تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

عشرين

ذكر الخبر عما كان فيها من مغازي المسلمين وغير ذلك من أمورهم
قال أبو جعفر: ففي هذه السنة فتحت مصر فِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
فتحت مصر سنة عشرين.
وكذلك قال أبو معشر، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، أنه قال: فتحت مصر سنة عشرين، وأميرها عمرو بْن العاص.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: فتحت إسكندرية سنة خمس وعشرين.
وقال الواقدي- فيما حدثت عن ابن سعد عنه: فتحت مصر والإسكندرية في سنة عشرين.
وأما سيف فإنه زعم- فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف- أنها فتحت والإسكندرية في سنة ست عشرة.

ذكر الخبر عن فتحها وفتح الإسكندرية
قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف أهل السير في السنة التي كان فيها فتح مصر والإسكندرية، ونذكر الآن سبب فتحهما، وعلى يدي من كان، على ما في ذلك من اختلاف بينهم أيضا، فأما ابن إسحاق فإنه قال في ذلك ما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْهُ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَرَغَ مِنَ الشَّامِ كُلِّهَا كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنْ يَسِيرَ الى مصر في جنده، فخرج حتى فتح باب اليون فِي سَنَةِ عِشْرِينَ.
قَالَ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي فَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَبَعْضُ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّهَا فُتِحَتْ

(4/104)


فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَعَلَى سَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَلَيْهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني القاسم بْن قزمان- رجل من أهل مصر- عن زياد بْن جزء الزبيدي، أنه حدثه أنه كان في جند عمرو بْن العاص حين افتتح مصر والإسكندرية، قال: افتتحنا الإسكندرية في خلافة عمر بْن الخطاب في سنة إحدى وعشرين- أو سنة اثنتين وعشرين- قال: لما افتتحنا باب اليون تدنينا قرى الريف فيما بيننا وبين الإسكندرية قرية فقرية، حتى انتهينا إلى بلهيب- قرية من قرى الريف، يقال لها قرية الريش- وقد بلغت سبايانا المدينة ومكة واليمن.
قال: فلما انتهينا إلى بلهيب أرسل صاحب الإسكندرية الى عمرو ابن العاص: إني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم معشر العرب لفارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علي ما أصبتم من سبايا أرضي فعلت.
قال: فبعث إليه عمرو بْن العاص: إن ورائي أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عني حتى أكتب إليه بالذي عرضت علي، فإن هو قبل ذلك منك قبلت، وإن أمرني بغير ذلك مضيت لأمره قال: فقال: نعم قال: فكتب عمرو بن العاص الى عمر ابن الخطاب- قال: وكانوا لا يخفون علينا كتابا كتبوا به- يذكر له الذي عرض عليه صاحب الإسكندرية قال: وفي أيدينا بقايا من سبيهم ثم وقفنا ببلهيب، وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءنا، فقرأه علينا عمرو وفيه: أما بعد، فإنه جاءني كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية على أن ترد عليه ما أصيب من سبايا أرضه، ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلي من فيء يقسم، ثم كأنه لم يكن، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية، على أن تخيروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه، فمن اختار

(4/105)


منهم الإسلام فهو مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ وعليه مَا عليهم، ومن اختار دين قومه، وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه، فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب فبلغ مكة والمدينة واليمن فإنا لا نقدر على ردهم، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به قال: فبعث عمرو إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين قال: فقال: قد فعلت.
قال: فجمعنا ما في أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا، ثم نخيره بين الإسلام وبين النصرانية، فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين تفتح القرية، قال: ثم نحوزه إلينا، وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى، ثم حازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعا شديدا، حتى كأنه رجل خرج منا إليهم قال: فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم، وقد أتي فيمن أتينا به بأبي مريم عبد اللَّه بْن عبد الرحمن- قال القاسم: وقد أدركته وهو عريف بني زبيد- قال: فوقفناه، فعرضنا عليه الإسلام والنصرانية- وأبوه وأمه وإخوته في النصارى- فاختار الإسلام، فحزناه إلينا، ووثب عليه أبوه وأمه وإخوته يجاذبوننا، حتى شققوا عليه ثيابه، ثم هو اليوم عريفنا كما ترى ثم فتحت لنا الإسكندرية فدخلناها، وإن هذه الكناسة التي ترى يا بن أبي القاسم لكناسة بناحية الإسكندرية حولها أحجار كما ترى، ما زادت ولا نقصت، فمن زعم غير ذلك أن الإسكندرية وما حولها من القرى لم يكن لها جزية ولا لأهلها عهد، فقد والله كذب قال القاسم: وإنما هاج هذا الحديث أن ملوك بني أمية كانوا يكتبون إلى أمراء مصر أن مصر إنما دخلت عنوة، وإنما هم عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا، ونضع ما شئنا.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا سَيْفٌ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ، يَذْكُرُ أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَهُ عَنْهُ، عَنِ الرَّبِيعِ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، قَالُوا: أَقَامَ عُمَرُ بِإِيلِيَاءَ بَعْدَ مَا صَالَحَ أَهْلَهَا، وَدَخَلَهَا أياما، فامضى عمرو ابن الْعَاصِ إِلَى مِصْرَ وَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا، إِنْ فَتَحَ الله عليه، وبعث في اثره الزبير

(4/106)


ابن الْعَوَّامِ مَدَدًا لَهُ، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ إِلَى الرَّمَادَةِ، وَأَمَرَهُ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى عَمَلِهِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ، قَالا: خَرَجَ عَمْرُو بْنُ العاص الى مصر بعد ما رَجَعَ عُمَرُ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى باب اليون، وَاتَّبَعَهُ الزُّبَيْرُ، فَاجْتَمَعَا، فَلَقِيَهُمْ هُنَالِكَ أَبُو مَرْيَمَ جَاثِلِيقُ مِصْرَ وَمَعَهُ الأُسْقُفُّ فِي أَهْلِ النِّيَّاتِ بَعَثَهُ الْمُقَوْقِسُ لِمَنْعِ بِلادِهِمْ فَلَمَّا نَزَلَ بِهِمْ عَمْرٌو قَاتَلُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: لا تَعْجَلُونَا لِنَعْذُرَ إِلَيْكُمْ، وَتَرَوْنَ رَأْيَكُمْ بَعْدُ فَكَفُّوا أَصْحَابَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَمْرٌو: إِنِّي بَارِزٌ فَلْيَبْرُزْ إِلَيَّ أَبُو مَرْيَمَ وَأَبُو مِرْيَامَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَّنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقَالَ لَهُمَا عَمْرٌو: أَنْتُمَا رَاهِبَا هَذِهِ الْبَلْدَةِ فَاسْمَعَا، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بعث محمدا ص بالحق وامره به، وامرنا به محمد ص، وَأَدَّى إِلَيْنَا كُلَّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، ثُمَّ مَضَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرَحْمَتُهُ وَقَدْ قَضَى الَّذِي عَلَيْهِ، وَتَرَكَنَا عَلَى الْوَاضِحَةِ، وَكَانَ مِمَّا أَمَرَنَا بِهِ الإِعْذَارُ إِلَى النَّاسِ، فَنَحْنُ نَدْعُوكُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَمَنْ أَجَابَنَا إِلَيْهِ فَمِثْلُنَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبْنَا عَرَضْنَا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، وَبَذَلْنَا لَهُ الْمَنْعَةَ، وَقَدْ أَعْلَمَنَا أَنَّا مُفْتَتِحُوكُمْ، وَأَوْصَانَا بِكُمْ حِفْظًا لِرَحِمِنَا فِيكُمْ، وَإِنَّ لَكُمْ إِنْ أَجَبْتُمُونَا بِذَلِكَ ذِمَّةً إِلَى ذِمَّةٍ وَمِمَّا عَهِدَ إِلَيْنَا أَمِيرُنَا: اسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِيِّينَ خَيْرًا، [فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص أوصانا بالقبطين خَيْرًا، لأَنَّ لَهُمْ رَحِمًا وَذِمَّةً،] فَقَالُوا: قَرَابَةٌ بَعِيدَةٌ لا يَصِلُ مِثْلَهَا إِلا الأَنْبِيَاءُ، مَعْرُوفَةٌ شَرِيفَةٌ، كَانَتِ ابْنَةُ مَلِكِنَا، وَكَانَتْ مِنْ أَهْلِ مَنْفَ وَالْمَلِكُ فِيهِمْ، فَأُدِيلَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ عَيْنِ شَمْسٍ، فَقَتَلُوهُمْ وَسَلَبُوا مُلْكَهُمْ وَاغْتَرَبُوا، فَلِذَلِكَ صَارَتْ الى ابراهيم ع مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلا، آمِنَّا حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكَ فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ مِثْلِي لا يُخْدَعُ، وَلَكِنِّي أُؤَجِّلُكُمَا ثَلاثًا لِتَنْظُرَا وَلِتُنَاظِرَا قَوْمَكُمَا، وَإِلا نَاجَزْتُكُمْ، قَالا: زِدْنَا، فَزَادَهُمْ يَوْمًا، فَقَالا: زِدْنَا، فَزَادَهُمْ يوما، فرجعا الى المقوقس فهم، فَأَبَى أَرْطَبُونُ أَنْ يُجِيبَهُمَا، وَأَمَرَ بِمُنَاهَدَتِهِمْ،

(4/107)


فَقَالا لأَهْلِ مِصْرَ: أَمَّا نَحْنُ فَسَنَجْهَدُ أَنْ نَدْفَعَ عَنْكُمْ، وَلا نَرْجِعَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ بَقِيَتْ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، فَلا تُصَابُونَ فِيهَا بِشَيْءٍ إِلا رَجَوْنَا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَمَانٌ فَلَمْ يَفْجَأْ عمر وَالزُّبَيْرَ إِلا الْبياتُ من فرقب، وَعَمْرٌو عَلَى عُدَّةٍ، فَلَقَوْهُ فَقَتَلَ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ رَكِبُوا أَكْسَاءَهُمْ، وَقَصَدَ عَمْرٌو وَالزُّبَيْرُ لِعَيْنِ شَمْسٍ، وَبِهَا جَمْعُهُمْ، وبَعَثَ إِلَى الْفَرَمَا أَبْرَهَةَ بْنَ الصَّبَّاحِ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا، وَبَعَثَ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ إِلَى الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لأَهْلِ مَدِينَتِهِ: إِنْ تَنْزِلُوا فَلَكُمُ الأَمَانُ، فَقَالُوا: نعم، فراسلوهم، وتربص بِهِمْ أَهْلُ عَيْنِ شَمْسٍ، وَسَبَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ بَيْنَ ذَلِكَ وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: مَا أَحْسَنَ مَدِينَتَكُمْ يَا أَهْلَ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ! فَقَالُوا: إِنَّ الإِسْكَنْدَرَ قَالَ: إِنِّي أَبْنِي مَدِينَةً إِلَى اللَّهِ فَقِيرَةً، وَعَنِ النَّاسِ غَنِيَّةً- أَوْ لأَبْنِيَنَّ مَدِينَةً إِلَى اللَّهِ فَقِيرَةً، وَعَنِ النَّاسِ غَنِيَّةً- فَبَقِيَتْ بَهْجَتُهَا.
وَقَالَ أَبْرَهَةُ لأَهْلِ الْفَرَمَا: مَا أَخْلَقَ مَدِينَتَكُمْ يَا أَهْلَ الْفَرَمَا؟ قَالُوا:
إِنَّ الْفَرَمَا قَالَ: إِنِّي أَبْنِي مَدِينَةً عَنِ اللَّهِ غَنِيَّةً، وَإِلَى النَّاسِ فَقِيرَةٌ، فَذَهَبَتْ بَهْجَتُهَا.
وَكَانَ الإِسْكَنْدَرُ وَالْفَرَمَا أَخَوَيْنِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ الإِسْكَنْدَرُ وَالْفَرَمَا أَخَوَيْنِ، ثُمَّ حَدَّثَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَنُسِبَتَا إِلَيْهِمَا، فَالْفَرَمَا يَنْهَدِمُ فِيهَا كُلَّ يَوْمٍ شَيْءٌ، وَخَلقتْ مرآتها، وَبَقِيَتْ جِدَّةُ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: لما نزل عمرو على القوم بعين شمس، وكان الملك بين القبط والنوب، ونزل معه الزبير عليها قال أهل مصر لملكهم: ما تريد الى قوم فلوا كسرى وقيصر، وغيرهم على بلادهم! صالح القوم واعتقد منهم، ولا تعرض لهم، ولا تعرضنا لهم- وذلك في اليوم الرابع- فأبى، وناهدوهم فقاتلوهم، وارتقى الزبير سورها، فلما أحسوه فتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم، ونزل الزبير عليهم عنوة، حتى خرج على عمرو من الباب

