تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

. ذكر الخبر عن مقدم المختار بن ابى عبيد الكوفه
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي النصف من شهر رمضان من هَذِهِ السنة كَانَ مقدم المختار بن أبي عبيد الْكُوفَة.
ذكر الخبر عن سبب مقدمه إِلَيْهَا:
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي: قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ النضر بن صالح:
كَانَتِ الشيعة تشتم المختار وتعتبه لما كَانَ مِنْهُ فِي أمر الْحَسَن بن علي يوم طعن فِي مظلم ساباط، فحمل إِلَى أبيض المدائن، حَتَّى إذا كَانَ زمن الْحُسَيْن، وبعث الْحُسَيْن مسلم بن عقيل إِلَى الْكُوفَةِ، نزل دار المختار، وَهِيَ الْيَوْم دار سلم بن المسيب، فبايعه المختار بن أبي عبيد فيمن بايعه من أهل الْكُوفَة، وناصحه ودعا إِلَيْهِ من أطاعه، حَتَّى خرج ابن عقيل يوم خرج والمختار فِي قرية لَهُ بخطرنية تدعى لقفا، فجاءه خبر ابن عقيل عِنْدَ الظهر أنه قَدْ ظهر بالكوفة، فلم يكن خروجه يوم خرج عَلَى ميعاد من أَصْحَابه، إنما خرج حين قيل لَهُ: إن هانئ بن عروة المرادي قَدْ ضرب وحبس، فأقبل المختار فِي موال لَهُ حَتَّى انتهى إِلَى باب الفيل بعد الغروب، وَقَدْ عقد عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لعمرو بن حريث راية عَلَى جميع الناس، وأمره أن يقعد لَهُمْ في المسجد، فلما كان المختار وقف عَلَى باب الفيل مر بِهِ هانئ بن أبي حية الوادعي، فَقَالَ للمختار: مَا وقوفك هاهنا! لا أنت مع الناس، وَلا

(5/569)


أنت فِي رحلك، قَالَ: أصبح رأيي مرتجا لعظم خطيئتكم، فَقَالَ لَهُ: أظنك وَاللَّهِ قاتلا نفسك، ثُمَّ دخل عَلَى عَمْرو بن حريث فأخبره بِمَا قَالَ للمختار وما رد عَلَيْهِ المختار.
قَالَ أَبُو مخنف: فأخبرني النضر بن صالح، عن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمير الثقفي، قَالَ: كنت جالسا عِنْدَ عَمْرو بن حريث حين بلغه هانئ بن أبي حية عن المختار هَذِهِ المقالة، فَقَالَ لي: قم إِلَى ابن عمك فأخبره أن صاحبه لا يدري أين هُوَ! فلا يجعلن عَلَى نفسه سبيلا، فقمت لآتيه، ووثب إِلَيْهِ زائدة بن قدامة بن مسعود، فَقَالَ لَهُ: يأتيك عَلَى أنه آمن؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن حريث:
أما مني فهو آمن، وإن رقي إِلَى الأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد شَيْء من أمره أقمت لَهُ بمحضره الشهادة، وشفعت لَهُ أحسن الشفاعة، فَقَالَ لَهُ زائدة بن قدامة:
لا يكونن مع هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ إلا خير.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فخرجت، وخرج معي زائدة إِلَى المختار، فأخبرناه بمقالة ابن أبي حية وبمقالة عَمْرو بن حريث، وناشدناه بالله الا يجعل عَلَى نفسه سبيلا، فنزل إِلَى ابن حريث، فسلم عَلَيْهِ، وجلس تحت رايته حَتَّى أصبح، وتذاكر الناس أمر المختار وفعله، فمشى عمارة بن عُقْبَةَ بن أبي معيط بِذَلِكَ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فذكر لَهُ، فلما ارتفع النهار فتح باب عُبَيْد اللَّهِ ابن زياد وأذن لِلنَّاسِ، فدخل المختار فيمن دخل، فدعاه عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: أنت المقبل فِي الجموع لتنصر ابن عقيل! فَقَالَ لَهُ: لم أفعل، ولكني أقبلت ونزلت تحت راية عَمْرو بن حريث، وبت مَعَهُ وأصبحت، فَقَالَ لَهُ عَمْرو: صدق أصلحك اللَّه! قَالَ: فرفع القضيب، فاعترض بِهِ وجه المختار فخبط بِهِ عينه فشترها وَقَالَ: أولى لك! أما وَاللَّهِ لولا شهادة عَمْرو لك لضربت عنقك، انطلقوا به الى السجن فانطلقوا به الى فحبس فيه فلم يزل فِي السجن حَتَّى قتل الْحُسَيْن ثُمَّ إن المختار بعث إِلَى زائدة بن قدامة، فسأله أن يسير إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ فيسأله أن يكتب لَهُ إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فيكتب

(5/570)


إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بتخلية سبيله، فركب زائدة إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ فقدم عَلَيْهِ، فبلغه رسالة المختار، وعلمت صفية أخت المختار بمحبس أخيها وَهِيَ تحت عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ، فبكت وجزعت، فلما رَأَى ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ كتب مع زائدة إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة: أَمَّا بَعْدُ، فإن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد حبس المختار، وَهُوَ صهري، وأنا أحب أن يعافى ويصلح من حاله، فإن رأيت رحمنا اللَّه وإياك أن تكتب إِلَى ابن زياد فتأمره بتخليته فعلت.
والسلام عَلَيْك.
فمضى زائدة عَلَى رواحله بالكتاب حَتَّى قدم بِهِ عَلَى يَزِيد بِالشَّامِ، فلما قرأه ضحك ثُمَّ قَالَ: يشفع أَبُو عبد الرَّحْمَن، وأهل ذَلِكَ هُوَ فكتب لَهُ إِلَى ابن زياد: أَمَّا بَعْدُ، فخل سبيل المختار بن أبي عبيد حين تنظر فِي كتابي، والسلام عَلَيْك.
فأقبل بِهِ زائدة حَتَّى دفعه، فدعا ابن زياد بالمختار، فأخرجه، ثُمَّ قَالَ لَهُ قَدْ أجلتك ثلاثا، فإن أدركتك بالكوفه بعدها قد برئت مِنْكَ الذمة.
فخرج إِلَى رحله وَقَالَ ابن زياد: وَاللَّهِ لقد اجترأ علي زائدة حين يرحل إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يأتيني بالكتاب فِي تخلية رجل قَدْ كَانَ من شأني أن أطيل حبسه، علي بِهِ فمر بِهِ عَمْرو بن نافع أَبُو عُثْمَان- كاتب لابن زياد- وَهُوَ يطلب، وَقَالَ لَهُ: النجاء بنفسك، واذكرها يدا لي عندك.
قَالَ: فخرج زائدة، فتوارى يومه ذَلِكَ ثُمَّ إنه خرج فِي أناس من قومه حَتَّى أتى القعقاع بن شور الذهلي، ومسلم بن عَمْرو الباهلي، فأخذا لَهُ من ابن زياد الأمان.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: ولما كَانَ الْيَوْم الثالث خرج المختار إِلَى الحجاز، قَالَ: فَحَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن ابن العرق، مولى لثقيف.
قَالَ: أقبلت من الحجاز حَتَّى إذا كنت بالبسيطة من وراء واقصة استقبلت المختار بن أبي عبيد خارجا يريد الحجاز حين خلى سبيله ابن زياد، فلما استقبلته رحبت بِهِ، وعطفت إِلَيْهِ، فلما رأيت شتر عينه استرجعت لَهُ، وقلت لَهُ بعد ما توجعت لَهُ: مَا بال عينك، صرف اللَّه عنك السوء!

(5/571)


فَقَالَ: خبط عيني ابن الزانية بالقضيب خبطة صارت إِلَى مَا ترى فقلت لَهُ: مَا لَهُ شلت أنامله! فَقَالَ المختار: قتلني اللَّه ان لم اقطع أنامله واباجله وأعضائه إربا إربا، قَالَ: فعجبت لمقالته، فقلت لَهُ: مَا علمك بِذَلِكَ رحمك اللَّه؟ فَقَالَ لي: مَا أقول لك فاحفظه عني حَتَّى ترى مصداقه.
قَالَ: ثُمَّ طفق يسألني عن عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فقلت لَهُ: لجأ إِلَى البيت، فَقَالَ: إنما أنا عائذ برب هَذِهِ البنية، والناس يتحدثون أنه يبايع سرا، وَلا أراه إلا لو قَدِ اشتدت شوكته واستكثف من الرجال إلا سيظهر الخلاف، قَالَ: أجل، لا شك فِي ذَلِكَ، أما إنه رجل العرب الْيَوْم، أما إنه إن يخطط فِي أثري، ويسمع قولي أكفه أمر الناس، وإلا يفعل فو الله ما انا بدون احد من العرب، يا بن العرق، إن الْفِتْنَة قَدْ أرعدت وأبرقت، وكأن قَدِ انبعثت فوطئت فِي خطامها، فإذا رأيت ذَلِكَ وسمعت بِهِ بمكان قَدْ ظهرت فِيهِ فقل: إن المختار فِي عصائبه مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يطلب بدم المظلوم الشهيد المقتول بالطف، سيد المسلمين، وابن سيدها، الحسين ابن على، فو ربك لأقتلن بقتله عدة القتلى الَّتِي قتلت عَلَى دم يحيى بن زكرياء ع، قَالَ: فقلت لَهُ: سبحان اللَّه! وهذه أعجوبة مع الأحدوثة الأولى، فَقَالَ: هُوَ مَا أقول لك فاحفظه عني حَتَّى ترى مصداقه.
ثُمَّ حرك راحلته، فمضى ومضيت مَعَهُ ساعة أدعو اللَّه لَهُ بالسلامة، وحسن الصحابة قَالَ: ثُمَّ إنه وقف فأقسم علي لما انصرفت، فأخذت بيده! فودعته، وَسَلَّمَت عَلَيْهِ، وانصرفت عنه، فقلت فِي نفسي: هَذَا الَّذِي يذكر لي هَذَا الإنسان، - يعني المختار- مما يزعم أنه كائن، اشيء حدث به نفسه! فو الله مَا أطلع اللَّه عَلَى الغيب أحدا، وإنما هُوَ شَيْء يتمناه فيرى أنه كائن، فهو يوجب رايه، فهذا والله الرأي الشعاع، فو الله مَا كل مَا يرى الإنسان أنه كائن يكون، قال: فو الله مَا مت حَتَّى رأيت كل مَا قاله قال: فو الله

(5/572)


لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ من علم ألقى إِلَيْهِ لقد أثبت لَهُ، ولئن كَانَ ذَلِكَ رأيا رآه، وشيئا تمناه، لقد كَانَ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي الصَّقْعَبُ بْنُ زُهَيْرٍ، عن ابن العرق، قَالَ:
فحدثت بهذا الحديث الحجاج بن يُوسُفَ، فضحك ثُمَّ قَالَ لي: إنه كَانَ يقول أيضا:
ورافعه ذيلها ... وداعية ويلها
بدجلة أو حولها
فقلت لَهُ: أترى هَذَا شَيْئًا كَانَ يخترعه، وتخرصا يتخرصه، أم هُوَ من علم كَانَ أوتيه؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أدري مَا هَذَا الَّذِي تسألني عنه، ولكن لِلَّهِ دره! أي رجل دينا، ومسعر حرب، ومقارع أعداء كَانَ! قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو سيف الأَنْصَارِيّ من بني الخزرج، عن عباس بن سَهْل بن سَعْدٍ، قَالَ: قدم المختار علينا مكة، فَجَاءَ الى عبد الله ابن الزُّبَيْرِ وأنا جالس عنده، فسلم عَلَيْهِ، فرد عَلَيْهِ ابن الزُّبَيْر، ورحب بِهِ، وأوسع لَهُ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي عن حال الناس بالكوفة يَا أَبَا إِسْحَاق، قَالَ:
هم لسلطانهم فِي العلانية أولياء، وفي السر أعداء، فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: هَذِهِ صفة عبيد السوء، إذا رأوا أربابهم خدموهم وأطاعوهم، فإذا غابوا عَنْهُمْ شتموهم ولعنوهم، قَالَ: فجلس معنا ساعة، ثُمَّ إنه مال إِلَى ابن الزُّبَيْر كأنه يساره، فَقَالَ لَهُ: مَا تنتظر! ابسط يدك أبايعك، وأعطنا مَا يرضينا، وثب عَلَى الحجاز فإن أهل الحجاز كلهم معك وقام المختار فخرج، فلم ير حولا، ثُمَّ إني بينا أنا جالس مع ابن الزُّبَيْر إذ قَالَ لي ابن الزُّبَيْر: متى عهدك بالمختار بن أبي عبيد؟ فقلت لَهُ: مَا لي بِهِ عهد منذ رأيته عندك عاما أول، فَقَالَ: أين تراه ذهب! لو كان بمكة، لقد رئى بِهَا بعد، فقلت لَهُ:
إني انصرفت إِلَى الْمَدِينَة بعد إذ رأيته عندك بشهر أو شهرين، فلبثت بِالْمَدِينَةِ أشهرا، ثُمَّ إني قدمت عَلَيْك، فسمعت نفرا من أهل الطائف جاءوا معتمرين

(5/573)


يزعمون أنه قدم عَلَيْهِم الطائف، وَهُوَ يزعم أنه صاحب الغضب، ومبير الجبارين، قَالَ: قاتله اللَّه! لقد انبعث كذابا متكهنا، إن اللَّه ان يهلك الجبارين يكن المختار احدهم فو الله مَا كَانَ إلا ريث فراغنا من منطقنا حَتَّى عن لنا فِي جانب المسجد، فَقَالَ ابن الزُّبَيْر: اذكر غائبا تره، أين تظنه يهوي؟ فقلت: أظنه يريد البيت، فأتى البيت فاستقبل الحجر، ثُمَّ طاف بالبيت أسبوعا، ثُمَّ صلى ركعتين عِنْدَ الحجر، ثُمَّ جلس، فما لبث أن مر بِهِ رجال من معارفه من أهل الطائف وغيرهم من أهل الحجاز، فجلسوا إِلَيْهِ، واستبطأ ابن الزُّبَيْر قيامه إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا ترى شأنه لا يأتينا! قلت: لا ادرى، وساعلم لك علمه، فقال: مَا شئت، وكأن ذَلِكَ أعجبه.
قَالَ: فقمت فمررت بِهِ كأني أريد الخروج من المسجد، ثُمَّ التفت إِلَيْهِ، فأقبلت نحوه ثُمَّ سلمت عَلَيْهِ، ثُمَّ جلست إِلَيْهِ، وأخذت بيده، فقلت له:
اين كنت؟ واين بلغت بعدي؟ أبا لطائف كنت؟ فَقَالَ لي: كنت بالطائف وغير الطائف، وعمس علي أمره، فملت إِلَيْهِ، فناجيته، فقلت لَهُ: مثلك يغيب عن مثل مَا قَدِ اجتمع عَلَيْهِ أهل الشرف وبيوتات العرب من قريش والأنصار وثقيف! لم يبق أهل بيت وَلا قبيلة إلا وَقَدْ جَاءَ زعيمهم وعميدهم فبايع هَذَا الرجل، فعجبا لك ولرأيك أَلا تكون أتيته فبايعته، وأخذت بحظك من هَذَا الأمر! فَقَالَ لي: وما رأيتني؟ أتيته العام الماضي، فأشرت عَلَيْهِ بالرأي، فطوى أمره دوني، وإني لما رأيته استغنى عني أحببت أن أريه أني مستغن عنه، إنه وَاللَّهِ لهو أحوج إلي مني إِلَيْهِ، فقلت لَهُ: إنك كلمته بِالَّذِي كلمته وَهُوَ ظاهر فِي المسجد، وهذا الكلام لا ينبغي أن يكون إلا والستور دونه مرخاة والأبواب دونه مغلقة، القه الليلة إن شئت وأنا معك، فَقَالَ لي: فانى فاعل

