تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
. ذكر خبر موت
محمد بن عبد الله بن طاهر
وليلة أربع عشرة من ذي القعدة منها، انخسف القمر، فغرق كله أو غاب
أكثره، ومات محمد بن عبد الله بن طاهر مع انتهاء خسوفه- فيما ذكر-
وكانت علته التي مات فيها قروحا أصابته في حلقه ورأسه فذبحته وذكر أن
القروح التي كانت في حلقه ورأسه كانت تدخل فيها الفتائل، فلما مات
تنازع الصلاة عليه أخوه عبيد الله وابنه طاهر، فصلى عليه ابنه وكان
أوصى بذلك- فيما قيل ثم وقع بين عبيد الله بن عبد الله أخي محمد بن عبد
الله وبين حشم محمد بن عبد الله تنازع حتى سلوا السيوف عليه، ورمي
بالحجارة، ومالت الغوغاء والعامة وموالي إسحاق بن إبراهيم مع طاهر بن
محمد بن عبد الله بن طاهر، ثم صاحوا: طاهر يا منصور، فعبر عبيد الله
إلى ناحية الشرقية إلى داره،
(9/376)
ومال معه القواد لاستخلاف محمد بن عبد الله
كان إياه على أعماله ووصيته بذلك، وكتابه بذلك إلى عماله، ثم وجه
المعتز الخلع وولاية بغداد إلى عبيد الله، وأمر عبيد الله للذي أتاه
بالخلع من قبل المعتز فيما قيل بخمسين ألف درهم.
نسخة الكتاب الذي كتبه محمد بن عبد الله إلى عماله باستخلافه أخاه عبيد
الله بعده:
أما بعد فإن الله عز وجل جعل الموت حتما مقضيا جاريا على الباقين من
خلقه، حسبما جرى على الماضين، وحقيق على من أعطي حظا من توفيق الله، أن
يكون على استعداد لحلول ما لا بد منه ولا محيص عنه في كل الأحوال.
وكتابي هذا وأنا في علة قد اشتد الإشفاق منها، وكاد الإياس يغلب على
الرجاء فيها، فإن يبل الله ويدفع فبقدرته وكريم عادته، وإن يحدث بي
الحدث الذي هو سبيل الأولين والآخرين، فقد استخلفت عبيد الله بن عبد
الله مولى أمير المؤمنين أخي الموثوق باقتفائه أثري، وأخذه بسد ما أنا
بسبيله من سلطان أمير المؤمنين إلى أن يأتيه من أمره ما يعمل بحسبه،
فاعلم ذلك وائتمر فيما تتولاه بما يرد به كتب عبيد الله وأمره إن شاء
الله.
وكتب يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذي القعده سنه ثلاث وخمسين ومائتين.
[أخبار متفرقة]
وفيها نفى المعتز أبا أحمد بن المتوكل إلى واسط، ثم إلى البصرة، ثم رد
إلى بغداد، وأنزل إلى الجانب الشرقي في قصر دينار بن عبد الله.
وفيها نفي أيضا علي بن المعتصم إلى واسط ثم رد إلى بغداد فيها.
وفيها مات مزاحم بن خاقان بمصر في ذي الحجة.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن محمد بن سليمان
الزينبي.
وفيها غزا محمد بن معاذ بالمسلمين في ذي القعدة من ناحية ملطية، فهزموا
وأسر محمد بن معاذ
(9/377)
وفيها التقى موسى بن بغا والكوكبي الطالبي
على فرسخ من قزوين يوم الاثنين سلخ ذي القعد منها، فهزم موسى الكوكبي،
فلحق بالديلم، ودخل موسى بن بغا قزوين.
وذكر لي بعض من شهد الوقعة، أن أصحاب الكوكبي من الديلم لما التقوا
بموسى وأصحابه صفوا صفوفا، وأقاموا ترستهم في وجوههم يتقون بذلك سهام
أصحاب موسى، فلما رأى موسى أن سهام أصحابه لا تصل إليهم مع ما قد
فعلوا، أمر بما معه من النفط أن يصب في الأرض التي التقى هو وهم فيها،
ثم أمر أصحابه بالاستطراد لهم، وإظهار هزيمة منهم، ففعل ذلك أصحابه،
فلما فعلوا ذلك ظن الكوكبي وأصحابه أنهم انهزموا، فتبعوهم فلما علم
موسى أن أصحاب الكوكبي قد توسطوا النفط امر بالنار فاشعلت فيه، فأخذت
فيه النار، وخرجت من تحت أصحاب الكوكبي، فجعلت تحرقهم، وهرب الآخرون
وكان هزيمة القوم عند ذلك ودخول موسى قزوين وفيها لقي خطارمش مساور
الشاري بناحية جلولاء في ذي الحجة، فهزمه مساور.