(4/108)


معهم، فاعتقدوا بعد ما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذ عنوه مجرى ما صالح عليه، فصاروا ذمة، وكان صلحهم:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمرو بْن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لصوتهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا عليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد اللَّه وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة، الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا، على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة شهد الزبير وعبد اللَّه ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر.
فدخل في ذلك أهل مصر كلهم، وقبلوا الصلح، واجتمعت الخيول فمصر عمرو الفسطاط، ونزله المسلمون، وظهر أبو مريم وأبو مريام، فكلما عمرا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة، فقال: أولهم عهد وعقد؟ ألم نحالفكما ويغار علينا من يومكما! وطردهما، فرجعا وهما يقولان: كل شيء أصبتموه إلى أن نرجع إليكم ففي ذمة منكم، فقال لهما: أتغيرون علينا وهم في ذمة؟ قالا: نعم، وقسم عمرو ذلك السبي على الناس، وتوزعوه، ووقع في بلدان العرب وقدم البشير على عمر بعد بالأخماس، وبعث الوفود

(4/109)


فسألهم عمر، فما زالوا يخبرونه حتى مروا بحديث الجاثليق وصاحبه، فقال:
ألا أراهما يبصران وأنتم تجاهلون ولا تبصرون! من قاتلكم فلا أمان له، ومن لم يقاتلكم فأصابه منكم شيء من أهل القرى فله الأمان في الأيام الخمسة حتى تنصرم، وبعث في الآفاق حتى رد ذلك السبي الذي سبوا ممن لم يقاتل في الأيام الخمسة إلا من قاتل بعد، فترادوهم إلا ما كان من ذلك الضرب، وحضرت القبط باب عمرو، وبلغ عمرا أنهم يقولون: ما أرث العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم! فخاف أن يستثيرهم ذلك من أمرهم، فأمر بجزر فذبحت، فطبخت بالماء والملح، وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا، وأعلموا أصحابهم، وجلس وأذن لأهل مصر، وجيء باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين، فأكلوا أكلا عربيا، انتشلوا وحسوا وهم في العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعا وجرأة، وبعث في أمراء الجنود في الحضور بأصحابهم من الغد، وأمرهم أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ففعلوا، وأذن لأهل مصر، فرأوا شيئا غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوام بألوان مصر، فأكلوا أكل أهل مصر، ونحوا نحوهم، فافترقوا وقد ارتابوا، وقالوا: كدنا وبعث إليهم أن تسلحوا للعرض غدا، وغدا على العرض، وأذن لهم فعرضهم عليهم ثم قال: إني قد علمت أنكم رأيتم في أنفسكم أنكم في شيء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا، فأحببت أن أريكم حالهم، وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فظفروا بكم، وذلك عيشهم، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم في اليوم الثاني، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني، وراجع إلى عيش اليوم الأول فتفرقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم.
وبلغ عمر، فقال لجلسائه: والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره، إن عمرا لعض ثم أمره عليها وقام بها.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الرَّبِيعِ ابن النُّعْمَانِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ: لَمَّا الْتَقَى عَمْرٌو وَالْمُقَوْقِسُ بِعَيْنِ شَمْسٍ،

(4/110)


وَاقْتَتَلَتْ خَيْلاهُمَا، جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَجُولُونَ بَعْدَ الْبُعْدِ فَدَمَّرَهُمْ عَمْرٌو، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ مِنْ حِجَارَةٍ وَلا حَدِيدٍ! فَقَالَ: اسْكُتْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ كَلْبٌ، قَالَ: فَأَنْتَ أَمِيرُ الْكِلابِ، قَالَ: فَلَمَّا جَعَلَ ذَلِكَ يَتَوَاصَلُ نادى عمرو: اين اصحاب رسول الله ص؟ فَحَضَرَ مَنْ شَهِدَهَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص، فَقَالَ: تَقَدَّمُوا، فَبِكُمْ يَنْصُرُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فَتَقَدَّمُوا وَفِيهِمْ يَوْمَئِذٍ أَبُو بُرْدَةَ وَأَبُو بَرْزَةَ، وَنَاهَدَهُمُ النَّاسُ يَتْبَعُونَ الصَّحَابَةَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَظَفَرُوا أَحْسَنَ الظَّفْرِ.
وَافْتُتِحَتْ مِصْرُ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَقَامَ فِيهَا مُلْكُ الإِسْلامِ عَلَى رَجُلٍ، وَجَعَلَ يَفِيضُ عَلَى الأُمَمِ وَالْمُلُوكِ، فَكَانَ أَهْلُ مِصْرَ يَتَدَفَّقُونَ عَلَى الأجلِ، وَأَهْلُ مكران عَلَى رَاسِلَ وَدَاهِرَ، وَأَهْلُ سِجِسْتَانَ عَلَى الشَّاهْ وَذَويه، وَأَهْلُ خُرَاسَانَ وَالْبَابِ عَلَى خَاقَانَ، وَخَاقَانُ وَمَنْ دُونَهُمَا مِنَ الأُمَمِ، فَكَفْكَفَهُمْ عُمَرُ إِبْقَاءً عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ، وَلَوْ خَلَّى سربهم لَبَلَغُوا كُلَّ مَنْهَلٍ.
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْن سهل، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيد بْن مسلم، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بْن أبي حبيب، أن المسلمين لما فتحوا مصر غزوا نوبة مصر، فقفل المسلمون بالجراحات، وذهاب الحدق من جودة الرمي، فسموا رماة الحدق، فلما ولي عبد اللَّه بْن سعد بْن أبي سرح مصر، ولاه إياها عثمان بْن عفان رضي اللَّه عنه، صالحهم على هدية عدة رؤوس منهم، يؤدونهم إلى المسلمين في كل سنة، ويهدي إليهم المسلمون في كل سنة طعاما مسمى وكسوه من نحو ذلك.
قال علي: قال الوليد: قال ابن لهيعة: وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من الولاة والأمراء، وأقره عمر بْن عبد العزيز نظرا منه للمسلمين، وإبقاء عليهم.
قال سيف: ولما كان ذو القعدة من سنة ست عشرة، وضع عمر رضي اللَّه عنه مسالح مصر على السواحل كلها، وكان داعية ذلك أن هرقل أغزى

(4/111)


مصر والشام في البحر، ونهد لأهل حمص بنفسه، وذلك لثلاث سنين وستة أشهر من اماره عمر رضى الله عنه
[أخبار متفرقة]
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة- أعني سنة عشرين- غزا أرض الروم أبو بحرية الكندي عبد اللَّه بْن قيس، وهو أول من دخلها- فيما قيل وقيل:: أول من دخلها ميسره بن مسروق العبسى، فسلم وغنم.
قال: وقال الواقدي: وفي هذه السنة عزل قدامة بْن مظعون عن البحرين، وحده في شرب الخمر.
وفيها استعمل عمر أبا هريرة على البحرين واليمامة.
قال: وفيها تزوج عمر فاطمة بنت الوليد أم عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام.
قال: وفيها توفي بلال بْن رباح رضي اللَّه عنه، ودفن في مقبرة دمشق.
وفيها عزل عمر سعدا عن الكوفة لشكايتهم إياه، وقالوا: لا يحسن يصلي.
وفيها قسم عمر خيبر بين المسلمين، وأجلى اليهود منها، وبعث أبا حبيبة إلى فدك فأقام لهم نصف، فأعطاهم، ومضى إلى وادي القرى فقسمها.
وفيها أجلى يهود نجران إلى الكوفة- فيما زعم الواقدي.
قال الواقدي: وفي هذه السنة- أعني سنة عشرين- دون عمر رضي اللَّه عنه الدواوين قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول من خالفه.
وفيها بعث عمر رضي اللَّه عنه علقمة بْن مجزز المدلجي إلى الحبشة في البحر، وذلك أن الحبشة كانت تطرفت- فيما ذكر- طرفا من أطراف الإسلام، فأصيبوا، فجعل عمر على نفسه الا بحمل في البحر أحدا أبدا

(4/112)


وأما أَبُو معشر فإنه قَالَ- فِيمَا حَدَّثَنِي أحمد بْن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عنه: كانت غزوة الأساودة في البحر سنة إحدى وثلاثين.
قال الواقدي: وفيها مات أسيد بْن الحضير في شعبان.
وفيها ماتت زينب بنت جحش.
وحج في هذه السنة عمر رضي اللَّه عنه.
وكانت عماله في هذه السنة على الأمصار عماله عليها في السنة التي قبلها، إلا من ذكرت أنه عزله واستبدل به غيره، وكذلك قضاته فيها كانوا القضاة الذين كانوا في السنه التي قبلها

(4/113)


إحدى وعشرين
قال أبو جعفر: وفيها كانت وقعة نهاوند في قول ابن إسحاق، حَدَّثَنَا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه.
وكذلك قَالَ أَبُو معشر، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه.
وكذلك قال الواقدي.
وأما سيف بْن عمر فإنه قال: كانت وقعة نهاوند في سنه ثمان عشرة في سنة ست من إمارة عمر، كتب إلي بذلك السري، عن شعيب، عن سيف.

ذكر الخبر عن وقعة المسلمين والفرس بنهاوند
وكان ابتداء ذلك- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ- كَانَ مِنْ حَدِيثِ نهاوند أن النعمان بْن مقرن كان عاملا على كسكر، فكتب إلى عمر رضي اللَّه عنه يخبره أن سعد ابن ابى وقاص استعمله على جبابه الخراج، وقد أحببت الجهاد ورغبت فيه.
فكتب عمر إلى سعد: إن النعمان كتب إلي يذكر أنك استعملته على جباية الخراج، وأنه قد كره ذلك، ورغب في الجهاد، فابعث به إلى أهم وجوهك، إلى نهاوند.
قال: وقد اجتمعت بنهاوند الأعاجم، عليهم ذو الحاجب- رجل من الأعاجم- فكتب عمر إلى النعمان بْن مقرن:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن

(4/114)


مقرن، سلام عَلَيْك، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنه قد بلغني أن جموعا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر اللَّه، وبعون اللَّه، وبنصر اللَّه، بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم، ولا تدخلنهم غيضة، فإن رجلا من المسلمين أحب إلي من مائة ألف دينار والسلام عليك.
فسار النعمان إليه ومعه وجوه أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ حذيفة بْن اليمان، وعبد اللَّه بْن عمر بْن الخطاب، وجرير بْن عبد اللَّه البجلي، والمغيرة بْن شعبة، وعمرو بْن معديكرب الزبيدي، وطليحة بْن خويلد الأسدي، وقيس بْن مكشوح المرادي فلما انتهى النعمان بْن مقرن في جنده إلى نهاوند، طرحوا له حسك الحديد، فبعث عيونا، فساروا لا يعلمون بالحسك، فزجر بعضهم فرسه، وقد دخلت في يده حسكة، فلم يبرح، فنزل، فنظر في يده فإذا في حافره حسكة، فأقبل بها، وأخبر النعمان الخبر، فقال النعمان للناس: ما ترون؟ فقالوا: انتقل من منزلك هذا حتى يروا أنك هارب منهم، فيخرجوا في طلبك، فانتقل النعمان من منزله ذلك، وكنست الأعاجم الحسك، ثم خرجوا في طلبه، وعطف عليهم النعمان، فضرب عسكره، ثم عبى كتائبه، وخطب الناس فقال: إن أصبت فعليكم حذيفة بْن اليمان، وإن أصيب فعليكم جرير بْن عبد اللَّه، وإن أصيب جرير بْن عبد اللَّه فعليكم قيس بْن مكشوح، فوجد المغيرة بْن شعبة في نفسه إذ لم يستخلفه، فأتاه، فقال له: ما تريد أن تصنع؟ فقال: إذا أظهرت قاتلتهم، لانى رايت رسول الله ص يستحب ذلك، فقال المغيرة: لو كنت بمنزلتك باكرتهم القتال، قال له النعمان: ربما باكرت القتال، ثم لم يسود اللَّه وجهك وذلك يوم الجمعة فقال النعمان:
نصلي إن شاء اللَّه، ثم نلقى عدونا دبر الصلاة، فلما تصافوا قال النعمان للناس: إني مكبر ثلاثا، فإذا كبرت الأولى فشد رجل شسعه، وأصلح

