْين. ويقال: الطُّفَيْلُ بْن
عَمْرو قَدِم بذلك.
قَالَ: فأرسلت [3] عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنّار، فحرقت
الدبّابة.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أَعْنابهم وتَحْرِيقها.
فنادى سُفْيَان بْن عَبْد اللَّه الثّقفيّ: لم تقطع أموالنا؟
فإنّما هِيَ لنا أو لكم. فتركها.
وَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
لَهِيعَةَ: أَقْبَلَ عُيَيْنَةُ بْنُ [حِصْنٍ] [4] حَتَّى جَاءَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ: ايذن لِي أَنْ أُكَلِّمَهُمْ، لَعَلَّ اللَّهُ أَنْ
يَهْدِيَهُمْ. فَأَذِنَ لَهُ. فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ
الْحِصْنَ، فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتُمْ، تَمَسَّكُوا بِمَكَانِكُمْ،
وَاللَّهِ لَنَحْنُ أَذَلُّ مِنَ الْعَبِيدِ، وَأُقْسِمُ باللَّه
لَئِنْ حَدَثَ بِهِ حدث ليملكنّ الْعَرَبَ عِزًّا وَمَنَعةً،
فَتَمَسَّكُوا بِحِصْنِكُمْ. ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَاذَا [قُلْتَ] ؟» [5]
قَالَ: دَعَوْتُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَحَذَّرْتُهُمُ النَّارَ
وَفَعَلْتُ.
فَقَالَ: «كَذَبْتَ، بَلْ قُلْتَ كَذَا وَكَذَا» . قَالَ: صَدَقْتَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إلي الله وإليك [6] . أخبرنا محمد بن
عبد الْعَزِيزِ الْمُقْرِئُ، سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحَزْمِ [7] ، وَحَسَنُ
بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بن أبي الفتح الشيبانيّ،
__________
[1] في المغازي: (3/ 927) .
[2] زيادة للتوضيح عن الواقدي.
[3] في الأصل: «فأرسل» . والمثبت من ح والواقدي.
[4] في الأصل «عيينة بن بدر» ، والتصحيح من المغازي لعروة وغيره،
مثل طبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري.
[5] سقطت من الأصل (ح) . واستدركناها من النسخة (ع) .
[6] المغازي لعروة 217.
[7] في ح: «ابن أبي الحرم» . وفي ع: «ابن أبي حرم» .
(2/594)
وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْعُقَيْلِيُّ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الذَّهَبِيُّ [1] . وَآخَرُونَ، قَالُوا:
أَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَلِيِّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّخَاوِيُّ.
(ح) وَأَنَا عَبْدُ الْمُعْطِي بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
بِالْإِسْكَنْدَرِيَةِ، أَنَا عَبْدُ الرحمن ابن مَكِّيٍّ.
(ح) وَأَنَا لُؤْلُؤٌ الْمحسني، بِمِصْرَ، وَعَلِيُّ بْنُ
أَحْمَدَ، وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، الْحَنْبَلِيَّانِ،
وَآخَرُونَ، قَالُوا: أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ هِبَةَ
اللَّهِ الْفَقِيهُ، قَالَ: أَنَا أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ سِلْفَةَ الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ
مَكِّيُّ بْنُ مَنْصُورٍ الْكَرَجِيُّ.
وَقَرَأْتُ عَلَى سُنْقُرِ الْقَضَائِيُّ [2] بِحَلَبَ، أَخْبَركَ
عَبْدُ اللَّطِيفُ بْنُ يوسف.
وسمعته، سنة أ [ثنتين] [3] وَتِسْعِينَ، عَلَى عَائِشَةَ بِنْتِ
عِيسَى بْنِ الْمُوَفَّقِ، أَنَا جَدِّي أَبُو مُحَمَّدٍ
قُدَامَةُ، وَسَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ حُضُورًا،
قَالَا: أَنَا أَبُو زُرَعَةَ طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمَقْدِسِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ السَّاوِيُّ،
سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، قَالَا: أَنَا
أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، ثنا أَبُو
الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، ثنا زكريا بن يحيى المروزي
ببغداد، ثنا [107 أ] سفيان ابن عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ، قَالَ:
حَاصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ
الطَّائِفِ، فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا. قَالَ: إِنَّا
قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ:
أَنَرْجِعُ وَلَمْ نَفْتَحْهُ؟ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ
غَدًا» . فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» . فَأَعْجَبَهُمْ
ذَلِكَ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم.
__________
[1] في الأصل: (ع) : «الدهني» . والتصحيح من (ح) والمشتبه في
النسبة (1/ 290) .
[2] رسمت في النسخ الثلاث: «الفصاي» . والتصحيح من المشتبه (1/
274) .
[3] في الأصل. حرف الألف ثم بياض كلمة. والمثبت من (ح) .
(2/595)
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [1] ، عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ هَكَذَا. وَعِنْدَهُ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِمُسْلِمٍ [2]
.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [3] عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ
سُفْيَانَ، فَقَالَ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ: قَالَ الْحُمَيْدِيُّ، ثنا سُفْيَانُ، نا عَمْرٌو،
سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الأَعْمَى يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عمر بْنِ الْخَطَّابِ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، فَذَكَرَهُ وَقَالَ
فِيهِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو. ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ:
وَسَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يُحَدِّثُ بِهِ، مَرَّةً أُخْرَى،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ غَسَّانَ الْغَلابِيُّ، أَظُنُّهُ عَنِ
ابْنِ مَعِينٍ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الشَّاعِرُ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَابْنِ عُمَرَ، فِي فَتْحِ الطَّائِفِ:
الصَّحِيحُ ابْنُ عُمَرَ.
قَالَ: وَاسْمُ أَبِي الْعَبَّاسِ: السَّائِبُ بْنُ فَرُّوخَ
مَوْلَى بَنِي كِنَانَةَ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ
[4] : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ارْتَحَلَ عَنِ الطَّائِفِ بِأَصْحَابِهِ وَدَعَا حِينَ رَكِبَ
قَائِلا: «اللَّهمّ اهْدِهِمْ وَاكْفِنَا مُؤْنَتَهُمْ» . وَقَالَ
ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْر،
وعبد اللَّه بْن المكدم، عمّن أدركوا، قَالُوا: حاصر رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهُل الطائف ثلاثينَ
لَيْلةً أو قريبا
__________
[1] صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الطائف (82/ 1778) .
[2] راجع تعليق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي في حاشية صحيح مسلم ج
3/ 1402 رقم (4) .
[3] في كتاب المغازي (5/ 102) باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان.
[4] هذا الحديث ليس في مغازي عروة المطبوع. وانظر نحوه في سيرة ابن
هشام 4/ 152 والمغازي للواقدي 3/ 937، وطبقات ابن سعد 2/ 159.
(2/596)
من ذَلِكَ. ثمّ انصرف عَنْهُمْ، فقدِم
المدينة، فجاءه وفدهم فِي رمضان فأسلموا [1] .
وقال ابن إِسْحَاق [2] : واستُشهد مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطائف: سَعِيد بْن سَعِيد بْن العاص
بْن أُمَيّة.
وعُرْفُطَة بْن حُبَاب.
وعبد اللَّه بْن أَبِي بَكْر الصدّيق، رُمي بسهمٍ فمات بالمدينة
فِي خلافة أَبِيهِ.
وعبد اللَّه بْن أَبِي أُمَيّة بْن المُغِيرة بْن عَبْد اللَّه بْن
عُمَر بْن مَخْزوم المَخْزُوميّ، أخو أمّ سَلَمَةَ. وأمُّه عاتِكَة
بِنْت عَبْد المطّلب. وكان يقال لأبي أُمَيّة، واسمه حُذَيفة: زَاد
الرَّاكب. وكان عَبْد اللَّه شديدًا عَلَى المسلمين، قِيلَ هُوَ
الَّذِي قَالَ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا من
الْأَرْضِ يَنْبُوعاً 17: 90 [3] وما بعدها. ثمّ أسلم قبل فتح مكة
بيسيرٍ، وحَسُن إسلامه. وهو الَّذِي قَالَ [لَهُ] [4] هِيتُ
المُخَنَّث: يا عَبْد اللَّه، إنْ فتح اللَّه عليكم الطائف، فإنّي
أدلّك عَلَى ابْنَة غَيْلان، الحديث [5] .
وعبد اللَّه بْن عامر بْن رَبِيعة. والسَّائِب بْن الحارث. وأخوه:
عَبْد اللَّه.
وجليحة [6] بن عبد الله.
__________
[1] الطبري 3/ 97.
[2] انظر أسماء الشهداء في الطائف في: المغازي للواقدي 3/ 938،
وسيرة ابن هشام 4/ 151، وتاريخ خليفة 90.
[3] سورة الإسراء، آية 90.
[4] سقطت من الأصل، واستدركناها من ع، ح.
[5] أخرجه البخاري في المغازي 5/ 102) باب غزوة الطائف، ومسلم في
كتاب السلام (32/ 2180) باب منع المخنّث من الدخول على النساء
الأجانب، ومالك في الموطّأ، كتاب الأقضية (رقم 1453) باب ما جاء في
المؤنّث من الرجال ومن أحقّ بالولد.
[6] في النسخ الثلاث: «طليحة» ، والتصويب من: تاريخ خليفة 91،
وسيرة ابن هشام 4/ 151، وأسد الغابة 1/ 348، وتجريد أسماء الصحابة
1/ 87، والإصابة 1/ 242.
(2/597)
ومن الأنصار: ثابت بن الجَذَع. والحارث بْن
سهل بن أبي صعصعة.
والمنذر [107 ب] بْن عَبْد اللَّه. ورُقَيم بْن ثابت.
فذلك اثنا عشر رجلًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
ويُروى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استشار
نَوفْل بْن معاوية الديلي فِي أهُل الطائف فقال: ثعلب فِي جُحْرٍ،
إنْ أقمت عَلَيْهِ أخذته، وإن تركته لم يضرّك [1] .
__________
[1] المغازي للواقدي 3/ 936، 937.
(2/598)
قِسْمُ غنَائِمِ حُنَيْنٍ وَغَيْر ذَلِك
قَالَ ابن إِسْحَاق:
ثمّ خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
عَلَى رُحَيْلٍ، حتّى نزل بالناس بالجِعْرَانة.
وكان معه من سَبْيِ هَوازن ستة آلاف من الذرّية، ومن الإبل
والشَّاء ما لَا يُدْرى عدّته [1] .
وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، ثَنَا
السِّمْطُ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: افْتَتَحْنَا مَكَّةَ، ثُمَّ
إِنَّا غَزَوْنَا حُنَيْنًا، فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ بِأَحْسَنِ
صُفُوفٍ رَأَيْتُ. قَالَ: فَصُفَّ الْخَيْلُ، ثُمَّ صُفَّتِ
الْمُقَاتِلَةُ، ثُمَّ صُفَّ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ،
ثُمَّ صُفَّ الْغَنَمُ ثُمَّ صُفَّ النَّعَمُ. قَالَ: وَنَحْنُ
بَشَرٌ كَثِيرٌ قَدْ بَلَغْنَا سِتَّةَ آلَافٍ، أَظُنُّهُ يُرِيدُ
الْأَنْصَارَ.
قَالَ: وَعَلَى مُجَنِّبَةِ خَيْلِنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ.
فَجَعَلَتْ خَيْلُنَا تَلُوذُ خَلْفَ ظُهُورِنَا.
فَلَمْ نَلْبَثْ أَنِ انْكَشَفَتْ خَيْلُنَا وَفَرَّتِ
الْأَعْرَابُ. فَنَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
«يَا للمهاجرين يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، يَا لَلْأَنْصَارِ يَا
لَلْأَنْصَارِ» . قَالَ أنس: هذا حديث عمّيّة [2] .
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 152.
[2] العمّيّة: الكبر أو الضلال. وجاء في شرح النووي: قوله هذا حديث
عمية، وهي رواية عامة مشايخنا وفسّر بالشدّة، وروي بفتح العين وكسر
الميم المشدّدة وتخفيف الياء وبعدها هاء
(2/599)
قُلْنَا: لَبَّيْكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَتَقَدَّمَ، فَايْمُ اللَّهِ مَا أَتَيْنَاهُمْ حَتَّى هَزَمَهُمُ
اللَّهُ. قَالَ: فَقَبَضْنا ذَلِكَ الْمَالَ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا
إِلَى الطَّائِفِ. قَالَ: فَحَاصَرْنَاهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى مَكَّةَ وَنَزَلْنَا. فَجَعَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الرَّجُلَ
الْمِائَةَ، وَيُعْطِي الرَّجُلَ الْمِائَةَ. فَتَحَدَّثَتِ
الْأَنْصَارُ بَيْنَهُمْ: أَمَّا مَنْ قَاتَلَهُ فَيُعْطِيهِ،
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُ فَلَا يُعْطِيهِ. قَالَ: ثُمَّ
أَمَر بِسَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ- لَمَّا بَلَغَهُ
الْحَدِيثُ- أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ. فَدَخَلْنَا الْقُبَّةَ
حَتَّى مَلَأْنَاهَا. فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، -
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَوْ كَمَا قَالَ- مَا حَدِيثٌ أَتَانِي؟»
قَالُوا: مَا أَتَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «أَمَا
تَرْضَوْن أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَذْهَبُوا
بِرَسُولِ اللَّهِ حَتَّى تُدْخِلُوهُ بُيُوتَكُمْ؟» قَالُوا:
رَضِينَا. فَقَالَ: «لَوْ أَخَذَ النَّاسُ شِعْبًا وَأَخَذَتِ
الْأَنْصَارُ شِعْبًا أَخَذْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ» . قَالُوا:
رَضِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:
«فَارْضَوْا» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [1] . وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ،
عَنْ هِشَامٍ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ
يَوْمُ حُنَيْنٍ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، إِلَى أَنْ قَالَ:
وَأَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَئِذٍ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَقَسَمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ
وَالطُّلَقَاءِ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا. فَقَالَتِ
الأَنْصَارُ: إِذَا كَانَتِ الشِّدَّةُ فَنَحْنُ نُدْعَى،
وَيُعْطَى الْغَنِيمَةَ غَيْرُنَا. قَالَ: فَبَلَغَهُ ذَلِكَ،
فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ وَقَالَ: «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ
يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا، وَتَذْهَبُوا بِرَسُولِ اللَّهِ
تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ
اللَّهِ، رَضِينَا. فَقَالَ: «لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا،
وَسَلَكَتِ الأنصار شعبا، لأخذت شعب الأنصار» . [108 أ] متّفق عليه
[2] .
__________
[ () ] لسكت، أي حدّثني به عمي، والعم: الجماعة. وروي بتشديد
الياء، وفسّر بعمومتي أي حدّثني به أعمامي.
[1] في كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلّفة قلوبهم على الإسلام وتصبّر
من قوي إيمانه (132/ 1059) ، وأخرجه أحمد في المسند 3/ 157، 158،
وابن كثير في السيرة النبويّة 3/ 673.
[2] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (5/ 105) . وصحيح
مسلم: كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من
قوي إيمانه (135/ 1059) .
(2/600)
وَقَالَ شُعَيْبٌ، وَغَيْرُهُ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ، أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَهُ، فَطَفِقَ يُعْطِي رِجَالا
مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ
اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ، يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَدَعُنَا،
وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ
أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدًا غَيْرَهُمْ. فَلَمَّا
اجْتَمَعُوا قَالَ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ فَقَالَ لَهُ
فُقَهَاؤُهُمْ: أَمَّا ذَوُو رَأيِنَا فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا.
فَقَالَ: «فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ
أَتَأَلَّفُهُمْ. أَفَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ
بِالأَمْوَالِ، وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ فو الله مَا
تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ» . قَالُوا:
قَدْ رَضِينَا. فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ بَعْدِي أَثَرةً
[1] شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا [2] حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ،
وَرَسُولَهُ عَلَى الْحَوْضِ» . قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ نَصْبِرْ.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [3] .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ،
قَالَ: لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْمُتَأَلَّفِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَفِي سَائِرِ
الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَنْصَارِ [مِنْهَا] [4] قَلِيلٌ
وَلا كَثِيرٌ، وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ. وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ
أَنَسٍ [5] .
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ
مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ [6]
رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ
__________
[1] الأثرة: الاستئثار والانفراد بالشيء. والمقصود هنا استئثار
أمراء الجور بالفيء.
[2] في الأصل: «فاصطبروا» . والمثبت عن ع، ح.
[3] صحيح البخاري: كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلّى الله
عليه وسلم يعطي المؤلّفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه (4/ 114-
115) . وصحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلّفة قلوبهم على
الإسلام إلخ (132/ 1059) .
[4] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح.
[5] سيرة ابن هشام 4/ 156، المغازي للواقدي 3/ 956، تاريخ الطبري
3/ 93.
[6] في النسخ الثلاث: «أن» وفي صحيح مسلم: عن، دون جملة «عن جده» .
والمثبت موافق لما في المغازي لعروة 218.
(2/601)
قُلُوبُهُمْ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ، كُلُّ
رَجُلٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ. فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ
بْنَ حَرْبٍ مِائَةً، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً.
وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِائَةً، وَأَعْطَى الأَقْرَعَ
بْنَ حَابِسٍ مِائَةً، وَأَعْطَى عَلْقَمَةَ بْنَ عُلاثَةَ مائة،
وأعطى مالك ابن عَوْفٍ النَّصْرِيَّ مِائَةً، وَأَعْطَى
الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ الْمِائَةِ.
فَأَنْشَأَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ ... [1] بَيْنَ
عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي
الْمَجْمَعِ
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ [2] ... فَلَمْ أُعْطَ
شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ
لا يُرْفَعِ
فَأَتَمَّ لَهُ مِائَةً. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [3] ، دُونَ ذِكْرِ
مالك بن عوف، وعلقمة، [و] [4] دون الْبَيْتِ الثَّالِثِ [5] .
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى الله عليه وسلم أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ: أَبَا
سُفْيَانَ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، وَالْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ
الْمَخْزُومِيَّ، وَصَفْوَانَ بْنَ أميّة الجمحيّ، وحويطب ابن
عَبْدِ الْعُزَّى الْعَامِرِيَّ، أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِائَةَ
نَاقَةٍ. وَأَعْطَى قَيْسَ بْنَ عَدِيٍّ السَّهْمِيَّ خَمْسِينَ
نَاقَةً، وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ خَمْسِينَ. فَهَؤُلاءِ
من أعطى من قريش.
__________
[1] العبيد: اسم فرس العباس بن مرداس.
[2] ذو تدرأ: ذو منعة وقوة على دفع أعدائه عن نفسه.
[3] في كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام إلخ
(137/ 1060) .
[4] سقطت من الأصل، ع. وأثبتناها من ح.
[5] انظر: سيرة ابن هشام 4/ 154، والمغازي للواقدي 3/ 946، 947،
وتاريخ الطبري 3/ 90، 91، ونهاية الأرب، 17/ 339، 340 والمغازي
لعروة وغيره، ففيها أبيات أكثر، مع اختلاف في الألفاظ.
(2/602)
وأعطى العلاء [108 ب] بْنَ حَارِثَةَ
مِائَةَ نَاقَةٍ، وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ مِائَةَ نَاقَةٍ،
وَرَدَّ إِلَيْهِ أَهْلَهُ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ
الْفَزَارِيَّ مِائَةَ نَاقَةٍ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ
كِسْوَةً.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ لِلأَنْصَارِ:
قَدْ كُنْتُ أُخْبِرُكُمْ أَنَّكُمْ سَتَلُونَ حَرَّهَا وَيَلِيَ
بَرْدَهَا غَيْرُكُمْ. فَتَكَلَّمَتِ الأَنْصَارُ فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، عَمَّ هَذِهِ الأَثَرَةِ؟ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ
الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ مُفْتَرِقِينَ فَجَمَعَكُمُ
اللَّهُ، وَضُلالا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَمَخْذُولِينَ
فَنَصَرَكُمُ اللَّهُ» . ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ، لَوْ [1] تَشَاءُونَ لَقُلْتُمْ ثُمَّ لَصَدَقْتُمْ
وَلَصُدِّقْتُمْ: أَلَمْ نَجِدْكَ مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ،
وَمَخْذُولا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَمُحْتَاجًا
فَوَاسَيْنَاكَ» . قَالُوا: لا نَقُولُ ذَلِكَ، إِنَّمَا الْفَضْلُ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنَّصْرُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَلَكِنَّا أَحْبَبْنَا أَنْ نَعْلَمَ فِيمَ هَذِهِ الأَثَرَةُ؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَوْمٌ
حَدِيثُو عَهْدٍ بِعِزٍّ وَمُلْكٍ، فَأَصَابَتْهُمْ نَكْبَةٌ
فَضَعْضَعَتْهُمْ وَلَمْ يَفْقَهُوا كَيْفَ الإِيمَانُ،
فَأَتَأَلَّفُهُمْ. حَتَّى إِذَا عَلِمُوا كَيْفَ الإِيمَانُ
وَفَقِهُوا فِيهِ عَلَّمْتُهُمْ [2] كَيْفَ الْقَسْمُ وَأَيْنَ
مَوْضِعُهُ» . وَسَاقَ بَاقِي الْحَدِيثِ [3] . وَقَالَ جَرِيرُ
بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا فِي
الْقِسْمَةِ، فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ،
وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى نَاسًا مِنْ
أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ رَجُلٌ:
وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا
أُرِيدُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَتَيْتُهُ
فَأَخْبَرْتُهُ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى صَارَ كَالصِّرْفِ
[4] ، وَقَالَ: «فمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ؟» ثم قال:
__________
[1] في الأصل «لقد» والتصحيح من نسختي (ع) و (ح) .
[2] في ع، ح: علمتم.
[3] انظر سيرة ابن هشام 4/ 156، 157، والمغازي للواقدي 3/ 957،
958، وتاريخ الطبري 3/ 93، 94، والمغازي لعروة 219، وفتح الباري 8/
51.
[4] الصرف: صبغ أحمر يشبه به الدم فيقال دم صرف.
(2/603)
«يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ
بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» . فَقُلْتُ: لَا جَرَمَ لَا
أَرْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَ هَذَا حَدِيثًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [1]
.
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ بِالْجِعْرَانَةِ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ
غَنَائِمَ مُنْصَرِفَةً مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْبِ بِلَالِ
فِضَةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِي النَّاسَ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اعدل.
فقال: «ويلك، ومن يعدل إذا لم أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْتُ
وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَكْن أَعْدِلُ» . فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي
أَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ. قَالَ: «مَعاذَ اللَّهِ، أَنْ
يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا
وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ
حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ
السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [2] . وَقَالَ
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ
قَسْمًا، إِذْ أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ. فَقَالَ: «وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ
إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ
أَعْدِلْ» . فَقَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي فِيهِ يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ. قَالَ: «دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ
أَصْحَابًا يَحْقِرُ [109 أ] أحدكم [3] صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع
صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإِسْلامِ
كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [4] . وَقَالَ عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ، قَالَ عُرْوَةُ: أَخْبَرَنِي مَرْوَانُ، وَالْمِسْوَرُ
بْنُ
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (5/ 106) . وصحيح
مسلم: كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلّفة قلوبهم على الإسلام (140/
1062) واللفظ له.
[2] صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم. (142/ 1063)
وأخرجه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجة،
والدارميّ، ومالك، والإمام أحمد، في مواضع كثيرة. (انظر: المعجم
المفهرس لألفاظ الحديث 6/ 204) .
[3] في الأصل: «أحدهم» . والتصحيح من ع، ح.
[4] صحيح البخاري: كتاب استتابة المرتدّين والمعاندين وقتالهم، باب
من ترك قتال الخوارج للتأليف (9/ 21- 22) ، وانظر سيرة ابن هشام 4/
156، والمغازي للواقدي 3/ 948.
(2/604)
مَخْرَمَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ
مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ [1] أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ. فَقَالَ: «مَعِي مَنْ تَرَوْنَ،
وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ. فَاخْتَارُوا إِمَّا
السَّبْيَ، وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ
بِكُمْ» . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ انْتَظَرَهُمْ تِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ
مِنَ الطَّائِفِ. فَلَمَّا تَبَيَّن لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلا
إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: إِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا.
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمُسْلِمِينَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ،
ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاءِ قَدْ
جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أرُدَّ
إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ. فَمَنْ أَحَبَّ [مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ
ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ] [2] مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ
عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا
يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ» . فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ
طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ. فَقَالَ: «إِنَّا
لا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ
يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ
أَمْرَكُمْ» . فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ [3] عُرَفَاؤُهُمْ.
ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ بِأَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا
وَأَذِنُوا. أَخْرَجَهُ خ [4] . وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ:
ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَنْ الطَّائِفِ إِلَى الْجِعْرَانَةِ، وَبِهَا
السَّبْيُ، وَقَدِمَتْ عَلَيْهِ وُفُودُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ،
فِيهِمْ تِسْعَةٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَأسْلَمُوا وَبَايَعُوا.
ثُمَّ كَلَّمُوهُ فِيمَنْ أُصِيبَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ.
إِنَّ فِيمَنْ أَصَبْتُمُ الأُمَّهَاتِ وَالأَخَوَاتِ
وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالاتِ، وَهُنَّ مَخَازِي [5] الأَقْوَامِ.
وَنَرْغَبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم رحيما جوادا كريما. فقال:
__________
[1] في الأصل: «يسألوه» . والتصحيح من صحيح البخاري.
[2] سقطت هذه الجملة من الأصل، ع وأثبتناها من (ح) .
[3] في الأصل: «وكلمهم» . والمثبت عن (ح) وصحيح البخاري.
[4] في كتاب فرض الخمس، باب ومن الدليل على أنّ الخمس لنوائب
المسلمين إلخ.
(4/ 108- 109) . وكتاب المغازي، باب قول الله تعالى وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ 9: 25 (5/ 195- 196) .
وأبو داود في كتاب الجهاد (2693) باب في فداء الأسير بالمال، وأحمد
في المسند 4/ 327.
[5] في الأصل: «مجاري» . والمثبت من (ح) . وفي (ع) : «محارم» . وهي
جيّدة.
(2/605)
سَأَطْلُبُ لَكُمْ ذَلِكَ. قَالَ: فِي
الْقِصَّةِ [1] . وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ: أَنَّ سَبْيَ هَوَازِنَ كَانُوا سِتَّةَ
آلافٍ [2] .
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حدثني
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كُنَّا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِحُنَيْنٍ، فَلَمَّا أَصَابَ مِنْ هَوَازِنَ مَا أَصَابَ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ وَسَبَايَاهُمْ، أَدْرَكَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ
بِالْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَسْلَمُوا. فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا [3] أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ
أَصَابَنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَامْنُنْ
عَلَيْنَا، مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ. وَقَامَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ
بْنُ صُرَدٍ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّما فِي
الْحَظَائِرِ مِنَ السَّبَايَا خَالَاتُكَ وَعَمَّاتُكَ
وَحَوَاضِنُكَ اللاتِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ، فَلَوْ أَنَّا
مَلَحْنَا [4] [لِلْحَارِثِ] [5] بْنِ أَبِي شَمْرٍ، أَوِ
النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ أَصَابَنَا مِنْهُمَا مِثْلُ
الَّذِي أَصَابَنَا مِنْكَ، رَجَوْنا عائدتهما [6] وعطفهما، وأنت
خير المكفولين. ثم [109 ب] أَنْشَدَهُ أَبْيَاتًا قَالَهَا:
امْنُنْ عَلَيْنا رَسُولَ اللَّهِ في كرم ... فإنّك المرء نرجوه
وندّخر
امنن على بيضة إعتاقها حَزَنٌ [7] ... مُمَزِّقٌ شَمْلَها فِي
دَهْرِها غِيَرُ
أَبْقَتْ لَهَا الْحَرْبُ هُتَّافًا عَلَى حَزَنٍ ... عَلَى
قُلُوبِهِمُ الغمّاء والغمر
__________
[1] القصة في المغازي للواقدي 3/ 950، 951.
[2] الحديث في الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 155.
[3] في النسخ الثلاث «لنا» وأثبتنا لفظ ابن هشام 4/ 152.
[4] في الأصل «ملنحا» ، وهو تحريف، تصحيحه من (ع) و (ح) وفي النسخة
الأخيرة فسّرها في الهامش بقوله: «أي أرضعنا» . والملح: الرضاع:
(النهاية في غريب الحديث 4/ 105) .
وانظر السيرة لابن هشام 4/ 152 وفيه أيضا: «ويروى: ولو أنّا
مالحنا» .
[5] سقطت من النسخ الثلاث، والاستدراك من سيرة ابن هشام.
[6] في الأصل: «عائدهما» . والمثبت من ع، ح، والمغازي للواقدي 4/
950 والعائدة:
المعروف والصلة والفضل. (شرح أبي ذر- ص 411) .
[7] في الأصل، ع: حزز. والمثبت عن النسخة (ح) . وفي المغازي
للواقدي 3/ 950 «
امنن على نسوة قد عاقها قدر
» وفي الروض الأنف 4/ 166 «
امنن على بيضة قد عاقها قدر
» .
(2/606)
إِنْ لَمْ تَدَارَكْهُمُ [1] نَعْمَاءُ
تَنْشُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا [2] حِينَ
يُخْتَبَرُ
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إِذْ فُوكَ
يَمْلَؤهُ مِنْ مَحْضِهَا دِرَرُ [3]
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... وَإِذْ
يُزيِنُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ [4] ... وَاسْتَبْقِ
مِنَّا، فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهُرُ
إِنَّا لَنَشْكُرُ آلَاءً وَإِنْ كُفِرَتْ [5] ... وَعِنْدَنَا
بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخرُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«نِسَاؤُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالَكُمْ؟» فَقَالُوا:
خَيَّرتَنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا وَأَمْوَالِنَا، أَبْنَاؤُنَا
وَنِسَاؤُنَا أَحَبُّ إِلَيْنَا. فَقَالَ: «أَمَّا مَا كَانَ لِي
وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَإِذَا أَنَا
صَلَّيْتُ بِالنَّاسِ فَقُومُوا وَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ
بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِالْمُسْلِمِينَ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ، فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا، سَأُعِينُكُمْ
عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ» . فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ،
قَامُوا فَقَالُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَقَالَ: «أَمَّا مَا
كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ» . فَقَالَ
الْمُهَاجِرُونَ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ.
قَالَتِ الْأَنْصَارُ كَذَلِكَ.
فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ
فَلَا. فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ: أَمَّا
أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا. فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: بَلْ مَا
كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ [6] : أَمَّا أَنَا
وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ أَمْسَكَ مِنْكُمْ بِحَقِّهِ فَلَهُ بِكُلِّ إِنْسَانٍ سِتُّ
فرائض [7] من أوّل فيء نصيبه» .
__________
[1] في المغازي للواقدي «ألا تداركها» . والمثبت يتفق مع الروض
الأنف.
[2] في المغازي «حتى» ، والمثبت يتفق مع الروض الأنف.
[3] أي الدفعات الكثيرة من اللبن. (السيرة الحلبية 2/ 250) ، وانظر
اختلافا يسيرا في البيت عند الواقدي والسهيليّ عما هنا.
[4] شالت نعامته: أي تفرّقت كلمتهم. أو ذهب عزّهم. (القاموس المحيط
3/ 404)
[5] في المغازي «وإن قدمت» .
[6] في المغازي للواقدي 3/ 951 «عيينة بن حصن» .
[7] الفرائض: جمع فريضة، وهو البعير المأخوذ في الزكاة، سمى فريضة
لأنه فرض واجب على رب المال.
(2/607)
فَردُّوا إِلَى النَّاسِ نِسَاءَهُمْ
وَأَبْنَاءَهُمْ [1] .
ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْسِم
عَلَيْنَا فَيْئَنَا، حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى شَجَرَةٍ
فَانْتَزَعَتْ عَنْهُ رداءه فقال:
«ردّوا عليّ ردائي، فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ
عَدَدُ شَجَرِ تِهَامَةَ [نَعَمًا] [2] لَقَسَمْتُهُ عَلَيْكُمْ،
ثُمَّ مَا لَقِيتُمُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا»
. ثُمَّ قَامَ إِلَى جَنْبِ بَعِيرٍ وَأَخَذَ مِنْ سَنَامَه
وَبَرَةً فَجَعَلَهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ وَقَالَ: «أَيُّهَا
النَّاسُ، وَاللَّهِ ما لي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلَا هَذِهِ
الْوَبَرَةِ إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ.
فَأَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ [3] ، فَإِنَّ الْغُلُولَ [4]
عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِكُبَّةٍ [5] مِنْ خيوط شعر
فقال: أخذت [110 أ] هَذِهِ لِأَخِيطَ بِهَا بَرْذَعَةَ بَعِيرٍ لِي
دَبِرٍ [6] . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «أَمَّا حَقِّي مِنْهَا فَلَكَ» . فَقَالَ الرَّجُلُ:
أَمَّا إِذَا بَلَغَ الْأَمْرُ هَذَا فَلا حَاجَةَ لِي بِهَا.
فَرَمَى بِهَا [7] . وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ. فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ فِي
الْجَاهِليَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ. قَالَ: «اذْهَبْ فَاعْتَكِفْ» . وَكَانَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أَعْطَاهُ جَارِيَةً
مِنَ الْخُمْسِ. فَلَمَّا أَنْ أَعْتَقَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبايا النَّاسِ، قَالَ عُمَرُ: يَا
عَبْدَ اللَّهِ، اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْجَارِيَةِ فَخَلِّ
سَبِيلَهَا. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [8] .
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 152 وانظر المغازي للواقدي 3/ 951، 952،
وطبقات ابن سعد 2/ 153، 154، وتاريخ الطبري 3/ 87.
[2] زيادة من (ح) وابن هشام.
[3] الخياط: الخيط، والمخيط: الإبرة.
[4] الغلول: الخيانة في المغنم والسرقة وكل من خان في شيء خفية فقد
غلّ.
[5] الكبّة: من الغزل أو الشعر ما جمع على شكل كرة أو أسطوانة.
[6] الدبر: قروح تصيب ظهر البعير أو خفه، فهو دبر وأدبر.
[7] سيرة ابن هشام 4/ 153، 154، تاريخ الطبري 3/ 89، 90.
[8] صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا
أسلم (28/ 1656) .
