تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
. ذِكْرُ السَّبَبِ فِي عَزْلِ عُثْمَانُ
الْوَلِيدَ عَنِ الْكُوفَةِ وَتَوْلِيَتِهِ سَعِيدًا عَلَيْهَا
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة،
قالا: لما بلغ عثمان الَّذِي كَانَ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعْدٍ
غَضِبَ عَلَيْهِمَا وَهَمَّ بِهِمَا، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَعَزَلَ
سَعْدًا، وَأَخَذَ مَا عَلَيْهِ، وَأَقَرَّ عَبْدَ اللَّهِ،
وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ، وَأَمَّرَ مَكَانَ سَعْدٍ الْوَلِيدَ بْنَ
عُقْبَةَ- وَكَانَ عَلَى عَرَبِ الْجَزِيرَةِ عَامِلا لِعُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ- فَقَدِمَ الْوَلِيدُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ
إِمَارَةِ عُثْمَانَ، وَقَدْ كَانَ سَعْدٌ عَمِلَ عَلَيْهَا سَنَةً
وَبَعْضَ أُخْرَى، فَقَدِمَ الْكُوفَةَ، وَكَانَ أَحَبَّ النَّاسِ فِي
النَّاسِ وَأَرْفَقَهُمْ بِهِمْ، فَكَانَ كَذَلِكَ خَمْسَ سِنِينَ،
وَلَيْسَ عَلَى دَارِهِ بَابٌ ثُمَّ إِنَّ شَبَابًا مِنْ شَبَابِ
أَهْلِ الْكُوفَةِ
(4/271)
نَقَبُوا عَلَى ابْنِ الْحَيْسُمَانِ
الْخُزَاعِيِّ، وَكَاثَرُوهُ، فَنَذَرَ بِهِمْ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ
بِالسَّيْفِ، فَلَمَّا رَأَى كَثْرَتَهُمُ اسْتَصْرَخَ، فَقَالُوا
لَهُ: اسْكُتْ، فَإِنَّمَا هِيَ ضَرْبَةٌ حَتَّى نُرِيحَكَ مِنْ
رَوْعَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ- وَأَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ مُشْرِفٌ
عَلَيْهِمْ- فَصَاحَ بِهِمْ وَضَرَبُوهُ فَقَتَلُوهُ، وَأَحَاطَ
النَّاسُ بِهِمْ فَأَخَذُوهُمْ، وَفِيهِمْ زُهَيْرُ بْنُ جُنْدُبٍ
الأَزْدِيُّ وَمُوَرِّعُ بْنُ أَبِي مُوَرِّعٍ الأَسَدِيُّ، وَشُبَيْلُ
بْنُ أُبَيٍّ الأَزْدِيُّ، فِي عِدَّةٍ فَشَهِدَ عَلَيْهِمْ أَبُو
شُرَيْحٍ وَابْنُهُ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ، فَمَنَعَ بَعْضَهُمْ
بَعْضًا مِنَ النَّاسِ، فَقَتَلَهُ بَعْضُهُمْ، فَكَتَبَ فِيهِمْ إِلَى
عُثْمَانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ فِي قَتْلِهِمْ، فَقَتَلَهُمْ عَلَى
بَابِ الْقَصْرِ فِي الرَّحْبَةِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ
عَاصِمٍ التَّمِيمِيُّ:
لا تَأْكُلُوا أَبَدًا جِيرَانَكُمْ سَرَفًا ... أَهْلَ الزَّعَارَةِ
فِي مُلْكِ ابْنِ عَفَّانِ
وَقَالَ أَيْضًا:
إِنَّ ابْنَ عَفَّانَ الَّذِي جَرَّبْتُمُ ... فَطَمَ اللُّصُوصَ
بِمُحْكَمِ الْفُرْقَانِ
مَا زَالَ يَعْمَلُ بِالْكِتَابِ مُهَيْمِنًا ... فِي كُلِّ عُنْقٍ
مِنْهُمُ وَبِنَانِ
وَكَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد اللَّهِ بْنِ
سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو شُرَيْحٍ
الْخُزَاعِيُّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص، فَتَحَوَّلَ مِنَ
الْمَدِينَةِ إِلَى الْكُوفَةِ لِيَدْنُوَ مِنَ الْغَزْوِ، فَبَيْنَا
هُوَ لَيْلَةً عَلَى السَّطْحِ، إِذِ اسْتَغَاثَ جَارُهُ، فَأَشْرَفَ
فَإِذَا هُوَ بِشَبَابٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَدْ بَيَّتُوا
جَارَهُ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ لَهُ: لا تُصِحْ، فَإِنَّمَا هِيَ
ضَرْبَةٌ حَتَّى نُرِيحَكَ، فَقَتَلُوهُ فَارْتَحَلَ إِلَى عُثْمَانَ،
وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَنَقَلَ أَهْلَهُ، وَلِهَذَا الْحَدِيثِ
حين كثر أُحْدِثَتِ الْقَسَامَةُ، وَأُخِذَ بِقَوْلِ وَلِيِّ
الْمَقْتُولِ: لِيَفْطِمَ النَّاسَ عَنِ الْقَتْلِ عَنْ مَلإٍ مِنَ
النَّاسِ يَوْمَئِذٍ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ
عُثْمَانُ: الْقَسَامَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعَلَى
أَوْلِيَائِهِ، يُحَلِّفُ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلا إِذَا لَمْ تَكُنْ
بَيِّنَةٌ، فَإِنْ نَقَصَتْ قَسَامَتُهُمْ، أَوْ إِنْ نَكَلَ رَجُلٌ
وَاحِدٌ رُدَّتْ قَسَامَتُهُمْ وَوَلِيَهَا الْمُدَّعُونَ،
وَأُحْلِفُوا، فَإِنْ حَلَفَ مِنْهُمْ خمسون استحقوا
(4/272)
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن
بن الْقَاسِم، عن عون بن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ مما أحدث
عُثْمَان بالكوفة إِلَى مَا كَانَ من الخبر أنه بلغه أن أبا سمال
الأسدي فِي نفر من أهل الْكُوفَة، ينادي مناد لَهُمْ إذا قدم الميار:
من كان هاهنا من كلب أو بني فلان ليس لقومهم بها منزل فمنزله على ابى
سمال فاتخذ موضع دار عقيل دار الضيفان ودار ابن هبار، وَكَانَ منزل
عَبْد اللَّهِ بن مسعود فِي هذيل فِي موضع الرمادة، فنزل موضع داره،
وترك داره دار الضيافة، وَكَانَ الأضياف ينزلون داره فِي هذيل إذا ضاق
عَلَيْهِم مَا حول المسجد وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ،
عَنْ سَيْفٍ، عن الْمُغِيرَة بن مقسم، عمن أدرك من علماء أهل
الْكُوفَة، إن أبا سمال كَانَ ينادي مناديه فِي السوق والكناسة: من كان
هاهنا من بني فلان وفلان- لمن ليست لَهُ بِهَا خطة- فمنزله عَلَى أبي
سمال، فاتخذ عُثْمَان للأضياف منازل.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مولى لآل
طَلْحَة، عن مُوسَى بن طَلْحَة مثله وَكَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب،
عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ، قَالا: كَانَ عُمَر بن الْخَطَّابِ قَدِ
استعمل الْوَلِيد بن عُقْبَةَ عَلَى عرب الجزيرة، فنزل فِي بني تغلب
وَكَانَ أَبُو زبيد فِي الْجَاهِلِيَّة والإسلام فِي بني تغلب حَتَّى
أسلم، وكانت بنو تغلب أخواله، فاضطهده أخواله دينا لَهُ، فأخذ لَهُ
الْوَلِيد بحقه، فشكرها لَهُ أَبُو زبيد، وانقطع إِلَيْهِ، وغشيه
بِالْمَدِينَةِ، فلما ولي الْوَلِيد الْكُوفَة أتاه مسلما معظما عَلَى
مثل مَا كَانَ يأتيه بالجزيرة والمدينة، فنزل دار الضيفان، وآخر قدمة
قدمها أَبُو زبيد عَلَى الْوَلِيدِ، وَقَدْ كَانَ ينتجعه ويرجع،
وَكَانَ نصرانيا قبل ذَلِكَ، فلم يزل الْوَلِيد بِهِ وعنه حَتَّى أسلم
فِي آخر إمارة الْوَلِيد، وحسن إسلامه، فاستدخله الْوَلِيد، وَكَانَ
عربيا شاعرا حين قام عَلَى الإِسْلام، فأتى آت أبا زينب وأبا مورع
وجندبا، وهم يحقدون
(4/273)
لَهُ مذ قتل أبناءهم، ويضعون لَهُ العيون،
فَقَالَ لَهُمْ: هل لكم فِي الْوَلِيدِ يشارب أبا زبيد؟ فثاروا فِي
ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو زينب وأبو مورع وجندب لأناس من وجوه أهل
الْكُوفَة: هَذَا أميركم وأبو زبيد خيرته، وهما عاكفان عَلَى الخمر،
فقاموا معهم- ومنزل الْوَلِيد فِي الرحبة مع عمارة بن عُقْبَةَ، وليس
عَلَيْهِ باب- فاقتحموا عَلَيْهِ من المسجد وبابه إِلَى الْمَسْجِدِ،
فلم يفجأ الْوَلِيد إلا بهم، فنحى شَيْئًا، فأدخله تحت السرير، فأدخل
بعضهم يده فأخرجه لا يؤامره، فإذا طبق عَلَيْهِ تفاريق عنب- وإنما نحاه
استحياء أن يروا طبقه ليس عَلَيْهِ إلا تفاريق عنب- فقاموا فخرجوا
عَلَى الناس، فأقبل بعضهم عَلَى بعض يتلاومون، وسمع الناس بِذَلِكَ،
فأقبل الناس عَلَيْهِم يسبونهم ويلعنونهم، ويقولون: أقوام غضب اللَّه
لعمله، وبعضهم أرغمه الكتاب، فدعاهم ذَلِكَ إِلَى التحسس والبحث، فستر
عَلَيْهِم الْوَلِيد ذَلِكَ، وطواه عن عُثْمَان، ولم يدخل بين الناس
فِي ذَلِكَ بشيء، وكره أن يفسد بينهم، فسكت عن ذَلِكَ وصبر.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الفيض بن
مُحَمَّدٍ، قَالَ: رأيت الشَّعْبِيّ جلس إِلَى مُحَمَّد بن عَمْرو بن
الْوَلِيد- يعني ابن عقبة- وَهُوَ خليفة مُحَمَّد بن عَبْد الْمَلِكِ،
فذكر مُحَمَّد غزو مسلمة، فَقَالَ: كيف لو أدركتم الْوَلِيد، غزوه
وإمارته! إن كَانَ ليغزو فينتهي إِلَى كذا وكذا، مَا قصر وَلا انتقض
عَلَيْهِ أحد حَتَّى عزل عن عمله، وعلى الباب يَوْمَئِذٍ عبد
الرَّحْمَن بن رَبِيعَة الباهلي، وإن كَانَ مما زاد عُثْمَان بن
عَفَّانَ الناس عَلَى يده أن رد عَلَى كل مملوك بالكوفة من فضول
الأموال ثلاثة فِي كل شهر، يتسعون بِهَا مِنْ غَيْرِ أن ينقص مواليهم
من أرزاقهم.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الغصن بن
الْقَاسِم، عن عون بن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَ جندب ورهط مَعَهُ
إِلَى ابن مسعود، فَقَالُوا:
الْوَلِيد يعتكف عَلَى الخمر، وأذاعوا ذَلِكَ حَتَّى طرح عَلَى ألسن
الناس، فَقَالَ
(4/274)
ابن مسعود: من استتر عنا بشيء لم نتتبع
عورته، ولم نهتك ستره، فأرسل إِلَى ابن مسعود فأتاه فعاتبه فِي ذَلِكَ،
وَقَالَ: أيرضى من مثلك بأن يجيب قوما موتورين بِمَا أجبت علي! أي
شَيْء أستتر بِهِ! إنما يقال هَذَا للمريب، فتلاحيا وافترقا عَلَى
تغاضب، لَمْ يَكُنْ بينهما أكثر مِنْ ذَلِكَ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ
وَطَلْحَةَ، قَالا: وَأُتِيَ الْوَلِيدُ بِسَاحِرٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى
ابْنِ مَسْعُودٍ يَسْأَلُهُ عَنْ حَدِّهِ، فَقَالَ:
وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهُ سَاحِرٌ! قَالَ: زَعَمَ هَؤُلاءِ النَّفَرِ-
لِنَفَرٍ جَاءُوا بِهِ- أَنَّهُ سَاحِرٌ، قَالَ: وَمَا يُدْرِيكُمْ
أَنَّهُ سَاحِرٌ! قَالُوا: يَزْعُمُ ذاك، قَالَ: أَسَاحِرٌ أَنْتَ؟
قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَتَدْرِي مَا السِّحْرُ؟ قَالَ: نَعَمْ،
وَثَارَ إِلَى حِمَارٍ، فَجَعَلَ يَرْكَبُهُ مِنْ قِبَلِ ذَنَبِهِ،
وَيُرِيهِمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ وَاسْتِهِ فَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ:
فَاقْتُلْهُ فَانْطَلَقَ الْوَلِيدُ، فَنَادَوْا فِي الْمَسْجِدِ أَنَّ
رَجُلا يَلْعَبُ بِالسِّحْرِ عِنْدَ الْوَلِيدِ، فَأَقْبَلُوا،
وَأَقْبَلَ جُنْدُبٌ- وَاغْتَنَمَهَا- يَقُولُ: أَيْنَ هُوَ؟ أَيْنَ
هُوَ؟ حَتَّى أُرِيَهُ! فَضَرَبَهُ، فَاجْتَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ
وَالْوَلِيدُ عَلَى حَبْسِهِ، حَتَّى كَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ،
فَأَجَابَهُمْ عُثْمَانُ أَنِ اسْتَحْلِفُوهُ بِاللَّهِ مَا عَلِمَ
بِرَأْيِكُمْ فِيهِ وَإِنَّهُ لَصَادِقٌ بِقَوْلِهِ فِيمَا ظَنَّ مِنْ
تَعْطِيلِ حَدِّهِ وَعَزِّرُوهُ، وَخَلُّوا سَبِيلَهُ وَتَقَدَّمْ
إِلَى النَّاسِ فِي أَلا يَعْمَلُوا بِالظُّنُونِ، وَأَلا يُقِيمُوا
الْحُدُودَ دُونَ السُّلْطَانِ، فَإِنَّا نُقَيِّدُ الْمُخْطِئَ،
وَنُؤَدِّبُ الْمُصِيبَ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِ، وَتُرِكَ لأَنَّهُ
أَصَابَ حَدًّا، وَغَضِبَ لِجُنْدُبٍ أَصْحَابُهُ، فَخَرَجُوا إِلَى
الْمَدِينَةِ، فِيهِمْ أَبُو خُشَّةَ الْغِفَارِيُّ وَجَثَّامَةُ بْنُ
الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ وَمَعَهُمْ جُنْدُبٌ، فَاسْتَعْفَوْهُ مِنَ
الْوَلِيدِ، فَقَالَ لَهُمْ عُثْمَانُ: تَعْمَلُونَ بِالظُّنُونِ،
وَتُخْطِئُونَ فِي الإِسْلامِ، وَتَخْرُجُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ،
ارْجِعُوا فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْكُوفَةِ، لَمْ
يَبْقَ مَوْتُورٌ فِي نَفْسِهِ إِلا أَتَاهُمْ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى
رَأْيٍ فَأَصْدَرُوهُ، ثُمَّ تَغَفَّلُوا الْوَلِيدَ- وَكَانَ لَيْسَ
عَلَيْهِ حِجَابٌ- فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو زَيْنَبَ الأَزْدِيُّ
وَأَبُو مُوَرِّعٍ الأَسَدِيُّ، فَسَلا خَاتَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَا إِلَى
عُثْمَانَ، فَشَهِدَا عَلَيْهِ، وَمَعَهُمَا نَفَرٌ مِمَّنْ يُعْرَفُ
مِنْ أَعْوَانِهِمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ، فَلَمَّا قَدِمَ
أَمَرَ به سعيد ابن الْعَاصِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
أَنْشُدُكَ اللَّهَ! فو الله إِنَّهُمَا لَخَصْمَانِ مَوْتُورَانِ
(4/275)
فَقَالَ: لا يَضُرُّكَ ذَلِكَ، إِنَّمَا
نَعْمَلُ بِمَا يَنْتَهِي إِلَيْنَا، فَمَنْ ظَلَمَ فَاللَّهُ وَلِيُّ
انْتِقَامِهِ، وَمَنْ ظَلَمَ فَاللَّهُ وَلِيُّ جَزَائِهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي غَسَّانَ سَكَنِ ابْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: اجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَعَمِلُوا فِي عَزْلِ الْوَلِيدِ، فَانْتُدِبَ
أَبُو زَيْنَبَ بْنُ عَوْفٍ وَأَبُو مُوَرَّعِ بْنُ فُلانٍ الأَسَدِيُّ
لِلشَّهَادَةِ عليه، فغشوا الوليد، وأكبوا عليه، فبيناهم مَعَهُ
يَوْمًا فِي الْبَيْتِ وَلَهُ امْرَأَتَانِ فِي الْمَخْدَعِ،
بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ سِتْرٌ، إِحْدَاهُمَا بِنْتُ ذِي
الْخِمَارِ وَالأُخْرَى بِنْتُ أَبِي عَقِيلٍ، فَنَامَ الْوَلِيدُ،
وَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَنْهُ، وَثَبُتَ أَبُو زَيْنَبَ وَأَبُو
مَوَرَّعٍ، فَتَنَاوَلَ أَحَدُهُمَا خَاتَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَا،
فَاسْتَيْقَظَ الْوَلِيدُ وَامْرَأَتَاهُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَلَمْ يَرَ
خَاتَمَهُ، فَسَأَلَهُمَا عَنْهُ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمَا مِنْهُ
عِلْمًا، قَالَ: فَأَيُّ الْقَوْمِ تَخَلَّفَ عَنْهُمْ؟ قَالَتَا:
رجلان لا نعرفهما، ما غشياك الا منذ قَرِيبٍ.