(4/115)


من شأنه، فإذا كبرت الثانية، فشد رجل إزاره، وتهيأ لوجه حملته، فإذا كبرت الثالثة فاحملوا عليهم، فإني حامل وخرجت الأعاجم قد شدوا أنفسهم بالسلاسل لئلا يفروا، وحمل عليهم المسلمون فقاتلوهم، فرمي النعمان بنشابة فقتل رحمه اللَّه، فلفه أخوه سويد بْن مقرن في ثوبه، وكتم قتله حتى فتح اللَّه عليهم، ثم دفع الراية إلى حذيفة بْن اليمان، وقتل اللَّه ذا الحاجب، وافتتحت نهاوند، فلم يكن للأعاجم بعد ذلك جماعة.
قال أبو جعفر: وقد كان- فيما ذكر لي- بعث عمر بْن الخطاب رضي اللَّه عنه السائب بْن الأقرع، مولى ثقيف- وكان رجلا كاتبا حاسبا- فقال: الحق بهذا الجيش فكن فيهم، فإن فتح اللَّه عليهم فاقسم على المسلمين فيئهم، وخذ خمس اللَّه وخمس رسوله، وإن هذا الجيش أصيب، فاذهب في سواد الأرض، فبطن الأرض خير من ظهرها.
قال السائب: فلما فتح اللَّه على المسلمين نهاوند، أصابوا غنائم عظاما، فو الله إني لأقسم بين الناس، إذ جاءني علج من أهلها فقال: أتؤمنني على نفسي وأهلي وأهل بيتي، على أن أدلك على كنوز النخيرجان- وهي كنوز آل كسرى- تكون لك ولصاحبك، لا يشركك فيها أحد؟ قال: قلت:
نعم، قال: فابعث معي من أدله عليها، فبعثت معه، فأتى بسفطين عظيمين ليس فيهما إلا اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، فلما فرغت من قسمي بين الناس احتملتهما معي، ثم قدمت على عمر بْن الخطاب، فقال: ما وراءك يا سائب؟
فقلت: خير يا أمير المؤمنين، فتح اللَّه عليك بأعظم الفتح، واستشهد النعمان ابن مقرن رحمه اللَّه فقال عمر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قال: ثم بكى فنشج، حتى إني لأنظر إلى فروع منكبيه من فوق كتده قال: فلما رأيت ما لقي قلت: والله يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده من رجل يعرف وجهه فقال المستضعفون من المسلمين: لكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وانسابهم، وما يصنعون بمعرفة عمر بن أم عمر! ثم قام ليدخل، فقلت: إن

(4/116)


معي مالا عظيما قد جئت به، ثم أخبرته خبر السفطين، قال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما، والحق بجندك قال: فأدخلتهما بيت المال، وخرجت سريعا إلى الكوفة قال: وبات تلك الليلة التي خرجت فيها، فلما اصبح بعث في اثرى رسولا، فو الله ما أدركني حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيري، وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري، فقال: الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك، فلم أقدر عليك إلا الآن قال: قلت: ويلك! ماذا ولماذا؟ قال: لا أدري والله، قال: فركبت معه حتى قدمت عليه، فلما رآني قال: ما لي ولابن أم السائب! بل ما لابن أم السائب وما لي! قَالَ: قلت:
وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ويحك! والله ما هو إلا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها، فباتت ملائكة ربي تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا، يقولون: لنكوينك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين، فخذهما عنى لا ابالك والحق بهما، فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم.
قال: فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة، وغشيني التجار، فابتاعهما مني عمرو بْن حريث المخزومي بألفي ألف، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم، فباعهما بأربعة آلاف ألف، فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عن زياد بن حدير، قال: حدثنى ابى، ان عمر ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِلْهُرْمُزَانِ حِينَ أمَّنَهُ: لا بَأْسَ، انْصَحْ لِي، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ فَارِسَ الْيَوْمَ رَأْسٌ وَجَنَاحَانِ، قَالَ: وَأَيْن الرَّأْسُ؟
قَالَ: بِنَهَاوَنْدَ مَعَ بُنْدَارٍ، فَإِنَّ مَعَهُ أَسَاوِرَةَ كِسْرَى وَأَهْلَ إِصْبَهَانَ، قَالَ:
وَأَيْنَ الْجَنَاحَانِ؟ فَذَكَرَ مَكَانًا نَسِيتُهُ، قَالَ: فَاقْطَعِ الْجَنَاحَيْنِ يَهِنَّ الرَّأْسُ.
فَقَالُ عُمَرُ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ! بَلْ أَعْمَدُ إِلَى الرَّأْسِ فَأَقْطَعُهُ، فَإِذَا قَطَعَهُ اللَّهُ لَمْ يَعْصِ عَلَيْهِ الْجَنَاحَانِ قَالَ: فَأَرَادَ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَقَالُوا: نُذَكِّرُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَسِيرَ بِنَفْسِكَ إِلَى حَلَبَةِ الْعُجْمِ، فَإِنْ أُصِبْتَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ نِظَامٌ، وَلَكِنِ ابْعَثِ الْجُنُودَ، فَبَعَثَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

(4/117)


عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَفِيهِمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنْ سِرْ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَتَبَ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنْ سِرْ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ حَتَّى تَجْتَمِعُوا جَمِيعًا بِنَهَاوَنْدَ، وَكَتَبَ: إِذَا الْتَقَيْتُمْ فَأَمِيرُكْمُ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِنَهَاوَنْدَ، أَرْسَلَ بُنْدَارٌ الْعلجَ إِلَيْهِمْ: أَنِ أَرْسِلُوا إِلَيْنَا رَجُلا نُكَلِّمَهُ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قَالَ أَبِي: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، رَجُلا طَوِيلَ الشَّعْرِ أَعْوَرَ، فَأَرْسَلُوهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ سَأَلْنَاهُ، فَقَالَ: وَجَدْتُهُ قَدِ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ نَأْذَنُ لِهَذَا الْعَرَبِيِّ؟ بِشَارَتِنَا وَبَهْجَتِنَا وَمُلْكِنَا، أَوْ نَتَقَشَّفُ لَهُ فِيمَا قَبِلْنَا حَتَّى يَزْهَدَ؟ فَقَالُوا: لا، بَلْ بِأَفْضَلِ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّارَةِ وَالْعُدَّةِ، فَتَهَيَّئُوا بِهَا، فَلَمَّا أَتَيْنَاهُمْ كَادَتِ الْحِرَابُ وَالنَّيَازِكُ يَلْتَمِعُ مِنْهَا الْبَصَرُ، فَإِذَا هُمْ عَلَى رَأْسِهِ مِثْلُ الشَّيَاطِينِ، وَإِذَا هُوَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ عَلَى رَأْسِهِ التَّاجُ قَالَ: فَمَضَيْتُ كَمَا أَنَا وَنَكَسْتُ، قَالَ: فَدَفَعْتُ وَنَهْنَهْتُ، فَقُلْتُ: الرُّسُلُ لا يُفْعَلُ بِهِمْ هَذَا، فَقَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ كَلْبٌ، فَقُلْتُ: مَعَاذَ اللَّهِ! لأَنَا أَشْرَفُ فِي قَوْمِي من هذا في قومه، فانتهرونى، وقالوا: اجْلِسْ، فَأَجْلَسُونِي قَالَ- وَتُرْجِمَ لَهُ قَوْلُهُ: إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَأَطْوَلُ النَّاسِ جُوعًا، وَأَشْقَى النَّاسِ شَقَاءً، وَأَقْذَرُ النَّاسِ قَذَرًا، وَأَبْعَدُهُ دَارًا، وَمَا مَنَعَنِي أَنْ آمُرَ هَؤُلاءِ الأَسَاوِرَةَ حَوْلِي أَنْ يَنْتَظِمُوكُمْ بِالنُّشَّابِ إِلا تَنَجُّسًا لِجيفِكُمْ، فَإِنَّكُمْ أَرْجَاسٌ، فَإِنْ تَذْهَبُوا نخل عنكم، وان تأتوا نُرِكُمْ مَصَارِعَكُمْ، قَالَ: فَحَمَدْتُ اللَّهَ، وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَخْطَأْتَ مِنْ صِفَتِنَا شَيْئًا، وَلا مِنْ نَعْتِنَا، إِنْ كُنَّا لأَبْعَدَ النَّاسِ دَارًا، وَأَشَدَّ النَّاسِ جُوعًا، وَأَشْقَى النَّاسِ شَقَاءً، وَأَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، حَتَّى بَعَثَ الله عز وجل إلينا رسوله ص، فَوَعَدَنَا النَّصْرَ فِي الدُّنْيَا، وَالْجَنَّةَ فِي الآخِرَةِ، فو الله مَا زِلْنَا نَتَعَرَّفُ مِنْ رَبِّنَا مُنْذُ جَاءَنَا رَسُولُهُ الْفَتْحَ وَالنَّصْرَ، حَتَّى أَتَيْنَاكُمْ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لا نَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ الشَّقَاءِ أَبَدًا حَتَّى نَغْلِبَكُمْ عَلَى مَا فِي أَيْدِيكُمْ، أَوْ نُقْتَلَ بِأَرْضِكُمْ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ الأَعْوَرَ قَدْ صَدَقَكُمُ الَّذِي فِي نَفْسِهِ قَالَ: فَقُمْتُ وَقَدْ وَاللَّهِ أَرْعَبْتُ الْعلجَ جَهْدِي قَالَ: فَأَرْسَلَ

(4/118)


إِلَيْنَا الْعلجُ: إِمَّا أَنْ تَعْبُرُوا إِلَيْنَا بِنَهَاوَنْدَ، وَإِمَّا أَنْ نَعْبُرَ إِلَيْكُمْ فَقَالَ النُّعْمَانُ:
اعْبُرُوا، قَالَ أَبِي: فَلَمْ أَرَ وَاللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، إِنَّهُمْ يَجِيئُونَ كَأَنَّهُمْ جِبَالُ حَدِيدٍ، قَدْ تَوَاثَقُوا أَلا يَفِرُّوا مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ قَرَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، سَبْعَةً فِي قِرَانٍ، وَأَلْقَوْا حَسَكَ الْحَدِيدِ خَلْفَهُمْ، وَقَالُوا: مَنْ فَرَّ مِنَّا عَقَرَهُ حَسَكُ الْحَدِيدِ.
فَقَالَ الْمُغِيرَةُ حِينَ رَأَى كَثْرَتَهُمْ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فَشَلا، إِنَّ عَدُوَّنَا يُتْرَكُونَ يَتَأَهَّبُونَ لا يَعْجَلُونَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الأَمْرَ لِي لَقَدْ أَعْجَلْتُهُمْ- وَكَانَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ رَجُلا لَيِّنًا- فَقَالَ لَهُ: فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُشْهِدُكَ أَمْثَالَهَا فَلا يَحْزُنُكَ وَلا يَعِيبُكَ مَوْقِفُكَ، إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنْ أَنْ أُنَاجِزَهُمْ إِلا شَيْءٌ شَهِدْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ إِذَا غَزَا فَلَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ لَمْ يَعْجَلْ حَتَّى تَحْضُرَ الصَّلاةُ، وَتَهُبَّ الأَرْوَاحُ، وَيَطِيبَ الْقِتَالُ، فَمَا مَنَعَنِي إِلا ذَلِكَ.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَقَرَّ عَيْنِي الْيَوْمَ بِفَتْحٍ يَكُونُ فِيهِ عِزُّ الإِسْلامِ، وَذُلٌّ يُذَلُّ بِهِ الْكُفَّارُ، ثُمَّ اقْبِضْنِي إِلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الشِّهَادَةِ، أَمِّنُوا يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ!.
فَأَمَّنَّا وَبَكَيْنَا ثُمَّ قَالَ: إِنِّي هَازٌّ لِوَائِي فَتَيَسَّرُوا لِلسِّلاحِ، ثُمَّ هَازٌّ الثَّانِيَةَ، فَكُونُوا مُتَأَهْبِينَ لِقِتَالِ عَدُوِّكُمْ، فَإِذَا هَزَزْتُ الثَّالِثَةَ فَلْيَحْمِلْ كُلُّ قَوْمٍ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ مَنْ عَدُوِّهِمْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ.
قَالَ: وَجَاءُوا بِحَسَكِ الْحَدِيدِ قَالَ: فَجَعَلَ يُلْبِثُ حَتَّى إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ وَهَبَّتِ الأَرْوَاحُ كَبَّرَ وَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: أَرْجُو أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لِي، وَيَفْتَحَ عَلَيَّ، ثُمَّ هَزَّ اللِّوَاءَ فَتَيَسَّرْنَا لِلْقِتَالِ، ثُمَّ هَزَّهُ الثَّانِيَةَ فَكُنَّا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ هَزَّهُ الثَّالِثَةَ.
قَالَ: فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: فَتْحًا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ قَالَ النُّعْمَانُ: إِنْ أُصِبْتُ فَعَلَى النَّاسِ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَإِنْ أُصِيبَ حُذَيْفَةُ فَفُلانٌ، وَإِنْ أُصِيبَ فُلانٌ فَفُلانٌ، حَتَّى عَدَّ سَبْعَةً آخِرُهُمُ الْمُغِيرَةُ، ثُمَّ هَزَّ اللِّوَاءَ الثَّالِثَةَ، فَحَمَلَ كُلُّ إِنْسَانٌ عَلَى مَنْ يَلِيهِ من العدو قال: فو الله مَا عَلِمْتُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدًا يَوْمَئِذٍ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَظْفُرَ، فَحَمَلْنَا حَمْلَةً وَاحِدَةً، وَثَبَتُوا لَنَا، فَما كُنَّا نَسْمَعُ إِلا وَقْعَ الْحَدِيدِ عَلَى الْحَدِيدِ، حَتَّى أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ بِمَصَائِبَ عَظِيمَةٍ، فَلَمَّا رَأَوْا صَبْرَنَا وَأَنَّا لا نَبْرَحُ