(5/574)


إذا صلينا العتمة أتيناه، واتعدنا الحجر.
قَالَ: فنهضت من عنده، فخرجت ثُمَّ رجعت إِلَى ابن الزُّبَيْر، فأخبرته بِمَا كَانَ من قولي وقوله، فسر بِذَلِكَ، فلما صلينا العتمة، التقينا بالحجر، ثُمَّ خرجنا حَتَّى أتينا منزل ابن الزُّبَيْر، فاستأذنا عَلَيْهِ، فأذن لنا، فقلت:
أخليكما؟ فقالا جميعا: لا سر دونك، فجلست، فإذا ابن الزُّبَيْر قَدْ أخذ بيده، فصافحه ورحب بِهِ، فسأله عن حاله وأهل بيته، وسكتا جميعا غير طويل.
فَقَالَ لَهُ المختار وأنا أسمع بعد أن تبدأ فِي أول منطقه، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنه لا خير فِي الإكثار من المنطق، وَلا فِي التقصير عن الحاجة، إني قَدْ جئتك لأبايعك على أَلا تقضي الأمور دوني، وعلى أن أكون فِي أول من تأذن لَهُ، وإذا ظهرت استعنت بي عَلَى أفضل عملك فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: أبايعك عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه ص، فَقَالَ: وشر غلماني أنت مبايعه عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا لي فِي هَذَا الأمر من الحظ مَا ليس لأقصى الخلق مِنْكَ، لا وَاللَّهِ لا أبايعك أبدا إلا عَلَى هَذِهِ الخصال.
قَالَ عباس بن سهل: فالتقمت أذن ابن الزُّبَيْر، فقلت لَهُ: اشتر مِنْهُ دينه حَتَّى ترى من رأيك، فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: فإن لك مَا سألته، فبسط يده فبايعه، ومكث مَعَهُ حَتَّى شاهد الحصار الأول حين قدم الحصين بن نمير السكوني مكة، فقاتل فِي ذَلِكَ الْيَوْم، فكان من أحسن الناس يَوْمَئِذٍ بلاء، وأعظمهم غناء فلما قتل المنذر بن الزُّبَيْرِ والمسور بن مخرمة ومُصْعَب بن عبد الرحمن ابن عوف الزُّهْرِيّ، نادى المختار: يَا أهل الإِسْلام، الى الى! انا ابن ابى عبيد ابن مسعود، وأنا ابن الكرار لا الفرار، أنا ابن المقدمين غير المحجمين، إلي يَا أهل الحفاظ وحماة الأوتار فحمى الناس يَوْمَئِذٍ، وأبلى وقاتل قتالا حسنا

(5/575)


ثُمَّ أقام مع ابن الزُّبَيْر فِي ذَلِكَ الحصار حَتَّى كَانَ يوم أحرق البيت، فإنه أحرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، فقاتل المختار يومئذ في عصابه معه نحو من ثلاثمائة أحسن قتال قاتله أحد مِنَ النَّاسِ، إن كَانَ ليقاتل حَتَّى يتبلد، ثُمَّ يجلس ويحيط بِهِ أَصْحَابه، فإذا استراح نهض فقاتل، فما كَانَ يتوجه نحو طائفة من أهل الشام إلا ضاربهم حَتَّى يكشفهم.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو يُوسُف مُحَمَّد بن ثابط، عن عباس بن سَهْل بن سَعْدٍ، قَالَ: تولى قتال أهل الشام يوم تحريق الكعبة عَبْد اللَّهِ بن مطيع وأنا والمختار، قَالَ: فما كَانَ فينا يَوْمَئِذٍ رجل أحسن بلاء من المختار.
قَالَ: وقاتل قبل أن يطلع أهل الشام عَلَى موت يَزِيد بن مُعَاوِيَة بيوم قتالا شديدا، وَذَلِكَ يوم الأحد لخمس عشرة ليلة مضت من ربيع الآخر سنة أربع وستين، وَكَانَ أهل الشام قَدْ رجوا أن يظفروا بنا، وأخذوا علينا سكك مكة.
قَالَ: وخرج ابن الزُّبَيْر، فبايعه رجال كثير عَلَى الموت، قَالَ:
فخرجت فِي عصابة معي أقاتل فِي جانب، والمختار فِي عصابة أخرى يقاتل فِي جميعة من أهل اليمامة فِي جانب، وهم خوارج، وانما قاتلوا ليدفعوا عن البيت، فهم فِي جانب، وعبد اللَّه بن المطيع فِي جانب.
قَالَ: فشد أهل الشام علي، فحازوني فِي أَصْحَابي حَتَّى اجتمعت أنا والمختار وأَصْحَابه فِي مكان واحد، فلم أكن أصنع شَيْئًا إلا صنع مثله، وَلا يصنع شَيْئًا إلا تكلفت أن أصنع مثله، فما رأيت أشد مِنْهُ قط، قَالَ: فإنا لنقاتل إذ شدت علينا رجال وخيل من خيل أهل الشام، فاضطروني وإياه فِي نحو من سبعين رجلا من أهل الصبر إِلَى جانب دار من دور أهل مكة، فقاتلهم المختار يومئذ، وأخذ يقول رجل لرجل:
لا وألت نفس امرئ يفر.
قَالَ: فخرج المختار، وخرجت مَعَهُ، فقلت: ليخرج مِنْكُمْ إلي رجل

(5/576)


فخرج إلي رجل وإليه رجل آخر، فمشيت إِلَى صاحبي فأقتله، ومشى المختار إِلَى صاحبه فقتله، ثم صحنا باصحابنا، وشددنا عليهم، فو الله لضربناهم حَتَّى أخرجناهم من السكك كلها، ثُمَّ رجعنا إِلَى صاحبينا اللذين قتلنا قَالَ:
فإذا الَّذِي قتلت رجل أحمر شديد الحمرة كأنه رومي، وإذا الَّذِي قتل المختار رجل أسود شديد السواد، فَقَالَ لي المختار: تعلم وَاللَّهِ أني لأظن قتيلينا هَذَيْنِ عبدين، ولو أن هَذَيْنِ قتلانا لفجع بنا عشائرنا ومن يرجونا، وما هَذَانِ وكلبان من الكلاب عندي إلا سواء، وَلا أخرج بعد يومي هَذَا لرجل أبدا إلا لرجل أعرفه، فقلت لَهُ: وأنا وَاللَّهِ لا أخرج إلا لرجل أعرفه.
وأقام المختار مع ابن الزُّبَيْر حَتَّى هلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وانقضى الحصار، ورجع أهل الشام إِلَى الشام، واصطلح أهل الْكُوفَة عَلَى عَامِر بن مسعود، بعد ما هلك يَزِيد يصلي بهم حَتَّى يجتمع الناس عَلَى إمام يرضونه، فلم يلبث عَامِر إلا شهرا حَتَّى بعث ببيعته وبيعة أهل الْكُوفَة إِلَى ابن الزُّبَيْر، وأقام المختار مع ابن الزُّبَيْر خمسة أشهر بعد مهلك يَزِيد وأياما.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، قَالَ: وَاللَّهِ إني لمع عَبْد اللَّهِ بن الزبير ومعه عبد الله ابن صفوان بن أُمَيَّة بن خلف، ونحن نطوف بالبيت، إذ نظر ابن الزُّبَيْر فإذا هُوَ بالمختار، فقال لابن صفوان: انظر اليه، فو الله لهو أحذر من ذئب قَدْ أطافت بِهِ السباع، قَالَ: فمضى ومضينا مَعَهُ، فلما قضينا طوافنا وصلينا الركعتين بعد الطواف لحقنا المختار، فَقَالَ لابن صفوان: مَا الَّذِي ذكرني بِهِ ابن الزُّبَيْر؟ قَالَ: فكتمه، وَقَالَ: لم يذكرك إلا بخير، قَالَ: بلى ورب هَذِهِ البنية إن كنت لمن شأنكما، أما وَاللَّهِ ليخطن فِي أثري أو لأقدنها عَلَيْهِ سعرا فأقام مَعَهُ خمسة أشهر، فلما رآه لا يستعمله جعل لا يقدم عَلَيْهِ أحد من الْكُوفَة إلا سأله عن حال الناس وهيئتهم.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عطية بن الْحَارِث أَبُو روق الهمدانى، ان هانئ ابن أبي حية الوادعي قدم مكة يريد عمرة رمضان، فسأله المختار عن حاله

(5/577)


وحال الناس بالكوفة وهيئتهم، فأخبره عَنْهُمْ بصلاح واتساق عَلَى طاعة ابن الزُّبَيْر، إلا أن طائفة مِنَ النَّاسِ إِلَيْهِم عدد أهل المصر لو كَانَ لَهُمْ رجل يجمعهم عَلَى رأيهم أكل بهم الأرض إِلَى يوم مَا، فَقَالَ لَهُ المختار: أنا أَبُو إِسْحَاق أنا وَاللَّهِ لَهُمْ! أنا أجمعهم عَلَى مر الحق، وأنفي بهم ركبان الباطل، وأقتل بهم كل جبار عنيد، فَقَالَ لَهُ هانئ بن أبي حية: ويحك يا بن أبي عبيد! إن استطعت أَلا توضع فِي الضلال ليكن صاحبهم غيرك، فإن صاحب الْفِتْنَة أقرب شَيْء أجلا، وأسوأ الناس عملا، فَقَالَ لَهُ المختار: إني لا أدعو إِلَى الْفِتْنَة إنما أدعو إِلَى الهدى والجماعة، ثُمَّ وثب فخرج وركب رواحله، فأقبل نحو الْكُوفَة حَتَّى إذا كَانَ بالقرعاء لقيه سلمة بن مرثد أخو بنت مرثد القابضي من همدان- وَكَانَ من أشجع العرب، وَكَانَ ناسكا- فلما التقيا تصافحا وتساءلا، فخبره المختار، ثُمَّ قَالَ لسلمة بن مرثد: حَدَّثَنِي عن الناس بالكوفة، قَالَ: هم كغنم ضل راعيها، فَقَالَ المختار بن أبي عبيد: أنا الَّذِي أحسن رعايتها، وأبلغ نهايتها، فَقَالَ لَهُ سلمة: اتق اللَّه واعلم أنك ميت ومبعوث، ومحاسب ومجزي بعملك إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ثُمَّ افترقا وأقبل المختار حَتَّى انتهى إِلَى بحر الحيرة يوم الجمعة، فنزل فاغتسل فِيهِ، وادهن دهنا يسيرا، ولبس ثيابه واعتم، وتقلد سيفه، ثُمَّ ركب راحلته فمر بمسجد السكون وجبانة كندة، لا يمر بمجلس إلا سلم عَلَى أهله، وَقَالَ: أبشروا بالنصر والفلج، أتاكم مَا تحبون، وأقبل حَتَّى مر بمسجد بني ذهل وبني حجر، فلم يجد ثَمَّ أحدا، ووجد الناس قَدْ راحوا إِلَى الجمعة، فأقبل حَتَّى مر ببني بداء، فوجد عبيدة بن عَمْرو البدى من كنده، فسلم عليه، ثُمَّ قَالَ: أبشر بالنصر واليسر والفلج، إنك أبا عَمْرو عَلَى رأي حسن، لن يدع اللَّه لك مَعَهُ مأثما إلا غفره، وَلا ذنبا إلا ستره- قَالَ: وَكَانَ عبيدة من أشجع الناس وأشعرهم، وأشدهم حبا لعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ لا يصبر عن الشراب- فلما قَالَ لَهُ المختار هَذَا القول قَالَ لَهُ عبيدة: بشرك اللَّه بخير

(5/578)


إنك قَدْ بشرتنا، فهل أنت مفسر لنا؟ قَالَ: نعم، فالقني فِي الرحل الليلة ثُمَّ مضى.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج، عن عبيدة بن عَمْرو قَالَ: قَالَ لي المختار هَذِهِ المقالة، ثُمَّ قَالَ لي: القني فِي الرحل، وبلغ أهل مسجدكم هَذَا عنى أَنَّهُمْ قوم أخذ اللَّه ميثاقهم عَلَى طاعته، يقتلون المحلين، ويطلبون بدماء أولاد النبيين، ويهديهم للنور المبين، ثُمَّ مضى فَقَالَ لي:
كيف الطريق إِلَى بني هند؟ فقلت لَهُ: أنظرني أدلك، فدعوت بفرسي وَقَدْ أسرج لي فركبته، قَالَ: ومضيت مَعَهُ إِلَى بني هند، فَقَالَ: دلتنى عَلَى منزل إِسْمَاعِيل بن كثير قَالَ: فمضيت بِهِ إِلَى منزله، فاستخرجته، فحياه ورحب بِهِ، وصافحه وبشره، وَقَالَ لَهُ: القني أنت وأخوك الليلة وأبو عَمْرو فإني قَدْ أتيتكم بكل مَا تحبون، قَالَ: ثُمَّ مضى ومضينا مَعَهُ حَتَّى مر بمسجد جهينة الباطنة، ثُمَّ مضى إِلَى باب الفيل، فأناخ راحلته، ثُمَّ دخل المسجد واستشرف لَهُ الناس، وَقَالُوا: هَذَا المختار قَدْ قدم، فقام المختار إِلَى جنب سارية من سواري المسجد، فصلى عندها حَتَّى أقيمت الصَّلاة، فصلى مع الناس ثُمَّ ركد إِلَى سارية أخرى فصلى مَا بين الجمعة والعصر، فلما صلى العصر مع الناس انصرف.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيدٍ، عن عَامِر الشَّعْبِيّ، أن المختار مر عَلَى حلقة همدان وعليه ثياب السفر، فَقَالَ: أبشروا، فإني قَدْ قدمت عَلَيْكُمْ بِمَا يسركم، ومضى حَتَّى نزل داره، وَهِيَ الدار الَّتِي تدعى دار سلم ابن المسيب، وكانت الشيعة تختلف إِلَيْهَا وإليه فِيهَا.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج، عن عبيد بْنِ عَمْرو، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ مِنْ بَنِي هند، قَالا: أتيناه من الليل كما وعدنا، فلما دخلنا عَلَيْهِ وجلسنا ساءلنا عن أمر الناس وعن حال الشيعة، فقلنا لَهُ: إن الشيعة قَدِ اجتمعت لسُلَيْمَان بن صرد الخزاعي، وإنه لن يلبث إلا يسيرا حَتَّى يخرج، قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وصلى عَلَى النبي ص ثم قال:

(5/579)