قَالَ: حَلِّيَاهُمَا، فَقَالَتَا: عَلَى أَحَدِهِمَا خَمِيصَةٌ،
وَعَلَى الآخَرِ مِطْرَفٌ، وَصَاحِبُ الْمِطْرَفِ أَبْعَدُهُمَا
مِنْكَ، فَقَالَ: الطُّوَالُ؟ قَالَتَا: نَعَمْ، وَصَاحِبُ
الْخَمِيصَةِ أَقْرَبُهُمَا إِلَيْكَ، فَقَالَ: الْقَصِيرُ؟ قَالَتَا:
نَعَمْ، وَقَدْ رَأَيْنَا يَدَهُ عَلَى يَدِكَ قَالَ: ذَاكَ أَبُو
زَيْنَبَ، وَالآخَرُ أَبُو مُوَرَّعٍ، وَقَدْ أَرَادَا دَاهِيَةً،
فَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يُرِيدَانِ! فَطَلَبَهُمَا فَلَمْ يَقْدِرْ
عَلَيْهِمَا، وَكَانَ وَجْهُهُمَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَدِمَا عَلَى
عُثْمَانَ، وَمَعَهُمَا نَفَرٌ مِمَّنْ يَعْرِفُ عُثْمَانُ، مِمَّنْ
قَدْ عَزَلَ الْوَلِيدُ عَنِ الأَعْمَالِ، فَقَالُوا لَهُ، فَقَالَ:
مَنْ يَشْهَدُ؟ قَالُوا: أَبُو زَيْنَبَ وَأَبُو مُوَرَّعٍ، وكاع
الآخَرَانِ، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتُمَا؟ قَالا: كُنَّا مِنْ
غَاشِيَتِهِ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ يَقِيءُ الْخَمْرَ، فَقَالَ:
مَا يَقِيءُ الْخَمْرَ إِلا شَارِبُهَا فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا
دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ رَآهُمَا، فَقَالَ مُتَمَثِّلا:
مَا إِنْ خَشِيتُ عَلَى أَمْرٍ خَلَوْتُ بِهِ ... فَلَمْ أَخَفْكَ
عَلَى أَمْثَالِهَا حَار
فَحَلَفَ لَهُ الْوَلِيدُ وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ، فَقَالَ: نُقِيمُ
الْحُدُودَ وَيَبُوءُ شَاهِدُ الزُّورِ بِالنَّارِ، فَاصْبِرْ يَا
أُخَيَّ! فَأَمَرَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فَجَلَدَهُ، فَأَوْرَثَ
ذَلِكَ عَدَاوَةً بَيْنَ وَلَدَيْهِمَا حَتَّى الْيَوْمِ، وَكَانَتْ
عَلَى الْوَلِيدِ خَمِيصَةٌ يَوْمَ أُمِرَ بِهِ أَنْ يُجْلَدَ، فنزعها
(4/276)
عنه على بن ابى طالب ع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيِّ، عَنْ
أَبِي عُبَيْدَةَ الإِيَادِيِّ، قَالَ: خَرَجَ أَبُو زَيْنَبَ وَأَبُو
مُوَرَّعٍ حَتَّى دَخَلا عَلَى الْوَلِيدِ بَيْتَهُ، وَعِنْدَهُ
امْرَأَتَانِ: بِنْتُ ذِي الْخِمَارِ وَبِنْتُ أَبِي عَقِيلٍ، وَهُوَ
نَائِمٌ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا: فَأَكَبَّ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا
فَأَخَذَ خَاتَمَهُ، فَسَأَلَهُمَا حِينَ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَتَا: مَا
أَخَذْنَاهُ، قَالَ: مَنْ بَقِيَ آخِرَ الْقَوْمِ؟ قَالَتَا: رَجُلانِ،
رَجُلٌ قَصِيرٌ عَلَيْهِ خَمِيصَةٌ، وَرَجُلٌ طَوِيلٌ عَلَيْهِ
مِطْرَفٌ، وَرَأَيْنَا صَاحِبَ الْخَمِيصَةِ أَكَبَّ عَلَيْكَ، قَالَ:
ذَاكَ أَبُو زَيْنَبَ فَخَرَجَ يَطْلُبُهُمَا، فَإِذَا هُوَ
وَجْهُهُمَا عَنْ مَلإٍ مِنْ أَصْحَابٍ لَهُمَا، وَلا يَدْرِي
الْوَلِيدُ مَا أَرَادَا مِنْ ذَلِكَ فَقَدِمَا عَلَى عُثْمَانَ،
فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَى
الْوَلِيدِ، فَقَدِمَ، فَإِذَا هُوَ بِهِمَا وَدَعَا بِهِمَا
عُثْمَانُ، فَقَالَ: بِمَ تَشْهَدَانِ؟ أَتَشْهَدَانِ أَنَّكُمَا
رَأَيْتُمَاهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ فَقَالا: لا، وَخَافَا، قَالَ:
فَكَيْفَ؟ قَالا: اعْتَصَرْنَاهَا مِنْ لِحْيَتِهِ وَهُوَ يَقِيءُ
الْخَمْرَ فَأَمَرَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فَجَلَدَهُ، فَأَوْرَثَ
ذَلِكَ عَدَاوَةً بَيْنَ أَهْلِيهِمَا.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ
عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي الْعَرِيفِ ويزيدِ الْفَقْعَسِيِّ، قَالا: كَانَ
النَّاسُ فِي الْوَلِيدِ فِرْقَتَيْنِ: الْعَامَّةُ مَعَهُ
وَالْخَاصَّةُ عَلَيْهِ، فَمَا زَالَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ خُشُوعٌ
حَتَّى كَانَتْ صِفِّينَ، فَوَلَّى مُعَاوِيَةَ، فَجَعَلُوا
يَقُولُونَ: عِيبَ عثمان بالباطل، [فقال لهم على ع:
إِنَّكُمْ وَمَا تُعَيِّرُونَ بِهِ عُثْمَانَ كَالطَّاعِنِ نَفْسَهُ
لِيَقْتُلَ رِدْفَهُ، مَا ذَنْبُ عُثْمَانَ فِي رَجُلٍ قَدْ ضَرَبَهُ
بِفِعْلِهِ، وَعَزَلَهُ عَنْ عَمَلِهِ! وَمَا ذَنْبُ عُثْمَانَ فِيمَا
صَنَعَ عَنْ أَمْرِنَا!] وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ
عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا جُلِدَ الرَّجُلُ الْحَدَّ
ثُمَّ ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ جَازَتْ شَهَادَتُهُ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي
كبران، عن مولاة لَهُمْ- وأثنى عَلَيْهَا خيرا- قالت: كَانَ الْوَلِيد
أدخل عَلَى الناس خيرا،
(4/277)
حَتَّى جعل يقسم للولائد والعبيد، وَلَقَدْ
تفجع عَلَيْهِ الأحرار والمماليك، كَانَ يسمع الولائد وعليهن الحداد
يقلن:
يَا ويلتا قَدْ عزل الْوَلِيد ... وجاءنا مجوعا سَعِيد
ينقص فِي الصاع وَلا يَزِيد ... فجوع الإماء والعبيد
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الغصن بن
الْقَاسِم، قَالَ: كَانَ الناس يقولون حين عزل الْوَلِيد وأمر سَعِيد:
لا يبعد الملك إذ ولت شمائله ... وَلا الرياسة لما راس كتاب
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ
بِإِسْنَادِهِمَا، قَالا: قَدِم سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ فِي سَنَةَ
سَبْعٍ مِنْ إِمَارَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ
بَقِيَّةَ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَكَانَ أَهْلُهُ كَثِيرًا
تَتَابَعُوا، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ الشَّامَ قَدِمَهَا، فَأَقَامَ
مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ يَتِيمًا نَشَأَ فِي حِجْرِ عُثْمَانَ،
فَتَذَكَّرَ عُمَرُ قُرَيْشًا، وَسَأَلَ عَنْهُ فِيمَا يَتَفَقَّدُ
مِنْ أُمُورِ النَّاسِ، فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ
بِدِمَشْقَ، عَهِدَ الْعَاهِدُ بِهِ وَهُوَ مَأْمُومٌ بِالْمَوْتِ
فأرسل الى معاويه: ان ابعث لي سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فِي مَنْقِلٍ،
فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ دَنِفٌ، فَمَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ
حَتَّى افاق، فقال: يا بن أَخِي، قَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ بَلاءٌ
وَصَلاحٌ، فَازْدَدْ يَزِدْكَ اللَّهُ خَيْرًا وَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ
زَوْجَةٍ؟ قَالَ: لا، قَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا مَنَعَكَ مِنْ
هَذَا الْغُلامِ أَنْ تَكُونَ زَوَّجْتَهُ؟ قَالَ: قَدْ عَرَضْتُ
عَلَيْهِ فَأَبَى، فَخَرَجَ يَسِيرُ فِي الْبَرِّ، فَانْتَهَى إِلَى
مَاءٍ، فَلَقِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ، فَقُمْنَ لَهُ، فَقَالَ:
مَا لَكُنَّ؟ وَمَنْ أَنْتُنَّ؟ فَقُلْنَ: بَنَاتُ سُفْيَانَ بْنِ
عُوَيْفٍ- وَمَعَهُنَّ أُمُّهُنَّ- فَقَالَتْ: أُمُّهُنَّ:
هَلَكَ رِجَالُنَا، وَإِذَا هَلَكَ الرِّجَالُ ضَاعَ النِّسَاءُ،
فَضَعْهُنَّ فِي أَكْفَائِهِنَّ، فَزَوَّجَ سَعِيدًا إِحْدَاهُنَّ
وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ الأُخْرَى، وَالْوَلِيدَ بْنَ
عُقْبَةَ الثَّالِثَةَ، وَأَتَاهُ بِنَاتُ مَسْعُودِ بْنِ نُعَيْمٍ
النَّهْشَلِيِّ، فَقُلْنَ: قَدْ هَلَكَ رِجَالُنَا، وَبَقِيَ
الصِّبْيَانُ، فَضَعْنَا فِي أَكْفَائِنَا، فَزَوَّجَ سَعِيدًا
إِحْدَاهُنَّ، وَجُبَيْرَ بْنَ مُطْعَمٍ إِحْدَاهُنَّ، فَشَارَكَ
سَعِيدٌ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ، وَقَدْ كَانَ عُمُومُتُهُ ذَوِي بَلاءٍ
فِي الإِسْلامِ، وَسَابِقَةٍ حَسَنَةٍ، وَقِدْمَةٍ مع رسول الله ص،
فَلَمْ يَمُتْ عُمَرُ حَتَّى كَانَ سَعِيدٌ مِنْ رجال الناس
(4/278)
فَقَدِمَ سَعِيدٌ الْكُوفَةَ فِي خِلافَةِ
عُثْمَانَ أَمِيرًا، وَخَرَجَ مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ- أَوِ الْمَدِينَةِ-
الأَشْتَرُ وَأَبُو خُشَّةَ الْغِفَارِيُّ وَجُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ وَأَبُو مُصْعَبِ بْنُ جَثَّامَةَ- وَكَانُوا فِيمَنْ شَخِصَ
مَعَ الْوَلِيدِ يَعِيبُونَهُ، فَرَجَعُوا مَعَ هَذَا- فَصَعِدَ
سَعِيدٌ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ:
وَاللَّهِ لَقَدْ بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ وَإِنِّي لَكَارِهٌ، وَلَكِنِّي
لَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ أُمِرْتُ أَنْ آتَمِرَ إِلا أَنَّ الْفِتْنَةَ
قَدْ أَطْلَعَتْ خَطْمَهَا وَعَيْنَيْهَا، وو الله لأَضْرِبَنَّ
وَجْهَهَا حَتَّى أَقْمَعَهَا أَوْ تُعْيِينِي، وَإِنِّي لَرَائِدٌ
نَفْسِي الْيَوْمَ وَنَزَلَ.
وَسَأَلَ عَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَأُقِيمَ عَلَى حَالِ أَهْلِهَا.
فَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ بِالَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ: إِنَّ أَهْلَ
الْكُوفَةِ قَدِ اضَطَرَبَ أَمْرُهُمْ، وَغَلَبَ أَهْلُ الشَّرَفِ
مِنْهُمْ وَالْبُيُوتَاتِ وَالسَّابِقَةِ وَالْقِدْمَةِ، وَالْغَالِبُ
عَلَى تِلْكَ الْبِلادِ رَوَادِفٌ رَدِفَتْ، وَأَعْرَابٌ لَحِقَتْ،
حَتَّى مَا يُنْظَرُ إِلَى ذِي شَرَفٍ وَلا بَلاءٍ مِنْ نَازِلَتِهَا
وَلا نَابِتَتِهَا.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ: أَمَّا بَعْدُ، فَفَضِّلْ أَهْلَ
السَّابِقَةِ وَالْقِدْمَةِ مِمَّنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ تِلْكَ
الْبِلادِ، وَلْيَكُنْ مَنْ نَزَلَهَا بِسَبَبِهِمْ تَبِعًا لَهُمْ،
إِلا أَنْ يَكُونُوا تَثَاقَلُوا عَنِ الْحَقِّ، وَتَرَكُوا الْقِيَامَ
بِهِ وَقَامَ بِهِ هَؤُلاءِ وَاحْفَظْ لِكُلٍّ مَنْزِلَتَهُ،
وَأَعْطِهِمْ جَمِيعًا بِقِسْطِهِمْ مِنَ الْحَقِّ، فَإِنَّ
الْمَعْرِفَةَ بِالنَّاسِ بِهَا يُصَابُ الْعَدْلُ.
فأرسل سعيدا إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الأَيَّامِ
وَالْقَادِسِيَّةِ، فَقَالَ: أَنْتُمْ وُجُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ،
وَالْوَجْهُ يُنْبِئُ عَنِ الْجَسَدِ، فَأَبْلِغُونَا حَاجَةَ ذِي
الْحَاجَةِ وَخُلَّةَ ذِي الْخُلَّةِ وَأَدْخَلَ مَعَهُمْ مَنْ
يَحْتَمِلُ مِنَ اللَّوَاحِقِ وَالرَّوَادِفِ، وَخَلَصَ بِالْقُرَّاءِ
وَالْمُتَسَمِّتِينَ فِي سَمَرِهِ، فَكَأَنَّمَا كَانَتِ الْكُوفَةُ
يَبْسًا شَمِلَتْهُ نَارٌ، فَانْقَطَعَ إِلَى ذَلِكَ الضَّرْبِ
ضَرْبُهُمْ، وَفَشَتِ الْقَالَةُ وَالإِذَاعَةُ فَكَتَبَ سَعِيدٌ إِلَى
عُثْمَانَ بِذَلِكَ، فَنَادَى مُنَادِي عُثْمَانَ: الصَّلاةُ
جَامِعَةٌ! فَاجْتَمَعُوا، فَأَخْبَرَهُمْ بِالَّذِي كَتَبَ بِهِ إِلَى
سَعِيدٍ، وَبِالَّذِي كَتَبَ بِهِ إِلَيْهِ فِيهِمْ، وَبِالَّذِي
جَاءَهُ مِنَ الْقَالَةِ وَالإِذَاعَةِ، فَقَالُوا: اصبت فلا تسعفهم في
ذلك، ولا تطعمهم فِيمَا لَيْسُوا لَهُ بِأَهْلٍ، فَإِنَّهُ إِذَا
نَهَضَ فِي الأُمُورِ مَنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ لَمْ يحتملها وأفسدها
(4/279)
فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا أَهْلَ
الْمَدِينَةِ اسْتَعِدُّوا وَاسْتَمْسِكُوا، فَقَدْ دَبَّتْ إِلَيْكُمُ
الْفِتَنُ.
وَنَزَلَ فَأَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ، وَتَمَثَّلَ مَثَلَهُ وَمَثَلَ
هَذَا الضَّرْبَ الَّذِينَ شَرَعُوا فِي الْخِلافِ:
أَبَنِي عُبَيْدٍ قَدْ أَتَى أَشْيَاعُكُمْ ... عَنْكُمْ مَقَالَتْكُمْ
وَشِعْرُ الشَّاعِرِ
فَإِذَا أَتَتْكُمْ هَذِهِ فَتَلَبَّسُوا ... إِنَّ الرِّمَاحَ
بَصِيرَةٌ بِالْحَاسِرِ
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ:
كَانَ عُثْمَانُ أَرْوَى النَّاسِ لِلْبَيْتِ وَالْبَيْتَيْنِ
وَالثَّلاثَةِ إِلَى الْخَمْسَةِ.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْجُمَحِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُهُ
وَهُوَ يَقُولُ لأَبِي: إِنَّ عُثْمَانَ جَمَعَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ،
فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنَّ النَّاسَ يَتَمَخَّضُونَ
بِالْفِتْنَةِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لأَتَخَلَّصَنَّ لَكُمُ الَّذِي
لَكُمْ حَتَّى أَنْقِلَهُ إِلَيْكُمْ إِنْ رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَهَلْ
تَرَوْنَهُ حَتَّى يَأْتِيَ مَنْ شَهِدَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ
الْفُتُوحَ فِيهِ، فَيُقِيمَ مَعَهُ فِي بِلادِهِ؟
فَقَامَ أُولَئِكَ، وَقَالُوا: كَيْفَ تَنْقِلُ لَنَا مَا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَيْنَا مِنَ الأَرْضِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟
فَقَالَ: نَبِيعُهَا مِمَّنْ شَاءَ بِمَا كَانَ لَهُ بِالْحِجَازِ
فَفَرِحُوا وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ أَمْرًا لَمْ يَكُنْ فِي
حِسَابِهِمْ، فَافْتَرَقُوا وَقَدْ فَرَّجَهَا الله عنهم به وكان طلحه
ابن عُبَيْدِ اللَّهِ قَدِ اسْتَجْمَعَ لَهُ عَامَّةٌ سَهْمَانِ
خَيْبَرَ إِلَى مَا كَانَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ، فَاشْتَرَى طَلْحَةُ
مِنْهُ مِنْ نَصِيبِ مَنْ شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ وَالْمَدَائِنَ مِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِمَّنْ أَقَامَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَى
الْعِرَاقِ النَّشَاسْتَجَ بِمَا كَانَ لَهُ بِخَيْبَرَ وَغَيْرِهَا
مِنْ تِلْكَ الأَمْوَالِ، وَاشْتَرَى منه بئر أَرِيسَ شَيْئًا كَانَ
لِعُثْمَانَ بِالْعِرَاقِ، وَاشْتَرَى مِنْهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ
بِمَالٍ كَانَ لَهُ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ عُثْمَانُ نَهْرَ مَرْوَانَ-
وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَجْمَةٌ- وَاشْتَرَى مِنْهُ رِجَالٌ مِنَ
الْقَبَائِلِ بِالْعِرَاقِ بِأَمْوَالٍ كَانَتْ لَهُمْ فِي جَزِيرَةِ
الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ
وَالْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ، فَكَانَ مِمَّا اشْتَرَى مِنْهُ
الأَشْعَثُ بِمَالٍ كَانَ لَهُ فِي حَضْرَمَوْتَ مَا كَانَ لَهُ
بِطِيزَنَابَاذَ وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى أَهْلِ الآفَاقِ فِي ذَلِكَ
وَبِعِدَّةِ جِرْبَانِ الْفَيْءِ، وَالْفَيْءُ الَّذِي يَتَدَاعَاهُ
أَهْلُ الأَمْصَارِ، فَهُوَ مَا كَانَ لِلْمُلُوكِ نَحْوَ كِسْرَى
وَقَيْصَرَ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ بِلادِهِمْ فَأَجْلَى
(4/280)
عَنْهُ، فَأَتَاهُمْ شَيْءٌ عَرَفُوهُ
وَأَخَذَ بِقَدْرِ عِدَّةِ مَنْ شَهِدَهَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ،
وَبِقَدْرِ نَصِيبِهِمْ، وَضَمَّ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، فَبَاعُوهُ بِمَا
يَلِيهِمْ مِنَ الأَمْوَالِ بِالْحِجَازِ وَمَكَّةَ وَالْيَمَنِ
وَحَضْرَمَوْتَ، يُرَدُّ عَلَى أَهْلِهَا الَّذِينَ شَهِدُوا
الْفُتُوحَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ
مُحَمَّدٍ وَطَلْحَة مثل ذَلِكَ، إلا أنهما قَالا: اشترى هَذَا الضرب
رجال من كل قبيلة ممن كَانَ لَهُ هنالك شَيْء، فأراد أن يستبدل بِهِ
فِيمَا يليه، فأخذوا، وجاز لَهُمْ عن تراض مِنْهُمْ ومن الناس وإقرار
بالحقوق، إلا أن الَّذِينَ لا سابقة لَهُمْ وَلا قدمة لا يبلغون مبلغ
أهل السابقة والقدمة فِي المجالس والرياسة والحظوة، ثُمَّ كَانُوا
يعيبون التفضيل، ويجعلونه جفوة، وهم فِي ذَلِكَ يختفون بِهِ وَلا
يكادون يظهرونه، لأنه لا حجة لَهُمْ والناس عَلَيْهِم، فكان إذا لحق
بهم لاحق من ناشئ أو أعرابي أو محرر استحلى كلامهم، فكانوا فِي زيادة،
وَكَانَ الناس فِي نقصان حَتَّى غلب الشر.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا:
صرف حُذَيْفَة عن غزو الري إِلَى غزو الباب مددا لعبد الرَّحْمَن بن
رَبِيعَة، وخرج مَعَهُ سَعِيد بن الْعَاصِ، فبلغ مَعَهُ أذربيجان-
وكذلك كَانُوا يصنعون، يجعلون لِلنَّاسِ ردءا- فأقام حَتَّى قفل
حُذَيْفَة ثُمَّ رجعا.
وفي هَذِهِ السنة- أعني سنة ثلاثين- سقط خاتم رسول الله ص من يد
عُثْمَان فِي بئر أَرِيس وَهِيَ عَلَى ميلين مِنَ الْمَدِينَةِ، وكانت
من أقل الآبار ماء، فما أدرك حَتَّى الساعة قعرها
. ذكر الخبر عن سبب سقوط الخاتم من يد عُثْمَان فِي بئر أَرِيس
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
أَبُو خَلَفٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى الْخَزَّازُ قَالَ: وَكَانَ
شريك يُونُس بْن عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ ابن أَبِي هِنْدٍ،
عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ان رسول الله ص
(4/281)
أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الأَعَاجِمِ
كُتُبًا يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ لَهُ
رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لا يَقْبَلُونَ كِتَابًا الا
مختوما، فامر رسول الله ص أَنْ يُعْمَلَ لَهُ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ،
فَجَعَلَهُ فِي إِصْبَعِهِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ:
انْبِذْهُ من إصبعك، فنبذه رسول الله ص مِنْ أُصْبُعِهِ، وَأَمَرَ
بِخَاتَمٍ آخَرَ يُعْمَلُ لَهُ، فَعُمِلَ لَهُ خَاتَمٌ مِنْ نُحَاسٍ،
فَجَعَلَهُ فِي اصبعه، فقال له جبريل ع: انبذه من إصبعك، فنبذه رسول
الله ص من اصبعه، وامر رسول الله ص بِخَاتَمٍ مِنْ وَرِقٍ، فَصُنِعَ
لَهُ خَاتَمٌ مِنْ وَرِقٍ فَجَعَلَهُ فِي أُصْبُعِهِ، فَأَقَرَّهُ
جِبْرِيلُ، وَأَمَرَ ان ينقش عليه: محمد رسول الله، فَجَعَلَ
يَتَخَتَّمُ بِهِ، وَيَكْتُبُ إِلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ
إِلَيْهِ مِنَ الأَعَاجِمِ، وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاثَةَ
أَسْطُرٍ فَكَتَبَ كِتَابًا إِلَى كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، فَبَعَثَهُ
مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَتَى بِهِ عُمَرُ كِسْرَى فَقُرِئَ
الْكِتَابُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى كِتَابِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ! أَنْتَ عَلَى سَرِيرٍ
مَرْمُولٍ بِاللِّيفِ، وَكِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ
ذَهَبٍ، وَعَلَيْهِ الدِّيبَاجُ! [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: أَمَا
تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ!] فَقَالَ:
جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ! قَدْ رَضِيتُ.
وَكَتَبَ كِتَابًا آخَرَ، فَبَعَثَ بِهِ مَعَ دَحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ
الْكَلْبِيِّ إِلَى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ يَدْعُوهُ إِلَى
الإِسْلامِ، فَقَرَأَهُ وَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ،
فَكَانَ الْخَاتَمُ فِي أُصْبُعِ رَسُولِ اللَّهِ ص يَتَخَتَّمُ بِهِ
حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ أَبُو
بَكْرٍ فَتَخَتَّمَ بِهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ
وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَعْدُ فَجَعَلَ يَتَخَتَّمُ بِهِ
حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، ثُمَّ وُلِّيَ مِنْ بَعْدِهِ عُثْمَانُ ابن
عَفَّانَ، فَتَخَتَّمَ بِهِ سِتَّ سِنِينَ، فَحَفَرَ بِئْرًا
بِالْمَدِينَةِ شُرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَعَدَ عَلَى رَأْسِ
الْبِئْرِ، فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِالْخَاتَمِ، وَيُدِيرُهُ بِأُصْبُعِهِ،
فَانْسَلَّ الْخَاتَمُ مِنْ أُصْبُعِهِ فَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ،
فَطَلَبُوهُ فِي الْبِئْرِ، وَنَزَحُوا مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ،
فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَجَعَلَ فِيهِ مَالا عَظِيمًا لِمَنْ
جَاءَ بِهِ، وَاغْتَمَّ لِذَلِكَ غَمًّا شَدِيدًا، فَلَمَّا يَئِسَ
مِنَ الْخَاتَمِ أَمَرَ فَصُنِعَ لَهُ خَاتَمٌ آخر مثله، خلقه مِنْ
فِضَّةٍ، عَلَى مِثَالِهِ
(4/282)
وَشِبْهِهِ، وَنُقِشَ عَلَيْهِ: مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ، فَجَعَلَهُ فِي أُصْبُعِهِ حَتَّى هَلَكَ، فَلَمَّا
قُتِلَ ذَهَبَ الْخَاتَمُ مِنْ يَدِهِ فَلَمْ يُدْرَ مَنْ أَخَذَهُ
أخبار أبي ذر رحمه اللَّه تعالى
وفي هَذِهِ السنة- أعني سنة ثَلاثِينَ- كَانَ مَا ذكر من أمر أبي ذر
ومعاوية، وإشخاص مُعَاوِيَة إِيَّاهُ من الشام إِلَى الْمَدِينَةِ،
وَقَدْ ذكر فِي سبب إشخاصه إِيَّاهُ منها إِلَيْهَا أمور كثيرة، كرهت
ذكر أكثرها.