(4/119)


الْعرصةَ انْهَزَمُوا، فَجَعَلَ يَقَعُ الْوَاحِدُ فَيَقَعُ عَلَيْهِ سَبْعَةٌ، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي قِيَادٍ، فَيُقْتَلُونَ جَمِيعًا، وَجَعَلَ يَعْقِرُهُمْ حَسَكُ الْحَدِيدِ الَّذِي وَضَعُوا خَلْفَهُمْ.
فَقَالَ النُّعْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدِّمُوا اللِّوَاءَ، فَجَعَلْنَا نُقَدِّمُ اللِّوَاءَ، وَنَقْتُلُهُمْ وَنَهْزِمُهُمْ فَلَمَّا رَأَى أَنَّ اللَّهَ قَدِ اسْتَجَابَ لَهُ وَرَأَى الْفَتْحَ، جَاءَتْهُ نُشَّابَةٌ فَأَصَابَتْ خَاصِرَتَهُ، فَقَتَلَتْهُ قَالَ: فَجَاءَ أَخُوهُ مَعْقِلُ فَسَجَى عَلَيْهِ ثَوْبًا، وَأَخَذَ اللِّوَاءَ فَقَاتَلَ، ثُمَّ قَالَ: تَقَدَّمُوا نَقْتُلْهُمْ وَنَهْزِمَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ قَالُوا:
أَيْنَ أَمِيرُنَا؟ قَالَ مَعْقِلٌ: هَذَا أَمِيرُكُمْ، قَدْ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ بِالْفَتْحِ، وَخَتَمَ لَهُ بِالشِّهَادَةِ قَالَ: فَبَايَعَ النَّاسُ حُذَيْفَةَ وَعُمَرُ بِالْمَدِينَةِ يَسْتَنْصِرُ لَهُ، وَيَدْعُو لَهُ مِثْلُ الْحُبْلَى.
قَالَ: وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ مَعَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَتْحٍ أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ، وَأَذَلَّ بِهِ الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ قَالَ: فَحَمَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: النُّعْمَانُ بَعَثَكَ؟ قَالَ: احْتَسَبِ النُّعْمَانَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَبَكَى عُمَرُ وَاسْتَرْجَعَ قَالَ: وَمَنْ وَيْحَكَ! قَالَ: فُلانٌ وَفُلانٌ، حَتَّى عَدَّ لَهُ نَاسًا كَثِيرًا، ثُمَّ قَالَ: وَآخَرِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لا تَعْرِفُهُمْ، فَقَالَ عُمَرُ وَهُوَ يَبْكِي: لا يَضُرُّهُمْ أَلا يَعْرِفَهُمْ عُمَرُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْرِفُهُمْ.
وأما سيف، فإنه قال- فيما كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ يذكر أن شعيبا حدثه عنه، وعن مُحَمَّد والمهلب وطلحة وعمر وسعيد- إن الذي هاج أمر نهاوند أن أهل البصرة لما أشجوا الهرمزان، وأعجلوا أهل فارس عن مصاب جند العلاء، ووطئوا أهل فارس، كاتبوا ملكهم، وهو يومئذ بمرو، فحركوه، فكاتب الملك أهل الجبال من بين الباب والسند وخراسان وحلوان، فتحركوا وتكاتبوا، وركب بعضهم إلى بعض، فأجمعوا أن يوافوا نهاوند، ويبرموا فيها أمورهم، فتوافى إلى نهاوند اوائلهم.
وبلغ سعد الخبر عن قباذ صاحب حلوان، فكتب إلى عمر بذلك، فنزا بسعد أقوام، وألبوا عليه فيما بين تراسل القوم واجتماعهم إلى نهاوند، ولم يشغلهم

(4/120)


ما دهم المسلمين من ذلك، وكان ممن نهض الجراح بْن سنان الأسدي في نفر، فقال عمر: إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الأمر، وقد استعد لكم من استعدوا، وايم اللَّه لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم وإن نزلوا بكم فبعث عمر مُحَمَّد بْن مسلمة، والناس في الاستعداد للأعاجم، والأعاجم في الاجتماع- وكان مُحَمَّد بْن مسلمة هو صاحب العمال الذي يقتص آثار من شكى زمان عمر- فقدم مُحَمَّد على سعد ليطوف به في أهل الكوفة، والبعوث تضرب على أهل الأمصار إلى نهاوند، فطوف به على مساجد أهل الكوفة، لا يتعرض للمسألة عنه في السر، وليست المسألة في السر من شأنهم إذ ذاك، وكان لا يقف على مسجد فيسألهم عن سعد إلا قالوا: لا نعلم إلا خيرا، ولا نشتهي به بدلا، ولا نقول فيه، ولا نعين عليه، إلا من مالأ الجراح بْن سنان وأصحابه، فإنهم كانوا يسكتون لا يقولون سوءا، ولا يسوغ لهم، ويتعمدون ترك الثناء، حتى انتهوا إلى بني عبس، فقال مُحَمَّد: أنشد بالله رجلا يعلم حقا إلا قال! قال أسامة بْن قتادة: اللهم إن نشدتنا فإنه لا يقسم بالسويه، وو لا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية فقال سعد:
اللهم إن كان قالها كاذبا ورئاء وسمعة فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن فعمي، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يجسها، فإذا عثر عليه قال: دعوة سعد الرجل المبارك ثم أقبل على الدعاء على النفر، فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشرا وبطرا وكذبا فاجهد بلاءهم، فجهد بلاؤهم، فقطع الجراح بالسيوف يوم ثاور الحسن بْن علي ليغتاله بساباط، وشدخ قبيصة بالحجارة، وقتل أربد بالوجء وبنعال السيوف وقال سعد: إني لأول رجل أهرق دما من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله ص أبويه، وما جمعهما لأحد قبلي، ولقد رأيتني خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا احسن

(4/121)


ان أصلي، وأن الصيد يلهيني وخرج مُحَمَّد به وبهم إلى عمر حتى قدموا عليه، فأخبره الخبر، فقال: يا سعد، ويحك، كيف تصلي! فقال: أطيل الأوليين، وأحذف الأخريين، فقال: هكذا الظن بك! ثم قال: لولا الاحتياط لكان سبيلهم بينا ثم قال: من خليفتك يا سعد على الكوفه؟ قال: عبد الله ابن عبد اللَّه بن عتبان، فأقره واستعمله، فكان سبب نهاوند وبدء مشورتها وبعوثها في زمان سعد، وأما الوقعة ففي زمان عبد اللَّه.
قالوا: وكان من حديثهم أنهم نفروا لكتاب يزدجرد الملك، فتوافوا إلى نهاوند، فتوافى إليها من بين خراسان إلى حلوان، ومن بين الباب إلى حلوان، ومن بين سجستان إلى حلوان، فاجتمعت حلبة فارس والفهلوج أهل الجبال من بين الباب إلى حلوان ثلاثون ألف مقاتل، ومن بين خراسان إلى حلوان ستون ألف مقاتل، ومن بين سجستان إلى فارس وحلوان ستون ألف مقاتل، واجتمعوا على الفيرزان، وإليه كانوا توافوا وشاركهم موسى عن حمزة بْن المغيرة بْن شعبة، عن أبي طعمة الثقفي- وكان قد أدرك ذلك- قال: ثم إنهم قالوا: إن محمدا الذي جاء العرب بالدين لم يغرض غرضنا، ثم ملكهم أبو بكر من بعده فلم يغرض غرض فارس، إلا في غارة تعرض لهم فيها، وإلا فيما يلي بلادهم من السواد ثم ملك عمر من بعده، فطال ملكه وعرض، حتى تناولكم وانتقصكم السواد والأهواز، وأوطأها، ثم لم يرض حتى أتى أهل فارس والمملكة في عقر دارهم، وهو آتيكم إن لم تأتوه، فقد اخرب بيت مملكتكم، واقتحم بلاد ملككم، وليس بمنته حتى تخرجوا من في بلادكم من جنوده، وتقلعوا هذين المصرين، ثم تشغلوه في بلاده وقراره وتعاهدوا وتعاقدوا، وكتبوا بينهم على ذلك كتابا، وتمالئوا عليه.
وبلغ الخبر سعدا، وقد استخلف عبد اللَّه بْن عبد اللَّه بْن عتبان.
ولما شخص لقي عمر بالخبر مشافهة، وقد كان كتب إلى عمر بذلك، وقال:
إن أهل الكوفه يستأذنوك في الانسياح قبل أن يبادروهم الشدة- وقد كان عمر منعهم من الانسياح في الجبل

(4/122)


وكتب إليه أيضا عبد اللَّه وغيره بأنه قد تجمع منهم خمسون ومائة ألف مقاتل، فإن جاءونا قبل أن نبادرهم الشدة ازدادوا جرأة وقوة، وإن نحن عاجلناهم كان لنا ذلكم، وكان الرسول بذلك قريب بْن ظفر العبدي.
ثم خرج سعد بعده فوافى مشورة عمر، فلما قدم الرسول بالكتاب إلى عمر بالخبر فرآه قال: ما اسمك؟ قال: قريب، قال: ابن من؟ قال:
ابن ظفر، فتفاءل إلى ذلك، وقال: ظفر قريب إن شاء اللَّه، ولا قوة إلا بالله! ونودي في الناس: الصلاة جامعة! فاجتمع الناس، ووافاه سعد، فتفاءل إلى سعد بْن مالك، وقام على المنبر خطيبا، فأخبر الناس الخبر، واستشارهم، وقال: هذا يوم له ما بعده من الأيام، ألا وإني قد هممت بأمر وإني عارضه عليكم فاسمعوه، ثم أخبروني وأوجزوا، وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، ولا تكثروا ولا تطيلوا، فتفشغ بكم الأمور، ويلتوي عليكم الرأي، أفمن الرأي أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه، حتى أنزل منزلا واسطا بين هذين المصرين، فأستنفرهم ثم أكون لهم ردءا حتى يفتح اللَّه عليهم، ويقضي ما أحب، فإن فتح الله عليهم ان اضربهم عليهم في بلادهم، وليتنازعوا ملكهم فقام عثمان بْن عفان، وطلحة بْن عبيد اللَّه، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، في رجال من أهل الرأي من أصحاب رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتكلموا كلاما، فقالوا: لا نرى ذلك، ولكن لا يغيبن عنهم رأيك وأثرك، وقالوا: بإزائهم وجوه العرب وفرسانهم وأعلامهم، ومن قد فض جموعهم، وقتل ملوكهم، وباشر من حروبهم ما هو أعظم من هذه، وإنما استأذنوك ولم يستصرخوك، فأذن لهم، واندب إليهم، وادع لهم وكان الذي ينتقد له الرأي إذا عرض عليه العباس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن حمزة، عن أبي طعمة، [قال: فقام علي بْن أبي طالب ع فقال: أصاب القوم يا أمير المؤمنين الرأي، وفهموا ما كتب به إليك، وإن هذا