أَمَّا بَعْدُ، فإن المهدي ابن الوصي، مُحَمَّد بن علي، بعثني إليكم أمينا ووزيرا ومنتخبا وأميرا، وأمرني بقتال الملحدين، والطلب بدماء أهل بيته والدفع عن الضعفاء.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ فضيل بن خديج: فَحَدَّثَنِي عبيدة بن عَمْرو وإسماعيل بن كثير، أنهما كانا أول خلق اللَّه إجابة وضربا عَلَى يده، وبايعاه.
قَالَ: وأقبل المختار يبعث إِلَى الشيعة وَقَدِ اجتمعت عِنْدَ سُلَيْمَان بن صرد، فيقول لَهُمْ: إني قَدْ جئتكم من قبل ولي الأمر، ومعدن الفضل، ووصي الوصي والإمام المهدي، بأمر فِيهِ الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام النعماء، أن سُلَيْمَان بن صرد يرحمنا اللَّه وإياه إنما هُوَ عشمة من العشم وحفش بال، ليس بذي تجربة للأمور، وَلا لَهُ علم بالحروب، إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم إني إنما أعمل عَلَى مثال قَدْ مثل لي، وأمر قَدْ بين لي، فِيهِ عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني قولي، وأطيعوا أمري، ثُمَّ أبشروا وتباشروا، فإني لكم بكل مَا تأملون خير زعيم.
قال: فو الله مَا زال بهذا القول ونحوه حَتَّى استمال طائفة من الشيعة، وكانوا يختلفون إِلَيْهِ ويعظمونه، وينظرون أمره، وعظم الشيعة يَوْمَئِذٍ ورؤساؤهم مع سُلَيْمَان بن صرد، وَهُوَ شيخ الشيعة وأسنهم، فليس يعدلون بِهِ أحدا، إلا أن المختار قَدِ استمال مِنْهُمْ طائفة ليسوا بالكثير، فسُلَيْمَان بن صرد أثقل خلق اللَّه عَلَى المختار، وَقَدِ اجتمع لابن صرد يَوْمَئِذٍ أمره، وَهُوَ يريد الخروج والمختار لا يريد أن يتحرك، وَلا أن يهيج أمرا حَتَّى ينظر إِلَى مَا يصير إِلَيْهِ أمر سُلَيْمَان، رجاء أن يستجمع لَهُ أمر الشيعة، فيكون أقوى لَهُ عَلَى درك مَا يطلب، فلما خرج سُلَيْمَان بن صرد ومضى نحو الجزيرة قَالَ عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص وشبث بن ربعي ويزيد بن الْحَارِث بن رويم لعبد الله ابن يَزِيدَ الخطمي وإبراهيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ: إن المختار أشد

(5/580)


عَلَيْكُمْ من سُلَيْمَان بن صرد، إن سُلَيْمَان إنما خرج يقاتل عدوكم، ويذللهم لكم، وَقَدْ خرج عن بلادكم، وإن المختار إنما يريد أن يثب عَلَيْكُمْ فِي مصركم، فسيروا إِلَيْهِ فأوثقوه فِي الحديد، وخلدوه فِي السجن حَتَّى يستقيم أمر الناس، فخرجوا إِلَيْهِ فِي الناس، فما شعر بشيء حَتَّى أحاطوا بِهِ وبداره فاستخرجوه، فلما رَأَى جماعتهم قَالَ: مَا بالكم! فو الله بعد مَا ظفرت أكفكم! قَالَ:
فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ لعبد اللَّه بن يَزِيدَ: شده كتافا، ومشه حافيا، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ: سبحان اللَّه! مَا كنت لأمشيه وَلا لأحفيه وَلا كنت لأفعل هَذَا برجل لم يظهر لنا عداوة وَلا حربا، وإنما أخذناه عَلَى الظن فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد: ليس بعشك فادرجي، مَا أنت وما يبلغنا عنك يا بن أبي عبيد! فَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي بلغك عني إلا باطل، وأعوذ بِاللَّهِ من غش كغش ابيك وجدك! قال: قال فضيل: فو الله إني لأنظر إِلَيْهِ حين أخرج وأسمع هَذَا القول حين قَالَ لَهُ، غير أني لا أدري أسمعه مِنْهُ إِبْرَاهِيم أم لم يسمعه، فسكت حين تكلم بِهِ، قَالَ: وأتى المختار ببغلة دهماء يركبها، فَقَالَ إِبْرَاهِيم لعبد اللَّه بن يَزِيدَ: أَلا تشد عَلَيْهِ القيود؟ فَقَالَ: كفى لَهُ بالسجن قيدا.
قَالَ أَبُو مخنف: وأما يَحْيَى بن أبي عِيسَى فَحَدَّثَنِي أنه قَالَ: دخلت إِلَيْهِ مع حميد بن مسلم الأَزْدِيّ نزوره ونتعاهده، فرأيته مقيدا، قَالَ: فسمعته يقول: أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامه والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن خطار، ومهند بتار، فِي جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار، وَلا بعزل أشرار، حَتَّى إذا أقمت عمود الدين، ورأبت شعب صدع الْمُسْلِمِينَ، وشفيت

(5/581)


غليل صدور الْمُؤْمِنِينَ، وأدركت بثأر النبيين، ولم يكبر علي زوال الدُّنْيَا ولم أحفل بالموت إذا أتى.
قَالَ: فكان إذا أتيناه وَهُوَ فِي السجن ردد علينا هَذَا القول حَتَّى خرج مِنْهُ، قَالَ: وَكَانَ يتشجع لأَصْحَابه بعد ما خرج ابن صرد.

ذكر الخبر عن هدم ابن الزبير الكعبه
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي هَذِهِ السنة هدم ابن الزُّبَيْر الكعبة، وكانت قَدْ مال حيطانها مما رميت بِهِ من حجارة المجانيق، فذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ الْوَاقِدِيّ أن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى حدثه عَنْ عِكْرِمَةَ بن خَالِدٍ، قَالَ: هدم ابن الزُّبَيْر البيت حَتَّى سواه بالأرض، وحفر أساسه وأدخل الحجر فِيهِ، وَكَانَ الناس يطوفون من وراء الأساس، ويصلون إِلَى موضعه، وجعل الركن الأسود عنده فِي تابوت فِي سرقة من حرير، وجعل مَا كَانَ من حلي البيت وما وجد فِيهِ من ثياب أو طيب عِنْدَ الحجبة فِي خزانة البيت، حَتَّى أعادها لما أعاد بناءه.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي معقل بن عَبْدِ اللَّهِ، عن عطاء، قَالَ: رأيت ابن الزُّبَيْر هدم البيت كله حَتَّى وضعه بالأرض.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ.
وَكَانَ عامله عَلَى الْمَدِينَة فِيهَا أخوه عبيدة بن الزبير، وعلى الكوفه عبد الله ابن يَزِيدَ الخطمي، وعلى قضائها سَعِيد بن نمران.
وأبى شريح أن يقضي فِيهَا، وَقَالَ فِيمَا ذكر عنه: أنا لا أقضي فِي الْفِتْنَة.
وعلى الْبَصْرَة عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر التيمي، وعلى قضائها هِشَام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله ابن خازم

(5/582)


سنة خمس وستين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) فمن ذَلِكَ مَا كَانَ من أمر التوابين وشخوصهم للطلب بدم الْحُسَيْن بن علي إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو يُوسُف، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف الأحمري، قَالَ: بعث سُلَيْمَان بن صرد إِلَى وجوه أَصْحَابه حين أراد الشخوص وَذَلِكَ فِي سنة خمس وستين، فأتوه، فلما استهل الهلال هلال شهر ربيع الآخر، خرج فِي وجوه أَصْحَابه، وَقَدْ كَانَ واعد أَصْحَابه عامة للخروج في تلك الليلة للمعسكر بالنخيلة فخرج حَتَّى أتى عسكره، فدار فِي الناس ووجوه أَصْحَابه، فلم يعجبه عدة الناس، فبعث حكيم بن منقذ الكندي في خيل، وبعث الوليد بن غصين الكناني فِي خيل، وَقَالَ: اذهبا حَتَّى تدخلا الْكُوفَة فناديا: يَا لثأرات الْحُسَيْن! وابلغا المسجد الأعظم فناديا بِذَلِكَ، فخرجا، وكانا أول خلق اللَّه دعوا: يَا لثأرات الْحُسَيْن! قَالَ: فأقبل حكيم بن منقذ الكندي فِي خيل والوليد بن غصين فِي خيل، حَتَّى مرا ببني كثير، وأن رجلا من بني كثير من الأزد يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بن خازم مع امرأته سهلة بنت سبرة بن عَمْرو من بني كثير، وكانت من أجمل الناس وأحبهم إِلَيْهِ، سمع الصوت: يَا لثأرات الْحُسَيْن! وما هُوَ ممن كَانَ يأتيهم، وَلا استجاب لَهُمْ فوثب إِلَى ثيابه فلبسها، ودعا بسلاحه، وأمر بإسراج فرسه، فَقَالَتْ لَهُ امرأته: ويحك! أجننت! قَالَ: لا وَاللَّهِ، ولكني سمعت داعي اللَّه، فأنا مجيبه، أنا طالب بدم هَذَا الرجل حَتَّى أموت، أو يقضي اللَّه من أمري مَا هُوَ أحب إِلَيْهِ، فَقَالَتْ لَهُ: إِلَى من تدع بنيك هَذَا؟ قَالَ: إِلَى اللَّهِ وحده لا شريك لَهُ، اللَّهُمَّ إني أستودعك أهلي وولدى،

(5/583)


اللَّهُمَّ احفظني فِيهِمْ، وَكَانَ ابنه ذَلِكَ يدعى عزرة، فبقي حَتَّى قتل بعد مع مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ، وخرج حَتَّى لحق بهم، فقعدت امرأته تبكيه واجتمع إِلَيْهَا نساؤها، ومضى مع القوم، وطافت تِلَكَ الليلة الخيل بالكوفة، حَتَّى جاءوا المسجد بعد العتمة، وفيه ناس كثير يصلون، فنادوا: يَا لثارات الْحُسَيْن! وفيهم أَبُو عزة القابضي وكرب بن نمران يصلي، فَقَالَ:
يَا لثارات الْحُسَيْن! أين جماعة القوم؟ قيل: بالنخيلة، فخرج حَتَّى أتى أهله، فأخذ سلاحه، ودعا بفرسه ليركبه، فجاءته ابنته الرواع- وكانت تحت ثبيت بن مرثد القابضي، فَقَالَتْ: يَا أبت، مَا لي أراك قَدْ تقلدت سيفك، ولبست سلاحك! فَقَالَ لها: يَا بنية، إن أباك يفر من ذنبه إِلَى ربه، فأخذت تنتحب وتبكي، وجاءه أصهاره وبنو عمه، فودعهم، ثُمَّ خرج فلحق بالقوم، قَالَ: فلم يصبح سُلَيْمَان بن صرد حَتَّى أتاه نحو ممن كَانَ فِي عسكره حين دخله، قَالَ: ثُمَّ دعا بديوانه لينظر فِيهِ إِلَى عدة من بايعه حين أصبح، فوجدهم ستة عشر ألفا، فَقَالَ: سبحان اللَّه! مَا وافانا إلا أربعة آلاف من ستة عشر ألفا.
قَالَ أَبُو مخنف: عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ الْحَارِث، عن حميد بن مسلم، قَالَ: قلت لسُلَيْمَان بن صرد: إن المختار وَاللَّهِ يثبط الناس عنك، إني كنت عنده أول ثلاث، فسمعت نفرا من أَصْحَابه يقولون: قَدْ كملنا ألفي رجل، فَقَالَ:
وهب أن ذَلِكَ كَانَ، فأقام عنا عشرة آلاف، أما هَؤُلاءِ بمؤمنين! أما يخافون اللَّه! أما يذكرون اللَّه، وما أعطونا من أنفسهم من العهود والمواثيق ليجاهدن ولينصرن! فأقام بالنخيلة ثلاثا يبعث ثقاته من أَصْحَابه إِلَى من تخلف عنه يذكرهم اللَّه وما أعطوه من أنفسهم، فخرج إِلَيْهِ نحو من ألف رجل، فقام المسيب بن نجبة إِلَى سُلَيْمَان بن صرد، فَقَالَ: رحمك

(5/584)


اللَّه، إنه لا ينفعك الكاره، وَلا يقاتل معك الا من اخرجته النيه، فلا ننتظرن أحدا، واكمش فِي أمرك قَالَ: فإنك وَاللَّهِ لنعما رأيت! فقام سُلَيْمَان بن صرد فِي الناس متوكئا عَلَى قوس لَهُ عربية فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، من كَانَ إنما أخرجته إرادة وجه اللَّه وثواب الآخرة فذلك منا ونحن مِنْهُ، فرحمة اللَّه عَلَيْهِ حيا وميتا، ومن كان انما يريد الدنيا وحرثها فو الله مَا نأتي فيئا نستفيئه، وَلا غنيمة نغنمها، مَا خلا رضوان اللَّه رب العالمين، وما معنا من ذهب وَلا فضة، وَلا خز وَلا حرير وما هي إلا سيوفنا فِي عواتقنا، ورماحنا فِي أكفنا، وزاد قدر البلغة إِلَى لقاء عدونا، فمن كَانَ غير هَذَا ينوي فلا يصحبنا.
فقام صخير بن حُذَيْفَة بن هلال بن مالك المزني، فَقَالَ: آتاك اللَّه رشدك، ولقاك حجتك، وَاللَّهِ الَّذِي لا إله غيره ما لنا خير فِي صحبة من الدُّنْيَا همته ونيته أَيُّهَا النَّاسُ، إنما أخرجتنا التوبة من ذنبنا، والطلب بدم من نبينا، ص ليس معنا دينار وَلا درهم، إنما نقدم عَلَى حد السيوف وأطراف الرماح، فتنادى الناس من كل جانب: إنا لا نطلب الدُّنْيَا، وليس لها خرجنا.
قَالَ أَبُو مخنف: عن إِسْمَاعِيل بن يَزِيدَ الأَزْدِيّ، عن السري بن كعب الأَزْدِيّ، قَالَ: أتينا صاحبنا عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل نودعه، قَالَ: فقام فقمنا مَعَهُ، فدخل عَلَى سُلَيْمَان ودخلنا مَعَهُ، وَقَدْ أجمع سُلَيْمَان بالمسير، فأشار عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل أن يسير إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ هُوَ ورءوس أَصْحَابه: الرأي مَا أشار بِهِ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل أن نسير إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد قاتل صاحبنا، ومن قبله أتينا، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ وعنده رءوس أَصْحَابه جلوس حوله: إني قَدْ رأيت رأيا إن يكن صوابا فالله

(5/585)