فأما العاذرون مُعَاوِيَة فِي ذَلِكَ، فإنهم ذكروا فِي ذَلِكَ قصة
كَتَبَ إِلَيَّ بِهَا السَّرِيُّ، يَذْكُرُ أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَهُ
عَنْ سَيْف، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقْعَسِيِّ، قَالَ:
لَمَّا وَرَدَ ابْنُ السَّوْدَاءِ الشَّامَ لَقِيَ أَبَا ذَرٍّ،
فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَلا تَعْجَبُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، يَقُولُ:
الْمَالُ مَالُ اللَّهِ! أَلا إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لِلَّهِ كأنه يريد ان
يحتجنه دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَمْحُوَ اسْمَ الْمُسْلِمِينَ
فَأَتَاهُ أَبُو ذَرٍّ، فَقَالَ: مَا يَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُسَمِّيَ
مَالَ الْمُسْلِمِينَ مَالَ اللَّهِ! قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا
أَبَا ذَرٍّ، أَلَسْنَا عِبَادَ اللَّهِ، وَالْمَالُ مَالُهُ،
وَالْخَلْقُ خَلْقُهُ، وَالأَمْرُ أَمْرُهُ! قَالَ: فَلا تَقُلْهُ،
قَالَ: فَإِنِّي لا أَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ، وَلَكِنْ
سَأَقُولُ: مَالُ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: وَأَتَى ابْنُ السَّوْدَاءِ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ لَهُ:
مَنْ أَنْتَ؟ أَظُنُّكَ وَاللَّهِ يَهُودِيًّا! فَأَتَى عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ فَتَعَلَقَّ بِهِ، فَأَتَى بِهِ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ:
هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي بَعَثَ عَلَيْكَ أَبَا ذَرٍّ، وَقَامَ أَبُو
ذَرٍّ بِالشَّامِ وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الأَغْنِيَاءِ،
وَاسُوا الْفُقَرَاءَ بَشِّرِ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ بمكاو من نار
تكوى بها جباهم وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ فَمَا زَالَ حَتَّى وَلِعَ
الْفُقَرَاءُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأَوْجَبُوهُ عَلَى الأَغْنِيَاءِ،
وَحَتَّى شَكَا الأَغْنِيَاءُ مَا يَلْقَوْنَ مِنَ النَّاسِ.
فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَدْ
أَعْضَلَ بِي، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ فَكَتَبَ
إِلَيْهِ عُثْمَانُ: أَنَّ الْفِتْنَةَ قَدْ أَخْرَجَتْ خطمها وعينيها،
(4/283)
فَلَمْ يَبْقَ إِلا أَنْ تَثِبَ، فَلا
تَنْكَأ الْقَرْحَ، وَجَهِّزْ أَبَا ذَرٍّ إِلَيَّ، وَابْعَثْ مَعَهُ
دَلِيلا وَزَوِّدْهُ، وَارْفُقْ بِهِ، وَكَفْكَفِ النَّاسَ وَنَفْسَكَ
ما استطعت، فإنما تُمْسَكُ مَا اسْتَمْسَكْتَ فَبَعَثَ بِأَبِي ذَرٍّ
وَمَعَهُ دَلِيلٌ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَرَأَى الْمَجَالِسَ
فِي أَصْلِ سَلْعٍ، قَالَ: بَشِّرْ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِغَارَةٍ
شَعْوَاءَ وَحَرْبٍ مِذْكَارٍ.
وَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا لأَهْلِ
الشَّامِ يَشْكُونَ ذَرَبَكَ! فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ
يُقَالَ: مَالُ اللَّهِ، وَلا يَنْبَغِي لِلأَغْنِيَاءِ أَنْ
يَقْتَنُوا مَالا.
فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، عَلَيَّ أَنْ أَقْضِيَ مَا عَلَيَّ، وَآخُذَ
مَا عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَلا أُجْبِرُهُمْ عَلَى الزُّهْدِ، وَأَنْ
أَدْعُوهُمْ إِلَى الاجْتِهَادِ وَالاقْتِصَادِ.
قَالَ: فَتَأْذَنْ لِي فِي الْخُرُوجِ، فان المدينة ليست لي بدار؟
فقال:
او تستبدل بِهَا إِلا شَرًّا مِنْهَا! قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ الله ص
أَنْ أَخْرُجَ مِنْهَا إِذَا بَلَغَ الْبِنَاءُ سَلْعًا، قَالَ:
فَانْفِذْ لِمَا أَمَرَكَ بِهِ قَالَ: فَخَرَجَ حَتَّى نَزَلَ
الرَّبَذَةَ، فَخَطَّ بِهَا مَسْجِدًا، وَأَقْطَعَهُ عُثْمَانُ
صِرْمَةً مِنَ الإِبِلِ وَأَعْطَاهُ مَمْلُوكَيْنِ، وَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ: أَنْ تَعَاهَدَ الْمَدِينَةَ حَتَّى لا تَرْتَدَّ
أَعْرَابِيًّا، فَفَعَلَ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد بن عون،
عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ
يَخْتَلِفُ مِنَ الرَّبَذَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ مَخَافَةَ
الأَعْرَابِيَّةِ، وَكَانَ يُحِبُّ الْوَحْدَةَ وَالْخَلْوَةَ فَدَخَلَ
عَلَى عُثْمَانَ، وَعِنْدَهُ كَعْبُ الأَحْبَارِ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ:
لا تَرْضَوْا مِنَ النَّاسِ بِكَفِّ الأَذَى حَتَّى يَبْذِلُوا
الْمَعْرُوفَ، وَقَدْ يَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّي الزَّكَاةَ أَلا
يَقْتَصِرَ عَلَيْهَا حَتَّى يُحْسِنَ إِلَى الْجِيرَانِ
وَالإِخْوَانِ، وَيَصِلَ الْقَرَابَاتِ فَقَالَ كَعْبٌ: مَنْ أَدَّى
الْفَرِيضَةَ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ فَرَفَعَ أَبُو ذَرٍّ
مِحْجَنَهُ فَضَرَبَهُ فَشَجَّهُ، فَاسْتَوْهَبَهُ عُثْمَانُ،
فَوَهَبَهُ لَهُ، وَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، اتَّقِ اللَّهَ وَاكْفُفْ
يَدَكَ وَلِسَانَكَ، وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُ: يَا بن اليهودية، ما أنت
وما هاهنا! وَاللَّهِ لَتَسْمَعَنَّ مِنِّي أَوْ لأَدْخُلَ عَلَيْكَ.
وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأَشْعَثِ بْنِ سَوَّارٍ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: خَرَجَ أَبُو ذَرٍّ إِلَى
الرَّبَذَةِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لَمَّا رَأَى
(4/284)
عُثْمَانَ لا يَنْزِعُ لَهُ، وَأَخْرَجَ
مُعَاوِيَةُ أَهْلَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَمَعَهُمْ
جِرَابٌ يُثَقِّلُ يَدَ الرَّجُلِ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا
الَّذِي يَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا مَا عِنْدَهُ! فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ:
أَمَا وَاللَّهِ مَا فِيهِ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، ولكنها فلوس كان
إذا خرج عطاؤه ابْتَاعَ مِنْهُ فُلُوسًا لِحَوَائِجِنَا.
وَلَمَّا نَزَلَ أَبُو ذَرٍّ الرَّبَذَةَ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ،
وَعَلَيْهَا رَجُلٌ يَلِي الصَّدَقَةَ، فَقَالَ:
تَقَدَّمْ يَا أَبَا ذَرٍّ، فَقَالَ: لا، تقدم أنت، [فان رسول الله ص
قَالَ لِي: اسْمَعْ وَأَطِعْ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْكَ عَبْدٌ
مُجَدَّعٌ،] فَأَنْتَ عَبْدٌ وَلَسْتَ بِأَجْدَعَ- وَكَانَ مِنْ
رَقِيقِ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ مُجَاشِعٌ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مبشر بن
الفضيل، عن جابر، قَالَ: أجرى عُثْمَان عَلَى أبي ذر كل يوم عظما، وعلى
رافع ابن خديج مثله، وكانا قَدْ تنحيا عن الْمَدِينَةِ لشيء سمعاه لم
يفسر لهما، وأبصرا وَقَدْ اخطئا.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن سوقة، عن عاصم بن
كُلَيْبٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا
مُعْتَمِرِينَ، فَأَتَيْنَا الرَّبَذَةَ، فَطَلَبْنَا أَبَا ذَرٍّ فِي
مَنْزِلِهِ، فَلَمْ نَجِدْهُ، وَقَالُوا: ذَهَبَ إِلَى الْمَاءِ.
فَتَنَحَّيْنَا، وَنَزَلْنَا قَرِيبًا مِنْ مَنْزِلِهِ، فَمَرَّ
وَمَعَهُ عَظْمُ جَزُورٍ يَحْمِلُهُ مَعَهُ غُلامٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ
مَضَى حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلا قَلِيلا حَتَّى
جَاءَ، فَجَلَسَ إِلَيْنَا وَقَالَ: [إِنَّ رسول الله ص قَالَ لِي:
اسْمَعْ وَأَطِعْ وَإِنْ كَانَ عَلَيْكَ حَبَشِيٌّ مُجْدَعٌ،]
فَنَزَلْتُ هَذَا الْمَاءَ وَعَلَيْهِ رَقِيقٌ مِنْ رَقِيقِ مَالِ
اللَّهِ، وَعَلَيْهِمْ حَبَشِيٌّ- وَلَيْسَ بِأَجْدَعَ، وَهُوَ مَا
عَلِمْتُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ- وَلَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ جَزُورٌ،
وَلِي مِنْهَا عَظْمٌ آكُلُهُ أَنَا وَعِيَالِي قُلْتُ: مَا لَكَ مِنَ
الْمَالِ؟
قَالَ: صِرْمَةٌ مِنَ الْغَنَمِ وَقَطِيعٌ مِنَ الإِبِلِ، فِي
أَحَدِهِمَا غُلامِي وَفِي الآخَرِ أَمَتِي، وَغُلامِي حُرٌّ إِلَى
رَأْسِ السَّنَةِ قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ أَصْحَابَكَ قَبْلَنَا أَكْثَرُ
النَّاسِ مَالا، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ فِي مَالِ
اللَّهِ حَقٌّ إِلا وَلِي مِثْلُهُ
(4/285)
وَأَمَّا الآخَرُونَ، فَإِنَّهُمْ رَوَوْا
فِي سَبَبِ ذَلِكَ أشياء كثيره، وأمورا شنيعة، كرهت ذكرها
. ذكر هرب يزدجرد الى خراسان
وفي هَذِهِ السنة، هرب يزدجرد بن شهريار فِي قول بعضهم من فارس إِلَى
خُرَاسَان.
ذكر من قَالَ ذَلِكَ وما قَالَ فِيهِ:
ذكر عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ أن مسلمة أخبره عن دَاوُد، قَالَ: قدم ابن
عَامِر الْبَصْرَةَ، ثُمَّ خرج إِلَى فارس فافتتحها، وهرب يزدجرد من
جوز- وَهِيَ أردشير خرة- فِي سنة ثَلاثِينَ فوجه ابن عَامِر فِي أثره
مجاشع بن مسعود السلمي، فأتبعه إِلَى كَرْمَان، فنزل مجاشع السيرجان
بالعسكر، وهرب يزدجرد إِلَى خُرَاسَان قَالَ: وعبد القيس تقول: وجه ابن
عامر هرم ابن حيان العبدي، وبكر بن وائل تقول: وجه ابن حسان اليشكري
قَالَ:
وأصحه عندنا مجاشع.
قَالَ علي: وأخبرنا سلمة بن عُثْمَانَ- وَكَانَ فاضلا- عن شيخ من أهل
كَرْمَان والفضل الكرماني، عن أَبِيهِ، قَالَ: اتبع مجاشع يزدجرد فخرج
من السيرجان، فلما كَانَ عِنْدَ القصر فِي بيمند- وَهُوَ الَّذِي يقال
لَهُ قصر مجاشع- أصابهم الثلج والدمق، فوقع الثلج، واشتد البرد، وصار
الثلج قامة رمح، فهلك الجند، وسلم مجاشع ورجل كَانَتْ مَعَهُ جارية،
فشق
(4/286)
بطن بعير، فأدخلها فِيهِ وهرب، فلما كَانَ
من الغد، جَاءَ فوجدها حية فحملها، فسمي ذَلِكَ القصر قصر مجاشع، لأن
جيشه هلكوا فِيهِ، وَهُوَ عَلَى خمسة فراسخ أو ستة من السيرجان.
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا أَبُو المقدام، عن بعض مشيخته، قَالَ: خرج
مجاشع عَلَى وفد أهل الْبَصْرَةِ من تستر- وفيهم الأحنف- وأخذ فِي غداة
واحدة عَلَى لجام واحد خمسين ألفا، سبق عَلَى الصفراء ابنة الغراء ابنة
الغبراء، فأخذها مِنْهُ عمر حين قاسم عماله الأموال.
قَالَ علي: فقلت للنضر بن إِسْحَاق: أن أبا المقدام ذكر هَذَا الحديث!
فَقَالَ: صدق، سمعته من عدة من الحي وغيرهم، وفرسه الصفراء ابنة الغراء
ابنة الغبراء وَهُوَ مجاشع بن مسعود بن ثعلبة بن عائذ بن وهب بْن
رَبِيعَةَ بْن يربوع بْن سمال بْن عوف بن امرئ القيس بن بهثه بن سلم.
ويكنى أبا سُلَيْمَان.
قَالَ: وفي هَذِهِ السنة زاد عُثْمَان النداء الثالث عَلَى الزوراء،
وصلى بمنى أربعا.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عثمان رضى الله عنه
(4/287)
إحدى وثلاثين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث المشهورة) فمما كَانَ فِيهَا من
ذَلِكَ غزوة الْمُسْلِمِينَ الروم الَّتِي يقال لها:
غزوة الصواري
فِي قول الْوَاقِدِيّ فأما أَبُو معشر فإنه قال فيما حَدَّثَنِي أحمد
بْن ثابت الرازي، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بن عِيسَى، عنه: كَانَتْ غزوة
الصواري سنة أربع وثلاثين، وَقَالَ: كَانَتْ فِي سنة إحدى وثلاثين
الأساودة فِي البحر ووقائع كسرى.
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: غزوة الصواري والأساودة كلتاهما كانتا فِي سنة
إحدى وثلاثين.
(ذكر الخبر عن هاتين الغزوتين:) ذكر الْوَاقِدِيّ أن مُحَمَّد بن صالح
حدثه، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ أهل الشام
خرجوا، عَلَيْهِم مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ، وكانت الشام قَدْ جمع
جمعها لمعاوية بن أَبِي سُفْيَانَ.
(ذكر السبب فِي جمعها لَهُ:) كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ
شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالرَّبِيعِ وَأَبِي
مُجَالِدٍ وَأَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، قَالُوا: لَمَّا
حَضَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ اسْتَخْلَفَ عَلَى عَمَلِهِ عِيَاضَ بْنَ
غَنْمٍ- وَهُوَ خَالُهُ وَابْنُ عَمِّهِ- وَقَدْ كَانَ وَلِيَ
بِالْجَزِيرَةِ عَمَلا، فَعَزَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، فَلَحِقَ بِأَبِي عُبَيْدَةَ بِالشَّامِ،
(4/288)
وَكَانَ مَعَهُ، وَكَانَ جَوَادًا
مَشْهُورًا بِالْجُودِ، لا يَلِيقُ شَيْئًا، وَلا يَمْنَعُ أَحَدًا.