(4/123)


الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه لكثرة ولا قلة، هو دينه الذي أظهر، وجنده الذي أعز، وأيده بالملائكة، حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود من اللَّه، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكانك منهم مكان النظام من الخرز، يجمعه ويمسكه، فإن انحل تفرق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهي كثير عزيز بالإسلام، فأقم واكتب إلى أهل الكوفة فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، ومن لم يحفل بمن هو أجمع وأحد وأجد من هؤلاء فليأتهم الثلثان وليقم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم] .
فسر عمر بحسن رأيهم، وأعجبه ذلك منهم وقام سعد فقال:
يا أمير المؤمنين، خفض عليك، فإنهم إنما جمعوا لنقمة.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي بكر الهذلي قال: لما أخبرهم عمر الخبر واستشارهم، وقال: أوجزوا في القول، ولا تطيلوا فتفشغ بكم الأمور، واعلموا أن هذا يوم له ما بعده من الأيام، تكلموا، فقام طلحة بْن عبيد اللَّه- وكان من خطباء أصحاب رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتشهد، ثم قال: أما بعد يا أمير المؤمنين، فقد أحكمتك الأمور، وعجمتك البلايا، واحتنكتك التجارب، وأنت وشأنك، وأنت ورأيك، لا ننبو في يديك، ولا نكل عليك، إليك هذا الأمر، فمرنا نطع، وادعنا نجب، واحملنا نركب، ووفدنا نفد، وقدنا ننقد، فإنك ولي هذا الأمر، وقد بلوت وجربت واختبرت، فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء اللَّه لك إلا عن خيار ثم جلس فعاد عمر فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، فتكلموا فقام عثمان بْن عفان، فتشهد، وقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شأمهم، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم،

(4/124)


ثم تسير أنت بأهل هذين الحرمين إلى المصرين: الكوفة والبصرة، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين، فإنك إذا سرت بمن معك وعندك قل في نفسك ما قد تكاثر من عدد القوم، وكنت أعز عزا وأكثر، يا أمير المؤمنين إنك لا تستبقي من نفسك بعد العرب باقيه، ولا تمتع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز، إن هذا اليوم له ما بعده من الأيام، فاشهده برأيك وأعوانك ولا تغب عنه ثم جلس.
فعاد عمر، فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، فتكلموا، [فقام علي بْن أبي طالب فقال: أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنك إن أشخصت أهل الشام من شأمهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات، أقرر هؤلاء في أمصارهم، واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا فيها ثلاث فرق، فلتقم فرقة لهم في حرمهم وذراريهم، ولتقم فرقة في أهل عهدهم، لئلا ينتقضوا عليهم، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم، إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا: هذا أمير العرب، وأصل العرب، فكان ذلك أشد لكلبهم، وألبتهم على نفسك وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن اللَّه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، ولكنا كنا نقاتل بالنصر] .
فقال عمر: أجل والله، لئن شخصت من البلدة لتنتقضن علي الأرض من أطرافها وأكنافها، ولئن نظرت إلي الأعاجم لا يفارقن العرصة، وليمدنهم من لم يمدهم، وليقولن: هذا أصل العرب، فإذا

(4/125)


اقتطعتموه اقتطعتم أصل العرب، فأشيروا علي برجل أوله ذلك الثغر غدا.
قالوا: أنت أفضل رأيا، وأحسن مقدرة، قال: أشيروا علي به، واجعلوه عراقيا قالوا: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم بأهل العراق وجندك قد وفدوا عليك ورأيتهم وكلمتهم، فقال: أما والله لأولين أمرهم رجلا ليكونن لأول الأسنة إذا لقيها غدا، فقيل: من يا أمير المؤمنين؟ فقال: النعمان بن مقرن المزنى فقالوا: هولها- والنعمان يومئذ بالبصرة معه قواد من قواد أهل الكوفة أمدهم بهم عمر عند انتقاض الهرمزان، فافتتحوا رامهرمز وإيذج، وأعانوهم على تستر وجندى سابور والسوس فكتب إليه عمر مع زر بْن كليب والمقترب الأسود بْن ربيعة بالخبر، وإني قد وليتك حربهم، فسر من وجهك ذلك حتى تأتي ماه، فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع لك جنودك فسر إلى الفيرزان ومن تجمع إليه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، واستنصروا اللَّه، وأكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وروي عن أبي وائل في سبب توجيه عمر النعمان بْن مقرن إلى نهاوند، ما حَدَّثَنِي به مُحَمَّد بن عبد الله بن صفوان الثقفي، قال: حدثنا أمية بن خالد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عبد الرحمن، قال:
قال أبو وائل: كان النعمان بْن مقرن على كسكر، فكتب إلى عمر:
مثلي ومثل كسكر كمثل رجل شاب والى جنبه مومسة تلون له وتعطر، فأنشدك اللَّه لما عزلتني عن كسكر، وبعثتني إلى جيش من جيوش المسلمين! قال: فكتب إليه عمر: أن ائت الناس بنهاوند، فأنت عليهم قال:
فالتقوا، فكان أول قتيل، وأخذ الراية أخوه سويد بْن مقرن، ففتح اللَّه على المسلمين، ولم يكن لهم- يعني للفرس- جماعة بعد يومئذ، فكان أهل كل مصر يغزون عدوهم في بلادهم

(4/126)


رجع الحديث إلى حديث سيف وكتب- يعني عُمَرُ- إِلَى عَبْدِ اللَّه بْن عَبْدِ اللَّه مع ربعي بْن عامر، أن استنفر من أهل الكوفة مع النعمان كذا وكذا، فإني قد كتبت إليه بالتوجه من الأهواز إلى ماه، فليوافوه بها، وليسر بهم إلى نهاوند، وقد أمرت عليهم حذيفة بْن اليمان، حتى ينتهي إلى النعمان بْن مقرن، وقد كتبت إلى النعمان: إن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة بْن اليمان، فإن حدث بحذيفة حدث فعلى الناس نعيم بْن مقرن، ورد قريب ابن ظفر ورد معه السائب بْن الأقرع أمينا وقال: إن فتح اللَّه عليكم فاقسم ما أفاء اللَّه عليهم بينهم، ولا تخدعني ولا ترفع إلي باطلا، وإن نكب القوم فلا تراني ولا أراك فقدما إلى الكوفة بكتاب عمر بالاستحثاث، وكان أسرع أهل الكوفة إلى ذلك الروادف، ليبلوا في الدين، وليدركوا حظا، وخرج حذيفة بْن اليمان بالناس ومعه نعيم حتى قدموا على النعمان بالطزر، وجعلوا بمرج القلعة خيلا عليها النسير وقد كتب عمر إلى سلمى بْن القين وحرملة بْن مريطة وزر بْن كليب والمقترب الأسود بْن ربيعة، وقواد فارس الذين كانوا بين فارس والأهواز، أن اشغلوا فارس عن إخوانكم، وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم، وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري وبعث مجاشع بْن مسعود السلمي إلى الأهواز، وقال له: انصل منها على ماه، فخرج حتى إذا كان بغضي شجر، أمره النعمان أن يقيم مكانه، فأقام بين غضي شجر ومرج القلعة، ونصل سلمى وحرملة وزر والمقترب، فكانوا في تخوم إصبهان وفارس، فقطعوا بذلك عن أهل نهاوند أمداد فارس ولما قدم أهل الكوفة على النعمان بالطزر جاءه كتاب عمر مع قريب:
إن معك حد العرب ورجالهم في الجاهلية، فأدخلهم دون من هو دونهم في العلم بالحرب، واستعن بهم، واشرب برأيهم، وسل طليحة وعمرا وعمرا ولا تولهم شيئا فبعث من الطزر طليحة وعمرا وعمرا طليعة ليأتوه بالخبر، وتقدم

(4/127)


إليهم ألا يغلوا فخرج طليحة بْن خويلد وعمرو بْن أبي سلمى العنزي، وعمرو بْن معد يكرب الزبيدي، فلما ساروا يوما إلى الليل رجع عمرو بْن أبي سلمى، فقالوا: ما رجعك؟ قال: كنت في أرض العجم، وقتلت أرض جاهلها، وقتل أرضا عالمها ومضى طليحة وعمرو حتى إذا كان من آخر الليل رجع عمرو، فقالوا: ما رجعك؟ قال: سرنا يوما وليلة، ولم نر شيئا، وخفت أن يؤخذ علينا الطريق ونفذ طليحة ولم يحفل بهما فقال الناس: ارتد الثانية، ومضى طليحة حتى انتهى إلى نهاوند، وبين الطزر ونهاوند بضعة وعشرون فرسخا فعلم علم القوم، واطلع على الأخبار، ثم رجع حتى إذا انتهى إلى الجمهور كبر الناس، فقال: ما شأن الناس؟ فأخبروه بالذي خافوا عليه، فقال: والله لو لم يكن دين إلا العربية ما كنت لأجزر العجم الطماطم هذه العرب العاربة فأتى النعمان فدخل عليه، فأخبروه الخبر، وأعلمه أنه ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه، ولا أحد.
فنادى عند ذلك النعمان بالرحيل، فأمرهم بالتعبية وبعث إلى مجاشع بْن مسعود أن يسوق الناس، وسار النعمان على تعبيته، وعلى مقدمته نعيم بْن مقرن، وعلى مجنبتيه حذيفة بْن اليمان وسويد بْن مقرن، وعلى المجردة القعقاع ابن عمرو، وعلى الساقة مجاشع، وقد توافى إليه أمداد المدينة، فيهم المغيرة وعبد اللَّه، فانتهوا الى الاسبيذهان والقوم وقوف دون واى خرد على تعبيتهم وأميرهم الفيرزان، وعلى مجنبتيه الزردق وبهمن جاذويه الذي جعل مكان ذي الحاجب، وقد توافى إليهم بنهاوند كل من غاب عن القادسية والأيام من أهل الثغور وأمرائها وأعلام من أعلامهم ليسوا بدون من شهد الأيام والقوادس، وعلى خيولهم أنوشق فلما رآهم النعمان كبر وكبر الناس معه

(4/128)


فتزلزلت الأعاجم، فأمر النعمان وهو واقف بحط الأثقال، وبضرب الفسطاط، فضرب وهو واقف، فابتدره اشراف اهل الكوفه وأعيانهم، فسبق اليه يومئذ عده من اشراف اهل الكوفه تسابقوا فبنوا له فسطاطا سابقوا أكفاءهم فسبقوهم، وهم أربعة عشر، منهم حذيفة بْن اليمان، وعقبة بْن عمرو، والمغيرة بْن شعبة، وبشير بْن الخصاصية، وحنظلة الكاتب بْن الربيع، وابن الهوبر، وربعي بْن عامر، وعامر بْن مطر، وجرير بْن عبد اللَّه الحميري، والأقرع بْن عبد اللَّه الحميري وجرير بْن عبد اللَّه البجلي، والأشعث بْن قيس الكندي، وسعيد بْن قيس الهمداني، ووائل بْن حجر، فلم ير بناء فسطاط بالعراق كهؤلاء وانشب النعمان بعد ما حط الأثقال القتال، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس، والحرب بينهم في ذاك سجال في سبع سنين من إمارة عمر، في سنة تسع عشرة، وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة، وحصرهم المسلمون، فأقاموا عليهم ما شاء اللَّه والأعاجم بالخيار، لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج، فاشتد ذلك على المسلمين، وخافوا ان يطول امرهم وسرهم ان يناجزهم عدوهم، حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع تجمع أهل الرأي من المسلمين، فتكلموا، وقالوا: نراهم علينا بالخيار وأتوا النعمان في ذلك فأخبروه، فوافقوه وهو يروي في الذي رووا فيه فقال: على رسلكم، لا تبرحوا! وبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي في الحروب، فتوافوا إليه، فتكلم النعمان، فقال:
قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن، وأنهم لا يخرجون إلا إذا شاءوا، ولا يقدر المسلمون على إنغاضهم وانبعاثهم قبل مشيئتهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق بالذي هم فيه وعليه من الخيار عليهم في الخروج، فما الرأي الذي به نحمشهم ونستخرجهم إلى