وفق، وأن يكن ليس بصواب فمن قبلي، فإني مَا آلوكم ونفسي نصحا، خطأ كَانَ أم صوابا، إنما خرجنا نطلب بدم الْحُسَيْن، وقتلة الْحُسَيْن كلهم بالكوفة، مِنْهُمْ عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص، ورءوس الأرباع وأشراف القبائل، فانى نذهب هاهنا وندع الأقتال والأوتار! فَقَالَ سُلَيْمَان بن صرد:
فماذا ترون؟ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لقد جَاءَ برأي، وان ما ذكر لكما ذكر، والله مَا نلقى من قتلة الْحُسَيْن إن نحن مضينا نحو الشام غير ابن زياد، وما طلبتنا الا هاهنا بالمصر، فَقَالَ سُلَيْمَان بن صرد: لكن أنا مَا أَرَى ذَلِكَ لكم، إن الَّذِي قتل صاحبكم، وعبا الجنود إِلَيْهِ، وَقَالَ: لا أمان لَهُ عندي دون أن يستسلم فأمضي فِيهِ حكمي هَذَا الفاسق ابن الفاسق ابن مرجانة، عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فسيروا إِلَى عدوكم عَلَى اسم اللَّه، فإن يظهركم اللَّه عَلَيْهِ رجونا أن يكون من بعده أهون شوكة مِنْهُ، ورجونا أن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم فِي عافية، فتنظرون إِلَى كل من شرك فِي دم الْحُسَيْن فتقاتلونه وَلا تغشموا، وإن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلين، وما عِنْدَ اللَّه خير للأبرار والصديقين، إني لأحب أن تجعلوا حدكم وشوكتكم بأول المحلين القاسطين وَاللَّهِ لو قاتلتم غدا أهل مصركم مَا عدم رجل أن يرى رجلا قَدْ قتل أخاه وأباه وحميمه، أو رجلا لَمْ يَكُنْ يريد قتله، فاستخيروا اللَّه وسيروا فتهيأ الناس للشخوص قَالَ: وبلغ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة خروج ابن صرد وأَصْحَابه، فنظرا فِي أمرهما، فرأيا أن يأتياهم فيعرضا عَلَيْهِم الإقامة، وأن تكون أيديهم واحدة، فإن أبوا إلا الشخوص سألوهم النظرة حَتَّى يعبوا معهم جيشا فيقاتلوا عدوهم بكشف وحد، فبعث عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة سويد بن عَبْدِ الرحمن الى سليمان ابن صرد، فَقَالَ لَهُ: إن عَبْد اللَّهِ وإبراهيم يقولان: إنا نريد أن نجيئك

(5/586)


الآن لأمر عسى اللَّه أن يجعل لنا ولك فِيهِ صلاحا، فَقَالَ: قل لهما فليأتيانا، وَقَالَ سُلَيْمَان لرفاعة بن شداد البجلي: قم أنت فأحسن تعبئة الناس، فإن هَذَيْنِ الرجلين قَدْ بعثا بكيت وكيت، فدعا رءوس أَصْحَابه فجلسوا حوله فلم يمكثوا إلا ساعة حَتَّى جَاءَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ فِي أشراف أهل الْكُوفَة والشرط وكثير من المقاتلة، وإبراهيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة فِي جماعة من أَصْحَابه، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ لكل رجل معروف قَدْ علم أنه قَدْ شرك فِي دم الْحُسَيْن:
لا تصحبني إِلَيْهِم مخافة أن ينظروا إِلَيْهِ فيعدوا عَلَيْهِ، وَكَانَ عُمَر بن سَعْد تِلَكَ الأيام الَّتِي كَانَ سُلَيْمَان معسكرا فِيهَا بالنخيلة لا يبيت إلا فِي قصر الإمارة مع عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ مخافة أن يأتيه القوم فِي داره، ويذمروا عليه في بيته وهو فاعل لا يعلم فيقتل وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ: يَا عَمْرو بن حريث، إن أنا أبطأت عنك فصل بِالنَّاسِ الظهر.
فلما انتهى عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد إِلَى سُلَيْمَان بن صرد دخلا عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن المسلم أخو المسلم لا يخونه، وَلا يغشه، وَأَنْتُمْ إخواننا، وأهل بلدنا، وأحب أهل مصر خلقه اللَّه إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم، وَلا تستبدوا علينا برأيكم، وَلا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا، أقيموا معنا حَتَّى نتيسر ونتهيأ، فإذا علمنا أن عدونا قَدْ شارف بلدنا خرجنا إِلَيْهِم بجماعتنا فقاتلناهم وتكلم إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بنحو من هَذَا الكلام قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ سُلَيْمَان بن صرد وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لهما: إني قَدْ علمت أنكما قَدْ محضتما فِي النصيحة، واجتهدتما فِي المشورة، فنحن بِاللَّهِ وله، وَقَدْ خرجنا لأمر، ونحن نسأل اللَّه العزيمة عَلَى الرشد والتسديد لأصوبه، وَلا نرانا إلا شاخصين إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ.
فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ: فأقيموا حَتَّى نعبئ معكم جيشا كثيفا، فتلقوا عدوكم بكثف وجمع وحد فقال سُلَيْمَان: تنصرفون، ونرى فِيمَا بيننا، وسيأتيكم إِنْ شَاءَ اللَّهُ رأي

(5/587)


قَالَ أَبُو مخنف: عن عبد الجبار- يعني ابن عباس الهمدانى- عن عون ابن أبي جحيفة السوائي، قَالَ: ثُمَّ إن عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد ابن طَلْحَة عرضا عَلَى سُلَيْمَان أن يقيم مَعَهُمَا حَتَّى يلقوا جموع أهل الشام عَلَى أن يخصاه وأَصْحَابه بخراج جوخى خاصة لَهُمْ دون الناس، فَقَالَ لهما سُلَيْمَان: إنا ليس للدنيا خرجنا، وإنما فعلا ذَلِكَ لما قَدْ كَانَ بلغهما من إقبال عُبَيْد اللَّهِ بن زياد نحو العراق وانصرف إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد وعبد اللَّه بن يَزِيدَ إِلَى الْكُوفَةِ، وأجمع القوم عَلَى الشخوص واستقبال ابن زياد، ونظروا فإذا شيعتهم من أهل الْبَصْرَة لم يوافوهم لميعادهم وَلا أهل المدائن، فأقبل ناس من أَصْحَابه يلزمونهم، فقال سليمان: لا تلزموهم فإني لا أراهم إلا سيسرعون إليكم، لو قَدِ انتهى إِلَيْهِم خبركم وحين مسيركم، وَلا أراهم خلفهم وَلا أقعدهم إلا قلة النفقة وسوء العدة، فأقيموا ليتيسروا ويتجهزوا ويلحقوا بكم وبهم قوة، وما أسرع القوم فِي آثاركم قَالَ: ثُمَّ إن سُلَيْمَان بن صرد قام فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّه قَدْ علم مَا تنوون، وما خرجتم تطلبون، وإن للدنيا تجارا، وللآخرة تجارا، فأما تاجر الآخرة فساع إِلَيْهَا، متنصب بتطلابها، لا يشتري بِهَا ثمنا، لا يرى إلا قائما وقاعدا، وراكعا وساجدا، لا يطلب ذهبا وَلا فضة، وَلا دنيا وَلا لذة، وأما تاجر الدُّنْيَا فمكب عَلَيْهَا، راتع فِيهَا، لا يبتغي بِهَا بدلا، فعَلَيْكُمْ يرحمكم اللَّه فِي وجهكم هَذَا بطول الصَّلاة فِي جوف الليل، وبذكر اللَّه كثيرا عَلَى كل حال، وتقربوا إِلَى اللَّهِ جل ذكره بكل خير قدرتم عَلَيْهِ، حتى تلقوا هذا العدو والمحل القاسط فتجاهدوه، فان تتوسلوا إِلَى ربكم بشيء هُوَ أعظم عنده ثوابا من الجهاد والصلاة، فإن الجهاد سنام العمل جعلنا اللَّه وإياكم من العباد الصالحين، المجاهدين الصابرين عَلَى اللأواء! وإنا مدلجون الليلة من منزلنا هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فادلجوا.
فادلج عشية الجمعة لخمس مضين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين للهجرة

(5/588)


قَالَ: فلما خرج سُلَيْمَان وأَصْحَابه من النخيلة دعا سليمان بن صرد حكيم ابن منقذ فنادى فِي الناس: أَلا لا يبيتن رجل مِنْكُمْ دون دير الأعور.
فبات الناس بدير الأعور، وتخلف عنه ناس كثير، ثُمَّ سار حَتَّى نزل الأقساس، أقساس مالك عَلَى شاطئ الفرات، فعرض الناس، فسقط مِنْهُمْ نحو من ألف رجل، فَقَالَ ابن صرد: مَا أحب أن من تخلف عنكم معكم، ولو خرجوا معكم مَا زادوكم إلا خبالا، إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كره انبعاثهم فثبطهم، وخصكم بفضل ذَلِكَ، فاحمدوا ربكم ثُمَّ خرج من منزله ذلك دلجه، فصبحوا قبر الْحُسَيْن، فأقاموا بِهِ ليلة ويوما يصلون عَلَيْهِ، ويستغفرون لَهُ، قَالَ: فلما انتهى الناس إِلَى قبر الْحُسَيْن صاحوا صيحة واحدة، وبكوا، فما رئي يوم كَانَ أكثر باكيا مِنْهُ.
قَالَ أَبُو مخنف: وَقَدْ حدث عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الرحمن ابن غزية، قَالَ: لما انتهينا إِلَى قبر الْحُسَيْن ع بكى الناس بأجمعهم، وسمعت جل الناس يتمنون أَنَّهُمْ كَانُوا أصيبوا مَعَهُ، فَقَالَ سُلَيْمَان: اللَّهُمَّ ارحم حسينا الشهيد ابن الشهيد، المهدي ابن المهدي، الصديق ابن الصديق، اللَّهُمَّ إنا نشهدك أنا عَلَى دينهم وسبيلهم، وأعداء قاتليهم، وأولياء محبيهم ثم انصرف ونزل، ونزل أَصْحَابه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنَا الأعمش، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة بن كهيل، عن أبي صادق، قَالَ: لما انتهى سُلَيْمَان بن صرد وأَصْحَابه إِلَى قبر الْحُسَيْن نادوا صيحة واحدة: يَا رب إنا قَدْ خذلنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا مَا مضى منا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وارحم حسينا وأَصْحَابه الشهداء الصديقين، وإنا نشهدك يَا رب أنا عَلَى مثل مَا قتلوا عَلَيْهِ، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، قَالَ: فأقاموا عنده يَوْمًا وليلة يصلون عَلَيْهِ ويبكون ويتضرعون، فما انفك الناس من يومهم ذَلِكَ يترحمون عَلَيْهِ وعلى

(5/589)


أَصْحَابه، حَتَّى صلوا الغداة من الغد عِنْدَ قبره، وزادهم ذَلِكَ حنقا ثُمَّ ركبوا، فأمر سُلَيْمَان الناس بالمسير، فجعل الرجل لا يمضي حَتَّى يأتي قبر الْحُسَيْن فيقوم عَلَيْهِ، فيترحم عليه، ويستغفر له، قال: فو الله لرأيتهم ازدحموا عَلَى قبره أكثر من ازدحام الناس عَلَى الحجر الأسود قَالَ: ووقف سُلَيْمَان عِنْدَ قبره، فكلما دعا لَهُ قوم وترحموا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمُ المسيب بن نجبة وسُلَيْمَان بن صرد: الحقوا بإخوانكم رحمكم اللَّه! فما زال كذلك حَتَّى بقي نحو من ثَلاثِينَ من أَصْحَابه، فأحاط سُلَيْمَان بالقبر هُوَ وأَصْحَابه، فَقَالَ سُلَيْمَان: الحمد لِلَّهِ الَّذِي لو شاء أكرمنا بالشهادة مع الْحُسَيْن، اللَّهُمَّ إذ حرمتناها مَعَهُ فلا تحرمناها فِيهِ بعده وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن وال: أما وَاللَّهِ إني لأظن حسينا وأباه وأخاه افضل أمه محمد ص وسيلة عِنْدَ اللَّه يوم الْقِيَامَة، أفما عجبتم لما ابتليت بِهِ هَذِهِ الأمة مِنْهُمْ! إِنَّهُمْ قتلوا اثنين، وأشفوا بالثالث عَلَى القتل، قَالَ: يقول المسيب بن نجبة: فأنا من قتلتهم ومن كَانَ عَلَى رأيهم بريء، إياهم أعادي وأقاتل قَالَ: فأحسن الرءوس كلهم المنطق، وَكَانَ المثنى بن مخربه صاحب أحد الرءوس والأشراف، فساءني حَيْثُ لم أسمعه تكلم مع القوم بنحو مَا تكلموا به، قال: فو الله مَا لبث إن تكلم بكلمات مَا كن بدون كلام أحد من القوم، فَقَالَ: إن الله جعل هؤلاء الذين ذكرتم بمكانهم من نبيهم ص أفضل ممن هُوَ دون نبيهم، وَقَدْ قتلهم قوم نحن لَهُمْ أعداء، ومنهم برآء، وَقَدْ خرجنا من الديار والأهلين والأموال إرادة استئصال من قتلهم، فو الله لو أن القتال فِيهِمْ بمغرب الشمس أو بمنقطع التراب يحق علينا طلبه حَتَّى نناله، فإن ذَلِكَ هُوَ الغنم، وَهِيَ الشهادة الَّتِي ثوابها الجنة، فقلنا لَهُ: صدقت وأصبت ووفقت.
قَالَ: ثُمَّ إن سُلَيْمَان بن صرد سار من موضع قبر الْحُسَيْن وسرنا مَعَهُ، فأخذنا عَلَى الحصاصة، ثُمَّ عَلَى الأنبار، ثُمَّ عَلَى الصدود، ثُمَّ عَلَى القيارة.
قَالَ أَبُو مخنف: عن الْحَارِث بن حصيرة وغيره: أن سُلَيْمَان بعث على

(5/590)


مقدمته كُرَيْب بن يَزِيدَ الحميري.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الحصين بن يَزِيدَ، عن السري بن كعب، قَالَ: خرجنا مع رجال الحي نشيعهم، فلما انتهينا إِلَى قبر الْحُسَيْن وانصرف سُلَيْمَان بن صرد وأَصْحَابه عن القبر، ولزموا الطريق، استقدمهم عبد الله ابن عوف بن الأحمر عَلَى فرس لَهُ مهلوب كميت مربوع، يتأكل تأكلا، وَهُوَ يرتجز ويقول:
خرجن يلمعن بنا أرسالا ... عوابسا يحملننا أبطالا
نريد أن نلقى بِهِ الأقتالا ... القاسطين الغدر الضلالا
وَقَدْ رفضنا الأهل والأموالا ... والخفرات البيض والحجالا
نرضي بِهِ ذا النعم المفضالا.
قَالَ أَبُو مخنف: عن سعد بن مجاهد الطَّائِيّ، عن المحل بن خليفة الطَّائِيّ، أن عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ كتب إِلَى سُلَيْمَان بن صرد، أحسبه قَالَ: بعثني بِهِ، فلحقته بالقيارة، واستقدم أَصْحَابه حَتَّى ظن أن قَدْ سبقهم، قَالَ:
فوقف وأشار إِلَى النَّاسِ، فوقفوا عَلَيْهِ، ثُمَّ أقرأهم كتابه، فإذا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عَبْد اللَّه بن يَزِيدَ إِلَى سُلَيْمَان بن صرد ومن مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سلام عَلَيْكُمْ، أَمَّا بَعْدُ فإن كتابي هَذَا إليكم كتاب ناصح ذي إرعاء، وكم من ناصح مستغش، وكم من غاش مستنصح محب، إنه بلغني أنكم تريدون المسير بالعدد اليسير إِلَى الجمع الكثير، وإنه من يرد أن ينقل الجبال عن مراتبها تكل معاوله، وينزع وَهُوَ مذموم العقل والفعل.
يَا قومنا لا تطمعوا عدوكم فِي أهل بلادكم، فإنكم خيار كلكم، ومتى مَا يصبكم عدوكم يعلموا أنكم أعلام مصركم، فيطمعهم ذَلِكَ فيمن وراءكم