(2/608)
وقال ابن إِسْحَاق [1] : حدّثني أَبُو
وَجْزَة السعديّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أعطى من سَبْيِ هوازن عليَّ بْن أَبِي طَالِب جاريةً،
وأعطى عثمان وعمر، فوهبها عُمَر لابنه.
قَالَ ابن إِسْحَاق [2] : فحدّثني نافع، عَنِ ابن عُمَر، قَالَ:
بعثت بجاريتي إلى أخوالي من بني جُمَحٍ ليُصْلِحوا لي منها حتّى
أطوف بالبيت ثمّ آتيهم.
فخرجت من المسجد فإذا النّاس يشتدّون، فقلت: ما شأَنكم؟ فقالوا:
رَدَّ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نساءنا وأبناءنا. فقلت: دُونَكم صاحبتكم فهي فِي بني جُمح
فانْطلَقوا فأخذوها.
قَالَ ابن إِسْحَاق [3] : وحدّثني أَبُو وَجْزة يزيد بْن عُبَيْد:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لوفد هوازن: «ما فَعَل مالك بْن عَوْفُ؟» قَالُوا: هُوَ بالطائف.
فقال:
«أخْبِروه أنّه إِنْ أَتَاني مُسْلِمًا رَدَدْتُ إِلَيْهِ أهلَه
ومالَه، وأعطيته مائةً من الإبل» . فأُتِيَ مالِك بذلك، فخرج
إِلَيْهِ من الطائف. وقد كَانَ مالك خاف من ثقيف عَلَى نفسه من قول
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأمر براحلةٍ
فهُيِّئت، وأمر بفرسٍ لَهُ فأُتِيَ بِهِ، فخرج ليلًا ولحِق برَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأدركه بالجِعرانة أو
بمكة، فردّ عَلَيْهِ أهله وماله وأعطاه مائةً من الإبل. فقال:
ما إِنْ رأيتُ ولا سَمِعتُ بمثلِهِ ... وفي النَّاسِ كلِّهم بمثْلِ
مُحَمَّد
أَوْفَى وَأَعْطَى للجزيل إذا اجتدي [4] ... وإذا تشاء يُخْبِرْك
عمّا فِي غَد
وإذَا الكَتِيبَةُ عَرَّدَتُ أَنْيَابُها ... أَمَّ الْعِدَى فيها
بكُلِّ مُهَنَّد [5]
فكَأَنَّه لَيْثٌ لَدى أَشْبَالِهِ ... وَسْطَ المَبَاءَةِ خَادِرٌ
[6] فِي مرصد
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 152، 153.
[2] سيرة ابن هشام 4/ 153.
[3] سيرة ابن هشام 4/ 153.
[4] اجتدى: سئل الجدا أو الجدوى، وهي العطية.
[5] عردت أنيابها: غلظت واشتدت. المهند: السيد المصنوع من حديد
الهند.
[6] المباءة (وقد وردت في النسخ الثلاث) : المنزل وكناس الثور
الوحشي. ولعلّها استعملت هنا
(2/609)
فاستعمله النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى من أسلم من قومه، وتلك القبائل من ثُمَالة
وَسَلَمَةَ وفَهْم [1] ، كَانَ يقاتل بهم ثقيفًا، لَا يخرج لهم
سَرْحٌ إلّا أغار عَلَيْهِ حتّى يصيبه [2] .
قَالَ ابن عَسَاكِر: شهد مالك بْن عَوْفُ فَتْح دِمَشق. وله بها
دار [3] .
وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ثَوْبَانَ،
أَخْبَرَنِي عَمِّي عُمَارَةُ بْنُ ثَوْبَانَ، أَنَّ أَبَا
الطُّفَيْلِ أَخْبَرَهُ قَالَ: كُنْتُ غُلامًا أَحْمِلُ عُضْوَ
الْبَعِيرِ، وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لَحْمًا بِالْجِعْرَانَةِ، فَجَاءَتْهُ
امْرَأَةٌ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟
قَالُوا: أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ.
وَرَوَى الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ هَوَازِنَ جَاءَتِ امْرَأَةٌ [110 ب]
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَتْ: أَنَا أُخْتُكَ شَيْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ. قَالَ:
«إِنْ تَكُونِي صَادِقَةً فَإِنَّ بِكِ مِنِّي أَثَرًا لَنْ
يَبْلَى» . قَالَ: فَكَشَفَتْ عَنْ عَضُدِهَا. ثُمَّ قَالَتْ:
نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَمَلْتُكَ وَأَنْتَ صَغِيرٌ
فَعَضَضْتَنِي هَذِهِ الْعَضَّةَ. فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ ثُمَّ
قَالَ: «سَلِي تُعْطَيْ، وَاشْفَعِي تُشَفَّعِي» [4] .
الحَكَم ضعّفه ابن معين [5] .
__________
[ () ] بمعنى العرين. ورواية ابن هشام والواقدي: الهباءة، وهي
الغبارة يثور عند اشتداد الحرب.
خادر: مقيم في عرينه.
[1] ثمالة وسلمة وفهم: بطون من الأزد من القحطانية.
[2] سيرة ابن هشام 4/ 153، والمغازي للواقدي 3/ 955، 956، وتاريخ
الطبري 3/ 89.
[3] في تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (2/ 135) : الدار التي على
شارع دار البطيخ الكبير التي فيها البناء القديم تعرف بدار بني
نصر، كانت كنيسة للنصارى فنزلها مالك بن عوف النصري أول ما فتحت
دمشق فعرفت به.
[4] ينظر عن شيماء: الاستيعاب 4/ 344، وأسد الغابة 5/ 489،
والإصابة 4/ 344 رقم (633) .
[5] قال فيه: ليس بشيء. (التاريخ 2/ 125 رقم 1332) .
(2/610)
عمرة الجعرانة
قَالَ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي
الْقَعْدَةِ، إِلا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ: عُمْرَةٌ زَمَنَ
الْحُدَيْبِيَةِ- أَوْ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ- فِي ذِي الْقَعْدَةِ،
وَعُمْرَةٌ، أَظُنُّهُ قَالَ [1] ، الْعَامَ الْمُقْبِلَ،
وَعُمْرَةٌ مِنَ الجعرانة، حيث قسم غنائم حنين في ذي الْقَعْدَةِ،
وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [2] .
وقال مُوسَى بْن عُقْبة، وهو فِي «مغازي عُرْوَةُ» [3] : أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ
بالعُمْرة من الجِعِرّانة فِي ذي القَعدة، فقدِم مكة فقضى عُمْرته.
وكان حين خرج إلى حُنين استخلف مُعاذًا عَلَى مكة، وأمره أنَّ
يعلّمهم القرآن ويفقّههم فِي الدين. ثمّ صدر إلى المدينة وخلَّف
مُعاذًا عَلَى أهُل مكة [4] .
__________
[1] في الأصل، «قال أظنه» . وهو سبق قلم تصحيحه من ع، ح والصحيحين.
[2] صحيح البخاري: كتاب الحج، أبواب العمرة، باب كم اعتمر النبي
صلّى الله عليه وسلم (3/ 3) . وصحيح مسلم: كتاب الحج، باب بيان عدد
عمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وزمانهن (217/ 1253) . وأبو داود
في الحج (1994) باب العمر. والترمذي في الحج (814) باب ما جاءكم
اعتمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وابن ماجة في المناسك (3003)
باب كم اعتمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وأحمد في المسند 1/ 246
و 321 و 2/ 139 و 3/ 134 و 256 و 4/ 297.
[3] في الأصل «غزوة» والتصحيح من (ع) ، و (ح) .
[4] أول الحديث غير موجود في المطبوع من مغازي عروة، انظر ص 213،
وأخرجه الحاكم في
(2/611)
وقال ابن إِسْحَاق [1] : ثمّ سَارَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ الجعرانة معتمرًا.
وأمر ببقايا الْفَيْءِ فحُبِس بمَجَنَّة [2] . فلمّا فرغ من عُمرته
انصرف إلى المدينة، واستخلف عتّاب بْن أَسِيد عَلَى مكة، وخلَّف
معه مُعاذًا يفقّه النّاس.
قلتُ: ولم يزل عتّاب عَلَى مكة إلى أنْ مات بها يوم وفاة أَبِي
بَكْر. وهو عَتّاب بْن أَسِيد بْن أَبِي العِيص بْن أُمَيّة
الأمَويّ. فبلغنا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ له: يا عتّاب، تدرى عَلَى من اسْتَعْمَلْتُك؟
استعملتك عَلَى أهُل اللَّه، ولو أعلم لهم خيرًا منك استعملتُه
عليهم. وكان عمره إذ ذاك نَيِّفًا وعشرين سنة، وكان رجلًا صالحًا.
رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أصبتُ فِي عملي هذا بُرْدَيْن
مُعَقَّدَيْن كَسَوْتُهما غُلامِي، فلا يقولنّ أَحَدُكُمْ أخَذ
مِنّي عتّاب كذا، فقد رزقني رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلَّ يومٍ دِرْهَميْن، فلا أَشْبَعَ اللَّه
بَطْنًا لَا يُشبعه كلّ يوم درهمان [3] .
__________
[ () ] المستدرك على الصحيحين 3/ 270.
[1] سيرة ابن هشام 4/ 157، تاريخ الطبري 3/ 94.
[2] مجنّة: بالفتح وتشديد النون. بمرّ الظهران أسفل مكة. (معجم
البلدان 5/ 58) .
[3] انظر عن عتّاب بن أسيد: طبقات ابن سعد 5/ 446، طبقات خليفة 11
و 277، تاريخ خليفة 87 و 88 و 92 و 97 و 117 و 123. المحبّر لابن
حبيب 11 و 12 و 126 و 127 و 258، فتوح البلدان للبلاذري 46 و 63 و
66، أنساب الأشراف له 1/ 303، 303 و 364، 365، 368، 529، نسب قريش
لمصعب 187 و 312 و 418، أخبار مكة للأزرقي 1/ 285 و 2/ 151 و 153،
التاريخ الكبير 7/ 54 رقم 244، المعارف لابن قتيبة 73 و 91 و 163 و
283، الأخبار الموفقيّات للزبير بن بكار 333، تاريخ الطبري 3/ 73 و
94 و 318 و 319 و 322 و 342 و 419 و 427 و 479 و 497 و 597 و 623 و
4/ 39 و 94 و 160، المستدرك 3/ 594، 595، جمهرة أنساب العرب 113 و
145 و 166، المعجم الكبير للطبراني 17/ 161، 162، العقد الفريد
لابن عبد ربّه 6/ 158، ربيع الأبرار 4/ 338، عيون الأخبار 1/ 330 و
2/ 55، الخراج وصناعة الكتابة 266، الاستيعاب لابن عبد البر 3/
153، 154، ثمار القلوب للثعالبي 12 و 519، الجرح والتعديل 7/ 11
رقم 46، مشاهير علماء الأمصار 30 رقم 155، الزيارات للهروي 94،
تهذيب الأسماء واللغات للنووي ق 1 ج 1/ 318، 319 رقم 386، الكاشف
2/ 212، 213 رقم 3706، تلخيص المستدرك 3/ 594، 595، البداية
والنهاية 7/ 34، شفاء الغرام (بتحقيقنا) 1/ 90 و 125 و 138 و 2/
243 و 244 و 245 و 246 و 237 و 251 و 252 و 253 و 254 و 257، تهذيب
التهذيب 7/ 89، 90 رقم 191، تقريب التهذيب 2/ 3 رقم 1، الإصابة 2/
451 رقم 5391، البدء والتاريخ للمقدسي 5/ 107، الوفيات لابن قنفذ
(2/612)
وحجّ النّاس فِي تِلْكَ السنة عَلَى ما
كانت العرب تحجّ عليه [1] .
__________
[41،) ] خلاصة تذهب التهذيب 257 وستأتي ترجمته في الجزء الخاص
بالخلفاء الراشدين من هذا الكتاب، في تراجم المتوفين في خلافة عمر
بن الخطاب رضي الله عنه.
[1] تاريخ الطبري 3/ 95، تاريخ خليفة 92.
(2/613)
قصة كعب بْن زُهَيْر
ولما قدِم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ
مُنْصَرفه، كتب بُجَيْر بْن زُهَيْر، يعني إلى أخيه كَعْب بْن
زُهَيْر، يخبره أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قتل رجالًا بمكة ممّن كَانَ يَهْجُوه ويُؤذيه، وأنّ من
بَقِيَ من شعراء قريش، ابن الزِّبَعْرَى [1] ، وهُبَيْرة بْن أبي
وَهْب [2] ، قد هربوا [3] فِي كلّ وَجْهٍ. فإن كانت لك في نفسك
حاجة فطِرْ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فإنّه لَا يقتل أحدًا جاءه تائبًا، وإنْ أنت لم تفعلْ
فانجُ إلى نجائك من الأرض.
وكان كعب [111 أ] قد قَالَ [4] :
أَلا أَبْلِغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَكَ [5]
فِيمَا قُلْت وَيْحَكَ هَلْ لَكَا
__________
[1] هو عبد الله بن الزبعري بن قيس بن عديّ القرشيّ السهمي الشاعر،
كان من أشعر قريش في الجاهلية، وأسلم بعد الفتح وحسن إسلامه. انظر
ترجمته في الإصابة (2/ 308) وأسد الغابة (3/ 239) وطبقات فحول
الشعراء (1/ 235- 244) .
[2] في سيرة ابن هشام 4/ 157 «هبيرة بن وهب» والمثبت يتفق مع
المصادر الأخرى.
[3] في الأصل، ع: «فذهبوا» . والتصحيح من (ح) .
[4] شرح ديوانه (صنعة السكري) : ص 3- 4 باختلاف في الألفاظ وترتيب
الأبيات، ولم يرد البيت الرابع في شرح الديوان.
[5] في الأصل، ع: «فهل كان» . والمثبت من ح. وسيرة ابن هشام 4/
158.
(2/615)
فَبَيِّنْ لَنَا إِنْ كُنْتَ لَسْتَ
بِفاعِلٍ ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ دَلَّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ ألْفِ أُمًّا وَلا أَبًا [1] ... عَلَيْهِ وَمَا
تُلْفي عَلَيْهِ أَخًا [2] لَكا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بآسِفٍ ... وَلا قَائِلٍ
إِمَّا عَثَرْتَ: لَعًا لَكا
سَقَاكَ بِهَا المَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيَّةً ... فأنهلك
المَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكا
فلمّا أتيت بُجَيْرًا كَرِه أنَّ يَكْتُمَها رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنشده إيّاها. فقال لما سَمِعَ «
[سقاك] [3] بها المأمون» : «صَدَق وإنّه لكّذُوب» . ولما سَمِعَ:
«عَلَى خُلُقٍ لم تلف أُمًّا ولا أبًا عَلَيْهِ» . قَالَ: «أجل لم
يلف عَلَيْهِ أَبَاهُ ولا أمّه» . ثمّ قَالَ بُجير لكعب:
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهلْ لَكَ فِي التّي ... تَلُومُ عَلَيْها
بَاطِلًا وَهْيَ أَحْزَمُ
إِلى اللَّه- العُزَّى ولا اللات- وَحْده ... فَتَنْجُو إذَا كَانَ
النَّجَاءُ وتَسْلَم
لَدى يَوْمِ لَا يَنْجُو وَلَسْتَ بمُفْلِتٍ ... مِنَ النّاسِ إلّا
طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِم
فَديِن زُهَيْر وَهْوَ لَا شَيْءَ دِينُه ... وَدِينُ أَبي سُلْمَى
عَليَّ مُحَرَّم
فلمّا بلغ كَعْبًا الكتابُ ضاقت عَلَيْهِ الأرض بما رَحُبت، وأشفق
عَلَى نفسه، وأَرْجَف بِهِ من كَانَ فِي حاضِره من عَدوّه فقالوا:
هُوَ مَقْتُولٌ. فلمّا لم يجد من شيءٍ بُدًّا قَالَ قصيدته، وقدم
المَدِينَةِ [4] .
وقال إِبْرَاهِيم بْن دِيزِيلَ، وغيره، ثنا إِبْرَاهِيم بْن المنذر
الحزامي، ثنا الحجّاج بْن ذي الرُقَيْبَة بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن
كَعْب بن زهير بن أبي سلمى
__________
[1] في الأصل، ح وسيرة ابن هشام: «
على خلق لم ألف يوما أبا له
» . وفي ع: «
عَلَى خُلُقٍ لَمْ ألْفِ أُمًّا وَلا أَبًا له
» . والحرف الأخير زيادة لا يستقيم معها وزن الشعر، وهو على
التحقيق من أوهام النسخ. وقد أثبتنا رواية (ع) بعد حذف هذه الزيادة
لاتفاقها مع ما يرد بعد ذلك في سياق الخبر، ولأنها، بعد، رواية
الديوان.
[2] في النسخ الثلاث والسيرة لابن هشام: «أبا» ، والوجه ما أثبتناه
من رواية الديوان.
[3] سقطت من الأصل، ع، وأثبتناها من ح.
[4] الخبر في سيرة ابن هشام 4/ 157، 158، والشعر والشعراء لابن
قتيبة 1/ 80، والأغاني 17/ 86، وإمتاع الأسماع للمقريزي 494 وانظر
ديوان كعب بن زهير.
(2/616)
المُزَنيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جدّه قَالَ:
خرج كَعْب وبُجير ابنا زُهَيْر حتّى أَتَيَا أَبْرَق الْعَزَّافِ
[1] فقال بُجَير لكعب: اثبت هنا حتّى أتي هذا الرجل فأسمع ما
يَقُولُ.
قَالَ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فأسلم، فبلغ ذَلِكَ كعبًا فقال:
ألا أبلغَا عنّي بُجَيْرًا رسالةً ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
سقاك بها المأمون كأسًا رَوِيَّةً ... وَأَنْهَلَكَ المأمونُ منها
وعَلَّكا
ويُروَى
سقاك أَبُو بَكْر بكأس رَويةٍ
فَفَارَقْتَ أَسْبَابَ الْهُدَى وَتَبِعْتَهُ ... عَلَى أيِّ
شَيْءٍ وَيْبَ [2] غَيْركَ دلَّكا
عَلَى مَذْهَبٍ لم تلفِ أمًّا ولا أبًا ... عَلَيْهِ، ولم تعرفْ
عَلَيْهِ أخًا لكا [3]
فاتّصل الشِعْر بالنّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فأهْدَر دمه. فكتب بُجَير إِلَيْهِ بذلك، ويقول لَهُ:
النَّجاءَ، وما أراك تُفْلِت [4] . ثمّ كتب إِلَيْهِ: اعَلْم أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يأتيه أحد
يشهد أنَّ لَا إِلَهَ إِلا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول
اللَّهِ إلّا قَبِلَ ذَلِكَ منه، وأسقط ما كَانَ قبل ذَلِكَ. فأسلم
كَعْب، وقال القصيدة التي يمدح فيها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أقبل حتّى أناخ راحلته بباب مسجد رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم دخل [111 ب] المسجد
ورَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أصحابه
مكانَ المائدة من القوم، والقوم متحلِّقون معه حَلْقةً دون حَلْقة،
يلتفت إلى هَؤُلَاءِ مرّة فيحدّثهم، وإلى هَؤُلَاءِ مرّة فيحدّثهم.
قَالَ كَعْب: فأنخْتُ رَاحِلتي، ودخلت، فعرفتُ رَسُول الله صلّى
الله عليه وسلم بالصّفة،
__________
[1] في الأصل، ح «أبرق العراق» ، والتصحيح من (ع) .
وأبرق العزّاف: ماء لبني أسد بن خزيمة بن مدركة، وهو في طريق
القاصد إلى المدينة من البصرة يجاء من حومانة الدراج إليه، ومنه
إلى بطن نخل ثم الطرف ثم المدينة. وإنما سمّي العزّاف لأنهم يسمعون
فيه عزيف الجنّ. (معجم البلدان 1/ 68) ، والأبرق والبرقاء: جمعها
أبراق: حجارة ورمل مختلطة. (معجم البلدان 1/ 65) .
[2] ويب: مثل ويح ووي.
[3] راجع الديوان- ص 3، والأغاني 17/ 86، والشعر والشعراء 1/ 80.
[4] في الأصل، ح: «تنفلت» . وفي ع: «فقلب» . وفي الأغاني 17/ 87
«بمفلت» .
(2/617)
فتخطّيت حتّى جلست إِلَيْهِ فقلتُ: أشهد
أنَّ لَا إله إلّا اللَّه، وأنّك رَسُول اللَّهِ.
الأَمانَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ، «وَمَنْ أنتَ؟» قلتُ: أَنَا
كَعْب بْن زُهَيْر. قَالَ:
«الَّذِي يَقُولُ» ثمّ التفتَ إلى أَبِي بَكْر فقال: «كيف [قَالَ]
[1] يا أَبَا بَكْر؟» فأنشده:
سقاك أَبُو بَكْر بكأس رويّة ... وأنهلك المأمُور [2] منها وعلّكا
قلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ما قلتُ هكذا. قَالَ: «فكيف قلت؟»
قلتُ، إنّما قلتُ:
وأنهلك المأمونُ منها وعلّكا
فقال: «مأمونٌ، والله» . [قَالَ] [3] : ثمّ أنشده [4] :
بانَتْ سُعاد فقلبي اليوم مَتْبولُ ... مُتَيَّمٌ إِثْرَها لم
يُلْفَ مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلّا أَغنُّ غَضِيض الطَّرْف
مَكْحول
تجلو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذا ابتسمتْ ... كأنّه مُنْهلٌ
بالرَّاحِ مَعْلُولُ
شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ من ماءِ مَحْنِيَةٍ ... صادٍ بأبطحَ أَضْحَى
وهو مَشْمول [5]
تَنْفي الرياحُ الْقَذَى عَنْهُ وأفْرَطَهُ ... من صَوْب ساريةٍ
بيضٌ يَعالِيل [6]
أَكْرِمْ بها خُلَّةً لو أنّها صَدَقتْ ... مَوْعُودَها، أَوْ لَوْ
أن النصح مقبول
لكنها خلة قَدْ سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل [7]
__________
[1] سقطت من الأصل، ح، وأثبتناها من ع.
[2] في الأصل، ع والأغاني: «المأمون» . والمثبت من (ح) وهو الوجه.
[3] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح.
[4] شرح ديوانه: 6- 25، وانظر أيضا: شرح قصيدة كعب بن زهير للخطيب
التبريزي (تحقيق سالم الكرنكوي) ، وسيرة ابن هشام 4/ 159، 160.
[5] شجت: مزجت، يعني الراح. وذي شبم: الماء البارد. والمحنية: ما
انعطف من الوادي.
ومشمول: أصابته ريح الشمال.
[6] أفرطه: أي ملأه. سارية: سحابة تسري. بيض يعاليل: أي سحائب بيض
رواء.
[7] سيط: خلط.
(2/618)
فما تدومُ عَلَى حالٍ تكونُ بها ... كما
تَلَوَّنُ فِي أثوابها الْغُولُ [1]
ولا تَمَسَّكُ [2] بالعَهْد الَّذِي زَعَمت ... إلّا كما يُمْسِكُ
الماءَ الغرابيل
فلا يَغُرَّنْكَ ما مَنَّت وما وعدتْ ... إنّ الأمانيَّ والأحلامَ
تضليل
كانت مواعيدُ عُرْقوبٍ لها مَثَلًا ... وما مواعيدُها إلّا
الأباطيل
أرجو وآمُل أنَّ تدنو مودَّتُها ... وما إِخالُ لَدَيْنا منكِ
تَنْويل
أمستْ سعاد بأرض لَا يُبَلّغها ... إلّا الْعِتَاقُ النَّجِيبات
المَراسيل
ولن يبلّغها إلّا عُذَافِرَةٌ ... فيها عَلَى الأَيْنِ إِرْقال
وتَبْغيل [3]
من كلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرى إذا عَرِقتْ ... عرضتها طامِسُ
الأعلامِ مجهول [4]
ترى الْغُيُوبَ بعينَيْ مُفْردٍ لَهَقٍ ... إذا توقّدتِ الحِزَّانُ
وَالْمِيلُ [5]
ضخْمٌ مُقَلَّدُها، فَعْمٌ [6] مُقَيَّدُها ... فِي خَلْقها عَنْ
بناتِ الْفَحْلِ تَفْضيل
غَلبْاءُ وَجْناءُ عُلْكومٌ مُذَكَّرةٌ ... فِي دَفِّها سَعَةٌ
قُدَّامُها مِيلُ [7]
وجِلدُها من أَطُومٍ ما يُؤْيسُه ... طِلْحٌ بِضَاحِيَةِ
المَتْنَيْن مَهْزول [8]
حَرْفٌ أبُوها أخُوها مِن مُهَجَّنَةٍ ... وعمُّها خالُها قَوْداءُ
شِمْليل [9]
يسعَى الوُشاةُ بدفيها [10] وقِيلُهُم ... إنَّكَ يا بْنَ أبي
سُلْمَى لمقتول
__________
[1] الغول: الداهية (ح) ومن معانيها كذلك: السّعلاة، وهو المقصود
هنا.
[2] في الأصل: «ولا تمسكت» . وأثبتنا لفظ ع، ح.
[3] عذافرة: ناقة صلبة. والأين: الإعياء. والإرقال والتبغيل: ضربان
من السير.
[4] الذفرى: ما تحت الأذن. وعرضتها: من قولهم بعير عرضة السفر أي
قوي عليه.
[5] المفرد: بقر الوحش، شبه الناقة به. واللهق: الأبيض. والحزان:
الحزن وهو الغليظ من الأرض.
[6] الفعم: الممتلئ.
[7] الغلباء: الغليظة الرقبة، والوجناء: العظيمة الوجنتين. وقدامها
ميل: أي طويلة العنق.
[8] الأطوم: الزرافة، يصف جلدها بالنعومة. والطلح: القراد، أي
لملاسة جلدها لا يثبت عليه قراد.
[9] الحرف: الناقة الضامر. ومهجنة: أي حمل عليها في صغرها. وقوداء:
طويلة، وشمليل:
سريعة.
[10] كذا في الأصل، ح. وحرفت في ع إلى «فيها» . وبها يختل الوزن.
(2/619)
[112 أ] وقال كلُّ صديقٍ كنتُ آمُلُه ...
لَا أُلْهِيَنَّك [1] ، إنّي عنكَ مشغول
خَلُّوا طريقَ يَدَيْها [2] لَا أَبَا لَكُمُ ... فكلُّ ما قدّر
الرَّحْمَن مفعول
كلُّ ابْنِ أنثى وإن طالتْ سلامتُهُ ... يومًا عَلَى آلةٍ حَدْباءَ
محمول
أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُول اللَّهِ أَوْعَدني ... والعفوُ عند رَسُول
اللَّهِ مَأْمول
مَهْلًا رسولَ الَّذِي أعطاك نَافِلَةَ ... الْقُرْآنِ، فِيهِ
مَوَاعِيظٌ وتَفْصيل
لا تأخُذَنِّي بأقوالِ الوُشاةِ ولَمْ ... أُذْنِبْ، ولو كثُرت
عنّي الأقاويل
لقد أَقومُ مَقامًا لو يقوم بِهِ ... أَرَى وأَسمعُ ما لَوْ يسمعُ
الفيل [3]
لَظَلَّ يَرْعَد إلّا أنَّ يكون لَهُ ... من الرَّسُول بإِذْن
اللَّه تَنْويل
حتّى وضعتُ يَميِني لَا أُنَازِعُه ... فِي كَفِّ [ذي] [4]
نَقِماتٍ قيِلُه الْقِيلُ
لَذَاكَ أَخْوَفُ عِندي إذْ أكلّمه ... وَقِيلَ إنّكَ مَنْسوبٌ
ومَسْئول
مِن ضَيْغَمٍ من لُيُوث الُأسْد مَسْكَنُهُ ... من بَطْنِ عَثَّر
غيِلٌ دونَهُ غِيلُ
إنّ الرَّسُول لَنُورٌ يُسْتَضاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ من سُيوف
اللَّه مَسْلولُ
فِي فِتْيةٍ من قُرَيشٍ قَالَ قَائِلُهُم ... ببَطْنِ مكةَ لمّا
أَسْلَمُوا: زُولُوا [5]
زَالُوا، فما زَال أَنْكاسٌ ولا كُشُفٌ [6] ... عند اللّقاءِ، ولا
مِيلٌ معازيل [7]
شمّ العرانين أَبْطالٌ لَبُوسُهمُ ... من نَسْجِ دَاوُد فِي
الْهَيْجَا سَرَابِيِلُ
يَمْشُون مَشْيَ الجِمالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهم ... ضَرْبٌ إذا
عَرَّد السُّود التَّنَابِيلُ
لا يَفْرَحُون إذا نالتْ سُيُوفهمُ ... قومًا، ولَيْسوا
مَجَازِيعًا إذا نِيلُوا
__________
[1] ألهينك: خ ألفينك.
[2] كذا في الأصل، ح. وفي ع: «فقلت خلوا سبيلي» . وهي الرواية.
[3] فاعل يقوم الفيل. (ح) .
[4] سقطت من الأصل، ع. وأثبتناها من ح.
[5] أراد الهجرة. (ح) .
[6] أنكاس: جمع نكس وهو الرجل الضعيف. وكشف: جمع أكشف وهو الّذي لا
ترس معه.
[7] في ح: ولا خيل معازيل. وقال في الهامش: الخيل الفرسان. ويروى:
ميل، جمع مائل وهو الّذي لا يحسن الفروسية. ومعازيل من أعزل الّذي
لا رمح معه في الحرب. أي زالوا من بطن مكة وما فيهم من هذه صفاته.
(2/620)
لا يقع [1] الطّعن إلّا في نحورهم ... وما
لهم عَنْ حِياض المَوْت تَهْلِيلُ
[وفي سنة ثمان:
تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَكْبَرُ بَنَاتِهِ [2] . وَهِيَ الَّتِي غَسَّلَتْهَا
أُمُّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةُ، وَأَعْطَاهَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقْوَهُ [3] ، وَقَالَ:
«أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» [4] . فَجَعَلَتْهُ شِعَارَهَا تَحْتَ
كَفَنِهَا. وقد وَلَدت زينبُ من أَبِي العاص بْن الرَّبيع بْن
عَبْد شمس، رَضِيَ اللَّهُ عنه، [ابنتها] [5] أُمَامَة التي كَانَ
النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحملها في الصلاة] [6] .
وفيها: عُمل منبر النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخطب
عَلَيْهِ، وحَنَّ إِلَيْهِ الجِذْع الَّذِي كَانَ يخطب عَلَيْهِ.
وفيها: وُلِدَ إِبْرَاهِيم ابن النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ [7] .
وفيها: وهبت سَوْدة أمّ المؤمنين يومها لعائشة.
وفيها: تُوُفِّيَ مُغَفَّلُ بْن عَبْد نُهْم بْن عفيف المُزَنيّ،
والد عبد الله، وله صحبة [8] .
__________
[1] كذا في الأصل وبقية النسخ، وفي هامش ح: صوابه لا يقطع.
[2] تاريخ خليفة 92، تاريخ الطبري 3/ 27.
[3] الحقو: الإزار.
[4] أخرجه البخاري في الجنائز (2/ 73) باب غسل الميت ووضوئه بالماء
والسدر، وباب ما يستحب أن يغسل وترا، وباب هل تكفّن المرأة في إزار
الرجل، (2/ 74) وباب يجعل الكافور في آخره، ومسلم في الجنائز (36/
939) باب في غسل الميت، وأبو داود في الجنائز (3142) باب كيف غسل
الميت، وأحمد في المسند 5/ 84، 85 و 6/ 407 و 408.
[5] إضافة على الأصل للتوضيح.
[6] ما بين الحاصرتين ليس في الأصل، والمثبت من نسختي (ع) و (ح) .
وقد تقدّم خبر وفاة زينب رضي الله عنها، قبل فتح مكة مباشرة،
فليراجع هناك.
[7] تاريخ خليفة 92، تاريخ الطبري 3/ 95.
[8] انظر عنه: الاستيعاب 3/ 507، الإصابة 3/ 451 رقم 8167.
(2/621)
وفيها: مات مَلِك العرب بالشام، الحارث بْن
أَبِي شَمِر الغَسَّانيّ، كافرًا. وولي بعده جَبَلة بْن الأَيْهَم.
فَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ، عَنِ
ابْنِ عَائِذٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ
الْجَحْشِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ إِلَى الْحَارِثِ
بْنِ أَبِي شِمْرٍ وَهُوَ بِالْغُوطَةِ [1] ، فَسَارَ مِنَ
الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ. وَقَالَ:
فَأَتَيْتُهُ [2] فَوَجَدْتُهُ يُهَيِّئُ الإِنْزَالَ لِقَيْصَرَ،
وَهُوَ جَاءٍ مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ، إِذْ كَشَفَ اللَّهُ
عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ، شُكْرًا للَّه. فَلَمَّا قَرَأَ
الْكِتَابَ رَمَى بِهِ، وَقَالَ: وَمَنْ يَنْزِعُ مِنِّي مُلْكِي؟
أَنَا سَائِرٌ إِلَيْهِ بِالنَّاسِ. ثُمَّ عَرَضَ إِلَى اللَّيْلَ،
وَأَمَرَ بِالْخَيْلِ تُنْعَلُ، وَقَالَ: أَخْبِرْ صاحبك بما ترى.
فصادف قيصر [112 ب] بِإِيلِيَاءَ وَعِنْدَهُ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ
بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَكَتَبَ قَيْصَرُ إِلَيْهِ: أَنْ لا تَسِيرَ إِلَيْهِ، وَالْهَ
عَنْهُ، وَوَافِ [3] إِيلِيَاءَ.
قَالَ شُجَاعٌ: فَقَدِمْتُ، وَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «بَادَ مُلْكُهُ» [4] .
[ويُقَال: حَجَّ بالناس عَتَّاب بْن أَسِيد أميرُ مكة [5] .
وقيل: حجَّ النّاس أَوْزَاعًا [6] .
حكاهما الواقديّ [7] . والله أعلم] [8] .
__________
[1] الغوطة: الكورة التي منها مدينة دمشق، وإليها تنسب، فيقال غوطة
دمشق. والغوطة لغة من الغائط وهو المطمئن من الأرض.
[2] في الأصل، ح «فأتيت» . وأثبتنا عبارة ع.
[3] في الأصل: «ووات» . وأثبتنا عبارة ع، ح.
[4] تاريخ الطبري 2/ 652.
[5] تاريخ الطبري 3/ 95.