(4/129)


المنابذة، وترك التطويل؟
فتكلم عمرو بْن ثبي- وكان أكبر الناس يومئذ سنا، وكانوا إنما يتكلمون على الأسنان- فقال: التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم، فدعهم ولا تحرجهم وطاولهم، وقاتل من أتاك منهم، فردوا عليه جميعا رأيه.
وقالوا: إنا على يقين من إنجاز ربنا موعده لنا.
وتكلم عمرو بن معديكرب، فقال: ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم.
فردوا عليه جميعا رأيه، وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران، والجدران لهم أعوان علينا.
وتكلم طليحة فقال: قد قالا ولم يصيبا ما أرادا، وأما أنا فأرى أن تبعث خيلا مؤدية، فيحدقوا بهم، ثم يرموا لينشبوا القتال، ويحمشوهم، فإذا استحمشوا واختلطوا بهم وأرادوا الخروج أرزوا إلينا استطرادا، فإنا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلناهم، وإنا إذا فعلنا ذلك ورأوا ذلك منا طمعوا في هزيمتنا ولم يشكوا فيها، فخرجوا فجادونا وجاددناهم، حتى يقضي اللَّه فيهم وفينا ما أحب.
فأمر النعمان القعقاع بْن عمرو- وكان على المجردة- ففعل، وأنشب القتال بعد احتجاز من العجم، فأنغضهم فلما خرجوا نكص، ثم نكص، ثم نكص، واغتنمها الأعاجم، ففعلوا كما ظن طليحة وقالوا: هي هي، فخرجوا فلم يبق أحد إلا من يقوم لهم على الأبواب، وجعلوا يركبونهم حتى أرز القعقاع إلى الناس، وانقطع القوم عن حصنهم بعض الانقطاع، والنعمان ابن مقرن والمسلمون على تعبيتهم في يوم جمعة في صدر النهار، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده، وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوهم حتى يأذن لهم، ففعلوا واستتروا بالحجف من الرمي، وأقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات، وشكا بعض الناس ذلك إلى بعض، ثم قالوا للنعمان: ألا ترى ما نحن فيه! ألا ترى إلى ما لقي الناس، فما تنتظر بهم!

(4/130)


ائذن للناس في قتالهم، فقال لهم النعمان: رويدا رويدا! قالوا له ذلك مرارا، فأجابهم بمثل ذلك مرارا: رويدا رويدا، فقال المغيرة: لو أن هذا الأمر إلي علمت ما أصنع! فقال: رويدا ترى أمرك، وقد كنت تلي الأمر فتحسن، فلا يخذلنا اللَّه ولا إياك، ونحن نرجو في المكث مثل الذي ترجو في الحث.
وجعل النعمان ينتظر بالقتال إكمال ساعات كانت أحب إلى رسول اللَّه ص في القتال أن يلقى فيها العدو، وذلك عند الزوال وتفيؤ الأفياء ومهب الرياح فلما كان قريبا من تلك الساعة تحشحش النعمان، وسار في الناس على برذون أحوى قريب من الأرض، فجعل يقف على كل راية، ويحمد اللَّه ويثني عليه، ويقول: قد علمتم ما أعزكم اللَّه به من هذا الدين، وما وعدكم من الظهور، وقد أنجز لكم هوادي ما وعدكم وصدوره، وإنما بقيت أعجازه وأكارعه، والله منجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله، واذكروا ما مضى إذ كنتم أذلة، وما استقبلتم من هذا الأمر وأنتم أعزة، فأنتم اليوم عباد اللَّه حقا وأولياؤه، وقد علمتم انقطاعكم من إخوانكم من أهل الكوفة، والذي لهم في ظفركم وعزكم، والذي عليهم في هزيمتكم وذلكم، وقد ترون من أنتم بإزائه من عدوكم، وما أخطرتم وما أخطروا لكم، فأما ما أخطروا لكم فهذه الرثة وما ترون من هذا السواد، وأما ما أخطرتم لهم فدينكم وبيضتكم، ولا سواء ما أخطرتم وما أخطروا، فلا يكونن على دنياهم أحمى منكم على دينكم، واتقى اللَّه عبد صدق اللَّه، وأبلى نفسه فأحسن البلاء، فإنكم بين خيرين منتظرين، إحدى الحسنيين، من بين شهيد حي مرزوق، أو فتح قريب وظفر يسير فكفى كل رجل ما يليه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيجتمع عليه قرنه وقرن نفسه، وذلك من الملأمة، وقد يقاتل الكلب عن صاحبه، فكل رجل منكم مسلط على ما يليه، فإذا قضيت أمري فاستعدوا فإني مكبر ثلاثا، فإذا كبرت التكبيرة الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ، فإذا كبرت الثانية فليشد عليه سلاحه،

(4/131)


وليتأهب للنهوض، فإذا كبرت الثالثة، فإني حامل إن شاء اللَّه فاحملوا معا اللهم أعز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك! فلما فرغ النعمان من التقدم إلى أهل المواقف، وقضى إليهم أمره، رجع إلى موقفه، فكبر الأولى والثانية والثالثة، والناس سامعون مطيعون مستعدون للمناهضة، ينحي بعضهم بعضا عن سننهم، وحمل النعمان وحمل الناس، وراية النعمان تنقض نحوهم انقضاض العقاب، والنعمان معلم ببياض القباء والقلنسوة، فاقتتلوا بالسيوف قتالا شديدا لم يسمع السامعون بوقعه يوم قط كانت أشد قتالا منها، فقتلوا فيها من أهل فارس فيما بين الزوال والإعتام ما طبق أرض المعركة دما يزلق الناس والدواب فيه، وأصيب فرسان من فرسان المسلمين في الزلق في الدماء، فزلق فرس النعمان في الدماء فصرعه، وأصيب النعمان حين زلق به فرسه، وصرع وتناول الراية نعيم بْن مقرن قبل أن تقع، وسجى النعمان بثوب، وأتى حذيفة بالراية فدفعها إليه، وكان اللواء مع حذيفة، فجعل حذيفة نعيم بْن مقرن مكانه، وأتى المكان الذي كان فيه النعمان فأقام اللواء، وقال له المغيرة: اكتموا مصاب أميركم حتى ننظر ما يصنع اللَّه فينا وفيهم، لكيلا يهن الناس، واقتتلوا حتى إذا أظلهم الليل انكشف المشركون وذهبوا، والمسلمون ملظون بهم متلبسون، فعمي عليهم قصدهم، فتركوه وأخذوا نحو اللهب الذي كانوا نزلوا دونه بإسبيذهان، فوقعوا فيه، وجعلوا لا يهوي منهم أحد إلا قال: وايه خرد، فسمي بذلك وايه خرد إلى اليوم، فمات فيه منهم مائة ألف أو يزيدون، سوى من قتل في المعركة منهم اعدادهم لم يفلت إلا الشريد، ونجا الفيرزان بين الصرعى في المعركة، فهرب نحو همدان في ذلك الشريد، فأتبعه نعيم بْن مقرن، وقدم القعقاع قدامه فأدركه حين انتهى إلى ثنية همدان، والثنية مشحونة من بغال وحمير موقرة عسلا، فحبسه الدواب

(4/132)


سنه 21 على أجله، فقتله على الثنية بعد ما امتنع، وقال المسلمون: إن لله جنودا من عسل، واستاقوا العسل وما خالطه من سائر الأحمال، فأقبل بها، وسميت الثنية بذلك ثنية العسل، وإن الفيرزان لما غشيه القعقاع نزل فتوقل في الجبل إذ لم يجد مساغا، وتوقل القعقاع في أثره حتى أخذه، ومضى الفلال حتى انتهوا إلى مدينة همذان والخيل في آثارهم، فدخلوها، فنزل المسلمون عليهم، وحووا ما حولها، فلما راى ذلك خسرو شنوم استأمنهم، وقبل منهم على أن يضمن لهم همذان ودستبي، وألا يؤتى المسلمون منهم، فأجابوهم إلى ذلك وأمنوهم، وأمن الناس، وأقبل كل من كان هرب، ودخل المسلمون بعد هزيمة المشركين يوم نهاوند مدينة نهاوند واحتووا ما فيها وما حولها، وجمعوا الأسلاب والرثاث إلى صاحب الأقباض السائب بْن الأقرع فبيناهم كذلك على حالهم وفي عسكرهم يتوقعون ما يأتيهم من إخوانهم بهمذان، أقبل الهربذ صاحب بيت النار على أمان، فأبلغ حذيفة، فقال:
أتؤمنني على أن أخبرك بما أعلم؟ قال: نعم، قال: إن النخيرجان وضع عندي ذخيرة لكسرى، فأنا أخرجها لك على أماني وأمان من شئت، فأعطاه ذلك، فأخرج له ذخيرة كسرى، جوهرا كان أعده لنوائب الزمان، فنظروا في ذلك، فأجمع رأي المسلمين على رفعه إلى عمر، فجعلوه له، فأخروه حتى فرغوا فبعثوا به مع ما يرفع من الأخماس، وقسم حذيفة بْن اليمان بين الناس غنائمهم، فكان سهم الفارس يوم نهاوند ستة آلاف، وسهم الراجل ألفين، وقد نفل حذيفة من الأخماس من شاء من أهل البلاء يوم نهاوند، ورفع ما بقي من الأخماس إلى السائب بْن الأقرع، فقبض السائب الأخماس، فخرج بها إلى عمر وبذخيرة كسرى وأقام حذيفة بعد الكتاب بفتح نهاوند بنهاوند ينتظر جواب عمر وأمره، وكان رسوله بالفتح طريف بْن سهم، أخو بنى ربيعه ابن مالك.
فلما بلغ الخبر أهل الماهين بأن همذان قد أخذت، ونزلها نعيم ابن مقرن والقعقاع بْن عمرو اقتدوا بخسروشنوم، فراسلوا حذيفة،

(4/133)


فأجابهم إلى ما طلبوا، فأجمعوا على القبول، وعزموا على إتيان حذيفة، فخدعهم دينار- وهو دون أولئك الملوك، وكان ملكا، إلا أن غيره منهم كان أرفع منه، وكان أشرفهم قارن- وقال: لا تلقوهم في جمالكم ولكن تقهلوا لهم، ففعلوا، وخالفهم فآتاهم في الديباج والحلي، وأعطاهم حاجتهم واحتمل للمسلمين ما أرادوا، فعاقدوه عليهم، ولم يجد الآخرون بدا من متابعته والدخول في أمره، فقيل ماه دينار لذلك فذهب حذيفة بماه دينار، وقد كان النعمان عاقد بهراذان على مثل ذلك، فنسبت إلى بهراذان، ووكل النسير بْن ثور بقلعة قد كان لجأ إليها قوم فجاهدهم، فافتتحها فنسبت إلى النسير، وقسم حذيفة لمن خلفوا بمرج القلعة ولمن أقام بغضي شجر ولأهل المسالح جميعا في فيء نهاوند مثل الذي قسم لأهل المعركة، لأنهم كانوا ردءا للمسلمين لئلا يؤتوا من وجه من الوجوه وتململ عمر تلك الليلة التي كان قدر للقائهم، وجعل يخرج ويلتمس الخبر، فبينا رجل من المسلمين قد خرج في بعض حوائجه، فرجع إلى المدينة ليلا، فمر به راكب في الليلة الثالثة من يوم نهاوند يريد المدينة فقال: يا عبد اللَّه، من أين أقبلت؟
قال: من نهاوند، قال: ما الخبر؟ قال: الخبر خير، فتح اللَّه على النعمان، واستشهد، واقتسم المسلمون فيء نهاوند، فأصاب الفارس ستة آلاف.
وطواه الراكب حتى انغمس في المدينة، فدخل الرجل، فبات فأصبح فتحدث بحديثه، ونمى الخبر حتى بلغ عمر، وهو فيما هو فيه، فأرسل إليه، فسأله فأخبره، فقال: صدق وصدقت، هذا عثيم بريد الجن، وقد رأى بريد الإنس، فقدم عليه طريف بالفتح بعد ذلك، فقال: الخبر! فقال: ما عندي أكثر من الفتح، خرجت والمسلمون في الطلب وهم على رجل، وكتمه إلا ما سره.
ثم خرج وخرج معه أصحابه، فأمعن، فرفع له راكب، فقال: قولوا، فقال عثمان بْن عفان: السائب، فقال: السائب، فلما دنا منه قال: ما وراءك؟