(5/591)


يَا قومنا، «إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً» ، يَا قوم، إن أيدينا وأيديكم الْيَوْم واحدة، وإن عدونا وعدوكم واحد، ومتى تجتمع كلمتنا نظهر عَلَى عدونا، ومتى تختلف تهن شوكتنا عَلَى من خالفنا، يَا قومنا لا تستغشوا نصحي، وَلا تخالفوا أمري، وأقبلوا حين يقرأ عَلَيْكُمْ كتابي، أقبل اللَّه بكم إِلَى طاعته، وأدبر بكم عن معصيته، والسلام.
قَالَ: فلما قرئ الكتاب عَلَى ابن صرد وأَصْحَابه قَالَ لِلنَّاسِ: مَا ترون؟
قَالُوا: ماذا ترى؟ قَدْ أبينا هَذَا عَلَيْكُمْ وعليهم، ونحن فِي مصرنا وأهلنا، فالآن خرجنا ووطنا أنفسنا عَلَى الجهاد، ودنونا من أرض عدونا! مَا هَذَا برأي ثُمَّ نادوه أن أَخْبِرْنَا برأيك، قَالَ: رأيي وَاللَّهِ أنكم لم تكونوا قط أقرب من إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ مِنْكُمْ يومكم هَذَا، الشهادة والفتح، وَلا أَرَى أن تنصرفوا عما جمعكم اللَّه عَلَيْهِ من الحق، وأردتم بِهِ من الفضل، أنا وهؤلاء مختلفون، إن هَؤُلاءِ لو ظهروا دعونا إِلَى الجهاد مع ابن الزُّبَيْر، وَلا أَرَى الجهاد مع ابن الزُّبَيْر إلا ضلالا، وإنا إن نحن ظهرنا رددنا هَذَا الأمر إِلَى أهله، وإن أصبنا فعلى نياتنا، تائبين من ذنوبنا، إن لنا شكلا، وإن لابن الزُّبَيْر شكلا، إنا وإياهم كما قَالَ أخو بني كنانة:
أَرَى لَكَ شكلا غير شكلي فأقصري ... عن اللوم إذ بدلت واختلف الشكل
قَالَ: فانصرف الناس مَعَهُ حَتَّى نزل هيت، فكتب سُلَيْمَان:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ للأمير عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ، من سُلَيْمَان بن صرد ومن مَعَهُ من الْمُؤْمِنِينَ، سلام عَلَيْك، اما بعد، فقد قرأنا كتابك، وفهمنا ما نويت، فنعم وَاللَّهِ الوالي، ونعم الأمير، ونعم أخو العشيرة، أنت وَاللَّهِ من نأمنه بالغيب، ونستنصحه فِي المشورة، ونحمده عَلَى كل حال، إنا سمعنا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يقول فِي كتابه: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» - إِلَى قَوْلِهِ: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» إن القوم قَدِ استبشروا ببيعتهم

(5/592)


الَّتِي بايعوا، أَنَّهُمْ قَدْ تابوا من عظيم جرمهم، وَقَدْ توجهوا إِلَى اللَّهِ، وتوكلوا عَلَيْهِ ورضوا بِمَا قضى اللَّه، «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» ، والسلام عَلَيْك فلما أتاه هَذَا الكتاب قَالَ: استمات القوم، أول خبر يأتيكم عَنْهُمْ قتلهم، وايم اللَّه ليقتلن كراما مسلمين، وَلا والذي هُوَ ربهم لا يقتلهم عدوهم حَتَّى تشتد شوكتهم، وتكثر القتلى فِيمَا بينهم.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر، وعبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عبد الرَّحْمَن بن غزية، قَالا: خرجنا من هيت حَتَّى انتهينا إِلَى قرقيسيا، فلما دنونا منها وقف سُلَيْمَان بن صرد فعبانا تعبئة حسنة حَتَّى مررنا بجانب قرقيسيا، فنزلنا قريبا منها، وبها زفر بن الْحَارِث الكلابي قَدْ تحصن بِهَا من القوم، ولم يخرج إِلَيْهِم، فبعث سُلَيْمَان المسيب بن نجبة، فَقَالَ: ائت ابن عمك هَذَا فقل لَهُ: فليخرج إلينا سوقا، فإنا لسنا إِيَّاهُ نريد، إنما صمدنا لهؤلاء المحلين فخرج المسيب بن نجبة حَتَّى انتهى إِلَى باب قرقيسيا، فَقَالَ: افتحوا، ممن تحصنون؟ فَقَالُوا: من أنت؟
قَالَ: أنا المسيب بن نجبة، فأتى الهذيل بن زفر أباه فَقَالَ: هَذَا رجل حسن الهيئة، يستأذن عَلَيْك، وسألناه من هُوَ؟ فَقَالَ: المسيب بن نجبة- قَال:
وأنا إذ ذاك لا علم لي بِالنَّاسِ، وَلا أعلم أي الناس هُوَ- فَقَالَ لي أبي: أما تدري أي بني من هَذَا؟ هَذَا فارس مضر الحمراء كلها، وإذا عد من أشرافها عشرة كان أحدهم، وهو بعد رجل ناسك له دين، ائذن له فأذنت له، فأجلسه أبي إلى جانبه، وساءله والطفه في المسألة، فقال المسيب ابن نجبه: ممن تتحصن؟ إنا والله ما إياكم نريد، وما اعترينا إلى شيء إلا أن تعيننا عَلَى هَؤُلاءِ القوم الظلمة المحلين، فأخرج لنا سوقا، فإنا لا نقيم بساحتكم إلا يَوْمًا أو بعض يوم، فَقَالَ لَهُ زفر بن الْحَارِث: إنا لم نغلق أبواب هَذِهِ الْمَدِينَة إلا لنعلم إيانا اعتريتم أم غيرنا! إنا وَاللَّهِ مَا بنا عجز عن الناس مَا لم تدهمنا حيلة، وما نحب أنا بلينا بقتالكم، وَقَدْ بلغنا عنكم

(5/593)


صلاح، وسيرة حسنة جميلة.
ثُمَّ دعا ابنه فأمره أن يضع لَهُمْ سوقا، وأمر للمسيب بألف درهم وفرس، فَقَالَ لَهُ المسيب: أما المال فلا حاجة لي فِيهِ، وَاللَّهِ مَا لَهُ خرجنا، وَلا إِيَّاهُ طلبنا، وأما الفرس فإني أقبله لعلي أحتاج إِلَيْهِ إن ظلع فرسي، أو غمز تحتي فخرج بِهِ حَتَّى أتى أَصْحَابه وأخرجت لَهُمُ السوق، فتسوقوا، وبعث زفر بن الْحَارِث إِلَى المسيب بن نجبة بعد إخراج الأسواق والأعلاف والطعام الكثير بعشرين جزورا، وبعث إِلَى سُلَيْمَان بن صرد مثل ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ زفر أمر ابنه أن يسأل عن وجوه أهل العسكر، فسمي لَهُ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل وعبد اللَّه بن وال ورفاعة بن شداد، وسمي لَهُ أمراء الأرباع.
فبعث إِلَى هَؤُلاءِ الرءوس الثلاثة بعشر جزائر عشر جزائر، وعلف كثير وطعام، وأخرج للعسكر عيرا عظيمة وشعيرا كثيرا، فَقَالَ غلمان زفر: هَذِهِ عير فاجتزروا منها مَا أحببتم، وهذا شعير فاحتملوا مِنْهُ مَا أردتم، وهذا دقيق فتزودوا مِنْهُ مَا أطقتم، فظل القوم يومهم ذَلِكَ مخصبين لم يحتاجوا الى شراء شيء من هذه الاسواق الَّتِي وضعت، وَقَدْ كفوا اللحم والدقيق والشعير إلا أن يشتري الرجل ثوبا أو سوطا ثُمَّ ارتحلوا من الغد، وبعث إِلَيْهِم زفر: إني خارج إليكم فمشيعكم، فأتاهم وَقَدْ خرجوا على تعبئة حسنة، فسايرهم، فَقَالَ زفر لسُلَيْمَان: إنه قَدْ بعث خمسة أمراء قَدْ فصلوا من الرقة فِيهِمُ الحصين بن نمير السكوني، وشُرَحْبِيل بن ذي كلاع، وأدهم بن محرز الباهلي وأبو مالك بن أدهم، وربيعة بن المخارق الغنوي، وجبلة بن عَبْدِ اللَّهِ الخثعمي، وَقَدْ جاءوكم فِي مثل الشوك والشجر، أتاكم عدد كثير، وحد حديد، وايم اللَّه لقل مَا رأيت رجالا هم أحسن هيئة وَلا عدة، وَلا أخلق لكل خير من رجال أراهم معك، ولكنه قَدْ بلغني أنه قَدْ أقبلت إليكم عدة لا تحصى، فَقَالَ ابن صرد: عَلَى اللَّه توكلنا، وعليه فليتوكل المتوكلون، ثُمَّ قَالَ زفر: فهل لكم فِي أمر أعرضه عَلَيْكُمْ، لعل اللَّه أن يجعل لنا ولكم فِيهِ خيرا؟ إن شئتم فتحنا لكم مدينتنا فدخلتموها فكان أمرنا واحدا وأيدينا واحدة، وإن شئتم نزلتم عَلَى باب مدينتنا، وخرجنا فعسكرنا إِلَى جانبكم، فإذا جاءنا هَذَا العدو

(5/594)


قاتلناهم جميعا فَقَالَ سُلَيْمَان لزفر: قَدْ أرادنا أهل مصرنا عَلَى مثل مَا أردتنا عَلَيْهِ، وذكروا مثل الَّذِي ذكرت، وكتبوا إلينا بِهِ بعد ما فصلنا، فلم يوافقنا ذَلِكَ، فلسنا فاعلين، فَقَالَ زفر: فانظروا مَا أشير بِهِ عَلَيْكُمْ فاقبلوه، وخذوا بِهِ، فإني للقوم عدو، وأحب أن يجعل اللَّه عَلَيْهِم الدائرة، وأنا لكم واد، أحب أن يحوطكم اللَّه بالعافية، إن القوم قَدْ فصلوا من الرقة، فبادروهم إِلَى عين الوردة، فاجعلوا الْمَدِينَة فِي ظهوركم، ويكون الرستاق والماء والماد فِي أيديكم، وما بين مدينتنا ومدينتكم فأنتم لَهُ آمنون، وَاللَّهِ لو أن خيولي كرجالي لأمددتكم، اطووا المنازل الساعة إِلَى عين الوردة، فإن القوم يسيرون سير العساكر، وَأَنْتُمْ عَلَى خيول، وَاللَّهِ لقل مَا رأيت جماعة خيل قط أكرم منها، تأهبوا لها من يومكم هَذَا فإني أرجو أن تسبقوهم إِلَيْهَا، وإن بدرتموهم إِلَى عين الوردة فلا تقاتلوهم فِي فضاء ترامونهم وتطاعنونهم، فأنهم أكثر مِنْكُمْ فلا آمن أن يحيطوا بكم، فلا تقفوا لَهُمْ ترامونهم وتطاعنونهم، فإنه ليس لكم مثل عددهم، فإن استهدفتم لَهُمْ لم يلبثوكم أن يصرعوكم، وَلا تصفوا لَهُمْ حين تلقونهم، فإني لا ارى معكم رجاله، ولا أراكم كلكم إلا فرسانا، والقوم لاقوكم بالرجال والفرسان، فالفرسان تحمي رجالها، والرجال تحمي فرسانها، وَأَنْتُمْ ليس لكم رجال تحمي فرسانكم، فالقوهم فِي الكتائب والمقانب، ثُمَّ بثوها مَا بين ميمنتهم وميسرتهم، واجعلوا مع كل كتيبة كتيبة إِلَى جانبها فإن حمل عَلَى إحدى الكتيبتين ترجلت الأخرى فنفست عنها الخيل والرجال، ومتى مَا شاءت كتيبة ارتفعت، ومتى مَا شاءت كتيبة انحطت، ولو كنتم فِي صف واحد فزحفت إليكم الرجال فدفعتم عن الصف انتقض وكانت الهزيمة، ثُمَّ وقف فودعهم، وسأل اللَّه أن يصحبهم وينصرهم فأثنى الناس عَلَيْهِ، ودعوا لَهُ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان بن صرد: نعم المنزول بِهِ أنت! أكرمت النزول، وأحسنت الضيافة، ونصحت في المشورة ثم ان القوم وجدوا فِي المسير، فجعلوا يجعلون كل مرحلتين مرحلة، قَالَ: فمررنا بالمدن حَتَّى

(5/595)


بلغنا ساعا ثُمَّ إن سُلَيْمَان بن صرد عبى الكتائب كما أمره زفر، ثُمَّ أقبل حَتَّى انتهى إِلَى عين الوردة فنزل فِي غربيها، وسبق القوم إِلَيْهَا، فعسكروا، وأقام بِهَا خمسا لا يبرح، واستراحوا واطمأنوا، وأراحوا خيلهم.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ الْحَارِث، عن عَبْد اللَّهِ بن غزية، قَالَ: أقبل أهل الشام فِي عساكرهم حَتَّى كَانُوا من عين الوردة عَلَى مسيرة يوم وليلة، قَالَ عَبْد اللَّهِ بن غزية: فقام فينا سُلَيْمَان فَحَمِدَ اللَّهَ فأطال، وأثنى عَلَيْهِ فأطنب، ثُمَّ ذكر السماء والأرض، والجبال والبحار وما فيهن من الآيات، وذكر آلاء اللَّه ونعمه، وذكر الدنيا فزهد فيها، وذكر الآخرة فرغب فِيهَا، فذكر من هَذَا مَا لم أحصه، ولم أقدر عَلَى حفظه، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فقد أتاكم اللَّه بعدوكم الَّذِي دابتم فِي المسير إِلَيْهِ آناء الليل والنهار، تريدون فِيمَا تظهرون التوبة النصوح، ولقاء اللَّه معذرين، فقد جاءوكم بل جئتموهم أنتم فِي دارهم وحيزهم، فإذا لقيتموهم فاصدقوهم، واصبروا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلا يولينهم امرؤ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ: لا تَقْتُلُوا مُدْبِرًا، وَلا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلا تقتلوا أسيرا من أهل دعوتكم، إلا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه، أو يكون من قتلة إخواننا بالطف رحمة اللَّه عَلَيْهِم، فإن هَذِهِ كَانَتْ سيرة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عَلِيّ بن أبي طالب فِي أهل هَذِهِ الدعوة ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَان: إن أنا قتلت فأمير الناس المسيب بن نجبة فإن أصيب المسيب فأمير الناس عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل، فان قتل عبد الله ابن سَعْد فأمير الناس عَبْد اللَّهِ بن وال، فإن قتل عَبْد اللَّهِ بن وال فأمير الناس رفاعة بن شداد، رحم اللَّه امرأ صدق مَا عاهد اللَّه عَلَيْهِ! ثُمَّ بعث المسيب ابن نجبه في أربعمائة فارس، ثُمَّ قَالَ: سر حَتَّى تلقى أول عسكر من عساكرهم فشن فِيهِمُ الغارة، فإذا رأيت مَا تحبه وإلا انصرفت إلي فِي أَصْحَابك، وإياك أن تنزل أو تدع أحدا من أَصْحَابك أن ينزل، أو يستقبل آخر ذَلِكَ، حَتَّى لا تجد مِنْهُ بدا