[6] مروج الذهب 4/ 396 والأوزاع: أي متفرّقين.
[7] في المغازي 3/ 959، 960.
[8] ما بين الحاصرتين لم يرد في الأصل. وأثبتناه من نسختي (ع) و
(ح) .
(2/622)
السنة التاسعة
[سريّة الضَّحَّاك بْن سُفْيَان الكِلابيّ إلى القُرَطَاء] [1]
قِيلَ: فِي ربيع الأول بَعَث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشا إلى القرَطَاء [2] ، عليهم الضحَّاك بْن
سُفْيَان الكِلابيّ، ومعه الأَصْيَد بْن سَلَمَةَ بْن قُرْط.
فلقوهم بالزُّجِّ، زجّ َلاوة [3] . فدعوْهم إلى الْإِسْلَام،
فَأبَوْا. فقاتلوهم فهزموهم. فَلحِق الأصْيَد أَبَاهُ سَلَمَةَ،
فدعاه إلى الْإِسْلَام وأَعطاه الأمان، فسبَّه وسبَّ دينه.
فعَرْقَب الأصْيَد عُرْقوبَيْ فَرَسه. ثمّ جاء رَجُل من المسلمين
فقتل سَلَمَةَ. ولم يقتله ابنُه [4] .
[سَرِيّة عَلْقَمَة بْن مُجَزِّز المُدْلِجِيّ] [5]
وفي ربيع الآخر، قِيلَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغه أَنّ ناسًا من الحَبَشَة
__________
[1] العنوان بين الحاصرتين ليس في الأصل وأثبتناه للتوضيح.
[2] في هامش الأصل: الفرطاء خ، أي في نسخة. والقرطاء: هم قرط
وقريطة وقريط بنو عبد بن أبي بكر بن كلاب، بطن من بني بكر. (انظر
شرح المواهب اللدنية 3/ 57) .
[3] في النسخ الثلاث: «بالرخ رخ لاوة» ، والتصحيح من الواقدي. وزجّ
لاوة: موضع بناحية ضرية من نجد على طريق البصرة انظر معجم البلدان
3/ 133.
[4] المغازي (3/ 982) وابن سعد 2/ 162.
[5] العنوان ليس في الأصل. وهو من طبقات ابن سعد 2/ 163.
(2/623)
تراءاهم [1] أهُل جُدَّة. فبعث النّبيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم علقمة بن مجزّز المدلجيّ في
ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرةٍ فِي البحر، فهربوا مِنْهُ [2] .
[سرية علي بن أبي طالب إلى الفلس] [3]
وفي ربيع الآخر سريّة عليَّ بْن أَبِي طالب إلى الفلس [4] ، صنم
طيِّئ، ليهدمه. فِي خمسين ومائة رَجُل من الأنصار، عَلَى مائة بعير
وخمسين فرسًا، ومعه راية سوداء، ولواء أبيض. فَشنّوا الغارة عَلَى
مَحِلَّة آل حاتِم [5] مَعَ الفجر، فهدموا الفُلْس وخرّبوه، وملئوا
أيديهم من السَّبْي والنَّعَم والشَّاء. وفي السّبْي أخت عَدِيّ
بْن حاتم. وهرب عديّ إلى الشَّأْم [6] .
[سريّة عُكَّاشة بْن مِحْصَن إلى أَرْضِ عُذْرَة] [7] .
وفي هذه الأيام كانت سريّة عُكّاشة بْن مِحْصَن إلى أرض عُذْرَة
[8] .
ذكر هذه السَّرايا شيخُنا الدِّمْياطيّ فِي «مختصر السيرة» .
وأظنّه أَخَذه من كلام الواقديّ [9] .
وَفِي رَجَبٍ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَبْلَ مسيره إلى تبوك على أصحمة
__________
[1] تراءاهم: نظروهم ورأوهم. (شرح المواهب اللدنية 3/ 58) .
[2] المغازي للواقدي 3/ 983 وفيه «أهل شعيبة» بدل «أهل جدّة» .
[3] العنوان ليس في الأصل، وهو من طبقات ابن سعد 2/ 164.
[4] الفلس: صنم لطيّئ، وكان أنفا أحمر في وسط جبلهم الّذي يقال له
أجأ، أسود كأنه تمثال إنسان (الأصنام لابن الكلبي: 59) .
[5] هم آل حاتم الطائي الّذي ضرب المثل بجوده، وكانت محلّتهم في
نجد.
[6] الواقدي: المغازي (3/ 984- 989) ، وابن سعد في الطبقات 2/ 164.
[7] العنوان ليس في الأصل، وهو من طبقات ابن سعد 2/ 164.
[8] في طبقات ابن سعد: «ثم سريّة عكاشة بن محصن الأسدي إلى الجناب،
أرض عذرة وبليّ، في شهر ربيع الآخر سنة تسع من مهاجر رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (2/ 164) .
[9] سَرِيَّةً عكاشة ليست في مغازي الواقدي، ونرجّح أنّه أخذها من
طبقات ابن سعد.
(2/624)
النَّجَاشِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
صَاحِبِ الْحَبَشَةِ. وَأَصْحَمَةُ بِالْعَرَبِيِّ: عَطِيَّةٌ.
وَكَانَ قَدْ آمَنَ باللَّه وَرَسُولِهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ مَاتَ أَخٌ لَكُمْ
بِالْحَبَشَةِ» . فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، وَصَفَّهُمْ،
وَصَلَّى عَلَيْهِ [1] . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي
يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ كَانَ يُتَحَدَّثُ أَنَّهُ لا يَزَالَ
يُرَى عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ.
«وَيُكْتَبُ هُنَا الْخَبَرُ الَّذِي فِي السِّيرَةِ قَبْلَ [2]
إسلام عمر» [3] .
__________
[1] في الأصل: «وصفّهم صلّى الله عليه وسلم» . والتصحيح من (ع) و
(ح) .
والحديث أخرجه مسلم في الجنائز (66/ 951) باب في التكبير على
الجنازة، من طريق أيوب، عن أبي الزبير، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم: «أن أخا لكم قد مات. فقوموا فصلّوا عليه» ، قال: فقمنا
فصفّنا صفّين. وانظر (67/ 951) .
[2] في الأصل: «وقبل» ، والمثبت من نسختي: (ع) و (ح) .
[3] في هامش (ح) : كذا بخط الذهبي رحمه الله تعالى» .
والصحيح أنّ الخبر عن النجاشي يأتي بعد الحديث عن إسلام عمر، لا
قبله. انظر الجزء الخاص بالسيرة النبويّة من تحقيقنا.
(2/625)
غزوة تبوك [1]
قَالَ ابن إِسْحَاق، عَنْ عاصم بن عمر، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلّما كَانَ يخرج فِي غزوة إلّا أظهر أَنَّهُ
يريد غيرها، إلّا غزوة تَبُوك فإنه قَالَ: أيها النّاس، إنّي أريد
الرُّوم. فأَعْلَمَهُمْ. وذلك فِي شدّة الحرّ وَجَدْبٍ [من] [2]
البلاد. وحين طابت الثِّمار، والناس يحبّون المقام فِي ثمارهم.
فبينا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يوم
فِي جَهازه، إذْ قَالَ للجَدِّ بْن قَيْس: «يا جَدّ، هَلْ لَكَ فِي
بنات بني الأَصْفَر؟ [3] فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لقد علم قومي
أنّه ليس أحدٌ أشدّ عُجْبًا بالنِّساء منّي. وإنّي أخاف إنْ رأَيتُ
نساء بني الأصْفَر أَن يَفْتِنَّنِي، فائذنْ لي يَا رَسُولَ
اللَّهِ. فأعرض عنه [113 أ] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «قد أَذنْتُ لك» . فنزلت وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا في 9: 49
__________
[1] انظر عنها: المغازي لعروة 220، المغازي للواقدي 3/ 989، تاريخ
خليفة 92، سيرة ابن هشام 4/ 173، طبقات ابن سعد 2/ 165، تاريخ
الطبري 3/ 100، الدرر في المغازي والسير لابن عبد البر 253، جوامع
السيرة لابن حزم 249، نهاية الأرب للنويري 17/ 352، عيون التواريخ
للكتبي 1/ 344، عيون الأثر لابن سيّد الناس 2/ 215 وغيره.
[2] سقطت من الأصل، وأثبتناها من نسختي (ع) و (ح) .
[3] بنو الأصفر: هم الروم.
(2/627)
الْفِتْنَةِ سَقَطُوا 9: 49 [1] قَالَ:
وقال رَجُل من المنافقين: لا تَنْفِرُوا في الْحَرِّ 9: 81، فنزلت:
قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا 9: 81 [2] .
ولم يُنْفِق أحدٌ أَعْظَمَ من نَفَقة عثمان، وحَمَل عَلَى مائة [3]
بعير [4] .
[رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عطاء الخراساني، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ:
أَمَرَ النَّبِيُّ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّدَقَةِ وَالنَّفَقَةِ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَنْفَقُوا احْتِسَابًا، وَأَنْفَقَ رِجَالٌ
غَيْرَ مُحْتَسِبِينَ. وَحَمَلَ رجال من فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ،
وَبَقِيَ أُنَاسٌ. وَأَفْضَلُ مَا تَصَدَّقَ بِهِ يَوْمَئِذٍ
أَحَدٌ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، تَصَدَّقَ بِمِائَتَيْ
أُوقِيَّةٍ، وَتَصَدَّقَ عُمَرُ بِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ، وَتَصَدَّقَ
عَاصِمٌ [5] الأَنْصَارِيُّ بِتِسْعِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ
الرَّحْمَنِ [6] : «هَلْ تَرَكْتَ لأَهْلِكَ شَيْئًا؟» قَالَ:
نَعَمْ، أكثر مما أنفقت وأطيب. قال: كم؟ قَالَ: مَا وَدَّ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ مِنَ الرِّزْقِ والخير] [7] . قال عمرو بن مرزوق،
ثَنَا السَّكَنُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي
هِشَامٍ، عَنْ فَرْقَدٍ أَبِي طَلْحَةَ [8] ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ خَبَّابٍ، قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَثَّ عَلَى جَيْشِ
الْعُسْرَةِ، قَالَ: فَقَامَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَيَّ مِائَةُ بَعِيرٍ
بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا [9] فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فقال: ثم
حثّ
__________
[1] سورة التوبة، الآية 49.
[2] سورة التوبة، الآية 81.
[3] في نسختي (ع) و (ح) : «على مائتي بعير» .
[4] الخبر عن تاريخ الطبري (3/ 110- 102) باختصار.
[5] في ع: «عامر» . والتصحيح من ح. وهو عاصم بن عدي بن الجدّ
العجلاني حليف الأنصار.
وانظر ترجمته في أسد الغابة (3/ 114) والإصابة (2/ 246) .
[6] في ع، ح: وسأل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ. ولعل الوجه ما أثبتناه.
[7] لم يرد هذا الخبر في الأصل، وأثبتناه من ع، ح. وانظر المغازي
للواقدي 3/ 991.
[8] في الأصل: «فرقد بن طلحة» . والتصحيح من ع، ح، ومن ترجمته في
تهذيب التهذيب (8/ 264) .
[9] الأحلاس: جمع حلس وهو كل ما ولى ظهر الدابة تحت الرحل والقتب
والسرج. والأقتاب:
جمع قتب وهو الإكاف أو الرحل الصغير على قدر سنام البعير.
(2/628)
ثَانِيَةً، فَقَامَ عُثْمَانُ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، عَلَيَّ مِائَتَا بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا
وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ثُمَّ حَضَّ، أَوْ قَالَ:
حَثَّ، الثَّالِثَةَ، فَقَامَ عُثْمَانُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، عَلَيَّ ثَلَاثُمِائَةِ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا
وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:
أَنَا شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا
عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ» . أَوْ قَالَ: «بَعْدَهَا» [1] . رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ [2] وَغَيْرُهُ، عَنِ السَّكَنِ
بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَقَالَ ضَمْرَةُ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ مَوْلَاهُ، قَالَ: جَاءَ
عُثْمَانُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِأَلْفِ دِينَارٍ حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَفَرَّغَهَا
فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَجَعَلَ يُقَلِّبُهَا وَيَقُولُ:
«مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ» [3] . قَالَهَا
مِرَارًا. وَقَالَ بُرَيْدٌ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي
مُوسَى، قَالَ: أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلَهُ لَهُمُ الْحُمْلَانَ
[4] ، إِذْ هُمْ مَعَهُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ، وَهِيَ غَزْوَةُ
تَبُوكَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [5] .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [6] : ثُمَّ إِنَّ رِجَالا أَتَوْا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم البكّاءون،
__________
[1] أخرجه أحمد في المسند 4/ 75 وابن عساكر في تاريخ دمشق 52 وما
بعدها.
[2] منحة المعبود. كتاب الخلافة والإمارة، أبواب خلافة أمير
المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، باب ما جاء في البيعة له
وذكر شيء من مناقبه (2/ 175) . وانظر تاريخ دمشق 52 وما بعدها
(ترجمة عثمان) .
[3] رواه أحمد في المسند 5/ 63، وابن عساكر في تاريخ دمشق 57 و 58
وسيذكره المؤلّف مرّة أخرى في ترجمة عثمان بن عفّان، في الجزء
الخاص بالخلفاء الراشدين، وهو من تحقيقنا- ص 462.
[4] الحملان: ما يحمل عليه من الدّوابّ.
[5] أخرجه البخاري في المغازي 5/ 128 باب غزوة تبوك وهي غزوة
العسرة، ومسلم في كتاب الأيمان (8/ 1649) باب ندب من حلف يمينا
فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الّذي هو خير ويكفّر عن يمينه.
[6] في سيرة ابن هشام 4/ 174 وتاريخ الطبري 3/ 102، وطبقات ابن سعد
2/ 165.
(2/629)
وَهُمْ سَبْعَةٌ [1] مِنَ الأَنْصَارِ:
سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو لَيْلَى
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْحُمَامِ بْنِ
الْجَمُوحِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ، وَبَعْضُهُمْ
يَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ، وَهَرِمُ
[بْنُ] [2] عَبْدِ الله، والعرباض ابن سَارِيَةَ الْفَزَارِيُّ.
فَاسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَكَانُوا أهُلَ حَاجَةٍ، فَقَالَ:
لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ. تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ
9: 92 [3] . فَبَلَغَنِي أَنَّ يَامِينَ بْنَ عَمْرٍو، لَقِيَ
أَبَا لَيْلَى وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ وَهُمَا
يَبْكِيَانِ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكُمَا؟ فَقَالا: جِئْنَا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَنَا، فَلَمْ
نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا
نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ. فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحًا لَهُ
فَارْتَحَلاهُ وَزَوَّدَهُمَا شَيْئًا مِنْ لَبَنٍ [4] .
وَأَمَّا عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ فَخَرَجَ مِنَ اللَّيْلَ فَصَلَّى
مِنْ لَيْلَتِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ بَكَى وَقَالَ:
اللَّهمّ إِنَّكَ قَدْ أَمَرْتَ بِالْجِهَادِ وَرَغَّبْتَ فِيهِ،
ثُمَّ لَمْ تَجْعَلْ عِنْدِي مَا أَتَقَوَّى بِهِ، وَلَمْ [113 ب]
تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِكَ مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ، وَإِنِّي
أَتَصَدَّقُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلِمَةٍ أَصَابَنِي
بِهَا فِي مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ عِرْضٍ [5] . ثُمَّ أَصْبَحَ
مَعَ النَّاسِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ» ؟ فَلَمْ
يَقُمْ أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ «الْمُتَصَدِّقُ؟ فَلْيَقُمْ»
. فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَبْشِرْ، فو الّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ
فِي الزَّكَاةِ المتقبّلة» [6] .
__________
[1] في الأصل، ح: «وهم سبعة منهم من الأنصار» ، والمثبت من (ع) .
[2] سقطت من الأصل، وأثبتناها من (ع) و (ح) . ويقال له) هرم أو
هرميّ، أخو بني واقف.
[3] سورة التوبة، الآية 92.
[4] في السيرة لابن هشام 4/ 174 وتاريخ الطبري 3/ 102 «شيئا من
تمر» بدل «لبن» .
[5] العرض: بسكون الراء المتاع. (النهاية في غريب الحديث 3/ 84) .
[6] أخرجه ابن حجر في الإصابة 2/ 500 وقال ورد مسندا موصولا من
حديث مجمع بن حارثة، ومن حديث عمرو بن عوف وأبي عبس بن حبر، ومن
حديث علبة بن زيد وقتيبة ...
(2/630)
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ من الْأَعْرابِ
لِيُؤْذَنَ لَهُمْ 9: 90 [1] [2] فاعْتَذَرُوا فَلَمْ يَعْذِرْهُمُ
اللَّهُ. فَذَكَرَ أَنَّهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْطَأَتْ بِهِمُ
النِّيَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، حَتَّى تَخَلَّفُوا عَنْ غَيْرِ شَكِّ وَلا ارْتِيَابٍ،
مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، وَمُرَارَةُ
بْنُ الرَّبِيعِ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهِلالُ بْنُ
أُمَيَّةَ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي
سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ. وَكَانُوا رَهْطَ صِدْقٍ [3] .
ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ محمد ابن
مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيَّ. فَلَمَّا خَرَجَ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ
عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَمَعَهُ زِيَادَةٌ عَلَى ثَلاثِينَ
أَلْفًا مِنَ النَّاسِ. وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ
سَلُولٍ عَسْكَرَهُ عَلَى ذِي حِدَّةٍ [4] أَسْفَلَ مِنْهُ، وَمَا
كَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ [5] .
فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، تَخَلَّفَ عَنْهُ ابْنُ سَلُولٍ فِيمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ
الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرَّيْبِ. وَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
عَلَى أَهْلِهِ، وَأَمَرَهُ بِالإِقَامَةِ فِيهِمْ، فَأَرْجَفَ
بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا خَلَّفَهُ إِلا اسْتِثْقَالا
له وتخفّفا مِنْهُ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ، أَخَذَ
عَلِيٌّ سِلاحَهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجُرْفِ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّكَ
إِنَّمَا خَلَّفْتَنِي تَسْتَثْقِلُنِي وَتَخَفَّفُ مِنِّي. قَالَ:
«كَذَبُوا، وَلَكِنْ خَلَّفْتُكَ لِمَا تَرَكْتُ وَرَائِي،
فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ، أَلا تَرْضَى أَنْ
تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلا أَنَّهُ
لا نبيّ بعدي» . فرجع إلى المدينة [6] .
__________
[1] المعذّرون: الذين يعتذرون وهم غير محقّين في العذر.
[2] سورة التوبة، الآية 90.
[3] سيرة ابن هشام 4/ 175، المحبّر لابن حبيب 284، 285.
[4] في الأصل «عسكره على حدة عسكره أسفل منه» والمثبت من (ع) و (ح)
. وهو «ذو حدة» في وفاء ألوفا (2/ 309) .
[5] سيرة ابن هشام 4/ 175.
[6] سيرة ابن هشام 4/ 175.
(2/631)
وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ [1] مِنْ
حَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ،
عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَتُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟
قَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ
مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» . وَرَوَاهُ
عَامِرٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، ابْنَا سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ
أَبِيهِمَا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ
سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ، جَعَلَ لَا
يَزَالُ يَتَخَلَّفُ الرَّجُلُ فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
تَخَلَّفَ فُلانٌ. فَيَقُولُ:
«دَعُوهُ، إِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ،
وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ» .
حَتَّى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ أَبُو ذرّ [114 أ]
وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرُهُ، فَقَالَ: «دَعُوهُ، إِنْ يَكُ فيه خير
فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ
اللَّهُ مِنْهُ» . فَتَلوَّمَ أَبُو ذَرٍّ بَعِيرَهُ فَلَمَّا
بَطَّأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ،
ثُمَّ خَرَجَ يَتْبَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَاشِيًا. [ونزل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] [2] فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ، وَنَظَرَ نَاظِرٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا
الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ أَبَا ذَرٍّ» . فَلَمَّا
تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا: هُوَ وَاللَّهِ أَبُو ذَرٍّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ، يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ
وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ» . فَضَرَبَ الدَّهْرُ مِنْ
ضَرْبِهِ، وَسُيِّرَ أَبُو ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ [3] ، فَلَمَّا
حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى امْرَأَتَهُ وَغُلامَهُ: إِذَا مِتُّ
فَاغْسِلانِي وكفّناني وضعاني
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي (5/ 129) باب غزوة تبوك وهي غزوة
العسرة. ومسلم في فضائل الصحابة (33/ 2404) باب من فضائل عليّ بن
أبي طالب، والترمذي في المناقب (3808) ، وابن سعد في الطبقات 3/
24، 25، والكلابي في المسند وهو ملحق بكتاب مناقب أمير المؤمنين
علي» لابن المغازلي- ص 276 رقم 29، 30، وابن الأثير في جامع الأصول
8/ 649، وابن جميع الصيداوي في معجم الشيوخ- ص 240، 241 رقم 196
(بتحقيقنا) - الحاشية رقم (5) .
[2] سقطت من الأصل والمثبت من: ع، ح، وسيرة ابن هشام 4/ 177.
[3] الزبدة: بالتحريك، قرية من قرى المدينة على ثلاثة أيام. (معجم
البلدان 3/ 24) .
(2/632)
عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ
رَكْبٍ يَمُرُّونَ بِكُمْ فَقُولُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ. فَلَمَّا
مَاتَ فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ، فَاطَّلَعَ رَكْبٌ، فَمَا عَلِمُوا
بِهِ حَتَّى كَادَتْ رَكَائِبُهُمْ تَوَطَّأُ سَرِيرَهُ، فَإِذَا
ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَقَالَ: مَا
هَذَا؟ فَقِيلَ: جِنَازَةُ أَبِي ذَرٍّ. فَاسْتَهَلَّ ابْنُ
مَسْعُودٍ يَبْكِي، فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ،
يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ.
فَنَزَلَ، فَوَلِيَهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَجَنَّهُ [1] .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [2] : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي بكر، أنّ أبا خيثمة، أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ، رَجَعَ- بَعْدَ
مَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَيَّامًا- إِلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، فَوَجَدَ
امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي حَائِطٍ قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا عَرِيشَهَا [3] ، وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً،
وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا. فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى
بَابِ الْعَرِيشَيْنِ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ فِي الضِّحِّ [4]
وَالرِّيحِ والحرّ، وأنا في ظلّ بارد وماء بارد وَطَعَامٍ
مُهَيَّإٍ وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، فِي مَالٍ مُقِيمٍ؟ مَا هَذَا
بِالنَّصَفِ. ثُمَّ قَالَ: لا، وَاللَّهِ، لا أَدْخُلُ عَرِيشَ
وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَيِّئَا لِي زَادًا. فَفَعَلَتَا.
ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ. ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى
أَدْرَكَهُ بِتَبُوكَ حِينَ نَزَلَهَا. وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَهُ
عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ فِي الطَّرِيقِ فَتَرَافَقَا، حَتَّى إِذَا
دَنَوْا مِنْ تبوك، قال أبو خيثمة لِعُمَيْرٍ: إِنَّ لِي ذَنْبًا،
تَخَلَّفْ عَنِّي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ. فَفَعَلَ. فَسَارَ
حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ:
«كُنْ أبا خيثمة» . فقالوا: هو والله أبا خيثمة، فَأَقْبَلَ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: «أَوْلَى لَكَ أَبَا خيثمة» . ثُمَّ
أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الخبر، فقال له خيرا.
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 177، تاريخ الطبري 3/ 107.
[2] سيرة ابن هشام 4/ 175، تاريخ الطبري 3/ 104، المغازي للواقدي
3/ 998.
[3] في الأصل «عرشها» ، والمثبت من (ع) و (ح) .
[4] الضّح: الشمس. وفي نسختي: (ع) و (ح) : «في الضح والشمس.
(2/633)
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة
[1] . [و] قاله مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ. فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ
سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
وقال مَعْمَر، عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عُقَيْل، قَالَ:
فِي قوله تعالى:
اتَّبَعُوهُ في ساعَةِ الْعُسْرَةِ 9: 117 [2] ، قَالَ: خرجوا فِي
غزوة تبوك، الرَّجُلان والثَّلاثة [114 ب] عَلَى بعيرٍ، وخرجوا فِي
حرِّ شديدٍ، فأصابهم يوما عطش حتى جعلوا ينحرون إبلهم ليعصروا
أَكْرَاشها ويشربوا مَاءها [3] .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ،
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ،
فَنَفِدَتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ، حَتَّى هَمَّ أَحَدُهُمْ بِنَحْرِ
بَعْضِ حَمَائِلِهِمْ. الْحَدِيثَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ [4] .
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، شَكَّ الْأَعْمَشُ، قَالَ: لَمَّا كَانَ
يَوْمُ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَذِنَتْ لَنَا فَنَنْحَرُ
نَوَاضِحَنَا، فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا. فَقَالَ: «أَفْعَلُ» .
فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ
الظَّهْرُ، وَلَكِنْ ادْعُ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، وَادْعُ
اللَّهَ لَهُمْ فِيهَا بِالْبَرَكَةِ. فَقَالَ: نَعَمْ. فَدَعَا
بنِطَعٍ فبَسَطَهُ، ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ. فَجَعَلَ
الرَّجُلُ يَأْتِي بِكَفِّ ذُرَةٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ
تَمْرٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكِسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى
النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ
لَهُمْ: خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ. فَأَخَذُوا حَتَّى مَا
تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ، وَأَكَلُوا
حَتَّى شَبِعُوا، وَفَضِلَتْ فَضْلةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، لَا يلقى الله بها عبد
غير شاكّ،
__________
[1] في المغازي- ص 220.
[2] سورة التوبة، الآية 117.
[3] طبقات ابن سعد 2/ 167.
[4] في كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاكّ فيه
دخل الجنة وحرّم على النّار.
(2/634)
فَيُحْجَبُ عَنِ الْجَنَّةِ» . أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ [1] . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي هِلالٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ، عَنْ
نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قِيلَ
لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ
الْعُسْرَةِ. فَقَالَ: خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ
شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلا أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى
ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى أَنْ كَانَ
الرَّجُلُ [2] لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ
فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ. فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي
الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. قَالَ: «أَتُحِبُّ
ذَلِكَ؟» قَالَ:
نَعَمْ. فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتِ
السَّمَاءُ فَأَطَلَّتْ ثُمَّ سَكَبَتْ، فَمَلَئُوا مَا مَعَهُمْ.
ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنَظْرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ.
حَدِيثٌ حَسَنٌ قَوِيٌّ [3] .
وَقَالَ مَالِكٌ، وَغَيْرُهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ
الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَلَا
تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لَا يُصِيبُكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ»
[4] ، يَعْنِي أَصْحَابَ الْحِجْرِ [5] . وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ
بِلالٍ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، [عَنِ ابْنِ عُمَرَ]
[6] ، قَالَ:
لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْحِجْرَ، أَمَرَهُمْ أَنْ لا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا، وَلا
يَسْتَقُوا مِنْهَا. فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا
وَاسْتَقَيْنَا. فَأَمَرَهُمْ [115 أ] أن يطرحوا ذلك
__________
[1] المصدر نفسه.
[2] في الأصل: «حتى أن كان الرجل ليذهب يلتمس الرجل فلا يرجع حتى
يظن أن رقبته سَتَنْقَطِعُ حَتَّى أَنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَنْحَرُ
بَعِيرَهُ إلخ» ، وأظنه من أوهام النسخ، وأثبتنا نص ع، ح.
[3] انظر تاريخ الطبري 3/ 105 وقال ابن كثير: إسناده جيد ولم
يخرجوه من هذا الوجه (السيرة النبويّة 4/ 16) .
[4] سيأتي تخريجه.
[5] أصحاب الحجر: هم ثمود الذين كذّبوا النبيّ صالحا عليه السلام.
وكانت دارهم تسمّى «الحجر» وهي بوادي القرى بين المدينة والشام.
(معجم البلدان 2/ 221) .
[6] سقطت من الأصل، والمثبت من (ع) و (ح) .
(2/635)
الْعَجِينَ وَيُرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ.
أَخْرَجَهُمَا الْبُخَارِيُّ [1] . وَلِمُسْلِمٍ مِثْلُ الأَوَّلِ
مِنْهُمَا [2] .
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ عبد
الله: أن النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجْرَ، فَاسْتَقَوْا مِنْ آبَارِهَا
وَعَجَنُوا بِهِ. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُهَرِيقُوا الْمَاءَ،
وَيَعْلِفُوا الإِبلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرُهْم أَنْ يَسْتَقُوا
مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتِ النَّاقَةُ تَرُدُّهَا [3] .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [4] .
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ،
أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام تَبُوكَ،
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ. قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ
فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ [ثُمَّ
خَرَجَ] [5] فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءِ جَمِيعًا. ثُمَّ
قَالَ: أَنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ
تَبُوكَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى [6] يُضْحِيَ
النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا
حَتَّى آتِيَ. قَالَ:
فجِئناها وَقَدْ سَبَقَ إِلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلُ
الشِّرَاكِ تَبِضُّ [7] بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ.
فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«هَلْ مَسِسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟» قَالَا: نَعَمْ.
فَسَبَّهُمَا، وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ.
ثُمَّ غَرَفُوا مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا، حَتَّى
اجْتَمَعَ فِي شَنٍّ [8] ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وجهه، ثم أعاده فيها. فجرت العين
__________
[1] انظر للبخاريّ كتاب الصلاة (1/ 112) باب الصلاة في مواضع الخسف
والعذاب، وكتاب المغازي (5/ 135) باب نزول النّبيّ صلّى الله عليه
وسلم الحجر، وكتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: وَإِلى ثَمُودَ
أَخاهُمْ صالِحاً 7: 73.
[2] في كتاب الزهد، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلّا
أن تكونوا باكين. وأخرج الإمام أحمد مثله في المسند 2/ 9 و 58 و 66
و 72 و 74 و 91 و 96 و 113 و 137.
[3] في النسخ الثلاث: ترده. والوجه ما أثبتناه. وعبارة مسلم: «التي
كانت تردها الناقة» .
[4] في كتاب الزهد، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلخ
(8/ 221) .
[5] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح ومسلم.
[6] في الأصل: حين. والتصحيح من ع، ح ومسلم.
[7] تبضّ: بض الماء يبضّ بضيضا: سال قليلا قليلا. (الصحاح 1066) .
[8] الشنّ: القربة الخلقة: (انظر شرح المواهب اللدنية 3/ 89) .
(2/636)
بِمَاءٍ كَثِيرٍ، فَاسْتَقَى النَّاسُ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«يُوشِكُ يَا مُعَاذُ، إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، أَنْ تَرَى ما
[ها] [1] هنا قد مليء جِنَانًا» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [2] .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى،
عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، قَالَ: خَرَجْنَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
غَزْوَةِ تَبُوكَ فَأَتَيْنَا وَادِي الْقُرَى، عَلَى حَدِيقَةٍ
لِامْرَأَةٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: اخْرُصُوهَا. فَخَرَصْنَاهَا وَخَرَصَهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ.
وَقَالَ: أَحْصِيهَا حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَانْطَلَقْنَا حَتَّى قَدِمْنَا تَبُوكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَتَهُبُّ عَلَيْكُمُ
اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلَا يَقُمْ فِيهَا أَحَدٌ
مِنْكُمْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ عِقَالَهُ» .
فَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ رَجُلٌ فَحَمَلَتْهُ الرِّيحُ
حَتَّى أَلْقَتْهُ بجبلي طيِّئ. وَجَاءَ ابْنُ الْعَلْمَاءِ
صَاحِبُ أَيْلَةَ [3] إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ، وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَهْدَى لَهُ بُرْدًا. ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى
قَدِمْنَا وَادِيَ الْقُرَى، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْأَةَ عَنْ حَدِيقَتِهَا كَمْ
بَلَغَ ثَمَرُهَا، فَقَالَ: بَلَغَ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ.
فَقَالَ: «إِنِّي مُسْرِعٌ فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيُسْرِعْ» .
فَخَرَجْنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ. فَقَالَ:
«هَذِهِ طَابَةٌ، وَهَذَا أُحُدٌ، وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا
وَنُحِبُّهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [4] ، أَطْوَلَ مِنْهُ،
وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ [5] . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ
سَهْلٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[115 ب] حين مرّ بالحجر استقوا من بئرها. فلما
__________
[1] سقطت من الأصل، والمثبت من (ع) و (ح) ، وصحيح مسلم.
[2] في كتاب الفضائل، باب في معجزات النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
وأخرجه أحمد في المسند 2/ 308 و 323 و 5/ 238، والواقدي في المغازي
3/ 1012، 1013.
[3] أيلة: مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام، قيل سميت باسم
أيلة بنت مدين بن إبراهيم عليه السلام. (معجم البلدان 1/ 292) .
[4] في كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي صلّى الله عليه وسلم (7/
61) .
[5] صحيح البخاري: كتاب الزكاة. باب خرص التمر (2/ 155) . وأحمد في
المسند 5/ 424 و 425.
(2/637)
رَاحُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا، وَلا
تَوَضَّئُوا مِنْهُ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ
مِنْهُ فَاعْلِفُوهُ الإِبِلَ، وَلا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ
اللَّيْلَةَ إِلا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ» . فَفَعَلَ النَّاسُ مَا
أَمَرَهُمْ، إِلا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، خَرَجَ
أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ وَالآخَرُ لِطَلَبِ بَعِيرٍ لَهُ.
فَأَمَّا الَّذِي ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَإِنَّهُ خُنِقَ عَلَى
مَذْهَبِهِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاحْتَمَلَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى
طَرَحَتْهُ بِجَبَلِ طيِّئ. فأخبر بذلك رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ؟ ثُمَّ
دَعَا لِلَّذِي أُصِيبَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَشُفِيَ.
وَأَمَّا الآخَرُ فَإِنَّهُ وَصَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مِنْ تَبُوكَ. وَهَذَا
مُرْسَلٌ مُنْكَرٌ [1] . وَقَالَ ابْن وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي
مُعَاوِيَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ
نَزَلَ بِتَبُوكَ وَهُوَ حَاجٌّ، فَإِذَا رَجُلٌ مُقْعَدٌ،
فَسَأَلْتُهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: سَأُحَدِّثُكَ حَدِيثًا
فَلَا تُحدِّثْ بِهِ مَا سَمِعْتَ أَنِّي حَيٌّ: إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ بِتَبُوكَ إِلَى
نَخْلةٍ، فَقَالَ: «هَذِهِ قِبْلَتُنَا» . ثُمَّ صَلَّى إِلَيْهَا.