(4/134)


قال: البشرى والفتح، قال: ما فعل النعمان؟ قال: زلق فرسه في دماء القوم، فصرع فاستشهد، فانطلق راجعا والسائب يسايره، وسأل عن عدد من قتل من المسلمين، فأخبره بعدد قليل، وأن النعمان أول من استشهد يوم فتح الفتوح- وكذلك كان يسميه أهل الكوفة والمسلمون- فلما دخل المسجد حطت الأحمال فوضعت في المسجد، وأمر نفرا من أصحابه- منهم عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم- بالمبيت فيه، ودخل منزله، وأتبعه السائب بْن الأقرع بذينك السفطين، وأخبره خبرهما وخبر الناس، فقال:
يا بن مليكة، والله ما دروا هذا، ولا أنت معهم! فالنجاء النجاء، عودك على بدئك حتى تأتي حذيفة فيقسمهما على من أفاءهما اللَّه عليه، فأقبل راجعا بقبل حتى انتهى إلى حذيفة بماه، فأقامهما فباعهما، فأصاب أربعة آلاف ألف.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن قيس الأسدي، أن رجلا يقال له جعفر بْن راشد، قال لطليحة وهم مقيمون على نهاوند: لقد أخذتنا خلة، فهل بقي من أعاجيبك شيء تنفعنا به؟ فقال:
كما أنتم حتى أنظر، فأخذ كساء فتقنع به غير كثير، ثم قال: البيان البيان، غنم الدهقان، في بستان، مكان أرونان فدخلوا البستان فوجدوا الغنم مسمنة.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابى معبد العبسى وعروه ابن الوليد، عمن حدثهم من قومهم، قال: بينما نحن محاصرو أهل نهاوند خرجوا علينا ذات يوم، فقاتلونا فلم نلبثهم أن هزمهم اللَّه، فتبع سماك بْن عبيد العبسي- رجلا منهم- معه نفر ثمانية على أفراس لهم فبارزهم، فلم يبرز له أحد إلا قتله، حتى أتى عليهم ثم حمل على الذي كانوا معه، فأسره وأخذ سلاحه، ودعا له رجلا اسمه عبد، فوكله به، فقال: اذهبوا بي إلى أميركم حتى أصالحه على هذه الأرض، وأؤدي إليه الجزية، وسلني أنت عن إسارك ما شئت، وقد مننت علي إذ لم تقتلني، وإنما أنا عبدك الآن، وإن أدخلتني على الملك، وأصلحت ما بيني وبينه وجدت لي شكرا، وكنت

(4/135)


لي أخا فخلى سبيله وأمنه، وقال: من أنت؟ قال: أنا دينار- والبيت منهم يومئذ في آل قارن- فأتى به حذيفة، فحدثه دينار عن نجدة سماك وما قتل ونظره للمسلمين، فصالحه على الخراج، فنسبت إليه ماه، وكان يواصل سماكا ويهدي له، ويوافي الكوفة كلما كان عمله إلى عامل الكوفة، فقدم الكوفة في إمارة معاوية، فقام في الناس بالكوفة، فقال: يا معشر أهل الكوفة، أنتم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس، فعمرتم بذلك زمان عمر وعثمان، ثم تغيرتم وفشت فيكم خصال أربع: بخل، وخب، وغدر، وضيق، ولم يكن فيكم واحدة منهن، فرمقتكم، فإذا ذلك في مولديكم، فعلمت من أين أتيتم، فإذا الخب من قبل النبط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبل الأهواز.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن مُحَمَّد، عن الشعبي، قال: لما قدم بسبي نهاوند إلى المدينة، جعل أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بْن شعبة لا يلقى منهم صغيرا إلا مسح رأسه وبكى وقال:
أكل عمر كبدي- وكان نهاونديا، فأسرته الروم أيام فارس، وأسره المسلمون بعد، فنسب إلى حيث سبي.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: قتل في اللهب ممن هوى فيه ثمانون ألفا، وفي المعركة ثلاثون ألفا مقترين، سوى من قتل في الطلب، وكان المسلمون ثلاثين ألفا، وافتتحت مدينة نهاوند في أول سنة تسع عشرة، لسبع سنين من إمارة عمر، لتمام سنه ثمان عشرة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، عن مُحَمَّد والمهلب وطلحة في كتاب النعمان بْن مقرن وحذيفة لأهل الماهين:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى النعمان بْن مقرن أهل ماه بهراذان،

(4/136)


أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، لا يغيرون على ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدوا الجزية في كل سنة إلى من وليهم، على كل حالم في ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبيل، وأصلحوا الطرق، وقروا جنود المسلمين ممن مر بهم فأوى إليهم يوما وليلة، ووفوا ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا، فذمتنا منهم بريئة شهد عبد الله ابن ذي السهمين، والقعقاع بْن عمرو، وجرير بْن عبد اللَّه.
وكتب في المحرم سنة تسع عشرة.
بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى حذيفة بْن اليمان أهل ماه دينار، أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، لا يغيرون عن ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدوا الجزية في كل سنة إلى من وليهم من المسلمين، على كل حالم في ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبيل، وأصلحوا الطرق، وقروا جنود المسلمين، من مر بهم، فأوى إليهم يوما وليلة، ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا فذمتنا منهم بريئة شهد القعقاع بْن عمرو، ونعيم بْن مقرن، وسويد بْن مقرن وكتب في المحرم.
قالوا: وألحق عمر من شهد نهاوند فأبلى من الروادف بلاء فاضلا في ألفين ألفين، ألحقهم بأهل القادسية.
وفي هذه السنة أمر عمر جيوش العراق بطلب جيوش فارس حيث كانت، وأمر بعض من كان بالبصرة من جنود المسلمين وحواليها بالمسير إلى أرض فارس وكرمان وإصبهان، وبعض من كان منهم بناحيه الكوفه وما هاتها إلى إصبهان وأذربيجان والري، وكان بعضهم يقول: إنما كان ذلك من فعل عمر في سنه ثمان عشرة وهو قول سيف بْن عمر.
ذكر الخبر عما كَانَ فِي هَذِهِ السنة- أعني سنة إحدى وعشرين- من أمر الجندين اللذين ذكرت أن عمر أمرهما بما ذكر أنه أمرهما به:
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ

(4/137)


وعمرو وسعيد، قالوا: لما رأى عمر أن يزدجرد يبعث عليه في كل عام حربا، وقيل له: لا يزال هذا الدأب حتى يخرج من مملكته، أذن للناس في الانسياح في أرض العجم، حتى يغلبوا يزدجرد على ما كان في يدي كسرى، فوجه الأمراء من أهل البصرة بعد فتح نهاوند، ووجه الأمراء من أهل الكوفة بعد فتح نهاوند، وكان بين عمل سعد بْن أبي وقاص وبين عمل عمار بْن ياسر أميران: أحدهما عبد الله بن عبد الله بن عتبان- وفي زمانه كانت وقعة نهاوند- وزياد بْن حنظلة حليف بني عبد بْن قصي- وفي زمانه أمر بالانسياح- وعزل عبد اللَّه بْن عبد اللَّه، وبعث في وجه آخر من الوجوه، وولي زياد بْن حنظلة- وكان من المهاجرين- فعمل قليلا، وألح في الاستعفاء، فأعفي، وولي عمار بْن ياسر بعد زياد، فكان مكانه، وأمد أهل البصرة بعبد اللَّه بْن عبد اللَّه، وأمد أهل الكوفة بأبي موسى، وجعل عمر بْن سراقة مكانه، وقدمت الألوية من عند عمر إلى نفر بالكوفة زمان زياد بْن حنظلة، فقدم لواء منها على نعيم بْن مقرن، وقد كان أهل همذان كفروا بعد الصلح، فأمره بالسير نحو همذان، وقال: فإن فتح اللَّه على يديك فإلى ما وراء ذلك، في وجهك ذلك إلى خراسان وبعث عتبة ابن فرقد وبكير بْن عبد اللَّه وعقد لهما على أذربيجان، وفرقها بينهما، وأمر أحدهما أن يأخذ إليها من حلوان إلى ميمنتها، وأمر الآخر أن يأخذ إليها من الموصل إلى ميسرتها، فتيامن هذا عن صاحبه، وتياسر هذا عن صاحبه وبعث إلى عبد اللَّه بْن عبد اللَّه بلواء، وأمره أن يسير إلى إصبهان، وكان شجاعا بطلا من أشراف الصحابة ومن وجوه الأنصار، حليفا لبني الحبلى من بني أسد، وأمده بأبي موسى من البصرة، وأمر عمر بْن سراقة على البصرة.
وكان من حديث عبد اللَّه بْن عبد اللَّه أن عمر حين أتاه فتح نهاوند بدا له أن يأذن في الانسياح فكتب إليه: أن سر من الكوفة حتى تنزل المدائن، فاندبهم ولا تنتخبهم، واكتب إلي بذلك، وعمر يريد توجيهه إلى إصبهان.
فانتدب له فيمن انتدب عبد اللَّه بْن ورقاء الرياحي، وعبد اللَّه بن الحارث

(4/138)


ابن ورقاء الأسدي والذين لا يعلمون يرون أن أحدهما عبد الله بن بديل ابن ورقاء الخزاعي، لذكر ورقاء، وظنوا أنه نسب الى جده، وكان عبد الله ابن بديل بْن ورقاء يوم قتل بصفين ابن أربع وعشرين سنة، وهو أيام عمر صبي ولما أتى عمر انبعاث عبد اللَّه، بعث زياد بْن حنظلة، فلما أتاه انبعاث الجنود وانسياحهم أمر عمارا بعد، وقرأ قول اللَّه عز وجل: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ» وقد كان زياد صرف في وسط من إمارة سعد إلى قضاء الكوفة بعد إعفاء سلمان وعبد الرحمن ابني ربيعة، ليقضي إلى أن يقدم عبد اللَّه بْن مسعود من حمص، وقد كان عمل لعمر على ما سقى الفرات ودجلة النعمان وسويد ابنا مقرن، فاستعفيا، وقالا: أعفنا من عمل يتغول ويتزين لنا بزينة المومسة.
فأعفاهما، وجعل مكانهما حذيفة بْن أسيد الغفاري وجابر بْن عمرو المزني، ثم استعفيا فأعفاهما، وجعل مكانهما حذيفة بْن اليمان وعثمان بْن حنيف، حذيفة على ما سقت دجلة وما وراءها، وعثمان على ما سقى الفرات من السوادين جميعا، وكتب إلى أهل الكوفة: إني بعثت إليكم عمار بْن ياسر أميرا، وجعلت عبد اللَّه بْن مسعود معلما ووزيرا، ووليت حذيفة بْن اليمان ما سقت دجلة وما وراءها، ووليت عثمان بْن حنيف الفرات وما سقى
. ذكر الخبر عن إصبهان
قالوا: ولما قدم عمار إلى الكوفة أميرا، وقدم كتاب عمر إلى عبد اللَّه:
أن سر إلى إصبهان وزياد على الكوفة، وعلى مقدمتك عبد اللَّه بْن ورقاء الرياحي، وعلى مجنبتيك عبد اللَّه بْن ورقاء الأسدي وعصمة بْن عبد اللَّه- وهو عصمة بْن عبد اللَّه بْن عبيدة بن سيف بن عبد الحارث- فسار عبد اللَّه في الناس حتى قدم على حذيفة، ورجع حذيفة إلى عمله، وخرج عبد الله فيمن كان معه ومن انصرف معه من جند النعمان من نهاوند نحو جند

(4/139)