(5/596)


قال ابو مخنف: فحدثني أبي عن حميد بن مسلم أنه قَالَ: اشهد انى في خيل المسيب بن نجبة تِلَكَ، إذ أقبلنا نسير آخر يومنا كله وليلتنا، حَتَّى إذا كَانَ فِي آخر السحر نزلنا فعلقنا عَلَى دوابنا مخاليها، ثُمَّ هومنا تهويمة بمقدار تكون مقدار قضمها ثُمَّ ركبناها، حَتَّى إذا انبلج لنا الصبح نزلنا فصلينا، ثُمَّ ركب فركبنا فبعث أبا الجويرية العبدي بن الأحمر فِي مائة من أَصْحَابه، وعبد اللَّه بن عوف بن الأحمر فِي مائة وعشرين، وحنش بن رَبِيعَة أبا المعتمر الكناني فِي مثلها، وبقي هُوَ فِي مائة، ثُمَّ قَالَ: انظروا أول من تلقون فأتوني بِهِ، فكان أول من لقينا أعرابي يطرد أحمرة وَهُوَ يقول:
يَا مال لا تعجل إِلَى صحبي ... واسرح فإنك آمن السرب
قَالَ: يقول عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر: يَا حميد بن مسلم، أبشر بشرى ورب الكعبة، فَقَالَ لَهُ ابن عوف بن الأحمر: ممن أنت يَا أعرابي؟
قَالَ: أنا من بني تغلب، قَالَ: غلبتم ورب الكعبة إِنْ شَاءَ اللَّهُ فانتهى إلينا المسيب بن نجبة، فأخبرناه بِالَّذِي سمعنا من الأعرابي وأتيناه به، فقال المسيب ابن نجبة أما لقد سررت بقولك: أبشر، وبقولك: يَا حميد بن مسلم، وإني لأرجو أن تبشروا بِمَا يسركم، وإنما سركم أن تحمدوا أمركم، وأن تسلموا من عدوكم، وإن هَذَا الفأل لهو الفأل الْحَسَن، وَقَدْ كَانَ رَسُول الله ص يعجبه الفأل ثُمَّ قَالَ المسيب بن نجبة للأعرابي: كم بيننا وبين أدنى هَؤُلاءِ القوم منا؟ قَالَ: أدنى عسكر من عساكرهم مِنْكَ عسكر ابن ذي الكلاع، وَكَانَ بينه وبين الحصين اختلاف، ادعى الحصين أنه عَلَى جماعة الناس، وَقَالَ ابن ذي الكلاع: مَا كنت لتولى علي، وَقَدْ تكاتبا إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فهما ينتظران أمره، فهذا عسكر ابن ذي الكلاع مِنْكُمْ عَلَى رأس ميل، قال: فتركنا الرجل، فخرجنا نحوهم مسرعين، فو الله مَا شعروا حَتَّى أشرفنا عَلَيْهِم وهم غارون، فحملنا في جانب عسكرهم فو الله مَا قاتلوا كثير قتال حَتَّى انهزموا، فأصبنا مِنْهُمْ رجالا، وجرحنا فِيهِمْ

(5/597)


فأكثرنا الجراح، وأصبنا لَهُمْ دواب، وخرجوا عن عسكرهم وخلوه لنا، فأخذنا مِنْهُ مَا خف علينا، فصاح المسيب فينا: الرجعة، إنكم قَدْ نصرتم، وغنمتم وَسَلَّمَتم، فانصرفوا، فانصرفنا حَتَّى أتينا سُلَيْمَان.
قَالَ: فأتى الخبر عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فسرح إلينا الحصين بن نمير مسرعا حَتَّى نزل فِي اثني عشر ألفا، فخرجنا إِلَيْهِم يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الأولى، فجعل سُلَيْمَان بن صرد عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل عَلَى ميمنته، وعلى ميسرته المسيب بن نجبة، ووقف هُوَ فِي القلب، وجاء حصين بن نمير وَقَدْ عبأ لنا جنده، فجعل عَلَى ميمنته جبلة بن عَبْدِ اللَّهِ، وعلى ميسرته رَبِيعَة بن المخارق الغنوي ثُمَّ زحفوا إلينا، فلما دنوا دعونا إِلَى الجماعة عَلَى عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان وإلى الدخول فِي طاعته، ودعوناهم إِلَى أن يدفعوا إلينا عُبَيْد اللَّهِ بن زياد فنقتله ببعض من قتل من إخواننا، وأن يخلعوا عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان، وإلى أن يخرج من ببلادنا من آل ابن الزُّبَيْر، ثُمَّ نرد هَذَا الأمر إِلَى أهل بيت نبينا الَّذِينَ آتانا اللَّه من قبلهم بالنعمة والكرامة، فأبى القوم وأبينا.
قَالَ حميد بن مسلم: فحملت ميمنتنا عَلَى ميسرتهم وهزمتهم، وحملت ميسرتنا عَلَى ميمنتهم، وحمل سُلَيْمَان فِي القلب عَلَى جماعتهم، فهزمناهم حَتَّى اضطررناهم إِلَى عسكرهم، فما زال الظفر لنا عَلَيْهِم حَتَّى حجز الليل بيننا وبينهم، ثم انصرفنا عنهم وقد حجزناهم فِي عسكرهم، فلما كَانَ الغد صبحهم ابن ذي الكلاع فِي ثمانية آلاف، أمدهم بهم عبيد الله ابن زياد، وبعث إِلَيْهِ يشتمه، ويقع فِيهِ، ويقول: إنما عملت عمل الأغمار، تضيع عسكرك ومسالحك! سر إِلَى الحصين بن نمير حَتَّى توافيه وَهُوَ عَلَى الناس، فجاءه، فغدوا علينا وغاديناهم، فقاتلناهم قتالا لم ير الشيب والمرد مثله قط يومنا كله، لا يحجز بيننا وبين القتال إلا الصَّلاة حَتَّى أمسينا فتحاجزنا، وَقَدْ وَاللَّهِ أكثروا فينا الجراح، وأفشيناها فِيهِمْ، قَالَ: وَكَانَ فينا قُصّاص ثلاثة: رفاعة بن شداد البجلي، وصحير بن حُذَيْفَة بن هلال بن مالك المري، وأبو الجويرية العبدي، فكان رفاعة يقص ويحضض الناس في الميمنه، لا يبرحها، وجرح أَبُو الجويرية الْيَوْم الثاني فِي أول النهار، فلزم الرحال، وَكَانَ صحير ليلته كلها يدور

(5/598)


فينا ويقول: أبشروا عباد اللَّه بكرامة اللَّه ورضوانه، فحق وَاللَّهِ لمن ليس بينه وبين لقاء الأحبة ودخول الجنة والراحة من إبرام الدُّنْيَا وأذاها إلا فراق هَذِهِ النفس الأمارة بالسوء أن يكون بفراقها سخيا، وبلقاء ربه مسرورا، فمكثنا كذلك حَتَّى أصبحنا، وأصبح ابن نمير وأدهم بن محرز الباهلي فِي نحو من عشرة آلاف، فخرجوا إلينا، فاقتتلنا الْيَوْم الثالث يوم الجمعة قتالا شديدا إِلَى ارتفاع الضحى ثُمَّ إن أهل الشام كثرونا وتعطفوا علينا من كل جانب، ورأى سُلَيْمَان بن صرد مَا لقي أَصْحَابه، فنزل فنادى:
عباد اللَّه، من أراد البكور إِلَى ربه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فإلي، ثُمَّ كسر جفن سيفه، ونزل مَعَهُ ناس كثير، فكسروا جفون سيوفهم، ومشوا مَعَهُ، وانزوت خيلهم حَتَّى اختلطت مع الرجال، فقاتلوهم حَتَّى نزلت الرجال تشتد مصلتة بالسيوف، وَقَدْ كسروا الجفون، فحمل الفرسان عَلَى الخيل وَلا يثبتون، فقاتلوهم وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة، وجرحوا فِيهِمْ فأكثروا الجراح فلما رَأَى الحصين بن نمير صبر القوم وبأسهم، بعث الرجال ترميهم بالنبل، واكتنفتهم الخيل والرجال، فقتل سُلَيْمَان بن صرد رحمه اللَّه، رماه يَزِيد بن الحصين بسهم فوقع، ثُمَّ وثب ثُمَّ وقع، قَالَ: فلما قتل سُلَيْمَان بن صرد أخذ الراية المسيب بن نجبة، وَقَالَ لسُلَيْمَان بن صرد: رحمك اللَّه يَا أخي! فقد صدقت ووفيت بِمَا عَلَيْك، وبقي مَا علينا، ثُمَّ أخذ الراية فشد بِهَا، فقاتل ساعة ثُمَّ رجع، ثُمَّ شد بِهَا فقاتل ثُمَّ رجع، ففعل ذَلِكَ مرارا يشد ثُمَّ يرجع، ثُمَّ قتل رحمه اللَّه.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنَا فروة بن لقيط، عن مولى للمسيب بن نجبة الفزاري، قَالَ: لقيته بالمدائن وَهُوَ مع شبيب بن يَزِيدَ الخارجي، فجرى الحديث حَتَّى ذكرنا أهل عين الوردة.
قَالَ هِشَام عن أبي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنَا هَذَا الشيخ، عن المسيب بن نجبة، قَالَ: وَاللَّهِ مَا رأيت أشجع مِنْهُ إنسانا قط، وَلا من العصابة الَّتِي كَانَ فِيهِمْ، وَلَقَدْ رأيته يوم عين الوردة يقاتل قتالا شديدا، مَا ظننت أن

(5/599)


رجلا واحدا يقدر أن يبلى مثل مَا أبلى، وَلا ينكأ فِي عدوه مثل مَا نكأ، لقد قتل رجالا، قَالَ: وسمعته يقول قبل أن يقتل وَهُوَ يقاتلهم:
قَدْ علمت ميالة الذوائب ... واضحة اللبات والترائب
أني غداة الروع والتغالب ... أشجع من ذي لبد مواثب
قطاع أقران مخوف الجانب.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أبي وخالي، عن حميد بن مسلم وعبد اللَّه بن غزية قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف، قَالَ: لما قتل المسيب بن نجبة أخذ الراية عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل، ثُمَّ قَالَ رحمه اللَّه: أخوي مِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا وأقبل بمن كَانَ مَعَهُ من الأزد، فحفوا برايته، فو الله إنا لكذلك إذ جاءنا فرسان ثلاثة: عَبْد اللَّهِ بن الخضل الطَّائِيّ، وكثير بن عَمْرو المزني، وسعر بن أبي سعر الحنفي، كَانُوا خرجوا مع سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ فِي سبعين ومائة من أهل المدائن، فسرحهم يوم خرج فِي آثارنا عَلَى خيول مقلمة مقدحة، فَقَالَ لَهُمُ: اطووا المنازل حَتَّى تلحقوا بإخواننا فتبشروهم بخروجنا إِلَيْهِم لتشتد بِذَلِكَ ظهورهم، وتخبروهم بمجيء أهل الْبَصْرَة أَيْضًا، كَانَ المثنى بن مخربه العبدى اقبل في ثلاثمائة من أهل الْبَصْرَة، فَجَاءَ حَتَّى نزل مدينة بهرسير بعد خروج سعد بن حُذَيْفَة من المدائن لخمس ليال، وَكَانَ خروجه مِنَ الْبَصْرَةِ قبل ذَلِكَ قَدْ بلغ سعد بن حُذَيْفَة قبل أن يخرج من المدائن، فلما انتهوا إلينا قَالُوا: أبشروا فقد جاءكم إخوانكم من أهل المدائن وأهل الْبَصْرَة، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل: ذَلِكَ لو جاءونا ونحن أحياء، قَالَ: فنظروا إلينا، فلما رأوا مصارع إخوانهم وما بنا من الجراح، بكى القوم وَقَالُوا: وَقَدْ بلغ مِنْكُمْ مَا نرى! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قَالَ: فنظروا والله

(5/600)


إِلَى مَا ساء أعينهم، فَقَالَ لَهُمْ عَبْد اللَّهِ بن نفيل: إنا لهذا خرجنا، ثُمَّ اقتتلنا فما اضطربنا إلا ساعة حَتَّى قتل المزني، وطعن الحنفي فوقع بين القتلى، ثُمَّ ارتث بعد ذَلِكَ فنجا، وطعن الطَّائِيّ فجزم أنفه، فقاتل قتالا شديدا، وَكَانَ فارسا شاعرا، فأخذ يقول:
قَدْ علمت ذات القوام الرود ... أن لست بالواني وَلا الرعديد
يَوْمًا وَلا بالفرق الحيود.
قَالَ: فحمل علينا رَبِيعَة بن المخارق حملة منكرة، فاقتتلنا قتالا شديدا.
ثُمَّ إنه اختلف هُوَ وعبد اللَّه بن سَعْدِ بْنِ نفيل ضربتين، فلم يصنع سيفاهما شَيْئًا، واعتنق كل واحد منهما صاحبه، فوقعا إِلَى الأرض، ثُمَّ قاما فاضطربا، ويحمل ابن أخي رَبِيعَة بن المخارق عَلَى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، فطعنه فِي ثغرة نحره، فقتله، ويحمل عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر عَلَى رَبِيعَة بن المخارق، فطعنه فصرعه فلم يصب مقتلا، فقام فكر عَلَيْهِ الثانية، فطعنه أَصْحَاب رَبِيعَة فصرعوه، ثُمَّ إن أَصْحَابه استنقذوه وَقَالَ خَالِد بن سَعْدِ بْنِ نفيل: أروني قاتل أخي، فأريناه ابن أخي رَبِيعَة بن المخارق، فحمل عَلَيْهِ فقنعه بالسيف واعتنقه الآخر فخر إِلَى الأرض، فحمل أَصْحَابه وحملنا، وكانوا أكثر منا فاستنقذوا صاحبهم، وقتلوا صاحبنا، وبقيت الراية ليس عندها أحد.
قَالَ: فنادينا عَبْد اللَّهِ بن وال بعد قتلهم فرساننا، فإذا هُوَ قَدِ استلحم فِي عصابة مَعَهُ إِلَى جانبنا، فحمل عَلَيْهِ رفاعة بن شداد، فكشفهم عنه، ثُمَّ أقبل إِلَى رايته وَقَدْ أمسكها عَبْد الله بن خازم الكثيرى، فَقَالَ لابن وال:
أمسك عني رايتك، قَالَ: أمسكها عني رحمك اللَّه، فإني بي مثل حالك فَقَالَ لَهُ: أمسك عني رايتك، فإني أريد أن أجاهد، قَالَ: فإن هَذَا الَّذِي أنت فِيهِ جهاد وأجر، قَالَ: فصحنا: يَا أَبَا عزة، أطع أميرك يرحمك اللَّه! قَالَ: فأمسكها قليلا، ثُمَّ إن ابن وال أخذها مِنْهُ.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ أَبُو الصلت التيمي الأعور: حَدَّثَنِي شيخ للحي