فَأَقْبَلْتُ، وَأَنَا غُلَامٌ، أَسْعَى حَتَّى مَرَرْتُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا، فَقَالَ: «قَطَعَ صَلَاتَنَا، قَطَعَ اللَّهُ
أَثَرَهُ» . قَالَ: فَمَا قُمْتُ عَلَيْهَا إِلَى يَوْمِي هَذَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَوْلًى لِيَزِيدَ
بْنِ نِمْرَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ نِمْرَانَ، قَالَ: رَأَيْتُ
مُقْعَدًا بِتَبُوكَ. فَقَالَ: مَرَرْتُ بَيْنَ يدي النَّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ
يُصَلِّي. فَقَالَ: «اللَّهمّ اقْطَعْ أَثَرَهُ» . فَمَا مَشَيْتُ
عَلَيْهِمَا بَعْدُ [2] .
أَخْرَجَهُمَا أَبُو دَاوُدَ [3] . وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ،
أنا الْعَلاءُ أَبُو مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ، فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ بِضِيَاءٍ
وشعاع
__________
[1] رواه ابن هشام في السيرة 4/ 176.
[2] في الأصل: «فما مشيت بعدها» . والمثبت من ع، ح. وفي سنن أبي
داود 1/ 188 ز عليها لإ.
[3] في كتاب الصلاة، باب ما يقطع الصلاة (705 و 707) .
(2/638)
وَنُورٍ لَمْ أَرَهَا طَلَعَتْ فِيمَا
مَضَى. فَأَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا جِبْرِيلُ، مَا لِي أَرَى الشَّمْسَ
الْيَوْمَ بِضِيَاءٍ وَنُورٍ وَشُعَاعٍ لَمْ أَرَهَا طَلَعَتْ
فِيمَا مَضَى؟» فَقَالَ: ذَاكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ مُعَاوِيَةَ
اللَّيْثِيَّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ الْيَوْمَ، فَبَعَثَ اللَّهُ
إِلَيْهِ سَبْعِينَ أَلْفِ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ. قَالَ:
«وَفِيمَ ذَاكَ؟» قَالَ: كَانَ يُكْثِرُ قِرَاءَةَ قُلْ هُوَ الله
أَحَدٌ 112: 1 [1] ، بالليل وَالنَّهَارَ، وَفِي مَمْشَاهُ
وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، فَهَلْ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ
أَقْبِضَ لَكَ الأَرْضَ فَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»
قَالَ:
فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثم رجع. العلاء منكر الحديث واه [2] . [و] [3]
رواه الْحَسَنُ الزَّعْفَرَانِيُّ، عَنْ يَزِيدَ. [وَقَالَ يُونُسُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا صَدَقَةُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ، عَنْ يُونُسَ
بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ بن مُعَاوِيَةَ
الْمُزَنِيَّ تُوُفِّيَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ:
هَلْ لَكَ فِي جِنَازَةِ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيِّ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَقَالَ:
هَكَذَا، فَفَرَّجَ لَهُ الْجِبَالَ وَالآكَامَ. فَقَامَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَمَعَهُ
جِبْرِيلُ فِي سَبْعِينَ أَلْفِ مَلَكٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ.
فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ، بِمَ بَلَغَ؟ فَقَالَ: بِكَثْرَةِ
قِرَاءَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ 112: 1، كَانَ يَقْرَؤُهَا
قَائِمًا وَقَاعِدًا وَرَاكِبًا وَمَاشِيًا.
مُرْسَلٌ [4] . وَقَالَ ابْنُ جَوْصَا، وَعَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ
الرَّازِيُّ، وَأَبُو الدَّحْدَاحِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ-
وَاللَّفْظُ لَهُ- ثنا نُوحُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُوَيٍّ
السَّكْسَكِيُّ، ثنا بقيّة، ثنا محمد
__________
[1] أول سورة الإخلاص.
[2] هو: العلاء بن زيدل الثقفي البصري. ذكره المؤلّف الذهبي في
ميزان الاعتدال 3/ 99 وقال:
تالف.
قال ابن حبّان: روى عن أنس نسخة موضوعة، منها الصلاة بتبوك صلاة
الغائب على معاوية بن معاوية الليثي. قال: وهذا منكر، ولا أحفظ في
أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هَذَا، والحديث قد سرقه شيخ شامي فرواه عَنْ بَقِيَّةَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ.
[3] سقطت من الأصل، والمثبت من: (ع) و (ح) .
[4] رواه الطبراني في المعجم الكبير 19/ 429 رقم (1041) ، ورواه
البيهقي كما قال ابن كثير (السيرة 4/ 26) .
(2/639)
ابن زِيَادٍ الأَلْهَانِيُّ، عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ، قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِتَبُوكَ فَقَالَ: احْضُرْ
جِنَازَةَ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيِّ. فَخَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَبَطَ
جِبْرِيلُ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ
السَّلامُ، فَوَضَعَ جَنَاحَهُ عَلَى الْجِبَالِ فَتَوَاضَعَتْ
حَتَّى نَظَرُوا إِلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَصَلَّى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِبْرِيلُ
وَالْمَلائِكَةُ. فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ قَالَ: «يَا جِبْرِيلُ،
بِمَ أَدْرَكَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ
مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟» قَالَ: بِقِرَاءَةِ قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ 112: 1 قَائِمًا وَقَاعِدًا وراكبا وماشيا. قلت: ما
علمت فِي نُوحٍ [1] جَرْحًا، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ مُنْكَرٌ
جِدًّا، ما أعلم أحدا تَابَعَهُ عَلَيْهِ أَصْلا عَنْ بَقِيَّةَ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حِبَّانَ حَدِيثَ الْعَلاءِ وَقَالَ:
حَدِيثٌ مُنْكَرٌ لا يُتَابَعُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَلا أَحْفَظُ فِي
الصَّحَابَةِ مَنْ يُقَالُ لَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ.
وَقَدْ سَرَقَ هَذَا الْحَدِيثَ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ،
وَرَوَاهُ عَنْ بَقِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ
أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ] [2] .
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْمُؤَذِّنُ، ثنا مَحْبُوبُ
بْنُ هِلالٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَنَسٍ،
قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَاتَ مُعَاوِيَةُ
بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيُّ، أَفَتُحِبُّ أَنْ تُصَلِّيَ
عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ
شَجَرَةٍ وَلا أَكَمَةٍ إِلا تَضَعْضَعَتْ لَهُ. فصلّى عليه وخلفه
صفّان من الملائكة، في كل صفّ سبعون ألف ملك. قلت: «يا جبريل، بم
نال [3] هذا؟» قال:
بِحُبِّهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ 112: 1 يَقْرَؤُهَا قَائِمًا
وقاعدا وذاهبا [116 أ] وَجَائِيًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ [4] .
مَحْبُوبٌ مَجْهُولٌ، لا يتابع على هذا [5] .
__________
[1] انظر: ميزان الاعتدال للمؤلّف 4/ 278 رقم (9139) ، ولسان
الميزان لابن حجر 6/ 173، 174.
[2] ما بين الحاصرتين لم يرد في الأصل، والمثبت من: (ع) و (ح) .
[3] في الأصل: «ما بال» . والتصحيح من ع، ح.
[4] رواه الطبراني في المعجم الكبير 19/ 428، 429 رقم (1040) .
[5] انظر: ميزان الاعتدال للمؤلّف 3/ 442 رقم (7085) ، ولسان
الميزان 5/ 17 رقم 64.
(2/640)
قَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ، يَعْنِي مِنْ يَوْمِ
الْحِجْرِ، وَلا مَاءَ مَعَهُمْ، دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ سَحَابَةً،
فَأَمْطَرَتْ حَتَّى ارْتَوَى النَّاسُ [1] .
فَحَدَّثَنِي عَاصِمٌ، قَالَ: قُلْتُ لِمَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ:
هَلْ كَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ النِّفَاقَ فِيهِمْ؟ قَالَ:
نَعَمْ وَاللَّهِ، لَقَدْ أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي، عَنْ
رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحِجْرِ
مَا كَانَ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ دَعَا فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّحَابَةَ،
فَأَمْطَرَتْ. قَالُوا: أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ نقول: ويحك، له
بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ؟ قَالَ: سَحَابَةٌ سَائِرَةٌ [2] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارَ، فَضَلَّتْ نَاقَتُهُ، فَخَرَجَ
أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا. وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ
عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، وَكَانَ عَقَبِيًّا بَدْرِيًّا. وَكَانَ
فِي رَحْلِهِ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ [3] الْقَيْنُقَاعِيِّ
وُكُانُ مِنُافِقًا. فَقَالَ زَيْدٌ، وَهُوَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ:
أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَيُخْبِرُكُمْ عَنْ
خَبَرِ السَّمَاءِ، وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُمَارَةُ
عِنْدَهُ:
«إِنَّ رَجُلا قَالَ كَذَا وَكَذَا. وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا
أَعْلَمُ إِلا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ. وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ
عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي هَذَا الْوَادِي فِي شِعْبِ كَذَا، وَقَدْ
حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا» . فَذَهَبُوا فَجَاءُوا بِهَا.
فَذَهَبَ عُمَارَةُ إِلَى رَحْلِهِ فَقَالَ: وَاللَّهِ عَجَبٌ مِنْ
شَيْءٍ حَدَّثَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ آنِفًا، عَنْ مَقَالَةِ قَائِلٍ أَخْبَرَهُ اللَّهُ
عَنْهُ بِكَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ فِي رَحْلِ
عُمَارَةَ، وَلَمْ يَحْضُرْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زَيْدٌ، وَاللَّهِ، قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةُ
قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ. فَأَقْبَلَ عُمَارَةُ عَلَى زَيْدٍ يَجَأُ
فِي [4] عُنُقِهِ، وَيَقُولُ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ فِي
رَحْلِي لَدَاهِيَةً وَمَا أَشْعُرُ. اخْرُجْ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ
مِنْ رَحْلِي.
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 176.
[2] السيرة 4/ 176.
[3] في الأصل «زيد بن الصليت» ، وهو تحريف، والتصحيح من نسختي: (ع)
و (ح) .
[4] في السيرة لابن هشام 4/ 177 والمثبت يتّفق مع تاريخ الطبري 3/
106.
(2/641)
فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ زَيْدًا تَابَ
بَعْدَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ، مِنْهُمْ وَدِيعَةُ
بْنُ ثَابِتٍ، وَمخشنُ [1] بْنُ حُمَيِّرٍ، يُشِيرُونَ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ
مُنْطَلِقٌ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
أَتَحْسَبُونَ جِلادَ بَنِي الأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟ وَاللَّهِ لَكَأَنَّا بِكُمْ غَدًا
مُقَرَّنِينَ فِي الْحِبَالِ، إِرْجَافًا وَتَرْهِيبًا
لِلْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ مخشنُ بْنُ حُمَيِّرٍ:
وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلٌّ
مِنَّا مِائَةَ جَلْدَةً، وَأَنَّا نَنْفَلِتُ أَنْ يَنْزِلَ
فِينَا قُرْآنٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ.
وَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بَلَغَنِي، لِعَمَّارِ
بْنِ يَاسِرٍ: أَدْرِكِ الْقَوْمَ، فَإِنَّهُمْ قَدِ اخْتَرَقُوا
[2] ، فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ:
بَلَى، قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا. فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عَمَّارٌ،
فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ. فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُونَ. فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ
ثَابِتٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ. فَنَزَلَتْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ
إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ
وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ 9: 65 [3] . فَقَالَ مخشنُ
بْنُ حُمَيِّرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ
أَبِي. فَكَانَ الَّذِي عفي عنه في هذه [116 ب] الآيَةِ مخشنٌ،
يَعْنِي إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ 9: 66 [4] . فَتسَمَّى
عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْتُلَهُ شَهِيدًا لا
يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ. فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ ولم يوجد له
أثر [5] .
__________
[1] قال ابن هشام: ويقال مخشى، وهو ما ورد في النسخة (ع) .
وجاء في هامش نسخة (ح) : «وضبطه الأمير: مخشي بن حميّر الأشجعي» .
والأمير هو ابن ماكولا في كتابه الإكمال 7/ 228.
[2] في الأصل، وسيرة ابن هشام 4/ 177 «احترقوا» بالحاء المهملة،
وفي تحقيق محمود محمد شاكر لإمتاع الأسماع للمقريزي 1/ 453 أثبتها
بالخاء المعجمة، لأنها أجود وأبين. وقال:
الاختراق والاختلاق والافتراء والكذب، وذلك من قوله تعالى:
وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ 6:
100 (الأنعام- 100) أي اختلقوا كذبا وكفرا.
[3] سورة التوبة، الآية 65.
[4] سورة التوبة، الآية 65.
[5] سيرة ابن هشام 4/ 177، 178، تاريخ الطبري 3/ 108.
(2/642)
وَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ، أَتَاهُ يُحَنَّةُ بْنُ
رُؤْبَةَ صَاحِبُ أَيْلَةَ، فَصَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعطَاهُ الْجِزْيَةَ. وَأَتَاهُ
أَهْلُ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ [1] فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ.
وَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كِتَابًا، فَهُوَ عِنْدَهُمْ [2] .
[فائدة]
قَالَ ابن إِسْحَاق: أعطى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أهُل أَيْلة بُرْدَةً مَعَ كتابه، فاشتراها منهم أَبُو
الْعَبَّاس عَبْد اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ- يَعْنِي السَّفَّاحَ-
بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ [3] .
وقال مُوسَى بْن عُقْبة، قَالَ ابن شهاب: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزوته تِلْكَ تبوكًا ولم
يتجاوزها. وأَقام بضع عشرة ليلة، يعني بتبوك [4] .
وقال يحيى بْن أَبِي كثير، عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن
ثَوْبان، عَنْ جَابِر، قَالَ: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
بتبوك عشرين يومًا يَقْصُرُ الصّلاة. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد [5]
. وإسناده صحيح.
__________
[1] جرباء: موضع من أعمال عمان بالبلقاء من أرض الشأم. وأذرح من
أعمال الشراة في أطراف الشأم ثم من نواحي البلقاء. وبين أذرح
والجرباء ميل واحد وأقل (معجم البلدان) 2/ 118) .
[2] سيرة ابن هشام 4/ 178، تاريخ الطبري 3/ 108.
[3] ما بين الحاصرتين، من «فائدة» حتى هنا ليس في الأصل، والمثبت
من نسختي: (ع) و (ح) .
[4] تاريخ الطبري 3/ 109.
[5] في كتاب الصلاة (1235) باب إذا أقام بأرض العدوّ يقصر.
(2/643)
بَعث خَالِد بْن الوليد إلى أكيدر دُومَة
[1]
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ
الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدِرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، رَجُلٍ مِنْ
كِنْدَةَ، وَكَانَ مَلِكًا عَلَى دُومَةَ [2] وَكَانَ
نَصْرَانِيًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِخَالِدٍ: إِنَّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ.
فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ مَنْظَرُ
الْعَيْنِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَافِيَةٍ، وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ
وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ، [فَأَتَتِ الْبَقَرَ تَحُكُّ بِقُرُونِهَا
بَابَ الْقَصْرِ. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ] [3] : هَلْ رَأَيْتَ
مِثْلَ هَذَا قَطُّ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ. قَالَتْ: فَمَنْ
يَتْرُكُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لا أَحَدُ. فَنَزَلَ فَأَمَرَ
بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ، وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ
بَيْتِهِ، فِيهِمْ أَخُوهُ حَسَّانٌ. فَتَلَقَّتْهُمْ [4] خَيْلُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَتْهُ
وَقَتَلُوا أَخَاهُ. وَقَدِمُوا بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَقَنَ دَمَهُ وَصَالَحَهُ عَلَى
الْجِزْيَةِ، وَأَطْلَقَهُ [5] .
__________
[1] العنوان ليس في الأصل.
[2] دومة: هي دومة الجندل، وقد سبق التعريف بها.
[3] سقطت هذه الجملة من الأصل، وأثبتناها من ع، ح. وسيرة ابن هشام
4/ 178.
[4] في الأصل: «فلقيتهم» ، والمثبت من ع، ح. والسيرة لابن هشام.
[5] سيرة ابن هشام 4/ 178، وانظر المغازي للواقدي 3/ 1025، 1026،
وطبقات ابن سعد 2/ 166، وتاريخ الطبري 3/ 109.
(2/645)
[فائدة]
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ قَيْسِ بْنِ النُّعْمَانِ السَّكُونِيِّ قَالَ: خَرَجَتْ
خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَسَمِعَ بِهَا أُكَيْدِرٌ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
بَلَغَنَا أَنَّ خَيْلَكَ انْطَلَقَتْ فَخِفْتُ [1] عَلَى أَرْضِي،
فَاكْتُبْ لِي كِتَابًا فَإِنِّي مُقِرٌّ بِالَّذِي عَلَيَّ.
فَكَتَبَ لَهُ. فَأَخْرَجَ قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ مِمَّا كَانَ
كِسْرَى يَكْسُوهُمْ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اقْبَلْ عَنِّي هَذَا
هَدِيَّةً. قَالَ: «ارْجِعْ بِقَبَائِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَلْبَسُ
هَذَا أَحَدٌ إِلا حُرِمَهُ فِي الآخِرَةِ» . فَشَقَّ عَلَيْهِ
أَنْ رَدَّهُ. قَالَ: «فَادْفَعْهُ إِلَى عُمَرَ» . فَأَتَى عُمَرُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدَثَ فِيَّ أَمْرٌ؟ فَضَحِكَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ، أَوْ
ثَوْبَهُ، عَلَى فِيهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَعَثْتُ بِهِ إِلَيْكَ
لِتَلْبَسَهُ، وَلَكِنْ تَبِيعُهُ وَتَسْتَعِينُ بِثَمَنِهِ] [2] .
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ
قَالَ [3] : وَلَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلا إِلَى الْمَدِينَةِ، بَعَثَ خَالِدًا
فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَارِسًا إِلَى أُكَيْدِرِ
دُومَةِ الْجَنْدَلِ، فَلَمَّا عَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدَهُ، قَالَ
خَالِدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ
وَفِيهَا أُكَيْدِرٌ، وَإِنَّمَا نَأْتِيهَا فِي عِصَابَةٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: «لَعَلَّ اللَّهَ يَكْفِيكَهُ» . فَسَارَ
خَالِدٌ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ دُومَةَ نَزَلَ فِي
أَدْبَارِهَا. فَبَيْنَمَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي مَنْزِلِهِمْ
لَيْلا، إِذْ أَقْبَلَتِ الْبَقَرُ حَتَّى جَعَلَتْ تَحْتَكُّ
بِبَابِ الْحِصْنِ، وَأُكَيْدَرٌ يَشْرَبُ وَيَتَغنَّى بَيْنَ
امْرَأَتَيْهِ. فَاطَّلَعَتْ إِحْدَاهُمَا فَرَأَتِ الْبَقَرَ
فَقَالَتْ: لَمْ أَرَ كَاللَّيْلَةِ فِي اللَّحْمِ. فَثَارَ
وَرَكِبَ فَرَسَهُ، وَرَكِبَ غِلْمَتُهُ وَأَهْلُهُ، فَطَلَبَهَا.
حَتَّى مَرَّ بِخَالِدٍ وَأَصْحَابِهِ فَأَخَذُوهُ وَمَنْ مَعَهُ
فَأَوْثَقُوهُمْ. ثُمَّ قَالَ خَالِدٌ لأُكَيْدِرِ: أَرَأَيْتَ
إِنْ أَجَرْتُكَ تَفْتَحْ لِي دُومَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَانْطَلَقَ
حَتَّى دَنَا مِنْهَا، فَثَارَ أَهْلُهَا وَأَرَادُوا أَنْ
يَفْتَحُوا لَهُ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ أَخُوهُ. فَلَمَّا رَأَى
ذَلِكَ قال لخالد: أيّها الرجل،
__________
[1] في النسخة (ح) : «فخفت» ، والمثبت عن نسخة (ع) .
[2] لم ترد هذه الفائدة في الأصل، وأثبتناها من ع، ح.
[3] الحديث ليس في المطبوع من مغازيه.
(2/646)
حلّني [1] ، (117 أ] فَلَكَ اللَّهُ
لأَفْتَحَنَّهَا لَكَ، إِنَّ أَخِي لا يَفْتَحُهَا مَا عَلِمَ
أَنِّي فِي وَثَاقِكَ. فَأَطْلَقَهُ خَالِدٌ. فَلَمَّا دَخَلَ
أَوْثَقَ أَخَاهُ وَفَتَحَهَا لِخَالِدٍ، ثم قال: اصنع ما شئت.
فدخل خالد وأصحابه. ثم قال: يا خالد، إن شئت حكّمتك، وإن شِئْتَ
حَكَّمْتَنِي. فَقَالَ خَالِدٌ: بَلْ نَقْبَلُ مِنْكَ مَا
أَعْطَيْتَ. فَأَعْطَاهُمْ ثَمَانِمِائَةٍ مِنَ السَّبْيِ وَأَلْفَ
بَعِيرٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ دِرْعٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ رُمْحٍ [2] .
وَأَقْبَلَ خَالِدٌ بِأُكَيْدِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ مَعَهُ يُحَنَّةُ بْنُ
رُؤْبَةَ عَظِيمُ أَيْلَةَ. فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَشْفَقَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ
كَمَا بعث إلى أكيدر.
فاجتمعا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَاضَاهُمَا عَلَى قَضِيَّتِهِ، عَلَى دُومَةَ وَعَلَى تَبُوكَ
وَعَلَى أَيْلَةَ وَعَلَى تَيْمَاءَ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا.
وَرَجَعَ قَافِلا إِلَى الْمَدِينَةِ [3] .
ثُمَّ ذَكَرَ عُرْوَةُ قِصَّةً فِي شَأْنِ جَمَاعَةٍ مِنَ
الْمُنَافِقِينَ [4] هَمُّوا بِأَذِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى
كَيْدِهِمْ. وَذَكَرَ بِنَاءَ مَسْجِدِ الضِّرَارِ [5] .
وقال ابن إِسْحَاق، عَنْ ثقةٍ من بني عَمْرو بْن عَوْفُ: أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبل من تبوك
حين نزل بذِي أَوَان [6] ، بينه وبين المدينة ساعةٌ من نهار. وكان
أصحاب مسجد الضِّرار قد أَتَوْهُ، وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: قد
بَنَيْنا مسجدًا لذي العِلّة والحاجة واللَّيْلة المَطِيرَة، وإنّا
نحبّ أنَّ تَأتِيَ فتُصَلِّيَ لنا فِيهِ. فقال: إنّي عَلَى جناح
سَفَرٍ، فلَوْ رجعنا إنْ شاء اللَّه أَتَيْنَاكُم. فلمّا نزل
__________
[1] في ع: «خلّني» .
[2] انظر السيرة النبويّة لابن كثير 4/ 31 فهو مختصر عما هنا.
وراجع المغازي للواقدي 3/ 1027 ففيه: «فصالحه على ألفي بعير» ،
وكذا في طبقات ابن سعد 2/ 166.
[3] انظر المغازي للواقدي 3/ 1031 وسيرة ابن هشام 4/ 178.
[4] في نسختي: (ع) و (ح) : «جماعة منافقين» .
[5] المغازي لعروة 221 وليس في المطبوع عن بناء مسجد الضرار، وانظر
السنن الكبرى للبيهقي 9/ 33.
[6] ذو أوان ويقال: ذات أوان. موضع بطريق الشام، (معجم البلدان 1/
275) على ساعة من المدينة. (وفاء ألوفا 2/ 250) .
(2/647)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي أوان،
أتاه خبرُ السّماء، فدعا مَالِكَ بْن الدّخشم ومعن ابن عَدِيّ
فقال: انطلِقا إلى هذا المسجد الظَّالِمِ أَهْلُه فاهْدِمَاهُ
وأَحْرِقَاه.
فخرجا سريعَيْن حتّى دخلاه وفيه أهله فحرّقاه وهدماه وتفرّقوا
عَنْهُ. ونزل فِيهِ من القرآن ما نزل [1] . وَقَالَ أَبُو
الْأَصْبَغِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْحَرَّانِيُّ [2] :
ثَنَا محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ:
كُنْتُ آخِذًا بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقُودُ بِهِ، وَعَمَّارٌ يَسُوقُهُ، أَوْ
قَالَ عَمَّارٌ يَقُودُهُ وَأَنَا أَسُوقُهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا
بِالْعَقَبَةِ، فَإِذَا أَنَا بِاثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا قَدِ
اعْتَرَضُوهُ فِيهَا، فَأنْبَهْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَرَخَ بِهِمْ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ.
فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[هل] [3] عَرَفْتُمُ الْقَوْمَ؟ قُلْنَا: لَا، قَدْ كَانُوا
مُلَثَّمِينَ. قَالَ:
هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَرَادُوا
أَنْ يَزْحَمُونِي فِي الْعَقَبَةِ لِأَقَعَ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَلَا تَبْعَثُ
إِلَى عَشَائِرِهِمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْكَ كُلُّ قَوْمٍ
بِرَأْسِ صَاحِبِهِمْ؟ قَالَ: لَا، أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ
الْعَرَبُ أَنَّ مُحَمَّدًا قَاتَلَ بِقَوْمٍ حَتَّى إِذَا
أَظْهَرَهُ [اللَّهُ] [4] بِهِمْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ
فَقَتَلَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: «اللَّهمّ ارْمِهِمْ بِالدُّبَيْلَةِ»
.
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الدُّبَيْلَةُ؟ قَالَ:
«شِهَابٌ مِنْ نَارٍ يَقَعُ عَلَى نِيَاطِ قَلْبِ أَحَدِهِمْ
فَيَهْلِكُ» [5] . وَقَالَ قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ
قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ عَنْ
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 180، المغازي للواقدي 3/ 1045، 1046، الطبري
3/ 110.
[2] في الأصل «الخزاعي» ، وهو تصحيف، والتصويب من نسختي (ع) و (ح)
، ومن ترجمته في تهذيب التهذيب 6/ 362.
[3] ليست في أوصل، أضفتها من نسختي: (ع) و (ح) .
[4] ليست في الأصل، أضفتها من نسختي: (ع) و (ح) .
[5] أخرج مسلم نحوه في صفات المنافقين وأحكامهم (10/ 2779) قال
غندر: أراه قال: «في أمّتي اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة، ولا
يجدون ريحها، حتى يلج الجمل في سمّ الخياط. ثمانية منهم تكفيكهم
الدّبيلة. سراج من النار يظهر في أكتافهم. حتى ينجم من صدورهم» .
(2/648)
عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، أَنَّ حُذَيْفَةَ
حَدَّثَهُ، عَنِ النّبيّ [117 ب] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «فِي أَصْحَابِيَ اثْنَا عَشَرَ
مُنَافِقًا، فَمِنْهُمْ [1] ثَمَانِيَةٌ لَا يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ» .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [2] .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ [الْمِصْرِيُّ، ثنا
مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ] [3] ، عَنْ عليّ ابن أَبِي طَلْحَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً 9:
107 [4] ، قَالَ:
أُنَاسٌ بَنَوْا مَسْجِدًا فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَامِرٍ: ابْنُوا
مَسْجِدَكُمْ وَاسْتَمِدُّوا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
وَمِنْ سِلاحٍ، فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ فَآتٍ بِجُنْدٍ
مِنَ الرُّومِ، فَأُخْرِجُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. فَلَمَّا
فَرَغُوا مِنْ مَسْجِدِهِمْ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: نُحِبُّ أَنْ تُصَلِّيَ فيه. فنزلت
لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً 9: 108. الآيَاتِ [5] .
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ
بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: أَذْكُرُ أَنَّا، حِينَ قَدِمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ،
خَرَجْنَا مَعَ الصِّبْيَانِ نَتَلَقَّاهُ إِلَى ثَنِيَّةِ
الْوَدَاعِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [6] .
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ
غَزْوَةِ تَبُوكَ وَدَنا مِنَ الْمَدَينَةِ قَالَ: «إِنَّ
بِالْمَدِينَةِ لَأَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ وَلَا
قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ فِيهِ» . قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟
قال: «نعم، حبسهم العذر» . أخرجه البخاري [7] .
__________
[1] في الأصل «منهم» وما أثبتناه عن مسلم.
[2] في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (9/ 2779) وفيه زيادة، وأحمد
4/ 320.
[3] ما بين الحاصرتين سقط من الأصل، والمثبت من نسختي (ع) و (ح) .
[4] سورة التوبة، الآية 107.
[5] سورة التوبة، الآية 108.
[6] في كتاب المغازي (5/ 136) باب كِتَابَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كسرى وقيصر.
[7] صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من حبسه العذر عن الغزو
(3/ 213) . وكتاب المغازي، باب حدثنا يحيى بن بكير، بعد باب نزول
النبي صلّى الله عليه وسلم الحجر (5/ 136) ، وأحمد في المسند 3/
182.
(2/649)
أمرُ الذين خلفوا [1]
قَالَ شُعَيب بْن أبي حمزة، عَنِ الزُّهْرِيّ، أَخْبَرَنِي سَعِيد
بْن الْمُسَيِّبِ: أَنَّ بني قُرَيظة كانوا حُلَفاءَ، لأبي
لُبَابة. فاطّلعوا إِلَيْهِ، وهو يدعوهم إلى حُكْم النّبيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا أَبَا لُبابة، أتأمرنا أنَّ
نَنْزِلَ؟ فأشار بيده إلى حَلْقِه أَنَّهُ الذَّبْح.
فأخبر عَنْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بذلك فقال لَهُ: لم ترعبني؟ فقال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أحسبت أنّ اللَّه غفل عَنْ يدك حين تشير إليهم بها إلى حلقك؟»
فلبث حينا ورسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاتبٌ
عَلَيْهِ. ثمّ غزا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تبوكًا، فتخلّف عَنْهُ أَبُو لبابة فيمن تخلّف. فلمّا
قفل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءه أَبُو
لُبابة يسلّم عَلَيْهِ، فأعرض عَنْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ففزع أَبُو لُبابة، فارْتَبَط بِسَارِية التَّوبة، التي عند باب
أمّ سَلَمَةَ، سبعًا بين يومٍ وَلَيْلَةٍ، فِي حرٍّ شديدٍ، لَا
يأكل فيهنّ ولا يشرب قَطْرةً. وقال: لَا يزال هذا مكاني حتّى أفارق
الدنيا أو يتوب اللَّه عليَّ. فلم يزل كذلك حتّى ما يسمع الصَّوْتَ
من الجهد. ورَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر
إِلَيْهِ بُكْرةً وعَشِيَّةً. ثمّ تاب اللَّه عَلَيْهِ فنُودي: إنّ
اللَّه قد تاب عليك. فأرسل إِلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليُطْلِق عَنْهُ رِبَاطه، فأبى أنَّ يطلقه
عَنْهُ أحدٌ إِلا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فجاءه فأطلق عنه بيده. فقال أبو
__________
[1] انظر سيرة ابن هشام 4/ 180.
(2/651)
لُبابة حين أفاق: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إنّي أهجر دار قومي التي أَصَبْتُ فيها الذَّنْبَ، وأنتقل إليك
فأُسَاكِنك، وإنّي أَنْخَلِع من مالي صَدَقةً إلى اللَّه ورسوله.
فقال:
«يُجْزِئُ عنك [118 أ] الثُّلُث» . فهجر دار قومه وتصدّق بثُلث
ماله، ثمّ تاب فلم يُرَ منه بعد ذَلِكَ فِي الْإِسْلَام إلّا
خَيْر، حتّى فارق الدنيا. مُرْسَل. وقال ورقاء، عَنِ ابن أَبِي
نَجِيح، عن مجاهد، في قوله: اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ 9: 102
قَالَ: هُوَ أَبُو لبابة، إذ قَالَ لقريظة مَا قَالَ، وأشار إلى
حلقه بأن محمدا يذبحكم إنَّ نزلتم عَلَى حكمه. وزعم مُحَمَّد بْن
إِسْحَاق أن ارتباطه كَانَ حينئذ. ولعله ارتبط مرتين.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ
صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ 9: 102 قال: كَانُوا
عَشَرَةَ رَهْطٍ تَخَلَّوْا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. فَلَمَّا حَضَرَ
رُجُوعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَوْثَقَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ،
وَكَانَ مَمَرُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالُوا:
هَذَا أَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابٌ لَهُ تَخَلَّفُوا عَنْكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى تُطْلِقَهُمْ وَتَعْذِرَهُمْ. قَالَ:
«وَأَنَا أُقْسِمُ باللَّه لا أُطْلِقُهُمْ وَلا أَعْذِرُهُمْ،
حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُهُمْ، رَغِبُوا
عَنِّي وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ» .
فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا: وَنَحْنُ لا نُطْلِقُ
أَنْفُسَنَا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنَا.
فَأُنْزِلَتْ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا
عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ 9: 102 [1] «عَسَى» مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ [2] .
فَلَمَّا نَزَلَتْ، أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَأَطْلَقَهُمْ
وَعَذَرَهُمْ. وَنَزَلَتْ، إِذْ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ:
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ
بِها 9: 103 [3] . وَرَوَى نَحْوَهُ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ [4] .
__________
[1] سورة التوبة، الآية 102.
[2] واجب منه تعالى، لا عليه سبحانه.
[3] سورة التوبة، الآية 103.
[4] السيرة لابن كثير 4/ 48، 49.
(2/652)
وَقَالَ عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ بن مَالِكٍ،
أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبًا يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ
تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ.
قَالَ كَعْبٌ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ، إلّا في
غزوة تبوك. غير أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ
يُعَاتِبِ اللَّهُ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [يُرِيدُ] [1]
عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ. وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ
الْعَقَبَةِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ،
وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ: يَعْنِي أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا.
كَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَنِّي لَمْ
أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ
عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ. وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي
قَبْلَهَا رَاحِلَتَانِ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا تِلْكَ الْغَزْوَةَ.
وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يريد غَزْوَةً إِلا وَرَّى بِغَيْرِهَا. حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ
الْغَزْوَةُ غَزَاهَا فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا
بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا: فَجَلَّى
لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرُهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ
[2] ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي كَانَ يريد. والمسلمون
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثير لا
يجمعهم كتاب حافظ، يريد الديوان. [118 ب] قَالَ كَعْبٌ: فَمَا
رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلا ظَنَّ أَنَّهُ سَيَخْفَى
[لَهُ] [3] مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ. وَغَزَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةَ
حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلالُ، فَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ
[4] .
[فَتَجَهَّزَ] [5] وَالْمُسْلِمُونَ معه.
__________
[1] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح. وسيرة ابن هشام 4/ 181.
[2] في الأصل «عدوهم» والتصحيح من صحيح مسلم.
[3] سقطت من الأصل. وأثبتناها من ع، ح، وهي في صحيح مسلم، وسيرة
ابن هشام.
[4] أصعر: أميل. وجملة فأنا إليها أصعر تفرد بها الأصل، ولم ترد في
ع، ح وهي في صحيح مسلم. وفي السيرة: «فالناس إليها أصعر» .
[5] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح. وصحيح مسلم، والسيرة.
(2/653)
وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ
مَعَهُمْ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا. وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا
قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُهُ. فَلَمْ يَزَلْ يَتَمادَى
بِي الأَمْرُ حَتَّى اسْتَمَرَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ.
فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا.
فَقُلْتُ:
أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ.
فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لأَتَجَهَّزَ فَرَجَعُتُ وَلَمْ
أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ
شَيْئًا. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا
وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ وَهَمَمتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ
[1] ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ.
فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ أَحْزَنَنِي أَنِّي لا أَرَى
رَجُلا مَغْمُوصًا [2] مِنَ النِّفَاقِ، أَوْ رَجُلا مِمَّنْ
عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ. فَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ،
[قَالَ] [3] وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ: «مَا فَعَل كَعْبُ بْنُ
مَالِكٍ؟» فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ. فَقَالَ
لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلا خَيْرًا. فَلَمَّا
بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلا مِنْ تَبُوكَ، حَضَرَنِي هَمِّي
فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ
مِنْ سَخَطِهِ غَدًا؟ وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي
رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي. فَلَمَّا قِيلَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ [4] قَادِمًا زَاحَ
عَنِّي الْبَاطِلَ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لا أَخْرُجُ مِنْهُ أَبَدًا
بِشَيْءٍ فِيهِ كذب، فأجمعت صِدْقَهُ. وَأَصْبَحَ قَادِمًا،
وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى
فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ. فَلَمَّا فَعَلَ
ذَلِكَ جَاءَ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ
وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بَضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلا.
فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلانِيَتهُمْ، وَبَايَعَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ [لَهُمْ]
[5] ، وَوَكَلَ سَرائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ. فَجِئْتُهُ فَلَمَّا
سَلَّمْتُ عليه
__________
[1] في الأصل: «وأدركهم» . والمثبت من ع، ح. وصحيح مسلم، والسيرة.
[2] مغموصا: أي متّهما.
[3] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح.
[4] في هامش ح: بمهملة: «أشرف» ، ومعجمة: دنا، ومنه أظلكم شهر كذا.
[5] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح. وصحيح مسلم.
(2/654)
تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ
قَالَ: تَعَالَ. فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ
يَدَيْهِ.
فَقَالَ: مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟
فَقُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ
جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ
أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ
جَدَلا. وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ
الْيَوْمَ حَدِيثًا كَاذِبًا تَرْضَى بِهِ [عَنِّي] [1]
لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَسْخَطَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ
حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لأَرْجُو عَفْوَ
اللَّهِ. والله ما كان لي من عذر، وو الله مَا كُنْتُ قَطُّ
أَقْوَى وَلا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا
هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، قُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ.
فَقُمْتُ، وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَقَالُوا: لا
وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ
هَذَا، أَعَجَزْتَ أَنْ لا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ
إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، قَدْ كَانَ كَافِيَكَ لِذَنْبِكَ
اسْتِغْفَارُ رسول الله (119 أ] صلّى الله عليه وسلم لك.
فو الله مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ
أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي. ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ لَقِيَ هَذَا
مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلانِ قَالا مِثْلَ مَا
قُلْتَ.، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ. فَقُلْتُ: مَنْ
هُمَا؟ فَقَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ [2] الْعَمْرِيُّ،
وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ. فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ
صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا، فِيهِمَا أُسْوَةٌ. فَمَضَيْتُ
حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي.
وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
كَلامِنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ
عَنْهُ.
وَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ
فِي نَفْسِي الأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ. فَلَبِثْنَا
عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً. فَأَمَّا صَاحِبَايَ
فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بَيْتِهِمَا. وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ
أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ
الصَّلاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ، فَلا
يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ. وأتى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
__________
[1] سقطت من الأصل، وأثبتناها من (ع) و (ح) وصحيح مسلم.
[2] في الأصل: «الرفيع» . والتصحيح من ع، ح وصحيح البخاري. وهو في
مسلم: مرارة بن الربيعة العامري.
(2/655)
فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاةِ
فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ
شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلامِ عَلَيَّ أَمْ لا؟ ثُمَّ أُصَلِّي
فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي نَظَرَ
إِلَيَّ، فَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي. حَتَّى
إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ
تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي
وَأَحَبُّ الناي إليّ، فسلّمت عليه، فو الله مَا رَدَّ. فَقُلْتُ:
يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُ أَنِّي
أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ [قَالَ] [1] فسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ
فَسَكَتَ، فَنَاشَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ:
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَايَ. وَتَوَلَّيْتُ
حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ.
قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ، إِذَا
نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّأْمِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ
يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ. حَتَّى إِذَا
جَاءَنِي دَفَع إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، وَكُنْتُ
كَاتِبًا، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ
صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ. وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ
هَوَانٍ وَلا مَضْيَعَةٍ. فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ. فَقُلْتُ:
وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلاءِ. فَتَيَمَّمْتُ بِهِ التَّنُّورَ
فَسَجَرْتُهُ بِهِ. حَتَّى إِذَا مَضَى لَنَا أَرْبَعُونَ لَيْلةً
مِنَ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ. فَقُلْتُ:
أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ بِهَا؟ فَقَالَ: لا، بَلِ
اعْتَزِلْهَا فَلا تَقْرَبَنَّهَا. وَأَرْسِلْ إِلَى صَاحِبَيَّ
بِمِثْلِ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لامْرَأَتِي: الْحِقِي بِأَهْلِكِ
فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ.
قَالَ كَعْبٌ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلالٍ رَسُولَ اللَّهِ
فَقَالَ: إِنَّ هِلالا شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ
تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ فَقَالَ: لا، وَلَكِنْ لا
يَقْرَبَنَّكِ. قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بهِ حَرَكَةٌ إِلَى
شَيْءٍ، وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ
مَا كَانَ إِلَى يَوْمِي هَذَا. فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ
اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فِي امْرَأَتِكَ؟ فَقُلْتُ:
لا وَاللَّهِ، وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ لِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن استأذنته فيها، وأنا
__________
[1] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح. وصحيح مسلم.
(2/656)
[119 ب] رجل شابّ. فلبثت بعد ذَلِكَ عَشْرَ
لَيَالٍ حَتَّى كَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً. فَلَمَّا أَنْ
صَلَّيْتُ صَلاةَ الْفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَأَنَا
عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ
عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ مِنَّا، قَدْ ضَاقَتْ
عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ،
سَمِعْتُ صَوْتَ صَارخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ: يَا كَعْبَ
بْنَ مَالِكٍ، أَبْشِرْ. فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ
قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ.
وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، حِينَ صَلَّى صَلاةَ الْفَجْرِ.
فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قبل صاحبيّ مبشّرون.
وركض رجل إليّ فرسا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، وكان
الصّوت أسرع إِلَيَّ مِنَ الْفُرْسِ. فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي
سَمِعْتُ صوته يبشّرني، نزعت ثوبيّ وكسوتهما إِيَّاهُ بِبُشْرَاهُ،
وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ. وَاسْتَعَرْتُ
ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتَلَقَّانِي النَّاسُ
فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ:
لِيَهْنِكَ تَوْبةُ اللَّهِ عَلَيْكَ. حَتَّى دَخَلْتُ
الْمَسْجِدَ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ
يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ
إِلَيَّ رَجُلُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، وَلا أَنْسَاهَا
لِطَلْحَةَ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ بِالسُّرُورِ: «أَبْشِرْ
بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» .
قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ؟
قَالَ: «لا، بَلْ مِن عِنْدِ اللَّهِ» .
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
بشّر ببشارة يَبْرُقُ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ،
وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ
يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ
أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى
الرَّسُولِ. قَالَ: أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ.
فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ.
وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي
بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لا أحدّث إلّا صدقا ما
بقيت.
فو الله مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ابْتَلاهُ
اللَّهُ تَعَالَى فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ أَحْسَنَ مِمَّا
ابْتَلانِي، مَا تَعمَّدْتُ مُذْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذِبًا، وَإِنِّي
لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيَ. وَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى 9:
117
(2/657)
النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ
9: 117 إِلَى قَوْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ 9: 119 [1] .
فو الله مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ، بَعْدَ أَنْ
هَدَانِي لِلإِسْلامِ، أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، أَنْ لا
أَكُونَ كَذَبْتُهُ، فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ
كَذَّبُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلَّذِينَ
كَذَّبُوهُ، حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ، شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ
فَقَالَ: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ
إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ
رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا
عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ
9: 95- 96 [2] .
قَالَ كَعْبٌ: وَكُنَّا خُلِّفْنَا- أَيُّهَا الثَّلاثَةُ- عَنْ
أمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَلَفُوا لَهُ، وأرجأ أمرنا [120
أ] حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ.
فَبِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ
خُلِّفُوا 9: 118 [3] ، وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ
تَخَلُّفَنَا عَنِ الْغَزْوِ، وإنّما هو تخليفه إيّانا [و] [4]
إرجاؤه أَمْرَنَا عَمَّنْ تَخَلَّفَ وَاعْتَذَرَ، فَقَبِلَ مِنْهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ [5] .
__________
[1] سورة التوبة، الآيات 117- 119.
[2] سورة التوبة، الآيتان 95، 96.
[3] سورة التوبة، الآية 118.
[4] سقطت من النسخ الثلاث، وأثبتناها من الصحيحين.
[5] أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، وقول
الله عز وجل: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا 9: 118 (5/
130) وصحيح مسلم: كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه
(3/ 2769) ، وابن هشام في السيرة 4/ 180- 182، وأحمد في المسند 3/
454 و 456- 460 و 6/ 387- 390، والطبراني في المعجم الكبير 19/ 42
وما بعدها رقم 90 و 91 و 95، وعبد الرزاق في المصنف (9744) .
(2/658)
مَوت عَبْد اللَّه بْن أَبِيّ
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي
الزهري، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عَلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ،
فَلَمَّا عَرَفَ فِيهِ الْمَوْتَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « [أَمَا] [1] وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ
لَأَنْهَاكَ عَنْ حُبِّ يَهُودَ» . فَقَالَ: قَدْ أبْغَضَهُمْ
أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، فَمَهْ؟
وقال الواقديّ: مرض عَبْد اللَّه بْن أَبِي بْن سلول فِي أواخر
شوّال، ومات في ذي القعدة. وكان مرضه عشرين ليلة [2] . فَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعوده فيها.
فلما كان اليومُ الَّذِي مات فِيهِ. دخل عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَجُود بنَفْسه فقال:
«قد نَهَيْتُك عَنْ حبّ يَهُود» . فقال: قد أَبغضهم أسعدُ فما
نَفَعه؟ ثمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ليس هذا بِحينِ عتاب. هو
الموتُ، فإنْ متّ فاحضرْ غُسْلي، وأعْطِني قَمِيصَك أكفّن فيه،
وصلّ عليّ واستغفر لي [3] .
__________
[1] ليست في الأصل، وأثبتناها من ع، ح.
[2] تاريخ الطبري 3/ 120.
[3] قال ابن كثير في السيرة 4/ 65: «وروى البيهقي من حديث سالم بن
عجلان، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نحوا مما
ذكره الواقدي، فاللَّه أعلم» . وانظر الخبر في المغازي للواقدي 3/
1057.
(2/659)
هذا حديث مُعْضل واهٍ، لو أسنده الواقديّ
لَمَا نَفَع، فكيف وهو بلا إِسناد؟
وقال ابن عُيَيْنة، عَنْ عَمْرو، عَنْ جَابِر قَالَ: أَتَى رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبر عبد الله بن أبيّ
بعد ما أُدْخِل حُفْرته [فأَمَرَ بِهِ] [1] فأُخْرِج، فوُضِع عَلَى
رُكْبَتَيْه، أو فَخِذيه، فَنفَث عَلَيْهِ من رِيقِه وأَلبْسَه
قميصه. والله أعلم. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [2] .
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، وَغَيْرُهُ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عمر، قال: لَمَّا تُوُفِّيَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، أَتَى ابنه عبد الله بن عَبْدُ
اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ لِيُكَفِّنَهُ فِيهِ،
فَأَعْطَاهُ. ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عليه،
فقام عمر فأخذ ثوبه فقال: يا رسول الله، أتصلّي عليه وقد نهاك الله
عنه؟ قَالَ: إِنَّ رَبِّي خَيَّرَنِي، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ
مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ 9: 80 [3] ، وَسَأَزِيدُ
عَلَى السَّبْعِينَ. فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ. قَالَ: فَصَلَّى
عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَنزَلَ اللَّهُ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً
وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ 9: 84 [4] . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [5] . وفيها: قُتل
عُرْوَةُ بْن مَسْعُود الثّقفيّ، وكان سيّدا شريفا من عقلاء
__________
[1] سقطت من الأصل، وأثبتناها من نسختي (ع) و (ح) .
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (2/ 76) باب الكفن في القميص الّذي
يكفّ أو لا يكفّ، و (2/ 95) باب هل يخرج الميّت من القبر واللحد
لعلّة؟ و (7/ 36) في اللباس، باب ليس القميص وقول الله تعالى حكاية
عن يوسف ... ، ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (2773) ،
والنسائي (4/ 37، 38) في كتاب الجنائز، باب القميص في الكفن، وأحمد
في المسند 3/ 281، والواقدي في المغازي 3/ 1057.
[3] سورة التوبة، الآية 80.
[4] سورة التوبة، الآية 84.
[5] صحيح البخاري: كتاب الجنائز، باب الكفن في القميص الّذي يكف أو
لا يكف (2/ 76) .
وصحيح مسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (2774) ، وابن هشام في
السيرة 4/ 191. وتفسير الطبري 18/ 86- 87، وأسباب النزول للواحدي
330- 336، والواقدي 3/ 1058.
(2/660)
العرب ودُهاتهم، دعا قومه إلى الْإِسْلَام
فقتلوه. فيُرْوى أَنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُه مَثَلُ صاحِب ياسين، دعا قومَه إلى
اللَّه فقتلوه» [1] . وفيها: تُوُفِّيت السيدة أمّ كلثوم بِنْت
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زَوْجَة عثمان
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [2] .
وفيها: تُوُفِّيَ عَبْد اللَّه ذُو البِجَادَيْن [3] رَضِيَ
اللَّهُ عنه، ودُفن بتَبُوك، وصلّى عَلَيْهِ النّبيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأثنى عَلَيْهِ ونزل فِي حفرته،
وأسنده في لحده. وقال:
«اللَّهمّ [120 ب] إنّي أمسيتُ عَنْهُ راضيًا، فَارْضَ عَنْهُ» [4]
. وقال مُحَمَّد بْن إِسْحَاق: حدّثني مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم
التَّيْميّ، قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّه ذو البِجادَيْن [5] من
مُزَيْنَة. وكان يتيمًا فِي حِجْر عمّه، وكان يُحْسن إِلَيْهِ.
فلمّا بلغه أَنَّهُ قد أَسْلَم قَالَ: لَئِنْ فعلتَ لأَنْزِعَنَّ
منك جميع ما أعطيتك.
قَالَ: فإنّي مُسلم. فنزع كلَّ شيء أعطاه، حتّى جَرَّده ثوبَه.
فأتى أُمَّه، فقطعتْ بِجادًا [6] لها باثْنَيْن، فائْتَزَر نِصْفًا
وارْتَدى نِصفًا. ولَزِمَ بابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ يرفع صوته بالقرآن والذِّكْر. وتوفّي
فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفيها: قدِم وَفْدٌ ثَقِيف من الطَّائِف، فأسلموا بعد تَبوك، وكتب
لهم رَسُول اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم كتابا [7] .
__________
[1] انظر المحبّر لابن حبيب 105، 106، وتاريخ الطبري 3/ 97.
[2] تاريخ الطبري 3/ 124.
[3] في الأصل، ع: «ذو النجادين» ، والتصحيح من (ح) ، وهو عبد الله
بن عبد نهم المزني.
(الاستيعاب 2/ 292) .
[4] الاستيعاب 2/ 293.
[5] في الأصل، ع: «ذو النجادين» . والتصحيح من ح. والاستيعاب لابن
عبد البر 2/ 292. وقال ابن هشام في السيرة 4/ 179: وأنّما سمّي ذو
البجادين لأنه كان ينازع إلى الإسلام، فيمنعه قومه من ذلك ويضيّقون
عليه حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره. والبجاد: الكساء الغليظ
الجافي.
[6] في الأصل، ع: «نجادا» .
[7] انظر تاريخ الطبري 3/ 97 و 99.
(2/661)
وفيها: مَرجعَ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك، مات سُهَيْل بْن بَيْضاء، أخو سهل بن
بيضاء، وهي أمّهما، واسمها دَعْد بِنْت جَحْدَم. وأما أَبُوهُ
فوَهْب بْن رَبِيعَة الفِهْرِيّ. ولسهيل صُحْبةٌ وروايةٌ حديثٍ،
وَهُوَ حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ الْمِصْرِيِّ، عَنِ ابْنِ
الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الصَّلْتِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَاتَ يَشْهَدُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» [1] . وَلِيَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ،
نَحْوَهُ. وَأَمَّا الدَّرَاوَرْدِيُّ فَقَالَ: عَنِ ابْنِ
الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عن سعيد ابن
الصَّلْتِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ. وَهَذَا مُتَّصُلٌ
عَنْ سُهَيْلٍ. إِذْ سَعِيدُ بْنُ الصَّلْتِ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ لا
يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ سُهَيْلٍ. وَلَوْ [2] سَمِعَ مِنْهُ
لَسَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم، ولكان صحابيا. لكنّ
الْمُرْسَلَ أَشْهَرُ. وَكَانَ سُهَيْلُ [3] بْنُ بَيْضَاءَ مِنَ
السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ، شَهِدَ بَدْرًا وَغَيْرَهَا.
وَكَذَلِكَ أَخُوهُ سَهْلٌ، وَقَدْ تُوُفِّيَ أَيْضًا فِي حَيَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [4] .
وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، أَنْبَأَ حُمَيْدٌ، عَنْ
أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ،
وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ، عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ، وَأَنَا
أَسْقِيهِمْ، حَتَّى كَادَ الشَّرَابُ أَنْ يَأْخُذَ فِيهِمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِطُولِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ،
عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ،
قَالَتْ: لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدٌ: أَدْخِلُوهُ الْمَسْجِدَ حَتَّى
أُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ:
وَاللَّهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ سُهَيْلٍ
وَسَهْلٍ [5] .
__________
[1] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 6/ 257 و 258 رقم (6033) و
(6034) .
[2] في الأصل «ولم» والتصحيح من (ع) و (ح) .
[3] في الأصل «سهل» وهو خطأ، والتصحيح من (ع) و (ح) .
[4] الاستيعاب 2/ 92، الإصابة 2/ 85 رقم: 352.
[5] الاستيعاب 2/ 93.
(2/662)
وَقَالَ فِيهِ غَيْرُ الضَّحَّاكِ: مَا
أَسْرَعَ مَا نَسُوا، لَقَدْ صَلَّى عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ
فِي الْمَسْجِدِ.
وفيها: تُوُفِّيَ زيد بْن سَعْنَة، بالياء [وبالنون] [1] ،
وبالنّون أشهر، وهو أحد الأحْبار [2] الذين أسلموا. وكان كثير
العلم والمال. وخبرُ إسلامه رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ سَلامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ هَدْيَ زَيْدِ بْنِ سَعْنَةَ، قَالَ: مَا
مِنْ عَلامَاتِ النُّبُوَّةِ شيء إلّا وقد عرفتها في (121 أ]
وَجْهِ مُحَمَّدٍ حِينَ نَظَرْت إِلَيْهِ، إِلا شَيْئَيْنِ لَمْ
أُخْبَرْهُمَا مِنْهُ: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ وَلا يَزِيدُهُ
شِدَّةُ الْجَهْلِ إِلا حِلْمًا.
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَهُوَ فِي الطَّوَالاتِ
لِلطَّبَرَانِيِّ [3] . وَآخِرُهُ [4] : فَقَالَ زَيْدٌ:
أَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَآمَنَ بِهِ وَتَابَعَهُ، وَشَهِدَ مَعَهُ
مَشَاهِدَ. وَتُوُفِّيَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مُقْبِلا غَيْرَ
مُدْبِرٍ. وَالْحَدِيثُ غَرِيبٌ، مِنَ الأَفْرَادِ [5] .
قَالَ أَبُو عُبَيْدة مَعْمَر بْن المثنّى: وفيها قَتلت فارسُ
مَلِكَهم شَهْرا برز [6] بْن شيرويه، ومَلَّكوا عليهم بُوران بِنْت
كِسْرى [7] . وبلغ ذَلِكَ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فقال:
«لن يُفْلِحَ قومٌ وَلَّوْا أَمْرَهم امرأة» [8] .
__________
[1] سقطت من الأصل، والمثبت من: (ع) و (ح) .
[2] في الأصل «الأجناد» ، والتصحيح من (ع) و (ح) ، والاستيعاب 1/
563، والإصابة 1/ 566 رقم 2904.
[3] في المعجم الكبير 5/ 253- 255 رقم 489.
[4] في الأصل «وأخبره» ، والتصحيح من (ع) و (ح) .
[5] في هامش ح: «هو في صحيح ابن حبان» . انظر: صحيح ابن حبان، رقم
(2105) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين 3/ 604، 605
وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وهو من غرر الحديث. وقد
تعقّبه الذهبي بقوله في تلخيص المستدرك 3/ 605. «وما أنكره وأركّه
لا سيما قوله: مقبلا غير مدبر، فإنه لم يكن في غزوة تبوك قتال» .
[6] هكذا في جميع النسخ. وفي تاريخ خليفة «شهربراز» .
[7] تاريخ خليفة 93.
[8] أخرجه البخاري في كتاب المغازي (5/ 136) باب كِتَابَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كسرى وقيصر.
وفي
(2/663)
وفيها: تُوُفِّيَ عَبْد اللَّه بْن سعد بْن
سُفْيَان الأنصاريّ، من بني سالم بْن عَوْفُ. كنيته أبو سعد [1] .
شهد أُحُدًا والمشاهد. وتُوُفِّيَ منصرف النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك. فيقال: إنَّ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفنه فِي قميصه [2] .
وفيها: فِي هَذِهِ المدة: توفي زَيْد بْن مُهَلْهَلِ بْن زَيْد [3]
أَبُو مُكْنِف الطَّائيّ، فارس طيِّئ. وهو أحد المؤلفة قلَوْبهم.
أعطاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مائةً من الإبل،
وكتب لَهُ بإقْطاعِ. وكان يُدعى زيد الْخَيْلِ، فسمَّاه رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد الخير. ثمّ إنه رجع
إلى قومه فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنْ يَنْجُ زيدٌ من حُمَّى المدينة» . فلمّا انتهى [4] إلى نَجْد
أَصابته الْحُمَّى ومات [5] .
وفيها: حجَّ بالناس أَبُو بَكْر الصدِّيق، بعثه النّبيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الموسم فِي أواخر ذي القعدة
ليقيم للمسلمين حجّهم. فنزلت بَرَاءةٌ [6] إثر خروجه [7] .
وفي أَوَّلها نُقض ما بين النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وبين المشركين من العهد الَّذِي كانوا عَلَيْهِ.
قَالَ ابن إِسْحَاق: فخرج عليّ، رَضِيَ اللَّهُ عنه، عَلَى نَاقَةِ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، العَضْباء،
حتّى أدرك أَبَا بَكْر بالطريق. فلمّا رآه أَبُو بَكْر قَالَ:
أميرٌ أو مأمور؟ قَالَ: لَا، بَلْ مأمورٌ. ثمّ مَضَيا. فأقام أَبُو
بَكْر للناس حجّهم، حتّى إذا كَانَ يوم النَّحْر، قام عليَّ عند
الجَمْرة فأَذَّن فِي النّاس بالذي أَمَره رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أيها النّاس، إنه لا يدخل
الجنّة إلّا نفس مسلمة، ولا يحجّ بعد
__________
[ () ] الفتن (8/ 97) باب: حدّثنا عثمان بن الهيثم، وأحمد في
المسند 5/ 43 و 51 و 6/ 38 و 47.
[1] في الأصل «أبو سعيد» ، والتصحيح من (ع) و (ح) ، ومن ترجمته في:
أسد الغابة 3/ 261.
[2] الإصابة 2/ 318 رقم 4712.
[3] في جميع النسخ «يزيد» ، والتصحيح من: أسد الغابة 2/ 301،
وتجريد أسماء الصحابة 1/ 202، والإصابة 1/ 572 رقم 2941.
[4] في الأصل «وصل» ، والمثبت من (ع) و (ح) .
[5] الإصابة 1/ 573.
[6] أول سورة التوبة.
[7] تاريخ الطبري 3/ 122، طبقات ابن سعد 2/ 168، سيرة ابن هشام 4/
186.
(2/664)
العام مُشْرِكٌ، ولا يَطُوف بالبَيْت
عُرْيان. ومَن كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو لَهُ إلى مُدَّتِه. وأَجَّلَ
الناسَ أربعة أشهرٍ من يوم أَذَّن فيهم، ليرجع كلُّ قومٍ إلى
مَآمِنهِم من بلادهم. ثمّ لَا عَهْد لمُشْرِك [1] . وَقَالَ
عَقِيلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:
بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحِجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ
بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذَّنُونَ بِمِنًى أَنْ لا يَحُجَّ
بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ
عُرْيَانُ.
قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ أَرْدَفَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ. قَالَ:
فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النّحر ببراءة،
أن لا يحجّ بعد [121 ب] الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلا يَطُوفُ
بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ [2] .
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ [3] .
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ وَأَتْبَعَهُ عَلِيًّا.
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَكَانَ عَلِيٌّ نَادَى بِهَا،
فَإِذَا بُحَّ قَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَنَادَى بِهَا.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ
[4] ، قَالَ: سَأَلْنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِأَيِّ
شَيْءٍ بُعِثْتَ فِي ذِي الْحِجَّةِ؟ قَالَ: بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ:
لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 188، وانظر المغازي للواقدي 3/ 168، 169.
[2] في كتاب الصلاة (1/ 97) باب ما يستر من العورة، وكتاب تفسير
القرآن، سورة براءة (5/ 202) باب قوله فَسِيحُوا في الْأَرْضِ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله
9: 2..، وباب قوله وَأَذانٌ من الله وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ
يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ الله بَرِيءٌ من الْمُشْرِكِينَ
وَرَسُولُهُ 9: 3..
[3] البخاري في كتاب الحج (2/ 164) باب لا يطوف بالبيت عريان ولا
يحجّ مشرك، ومسلم في كتاب الحج (1347) باب لا يحجّ البيت مشرك ولا
يطوف بالبيت عريان، وبيان يوم الحجّ الأكبر. وأبو داود في المناسك
(1946) باب يوم الحج الأكبر. والترمذي في الحج (872) باب ما جاء في
كراهية الطواف عريانا، من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي إسحاق، عن
زيد بن أثيع قال: «سألت عليّا..» . وأحمد في المسند 1/ 3 و 79 و 2/
299 من طريق الشعبي، عن محرر بن أبي هريرة أبيه، عن أبي هريرة،
قال: كنت مع عليّ ... ، وخليفة في تاريخه 93.
[4] يثيع أو أثيع: رجل من همدان.
(2/665)
إِلا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلا يَطُوفُ
بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ، وَلا يَجْتَمِعُ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا، وَمَنْ كَانَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَهْدٌ، فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
عَهْدٌ فأجله أربعة أشهر [1] .
__________
[1] أخرجه أحمد في المسند 1/ 79 و 2/ 299.
(2/666)
ذكر قدُوم وُفوُدِ العرب
[قُدُومُ عُرْوَةُ بْن مَسْعُود الثَّقَفِيّ]
قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ، قَالَ: فَلَمَّا صَدَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَأَقَامَا لِلنَّاسِ الْحَجَّ، قَدِمَ
عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمًا. وَكَذَا قَالَ
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَذَكَرَ أَنَّ
قُدُومَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ كَانَ فِي إِثْرِ رَحِيلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَهْلِ
الطَّائِفِ وَعَنْ مَكَّةَ، وَأَنَّهُ لَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ
إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى
قَوْمِهِ بِالإِسْلامِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنهم قاتلوك» [1] .
ثم بعد أشهرٍ، قَدِم:
وَفْدُ ثَقِيف [2]
وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ
عَلْقَمَةَ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: كنّا في
__________
[1] تاريخ الطبري 3/ 96، سيرة ابن هشام 4/ 184.
[2] ثقيف: هم ثقيف بن منبه، بطن متسع من هوازن من العدنانية،
اشتهروا باسم أبيهم. وكان موطنهم بالطائف (معجم قبائل العرب 1/
148) .
(2/667)
الْوَفْدِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
فَضَرَبَ لَنَا قُبَّتَيْنِ عند دار المغيرة ابن شُعْبَةَ. قَالَ:
وَكَانَ بِلالٌ يَأْتِينَا بِفِطْرِنَا فَنَقُولُ: أَفْطَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُ:
نَعَمْ، مَا جِئْتُكُمْ حَتَّى أَفْطَرَ، فَيَضَعُ يَدَهُ
فَيَأْكُلُ وَنَأْكُلُ [1] . وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ
حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ
الثَّقَفِيِّ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْزَلَهُمْ فِي قُبَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ، لِيَكُونَ
أَرَقَّ لِقُلُوبِهِمْ. وَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ حِينَ أَسْلَمُوا
أَنْ لَا يُحْشَرُوا وَلَا يُعْشَرُوا وَلَا يُجَبُّوا [2] .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا
خَيْرَ فِي دِينٍ لَيْسَ فِيهِ رُكُوعٌ، وَلَكُمْ أَنْ لَا
تُحْشَرُوا وَلَا تُعْشَرُوا» [3] . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي
«السُّنَنِ» [4] : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ، نا
إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبٍ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ شَأْنِ
ثَقِيفٍ إِذْ بَايَعَتْ قَالَ: اشْتَرَطَتْ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لا صَدَقَةَ عَلَيْهَا
وَلا جِهَادَ، وَأَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: «سَيَتَصَدَّقُونَ
وَيُجَاهِدُونَ إِذَا أَسْلَمُوا» . وقال مُوسَى بْن عُقْبة، وعن
عُرْوَةُ بمعناه، قَالَ: فأسلم عُرْوَةُ بْن مَسْعُود، واستأذن
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرجع إلى قومه.
فقال: إنّي أخاف [122 أ] أَن يقتلوك قَالَ: لو وجدوني نائمًا ما
أيقظوني. فأذن لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فرجع إلى الطائف، وقدِم الطائف عَشِيًّا فجاءته ثقيف
فحيّوه، ودعاهم إلى الْإِسْلَام
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 185.
[2] أن لا يحشروا: من الحشر، وهو الخروج مع النفير، أي لا يندبون
إلى المغازي ولا تضرب عليهم البعوث. وقيل: لا يحشرون إلى عامل
الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم، بل يأخذها في أماكنهم. ولا يعشروا: من
التعشير، وهو أخذ عشر المال. ولا يجبّوا: من التجبية، وهي وضع
اليدين على الركبتين أو على الأرض، وهي هنا كناية عن الركوع
والسجود في الصلاة.
[3] أخرجه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء (3026) باب ما
جاء في خبر الطائف.
وأحمد في المسند 4/ 218.
[4] في كتاب الخراج والإمارة والفيء (3025) باب ما جاء في خبر
الطائف.
(2/668)
ونصح لهم، فاتَّهموه وعَصَوْه، وأَسْمعوه
من الأذى ما لم يكن يخشاهم عَلَيْهِ.
فخرجوا من عنده، حتّى إذا أسحر وطلع الفجر، قام عَلَى غرفةٍ [لَهُ]
[1] فِي داره فأذّن بالصلاة وتشهدّ، فرماه رَجُل من ثقيف بسهمٍ
فقتله.
فزعموا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ حين بلغه قَتْله: «مَثَلُ عُرْوَةُ مثل صاحب ياسين، دعا قومه
إلى الله فقتلوه» [2] . وأقبل- بعد قتله- من وفد ثقيف بضعةُ عشر
رجلًا هُمْ أشراف ثقيف، فيهم كِنَانة بْن عَبْد يالَيِل وهو رأسهم
يومئذٍ، وفيهم عثمان بْن أَبِي العاص بْن بِشْر، وهو أصغرهم.
حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ المدينة يريدون الصُّلْح، حين رأوا أنَّ قد فُتحت مكة
وأَسلمت عامّة العرب.
فقال المُغيرة بْن شُعْبَة: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْزِلُ عَلَى
قومي فأُكرِمهم، فإنّي حديث الجُرْم [3] فيهم. فقال: لَا أمنعك
أنَّ تكرم قومك، ولكن منزلك حيث يسمعون القرآن. وكان من جُرم [3]
المُغِيرة فِي قومه أَنه كَانَ أَجيرًا لثقيف، وأنهم أقبلوا من
مصر، حتّى إذا كانوا ببُصَاق [4] ، عدا عليهم وهم نِيَام فقتلهم،
ثمّ أقبل بأموالهم حتّى أَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رسول الله، خمِّس مالي هذا. فقال:
«وما نبأه» ؟ فأخبره، فقال: «إنّا لسنا نَغْدِر» . وأبى أنَّ
يخمّسه. وأَنزلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وفدَ ثقيف فِي المسجد، وبنى لهم خِيَامًا لكي يسمعوا القرآن ويروا
النّاس إذا صلّوا. وكأن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا خطب لم يَذْكُر نَفْسَه. فلمّا سمعه وفد ثقيف
قَالُوا: يأمرنا أنَّ نشهد أَنَّهُ رَسُول اللَّهِ، ولا يشهد بِهِ
فِي خُطبته. فلمّا بَلَغه ذَلِكَ قَالَ: فإني أول من شهد أنّي رسول
الله.