فَكُلِّمَ عُمَرُ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: عَزَلْتَ خَالِدًا
وَعَتَبْتَ عَلَيْهِ الْعَطَاءَ، وَعِيَاضٌ أَجْوَدُ الْعَرَبِ
وَأَعْطَاهُمْ، لا يَمْنَعُ شَيْئًا يُسْأَلُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَتَى
سيمه عياض في ماله حتى يخلص الى ما لنا! وَإِنِّي مَعَ ذَلِكَ لَمْ
أَكُنْ مُغَيِّرًا أَمْرًا قَضَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَمَاتَ عِيَاضُ
بْنُ غَنْمٍ بَعْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَأَمَّرَ عُمَرُ عَلَى عَمَلِهِ
سَعِيدَ بْنَ حُذَيْمٍ الْجُمَحِيَّ، وَمَاتَ سَعِيدٌ بَعْدُ،
فَأَمَّرَ عُمَرُ مَكَانَهُ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ الأَنْصَارِيَّ،
وَمَاتَ عُمَرُ وَمُعَاوِيَةُ عَلَى دِمَشْقَ وَالأُرْدُنِّ،
وَعُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى حِمْصَ وَقِنَّسْرِينَ، وَإِنَّمَا
مَصَّرَ قِنَّسْرِينَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ لِمَنْ لَحِقَ
بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ وَمَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي
سُفْيَانَ، فَجَعَلَ عُمَرُ مَكَانَهُ مُعَاوِيَةَ وَنَعَاهُ لأَبِي
سُفْيَانَ، فَقَالَ: مَنْ جَعَلْتَ عَلَى عَمَلِهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ:
مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، فَاجْتَمَعَتْ لِمُعَاوِيَةَ
الأُرْدُنُّ وَدِمَشْقُ، وَمَاتَ عُمَرُ وَمُعَاوِيَةُ عَلَى دِمَشْقَ
وَالأُرْدُنِّ وَعُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ على حمص وقنسرين، وعلقمه ابن
مُجَزَّزٍ عَلَى فِلَسْطِينَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى مِصْرَ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ
مُبَشَّرٍ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ عَامِلٍ اسْتَعْمَلَهُ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ وَصِيَّةِ
عُمَرَ ثُمَّ إِنَّ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ طُعِنَ فَأَضْنَى مِنْهَا،
فَاسْتَعْفَى عُثْمَانَ وَاسْتَأْذَنَهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى
أَهْلِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، وَضَمَّ حِمْصَ وَقِنَّسْرِينَ إِلَى
مُعَاوِيَةَ.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ أَبِي حَارِثَةَ وَأَبِي
عُثْمَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، قَالَ: لَمَّا وَلِيَ
عُثْمَانُ أَقَرَّ عُمَّالَ عُمَرَ عَلَى الشَّامِ، فَلَمَّا مَاتَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلْقَمَةَ الْكِنَانِيُّ- وَكَانَ عَلَى
فِلَسْطِينَ- ضَمَّ عَمَلَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَمَرِضَ عُمَيْرُ
بْنُ سَعْدٍ فِي إِمَارَةِ عُثْمَانَ مَرَضًا طَالَ بِهِ، فاستعفاه
واستاذنه فَأَذِنَ لَهُ، وَضَمَّ عَمَلَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ،
فَاجْتَمَعَ الشَّامُ عَلَى مُعَاوِيَةَ لِسَنَتَيْنِ
(4/289)
مِنْ إِمَارَةِ عُثْمَانَ وَكَانَ عَمْرُو
بْنُ الْعَاصِ عَلَى مِصْرَ زَمَانَ عُمَرَ، مُجْتَمِعَةً لَهُ،
فَأَقَرَّهُ عُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ.
رجع الحديث إِلَى حديث الْوَاقِدِيّ عن خبر الغزوتين اللتين ذكرتهما:
أن أهل الشام خرجوا، عليهم معاوية بن أَبِي سُفْيَانَ، وعلى أهل البحر
عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح وَقَالَ: وخرج عامئذ قسطنطين بن
هرقل لما أصاب الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ بإفريقية، فخرجوا فِي جمع لم
يجتمع للروم مثله قط منذ كَانَ الإِسْلام، فخرجوا في خمسمائة مركب،
فالتقوا هم وعبد اللَّه بن سَعْدٍ، فأمن بعضهم بعضا حَتَّى قرنوا بين
سفن الْمُسْلِمِينَ وأهل الشرك بين صواريها.
قَالَ ابن عمر: حَدَّثَنِي عِيسَى بن عَلْقَمَةَ، عن عَبْد اللَّهِ بن
أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عن مالك بْن أوس بْن الحدثان، قَالَ:
كنت معهم، فالتقينا فِي البحر، فنظرنا إِلَى مراكب مَا رأينا مثلها قط،
وكانت الريح علينا، فأرسينا ساعة، وأرسوا قريبا منا، وسكنت الريح عنا،
فقلنا: الأمن بيننا وبينكم قَالُوا: ذَلِكَ لكم ولنا مِنْكُمْ، ثُمَّ
قلنا: إن أحببتم فالساحل حَتَّى يموت الأعجل منا ومنكم، وإن شئتم
فالبحر قَالَ: فنخروا نخرة واحدة، وَقَالُوا: الماء، فدنونا مِنْهُمْ،
فربطنا السفن بعضها إِلَى بعض حَتَّى كنا يضرب بعضنا بعضا عَلَى سفننا
وسفنهم، فقاتلنا أشد القتال، ووثبت الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف
عَلَى السفن، ويتواجئون بالخناجر، حَتَّى رجعت الدماء إِلَى الساحل
تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما.
قَالَ ابن عمر: فَحَدَّثَنِي هِشَام بن سَعْدٍ، عن زَيْد بن أسلم، عَنْ
أَبِيهِ، عمن حضر ذَلِكَ الْيَوْم، قَالَ: رأيت الساحل حَيْثُ تضرب
الريح الموج، وإن عَلَيْهِ لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال، وإن الدم
لغالب عَلَى
(4/290)
الماء، وَلَقَدْ قتل يَوْمَئِذٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ بشر كثير، وقتل من الكفار مَا لا يحصى، وصبروا
يَوْمَئِذٍ صبرا لم يصبروا فِي موطن قط مثله ثُمَّ أنزل اللَّه نصره
عَلَى أهل الإِسْلام، وانهزم القسطنطين مدبرا، فما انكشف إلا لما أصابه
من القتل والجراح، وَلَقَدْ أصابه يَوْمَئِذٍ جراحات مكث منها حينا
جريحا.
قال ابن عمر: حدثنى سالم مولى أم مُحَمَّد، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي
عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصنعاني، قَالَ: كَانَ
أول مَا سمع من مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة حين ركب الناس البحر سنة
إحدى وثلاثين، لما صلى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح
بِالنَّاسِ العصر، كبر مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة تكبيرا ورفع صوته
حَتَّى فرغ الإمام عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح، فلما انصرف
سأل:
مَا هَذَا؟ فقيل لَهُ: هَذَا مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة يكبر، فدعاه
عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذِهِ البدعة والحدث؟
فَقَالَ لَهُ: مَا هَذِهِ بدعة وَلا حدث، وما بالتكبير بأس، قَالَ: لا
تعودن قَالَ: فأسكت مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة، فلما صلى المغرب عَبْد
اللَّهِ بن سَعْدٍ كبر مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة تكبيرا أرفع من
الأول، فأرسل إِلَيْهِ: إنك غلام أحمق، أما وَاللَّهِ لولا أني لا أدري
مَا يوافق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لقاربت بين خطوك فَقَالَ مُحَمَّد بن
أبي حُذَيْفَة: وَاللَّهِ مالك إِلَى ذَلِكَ سبيل، ولو هممت بِهِ مَا
قدرت عَلَيْهِ قَالَ: فكف خير لك، وَاللَّهِ لا تركب معنا، قَالَ:
فأركب مع الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: اركب حَيْثُ شئت قَالَ: فركب فِي مركب
وحده مَا مَعَهُ إلا القبط، حَتَّى بلغوا ذات الصواري، فلقوا جموع
الروم في خمسمائة مركب او ستمائه فِيهَا القسطنطين بن هرقل، فَقَالَ:
أشيروا علي، قَالُوا: ننظر الليلة، فباتوا يضربون بالنواقيس، وبات
الْمُسْلِمُونَ يصلون ويدعون اللَّه.
ثُمَّ أصبحوا وَقَدْ أجمع القسطنطين أن يقاتل، فقربوا سفنهم، وقرب
الْمُسْلِمُونَ فربطوا بعضها إِلَى بعض، وصف عَبْد اللَّهِ بن سَعْد
الْمُسْلِمِينَ عَلَى
(4/291)
نواحي السفن، وجعل يأمرهم بقراءة القرآن،
ويأمرهم بالصبر، ووثبت الروم فِي سفن الْمُسْلِمِينَ عَلَى صفوفهم
حَتَّى نقضوها، فكانوا يقاتلون عَلَى غير صفوف.
قَالَ: فاقتتلوا قتالا شديدا ثُمَّ إن اللَّه نصر الْمُؤْمِنِينَ،
فقتلوا مِنْهُمْ مقتلة عظيمة لم ينج من الروم إلا الشريد.
قَالَ: وأقام عَبْد اللَّهِ بذات الصواري أياما بعد هزيمة القوم، ثُمَّ
أقبل راجعا، وجعل مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة يقول للرجل: أما وَاللَّهِ
لقد تركنا خلفنا الجهاد حقا، فيقول الرجل: وأي جهاد؟ فيقول: عُثْمَان
بن عَفَّانَ فعل كذا وكذا، وفعل كذا وكذا حَتَّى أفسد الناس فقدموا
بلدهم وَقَدْ أفسدهم، وأظهروا من القول مَا لم يكونوا ينطقون بِهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: فَحَدَّثَنِي معمر بن راشد، عن
الزُّهْرِيّ، قَالَ:
خرج مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة ومحمد بن أبي بكر عام خرج عَبْد اللَّهِ
بن سَعْدٍ، فأظهرا عيب عُثْمَان وما غير وما خالف بِهِ أبا بكر وعمر،
وإن دم عُثْمَان حلال.
ويقولان: استعمل عَبْد اللَّهِ بن سَعْد، رجلا كَانَ رَسُول الله ص
أباح دمه ونزل القرآن بكفره، وأخرج رَسُول الله ص قوما وادخلهم، ونزع
اصحاب رسول الله ص وَاسْتَعْمَلَ سَعِيد بن الْعَاصِ وعبد اللَّه بن
عَامِر فبلغ ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، فَقَالَ:
لا تركبا معنا، فركبا فِي مركب مَا فِيهِ أحد مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
ولقوا العدو، وكانا اكل الْمُسْلِمِينَ قتالا، فقيل لهما فِي ذَلِكَ،
فقالا: كيف نقاتل مع رجل لا ينبغي لنا أن نحكمه! عَبْد اللَّهِ بن
سَعْد استعمله عُثْمَان، وعثمان فعل وفعل، فأفسدا أهل تِلْكَ الغزاة،
وعابا عُثْمَان أشد العيب فأرسل عَبْد اللَّهِ بن سَعْد إليهما ينهاهما
أشد النهي، وَقَالَ: وَاللَّهِ لولا أني لا أدري مَا يوافق أَمِير
الْمُؤْمِنِينَ لعاقبتكما وحبستكما.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وفي هَذِهِ السنة توفي أَبُو سُفْيَان بن حرب
وَهُوَ ابن ثمان وثمانين سنة.
وفي هَذِهِ السنة- أعني سنة إحدى وثلاثين- فتحت فِي قول الْوَاقِدِيّ
أرمينية عَلَى يدي حبيب بن مسلمه الفهري
(4/292)
ذكر الخبر عن مقتل
يزدجرد ملك فارس
وفي هَذِهِ السنة قتل يزدجرد ملك فارس.
ذكر الخبر عن سبب مقتله:
اختلف فِي سبب مقتله، وكيف كَانَ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد:
أَخْبَرَنَا غياث بن إِبْرَاهِيمَ، عن ابن إِسْحَاق، قَالَ: هرب يزدجرد
من كَرْمَان فِي جماعة يسيرة إِلَى مرو، فسأل مرزبانها مالا فمنعه،
فخافوا عَلَى أنفسهم، فأرسلوا إِلَى الترك يستنصرونهم عَلَيْهِ، فأتوه
فبيتوه، فقتلوا أَصْحَابه، وهرب يزدجرد حَتَّى أتى منزل رجل ينقر
الأرحاء عَلَى شط المرغاب، فأوى إِلَيْهِ ليلا، فلما نام قتله.
قَالَ علي: وأخبرنا الْهُذَلِيّ، قَالَ: أتى يزدجرد مرو هاربا من
كَرْمَان، فسأل مرزبانها وأهلها مالا، فمنعوه وخافوه، فبيتوه ولم
يستجيشوا عَلَيْهِ الترك، فقتلوا أَصْحَابه، وخرج هاربا عَلَى رجليه،
مَعَهُ منطقته وسيفه وتاجه، حَتَّى انتهى إِلَى منزل نقار عَلَى شط
المرغاب، فلما غفل يزدجرد قتله النقار، وأخذ متاعه وألقى جسده فِي
المرغاب، وأصبح أهل مرو فاتبعوا أثره، حَتَّى خفي عَلَيْهِم عِنْدَ
منزل النقار، فأخذوه، فأقر لَهُمْ بقتله وأخرج متاعه، فقتلوا النقار
وأهل بيته، وأخذوا متاعه ومتاع يزدجرد، وأخرجوه من المرغاب فجعلوه فِي
تابوت من خشب.
قَالَ: فزعم بعضهم أَنَّهُمْ حملوه إِلَى إصطخر فدفن بِهَا فِي أول سنة
إحدى وثلاثين، وسميت مرو خذاه دشمن، وقد كان يزدجرد وطيء امرأة بِهَا
فولدت لَهُ غلاما ذاهب الشق- وذلك بعد ما قتل يزدجرد- فسمى المخدج،
فولد لَهُ أولاد بخراسان، فوجد قُتَيْبَة حين افتتح الصغد أو غيرها
جاريتين فقيل لَهُ: إنهما من ولد المخدج، فبعث بهما- أو بإحداهما-
إِلَى الحجاج بن يُوسُفَ، فبعث بِهَا إِلَى الْوَلِيدِ بن عَبْد
الْمَلِكِ، فولدت للوليد يَزِيد بن الْوَلِيد الناقص.
قَالَ علي: وأخبرنا روح بن عَبْدِ اللَّهِ، عن خرداذبة الرازي، أن
(4/293)
يزدجرد أتى خُرَاسَان وَمَعَهُ خرزاذمهر،
أخو رستم، فَقَالَ لماهوية مرزبان مرو: إني قَدْ سلمت إليك الملك ثُمَّ
انصرف إِلَى العراق وأقام يزدجرد بمرو، وهم بعزل ماهوية، فكتب ماهويه
إِلَى الترك يخبرهم بانهزام يزدجرد وبقدومه عَلَيْهِ، وعاهدهم عَلَى
مؤازرتهم عَلَيْهِ، وخلى لَهُمُ الطريق.