(5/601)


كَانَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: قَالَ لنا ابن وال: من أراد الحياة الَّتِي ليس بعدها موت، والراحة الَّتِي ليس بعدها نصب، والسرور الَّذِي ليس بعده حزن، فليتقرب إِلَى ربه بجهاد هَؤُلاءِ المحلين، والرواح إِلَى الجنة رحمكم اللَّه! وَذَلِكَ عِنْدَ العصر، فشد عَلَيْهِم، وشددنا مَعَهُ، فأصبنا وَاللَّهِ مِنْهُمْ رجالا، وكشفناهم طويلا، ثُمَّ إِنَّهُمْ بعد ذَلِكَ تعطفوا علينا من كل جانب، فحازونا حَتَّى بلغوا بنا المكان الَّذِي كنا فِيهِ، وكنا بمكان لا يقدرون أن يأتونا فِيهِ إلا من وجه واحد، وولي قتالنا عِنْدَ المساء أدهم بن محرز الباهلي، فشد علينا فِي خيله ورجاله، فقتل عَبْد اللَّهِ بن وال التيمي.
قَالَ أَبُو مخنف، عن فروة بن لقيط، قَالَ: سمعت أدهم بن محرز الباهلي فِي إمارة الحجاج بن يُوسُفَ وَهُوَ يحدث ناسا من أهل الشام، قَالَ:
دفعت إِلَى أحد أمراء العراق، رجل مِنْهُمْ يقولون لَهُ عَبْد اللَّهِ بن وال وَهُوَ يقول:
«وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
فَرِحِينَ» ، الآيات الثلاث، قَالَ: فغاظني، فقلت فِي نفسي:
هَؤُلاءِ يعدوننا بمنزلة أهل الشرك، يرون أن من قتلنا مِنْهُمْ كَانَ شهيدا.
فحملت عَلَيْهِ أضرب يده اليسرى فأطننتها، وتنحيت قريبا، فقلت لَهُ:
أما إني أراك وددت أنك فِي أهلك، فَقَالَ: بئسما رأيت! أما وَاللَّهِ مَا أحب أنها يدك الآن إلا أن يكون لي فِيهَا من الأجر مثل مَا فِي يدي، قَالَ: فقلت لَهُ:
لم؟ قَالَ: لكيما يجعل اللَّه عَلَيْك وزرها، ويعظم لي أجرها، قَالَ: فغاظني فجمعت خيلي ورجالي، ثُمَّ حملنا عَلَيْهِ وعلى أَصْحَابه، فدفعت إِلَيْهِ فطعنته فقتلته، وإنه لمقبل إلي مَا يزول، فزعموا بعد أنه كَانَ من فقهاء أهل العراق الَّذِينَ كَانُوا يكثرون الصوم والصلاة ويفتون الناس.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الثقة، عن حميد بن مسلم وعبد اللَّه بن غزية

(5/602)


قَالَ: لما هلك عَبْد اللَّهِ بن وال نظرنا، فإذا عبد الله بن خازم قتيل إِلَى جنبه، ونحن نرى أنه رفاعة بن شداد البجلي، فقال له رجل من بني كنانة يقال لَهُ الْوَلِيد بن غضين: أمسك رايتك، قَالَ: لا أريدها، فقلت لَهُ: إنا لِلَّهِ! مَا لك! فَقَالَ: ارجعوا بنا لعل اللَّه يجمعنا ليوم شر لَهُمْ، فوثب عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر إِلَيْهِ، فَقَالَ: أهلكتنا، وَاللَّهِ لَئِنِ انصرفت ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخا حَتَّى نهلك من عِنْدَ آخرنا، فإن نجا منا ناج أخذه الأعراب وأهل القرى، فتقربوا إِلَيْهِم بِهِ فيقتل صبرا، أنشدك اللَّه أن تفعل، هَذِهِ الشمس قَدْ طفلت للمغيب، وهذا الليل قَدْ غشينا، فنقاتلهم عَلَى خيلنا هَذِهِ فإنا الآن ممتنعون، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أول الليل فرمينا بِهَا، فكان ذَلِكَ الشأن حَتَّى نصبح ونسير ونحن عَلَى مهل، فيحمل الرجل منا جريحه وينتظر صاحبه، وتسير العشرة والعشرون معا، ويعرف الناس الوجه الَّذِي يأخذون، فيتبع فِيهِ بعضهم بعضا، ولو كَانَ الَّذِي ذكرت لم تقف أم عَلَى ولدها، ولم يعرف رجل وجهه، وَلا أين يسقط، وَلا أين يذهب! ولم نصبح إلا ونحن بين مقتول ومأسور فَقَالَ لَهُ رفاعة بن شداد: فإنك نعم مَا رأيت، قَالَ: ثُمَّ أقبل رفاعة عَلَى الكناني فَقَالَ لَهُ: أتمسكها أم آخذها مِنْكَ؟ فَقَالَ لَهُ الكناني: إني لا أريد مَا تريد، إني أريد لقاء ربي، واللحاق بإخواني، والخروج من الدُّنْيَا إِلَى الآخرة، وأنت تريد ورق الدُّنْيَا، وتهوى البقاء، وتكره فراق الدنيا، اما والله انى لاحب لك أن ترشد، ثُمَّ دفع إِلَيْهِ الراية، وذهب ليستقدم فَقَالَ لَهُ ابن أحمر: قاتل معنا ساعة رحمك اللَّه وَلا تلق بيدك إِلَى التهلكة، فما زال بِهِ يناشده حَتَّى احتبس عَلَيْهِ، وأخذ أهل الشام يتنادون: إن اللَّه قَدْ أهلكهم، فأقدموا عَلَيْهِم فافرغوا مِنْهُمْ قبل الليل فأخذوا يقدمون عَلَيْهِم، فيقدمون عَلَى شوكة شديدة، ويقاتلون فرسانا شجعانا ليس فِيهِمْ سقط رجل، وليسوا لَهُمْ بمضجرين فيتمكنوا مِنْهُمْ، فقاتلوهم حَتَّى العشاء قتالا شديدا، وقتل الكناني قبل المساء، وخرج عَبْد اللَّهِ بن عزيز الكندي وَمَعَهُ ابنه مُحَمَّد غلام صغير، فَقَالَ: يَا أهل الشام، هل فيكم أحد من كندة؟ فخرج إِلَيْهِ مِنْهُمْ رجال، فَقَالُوا: نعم، نحن هؤلاء،

(5/603)


فَقَالَ لَهُمْ: دونكم أخوكم فابعثوا بِهِ إِلَى قومكم بالكوفة، فأنا عَبْد اللَّهِ بن عزيز الكندي، فَقَالُوا لَهُ: أنت ابن عمنا، فإنك آمن، فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لا أرغب عن مصارع إخواني الَّذِينَ كَانُوا للبلاد نورا، وللأرض أوتادا، وبمثلهم كَانَ اللَّه يذكر، قَالَ: فأخذ ابنه يبكي فِي أثر أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا بني، لو أن شَيْئًا كَانَ آثر عندي من طاعة ربي إذا لكنت أنت، وناشده قومه الشاميون لما رأوا من جزع ابنه وبكائه فِي أثره، وأروا الشاميون لَهُ ولابنه رقة شديدة حَتَّى جزعوا وبكوا، ثُمَّ اعتزل الجانب الَّذِي خرج إِلَيْهِ مِنْهُ قومه، فشد عَلَى صفهم عِنْدَ المساء، فقاتل حَتَّى قتل قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج، قَالَ: حَدَّثَنِي مسلم بن زحر الخولاني، أن كُرَيْب بن زَيْد الحميري مشى إِلَيْهِم عِنْدَ المساء وَمَعَهُ راية بلقاء فِي جماعة، قلما تنقص من مائة رجل إن نقصت، وَقَدْ كَانُوا تحدثوا بِمَا يريد رفاعة أن يصنع إذا أمسى، فقام لَهُمُ الحميري وجمع إِلَيْهِ رجالا من حمير وهمدان، فَقَالَ: عباد اللَّه! روحوا إِلَى ربكم، وَاللَّهِ مَا فِي شَيْءٍ من الدُّنْيَا خلف من رضاء اللَّه والتوبة إِلَيْهِ، إنه قَدْ بلغني أن طائفة مِنْكُمْ يريدون أن يرجعوا إِلَى مَا خرجوا مِنْهُ إِلَى دنياهم، وإن هم ركنوا إِلَى دنياهم رجعوا الى خطاياهم، فاما انا فو الله لا أولي هَذَا العدو ظهري حَتَّى أرد موارد إخواني، فأجابوه وَقَالُوا: رأينا مثل رأيك ومضى برايته حَتَّى دنا من القوم، فَقَالَ ابن ذي الكلاع: وَاللَّهِ إني لأرى هَذِهِ الراية حميرية أو همدانية، فدنا مِنْهُمْ فسألهم، فأخبروه، فَقَالَ لَهُمْ: إنكم آمنون، فَقَالَ لَهُ صاحبهم: إنا قَدْ كنا آمنين فِي الدُّنْيَا، وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة، فقاتلوا القوم حتى قتلوا، ومشى صخير بن حُذَيْفَة بن هلال بن مالك المزني فِي ثَلاثِينَ من مزينة، فَقَالَ لَهُمْ: لا تهابوا الموت فِي اللَّه، فإنه لاقيكم، وَلا ترجعوا إِلَى الدُّنْيَا الَّتِي خرجتم منها إِلَى اللَّهِ فإنها لا تبقى لكم، وَلا تزهدوا فِيمَا رغبتم فِيهِ من ثواب اللَّه فإن مَا عِنْدَ اللَّه خير لكم، ثُمَّ مضوا فقاتلوا حَتَّى قتلوا، فلما أمسى الناس ورجع أهل الشام إِلَى معسكرهم، نظر رفاعة إِلَى كل رجل قَدْ عقر بِهِ، وإلى

(5/604)


كل جريح لا يعين عَلَى نفسه، فدفعه إِلَى قومه، ثُمَّ سار بِالنَّاسِ ليلته كلها حَتَّى أصبح بالتنينير فعبر الخابور، وقطع المعابر، ثُمَّ مضى لا يمر بمعبر إلا قطعه، وأصبح الحصين بن نمير فبعث فوجدهم قَدْ ذهبوا، فلم يبعث فِي آثارهم أحدا، وسار بِالنَّاسِ فأسرع، وخلف رفاعة وراءهم أبا الجويرية العبدي فِي سبعين فارسا يسترون الناس، فإذا مروا برجل قَدْ سقط حمله، أو بمتاع قَدْ سقط قبضه حَتَّى يعرفه، فإن طلب او ابتغى بعث اليه فاعمله، فلم يزالوا كذلك حَتَّى مروا بقرقيسيا من جانب البر، فبعث إِلَيْهِم زفر من الطعام والعلف مثل مَا كَانَ بعث إِلَيْهِم فِي المرة الأولى، وأرسل إِلَيْهِم الأطباء وَقَالَ: أقيموا عندنا مَا أحببتم، فإن لكم الكرامة والمواساة، فأقاموا ثلاثا، ثُمَّ زود كل امرئ مِنْهُمْ مَا أحب من الطعام والعلف، قَالَ: وجاء سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ حَتَّى انتهى إِلَى هيت، فاستقبله الأعراب فأخبروه بِمَا لقي الناس، فانصرف، فتلقى المثنى بن مخربة العبدي بصندوداء، فأخبره، فأقاموا حَتَّى جاءهم الخبر: أن رفاعة قَدْ أظلكم، فخرجوا حين دنا من القرية، فاستقبلوه فسلم الناس بعضهم عَلَى بعض، وبكى بعضهم إِلَى بعض، وتناعوا إخوانهم فأقاموا بِهَا يَوْمًا وليلة، فانصرف أهل المدائن إِلَى المدائن، وأهل الْبَصْرَة إِلَى الْبَصْرَة، وأقبل أهل الْكُوفَة إِلَى الْكُوفَةِ، فإذا المختار محبوس.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف، عن عبد الرَّحْمَن بن يَزِيدَ بن جابر، عن أدهم بن محرز الباهلي، أنه أتى عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان ببشارة الفتح، قَالَ:
فصعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه قَدْ أهلك من رءوس أهل العراق ملقح فتنة، ورأس ضلالة، سُلَيْمَان بن صرد، أَلا وإن السيوف تركت رأس المسيب بن نجبة خذاريف، أَلا وَقَدْ قتل اللَّه من رءوسهم رأسين عظيمين ضالين مضلين: عَبْد اللَّهِ بن سَعْد أخا الأزد، وعبد اللَّه بن وال أخا بكر بن وائل، فلم يبق بعد هَؤُلاءِ أحد عنده دفاع وَلا امتناع.
قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: وحدثت أن المختار مكث نحوا من خمس

(5/605)


عشرة ليلة ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: عدوا لغازيكم هَذَا أكثر من عشر، ودون الشهر، ثُمَّ يجيئكم نبأ هتر، من طعن نتر، وضرب هبر، وقتل جم، وأمر رجم.
فمن لها؟ أنا لها، لا تكذبن، أنا لها.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنَا الحصين بن يَزِيدَ، عن أبان بن الْوَلِيد، قَالَ:
كتب المختار وَهُوَ فِي السجن إِلَى رفاعة بن شداد حين قدم من عين الوردة:
أَمَّا بَعْدُ، فمرحبا بالعصب الذين اعظم اللَّه لَهُمُ الأجر حين انصرفوا، ورضي انصرافهم حين قفلوا اما ورب البنيه التي بنى مَا خطا خاط مِنْكُمْ خطوة، وَلا رتا رتوة، إلا كَانَ ثواب اللَّه لَهُ أعظم من ملك الدُّنْيَا إن سُلَيْمَان قَدْ قضى مَا عَلَيْهِ، وتوفاه اللَّه فجعل روحه مع أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الَّذِي بِهِ تنصرون، إني أنا الأمير المأمور، والأمين المأمون، وأمير الجيش، وقاتل الجبارين، والمنتقم من أعداء الدين، والمقيد من الأوتار، فأعدوا واستعدوا، وأبشروا واستبشروا، أدعوكم إِلَى كتاب الله، وسنه نبيه ص، وإلى الطلب بدماء أهل البيت والدفع عن الضعفاء، وجهاد المحلين، والسلام.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَبُو زهير العبسي، أن الناس تحدثوا بهذا من أمر المختار، فبلغ ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد، فخرجا فِي الناس حَتَّى أتيا المختار، فأخذاه.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قَالَ: لما تهيأنا للانصراف قام عَبْد اللَّهِ بن غزية ووقف عَلَى القتلى فَقَالَ:
يرحمكم اللَّه، فقد صدقتم وصبرتم، وكذبنا وفررنا، قَالَ: فلما سرنا وأصبحنا إذا عَبْد اللَّهِ بن غزية فِي نحو من عشرين قَدْ أرادوا الرجوع إِلَى العدو والاستقتال، فَجَاءَ رفاعة وعبد اللَّه بن عوف بن الأحمر وجماعة الناس فَقَالُوا لَهُمْ: ننشدكم اللَّه أَلا تزيدونا فلولا ونقصانا، فإنا لا نزال بخير مَا كَانَ فينا مثلكم من ذوي النيات، فلم يزالوا بهم كذلك يناشدونهم حَتَّى ردوهم غير