__________
[1] سقطت من الأصل، والمثبت من نسختي (ع) و (ح) .
[2] انظر: سيرة ابن هشام 4/ 184، المحبّر 105- 106، تاريخ الطبري
3/ 97.
[3] في الأصل: «الحزم» ، حزم في الموضعين. والتصحيح من ع، ح.
[4] بصاق: موضع قرب مكة، ويقال بساق (بالسين) . وقيل: جبل قرب أيلة
فيه نقب. (معجم البلدان 1/ 429) .
(2/669)
وكانوا يَغْدون عَلَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلَّ يومٍ، ويُخَلِّفون عثمان
بْن أَبِي العاص عَلَى رِحالهم. فكان عثمان، كلّما رجعوا وقالُوا
بالهاجرة، عمد إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فسأله عَنِ الدِّين واستقرأه القرآن، حتّى فَقِه فِي
الدّين وعَلِم.
وكان إذا وجد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نائمًا عمد إلى أَبِي بَكْر. وكان يكتم ذَلِكَ من أصحابه. فأَعْجَب
ذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعَجِب
منه وأحبّه.
فمكث الوفد يختلفون إِلَى رَسُول اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ] وهو يدعوهم إلى الْإِسْلَام، فأسلموا. فقال كِنانة بْن
عَبْد يا ليل: هَلْ أنت مُقاضِينا حتّى نرجع إلى قومنا؟
فقال: «نعم، إنْ أنتم أقررتم بالإسلام قاضَيْتُكم، وإلا فلا
قَضِيّة ولا صُلْح بيني وبينكم» . قَالُوا: أفرأيت الزِّنا، فإنّا
قوم نغترب لَا بُدّ لنا منه؟ قَالَ: «هُوَ عليكم حَرامٌ» . قالوا:
فالرّبا؟ قال: «لكم رءوس أموالكم» . قَالُوا: فالخمر؟
قَالَ: «حرام» . وتلا عليهم [122 ب] الآيات فِي تحريم هذه الأشياء.
فارتفع القوم وخلا بعضهم ببعض، فقالوا: وَيْحكم، إنّا نخاف- إنْ
خالفناه- يومًا كيوم مكة. انْطَلقوا نُكَاتِبه عَلَى ما سأَلَنا.
فأَتَوْه فقالوا: نعم، لَكَ ما سَأَلت.
أرأيت الرَّبَّة [1] ماذا نصنع فيها؟ قَالَ: «اهدموها» . قَالُوا:
هيهات، لو تعلم الربّة أنّك تريد هدمها قَتَلَتْ أهلها. فقال
عُمَر: ويحك يا بن عَبْد يَالِيل، ما أحمقك، إنّما الربّة حَجَر.
قالوا: إنّا لم نأتك يا بن الخطّاب. وقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، تَوَلَّ أنت هدمها، فأما نَحْنُ فإنّا لن نهدمها أبدًا.
قَالَ: «فسأبعث إليكم من يهدمها» . فكاتَبُوه وقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أمِّرْ علينا رجلًا يَؤُمّنا. فأمّر عليهم عثمان
لِما رَأَى من حِرْصه عَلَى الْإِسْلَام. وكان قد تعلَّم سُوَرًا
من القرآن. وقال ابن عبد يا ليل: أَنَا أَعلم النّاس بثقيف.
فاكْتُمُوهم الْإِسْلَام وخَوِّفُوهم الحربَ، وأَخْبِرُوا أنّ
محمدًا سَأَلَنا أمورًا أَبَيْناها.
__________
[1] الربّة: بيت اللات التي كانت تعبدها ثقيف، أو هي اللات ذاتها.
(2/670)
قَالَ: فخرجت ثقيف يتلقَّوْن الوفدَ. فلمّا
رأوهم قد ساروا العَنَق [1] ، وقَطَروا الإبل، وَتَغشَّوا ثيابهم،
كهيئة القوم قد حَزِنُوا وكُرِبُوا ولم يرجعوا بخير.
فلمّا رأت ثقيف ما فِي وجوههم قَالُوا: ما وفدُكم بخيرٍ ولا رجعوا
بِهِ. فدخل الوفد فعَمدوا [2] اللات فنزلوا عندها. والّلات بيت بين
ظهرَيْ الطائف يُسْتَر ويُهْدَى لَهُ الْهَدْيَ، كما يُهدى للكعبة.
فقال ناس من ثقيف حين نزل الوفد إليها: إنه لَا عَهْد لهم برؤيتها.
ثمّ رجع كل واحد إلى أهله، وجاء كل رَجُل منهم خاصَّتَه فسأَلوهم
فقالوا: أَتَيْنا رجلًا فَظًّا غليظًا يأخذ من أمره ما يشاء، قد
ظهر بالسيف وأَدَاخ العرب ودانت لَهُ النّاس. فعرض علينا أمورًا
شِدادًا: هَدْم الّلات، وتَرْك الأموال فِي الرِّبا إلّا فِي رءوس
أموالكم، وحَرَّم الخَمْر والزِّنا، فقالت ثقيف: والله لَا نقبل
هذا أبدًا. فقال الوفد: أَصْلحوا السلام وتهيّئوا للقتال ورمّوا
حصنكم. فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة يريدون القتال. ثمّ ألقى
اللَّه فِي قلوبهم الرُّعب، فقالوا: والله ما لنا بِهِ طاقة، وقد
أداخ العرب كلّها، فارجعوا إِلَيْهِ فأَعْطُوه ما سَأَلَ. فلمّا
رَأَى ذَلِكَ الوفد أنهم قد رَعَبوا قَالُوا: فإنّا قد قاضَيْناه
وفعلنا ووجدناه أتقى النّاس وأرحمهم وأصدقهم. قَالُوا: لِم
كَتَمْتُمُونا وغَمَمْتُمونا أشدّ الغمّ؟
قَالُوا: أردنا أنَّ ينزع اللَّه من قلوبكم نَخْوَة الشَّيطان.
فأسلموا مكانَهم.
ثمّ قدِم عليهم رسُلُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قد أمَّر عليهم خَالِد بْن الوليد، وفيهم المُغِيرة.
فلمّا قدِموا عمدوا للات ليهدموها، واسْتَكَفَّت ثقيف كلها، حتّى
خرج العَواتق [3] ، لَا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة. فقام المُغِيرة
فأخذ الكَرْزِينَ [4] وقال لأصحابه: والله لأُضْحِكَّنكم منهم.
فضرب بالكرزين، ثمّ
__________
[1] العنق: ضرب من السير فسيح سريع، للإبل والخيل.
[2] عمد الشيء يعمده، كعمد له وإليه: قصده.
[3] العواتق: جمع عاتق وهي الجارية أول ما أدركت أو التي لم تتزوج.
[4] الكرزين: فأس كبيرة لها حدّ ورأس واحد، أو نحو المطرقة.
(2/671)
[123 أ] سقط يَرْكُض. فارتَجّ أهُل الطائف
بصيحةٍ واحدةٍ، وقَالُوا: أَبْعَدَ اللَّه المُغِيرة، قد قتلته
الرَّبَّة. وفرحوا، وقَالُوا: من شاء منكم فليقتربْ وليجتهدْ على
هدمها، فو الله لَا يُستطاع أبدًا. فوثب المُغِيرة بْن شُعْبَة
فقال: قبّحكم اللَّه، إنما هِيَ لكاع حجارة ومَدر، فاقْبَلوا
عافِيَة اللَّه واعبدوه. ثمّ ضرب الباب فكسره، ثمّ عَلا عَلَى
سورها، وعلا الرجالُ معه، فهدموها. وجعل صاحب المَفْتَح [1]
يَقُولُ: ليَغْضَبَنَّ الأساسُ، فليخسفَنَّ بهم. فقال المُغِيرة
لخالد:
دعني أحفر أساسها. فحفره حتّى أخرجوا ترابها، وانتزعوا حِلْيَتَها،
وأخذوا ثيابها. فبهتت ثقيف، فقالت عجوزٌ منهم: أسلمها الرُّضَّاع
وتركوا المِصَاع [2] .
وأقبل الوفد حتّى أتوا النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بحليتها وكسوتها، فَقَسَمه.
وقال ابن إِسْحَاق: أقامت ثقيف، بعد قتل عُرْوَةُ بْن مَسْعُود،
أشهرًا.
ثمّ ذكر قدومَهم عَلَى النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وإسلامَهم. وذكر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث
أَبَا سُفْيَان بْن حرب والمغيرة يهدمان الطَّاغية [3] .
وقال سَعِيد بْن السَّائب، عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بن
عياض، عن عثمان ابن أَبِي العاص، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أنَّ يجعل مسجد الطائف حيثُ كانت
طاغيتهم.
رَوَاهُ أَبُو همّام مُحَمَّد بْن محبّب الدلّال، عن سعيد [4] .
__________
[1] المفتح: الخزانة أو المخزن حيث يوجد كنز الربة وحليتها
وثيابها. ويجوز أن يكون المفتح (بالكسر) أي المفتاح.
[2] الرضاع: كالرضّع، جمع راضع، وهو اللئيم الّذي رضع اللؤم من ثدي
أمه، يريد أنه ولد في اللؤم. والمصاع: الجلاد والضراب بالسيوف. وفي
هامش ح.: الرضاع الذين يرضعون إبلهم لئلا يسمع الفقراء صوت حلبهم،
وقيل يرضعون الناس أي يسألونهم. والمصاع الجلاد والضراب أي تركوا
القتال.
[3] سيرة ابن هشام 4/ 185، تاريخ الطبري 99- 100.
[4] رواه الطبراني في المعجم الكبير 9/ 39 رقم (8355) ، والحاكم في
المستدرك 3/ 618.
(2/672)
ولما فرغ ابن إِسْحَاق من شأن ثقيف، ذكر
بَعْدَ ذلك حجّة أَبِي بَكْر الصدّيق بالناس [1] .
__________
[1] انظر سيرة ابن هشام 4/ 186.
(2/673)
السنة العاشرة
ثمّ قَالَ ابن إِسْحَاق [1] :
ولمّا فتح اللَّه عَلَى نبيّه مكّة، وفَرَغ من تبوك، وأسلمتْ ثقيف،
ضَرَبتْ إِلَيْهِ وُفودُ العرب من كلّ وَجْهٍ. وإنما كانت العرب
تَرَبَّصُ بالإسلام أَمْرَ هذا الحيّ من قريش، وأَمْرَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذلك أنّ قريشًا كانوا
إِمامَ النّاس.
[وفد بني تَمِيم]
قَالَ: فقدم عُطَارِد بْن حَاجِب فِي وفدٍ عظيمٍ من بني تميم [2] ،
منهم الأَقْرَع بْن حَابِس، والزِّبْرِقَان بْن بَدْر، ومعهم
عُيَيْنة بْن حِصْن. فلمّا دخلوا المسجد. نادوا رَسُول اللَّهِ من
وراء حُجُراته: اخرجْ إلينا يا مُحَمَّد، جئناك نفاخرك، فائذنْ
لشاعرنا وخطيبنا. قَالَ: قد أَذِنْتُ لخطيبكم، فلْيَقُمْ. فقام
عُطارد، فقال:
الحمد للَّه الَّذِي لَهُ علينا الفضلُ وَالْمَنُّ، وهو أهله،
الّذي جعلنا ملوكا،
__________
[1] في سيرة ابن هشام 4/ 194.
[2] بنو تميم بن مر: قبيلة عظيمة من العدنانية تنتسب إلى تميم بن
مرّ بْنِ أَدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَر بن نِزار
بن مَعَدّ بن عدنان. كانت منازلهم بأرض نجد. (معجم قبائل العرب 1/
126) .
(2/675)
ووهب [لنا] [1] أموالا عظاما نفعل فيها
المعروف، وجعلنا أعزَّ أهُل المَشْرق، وأكثرَهُ عَدَدًا، وأَيْسره
عُدّةً. فَمنْ مثْلُنا فِي الناس؟ ألسنا برءوس النّاس وَأُولِي
فضلهم؟ فمن فاخَرَنا فَلْيَعْدُدْ مثل ما عَدَدْنا، وإنّا لو
نَشَأْ لأَكْثَرْنا الكلام، ولكنْ نَسْتَحي من الإِكْثار. أقول هذا
لأَنْ تَأتوا بمثل قولنا، وأمرٍ أفضل من أمرنا.
ثم جلس. فقال رسول [123 ب] اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لثَابِت بْن قَيْس بْن الشَّمَّاس الخَزْرَجِيّ: قُمْ
فأَجِبْهُ. فقام، فقال:
الحمد للَّه الَّذِي السماواتُ والأرضُ خَلْقُه، قضى فيهنَّ
أَمْره، ووَسع كُرْسِيُّه عِلْمه، ولم يكن شيء قطّ إلّا من فضله.
ثمّ كَانَ من فضله أنَّ جعلنا ملوكًا، واصْطَفى من خير خلقه
رسولًا، أَكْرَمه نسبًا، وأصدقه حديثًا، وأفضله حَسَبًا، فأنزل
عَلَيْهِ كتابه، وائْتَمَنه عَلَى خَلْقه، فكان خِيَرَةَ اللَّه من
العالمين، ثمّ دعا النّاس إلى الْإِيمَان فآمن بِهِ المهاجرون من
قومه وَذَوِي رَحِمه، أكرم النّاس أَحْسابًا، وأحسن النّاس وجوهًا،
وخير النّاس فَعالًا، ثمّ كَانَ أول الخلق استجابةً إذْ دَعَاهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نحن فنحنُ
الأنصار، أنصارُ اللَّه ووزراءُ رسوله، نقاتل النّاس حتّى يؤمنوا
باللَّه ورسوله. فمَنْ آمَنَ مَنَع مالَهُ ودَمَهُ، ومن كفر
جاهدناهُ فِي اللَّه أبدًا، وكان قَتْلُه علينا يسيرًا. أقول
قَوْلِي هذا وأستغفر اللَّه للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.
فقام الزِّبْرِقانُ بْن بدر، فقال:
نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيٌّ يُعَادِلُنا ... مِنّا الْمُلُوكُ
وفينا تُنْصَب البيَعُ
وكَمْ قَسَرْنا من الأحياءِ كُلِّهُم ... عِنْدَ النِّهابِ،
وفَضْلُ الْعِزِّ يُتَّبَع
ونَحْنُ نُطْعِم عند القحط مطعمنا ... من الشِّواء إذا لم يُؤْنَسِ
القَزَع
بما تَرَى النَّاسَ تَأْتِيَنا سَرَاتُهمُ ... من كلّ أرضٍ هويّا
ثم نصطنع
__________
[1] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح.
(2/676)
فِي أبياتٍ [1] .
فقال النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ يا
حَسَّانُ، فأَجِبْهُ. فقال حسّان [2] :
إنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وإِخْوَتهمْ ... قَدْ بَيَّنُوا
سُنَّةً لِلنَّاسِ [3] تُتَّبَعُ
يَرْضَى بها كلُّ مَنْ كانتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الإلهِ وكلَّ
الخير يصطنِع
قَوْمٌ إذا حَارَبوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ ... أوْ حَاوَلُوا فِي
أشْيَاعِهم نَفَعوا
سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُم غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إنّ الخلائقَ،
فاعْلَمْ، شرُّها البِدَع
فِي أبيات [4] .
فقال الأقرع بْن حابس: وَأَبي، إنّ هذا الرجل لَمُؤَتًّى لَهُ
إِنَّ خطيبه أفْصَحُ من خطيبنا، ولَشاعره أَشْعَرُ من شاعرنا.
قَالَ: فلما فرغ القوم أسلموا، وأحسن النّبيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوائزهم. وفيهم نزلت: إِنَّ الَّذِينَ
يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
49: 4 [5] [6] . وَقَالَ سُلَيْمَان بْن حَرْب، ثنا حَمَّادُ بْن
زيد، عَنْ مُحَمَّد بْن الزُّبير الحَنْظَليّ، قَالَ:
قدِم عَلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
الزِّبْرِقان بْن بدر، وقَيْس بْن عاصم، وعَمْرو بْن الأهْتَم.
فقال لعمرو بْن الأهتم: أخبرني عَنْ هذا الزِّبْرقَان، فأمّا هَذَا
فلستُ أسألك عَنْهُ. قَالَ: وأُراه قَالَ قد عرف قَيْسًا. فقال:
مطاع في أدنيه [7] ، شديد
__________
[1] انظر بقيتها في سيرة ابن هشام 4/ 204، وتاريخ الطبري 3/ 117.
[2] ديوانه: ص 248 البرقوقي، 238 د. حنفي.
[3] في الأصل «سنة الله» . والتصويب من ع، ح.
[4] انظر بقيّتها في سيرة ابن هشام 4/ 205 وتاريخ الطبري 3/ 118.
[5] سورة الحجرات، الآية 4.
[6] حتى هنا تنتهي رواية ابن إسحاق التي ينقلها المؤلّف من سيرة
ابن هشام 4/ 203- 206، وتاريخ الطبري 3/ 116- 119، وانظر: طبقات
ابن سعد 1/ 294.
[7] رسمت في النسخ الثلاث بغير إعجام. وهي في ابن الملا: «مطاع في
قومه» وأثبتنا عبارة الروض الأنف (4/ 223) .
(2/677)
العارضة، مانع لما وراء ظهره. فقال
الزِّبْرقان: قد قَالَ ما قَالَ وهو يعلم أنّي أفضل مما قَالَ.
فقال عمرو: ما علمتك [1] إلّا زمر المروءة [2] ضيّق العطن، أحمق
الأرب، لئيم الخال.
ثم [124 أ] قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قد صَدَقْتُ فيهما جميعًا،
أرضاني فقلتُ بأحسن ما أعلم، وأسخطني فقلت بأسْوَأ ما فِيهِ.
فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ
من البيان سِحْرًا» [3] .
وقد روى نَحوه عليُّ بْن حرب الطائيّ، عَنْ أَبِي سعيدٍ الهيثم بْن
محفوظ، عَنْ أَبِي المُقَوّم الْأَنْصَارِيّ يَحْيَى بْن زيد، عَنِ
الحَكَم بْن عُيَيْنة، عَنْ مِقْسم، عَنِ ابن عَبَّاس، متّصلًا.
وفد بني عامر]
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثنا الأَسْوَدُ بْنُ
شَيْبَانَ، ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ ثُمَامَةَ بْنِ النُّعْمَانِ
الرّابسيّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ،
قال: وفد أبي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ [4] إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَذُو
الطَّوْلِ عَلَيْنَا. فَقَالَ: «مَهْ مَهْ، قُولُوا بِقَوْلِكُمْ
وَلا يَسْتَجْرِئَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، السَّيِّدُ اللَّهُ،
السَّيِّدُ اللَّهُ» [5] . وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ:
حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
مُؤَمَّلَةَ، عَنْ أَبِيهَا، عَنْ جَدِّهَا مُؤَمَّلَةَ بْنِ
جَمِيلٍ، قَالَ: أَتَى عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا عامر، أسلم. قال:
أسلم
__________
[1] في الأصل: «وما عليك» . والتصحيح من ع، ح.
[2] زمر المروءة: قليلها.
[3] انظر الروض الأنف 4/ 223- 224.
[4] بنو عامر بن صعصعة: بطن من هوازن، من قيس بن عيلان، من
العدنانية، كانت منازلهم بنجد، ثم نزلوا ناحية من الطائف (معجم
قبائل العرب 2/ 708) .
[5] أخرج الإمام أحمد نحوه في المسند من طرق مختلفة. انظر ج 4/
254.
(2/678)
عَلَى أَنَّ الْوَبَرَ لِي وَالْمَدَرَ
لَكَ [1] . قَالَ: يا عامر أسلم. فأعاد قوله. قال: لا.
فَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، لأَمْلأَنَّهَا عَلَيْكَ
خَيْلا جُرْدًا وَرِجَالا مُرْدًا، وَلأَرْبِطَنَّ بِكُلِّ
نَخْلَةٍ فَرَسًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «اللَّهمّ اكْفِنِي عَامِرًا واهْدِ قَوْمَه» .
فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ صَادَفَ
امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا سَلُولِيَّةُ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ
وَنَامَ فِي بَيْتِهَا، فَأَخَذَتْهُ غُدَّةٌ فِي حَلْقِهِ،
فَوَثَبَ عَلَى فَرَسِهِ، وَأَخَذَ رُمْحَهُ، وَأَقْبَلَ يَجُولُ،
وَيَقُولُ: غُدَّةُ كغدّة الْبَكْرِ، وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ
سَلُولِيَّةَ. فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ حَالَهُ حَتَّى سَقَطَ
مَيِّتًا [2] .
وقال ابن إِسْحَاق [3] :
قدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدُ
بني عامر، فيهم: عامر بْن الطُّفَيْلِ. وأَرْبَد ابن قيس، وخالد
بْن جَعْفَر، وحيّان بْن سَلَم، وكانوا رؤساء القوم وشياطينهم.
فقدِم عامرُ عدوّ اللَّه عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ أنَّ يَغْدِر بِهِ. فقال لَهُ
قومه:
إنّ النّاس قد أسلموا. فقال: قد كنت آليْتُ أنَّ لَا أَنْتَهي حتّى
تَتْبَع العربُ عَقِبي، فأنا أتبعُ عَقِبَ هذا الفتى من قريش؟ ثم
قال لأربد: إذ قدِمنا عَلَيْهِ فإنّي شاغلٌ عنك وَجْهه، فإذا فعلتُ
ذَلِكَ فاعْلُهُ بالسيف.
فلمّا قدِموا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال عامر: يا مُحَمَّد، خَالِّني [4] . فقال:
لَا والله، حتّى تؤمن باللَّه وحده، فقال: والله لأملأنّها عليك
خَيْلًا، ورِجَالًا.
فلمّا ولّى قَالَ: «اللَّهمّ اكْفِني عامرًا» . ثمّ قَالَ لأَربَد:
أَيْنَ ما أمرتُكَ بِهِ؟ قَالَ:
لَا أَبَا لَكَ، والله ما هممتُ بالذي أمرتني بِهِ من مرّةٍ إلّا
دخلت بيني وبينه،
__________
[1] الوبر: وبر الإبل كنى به عن البوادي لأن بيوتهم يتخذونها منه.
والمدر: قطع الطين اليابس، ويعني به المدن أو الحضر.
[2] انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/ 252 ومجمع الأمثال
للميداني 2/ 3، وفصل المقال للمامقاني 298، وإمتاع الأسماع
للمقريزي 507، وعيون الأثر لابن سيد الناس 2/ 232، وسيرة ابن هشام
4/ 207.
[3] الخبر في سيرة ابن هشام 4/ 206- 207.
[4] خالّه وخالله: اتخذه خليلا.
(2/679)
أَفَأَضْرِبُكَ بالسَّيف؟ فبعث اللَّه ببعض
الطريق عَلَى عامر الطَّاعُون فِي عُنُقه، فقتله اللَّه فِي بيت
امرأةٍ من سلول. وأما الآخر فأرسل اللَّه تعالى عَلَيْهِ وعلى
جَمَله صاعقةً أَحْرَقَتْهما.
وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ، بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ، قَالَ: كَانَ رئيس المشركين عامر بن
الطفيل، وكان أتى رسول الله صلى الله [124 ب] عليه وسلم فقال:
أخيرك بين ثلاث خصال، فَيَكُونَ لَكَ أَهْلُ السَّهْلَ وَيَكُونَ
لِي أَهْلُ الْمَدَرِ، أَوْ أَكُونَ خَلِيفَتَكَ مِنْ بَعْدِكَ،
أَوْ أَغْزُوَكَ بِغَطَفَانَ بِأَلْفِ أَشْقَرَ وَأَلْفِ
شَقْرَاءَ.
قَالَ: فَطُعِنَ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ. فَقَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ
الْبَكْرِ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي فُلانٍ، ائْتُونِي
بِفَرَسِي. فَرَكِبَ فَمَاتَ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ. أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ [1] .
[وَافِدُ بني سَعْدٍ]
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [2] ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ،
عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ
بَكْرٍ [3] ، ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ جَلْدًا أشعر
غدا غَدِيرَتَيْنِ، فَأَقْبَلَ حَتَّى [4] وَقَفَ فَقَالَ:
أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ:
أَنْتَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ
وَمُغَلِّظٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلا تَجِدَنَّ فِي
نَفْسِكَ. أَنْشُدُكَ الله إلهك وإله من
__________
[1] في كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة
وحديث عضل، والقارة إلخ.
(5/ 40) .
[2] الخبر في سيرة هشام 4/ 209، وتاريخ الطبري 3/ 124- 125 وانظر
طبقات ابن سعد 1/ 299.
[3] بنو سعد بن بكر: بطن من هوازن، من قيس بن عيلان، من العدنانية،
وهم حضنة النبي صلى الله عليه وسلم (معجم قبائل العرب 2/ 513) ،
وإليهم تنسب السيدة حليمة السعدية.
[4] في الأصل: «حين» . والتصحيح من ع، ح.
(2/680)
قَبْلِكَ وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ
بَعْدَكَ، اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْمُرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ
وَحْدَهُ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ
الأَنْدَادَ؟ قَالَ: «اللَّهمّ نَعَمْ» . قَالَ: فَأَنْشُدُكَ
اللَّهَ إِلَهَكَ وَإِلَهَ مَنْ قَبْلِكَ وَإِلَهَ مَنْ هُوَ
كَائِنٌ بَعْدَكَ، اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ هَذِهِ
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . ثُمَّ جَعَلَ يَذْكُرُ
فَرَائِضَ الإِسْلامِ يَنْشُدُهُ عَنْ كُلِّ فَرِيضَةٍ.
ثُمَّ قَالَ: فإني أشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَسَأُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ،
وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ، ثُمَّ لا أَزِيدُ وَلا
أَنْقُصُ.
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَعِيرِهِ رَاجِعًا، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ صَدَق ذُو
العَقِيصَتَيْن دَخَلَ الجنةَ. فَقَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ
فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَكَانَ أَوَّل مَا تكلّم به أن قال: بئست
اللاتِ وَالْعُزَّى. قَالُوا: مَهْ يَا ضِمَامُ، اتَّقِ الْبَرَصَ،
اتَّقِ الْجُنُونَ. قَالَ: وَيْلَكُمْ، إِنَّهُمَا وَاللَّهِ لا
يضرّان ولا ينفعان. إنّ الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا
استنقذكم به مما كنتم فيه، وإنّي أشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلا
اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسول، وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ
عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وما نهاكم عنه.
قال: فو الله مَا أَمْسَى ذَلِكَ الْيَوْمَ وَفِي حَاضِرِهِ [1]
رَجُلٌ وَلا امْرَأَةٌ إِلا مُسْلِمًا.
قَالَ: يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ
كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامٍ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ الْمَرْوَزِيُّ:
حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عُمَيْرٍ، ثنا أَبِي،
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ
بِرَبِّ مَنْ قَبْلِكَ وَرَبِّ مَنْ بَعْدِكَ، اللَّهُ أَرْسَلَكَ؟
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَإِنِّي قَدْ آمَنْتُ وَصَدَّقْتُ،
وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقِهَ الرَّجُلُ» .
قال: فكان
__________
[1] الحاضر: الحيّ العظيم.
(2/681)
عُمَرُ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا
أَحْسَنَ مَسْأَلَةً ولا أوجز من ضمام من ثَعْلَبَةَ. الْحَارِثُ
بْنُ عُمَيْرٍ ضَعِيفٌ [1] . وقصّة ضمام فِي الصَّحيحيْن من حديث
أَنَس [2] .
[الجَارُود بْن عَمْرو]
قَالَ ابن إِسْحَاق [3] :
وفد عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الجارود [125 أ] بْن [عَمْرو] [4] أخو بني عَبْد القَيْس [5] .
قَالَ عَبْد الملك بْن هشام [6] : وكان نَصْرانِيًّا، فدعاه
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْإِسْلَام. فقال: يا مُحَمَّد، تَضْمن لي ديني؟ قَالَ: «نعم، قد
هداك اللَّه إلى ما هُوَ خيرٌ منه» . قَالَ: فأسلم، وأسلم أصحابه.
[وفدُ بَني حَنِيفَة]
قَالَ ابن إِسْحَاق [7] : وقدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد بني حنيفة [8] ، فيهم مُسَيْلمَة
بْن حُبَيْب
__________
[1] انظر عنه: التاريخ الصغير 147، التاريخ لابن معين 2/ 94،
المجروحين لابن حبّان 1/ 223، المغني في الضعفاء 1/ 421- 143 رقم
1245، الكاشف 1/ 139 رقم 877، ميزان الاعتدال 1/ 440 رقم 1638،
تهذيب التهذيب 2/ 153 رقم 261.
[2] أخرجه البخاري في كتاب العلم (1/ 23) باب القراءة والعرض على
المحدّث، ومسلم في كتاب الإيمان (23/ 17) باب الأمر بالإيمان
باللَّه تعالى ورسوله وشرائع الدين.
[3] الخبر في سيرة ابن هشام 4/ 210، وتاريخ الطبري 3/ 36.
[4] سقطت من الأصل، والمثبت من: (ع) و (ح) وسيرة ابن هشام.
[5] بنو عبد القيس بن أفصى، وهم قبيلة عظيمة من العدنانية كانت
مواطنهم تهامة. (معجم القبائل 2/ 726) .
[6] السيرة 4/ 410.
[7] الخبر في السيرة ابن هشام 4/ 210 وتاريخ الطبري 3/ 137، وانظر
طبقات ابن سعد 1/ 316.
[8] بنو حنيفة بن لجيم، من بكر بن وائل من العدنانية، كانت تقطن
اليمامة (معجم قبائل العرب 1/ 312) .
(2/682)
الكَذَّاب، فكان مَنْزَلهم [1] فِي دار
بِنْت الحارث الأنصارية. فحدّثني بعض علمائنا أنّ بني حَنِيفَة
أَتَتْ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَسْتُرُه بالثّياب، ورسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جالسٌ مَعَ أصحابه معه عَسِيبُ نخلٍ فِي رأسه خُوصاتٌ.
فلمّا كَلَّم النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«لو سألتني هذا العَسيبَ ما أعطيتُكَهُ» . قَالَ ابن إِسْحَاق [2]
: وحدّثني شيخٌ من أهُل اليمامة أنّ حديثه كَانَ عَلَى غيرَ هذا،
زَعَم أنّ وفد بني حنيفة أَتَوْا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلَّفوا مُسَيْلِمَة فِي رحَالِهم، فلمّا
أسلموا ذكروا لَهُ مكانه فأمر لَهُ رَسُول الله صلى اللَّهِ بمثل
ما أمر بِهِ لهم، وقال: «أمَا إنه ليس بأشرِّكم مكانًا، يعني
حِفْظَهُ ضيعة [3] أصحابه. ثم انصرفوا وجاءوه بالذي أعطاه. فلمّا
قدِموا اليمامة ارْتَدَّ عَدُوُّ اللَّه وتَنَبَّأَ، وقال: إنّي
أُشْرِكتُ فِي الأمر مَعَ مُحَمَّد، ألم يقل لكم حين ذكرتموني لَهُ
أما إنه ليس بأشرِّكم مكَانًا؟ وما ذَلِكَ إلّا لِما يعلم أنّي قد
أُشركت معه. ثمّ جعل يَسْجَع السَّجعات فيقول لهم فيما يَقُولُ
مُضاهاةً للقرآن: لقد أنعم اللَّه عَلَى الْحُبُلِىِّ، أخرج منها
نَسَمةً تَسْعَى، من بين صِفاقٍ [4] وحَشى. ووضع عَنْهُمْ الصلاة
وأحلّ لهم الزِّنا والخمر. وهو مَعَ ذَلِكَ يشهد لرَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نبيّ. فأَصْفَقَتْ [5]
معه بنو حَنِيفة عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، ثنا نَافِعُ بْنُ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ مُسَيْلَمَةُ
الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يقول:
__________
[1] في النسخ الثلاث: منزلتهم. وأثبتنا نص ابن هشام. والمنزل:
النزول.
[2] السيرة 4/ 210، تاريخ الطبري 3/ 137- 138.
[3] في الأصل: «صنعة» ، والتصحيح من ع، ح.
[4] الصفاق: الجلد الأسفل تحت الجلد الّذي عليه الشعر، أو ما بين
الجلد والمصران، أو جلد البطن كله.
[5] أصفقت: أجمعت.
(2/683)
إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الأَمْرَ مِنْ
بَعْدُ اتَّبَعْتُهُ. وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ
قَوْمِهِ. فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَفِي يَدِ
النّبيّ قِطْعَةُ جَرِيدٍ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلَمَةَ فِي
أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: «إِنْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا
أعطيتكها.
ولن تعدو أمر الله فيك [1] ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ
اللَّهُ. وَإِنِّي أُرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا رَأَيْتُ،
وَهَذَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ يُجِيبُكَ عَنِّي» . ثُمَّ انْصَرَفَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَأَلْتُ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا
رَأَيْتُ» ، فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بينا أَنَا نَائِمٌ
رَأَيْتَ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَأَهَمَّنِي
شَأْنُهُمَا، فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ أَنِ انْفُخْهُمَا،
فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ
يَخْرُجَانِ مَنْ بَعْدِي» . قَالَ: فَهَذَا أَحَدُهُمَا
الْعَنْسِيُّ صَاحِبُ [125 ب] صَنْعَاءَ، وَالْآخَرُ مُسْيَلِمَةُ
صَاحِبُ الْيَمَامَةِ، أَخْرَجَاهُ [2] . وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ
هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أُتِيتُ
بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَوُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ [3] مِنْ
ذَهَبٍ، فَكَبُرَا عَلَيَّ وَأَهَمَّانِي، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ
أُنْفُخَهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا، فَذَهَبَ، فَأَوَّلْتُهُمَا
الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا، صَاحِبَ صَنْعَاءَ
وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [4] . وقال (خ) :
ثنا الصّلت بْن مُحَمَّد، نا مهديّ بْن ميمون، سمع أبا رجاء،
__________
[1] في الأصل، تقرأ قبل أو قتل. والتصحيح من ع، ح.