قَالَ: وأقبل الترك إِلَى مرو، وخرج إِلَيْهِم يزدجرد فيمن مَعَهُ من
أَصْحَابه، فقاتلهم وَمَعَهُ مَاهويه فِي أساورة مرو، فأثخن يزدجرد فِي
الترك، فخشي ماهويه أن ينهزم الترك، فتحول إِلَيْهِم فِي أساورة مرو،
فانهزم جند يزدجرد وقتلوا، وعقر فرس يزدجرد عِنْدَ المساء، فمضى ماشيا
هاربا حَتَّى انتهى إِلَى بيت فِيهِ رحا عَلَى شط المرغاب، فمكث فِيهِ
ليلتين، فطلبه ماهويه فلم يقدر عَلَيْهِ، فلما أصبح اليوم الثانى دخل
صاحب الرحا بيته، فلما رَأَى هيئة يزدجرد قَالَ: مَا أنت؟ إنسي أو جني!
قَالَ: إنسي، فهل عندك طعام؟ قَالَ: نعم، فأتاه بِهِ، فَقَالَ: إني
مزمزم فأتني بِمَا أزمزم بِهِ، فذهب الطحان إِلَى إسوار من الأساورة،
فطلب مِنْهُ مَا يزمزم بِهِ، قَالَ: وما تصنع بِهِ؟ قَالَ: عندي رجل لم
أر مثله قط، وَقَدْ طلب هَذَا مني فأدخله عَلَى ماهويه، فَقَالَ: هَذَا
يزدجرد، اذهبوا فجيئوني برأسه، فَقَالَ لَهُ الموبذ: ليس ذَلِكَ لك،
قَدْ علمت أن الدين والملك مقترنان لا يستقيم أحدهما إلا بالآخر، ومتى
فعلت انتهكت الحرمة الَّتِي لا بعدها وتكلم الناس وأعظموا ذَلِكَ،
فشتمهم ماهويه، وَقَالَ للأساورة:
من تكلم فاقتلوه وأمر عدة فذهبوا مع الطحان، وأمرهم أن يقتلوا يزدجرد،
فانطلقوا فلما رأوه كرهوا قتله، وتدافعوا ذَلِكَ وَقَالُوا للطحان:
ادخل فاقتله، فدخل عَلَيْهِ وَهُوَ نائم وَمَعَهُ حجر فشدخ بِهِ رأسه،
ثُمَّ احتز رأسه، فدفعه إِلَيْهِم، وألقى جسده فِي المرغاب فخرج قوم من
أهل مرو، فقتلوا الطحان، وهدموا رحاه، وخرج أسقف مرو، فأخرج جسد يزدجرد
من المرغاب، فجعله فِي تابوت، وحمله إِلَى إصطخر، فوضعه في ناووس
(4/294)
وَقَالَ آخرون فِي ذَلِكَ مَا ذكر هِشَام
بن مُحَمَّدٍ، أنه ذكر لَهُ أن يزدجرد هرب بعد وقعة نهاوند، وكانت آخر
وقعاتهم حَتَّى سقط إِلَى أرض إصبهان، وبها رجل يقال لَهُ مطيار من
دهاقينها- وَهُوَ المنتدب كَانَ لقتال العرب حين نكلت الأعاجم عنها-
فدعاهم إِلَى نفسه، فَقَالَ: إن وليت أموركم وسرت بكم إِلَيْهِم مَا
تجعلون لي؟ فَقَالُوا: نقر لك بفضلك فسار بهم، فأصاب من العرب شَيْئًا
يسيرا، فحظي بِهِ عندهم، ونال بِهِ أفضل الدرجات فِيهِمْ.
فلما رَأَى يزدجرد أمر إصبهان ونزلها، أتاه مطيار ذات يوم زائرا، فحجبه
بوابه، وَقَالَ لَهُ: قف حَتَّى أستأذن لك عَلَيْهِ، فوثب عَلَيْهِ
فشجه أنفة وحمية لحجبه إِيَّاهُ، ودخل البواب عَلَى يزدجرد مدمى، فلما
نظر إِلَيْهِ أفظعه ذَلِكَ، وركب من ساعته مرتحلا عن إصبهان، وأشير
عَلَيْهِ أن يأتي أقصى مملكته فيكون بِهَا، لاشتغال العرب عنه بِمَا هم
فِيهِ إِلَى يوم فسار متوجها إِلَى ناحية الري، فلما قدمها خرج
إِلَيْهِ صاحب طبرستان، وعرض عَلَيْهِ بلاده، وأخبره بحصانتها، وَقَالَ
لَهُ: إن أنت لم تجبني يومك هَذَا ثُمَّ أتيتني بعد ذَلِكَ لم أقبلك
ولم آوك، فأبى عَلَيْهِ يزدجرد، وكتب لَهُ بالأصبهبذية، وَكَانَ لَهُ
فِيمَا خلا عَلَيْهِ درجة أوضع منها.
وَقَالَ بعضهم: إن يزدجرد مضى من فوره ذَلِكَ إِلَى سجستان، ثُمَّ سار
منها إِلَى مرو فِي ألف رجل من الأساورة.
وَقَالَ بعضهم: إن يزدجرد وقع إِلَى أرض فارس، فأقام بِهَا أربع سنين،
ثُمَّ أتى أرض كَرْمَان، فأقام بِهَا سنتين أو ثلاث سنين، فطلب
إِلَيْهِ دهقان كَرْمَان أن يقيم عنده، فلم يفعل، وطلب من الدهقان أن
يعطيه رهينة، فلم يعطه دهقان كَرْمَان شَيْئًا، فلم يعطه مَا طلب، فأخذ
برجله فسحبه وطرده عن بلاده، فوقع منها إِلَى سجستان، فأقام بِهَا نحوا
من خمس سنين.
ثُمَّ أجمع أن ينزل خُرَاسَان فيجمع الجموع فِيهَا ويسير بهم إِلَى من
غلبه عَلَى مملكته، فسار بمن مَعَهُ إِلَى مرو، وَمَعَهُ الرهن من
أولاد الدهاقين، وَمَعَهُ من رؤسائهم فرخزاذ، فلما قدم مرو استغاث
مِنْهُمْ بالملوك، وكتب إِلَيْهِم يستمدهم، وإلى صاحب الصين وملك
فرغانة وملك كابل وملك الخزر
(4/295)
والدهقان يَوْمَئِذٍ بمرو ماهويه بن مافناه
بن فيد أَبُو براز ووكل ماهوية ابنه براز مدينة مرو- وكانت إِلَيْهِ-
وأراد يزدجرد دخول الْمَدِينَةِ لينظر إِلَيْهَا وإلى قهندزها- وَكَانَ
ماهويه قَدْ تقدم إِلَى ابنه أَلا يفتحها لَهُ إن رام دخولها تخوفا
لمكره وغدره- فركب يزدجرد فِي الْيَوْم الَّذِي أراد دخولها، فأطاف
بِالْمَدِينَةِ، فلما انتهى إِلَى باب من أبوابها، وأراد دخولها مِنْهُ
صاح أَبُو براز ببراز: أن افتح- وَهُوَ فِي ذَلِكَ يشد منطقته، ويومىء
إِلَيْهِ أَلا يفعل- وفطن لذلك رجل من أَصْحَاب يزدجرد، فأعلمه ذَلِكَ،
واستأذنه فِي ضرب عنق ماهويه، وَقَالَ: إن فعلت صفت لك الأمور بهذه
الناحية، فأبى عَلَيْهِ.
وَقَالَ بعضهم: بل كَانَ يزدجرد ولى مرو فرخزاذ، وأمر براز أن يدفع
القهندز والمدينة إِلَيْهِ، فأبى أهل الْمَدِينَةِ ذَلِكَ، لأن ماهويه
أبا براز تقدم إِلَيْهِم بِذَلِكَ، وَقَالَ لَهُمْ: ليس هَذَا لكم
بملك، فقد جاءكم مفلولا مجروحا، ومرو لا تحتمل مَا يحتمل غيرها من
الكور، فإذا جئتكم غدا فلا تفتحوا الباب فلما أتاهم فعلوا ذَلِكَ،
وانصرف فرخزاذ، فجثا بين يدي يزدجرد، وَقَالَ: استصعبت عَلَيْك مرو،
وهذه العرب قَدْ أتتك قَالَ:
فما الرأي؟ قَالَ: الرأي أن نلحق ببلاد الترك ونقيم بِهَا، حَتَّى
يتبين لنا أمر العرب، فإنهم لا يدعون بلدة إلا دخلوها قَالَ: لست أفعل،
ولكنى أرجع عودي عَلَى بدئي، فعصاه ولم يقبل رأيه، وسار يزدجرد، فأتى
براز دهقان مرو، وأجمع عَلَى صرف الدهقنة إِلَى سنجان ابن أخيه، فبلغ
ذَلِكَ ماهوية أبا براز، فعمل فِي هلاك يزدجرد وكتب إِلَى نيزك طرخان
يخبره أن يزدجرد وقع إِلَيْهِ مفلولا، ودعاه إِلَى القدوم عَلَيْهِ
لتكون أيديهما معا فِي أخذه، والاستيثاق مِنْهُ، فيقتلوه أو يصالحوا
عَلَيْهِ العرب، وجعل لَهُ إن هُوَ أراحه مِنْهُ أن يفي لَهُ كل يوم
بألف درهم، وسأله أن يكتب إِلَى يزدجرد مماكرا لَهُ لينحي عنه عامة
جنده، ويحصل فِي طائفة من عسكره وخواصه، فيكون أضعف لركنه، وأهون
لشوكته، وَقَالَ: تعلمه فِي كتابك إِلَيْهِ الَّذِي عزمت عَلَيْهِ، من
مناصحته ومعونته عَلَى عدوه من العرب، حتى
(4/296)
بقهرهم، وتطلب إِلَيْهِ أن يشتق لك اسما من
أسماء أهل الدرجات بكتاب مختوم بالذهب، وتعلمه أنك لست قادما عَلَيْهِ
حَتَّى ينحي عنه فرخزاذ.
فكتب نيزك بِذَلِكَ إِلَى يزدجرد، فلما ورد عَلَيْهِ كتابه بعث إِلَى
عظماء مرو فاستشارهم، فَقَالَ لَهُ سنجان: لست أَرَى أن تنحي عنك جندك
وفرخزاذ لشيء، وَقَالَ أَبُو براز: بل أَرَى أن تتألف نيزك وتجيبه
إِلَى مَا سأل فقبل رأيه، وفرق عنه جنده، وامر فرخزاذ ان ياتى اجمه
سرخس، فصاح فرخزاذ، وشق جيبه، وتناول عمودا بين يديه يريد ضرب أبي براز
بِهِ، وَقَالَ: يَا قتلة الملوك، قتلتم ملكين، وأظنكم قاتلي هَذَا! ولم
يبرح فرخزاذ حَتَّى كتب لَهُ يزدجرد بخط يده كتابا: هَذَا كتاب
لفرخزاذ، إنك قَدْ سلمت يزدجرد وأهله وولده وحاشيته وما مَعَهُ إِلَى
ماهويه دهقان مرو وأشهد عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
فأقبل نيزك إِلَى موضع بين المروين، يقال له حلسدان، فلما أجمع يزدجرد
عَلَى لقائه والمسير إِلَيْهِ، أشار عَلَيْهِ أَبُو براز أَلا يلقاه
فِي السلاح فيرتاب بِهِ، وينفر عنه، ولكن يلقاه بالمزامير والملاهي،
ففعل فسار فيمن أشار عَلَيْهِ ماهويه، وسمى لَهُ، وتقاعس عنه أَبُو
براز، وكردس نيزك أَصْحَابه كراديس.
فلما تدانيا استقبله نيزك ماشيا، ويزدجرد عَلَى فرس لَهُ، فأمر لنيزك
بجنيبة من جنائبه فركبها، فلما توسط عسكره تواقفا، فَقَالَ لَهُ نيزك
فِيمَا يقول: زوجني إحدى بناتك وأناصحك، وأقاتل معك عدوك فَقَالَ لَهُ
يزدجرد: وعلي تجترئ أيها الكلب! فعلاه نيزك بمخفقته، وصاح يزدجرد: غدر
الغادر! وركض منهزما، ووضع أَصْحَاب نيزك سيوفهم فِيهِمْ، فأكثروا
فِيهِمُ القتل وانتهى يزدجرد من هزيمته إِلَى مكان من أرض مرو، فنزل عن
فرسه، ودخل بيت طحان فمكث فِيهِ ثلاثة أيام، فَقَالَ لَهُ الطحان: أيها
الشقي، اخرج فاطعم شَيْئًا، فإنك قَدْ جعت منذ ثلاث، قال: لست
(4/297)
أصل إِلَى ذَلِكَ إلا بزمزمة وَكَانَ رجل
من زمازمة مرو أخرج حنطة لَهُ ليطحنها، فكلمه الطحان أن يزمزم عنده
ليأكل، ففعل ذَلِكَ، فلما انصرف سمع أبا براز يذكر يزدجرد، فسألهم عن
حليته، فوصفوه لَهُ، فأخبرهم أنه رآه فِي بيت طحان، وَهُوَ رجل جعد
مقرون حسن الثنايا، مقرط مسور.
فوجه إِلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ رجلا من الأساورة، وأمره إن هُوَ ظفر بِهِ
أن يخنقه بوتر، ثُمَّ يطرحه فِي نهر مرو، فلقوا الطحان، فضربوه ليدل
عَلَيْهِ فلم يفعل، وجحدهم أن يكون يعرف أين توجه فلما أرادوا الانصراف
عنه قَالَ لَهُمْ رجل مِنْهُمْ: إني أجد ريح المسك، ونظر إِلَى طرف
ثوبه من ديباج فِي الماء، فاجتذبه إِلَيْهِ، فإذا هُوَ يزدجرد، فسأله
أَلا يقتله وَلا يدل عَلَيْهِ، ويجعل لَهُ خاتمه وسواره ومنطقته، قَالَ
الآخر: أعطني أربعة دراهم وأخلي عنك، قَالَ يزدجرد: ويحك خاتمي لك،
وثمنه لا يحصى! فأبى عَلَيْهِ، قَالَ يزدجرد: قَدْ كنت أخبر أني سأحتاج
إِلَى أربعة دراهم، وأضطر إِلَى أن يكون أكلي أكل الهر، فقد عاينت،
وجاءني بحقيقته، وانتزع أحد قرطيه فأعطاه الطحان مكافأة لَهُ لكتمانه
عَلَيْهِ، ودنا مِنْهُ كأنه يكلمه بشيء، فوصف لَهُ موضعه، وأنذر الرجل
أَصْحَابه، فأتوه، فطلب إِلَيْهِم يزدجرد أَلا يقتلوه وَقَالَ: ويحكم!