(5/606)


رجل من مزينة يقال لَهُ عبيدة بن سُفْيَان، رحل مع الناس، حَتَّى إذا غفل عنه انصرف حَتَّى لقي أهل الشام، فشد بسيفه يضاربهم حَتَّى قتل.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الحصين بن يَزِيدَ الأَزْدِيّ، عن حميد بن مسلم الأَزْدِيّ، قَالَ: كَانَ ذَلِكَ المزني صديقا لي، فلما ذهب لينصرف ناشدته اللَّه، فَقَالَ: أما إنك لم تكن لتسألني شَيْئًا من الدُّنْيَا إلا رأيت لك من الحق علي إيتاءكه، وهذا الَّذِي تسألني أريد اللَّه بِهِ، قَالَ: ففارقني حَتَّى لقي القوم فقتل، قال: فو الله مَا كَانَ شَيْء بأحب إلي من أن ألقى إنسانا يحدثني عنه كيف صنع حين لقي القوم! قَالَ: فلقيت عَبْد الْمَلِكِ بن جزء بن الحدرجان الأَزْدِيّ بمكة، فجرى حديث بيننا، جرى ذكر ذَلِكَ الْيَوْم، فَقَالَ: أعجب مَا رأيت يوم عين الوردة بعد هلاك القوم أن رجلا أقبل حَتَّى شد علي بسيفه، فخرجنا نحوه، قَالَ: فانتهى إِلَيْهِ وَقَدْ عقر بِهِ وَهُوَ يقول:
إني من اللَّه إِلَى اللَّهِ أفر ... رضوانك اللَّهُمَّ أبدي وأسر
قَالَ: فقلنا لَهُ: ممن أنت؟ قَالَ: من بني آدم، قَالَ: فقلنا: ممن؟
قَالَ: لا أحب أن أعرفكم وَلا أن تعرفوني يَا مخربى البيت الحرام، قال:
فتزل إِلَيْهِ سُلَيْمَان بن عَمْرو بن محصن الأَزْدِيّ من بني الخيار، قَالَ: وَهُوَ يَوْمَئِذٍ من أشد الناس، قَالَ: فكلاهما أثخن صاحبه، قَالَ: وشد الناس عَلَيْهِ من كل جانب، فقتلوه، قال: فو الله مَا رأيت واحدا قط هُوَ أشد مِنْهُ، قَالَ: فلما ذكر لي، وكنت أحب أن أعلم علمه، دمعت عيناي، فَقَالَ:
أبينك وبينه قرابة؟ فقلت لَهُ: لا، ذَلِكَ رجل من مضر كَانَ لي ودا وأخا، فَقَالَ لي: لا أرقأ اللَّه دمعك، أتبكي عَلَى رجل من مضر قتل عَلَى ضلالة! قَالَ: قلت: لا، وَاللَّهِ مَا قتل عَلَى ضلالة، ولكنه قتل عَلَى بينة من ربه وهدى، فَقَالَ لي: أدخلك اللَّه مدخله، قلت: آمين، وأدخلك اللَّه مدخل حصين بن نمير، ثُمَّ لا ارقا الله لك عَلَيْهِ دمعا، ثُمَّ قمت وقام.
وَكَانَ مما قيل من الشعر فِي ذَلِكَ قول أعشى همدان، وَهِيَ إحدى المكتمات، كن يكتمن فِي ذَلِكَ الزمان:

(5/607)


ألم خيال مِنْكَ يَا أم غالب ... فحييت عنا من حبيب مجانب
وما زلت لي شجوا وما زلت مقصدا ... لِهَمٍّ عراني من فراقك ناصب
فما أنس لا أنس انفتالك فِي الضحى ... إلينا مع البيض الوسام الخراعب
تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشا ... لطيفة طي الكشح ريا الحقائب
مبتلة غراء، رود شبابها ... كشمس الضحى تنكل بين السحائب
فلما تغشاها السحاب وحوله ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
فتلك الهوى وَهْيَ الجوى لي والمنى ... فأحبب بِهَا من خلة لم تصاقب
وَلا يبعد اللَّه الشباب وذكره ... وحب تصافي المعصرات الكواعب
ويزداد مَا أحببته من عتابنا ... لعابا وسقيا للخدين المقارب
فإني وإن لم أنسهن لذاكر ... رزيئة مخبات كريم المناصب
توسل بالتقوى إِلَى اللَّهِ صادقا ... وتقوى الإله خير تكساب كاسب
وخلى عن الدُّنْيَا فلم يلتبس بِهَا ... وتاب إِلَى اللَّهِ الرفيع المراتب
تخلى عن الدُّنْيَا وَقَالَ اطّرحتها ... فلست إِلَيْهَا مَا حييت بآيب
وما أنا فِيمَا يكبر الناس فقده ... ويسعى لَهُ الساعون فِيهَا براغب
فوجهه نحو الثوية سائرا ... إِلَى ابن زياد فِي الجموع الكباكب
بقوم همُ أهل التقية والنهى ... مصاليت أنجاد سراة مناجب
مضوا تاركي رأي ابن طَلْحَة حسبه ... ولم يستجيبوا للأمير المخاطب
فساروا وهم من بين ملتمس التقى ... وآخر مما جر بالأمس تائب

(5/608)


فلاقوا بعين الوردة الجيش فاصلا ... إِلَيْهِم فحسوهم ببيض قواضب
يمانيه تذرى الأكف وتارة ... بخيل عتاق مقربات سلاهب
فجاءهمُ جمع من الشام بعده ... جموع كموج البحر من كل جانب
فما برحوا حَتَّى أبيدت سراتهم ... فلم ينج مِنْهُمْ ثَمَّ غير عصائب
وغودر أهل الصبر صرعى فأصبحوا ... تعاورهم ريح الصبا والجنائب
فاضحى الخزاعي الرئيس مجدلا ... كأن لم يقاتل مرة ويحارب
وراس بنى شمخ وفارس قومه ... شنوءه والتيمي هادي الكتائب
وعمرو بن بشر والوليد وخالد ... وزَيْد بن بكر والحليس بن غالب
وضارب من همدان كل مشيع ... إذا شد لم ينكل كريم المكاسب
ومن كل قوم قَدْ أصيب زعيمهم ... وذو حسب فِي ذروة المجد ثاقب
أبوا غير ضرب يفلق الهام وقعه ... وطعن بأطراف الأسنة صائب
وإن سعيدا يوم يدمر عامرا ... لأشجع من ليث بدرنى مواثب
فيا خير جيش للعراق وأهله ... سقيتم روايا كل أسحم ساكب
فلا يبعدَنْ فرساننا وحماتنا ... إذا البيض أبدت عن خدام الكواعب
فإن يقتلوا فالقتل أكرم ميتة ... وكل فتى يَوْمًا لإحدى الشواعب
وما قتلوا حَتَّى أثاروا عصابة ... محلين ثورا كالليوث الضوارب
وقتل سُلَيْمَان بن صرد ومن قتل مَعَهُ بعين الوردة من التوابين في شهر ربيع الآخر

(5/609)


ذكر الخبر عن بيعه عبد الملك وعبد العزيز ابنى مروان
وفي هَذِهِ السنة أمر مَرْوَان بن الحكم أهل الشام بالبيعة من بعده لابنيه عَبْد الْمَلِكِ وعبد العزيز، وجعلهما ولي العهد.
ذكر الخبر عن سبب عقد مروان ذلك لها:
قَالَ هِشَام، عن عوانة قَالَ: لما هزم عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ الأشدق مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ حين وجهه أخوه عَبْد اللَّهِ إِلَى فلسطين وانصرف راجعا إِلَى مَرْوَان، ومروان يَوْمَئِذٍ بدمشق، قَدْ غلب عَلَى الشام كلها ومصر، وبلغ مَرْوَان أن عمرا يقول: إن هَذَا الأمر لي من بعد مَرْوَان، ويدعي أنه قَدْ كَانَ وعده وعدا، فدعا مَرْوَان حسان بن مالك بن بحدل فأخبره أنه يريد أن يبايع لعبد الملك وعبد العزيز ابنيه من بعده، واخبره بما بلغه عن عَمْرو بن سَعِيدٍ، فَقَالَ: أنا أكفيك عمرا، فلما اجتمع الناس عِنْدَ مَرْوَان عشيا قام ابن بحدل فَقَالَ: إنه قَدْ بلغنا أن رجالا يتمنون أماني، قوموا فبايعوا لعبد الملك ولعبد العزيز من بعده، فقام الناس، فبايعوا من عند آخرهم
. ذكر الخبر عن موت مروان بن الحكم
وفي هَذِهِ السنة مات مَرْوَان بن الحكم بدمشق مستهل شهر رمضان.
ذكر الخبر عن سبب هلاكه:
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بن يَعْقُوب، عن أبي الحويرث، قال: لما حضرت معاويه ابن يَزِيدَ أبا لَيْلَى الوفاة، أبى أن يستخلف أحدا، وَكَانَ حسان بن مالك بن بحدل يريد أن يجعل الأمر بعد مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ لأخيه خَالِد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة، وَكَانَ صغيرا، وَهُوَ خال أَبِيهِ يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فبايع لمروان، وَهُوَ يريد أن يجعل الأمر بعده لخالد بن يَزِيدَ، فلما بايع لمروان وبايعه مَعَهُ أهل الشام قيل لمروان: تزوج أم خَالِد- وأمه أم خَالِد ابنة أبي هِشَام بن عتبة حَتَّى تصغر

(5/610)


شأنه، فلا يطلب الخلافة، فتزوجها، فدخل خَالِد يَوْمًا عَلَى مَرْوَان وعنده جماعة كثيرة، وَهُوَ يمشي بين الصفين، فَقَالَ: إنه وَاللَّهِ مَا علمت لاحمق، تعال يا بن الرطبة الاست- يقصر بِهِ ليسقطه من أعين أهل الشام- فرجع إِلَى أمه فأخبرها، فَقَالَتْ لَهُ أمه: لا يعرفن ذَلِكَ مِنْكَ، واسكت فإني أكفيكه، فدخل عَلَيْهَا مَرْوَان، فَقَالَ لها: هل قَالَ لك خَالِد فِيّ شَيْئًا؟
فَقَالَتْ: وخالد يقول فيك شَيْئًا! خَالِد أشد لك إعظاما من أن يقول فيك شَيْئًا، فصدقها، ثُمَّ مكثت أياما، ثُمَّ إن مَرْوَان نام عندها، فغطته بالوسادة حَتَّى قتلته.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَكَانَ هلاك مَرْوَان فِي شهر رمضان بدمشق، وَهُوَ ابن ثلاث وستين سنة فِي قول الْوَاقِدِيّ، وأما هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي فإنه قَالَ:
كَانَ يوم هلك ابن إحدى وستين سنة، وقيل: توفي وَهُوَ ابن إحدى وسبعين سنة، وقيل: ابن إحدى وثمانين سنة، وَكَانَ يكنى أبا عَبْد الْمَلِكِ، وَهُوَ مَرْوَان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمه آمنة بنت عَلْقَمَة ابن صفوان بن أُمَيَّة الكناني، وعاش بعد أن بويع لَهُ بالخلافة تسعة أشهر، وقيل: عاش بعد أن بويع لَهُ بالخلافة عشرة أشهر إلا ثلاث ليال، وَكَانَ قبل هلاكه قَدْ بعث بعثين: أحدهما إِلَى الْمَدِينَة، عَلَيْهِم حبيش بن دلجة القيني، والآخر منهما إِلَى العراق، عليهم عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فأما عُبَيْد الله ابن زياد فسار حَتَّى نزل الجزيرة، فأتاه الخبر بِهَا بموت مَرْوَان، وخرج إِلَيْهِ التوابون من أهل الْكُوفَة طالبين بدم الْحُسَيْن، فكان من أمرهم مَا قَدْ مضى ذكره، وسنذكر إِنْ شَاءَ اللَّهُ باقي خبره إِلَى أن قتل
. ذكر خبر مقتل حبيش بن دلجه
وفي هَذِهِ السنة قتل حبيش بن دلجة وأما حبيش بن دلجة، فإنه سار حَتَّى انتهى- فِيمَا ذكر عن هِشَام، عن عوانة بن الحكم- الى المدينة، وعليهم جابر ابن الأَسْوَدِ بْنِ عوف، ابن أخي عبد الرَّحْمَن بن عوف، من قبل عَبْد اللَّهِ بن

(5/611)


الزُّبَيْرِ، فهرب جابر من حبيش ثُمَّ إن الْحَارِث بن أَبِي رَبِيعَةَ- وَهُوَ أخو عُمَر بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ- وجه جيشا مِنَ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ قَدْ ولاه الْبَصْرَة، عَلَيْهِم الحنيف بن السجف التميمى لحرب حبيش ابن دلجه، فلما سمع حبيش بن دلجه سار إِلَيْهِم مِنَ الْمَدِينَةِ، وسرح عَبْد اللَّهِ ابن الزُّبَيْرِ عباس بن سَهْل بن سَعْد الأَنْصَارِيّ عَلَى الْمَدِينَة، وأمره أن يسير فِي طلب حبيش بن دلجة حَتَّى يوافي الجند من أهل الْبَصْرَة الَّذِينَ جاءوا ينصرون ابن الزُّبَيْر، عليهم الحنيف، واقبل عباس فِي آثارهم مسرعا حَتَّى لحقهم بالربذة، وَقَدْ قَالَ أَصْحَاب ابن دلجة لَهُ: دعهم، لا تعجل إِلَى قتالهم، فَقَالَ: لا أنزل حَتَّى آكل من مقندهم، - يعني السويق الَّذِي فِيهِ القند- فجاءه سهم غرب فقتله، وقتل مَعَهُ المنذر بن قيس الجذامى، وابو عتاب مولى أبي سُفْيَان، وَكَانَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ يُوسُف بن الحكم، والحجاج بن يُوسُفَ، وما نجوا يَوْمَئِذٍ إلا عَلَى جمل واحد، وتحرز مِنْهُمْ نحو من خمسمائة في عمود المدينة، فقال لهم عباس: انزلوا عَلَى حكمي، فنزلوا عَلَى حكمه فضرب أعناقهم، ورجع فل حبيش إِلَى الشام.
حَدَّثَنِي أحمد بن زهير، عن علي بن محمد انه قال: الذى قتل حبيش ابن دلجة يوم الرَّبَذَة يَزِيد بن سياه الأسواري، رماه بنشابة فقتله، فلما دخلوا الْمَدِينَة وقف يَزِيد بن سياه عَلَى برذون أشهب وعليه ثياب بياض، فما لبث أن اسودت ثيابه، ورايته مما مسح الناس بِهِ ومما صبوا عليه من الطيب

ذكر خبر حدوث الطاعون الجارف
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وقع بِالْبَصْرَةِ الطاعون الَّذِي يقال لَهُ الطاعون الجارف، فهلك بِهِ خلق كثير من أهل الْبَصْرَة.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن جرير، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عن المُصْعَب بن زَيْد، ان الجارف وقع وعبيد الله بن

(5/612)


معمر عَلَى الْبَصْرَة، فماتت أمه فِي الجارف، فما وجدوا لها من يحملها حَتَّى استأجروا لها أربعة علوج فحملوها إِلَى حفرتها وَهُوَ الأمير يومئذ