[2] أخرجه البخاري في كتاب المناقب (4/ 182) باب علامات النبوّة في
الإسلام، وفي كتاب المغازي (5/ 119) باب قصّة الأسود العنسيّ، وفي
كتاب التوحيد (8/ 189) باب قول الله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. 16:
40 ومسلم في كتاب الرؤيا (21/ 2273) باب رؤيا النّبي صلى الله عليه
وسلم.
[3] في الأصل «سوارين» ، والتصحيح من (ع) و (ح) .
[4] أخرجه البخاري في المناقب (4/ 182) باب علامات النبوّة في
الإسلام، وفي المغازي (5/ 120) باب قصة الأسود العنسيّ، وفي
التعبير (8/ 81- 82) باب النفخ في المنام، ومسلم في الرؤيا (2273 و
2274) باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم. والترمذي في كتاب الرؤيا
(2394) باب ما جاء في رؤيا النبيّ صلى الله عليه وسلم في الميزان
والدّلو. وأحمد في المسند 2/ 319.
(2/684)
هُوَ العُطَارِدِيّ، يَقُولُ: لَمَّا بُعث
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعنا بِهِ، لحِقنا
بمسيلمة الكذّاب، لحقنا بالنار، وكنّا نعبد الحجَر فِي الجاهلية.
وإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من ترابٍ ثمّ حَلَبْنا عليها
[كُثْبَة] [1] اللَّبَن، ثمّ نطوف بِهِ.
وَقَالَ إسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد، عَنْ قيس بْن أَبِي حازم،
قَالَ:
جَاءَ رجلٌ إِلَى ابْن مَسْعُود فَقَالَ: إنّي مررت ببعض مساجد بني
حنيفة وهم يقرءون قراءةً ما أنزلها اللَّه: الطَّاحِنات طَحْنًا،
والعاجنات عَجْنًا، والخابزات خَبْزًا، والثَّاردات ثَرْدًا،
واللاقمات لَقْمًا. فأرسل إليهم عَبْد اللَّه فأتى بهم، وهم سبعون
رجلًا ورَأسُهم عَبْد اللَّه بْن النَّوَّاحَة. قَالَ: فأمَر بِهِ
عَبْد اللَّه فقُتل. ثمّ قَالَ: ما كنّا بمُحْرِزِين [2]
الشَّيْطان من هَؤُلَاءِ، ولكنّا نَحْدُرهم إلى الشّأْم لعلّ
اللَّه أنَّ يَكْفِيَنَاهُمْ.
وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَ ابْنُ النَّوَّاحَةِ وَابْنُ أُثَالٍ
رَسُولَيْنِ لِمُسَيْلَمَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟»
فَقَالَ: نَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلَمَةَ رَسُولُ الله. فقال: «آمنت
باللَّه ورسوله، وَلَوْ كُنْتُ قَاتِلا رَسُولا لَقَتَلْتُكُمَا» .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فمَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الرُّسُلَ لا
تُقتَلُ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَمَّا ابْنُ أُثَالٍ فَقَدْ كَفَانَا
اللَّهُ، وَأَمَّا ابْنُ النَّوَّاحَةِ فَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِي
حَتَّى أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
الطَّيَالِسِيُّ فِي «مُسْنَدِهِ» ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ. وَلَهُ
شَاهِدٌ [3] .
قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ [4] حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ
طَارِقٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
__________
[1] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح. والكثبة، القليل المجتمع من
الماء أو اللبن.
[2] في الأصل: «بمحرور» . والتصحيح من ع، ح.
[3] منحة المعبود: كتاب الجهاد، باب جواز الخداع في الحرب والنهي
عن المثلة إلخ (1/ 238) ورواه الدارميّ في التفسير (59) .
[4] الخبر في سيرة ابن هشام 4/ 220- 221، وتاريخ الطبري 3/ 146.
(2/685)
نعيم بن معسود، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَهُ
رَسُولَا مُسَيْلَمَةَ الْكَذَّابِ بِكِتَابِهِ [1] يَقُولُ
لَهُمَا: وَأَنْتُمَا تَقُولَانِ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ؟ قَالَا:
نَعَمْ. فَقَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا
تُقْتَلُ لَضَربْتُ أَعْنَاقَكُمَا» . وقال ابن إِسْحَاق [2] : وقد
كَانَ مسيلمة كتب إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي آخر سنة عَشْرٍ:
من مسيلمة رَسُول اللَّهِ إلى مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ. سلام عليك،
أما بعد، فإنّي قد أُشركت فِي الأمر معك، وإنّ لنا نِصْفَ الأرض،
ولكنّ قريشًا قوم يعتدون.
فكتب إِلَيْهِ: «من مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ إلى مسيلمة الكذّاب.
سلام عَلَى من اتَّبع الْهُدَى، أما بعدُ، فإنّ الأرض للَّه
يُورثها من يشاء من عباده، والعاقبة [126 أ] للمتّقين» .
[وفد طيِّئ]
ثم قدم وفد طيِّئ [3] ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيهم زَيْد الخيل سيّدهم.
فأسلموا، وسمّاه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
زيد الخَيْر، وقطع لَهُ فَيْد [4] وأَرَضِين، وخرج راجعًا إلى
قومه.
فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ
يَنْجُ زيدٌ من حُمَّى المدينة» . فإنّه يقال قد
__________
[1] في الأصل: «الكتابة» . والتصحيح من ع، ح.
[2] الخبر في سيرة ابن هشام 4/ 220- 221، وتاريخ الطبري 4/ 146.
[3] طيِّئ بن أدد وهم قبيلة عظيمة من كهلان من القحطانية، كانت
منازلهم باليمن فخرجوا منه على أثر خروج الأزد منه ونزلوا سميراء
وفيد في جوار بني أسد ثم غلبوهم على أجأ وسلمى (معجم قبائل العرب
2/ 689) .
[4] في الأصل: «فند» ، والتصحيح من ع، ح. وفيه ناحية بشرقي سلمى
أحد جبلي طيِّئ.
(2/686)
سمّاها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسمٍ غيرَ الحمّى، فلم نُثْبِتْه. فلمّا انتهى
من بلد نجد إلى ماء من مياهه، يقال لَهُ فَرْدَة، أصابته الحمّى
فمات بها. قَالَ: فعمدت امرأته إلى ما معه من كتب فحرّقَتها [1] .
[قدوم عديّ بْن حاتم]
قَالَ شُعْبَةُ [2] : ثنا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، سَمِعْتُ عَبَّادَ
بْنَ حُبَيْشٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ:
جَاءَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَنَا بِعَقْرَبٍ [3] ، فَأَخَذُوا عَمَّتِي وَنَاسًا. فَلَمَّا
أَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
غَابَ الْوَافِدُ، وَانْقَطَعَ الْوَالِدُ، وَأَنَا عَجُوزٌ
كَبِيرَةٌ، فَمُنَّ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ. قَالَ: «مَنْ
وَافِدُكِ؟» قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ. قَالَ: «الَّذِي فَرَّ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟» قَالَتْ: فَمُنَّ عَلَيَّ. وَرَجُلٌ
إِلَى جَنْبِهِ تَرَاهُ عَلِيًّا، فَقَالَ: سَلِيهِ حُمْلَانًا.
فَسَأَلَتْهُ. فَأَمَرَ لَهَا بِهِ.
قَالَ [عَدِيٌّ] [4] : فَأَتَتْنِي، فَقَالَتْ: لَقَدْ فَعَلْتَ
فَعْلةً ما كان أبوك يفعلها.
ايته رَاغِبًا أَوْ رَاهِبًا. فَقَدْ أَتَاهُ فُلَانٌ فَأَصَابَ
مِنْهُ، وَأَتَاهُ فُلَانٌ فَأَصَابَ مِنْهُ.
قَالَ عَدِيٌّ: فَأتَيْتُهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ امْرَأَةٌ
وَصَبِيَّانِ، أَوْ صَبِيٌّ، فَذَكَرَ قُرْبَهُمْ مِنَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَعَرَفْتُ. أَنَّهُ
لَيْسَ مُلْكَ كِسْرَى وَلَا قَيْصَرَ، فَأَسْلَمْتُ. فَرَأَيْتُ
وَجْهَهُ قَدِ اسْتَبْشَرَ [5] ، وَقَالَ: «إِنَّ الْمَغْضُوبَ
عَلَيْهِمْ الْيَهُودُ، وَالضَّالِّينَ النَّصَارَى» . وذكر باقي
الحديث [6] .
__________
[1] الخبر في سيرة ابن هشام 4/ 211، وتاريخ الطبري 3/ 145، وطبقات
ابن سعد 1/ 321.
[2] في الأصل «سعيه» . والتصحيح من ع، ح.
[3] عقرب: أطم بالمدينة، وهو الأطم الأسود الصغير الّذي في شامي
الرحابة في الحرّة، كان لآل عاصم بن عامر بن عطية (المغانم المطابة
266) .
[4] ليست في الأصل، وزدناها من ع، ح.
[5] حتى هنا الخبر في تاريخ الطبري 3/ 112 وانظر سيرة ابن هشام 4/
212.
[6] بقيّته في مسند الإمام أحمد (4/ 378- 379) .
(2/687)
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ
أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ
حُذَيْفَةَ، قَالَ رَجُلٌ: كُنْتُ أَسْأَلُ عَنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ
وَهُوَ إِلَى جَنْبِي لا أَسْأَلُهُ.
فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَرِهْتُهُ أَشَدَّ مَا كَرِهْتُ شَيْئًا
قَطُّ. فَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْصَى أَرْضِ الْعَرَبِ مِمَّا يَلِي
الرُّومَ. ثُمَّ كَرِهْتُ مَكَانِي فَقُلْتُ: لَوْ أَتَيْتُهُ
وَسَمِعْتُ مِنْهُ. فَأَتَيْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ،
فَاسْتَبْشَرُوا، أَيِ النَّاسَ، وَقَالُوا: جَاءَ عَدِيُّ بْنُ
حَاتِمٍ، جَاءَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ. فَقَالَ: يَا عَدِيَّ بْنَ
حَاتِمٍ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ. فَقُلْتُ:
إِنِّي عَلَى دِينٍ. قَالَ: «أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ،
أَلَسْتَ رَكُوسِيًّا؟» [1] قُلْتُ: بَلَى.
قَالَ: «أَلَسْتَ تَرْأَسُ قَوْمَكَ؟» قُلْتُ: بَلَى. قَالَ:
«أَلَسْتَ تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ؟» [2] قُلْتُ: بَلَى. قَالَ،
«فَإِنَّ ذَلِكَ لا يَحِلُّ فِي دِينِك» . قَالَ: فَوَجَدْتُ بِهَا
عَلَيَّ غَضَاضَةً. ثُمَّ قَالَ: «إِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ
يَمْنَعَكَ أَنْ تُسْلِمَ أَنْ تَرَى بِمَنْ عِنْدَنَا خَصَاصَةً،
وَتَرَى النَّاسَ عَلَيْنَا إِلْبًا وَاحِدًا. «هَلْ رَأَيْتَ
الْحِيرَةَ؟» [3] قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ عَلِمْتُ
مَكَانَهَا. قَالَ: «فَإِنَّ الظَّعِينَةَ سَتَرْحَلُ مِنَ
الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِغَيْرِ جِوَارٍ،
وَلَتُفْتَحَنَّ عَلَيْنَا كُنُوزُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ» .
قُلْتُ: كُنُوزُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ؟
قَالَ: «نَعَمْ، وَلَيَفِيضَنَّ الْمَالُ حَتَّى يُهِمَّ الرَّجُلُ
مَنْ يَقْبَلُ مَالَهُ منه صدقة» . قال:
[126 ب] فَلَقَدْ رَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْحَلُ مِنَ الْحِيرَةِ
بِغَيْرِ جِوَارٍ، وَكُنْتُ فِي أَوَّلِ خَيْلٍ أَغَارَتْ عَلَى
الْمَدَائِنِ. وَاللَّهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةَ، إِنَّهُ
لَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [4]
. وَرَوَى نَحْوَهُ هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ، عن أبي عبيدة.
__________
[1] الرّكوسية: قوم لهم دين بين النصارى والصابئين.
[2] المرباع: هو أن يأخذ ربع الغنيمة لنفسه، وذلك فعل الرئيس
المطاع.
[3] الحيرة: مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يقال
له النجف، زعموا أن بحر فارس كان يتصل به، وبها كان الخورنق بقرب
منها مما يلي الشرق، والسّدير في وسط البرية التي بينها وبين الشأم
(ياقوت) .
[4] أخرجه ابن حجر في الإصابة 2/ 468 رقم 5475، وأخرج البخاري نحوه
في المناقب 4/ 175- 176، باب علامات النبوة في الإسلام، من طريق
النضر، عن إسرائيل، عن سعد الطائي، عن محلّ بن خليفة، عن عديّ بن
حاتم.
(2/688)
[قدوم فَرْوَةَ بْن مُسَيْك المُرَادِيّ]
وقال ابن إِسْحَاق [1] :
قدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَرْوَةُ بْن مُسَيْك المُرادِيّ، مُفارِقًا لملوك كِنْدَة.
فاستعمله النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُرَادٍ
وزُبَيْد ومَذْحِج كلها [2] . وبعث معه عَلَى الصدقة خَالِد بْن
سَعِيد بْن العاص، فكان معه حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[وفد كِنْدة]
قَالَ [3] : وقدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وفد كِنْدَة [4] ، ثمانون راكبًا فيهم الأَشْعَث بْن
قَيْس. فلمّا دخلوا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: ألم تُسلموا؟ قَالُوا:
بلى. قَالَ: فما بَالُ هذا الحرير فِي أعناقكم؟ قَالَ: فشقُّوه
وألقَوْه.
[وفد الأَزْد]
قَالَ [5] : وقدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صُرَد بْن عَبْد اللَّه الأَزْدِيّ، فأسلم، في وفد من
الأزد [6] . فأمّره عَلَى من أسلم من قومه، ليجاهد من يليه.
__________
[1] الخبر في سيرة ابن هشام 4/ 212، وتاريخ الطبري 3/ 134،
والطبقات 1/ 327.
[2] مذحج بن أدر: بطن من كهلان من القحطانية، كانوا يسكنون اليمن،
ونزلوا الحيرة. ومراد بن مذحج، وزبيد بن صعب، بطنان من مذحج.
[3] الخبر في سيرة ابن هشام 4/ 214، وتاريخ الطبري 3/ 138، وابن
سعد 1/ 318.
[4] كندة: قبيلة عظيمة تنتسب إلى كندة واسمه ثور بن عفير، وسمي
كندة لأنه كند أباه أي كفر بنعمته. وكانت بلادهم بجبال اليمن مما
يلي حضرموت، وكان لهم ملك باليمن والحجاز (معجم قبائل العرب 3/
998) .
[5] سيرة ابن هشام 4/ 215، تاريخ الطبري 3/ 130 وابن سعد 1/ 337.
[6] الأزد: من أعظم قبائل العرب وأشهرها، تنتسب إلى أزد بن نبت بن
مالك بن كهلان من القحطانية.
(2/689)
[كِتَابُ مُلُوكِ حِمْيَر]
قَالَ [1] : وقدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ [كتابُ] [2] ملوكِ حِمْير، مَقْدَمَهُ [3] من تَبُوك،
ورسولهم إِلَيْهِ بإسلامهم، الحارث بْن عَبْد كُلَالٍ، ونُعَيْم
بْن عَبْد كُلالٍ، والنُّعْمان قِيلَ ذِي رُعَيْن، ومَعَافِر،
وهمْدان [4] . وبعث إِلَيْهِ ذُو يَزَن، مالِكَ بْن مُرَّة
الرّهاويّ بإسلامهم. فكتب إليهم النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كتابًا يذكر فِيهِ فريضة الصدقة.
وأرسل إليهم مُعَاذ بْن جَبَل فِي جماعةٍ، وقال لهم: وإنّي قد
أرسلتُ إليكم من صالِحي أهلي. وَأُولِي دينهم وأولي علمهم، وآمركم
بهم خيرًا، والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.
[بعث خَالِد ثمّ عليَّ إلى اليمن]
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْبَرَاءِ،
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ
خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْيَمَنِ يَدْعُوهُمْ إِلَى
الْإِسْلَام. قَالَ الْبَرَاءُ: فَكُنْتُ فِيمَنْ خَرَجَ مَعَ
خَالِدٍ، فَأَقَمْنَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى
الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ. ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْفِلَ خَالِدٌ، إِلَّا رَجُلٌ كَانَ
يَمَّمَ مَعَ خَالِدٍ أَحَبَّ أَنْ يُعَقِّبَ مَعَ عَلِيَّ
فَلْيُعَقِّبْ مَعَهُ. فَكُنْتُ فِيمَنْ عَقَّبَ مَعَ عَلِيٍّ.
فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْقَوْمِ خَرَجُوا إِلَيْنَا، فَصَلَّى
بِنَا عَلِيٌّ، ثُمَّ صَفَّنَا صَفًّا وَاحِدًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ
بَيْنَ أَيْدِينَا وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَتْ هَمْدَانُ
جَمِيعًا. فَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَرَأَ الكتاب
__________
[1] سيرة ابن هشام 4/ 215- 216، تاريخ الطبري 3/ 120.
[2] لم ترد في الأصل، وأثبتناها من ع، ح. وسيرة ابن هشام، وتاريخ
الطبري.
[3] في الأصل «مقدمهم» . والتصحيح من ع. ح.
[4] فحوى العبارة أن هؤلاء هم ملوك حمير الذين قدم كتابهم عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا أنهم قدموا
بأشخاصهم، وإنما كان رسولهم مالك بن مرة الرهاوي الّذي قال عنه
النبي صلّى الله عليه وسلم في كتابه إليهم «إن مالكا قد بلغ الخبر
وحفظ الغيب وآمركم به خيرا» . انظر مجموعة الوثائق السياسية للعهد
النبوي والخلافة الراشدة، الوثيقة رقم 109 (ص 180- 182) .
(2/690)
خَرَّ سَاجِدًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ
فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَى هَمْدَانَ، السَّلَامُ عَلَى
هَمْدَانَ» . هَذَا حَدِيثٌ صحيح أخرج الْبُخَارِيُّ بَعْضُهُ
بِهَذَا الْإِسْنَادِ [1] .
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أبي [127 أ]
الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ. فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، تَبْعَثُنِي وَأنَا شَابٌّ أَقْضِي بَيْنَهُمْ
وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ. فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي
وَقَالَ: «اللَّهمّ اهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ» . فَمَا
شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ. أَخْرَجَهُ [د] [2] .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ
عَلِيًّا قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ من حديث عطاء [3] .
[بعث أَبِي مُوسَى ومُعاذ إلى اليمن]
وَقَالَ شُعْبَةُ، وَغَيْرُهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ وَمُعَاذَ بْنَ جبل إلى
اليمن، فقال: «يسّرا ولا
__________
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب عليه
السلام وخالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمن قبل حجة الوداع (5/
110) .
[2] لم يظهر الرمز في الأصل، وفي ع، ح، «البخاري» . وهو خطأ.
والحديث في سنن أبي داود: كتاب الأقضية: باب كيف القضاء 2/ 270،
وفي مسند الطيالسي (منحة المعبود) :
كتاب مناقب الصحابة، أبواب خلافة عليّ رضي الله عنه، باب بعثه إلى
اليمن قاضيا وتوفيقه في القضاء ودعاه النبي صلّى الله عليه وسلم له
بذلك (2/ 180) ، وفي المسند للإمام أحمد 1/ 88 و 136.
وفي طبقات ابن سعد 2/ 337، وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم (3/
135) وقال:
صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، في نهاية الأرب للنويري 20/ 5،
وسيأتي الحديث ثانية في ترجمة الإمام عليّ رضي الله عنه في الجزء
الخاص بالخلفاء الراشدين.
[3] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن
الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع (5/ 110) .
وصحيح مسلم: كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد
الحج والتمتع والقرآن وجواز إدخال الحج على العمرة ومتى يحلّ
القارن من نسكه (1211) .
(2/691)
تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا،
وَتَطَاوَعَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [1] ، وَمِنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ
بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا.
وَفِي «الصَّحِيحِ» لِلْبُخَارِيِّ، مِنْ حَدِيثِ طَارِقِ بْنِ
شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَرْضِ قَوْمِي. قَالَ:
فَجِئْتُهُ وَهُوَ مُنِيخٌ بِالْأَبْطَحِ. قَالَ: فَسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ. فَقَالَ: «أَحَجَجْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ؟»
قُلْتُ:
نَعَمْ. قَالَ: «كَيْفَ؟» قُلْتُ: لَبَّيْكَ إِهْلَالًا
كَإِهْلَالِكَ. فَقَالَ: «أَسُقْتَ هَدْيًا؟» قُلْتُ: لَمْ أَسُقْ
هَدْيًا. قَالَ: «فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَاسْعَ ثُمَّ حِلَّ» .
فَفَعَلْتُ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ [2] . أما مُعاذ فالأَشْبَه
أَنَّهُ لم يرجع من اليمن حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [3] :
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: هَذَا كِتَابُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا، الَّذِي
كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ
يُفَقِّهُ أَهْلَهَا وَيُعَلِّمُهُمُ السُّنَّةَ وَيَأْخُذُ
صَدَقَاتِهِمْ، فَكَتَبَ له كتابا وعهدا وأمره فيه أمره:
__________
[1] أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير (4/ 26) باب ما يكره من
التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه، وفي المغازي (5/
107- 108) ، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجّة الوداع،
وفي كتاب الأحكام (8/ 114) باب أمر الوالي إذا وجّه أميرين إلى
موضع أن يتطاوعا ولا يتعاصيا. ومسلم في كتاب الجهاد والسير (1733)
باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير.
[2] أخرجه البخاري في المغازي (5/ 109) باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى
اليمن قبل حجّة الوداع، وبقيّته: «حتى مشطت لي امرأة من نساء بني
قيس، ومكثنا بذلك حتى استخلف عمر» .
[3] الخبر في سيرة ابن هشام 4/ 218- 219، وبعضه في تاريخ الطبري 3/
121.
(2/692)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
هَذَا كِتَابٌ [1] مِنَ الله ورسوله. يا أيها الذين آمنوا أوفوا
بالعقود. عَهْدًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ
حَيْثُ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ.
أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ في أمره كلّه. فإنّ الله مع الّذي
اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَقِّ كَمَا أَمَرَهُ [2] ، وَأَنْ
يُبَشِّرَ النَّاسَ بِالْخَيْرِ، وَيَأْمُرَهُمْ بِهِ، وَيُعَلِّمَ
النَّاسَ الْقُرآنَ، وَيُفَقِّهَهُمْ فِيهِ [3] ، وَلا يَمَسَّ
الْقُرْآنَ أَحَدٌ [4] إِلا وَهُوَ طَاهِرٌ، وَيُخْبِرَ النَّاسَ
بِالَّذِي لَهُمْ، وَالَّذِي عَلَيْهِمْ، وَيَلِينَ لَهُمْ [5] فِي
الْحَقِّ، وَيَشْتَدَّ [6] عَلَيْهِمْ فِي الظُّلْمِ، فَإِنَّ
اللَّهَ كَرَّهَ الظُّلْمَ وَنَهَى عَنْهُ، وَقَالَ: أَلا لَعْنَةُ
الله عَلَى الظَّالِمِينَ 11: 18.
وَيُبَشِّرَ النَّاسَ بِالْجَنَّةِ وَبِعَمَلِهَا، وَيُنْذِرَ
النَّاسَ مِنَ النَّارِ وَعَمَلِهَا، وَيَسْتَأْلِفَ النَّاسَ
حَتَّى يَفْقَهُوا فِي الدِّينِ، وَيُعَلِّمَ النَّاسَ مَعَالِمَ
الْحَجِّ وَسُنَنَهِ وَفَرَائِضِهِ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ،
وَالْحَجَّ الأَكْبَرَ وَالْحَجَّ الأَصْغَرَ، فَالْحَجُّ
الأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ. وَيَنْهَى النَّاسَ أَنْ يُصَلِّيَ
الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ الصَّغِيرِ إِلا أَنْ يَكُونَ
وَاسِعًا فَيُخَالِفَ [7] بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ،
وَيَنْهَى [أَنْ] [8] يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ
وَيُفْضِيَ إِلَى السَّمَاءِ بِفَرْجِهِ. وَلا يَعْقِدَ [9] شعر
[127 ب] رَأْسِهِ إِذَا عُفِيَ فِي قَفَاهُ. وَيَنْهَى النَّاسَ
إِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ هَيْجٌ أَنْ يَدْعُوا إِلَى الْقَبَائِلِ
وَالْعَشَائِرِ، وَلْيَكُنْ دُعَاؤُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ. فَمَنْ لَمْ يَدْعُ إِلَى اللَّهِ، وَدَعَا إِلَى
الْعَشَائِرِ وَالْقَبَائِلِ فَلْيُقْطَفُوا بِالسَّيْفِ حَتَّى
يَكُونَ دُعَاؤُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ.
وَيَأْمُرَ النَّاسَ بِإِسْبَاغِ الْوُضُوءِ، وُجُوهَهُمْ
وَأَيْدِيَهُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، وَأَرْجُلَهُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ، وَأَنْ
__________
[1] في السيرة 4/ 218 «بيان» .
[2] في السيرة «كما أمره الله» .
[3] في السيرة «ويفقههم فيه، وينهى الناس فلا يمسّ» .
[4] في السيرة «إنسان» .
[5] في السيرة «للناس» بدل «لهم» .
[6] في السيرة «يشدّ» .
[7] في السيرة «إلا أن يكون ثوبا يثني طرفيه» .
[8] سقطت من الأصل، وأثبتناها من (ع) و (ح) . وفي السيرة «وينهى
الناس أن» .
[9] في السيرة «يعقص أحد» .
(2/693)
يَمْسَحُوا رُءُوسَهُمْ كَمَا أَمَرَ
اللَّهُ، وَأُمِرُوا بِالصَّلاةِ لِوَقْتِهَا، وَإِتْمَامِ
الرُّكُوعِ وَالْخُشُوعِ [1] ، وَأَنْ يُغَلِّسَ بِالصُّبْحِ،
وَيُهَجِّرَ بِالْهَاجِرَةِ حِينَ تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَصلاةُ
الْعَصْرِ وَالشَّمْسُ فِي الأَرْضِ مُدْبِرَةٌ، وَالْمَغْرِبَ
حِينَ يَقْبَلُ اللَّيْلُ، لا تُؤَخَّرُ حَتَّى تَبْدُوَ
النُّجُومُ فِي السَّمَاءِ، وَالْعِشَاءِ أَوَّلَ اللَّيْلِ.
وَأَمَرَهُ بِالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ إِذَا نُودِيَ بِهَا،
وَالْغُسْلِ عِنْدَ الرَّوَاحِ إِلَيْهَا. وَأَمَرَهُ أَنْ
يَأْخُذَ مِنَ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَاَ
كَتَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَةِ مِنَ الْعَقَارِ
فِيمَا سَقَى الْغَيْلُ [2] وَفِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرَ
وَفِيمَا سَقَتِ الْغَرْبُ [3] فَنِصْفَ الْعُشْرِ.
ثُمَّ ذَكَرَ زَكَاةَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ، مُخْتَصَرًا. قَالَ:
وَعَلَى كُلِّ حَالِمٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ،
مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، دِينَارٌ وَافٍ أَوْ عِوَضُهُ [4]
مِنَ الثِّيَابِ.
فَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةِ
رَسُولِهِ، وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ عَدُوُّ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ [5] .
وَقَدْ رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، نحو هذا الحديث موصولا، بزيادات كَثِيرَةٍ
فِي الزَّكَاةِ، وَنَقْصٍ عَمَّا ذَكَرْنَا فِي السُّنَنِ [6] .
وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ، ثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ
رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَاصِمِ ابن حُمَيْدٍ السَّكُونِيِّ:
أَنَّ مُعَاذًا لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ، فَخَرَجَ النبيّ صلّى الله
عليه وسلم
__________
[1] في السيرة 4/ 219 «الركوع والسجود والخشوع» .
[2] في هامش ح: «هو الماء الجاري» . وفي السيرة 4/ 219 «سقت العين»
.
[3] الغرب: الرواية والدلو العظيمة
[4] في النسخ الثلاث: «عرضه» . وأثبتنا لفظ ابن هشام 4/ 219.
[5] انظر مجموعة الوثائق السياسية، الوثيقة رقم 105 (ص 173- 175)
والسيرة، وتاريخ الطبري 3/ 121.
[6] أخرج البخاري مختصرا في كتاب الزكاة (2/ 133) باب العشر فيما
يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري.
(2/694)
يُوصِيهِ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي تَحْتَ
رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: «يَا مُعَاذُ، إِنَّكَ عَسَى
أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أَنْ
تَمُرَّ بِمَسْجِدِي وَقَبْرِي» . فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعًا [1]
لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ: «لَا تَبْكِ يَا مُعَاذُ، الْبُكَاءُ مِنَ الشَّيْطَانِ»
[2] .
[وفد نَجْران]
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْن الزُّبير قَالَ: لما قدِم
وفد نَجْران عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، دخلوا عَلَيْهِ مسجده بعد العصر فحانت صلاتُهم، فقاموا
يصلّون فِي مسجده، فأراد النّاس مَنْعَهم. فقال النّبيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهم» . فاستقبلوا الْمَشْرِقَ
فصلّوا صلاتهم [3] . وقال ابْنُ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ ابن البَيْلَمانيّ،
عَنْ كُرْز بْن علْقمة، قَالَ:
قدِم عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد
نصارى نَجران، ستّون راكبًا، منهم أربعة وعشرون من أشرافهم، منهم:
الْعَاقِبُ أمير القوم وذو رأيهم [و] [4] صاحب [128 أ] مشورتهم،
والذي لَا يصدرون إلّا عَنْ رأيه وأمره، واسمه عَبْد المسيح [5] .
والسيّد ثمِالُهم [6] وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم. وأبو
__________
[1] في النسخ الثلاث «خشعا» ، والتصويب من: سير أعلام النبلاء 1/
448.
[2] رجاله ثقات. رواه أحمد في المسند 5/ 235.
[3] انظر طبقات ابن سعد 1/ 357.
[4] سقطت من النسخ الثلاث. وزدناها لتمام العبارة.
[5] قال ابن سعد إنه رجل من كندة.
[6] الثمال: الغياث الّذي يقوم بأمر قومه.
(2/695)
حارثة [1] بْن علْقمة، أحد بَكْر بْن وائل،
أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم [2] .
وكان أَبُو حارثة قد شرُف فيهم ودرس كتبهم حتّى حسُن علمه فِي
دينهم. وكانت ملوك الرُّوم من أهُل النصرانية قد شرّفوه وموّلوه
وبنوا لَهُ الكنائس. فلمّا توجّهوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نجران، جلس أبو حارثة على بلغة
لَهُ موجّهًا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وإلى جنبه أخٌ لَهُ، يقال لَهُ: كُرْز بْن عَلْقَمَة،
يُسايِرُه [3] ، إذْ عَثَرت بغلة أَبِي حارثة، فقال لَهُ كُرز:
تَعِس الأَبْعدُ، يريد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو حارثة: بَلْ أنت تَعِسْتَ. فقال
لَهُ: لِمَ يا أخي؟
فقال: والله إنه لَلنَّبيُّ الَّذِي كنّا ننتظره. قَالَ لَهُ كُرز:
فما يمنعك وأنت تعلم هذا؟ قَالَ: ما صنع بنا هَؤُلَاءِ القوم
شرّفونا وموّلونا، وقد أَبَوْا إِلّا خِلَافَهُ، ولو فعلتُ نَزَعوا
منّا كل ما ترى.
فأَضْمَر عليها أخوه كُرز بْن علْقمة حتّى أسلم بعد ذَلِكَ [4] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَأَحْبَارُ
يَهُودَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَتَنَازَعُوا، فَقَالَتِ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ
إِلَّا يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَا كَانَ إِلا
نَصْرَانِيًّا. فأنزل الله فيهم: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ
تُحَاجُّونَ 3: 65
__________
[1] في الطبقات لابن سعد 1/ 357 «الحارث» .
[2] الأسقف: عند النصارى رئيس لهم في الدين فوق القسّيس ودون
المطران. والحبر: بفتح الحاء المهملة: العالم ذمّيا كان أو مسلما
بعد أن يكون من أهل الكتاب. والمدراس: بيعة اليهود. وفي طبقات ابن
سعد «مدارسهم» .
[3] يسايره: يسير معه. وفي (ع) : «على يساره» ، وهو وهم.
[4] الإصابة لابن حجر 3/ 292 رقم 7398.
(2/696)
فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ
التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا من بَعْدِهِ 3: 65 الآيات [1] .
فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ الْقُرَظِيُّ: أَتُرِيدُ مِنَّا يَا
مُحَمَّدُ أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى بْنَ
مَرْيَمَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ نَجْرَانَ يُقَالُ لَهُ الرُّبَيْسُ
[2] : وَذَلِكَ تُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ وَإِلَيْهِ تَدْعُو؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَعَاذَ
اللَّهِ أَنْ آمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ» .
فَنَزَلَتْ مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ
وَالْحُكْمَ 3: 79 الآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ مِنَ الشَّاهِدِينَ 3:
81 [3] . وَقَالَ إِسْرَائِيلُ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
[4] ، عَنْ صِلَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ،
وَسُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَقَالَا حُذَيْفَةُ بَدَلَ
ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ السَّيِّدَ وَالْعَاقِبَ أَتَيَا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرَادَ أَنْ
يُلَاعِنَهُمَا [5] فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه، فو الله لَئِنْ
كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنْتَهُ لَا نُفْلِحُ نَحْنُ ولا عقبنا.
قالوا له: نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا. ولا تبعث معنا
إلّا أمينا.
فقال: «لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ» .
فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابَهُ. فَقَالَ: «قُمْ، يَا أَبَا
عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ» . فَلَمَّا قَامَ قَالَ: «هَذَا
أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» . أَخْرَجَهُ (خ) مِنْ حَدِيثِ
حُذَيْفَةَ [6] . وَقَالَ إِدْرِيسُ الْأَوْدِيُّ، عَنْ سِمَاكِ
بْنِ حَرْبٍ، عَنْ علقمة بن وائل،
__________
[1] سورة آل عمران، الآية 65.