إنا نجد فِي كتبنا أن من اجترأ عَلَى قتل الملوك عاقبه اللَّه بالحريق
فِي الدُّنْيَا، مع مَا هُوَ قادم عَلَيْهِ، فلا تقتلوني وآتوني
الدهقان أو سرحوني إِلَى العرب، فإنهم يستحيون مثلي من الملوك، فأخذوا
مَا كَانَ عَلَيْهِ من الحلي، فجعلوه فِي جراب، وختموا عَلَيْهِ، ثُمَّ
خنقوه بوتر، وطرحوه فِي نهر مرو، فجرى بِهِ الماء حَتَّى انتهى إِلَى
فوهة الرزيق، فتعلق بعود، فأتاه أسقف مرو، فحمله ولفه فِي طيلسان ممسك،
وجعله في تابوت، وحمله الى بائى بابان أسفل ماجان، فوضعه فِي عقد كَانَ
يكون مجلس الأسقف فِيهِ وردمه، وسأل أَبُو براز عن أحد القرطين حين
افتقده، فأخذ الَّذِي دل عَلَيْهِ فضربه حَتَّى أتى عَلَى نفسه، وبعث
بِمَا أصيب لَهُ إِلَى الخليفة يَوْمَئِذٍ، فأغرم الخليفة الدهقان قيمة
القرط المفقود
(4/298)
وَقَالَ آخرون: بل سار يزدجرد من كَرْمَان
قبل ورود العرب إياها، فأخذ عَلَى طريق الطبسين وقهستان، حَتَّى شارف
مرو فِي زهاء أربعة آلاف رجل، ليجمع من أهل خُرَاسَان جموعا، ويكر
إِلَى العرب ويقاتلهم، فتلقاه قائدان متباغضان متحاسدان كانا بمرو،
يقال لأحدهما براز والآخر سنجان، ومنحاه الطاعة، وأقام بمرو، وخص براز
فحسده ذَلِكَ سنجان، وجعل براز يبغي سنجان الغوائل، ويوغل صدر يزدجرد
عَلَيْهِ، وسعى بسنجان حَتَّى عزم عَلَى قتله، وأفشى مَا كَانَ عزم
عَلَيْهِ من ذَلِكَ إِلَى امرأة من نسائه كَانَ براز واطأها، فأرسلت
إِلَى براز بنسوة زعمت بإجماع يزدجرد عَلَى قتل سنجان، وفشا مَا كَانَ
عزم عَلَيْهِ يزدجرد من ذَلِكَ فنذر سنجان، وأخذ حذره، وجمع جمعا كنحو
أَصْحَاب براز، ومن كَانَ مع يزدجرد من الجند، وتوجه نحو القصر الَّذِي
كَانَ يزدجرد نازله وبلغ ذَلِكَ براز، فنكص عن سنجان لكثرة جموعه، ورعب
جمع سنجان يزدجرد وأخافه، فخرج من قصره متنكرا، ومضى عَلَى وجهه راجلا
لينجو بنفسه، فمشى نحوا من فرسخين حَتَّى وقع إِلَى رحا مَا، فدخل بيت
الرحا، فجلس فِيهِ كالا لغبا، فرآه صاحب الرحا ذا هيئة وطرة وبزة
كريمة، ففرش لَهُ، فجلس وأتاه بطعام فطعم، ومكث عنده يَوْمًا وليلة،
فسأله صاحب الرحا أن يأمر لَهُ بشيء، فبذل لَهُ منطقة مكللة بجوهر
كَانَتْ عَلَيْهِ، فأبى صاحب الرحا أن يقبلها، وَقَالَ: إنما كَانَ
يرضيني من هَذِهِ المنطقة أربعة دراهم كنت أطعم بِهَا وأشرب، فأخبره
أنه لا ورق مَعَهُ، فتملقه صاحب الرحا، حَتَّى إذا غفا قام إِلَيْهِ
بفأس لَهُ فضرب بِهَا هامته فقتله، واحتز رأسه، وأخذ مَا كَانَ
عَلَيْهِ من ثياب ومنطقة، وألقى جيفته فِي النهر الَّذِي كَانَ تدور
بمائه رحاه، وبقر بطنه، وأدخل فِيهِ أصولا من أصول طرفاء كَانَتْ نابتة
فِي ذَلِكَ النهر لتحبس جثته فِي الموضع الَّذِي ألقاه فِيهِ، فلا يسفل
فيعرف ويطلب قاتله وما أخذ من سلبه، وهرب عَلَى وجهه.
وبلغ قتل يزدجرد رجلا من أهل الأهواز كَانَ مطرانا عَلَى مرو،
(4/299)
يقال لَهُ إيلياء، فجمع من كَانَ قبله من
النصارى، وَقَالَ لَهُمْ: إن ملك الفرس قَدْ قتل، وَهُوَ ابن شهريار بن
كسرى، وإنما شهريار ولد شيرين المؤمنة الَّتِي قَدْ عرفتم حقها
وإحسانها إِلَى أهل ملتها مِنْ غَيْرِ وجه، ولهذا الملك عنصر فِي
النصرانية مع مَا نال النصارى فِي ملك جده كسرى من الشرف، وقبل ذَلِكَ
فِي مملكة ملوك من أسلافه من الخير، حَتَّى بنى لَهُمْ بعض البيع، وسدد
لَهُمْ بعض ملتهم، فينبغي لنا أن نحزن لقتل هَذَا الملك من كرامته بقدر
إحسان أسلافه وجدته شيرين، كَانَ إِلَى النصارى، وَقَدْ رأيت أن أبني
لَهُ ناووسا، وأحمل جثته فِي كرامة حَتَّى أواريها فِيهِ.
فَقَالَ النصارى: أمرنا لأمرك أيها المطران تبع، ونحن لك عَلَى رأيك
هَذَا مواطئون فأمر المطران فبنى فِي جوف بستان المطارنة بمرو ناووسا،
ومضى بنفسه وَمَعَهُ نصارى مرو حَتَّى استخرج جثة يزدجرد من النهر
وكفنها، وجعلها فِي تابوت، وحمله من كَانَ مَعَهُ من النصارى على
عواتقهم حتى أتوا به الناووس الَّذِي أمر ببنائه لَهُ وواروه فِيهِ،
وردموا بابه، فكان ملك يزدجرد عشرين سنة، منها أربع سنين فِي دعة وست
عشرة سنة فِي تعب من محاربة العرب إِيَّاهُ وغلظتهم عَلَيْهِ.
وَكَانَ آخر ملك ملك من آل أردشير بن بابك، وصفا الملك بعده للعرب
. شخوص عبد الله بن عامر الى خراسان وما قام به من فتوح
وفي هَذِهِ السنة- أعني سنة إحدى وثلاثين- شخص عَبْد اللَّهِ بن عَامِر
إِلَى خُرَاسَان ففتح ابرشهر وطوس وبيورد ونسا حَتَّى بلغ سرخس، وصالح
فِيهَا أهل مرو.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
ذكر أن ابن عَامِر لما فتح فارس قام إِلَيْهِ أوس بن حبيب التميمي،
فَقَالَ:
أصلح اللَّه الأمير! إن الأرض بين يديك، ولم تفتتح من ذَلِكَ إلا
القليل، فسر فإن اللَّه ناصرك، قال: او لم نأمر بالمسير! وكره أن يظهر
أنه قبل
(4/300)
رأيه، فذكر عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ أن مسلمة
بن محارب أخبره عن السكن بن قَتَادَة العريني، قَالَ: فتح ابن عَامِر
فارس ورجع إِلَى الْبَصْرَة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى إصطخر شريك بن الأعور
الحارثي، فبنى شريك مسجد إصطخر، فدخل عَلَى ابن عَامِر رجل من بني
تميم، قَالَ: كنا نقول: إنه الأحنف- ويقال:
أوس بن جابر الجشمي جشم تميم- فَقَالَ لَهُ: إن عدوك مِنْكَ هارب،
وَهُوَ لك هائب، والبلاد واسعة، فسر فإن اللَّه ناصرك، ومعز دينه.
فتجهز ابن عَامِر، وأمر الناس بالجهاز للمسير، واستخلف عَلَى
الْبَصْرَةِ زيادا، وسار إِلَى كَرْمَان، ثُمَّ أخذ إِلَى خُرَاسَان،
فقوم يقولون: أخذ طريق إصبهان، ثُمَّ سار إِلَى خُرَاسَان.
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا المفضل الكرماني، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ
أشياخ كَرْمَان يذكرون أن ابن عَامِر نزل المعسكر بالسيرجان، ثُمَّ سار
إِلَى خُرَاسَان، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى كَرْمَان مجاشع بن مسعود السلمى،
وأخذ ابن عامر على مفازة رابر، وَهِيَ ثمانون فرسخا، ثُمَّ سار إِلَى
الطبسين يريد أَبْرَشَهْر، وَهِيَ مدينة نيسابور، وعلى مقدمته الأحنف
بن قيس، فأخذ إِلَى قهستان، وخرج إِلَى أَبْرَشَهْر فلقيه الهياطلة،
وهم أهل هراة، فقاتلهم الأحنف فهزمهم، ثُمَّ أتى ابن عَامِر نيسابور
قَالَ علي: وأخبرنا أَبُو مخنف، عن نمير بن وعلة، عَنِ الشَّعْبِيِّ،
قَالَ:
أخذ ابن عَامِر عَلَى مفازة خبيص، ثُمَّ عَلَى خواست- ويقال: عَلَى
يزد- ثُمَّ عَلَى قهستان، فقدم الأحنف فلقيه الهياطلة، فقاتلهم فهزمهم،
ثُمَّ أتى أَبْرَشَهْر، فنزلها ابن عَامِر، وَكَانَ سَعِيد بن الْعَاصِ
فِي جند أهل الْكُوفَة، فأتى جُرْجَان وَهُوَ يريد خُرَاسَان، فلما
بلغه نزول ابن عَامِر أَبْرَشَهْر، رجع إِلَى الْكُوفَةِ.
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بن مُجَاهِدٍ، قَالَ: نزل ابن عَامِر
عَلَى أَبْرَشَهْر فغلب عَلَى نصفها عنوة، وَكَانَ النصف الآخر فِي يد
كنارى، ونصف نسا وطوس، فلم يقدر ابن عَامِر أن يجوز إِلَى مرو، فصالح
كنارى، فأعطاه ابنه أبا الصلت ابن كنارى وابن أخيه سليما رهنا، ووجه
عَبْد اللَّهِ بن خازم إِلَى هراة
(4/301)
وحاتم بن النُّعْمَانِ إِلَى مرو، فأخذ ابن
عامر ابنى كنارى، فصارا الى النعمان ابن الأفقم النَّصْرِيّ فأعتقهما.
قَالَ علي: وأخبرنا أَبُو حفص الأَزْدِيّ، عن إدريس بن حنظلة العمي،
قَالَ: فتح ابن عَامِر مدينة أَبْرَشَهْر عنوة، وفتح مَا حولها طوس
وبيورد ونسا وحمران، وَذَلِكَ سنة إحدى وثلاثين.
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا أَبُو السري المروزي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
سمعت مُوسَى بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خازم يقول: أبي صالح أهل سرخس،
بعثه إِلَيْهِم عَبْد اللَّهِ بن عَامِر من أبرشهر وصالح ابن عَامِر
أهل أَبْرَشَهْر صلحا، فأعطوه جاريتين من آل كسرى بابونج وطهميج- او
طهميج- فاقبل بهما معه، وبعث أمين ابن أحمر اليشكري، ففتح مَا حول
أَبْرَشَهْر: طوس وبيورد ونسا وحمران، حَتَّى انتهى إِلَى سرخس.
قَالَ علي: وأخبرنا الصلت بن دينار، عن ابن سيرين، قَالَ:
بعث ابن عَامِر عَبْد اللَّهِ بن خازم إِلَى سرخس، ففتحها وأصاب ابن
عَامِر جاريتين من آل كسرى، فأعطى إحداهما النوشجان، وماتت بابونج.
قَالَ علي: وأخبرنا أَبُو الذيال زهير بن هنيد العدوي، عن أشياخ من أهل
خُرَاسَان، أن ابن عَامِر سرح الأسود بن كلثوم العدوي- عدي الرباب-
إِلَى بيهق، وَهُوَ من أَبْرَشَهْر، بينها وبين مدينة أَبْرَشَهْر ستة
عشر فرسخا، ففتحها وقتل الأسود بن كلثوم قَالَ: وَكَانَ فاضلا فِي
دينه، كَانَ من أَصْحَاب عَامِر بن عَبْدِ اللَّهِ العنبري وَكَانَ
عَامِر يقول بعد مَا أخرج مِنَ الْبَصْرَةِ: مَا آسى من العراق على شيء
الا على مماء الهواجر، وتجاوب المؤذنين، وإخوان مثل الأسود بن كلثوم.
قَالَ علي: وأخبرنا زهير بن هنيد، عن بعض عمومته، قَالَ: غلب ابن
عَامِر عَلَى نيسابور، وخرج إِلَى سرخس، فأرسل إِلَى أهل مرو يطلب
(4/302)
الصلح، فبعث إِلَيْهِم ابن عَامِر حاتم بن
النُّعْمَانِ الباهلي، فصالح براز مرزبان مرو عَلَى ألفي ألف ومائتي
ألف.
قَالَ: فأخبرنا مُصْعَب بن حيان عن أخيه مقاتل بن حيان، قال:
صالحهم على سته آلاف الف ومائتي ألف.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(4/303)
ثُمَّ دخلت
سنة اثنتين وثلاثين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث المذكورة) فمن ذَلِكَ غزوة
مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ المضيق، مضيق القسطنطينية، وَمَعَهُ
زوجته عاتكة ابنة قرطة بن عبد عَمْرو بن نوفل بن عبد مناف.
وقيل: فاختة، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن
إِسْحَاق، عن أبي معشر، وَهُوَ قول الْوَاقِدِيّ.
وفي هَذِهِ السنة استعمل سَعِيد بن الْعَاصِ سلمان بن رَبِيعَةَ عَلَى
فرج بلنجر، وأمد الجيش الَّذِي كَانَ بِهِ مقيما مع حُذَيْفَة بأهل
الشام، عَلَيْهِم حبيب بن مسلمة الفهري- فِي قول سيف- فوقع فيها
الاختلاف بين سلمان وحبيب فِي الأمر، وتنازع فِي ذَلِكَ أهل الشام وأهل
الْكُوفَة.
ذكر الخبر بِذَلِكَ:
فَمِمَّا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد
وطلحة قَالا: كَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى سَعِيدٍ: أَنْ أَغْزِ سلمان
الباب، وكتب الى عبد الرحمن ابن رَبِيعَةَ وَهُوَ عَلَى الْبَابِ:
أَنَّ الرَّعِيَّةَ قَدْ أَبْطَرَ كَثِيرًا مِنْهُمُ الْبِطْنَةُ،
فَقَصِّرْ، وَلا تَقْتَحِمْ بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنِّي خَاشٍ أَنْ
يُبْتَلَوْا، فَلَمْ يَزْجُرْ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَنْ
غَايَتِهِ، وَكَانَ لا يُقَصِّرُ عَنْ بَلَنْجَرَ، فَغَزَا سَنَةَ
تِسْعٍ مِنْ إِمَارَةِ عُثْمَانَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَلَنْجَرَ،
حَصَرُوهَا ونَصَبُوا عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ وَالْعَرَادَاتِ،
فَجَعَلَ لا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلا أَعْنَتُوهُ أَوْ قَتَلُوهُ،
فَأَسْرَعُوا فِي النَّاسِ، وَقُتِلَ مِعْضَدٌ فِي تِلَكَ الأَيَّامِ.