قد اجتمع له من أهل إصبهان عليهم الأستندار، وكان على مقدمته شهر براز جاذويه، شيخ كبير في جمع عظيم، فالتقى المسلمون ومقدمة المشركين برستاق من رساتيق إصبهان، فاقتتلوا قتالا شديدا، ودعا الشيخ إلى البراز، فبرز له عبد اللَّه بْن ورقاء، فقتله وانهزم أهل إصبهان، وسمى المسلمون ذلك الرستاق رستاق الشيخ، فهو اسمه إلى اليوم ودعا عبد الله ابن عبد اللَّه من يليه، فسأل الأستندار الصلح، فصالحهم، فهذا أول رستاق أخذ من إصبهان ثم سار عبد اللَّه من رستاق الشيخ نحو جي حتى انتهى إلى جي والملك بإصبهان يومئذ الفاذوسفان، ونزل بالناس على جي، فحاصرهم، فخرجوا إليه بعد ما شاء اللَّه من زحف، فلما التقوا قال الفاذوسفان لعبد اللَّه: لا تقتل أصحابي، ولا أقتل أصحابك، ولكن ابرز لي، فإن قتلتك رجع أصحابك وإن قتلتني سالمك أصحابي، وإن كان أصحابي لا يقع لهم نشابة فبرز له عبد اللَّه وقال: إما أن تحمل علي، وإما أن أحمل عليك، فقال: أحمل عليك، فوقف له عبد اللَّه، وحمل عليه الفاذوسفان، فطعنه، فأصاب قربوس سرجه فكسره، وقطع اللبب والحزام، وزال اللبد والسرج، وعبد اللَّه على الفرس، فوقع عبد اللَّه قائما، ثم استوى على الفرس عريا، وقال له: اثبت، فحاجزه، وقال: ما أحب أن أقاتلك، فإني قد رأيتك رجلا كاملا ولكن أرجع معك إلى عسكرك فأصالحك، وأدفع المدينة إليك، على أن من شاء أقام ودفع الجزية وأقام على ماله، وعلى أن تجرى من أخذتم أرضه عنوة مجراهم، ويتراجعون، ومن أبى أن يدخل فيما دخلنا فيه ذهب حيث شاء، ولكم أرضه قال:
لكم ذلك.
وقدم عليه أبو موسى الأشعري من ناحية الأهواز، وقد صالح الفاذوسفان عبد اللَّه فخرج القوم من جي، ودخلوا في الذمة إلا ثلاثين رجلا من أهل إصبهان خالفوا قومهم وتجمعوا فلحقوا بكرمان في حاشيتهم، لجمع كان بها، ودخل عبد اللَّه وأبو موسى جي- وجي مدينة إصبهان- وكتب بذلك

(4/140)


إلى عمر، واغتبط من أقام، وندم من شخص فقدم كتاب عمر على عبد اللَّه:
أن سر حتى تقدم على سهيل بْن عدي فتجامعه على قتال من بكرمان، وخلف في جى من بقي عن جي، واستخلف على إصبهان السائب بْن الأقرع.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن نفر من أصحاب الحسن، منهم المبارك بْن فضالة، عن الحسن، عن أسيد بن المتشمس بن أخي الأحنف، قال: شهدت مع أبي موسى فتح إصبهان، وإنما شهدها مددا.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: كتاب صلح إصبهان:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم كتاب من عبد اللَّه للفاذوسفان وأهل إصبهان وحواليها، إنكم آمنون ما أديتم الجزية، وعليكم من الجزية بقدر طاقتكم في كل سنة تؤدونها إلى الذي يلي بلادكم عن كل حالم، ودلالة المسلم وإصلاح طريقه وقراه يوما وليلة، وحملان الراجل إلى مرحلة، لا تسلطوا على مسلم، وللمسلمين نصحكم وأداء ما عليكم، ولكم الأمان ما فعلتم، فإذا غيرتم شيئا او غير مغير منكم ولم تسلموه فلا أمان لكم، ومن سب مسلما بلغ منه، فإن ضربه قتلناه وكتب وشهد عبد اللَّه بْن قيس، وعبد اللَّه بْن ورقاء، وعصمة بْن عبد اللَّه.
فلما قدم الكتاب من عمر على عبد اللَّه، وأمر فيه باللحاق بسهيل بْن عدي بكرمان خرج في جريدة خيل، واستخلف السائب، ولحق بسهيل قبل أن يصل إلى كرمان.
وقد روي عن معقل بْن يسار أن الذي كان أميرا على جيش المسلمين حين غزوا إصبهان النعمان بْن مقرن.
ذكر الرواية بذلك:
حَدَّثَنَا يعقوب بْن إبراهيم وعمرو بْن علي، قالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حماد بْن سلمة، عن ابى عمران الجونى، عن علقمه

(4/141)


ابن عبد اللَّه المزني، عن معقل بْن يسار، أن عمر بْن الخطاب شاور الهرمزان، فقال: ما ترى؟ أبدأ بفارس، أم بأذربيجان، أم بإصبهان؟ فقال: إن فارس وأذربيجان الجناحان، وإصبهان الرأس فإن قطعت أحد الجناحين قام الجناح الآخر، فإن قطعت الرأس وقع الجناحان، فابدأ بالرأس.
فدخل عمر المسجد والنعمان بْن مقرن يصلي، فقعد إلى جنبه، فلما قضى صلاته، قال: إني أريد أن أستعملك، قال: أما جابيا فلا، ولكن غازيا، قال: فأنت غاز فوجهه إلى إصبهان، وكتب إلى أهل الكوفة ان يمدوه، فأتاها وبينه وبينهم النهر، فأرسل إليهم المغيرة بْن شعبة، فأتاهم، فقيل لملكهم- وكان يقال له ذو الحاجبين: إن رسول العرب على الباب، فشاور أصحابه، فقال: ما ترون؟ أقعد له في بهجة الملك؟ فقالوا: نعم، فقعد على سريره، ووضع التاج على رأسه، وقعد أبناء الملوك نحو السماطين عليهم القرطه واسوره الذهب وثياب الديباج ثم أذن له فدخل ومعه رمحه وترسه، فجعل يطعن برمحه بسطهم ليتطيروا، وقد أخذ بضبعيه رجلان، فقام بين يديه، فكلمه ملكهم، فقال: إنكم يا معشر العرب أصابكم جوع شديد فخرجتم، فإن شئتم أمرناكم ورجعتم إلى بلادكم فتكلم المغيرة، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، ثم قال: إنا معاشر العرب، كنا نأكل الجيف والميتة، ويطؤنا الناس ولا نطؤهم، وإن اللَّه عز وجل ابتعث منا نبيا، أوسطنا حسبا، وأصدقنا حديثا- فذكر النبي ص بما هو أهله- وإنه وعدنا أشياء فوجدناها كما قال، وإنه وعدنا أنا سنظهر عليكم، ونغلب على ما هاهنا وإني أرى عليكم بزة وهيئة ما أرى من خلفي يذهبون حتى يصيبوها.
قال: ثم قلت في نفسي: لو جمعت جراميزي، فوثبت وثبة، فقعدت مع العلج على سريره لعله يتطير! قال: فوجدت غفله، فوثبت، فإذا انا معه على سريره قال: فأخذوه يتوجئونه ويطئونه بأرجلهم قال: قلت:

(4/142)


هكذا تفعلون بالرسل! فإنا لا نفعل هكذا، ولا نفعل برسلكم هذا فقال الملك: إن شئتم قطعتم إلينا، وإن شئتم قطعنا إليكم قال: فقلت: بل نقطع إليكم قال: فقطعنا إليهم فتسلسلوا كل عشرة في سلسلة، وكل خمسة وكل ثلاثة قال: فصاففناهم، فرشقونا حتى أسرعوا فينا، فقال المغيرة للنعمان: يرحمك اللَّه! إنه قد أسرع في الناس فاحمل، فقال: والله إنك لذو مناقب، لقد شهدت مع رسول الله ص القتال، فكان إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر.
قال: ثم قال: إني هاز لوائي ثلاث مرات، فأما الهزة الأولى فقضى رجل حاجته وتوضأ، وأما الثانية فنظر رجل في سلاحه وفي شسعه فأصلحه، وأما الثالثة فاحملوا، ولا يلوين أحد على أحد، وإن قتل النعمان فلا يلو عليه أحد، فإني أدعو اللَّه عز وجل بدعوة، فعزمت على كل امرئ منكم لما أمن عليها! اللهم أعط اليوم النعمان الشهادة في نصر المسلمين، وافتح عليهم، وهز لواءه أول مرة، ثم هز الثانيه، ثم هزه الثالثة، ثم شل درعه، ثم حمل فكان أول صريع، فقال معقل: فأتيت عليه، فذكرت عزمته، فجعلت عليه علما، ثم ذهبت- وكنا إذا قتلنا رجلا شغل عنا أصحابه- ووقع ذو الحاجبين عن بغلته فانشق بطنه، فهزمهم اللَّه، ثم جئت إلى النعمان ومعي إداوة فيها ماء، فغسلت عن وجهه التراب، فقال: من أنت؟ قلت:
معقل بْن يسار، قال: ما فعل الناس؟ فقلت: فتح اللَّه عليهم، قال:
الحمد لله، اكتبوا بذلك إلى عمر، وفاضت نفسه.
واجتمع الناس إلى الأشعث بْن قيس، وفيهم ابن عمر وابن الزبير، وعمرو بن معديكرب وحذيفة، فبعثوا إلى أم ولده، فقالوا: أما عهد إليك عهدا؟ فقالت: هاهنا سفط فيه كتاب، فأخذوه، فكان فيه: إن قتل النعمان ففلان، وإن قتل فلان ففلان

(4/143)


[أخبار متفرقة]
وقال الواقدي: في هذه السنة- يعني سنة احدى وعشرين- مات خالد ابن الوليد بحمص، وأوصى إلى عمر بْن الخطاب.
قال: وفيها غزا عبد اللَّه وعبد الرحمن ابنا عمرو وأبو سروعة، فقدموا مصر، فشرب عبد الرحمن وأبو سروعة الخمر، وكان من أمرهما ما كان.
قال: وفيها: سار عمرو بْن العاص إلى أنطابلس- وهي برقة- فافتتحها، وصالح أهل برقة على ثلاثة عشر ألف دينار، وأن يبيعوا من أبنائهم ما أحبوا في جزيتهم.
قال: وفيها ولى عمر بْن الخطاب عمار بْن ياسر على الكوفة، وابن مسعود على بيت المال، وعثمان بْن حنيف على مساحة الأرض، فشكا أهل الكوفة عمارا، فاستعفى عمار عمر بْن الخطاب، فأصاب جبير بْن مطعم خاليا فولاه الكوفة، فقال: لا تذكره لأحد، فبلغ المغيرة بْن شعبة أن عمر خلا بجبير بْن مطعم، فرجع إلى امرأته، فقال: اذهبي إلى امرأة جبير بْن مطعم، فاعرضي عليها طعام السفر، فأتتها فعرضت عليها، فاستعجمت عليها، ثم قالت: نعم، فجيئنى به، فلما استيقن المغيرة بذلك جاء إلى عمر، فقال: بارك اللَّه لك فيمن وليت! قال: فمن وليت؟ فأخبره أنه ولى جبير ابن مطعم، فقال عمر: لا أدري ما أصنع! وولى المغيرة بْن شعبة الكوفة، فلم يزل عليها حتى مات عمر.
قال: وفيها بعث عمرو بْن العاص عقبة بْن نافع الفهري، فافتتح زويلة بصلح وما بين برقة وزويلة سلم للمسلمين وحدثنا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
كان بالشام في سنة إحدى وعشرين غزوة الأمير معاوية بْن أبي سفيان، وعمير بْن سعد الأنصاري على دمشق والبثنية وحوران وحمص وقنسرين والجزيرة، ومعاوية على البلقاء والأردن وفلسطين والسواحل وأنطاكية ومعره

(4/144)


مصرين وقلقية وعند ذلك صالح أبو هاشم بْن عتبة بْن رَبِيعَة بْن عبد شمس على قلقية وأنطاكية ومعرة مصرين.
وقيل: وفيها ولد الحسن البصري وعامر الشعبي.
قال الواقدي: وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وخلف على المدينة زيد بْن ثابت، وكان عامله على مكة والطائف واليمن واليمامة والبحرين والشام ومصر والبصرة من كان عليها في سنة عشرين، وأما الكوفة فإن عامله عليها كان عمار بْن ياسر، وكان إليه الأحداث، والى عبد الله ابن مسعود بيت المال، وإلى عثمان بْن حنيف الخراج، والى شريح- فيما قيل- القضاء

(4/145)