[2] في النسخ الثلاث: الرئيس (الرييس) . وأحسبها مصحفة عما
أثبتناه. والربيس كبير السّامرة وهم قوم من اليهود يخالفونهم في
بعض أحكامهم، كإنكارهم نبوة من جاء بعد موسى عليه السلام.
[3] سورة آل عمران، الآيات 79- 81.
[4] في الأصل: «ابن إسحاق» . والتصحيح من ع، ح والبخاري.
[5] كذا في النسخ الثلاث. ولفظ البخاري: جاء العاقب والسيد صاحبا
نجران إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يريدان أن يلاعناه. وتلا عن القوم: أي تداعوا باللعن على الظالم
منهم.
[6] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران (5/ 120) .
(2/697)
(128 ب] عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى نَجْرَانَ. فَقَالُوا فِيمَا قَالُوا: أَرَأَيْتَ
مَا تَقْرَءُونَ: يَا أُخْتَ هارُونَ 19: 28 [1] وَقَدْ كَانَ
بَيْنَ عِيسَى وَمُوسَى مَا قَدْ عَلِمْتُمْ؟. قَالَ: فَأَتَيْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ،
فَقَالَ: «أَفَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ
بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ» .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [2] . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [3] :
بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ
بْنَ الْوَلِيدِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ، أَوْ جُمَادَى
الأُولَى، سَنَةَ عَشْرٍ، إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ
بِنَجْرَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِسْلامِ،
قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، ثَلاثًا. فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتَّى
قَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَبَعَثَ الرُّكْبَانَ يَضْرِبُونَ فِي كُلِّ
وَجْهٍ وَيَدْعُونَ إِلَى الإِسْلامِ وَيَقُولُونَ: أَيُّهَا
النَّاسُ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا. فأسلم الناس، فأقام خالد يعلّمهم
الإسلام، وكتب إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بذلك. ثم قدم وفدهم مع خَالِدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ أَعْيَانِهِمْ:
قَيْسُ بْنُ الْحُصَيْنِ ذُو الْغُصَّةِ [4] ، وَيَزِيدُ بْنُ
عَبْدِ الْمَدَانِ، وَيَزِيدُ بْنُ الْمُحَجَّلِ قَالَ: فَأَمَّرَ
عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَيْسًا.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ
إِلَيْهِمْ، بَعْدَ أَنْ وَلَّى وَفْدَهُمْ، عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ
لِيُفَقِّهَهُمْ وَيُعَلِّمَهُمْ السُّنَّةَ، يَأْخُذُ مِنْهُمْ
صَدَقَاتِهِمْ [5] .
وفي عاشر ربيعٍ الأول: تُوُفِّيَ إبراهيم ابن النّبيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [6] ، وهو ابن سنةٍ ونصفٍ. وغسّله
الفضل بن
__________
[1] سورة مريم، الآية 28.
[2] صحيح مسلم: كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم
وبيان ما يستحب من الأسماء (2135) .
[3] الخبر في السيرة ابن هشام 4/ 217، وتاريخ الطبري 3/ 126.
[4] في الأصل، ح: «ذو العصبية» . وفي ع: «ذو العضبة» . والتصحيح من
ترجمته في أسد الغابة (4/ 418) . وسمّي بذلك لغصّة كانت في حلقه.
وانظر: السيرة وتاريخ الطبري.
[5] سيرة ابن هشام 4/ 218، تاريخ خليفة 94، تاريخ الطبري 3/ 128.
[6] تاريخ خليفة 94.
(2/698)
الْعَبَّاس. ونزل قبره الْفَضْلُ وأسامة
بْن زيد فيما قِيلَ. وكان أبيض مسمَّنًا، كثير الشَّبَه بوالده
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ ثَابِتٌ: عَنْ أَنَسٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وُلِدَ لِيَ اللَّيْلَةَ غُلَامٌ
فَسَمَّيْتُهُ بِأَبي إِبْرَاهِيمَ» . ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ
سَيْفٍ، يَعْنِي امْرَأَةَ قَيْنٍ [1] بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهُ
أبو يوسف. قَالَ أَنَسٌ: فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنِهِ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ،
فَدَخَلَ فَدَعَا بِالصَّبِيِّ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ مَا
شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ
إِبْرَاهِيمَ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ يَكيِدُ
بِنَفْسِهِ [2] ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «تَدْمَعُ الْعَيْنُ
وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرضِي الرَّبَّ.
وَاللَّهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ» .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [3] وَالْبُخَارِيُّ [4] تَعْلِيقًا
مَجْزُومًا بِهِ. وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ،
عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ: «إِنَّ لَهُ مُرْضِعَةً تُتِمُّ رَضَاعَهُ فِي
الْجَنَّةِ» . أَخْرَجَهُ خ [5] . وقال جَعْفَر بْن مُحَمَّد
الصادق، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صلَّى عَلَى ابنه إِبْرَاهِيم حين مات.
__________
[1] قين: حدّاد.
[2] يكيد بنفسه: يجود بها وهو في النزع.
[3] في كتاب الفضائل (2315) باب رحمته صلّى الله عليه وسلّم
الصبيان والعيال، وتواضعه، وفضل ذلك.
[4] في كتاب الجنائز (2/ 84- 85) باب قول النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم: إنّا بك لمحزونون. وأخرجه أبو داود في الجنائز (3126) باب
في البكاء على الميت. وابن ماجة في الجنائز (1589) باب ما جاء في
البكاء على الميت. وأحمد في المسند 4/ 328.
[5] في كتاب الجنائز (2/ 104) ما جاء في عذاب القبر، باب ما قيل في
أولاد المسلمين، وفي كتاب بدء الخلق (4/ 88) باب ما جاء في صفة
الجنة وأنها مخلوقة، وفي كتاب الأدب (7/ 118) باب من سمّي بأسماء
الأنبياء.
(2/699)
وفيها: مات أَبُو عامر الراهب، الَّذِي
كَانَ عند هرقل عظيم الرُّوم [1] وفيها: ماتت بُوران بِنْت كسرى
ملكة الفرس، وملّكوا بعدها أختها آزرمن [2] . قاله أَبُو عُبَيْدة
[3] .
وفي أواخر ذي القعدة: وُلد مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر الصدّيق، [129
أ] ولدته أسماء بِنْت عُمَيْس، بذي الحُلَيْفة، وهي مَعَ النّبيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [4] .
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا
الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ
بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ: كَيْفَ أَصْنَعُ؟
فَقَالَ: «اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِري بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي» [5] .
وفيها: وُلد مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حزم، بنَجْران وأبوه [بها]
[6] .
__________
[1] تاريخ الطبري 3/ 140.
[2] في تاريخ الطبري 2/ 229 و 3/ 447 «آزرميدخت» . وقال الطبري إن
ملك بوران دام سنة وأربعة أشهر، أما أختها فملّكت ستة أشهر (2/ 232
و 233) .
[3] تاريخ خليفة 94 وفيه «أزرما» .
[4] انظر: المسند للشافعي 2/ 4، وصحيح مسلم (1218) في الحج. باب
حجّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وسير أعلام النبلاء للمؤلف 3/
482، والطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 283.
[5] أخرجه مسلم في حديث طويل، في كتاب الحج (1218) باب حجّة النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم. والنسائي في كتاب الطهارة (1/ 154) باب ما
تفعل النفساء عند الإحرام. وفي كتاب الحيض (1/ 182) باب المرأة
يكون لها أيام معلومة تحيضها كل شهر، وفي كتاب الغسل (1/ 208) باب
اغتسال النفساء عند الإحرام، وفي كتاب الحج (5/ 126) باب الغسل
للإهلال. وابن ماجة في المناسك (3074) باب حجّة رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم. والدارميّ في المناسك (34) .
[6] سقطت من الأصل، وأثبتناها من: (ع) و (ح) . وانظر تاريخ الطبري
3/ 130.
(2/700)
حجَّةُ الودَاع [1]
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَابِرٍ، قَالَ: أَذَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ بالحجّ، فاجتمع فِي الْمَدِينَةِ بَشَرٌ
كَثِيرٌ.
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، أَوْ لِأَرْبَعٍ، فَلَمَّا
كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ
مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ
أَصْنَعُ؟ فَقَالَ: «اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ» [2] .
وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمَسْجِدِ، وَرَكِبَ الْقَصْوَاءَ [3] حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ
عَلَى الْبَيْدَاءِ، فَنَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي، بَيْنَ
يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ
رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَنْ
يَسَارِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلُ ذَلِكَ.
فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالتَّوْحِيدِ [4] ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي
يُهِلُّونَ بِهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ.
وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَلْبِيَتَهُ. وَلَسْنَا نَنْوِي إِلا الْحَجَّ، لسنا نعرف العمرة،
حتى
__________
[1] المغازي لعروة 222، المغازي للواقدي 3/ 1088، سيرة ابن هشام 4/
230، الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 172، تاريخ الطبري 3/ 148، تاريخ
خليفة 94، نهاية الأرب 17/ 371، عيون الأثر 2/ 272، عيون التواريخ
للكتبي 1/ 394.
[2] مرّ تخريج هذا الحديث قبل قليل وانظر: طبقات ابن سعد 8/ 283.
[3] القصواء: هي نَاقَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَقَالَ أبو عبيدة: القصواء المقطوعة الأذن عرضا.
[4] في صحيح مسلم: «لبّيك اللَّهمّ، لبّيك، لبّيك لا شريك لك
لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك.
والملك لا شريك لك» . (ج 2/ 887) .
(2/701)
[إِذَا] [1] أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ
اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ [2] ثَلاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا،
ثُمَّ تَقَدَّمَ [3] إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ:
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى 2: 125 [4]
فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ.
قَالَ جَعْفَرٌ: فَكَانَ أَبِي يَقُولُ- لا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ
إِلا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ 112:
1 [5] وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ 109: 1 [6] ثم رجع إلى
الْبَيْتَ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ
إِلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: إِنَّ
الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ 2: 158 [7] ،
أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِيَ
عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا رَأَى الْبَيْتَ فَكَبَّرَ وَهَلَّلَ
وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ،
لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ
وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» .
ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ثَلاثَ
مَرَّاتٍ. ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إِذَا
انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ رَمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي، حَتَّى إِذَا
صَعِدَ مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَعَلا عَلَيْهَا وَفَعَلَ
كَمَا فَعَل عَلَى الصَّفَا. [فَلَمَّا كَانَ] [8] آخِرُ
الطَّوَافِ عَلَى الْمَرْوَةِ قَالَ: «إِنِّي لَوِ اسْتَقْبَلْتُ
مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ
وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً. فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ
هَدْيٌ فَلْيَحْلِلْ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً» .
فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا، إِلا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ.
فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ الله [129 ب] ألعامنا
__________
[1] عن صحيح مسلم.
[2] الرمل: هو إسراع المشي مع تقارب الخطا، وهو الخبب.
[3] في صحيح مسلم «نفذ» .
[4] سورة البقرة، الآية 125.
[5] أول سورة الإخلاص.
[6] أول سورة الكافرون.
[7] سورة البقرة، الآية 158.
[8] سقطت من الأصل، وأثبتناها من ع، ح.
(2/702)
هذا أم لِلأَبَدِ؟ قَالَ فَشَبَّكَ
أَصَابِعَهُ وَقَالَ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ مَعَ الْحَجِّ
هَكَذَا، مَرَّتَيْنِ، لا، بَلْ لأَبَدِ الأَبَدِ» . وَقَدِمَ
عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنَ الْيَمِن بِبُدْنٍ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ
مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ،
فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا. فَقَالَتْ: أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا.
فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ: فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَرِّشًا بِالَّذِي
صَنَعْتُهُ، مُسْتَفْتِيًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «صَدَقَتْ، صَدَقَتْ. مَاذَا قُلْتَ
حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ؟» قَالَ، قُلْتُ: اللَّهمّ إِنِّي أُهِلُّ
بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ. قَالَ:
«فَإِنَّ مَعِي الْهَدْيَ فَلا تَحْلِلْ» . قَالَ: فَكَانَ
الْهَدْيُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ، وَالْهَدْيُ الَّذِي أَتَى بِهِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ
مِائَةٍ. ثُمَّ حَلَّ النَّاسُ وَقَصَّرُوا، إِلا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَجَّهُوا إِلَى مِنًى،
أَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِمِنًى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ
وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ. ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلا
حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ
فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةٍ [1] ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلا أَنَّهُ
وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ
تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ [2] ، فَوَجَدَ
الْقُبَّةَ [قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةٍ] [3] فَنَزَلَ بِهَا،
حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ
[4] لَهُ، فَرَكِبَ حَتَّى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ
النَّاسَ فَقَالَ.
«إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كحرمة
يومكم هذا، في شهركم
__________
[1] نمرة: ناحة بعرفة. ونقل ياقوت أن الحرم من طريق الطائف على طرف
عرفة من نمرة على أحد عشر ميلا. وقيل: نمرة الجبل الّذي عليه أنصاب
الحرم عن يمينك إذا خرجت من المأزمين تريد الموقف (معجم البلدان 5/
304) .
[2] في ع، ح: «حتى أتى نمرة» . والمثبت يتفق مع صحيح مسلم.
[3] زيادة من صحيح مسلم للتوضيح.
[4] رحلت: أي وضع عليها الرحل.
(2/703)
هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا. أَلا وَإِنَّ
كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ
قَدَمَيَّ، وَدِمَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ. وَأَوَّلَ دَمٍ
أَضَعُهُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ
مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ. وَرِبَا
الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ [وَأَوَّلَ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا
عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ] [1]
كُلُّهُ. وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ
أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ
فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ
لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ
ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. وَلَهُنَّ
عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَدْ
تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ
بِهِ، كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَنْتُمْ مَسْئُولُونَ عَنِّي،
فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنْ [2] قَدْ
بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ
السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَكُبُّهَا [3]
إِلَى النَّاسِ: اللَّهمّ اشْهَدْ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ.
ثُمَّ أَذَّن بِلالٌ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ
أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.
ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ
إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ جَبَلَ الْمُشَاةِ [4] بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا
حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلا حين
غاب القرص، [130 أ] وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ خَلْفَهُ
فَدَفَعَ وَقَدْ شَنَقَ [5] لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى
إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ:
أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ، كُلَّمَا أَتَى
جَبَلا مِنَ الْجِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلا حَتَّى تَصْعَدَ.
حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ
وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ
بَيْنَهُمَا شَيْئًا. ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ،
فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ
وَإِقَامَةٍ. ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى المشعر
الحرام
__________
[1] سقطت في النسخ الثلاث وزدناها من صحيح مسلم.
[2] في صحيح مسلم «إنك» .
[3] هكذا في الأصل، ح. وفي ع: «وبكيها» ، محرفة. ولفظ مسلم:
«ينكتها» ، وفي رواية أخرى: ينكبها، أي يقلبها ويردّدها إلى الناس
مشيرا إليهم. ومثلها يكبها.
[4] جبل المشاة: طريقهم. وفي رواية: حبل المشاة أي مجتمعهم.
[5] شنق: ضمّ وضيّق للقصواء.
(2/704)
فَرَقِيَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ
وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ. فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ
جِدًّا، ثُمَّ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَرْدَفَ
الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ، وَكَانَ رَجُلا حَسَنَ الشَّعْرِ
وَسِيمًا [1] . فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ الظُّعُنُ [2] يَجْرِينَ، فَطَفِقَ
الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ،
فَصَرَفَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ، فَحَوَّلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى
وَجْهِ الْفَضْلِ. حَتَّى إِذَا أَتَى مُحَسِّرًا [3] حَرَّكَ
قَلِيلا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تُخْرِجُكَ
عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي
عِنْدَ الْمَسْجِدِ، فَرَمَى سَبْعَ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ
كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلَ حَصْيِ الْخَذْف [4] رَمَى مِنْ
بَطْنِ الْوَادِي. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ
ثَلاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً [5] ، وَأَعْطَى عَلِيًّا، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْه، فَنَحَرَ مَا غَبَرَ [6] وَأَشْرَكَهُ فِي
هَدْيِهِ. ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ [7]
فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ، وَطُبِخَتْ، فَأَكَلا مِنْ لَحْمِهَا
وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا.
ثُمَّ أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى عَلَى
بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ مِنْ بِئْرِ زَمْزَمَ،
فَقَالَ: «انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ
تَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ» .
فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [8] ، ودون قوله: يحيي ويميت.
__________
[1] في صحيح مسلم «حسن الشعر أبيض وسيما» .
[2] الظعن: مفردها ظعينة، وهي البعير الّذي عليه امرأة. وتسمّى به
المرأة مجازا لملابستها البعير.
[3] محسر، ويقال بطن محسر: واد قرب المزدلفة بين عرفات ومنى. وفي
كتب المناسك أنه وادي النار، قيل إن رجلا اصطاد فيه فنزلت نار
فأحرقته. وقيل إن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعيى وكلّ.
[4] في الأصل: «الحدف» . والتحرير من ع، ح. وحصي الخذف أي حصي صغار
بحيث يمكن أن يرمى بإصبعين. والحذف في الأصل: الرمي.
[5] في صحيح مسلم «بيده» بدل «بدنة» .
[6] ما غير ما بقي منها.
[7] البضعة: القطعة من اللحم.
[8] في كتاب الحج، (1218) باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(2/705)
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَتَى ذَا
الْحُلَيْفَةِ أَشْعَرَ بُدْنَةً مِنْ جَانِبِ سَنَامِهَا
الْأَيْمَنِ، ثُمَّ سَلَتَ عَنْهَا الدَّمَ، وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [1] .
وَقَالَ أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ، حَدَّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ،
وَفِي رِوَايَةٍ صَهْبَاءَ، لَا ضَرْبَ وَلَا طَرْدَ وَلَا
إِلَيْكَ إِلَيْكَ [2] . حَدِيثٌ حسن [3] .
وقال ثور بن يزيد، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ [لُحَيٍّ] [4] ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ قَالَ،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ
يَوْمُ الْقَرِّ، يَسْتَقِرُّ فِيهِ النَّاسُ، وَهُوَ الَّذِي
يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ» . قُدِّمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَنَاتٌ، خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ،
فَطَفِقْنَ [5] يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ،
فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [6] قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً خَفِيَّةً [7] لَمْ
أَفْهَمْهَا،
__________
[1] صحيح مسلم: كتاب الحج، (1243) باب تقليد الهدي وإشعاره عند
الإحرام. وأبو داود في كتاب المناسك (1752) باب في الإشعار.
[2] إليك إليك: تقال للتنبيه أو الزجر. والمراد أنه صلّى الله عليه
وسلّم كان لا يدفع ناقته ولا يندفع بها في مزدحم الناس، ولا يحتاج
إلى زجرها عن ذلك.
[3] رواه الترمذي في كتاب الحج (905) باب ما جاء في كراهية طرد
الناس عند رمي الجمار.
قال الترمذي: وفي الباب عن عبد الله بن حنظلة. قال أبو عيسى: حديث
قدامة بن عبد الله حديث حسن صحيح، وإنما يعرف هذا الحديث من هذا
الوجه، وهو حديث حسن صحيح.
وأيمن بن نابل هو ثقة عند أهل الحديث. ورواه النسائي في مناسك الحج
(5/ 270) باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم. وابن ماجة في
المناسك (3035) باب رمي الجمار راكبا.
[4] في الأصل بياض مقدار كلمة، والمثبت من نسخة (ح) وسنن أبي داود
2/ 148، وفي (ع) سقط بمقدار سطرين هنا.
[5] في الأصل «وطفقن» ، والمثبت من (ع) و (ح) وسنن أبي داود 2/
149.
[6] وجبت جنوبها: أي سقطت إلى الأرض ميّتة بعد ذبحها.
[7] في الأصل «خفيفة» ، والمثبت من: (ع) و (ح) وسنن أبي داود.
(2/706)
فَقُلْتُ لِلَّذِي إِلَى جَنْبِي: مَا
قَالَ؟ قَالَ: قَالَ: «مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ [1]
. وَقَالَ هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنّ رسول
الله [130 ب] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى
الْجَمْرَةَ، ثُمَّ رجع إلى منزله بمنى، فذبح، ثم دعا بالحلّاق
فأخذ بشقّ رأسه الأيمن فحلقه، فجعل يقسمه الشّعرة والشّعرتين، ثم
أخذ بشقّ رأسه الآخر [2] فحلقه، ثم قال: ها هنا أَبُو طَلْحَةَ؟
فَدَفَعَهُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ [3] . وَقَالَ
أَبَانٌ الْعَطَّارُ، ثنا يَحْيَى حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ،
أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ابن زَيْدٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ
أَبَاهُ شَهِدَ الْمَنْحَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَسَمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَلَمْ
يُصِبْهُ وَلا رَفِيقَهُ. قَالَ: فَحَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسُهُ فِي ثَوْبِهِ فَأَعْطَاهُ،
فَقَسَمَ مِنْهُ عَلَى رِجَالٍ، وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ فَأَعْطَى
صَاحِبَهُ. فَإِنَّهُ لَمَخْضُوبٌ عِنْدَنَا بِالْحِنَّاءِ
وَالْكَتَمِ [4] .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، ثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ،
عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ، حَجَّ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ
وَقَطِيفَةً تُسَاوِي، أَوْ لَا تُسَاوِي، أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ.
وَقَالَ: «اللَّهمّ حِجَّةً لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سمعة» [5] .
يزيد ضعيف [6] .
__________
[1] أخرجه أبو داود في المناسك (الحج) (1765) باب في الهدي إذا عطب
قبل أن يبلغ. وأحمد في المسند 4/ 250.
[2] في ع، ح: «الأيسر» .
[3] في كتاب الحج (325 و 326/ 1305) ، باب بيان أن السّنة يوم
النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق والابتداء في الحلق بالجانب الأيمن
من رأس المحلوق.
[4] أخرجه أحمد في المسند 4/ 42.
[5] رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 2/ 177.
[6] انظر عنه في: التاريخ الصغير 139، التاريخ الكبير ق 2 ج 4/
320، الجرح والتعديل ج 4 ق 2/ 251، الضعفاء والمتروكين للدار
للدّارقطنيّ 179 رقم 593، الضعفاء والمتروكين للنسائي 307 رقم 642،
التاريخ لابن معين 2/ 667 رقم 4486، المجروحين لابن حبّان 3/ 98،
(2/707)
وَقَالَ أَبُو عُمَيْسٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ
مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ
الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ
عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ
الْيَوْمَ عِيدًا.
[قَالَ] [1] : أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلامَ دِيناً 5: 3 [2] فَقَالَ: إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ
الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ:
نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِعَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [3] .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي
عَمَّارٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِنْدَهُ
يَهُودِيٌّ، فَقَرَأَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ 5: 3
الآيَةَ. فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: لَوْ أُنْزِلَتْ عَلَيْنَا
لاتَّخَذْنَا يَوْمَهَا عِيدًا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدٍ، يَوْمَ جُمُعَةٍ، يَوْمَ
عَرَفَةَ. صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ م [4] .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَخْبَرَهُ
أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ
يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: «خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا
أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [5] . وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي
أُوَيْسٍ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثور بن يزيد، عن
__________
[ () ] الضعفاء الكبير للعقيليّ 4/ 373 رقم 1983، الكاشف 3/ 240
رقم 6389، ميزان الاعتدال 4/ 418 رقم 9669، المغني في الضعفاء 2/
747 رقم 7082، تهذيب التهذيب 11/ 309 رقم 597، الكامل في الضعفاء
الرجال لابن عديّ 7/ 2712.
[1] سقطت من الأصل. وأثبتناها من (ع) و (ح) .
[2] سورة المائدة، الآية 3.
[3] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان (1/ 16) باب زيادة الإيمان
ونقصانه وقول الله تعالى وَزِدْناهُمْ هُدىً 18: 13 ... ، ومسلم في
كتاب التفسير (5/ 3017) أوله: وحدّثني عبد بن حميد.
[4] رواه الطبراني في المعجم الكبير 12/ 184- 185 رقم 12835،
والترمذي (5035) ، والطيالسي 1947، والطبري في التفسير 11097
وحسّنه الترمذي.
[5] في كتاب الحج (1297) باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر
راكبا وبيان قوله صلّى الله عليه وسلّم:
لتأخذوا مناسككم. وابن سعد في الطبقات 2/ 181.
(2/708)
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ
النَّاسَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ:
«إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ،
وَلَكِنَّهُ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا
تُحَاقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ. أَيُّهَا
النَّاسُ: إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ
بِهِ لَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا، كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ
نَبِيِّهِ. إِنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخُو الْمُسْلِمِ،
الْمُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ، [وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ
أَخِيهِ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ] [1] ، وَلَا
تَظْلِمُوا، وَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ
بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» [2] . وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَكَانَ
رَبِيعَةُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ هُوَ الَّذِي
يَصْرُخُ يَوْمَ عَرْفَةَ تَحْتَ لُبَّةِ نَاقَةِ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ لَهُ: «اصْرُخْ: أيها
الناس» - وكان صيّتا [3]- «هل [131 أ] تَدْرُونَ أَيَّ شَهْرٍ
هَذَا؟» فَصَرَخَ، فَقَالُوا:
نَعَمْ، الشَّهْرُ الْحَرَامُ. قَالَ: «فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا
رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ [4]
. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْهُ،
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ
مِنْ منى قال: «إنّا نازلون غدا إن
__________
[1] ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، والمثبت من (ع) و (ح) .
[2] أخرجه البخاري في كتاب الفتن (8/ 91) باب قول النّبيّ صلّى
الله عليه وسلم: لا ترجعوا بعدي كفّارا، ومسلم في كتاب الإيمان
(66) باب بيان معنى قول النبي: لا ترجعوا بعدي كفارا، وأبو داود في
السّنّة (686) باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، والنسائي في
تحريم الدم (7/ 136) باب تحريم القتل. والطبراني في المعجم الكبير
8/ 161 رقم 7619، والمعجم الصغير 1/ 153، وابن جميع الصيداوي في
معجم الشيوخ (بتحقيقنا) 242 رقم (198) ، والمؤلّف الذهبي في سير
أعلام النبلاء 9/ 498.
[3] صيّتا: أي شديد الصوت.
[4] انظر بقيته في سيرة ابن هشام 4/ 231، وابن سعد في الطبقات 2/
184.
(2/709)
شَاءَ اللَّهُ بِالْمُحَصَّبِ بِخَيْفِ
بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ» [1] . وذلك
أنّ قريشًا تقاسموا عَلَى بني هاشم وبني المطّلب أنَّ لَا يناكحوهم
ولا يخالطوهم حتّى يسلّموا إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اتّفقا عَلَيْهِ [2] .
وقال أَفْلَح بْن حُمَيْد، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ: خرجنا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ليالي الحج. قَالَتْ: فلمّا تفرّقنا من مِنًى نزلنا
المحصَّبَ. وذكر الحديث. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [3] .
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أرقم:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا
تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وحجّ بعد ما هَاجَرَ حِجَّةَ
الْوَدَاعِ، وَلَمْ يَحِجَّ بَعْدَهَا.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق من قِبَلِهِ: وواحدة بمكة. اتّفقا عَلَيْهِ
[4] .
ويُروى عَنِ ابن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ يكره أنَّ يقال: حجّة
الوداع، ويقول:
حجّة الْإِسْلَام [5] .
وقال زيد بْن الحُباب، ثنا سُفْيَان، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجّ ثلاث حجج قبل أنَّ يهاجر، وحجّة
بعد ما هاجر معها عُمرة، وساق ستًّا وثلاثين بُدنة، وجاء عليٌّ
بتمامها من اليمن، فيها جملٌ لأبي
__________
[1] حيث تقاسموا على الكفر: يعني حيث تعاهد كفار قريش على إخراج
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى شعب أبي
طالب، وهو خيف بني كنانة، وكتبوا بينهم بذلك الصحيفة المشهورة.
[2] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب نزول النبي صلّى الله عليه وسلم
مكة (2/ 181- 182) . وصحيح مسلم: كتاب الحج، باب استحباب النزول
بالمحصب يوم النفر والصلاة به (4/ 86) .
[3] صحيح البخاري: كتاب الحج، باب قول الله تعالى: الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ 2: 197 (2/ 173) ، وأبواب العمرة، باب
المعتمر إذا طاف طواف العمرة إلخ (3/ 6) . وصحيح مسلم: كتاب الحج،
باب بيان وجوه الإحرام إلخ (4/ 31) .
[4] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب حجة الوداع (5/ 223- 224) .
وصحيح مسلم:
كتاب الجهاد والسير، باب عدد غزوات النبي صلّى الله عليه وسلم (5/
199) .
[5] الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 188.
(2/710)
جهلٍ فِي أنفه بُرَةٌ من فِضَّةٍ، فنحرها
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تَفَرَّد بِهِ زيد. وقيل إنه خطأ، وإنما يُروى عَنْ سُفْيَان، عَنْ
أَبِي إِسْحَاق، عَنْ مجاهد، مرسلًا.
قَالَ أَبُو بَكْر البيهقيّ: قوله «وحجَّةٌ معها عمرةٌ» فإنما
يَقُولُ ذَلِكَ أنسٌ، ومن ذهب من الصّحابة إلى أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَن، فأما من ذهب إلى
أَنَّهُ أَفْرد، فإنه لَا يكاد يصحّ عنده هذه اللفظة لِما فِي
إسناده من الاختلاف وغيره.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ قَالَ: حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثَلاثَ حِجَجٍ، حَجَّتَيْنِ وَهُوَ بِمَكَّةَ قَبْلَ
الْهِجْرَةِ، وَحَجَّةَ الْوَدَاعِ [1] .
وفي آخر السنة: كَانَ ظهور الأَسْوَد العنسي، وسيأتي [2] .
__________
[1] الطبقات 2/ 189.
[2] في الجزء الثاني، في خلافة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه (ص
14) .
(2/711)
سنة احدى عشر
سَرِيّة أُسَامَةَ
فِي يوم الإثنين، لأربعٍ بَقِينَ من صَفَر. ذكر الواقديّ [1] أنهم
قَالُوا:
أمر النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتَّهيُّؤ لغزْو
الرّوم. ودعا أُسَامة بْن زيْد، فقال: سِرْ إلى موضع مقتل أبيك،
فأَوْطِئْهم الْخَيْلَ، فقد وَلَّيْتُك هذا الجيش. فأَغِرْ صباحًا
عَلَى أهُل أُبنى [2] ، وأسرع السَّيْر، تسبق الأخبار. فإن ظفرتَ
فأقْلِلْ اللَّبْث فيهم، وقَدِّم العيون والطلائع أمامك. فلما كان
يوم الأربعاء، بدئ بِرَسُولِ [3] اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَجَعُهُ. فحُمَّ وصُدِّع.
فلمّا أصبح يوم الخميس، عَقَد لأسامة لواء بيده، فخرج بلوائه
معقودا، [131 ب] يعني أسامة. فدفعهُ إلى بُرَيْدة بْن الحُصَيْب
الأسلميّ،
__________
[1] في المغازي (3/ 117- 119) .
[2] أبنى: موضع بفلسطين بين عسقلان والرملة، وقيل قرية بمؤتة. قال
ياقوت: بالضم ثم السكون وفتح النون والقصر، بوزن حيلى، موضع بالشام
من جهة البلقاء. (معجم البلدان 1/ 79) .
[3] في الأصل، ع: «بدئ رسول الله» . والمثبت عن ح.
(2/713)
وعَسْكر بالجُرْف [1] . فلم يبق أحد من
المهاجرين والأنصار إلّا انْتَدَب فِي تِلْكَ الغزوة، فيهم أَبُو
بَكْر، وعمر، وأبو عُبَيْدة.
فتكلّم قوم وقَالُوا: يستعمل هذا الغلام عَلَى هَؤُلَاءِ؟
فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَغَيْرُهُ، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
دِينَارٍ، سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ، فَطَعَنَ النَّاسُ
فِي إِمَارَتِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِنْ يَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنُوا فِي
إِمَارَةِ أَبِيهِ. وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا
لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ.
وَإِنَّ ابْنَهُ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ»
. مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ [2] .
قَالَ شَيبان، عَنْ قَتَادَة:
جميع غزوات النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسراياه:
ثلاثٌ وأربعون [3] .
ثمّ دخل شهر ربيع الأول.
وبدخوله تَكَمَّلت عشر سنين من التاريخ للهجرة النبوية. والحمد
للَّه وحده.
__________
[1] الجرف: موضع قرب المدينة على ثلاثة أميال منها. (معجم البلدان
2/ 128) .
[2] أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم (4/
213) ، باب ذكر أسامة بن زيد، وفي المغازي (5/ 84) باب غزوة زيد بن
حارثة، و (5/ 145) ، باب بعث النبي صلّى الله عليه وسلم أسامة بن
زيد رضي الله عنهما في مرضه الّذي توفي فيه، وفي كتاب الأيمان (7/
217) باب قول النبي صلّى الله عليه وسلم: وايم الله، وفي الأحكام
(8/ 117) باب من لم يكترث بطعن من يعلم في الأمراء حديثا.
ومسلم في فضائل الصحابة (63 و 64/ 2426) باب فضائل زيد بن حارثة
وأسامة بن زيد رضي الله عنهما. والترمذي في المناقب (3904) باب
مناقب زيد بن حارثة رضي الله عنه.
وأحمد في المسند 2/ 20 و 89 و 106 و 110. وابن سعد في الطبقات
الكبرى 2/ 190.
[3] انظر حول الغزوات والسرايا والبعوث: سيرة ابن هشام 4/ 233،
والطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 5، وتاريخ الطبري 3/ 152.
(2/714)
بعون الله وتوفيقه، فقد تمّ الجزء الخاص
بمغازي الرسول صلّى الله عليه وسلم من كتاب «تاريخ الإسلام ووفيات
المشاهير والأعلام» تأليف المؤرّخ الحافظ الذهبي، بتحقيق طالب
العلم العبد الفقير إلى الله تعالى «عمر عبد السلام تدمري» الأستاذ
الدكتور، الطرابلسيّ مولدا وموطنا، بمنزله بساحة النجمة بطرابلس
الشام- حرسها الله-. وكان الفراغ من تحقيقه وتصحيحه في الثالث عشر
من شهر ربيع الثاني 1607، الموافق للثامن عشر من كانون الأول 1986،
من صباح يوم الخميس. والحمد للَّه وحده.
(يليه الجزء الثاني الخاص بالسيرة النبويّة)
(2/715)
|