إِنَّ التُّرْكَ اتَّعَدُوا يَوْمًا، فَخَرَجَ أَهْلُ بَلَنْجَرَ،
وَتَوَافَتْ إِلَيْهِمُ التُّرْكُ فَاقْتَتَلُوا، فَأُصِيبَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ- وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو النُّورِ-
وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ فَتَفَرَّقُوا، فَأَمَّا مَنْ أَخَذَ
طَرِيقَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ فَحَمَاهُ حَتَّى خَرَجَ
(4/304)
مِنَ الْبَابِ، وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ
طَرِيقَ الْخَزَرِ وَبِلادِهَا، فَإِنَّهُ خَرَجَ عَلَى جَيْلانَ
وَجَرْجَانَ وَفِيهِمْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ،
وَأَخَذَ الْقَوْمُ جَسَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَجَعَلُوهُ فِي سَفَطٍ،
فَبَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَهُمْ يَسْتَسْقُونَ بِهِ إِلَى الْيَوْمِ
وَيَسْتَنْصِرُونَ به.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن دَاوُد بن
يَزِيدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: وَاللَّهِ لسلمان بن رَبِيعَة
كَانَ أبصر بالمضارب من الجازر بمفاصل الجزور.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ
الْغُصْنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بني كنانة، قال: لما
تتابعت الغزوات على الخزر، وتذامروا وتعايروا وَقَالُوا: كنا أمة لا
يقرن لنا أحد حَتَّى جاءت هَذِهِ الأمة القليلة، فصرنا لا نقوم لها
فَقَالَ بعضهم لبعض: إن هَؤُلاءِ لا يموتون، ولو كَانُوا يموتون لما
اقتحموا علينا وما أصيب فِي غزواتها أحد إلا فِي آخر غزوة عبد
الرَّحْمَن، فَقَالُوا: أفلا تجربون! فكمنوا فِي الغياض، فمر بأولئك
الكمين مرار من الجند، فرموهم منها، فقتلوهم، فواعدوا رءوسهم، ثُمَّ
تداعوا إِلَى حربهم، ثُمَّ اتعدوا يَوْمًا، فاقتتلوا، فقتل عبد
الرَّحْمَن، وأسرع فِي الناس فافترقوا فرقين، فرق نحو الباب فحماهم
سلمان حَتَّى أخرجهم، وفرق أخذوا نحو الخزر، فطلعوا عَلَى جيلان
وجرجان، فِيهِمْ سلمان الفارسي وأبو هُرَيْرَة.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن المستنير
بن يَزِيدَ، عن أخيه قيس، عَنْ أَبِيهِ: قَالَ كَانَ يَزِيد بن
مُعَاوِيَة وعلقمة بن قيس ومعضد الشيباني وأبو مفزر التميمي فِي خباء،
وعمرو بن عتبة وخالد بن رَبِيعَة والحلحال بن ذري والقرثع فِي خباء،
وكانوا متجاورين فِي عسكر بلنجر، وَكَانَ القرثع يقول: مَا أحسن لمع
الدماء عَلَى الثياب! وَكَانَ عَمْرو بن عتبة يقول لقباء عَلَيْهِ
أبيض: مَا أحسن حمرة الدماء فِي بياضك! وغزا أهل الْكُوفَة بلنجر سنين
من إمارة عُثْمَان لم تئم فيهن امرأة، ولم ييتم فيهن صبي من قتل،
حَتَّى كَانَ سنة تسع، فلما كَانَ سنة تسع قبل
(4/305)
المزاحفة بيومين رَأَى يَزِيد بن
مُعَاوِيَة أن غزالا جيء بِهِ إِلَى خبائه، لم ير غزالا أحسن مِنْهُ
حَتَّى لف فِي ملحفته، ثُمَّ أتى بِهِ قبر عَلَيْهِ أربعة نفر لم ير
قبرا أشد استواء مِنْهُ وَلا أحسن مِنْهُ، حَتَّى دفن فِيهِ، فلما
تغادى الناس عَلَى الترك رمي يَزِيد بحجر، فهشم رأسه، فكأنما زين ثوبه
بالدماء زينة، وليس يتلطخ، فكان ذَلِكَ الغزال الَّذِي رَأَى، وَكَانَ
بذلك الدم على ذلك القباء الْحسن، فلما كَانَ قبل المزاحفة بيوم
تغادوا، فَقَالَ معضد لعلقمة: أعرني بردك أعصب بِهِ رأسي، ففعل، فأتى
البرج الَّذِي أصيب فِيهِ يَزِيد، فرماهم فقتل مِنْهُمْ، ورمي بحجر فِي
عرادة، ففضخ هامته، واجتره أَصْحَابه فدفنوه إِلَى جنب يَزِيد، وأصاب
عَمْرو بن عتبة جراحة، فرأى قباءه كما اشتهى.
وقتل، فلما كَانَ يوم المزاحفة قاتل القرثع حَتَّى خرق بالحراب، فكأنما
كَانَ قباؤه ثوبا أرضه بيضاء ووشيه أحمر، وما زال الناس ثبوتا حَتَّى
أصيب، وكانت هزيمة الناس مع مقتله.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن دَاوُد بن
يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة النخعي رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وعمرو بن عتبة ومعضد أصيبوا يوم بلنجر، فأما معضد فإنه اعتجر
ببرد لعلقمة، فأتاه شظية من حجر منجنيق فأمه، فاستصغره، ووضع يده
عَلَيْهِ فمات فغسل دمه عَلْقَمَة، فلم يخرج، وَكَانَ يحضر فِيهِ
الجمعة، وَقَالَ يحرضني عَلَيْهِ: إن فِيهِ دم معضد فأما عَمْرو فلبس
قباء أبيض، وَقَالَ: مَا أحسن الدم عَلَى هَذَا! فأتاه حجر فقتله،
وملأه دما، وأما يَزِيد فدلي عليه شيء فقتله، وَقَدْ كَانُوا حفروا
قبرا فأعدوه، فنظر إِلَيْهِ يَزِيد، فَقَالَ: مَا أحسنه! وأرى فِيمَا
يرى النائم أن غزالا لم ير غزال أحسن مِنْهُ، جيء بِهِ حَتَّى دفن
فِيهِ، فكان هُوَ ذَلِكَ الغزال وَكَانَ يَزِيد رقيقا جميلا رحمه
اللَّه، وبلغ ذَلِكَ عُثْمَان، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ راجِعُونَ! انتكث أهل الْكُوفَة اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِم
وأقبل بهم.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ، قَالا:
استعمل سَعِيد عَلَى ذَلِكَ الفرج سلمان بن رَبِيعَة، وَاسْتَعْمَلَ
عَلَى الغزو
(4/306)
بأهل الْكُوفَة حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ،
وَكَانَ عَلَى ذلك الفرج قبل ذلك عبد الرحمن ابن رَبِيعَة، وأمدهم
عُثْمَان فِي سنة عشر بأهل الشام، عَلَيْهِم حبيب بن مسلمة القرشي،
فتأمر عَلَيْهِ سلمان، وأبى عَلَيْهِ حبيب، حَتَّى قَالَ أهل الشام:
لقد هممنا بضرب سلمان، فَقَالَ فِي ذَلِكَ الناس: إذا وَاللَّهِ نضرب
حبيبا ونحبسه، وإن أبيتم كثرت القتلى فيكم وفينا.
وَقَالَ أوس بن مغراء فِي ذَلِكَ:
إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم ... وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل
وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا ... وهذا أَمِير فِي الكتائب مقبل
ونحن ولاة الثغر كنا حماته ... ليالي نرمي كل ثغر وننكل
فأراد حبيب أن يتأمر عَلَى صاحب الباب كما كَانَ يتأمر أَمِير الجيش
إذا جَاءَ من الْكُوفَة، فلما أحس حُذَيْفَة اقر وأقروا، فغزاها حذيفة
ابن الْيَمَانِ ثلاث غزوات، فقتل عُثْمَان فِي الثالثة، ولقيهم مقتل
عُثْمَان، فَقَالَ:
اللَّهُمَّ العن قتلة عُثْمَان وغزاة عُثْمَان وشناة عُثْمَان
اللَّهُمَّ إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا، متى مَا كَانَ من قبله يعاتبنا
ونعاتبه! فاتخذوا ذَلِكَ سلما إِلَى الفتنة، اللَّهُمَّ لا تمتهم إلا
بالسيوف وفي هَذِهِ السنة مات عبد الرَّحْمَن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، زعم الْوَاقِدِيّ أن عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر حدثه بِذَلِكَ
عن يَعْقُوب بن عتبة، وأنه يوم مات كَانَ ابن خمس وسبعين سنة.
قَالَ: وفيها مات العباس بن عبد المطلب، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابن ثمان
وثمانين سنة، وَكَانَ أسن مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص بثلاث سنين.
قَالَ: وفيها مات عَبْد اللَّهِ بن زَيْد بن عبد ربه رحمه اللَّه،
الَّذِي أري الأذان
(4/307)
قَالَ: وفيها توفي عَبْد اللَّهِ بن مسعود
بِالْمَدِينَةِ، فدفن بالبقيع رحمه اللَّه فَقَالَ قائل: صلى عَلَيْهِ
عمار، وَقَالَ قائل: صلى عَلَيْهِ عثمان.
وفيها مات ابو طلحه رحمه الله.
ذكر الخبر عن وفاه ابى ذر
قال: وفيها مات أَبُو ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رواية سيف ذكر
الخبر عن وفاته:
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية عن يزيد الفقعسي، قال: لما
حَضَرَتْ أَبَا ذَرٍّ الْوَفَاةُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةَ ثَمَانٍ فِي ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ إِمَارَةِ عُثْمَانَ، نُزِلَ بِأَبِي ذَرٍّ، فَلَمَّا
أَشْرَفَ قَالَ لابْنَتِهِ: اسْتَشْرِفِي يَا بُنَيَّةُ فَانْظُرِي
هَلْ تَرِينَ أَحَدًا! قَالَتْ: لا، قَالَ: فَمَا جَاءَتْ سَاعَتِي
بَعْدُ، ثُمَّ أَمَرَهَا فَذَبَحَتْ شَاةً، ثُمَّ طَبَخَتْهَا، ثُمَّ
قال: إذا جاءك الذين يدفنون فَقُولِي لَهُمْ: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ
يُقْسِمُ عَلَيْكُمْ أَلا تَرْكَبُوا حَتَّى تَأْكُلُوا، فَلَمَّا
نَضَجَتْ قَدْرُهَا قَالَ لَهَا: انْظُرِي هَلْ تَرَيْنَ أَحَدًا؟
قَالَتْ: نَعَمْ، هَؤُلاءِ رَكْبٌ مُقْبِلُونَ، قَالَ:
اسْتَقْبِلِي بِي الْكَعْبَةَ فَفَعَلَتْ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ،
وَبِاللَّهِ، وَعَلَى مله رسول الله ص ثُمَّ خَرَجَتِ ابْنَتُهُ
فَتَلَقَّتْهُمْ وَقَالَتْ: رَحِمَكُمُ اللَّهُ! اشْهَدُوا أَبَا
ذَرٍّ- قَالُوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ فَأَشَارَتْ لَهُمْ إِلَيْهِ وَقَدْ
مَاتَ- فَادْفِنُوهُ، قَالُوا:
نَعَمْ وَنِعْمَةُ عَيْنٍ! لَقَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ،
وَإِذَا رَكْبٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِيهِمُ ابْنُ مَسْعُودٍ،
فَمَالُوا إِلَيْهِ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي وَيَقُولُ: [صَدَقَ رسول
الله ص: يَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ،] فَغَسَّلُوهُ
وَكَفَّنُوهُ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ وَدَفَنُوهُ، فَلَمَّا أَرَادُوا
أَنْ يَرْتَحِلُوا قَالَتْ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ يَقْرَأُ
عَلَيْكُمُ السَّلامَ، وَأَقْسَمَ عَلَيْكُمْ أَلا تَرْكَبُوا حَتَّى
تَأْكُلُوا، فَفَعَلُوا، وَحَمَلُوهُمْ حَتَّى أَقْدَمُوهُمْ مَكَّةَ،
وَنَعَوْهُ إِلَى عُثْمَانَ، فَضَمَّ ابْنَتَهُ إِلَى عِيَالِهِ،
وَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أبا ذر، ويغفر لرافع ابن خَدِيجٍ سُكُونَهُ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ
الْقَعْقَاعِ بْنِ الصَّلْتِ،
(4/308)
عَنْ رَجُلٍ، عَنْ كُلَيْبِ بْنِ الْحَلْحَالِ، عَنِ الْحَلْحَالِ بْنِ
ذُرَيٍّ، قَالَ:
خَرَجْنَا مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلاثِينَ وَنَحْنُ
أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَاكِبًا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى الرَّبَذَةِ
فَإِذَا امْرَأَةٌ قَدْ تَلَقَّتْنَا، فَقَالَتْ: اشْهَدُوا أَبَا
ذَرٍّ- وَمَا شَعَرْنَا بِأَمْرِهِ وَلا بَلَغَنَا- فَقُلْنَا:
وَأَيْنَ أَبُو ذر؟ فأشارت الى خباء، فَقُلْنَا: مَا لَهُ؟ قَالَتْ:
فَارَقَ الْمَدِينَةَ لأَمْرٍ قَدْ بَلَغَهُ فِيهَا، فَفَارَقَهَا
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا دَعَاهُ إِلَى الأَعْرَابِ؟ فَقَالَتْ:
أَمَا إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كَرِهَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ
كَانَ يَقُولُ:
هِيَ بعد، وَهِيَ مَدِينَةٌ فَمَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِلَيْهِ وَهُوَ
يَبْكِي، فَغَسَّلْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ، وَإِذَا خِبَاءٌ مَنْضُوخٌ
بِمِسْكٍ، فَقُلْنَا لِلْمَرْأَةِ: مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: كَانَتْ
مِسْكَةً، فَلَمَّا حُضِرَ قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ يَحْضُرُهُ شُهُودٌ
يَجِدُونَ الرِّيحَ، وَلا يَأْكُلُونَ، فدوفى تِلَكَ الْمِسْكَةِ
بِمَاءٍ، ثُمَّ رُشِّي بِهَا الْخِبَاءَ فَاقْرِيهِمْ رِيحَهَا،
وَاطْبُخِي هَذَا اللَّحْمَ، فَإِنَّهُ سَيَشْهَدُنِي قَوْمٌ
صَالِحُونَ يَلُونَ دَفْنِي، فَاقْرِيهِمْ، فَلَمَّا دَفَنَّاهُ
دَعَتْنَا إِلَى الطَّعَامِ فَأَكَلْنَا، وَأَرَدْنَا احْتِمَالَهَا،
فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَرِيبٌ،
نَسْتَأْمِرْهُ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ،
فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ، وَيَغْفِرُ لَهُ نُزُولَهُ
الرَّبْذَةَ! وَلَمَّا صَدَرَ خَرَجَ فَأَخَذَ طَرِيقَ الرَّبَذَةَ،
فَضَمَّ عِيَالَهُ إِلَى عِيَالِهِ، وَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ،
وَتَوَجَّهْنَا نَحْوَ الْعِرَاقِ، وَعُدَّتُنَا: ابْنُ مَسْعُودٍ
وَأَبُو مِفْزَرٍ التَّمِيمِيُّ، وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
التَّمِيمِيُّ، وَالأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النخعى وعلقمه بن قيس
النخعى، والحلحال ابن ذُرَيٍّ الضَّبِّيُّ وَالْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ
التَّمِيمِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ السُّلَمِيُّ،
وَابْنُ رَبِيعَةَ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو رَافِعٍ الْمُزَنِيُّ،
وَسُوَيْدُ بْنُ مَثْعَبَةَ التَّمِيمِيُّ، وَزِيَادُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
النَّخَعِيُّ، وَأَخُو الْقَرْثَعِ الضبي، وأخو معضد الشيبانى |