(9/378)
ثم دخلت
سنة أربع وخمسين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من مقتل بغا
الشرابي.
ذكر الخبر عن سبب مقتله:
ذكر خبر مقتل بغا الشرابي
ذكر أن السبب في ذلك كان أنه كان يحض المعتز على المصير إلى بغداد،
والمعتز يأبى ذلك عليه ثم إن بغا اشتغل مع صالح بن وصيف في خاصته بعرس
جمعة بنت بغا، كان صالح بن وصيف تزوجها للنصف من ذي القعدة، فركب
المعتز ليلا، ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سامرا يريد بايكباك ومن كان
معه على مثل ما هو عليه من انحرافه عن بغا وكان سبب انحرافه عنه- فيما
ذكر- أنهما كانا في شراب لهما يشربانه، فعربد أحدهما على صاحبه،
فتهاجرا لذلك، وكان بايكباك بسبب ذلك هاربا من بغا مستخفيا منه، فلما
وافى المعتز بمن معه الكرخ اجتمع مع بايكباك أهل الكرخ وأهل الدور، ثم
أقبلوا مع المعتز إلى الجوسق بسامرا، وبلغ ذلك بغا، فخرج في غلمانه وهم
زهاء خمسمائة ومثلهم من ولده وأصحابه وقواده، وصار إلى نهر نيزك، ثم
انتقل إلى مواضع، ثم صار إلى السن، ومعه من العين تسع عشرة بدرة دنانير
ومائة بدرة دراهم، أخذها من بيت ماله وبيوت أموال السلطان، فأنفق منها
شيئا يسيرا حتى قتل.
وذكر أنه لما بلغه أن المعتز قد صار إلى موضع الكرخ مع أحمد بن إسرائيل
خرج في خاصة قواده حتى صار إلى تل عكبراء، ثم مضى فصار إلى السن، فشكا
أصحابه بعضهم إلى بعض ما هم فيه من العسف، وأنهم
(9/379)
لم يخرجوا معهم بمضارب، ولا ما يتدفئون به
من البرد، وأنهم في شتاء وكان بغا في مضرب له صغير على دجلة، كان يكون
فيه، فأتاه ساتكين، فقال: أصلح الله الأمير! قد تكلم أهل العسكر،
وخاضوا في كذا وأنا رسولهم إليك، فقال: كلهم يقول مثل قولك؟ قال: نعم،
وإن شئت فابعث إليهم حتى يقولوا مثل قولي، قال: دعني الليلة حتى أنظر،
ويخرج إليكم أمري بالغداة، فلما جن عليه الليل دعا بزورق، فركبه مع
خادمين معه، وحمل معه شيئا من المال، ولم يحمل معه سلاحا ولا سكينا ولا
عمودا، ولا يعلم أهل عسكره بذلك من أمره، والمعتز في غيبة بغا لا ينام
إلا في ثيابه، وعليه السلاح، ولا يشرب نبيذا، وجميع جواريه على رجل
فصار بغا إلى الجسر في الثلث الأول من الليل، فلما قارب الزورق الجسر
بعث الموكلون به من في الزورق، فصاح بالغلام، فرجع إليهم وخرج بغا في
البستان الخاقاني، فلحقه عدة منهم، فوقف لهم وقال: أنا بغا ولحقه وليد
المغربي، فقال له: ما لك جعلت فداك! فقال: إما أن تذهب بي إلى منزل
صالح بن وصيف، وإما أن تصيروا معي إلى منزلي، حتى أحسن إليكم فوكل به
وليد المغربي، ومر يركض إلى الجوسق، فاستأذن على المعتز، فأذن له،
فقال: يا سيدي هذا بغا قد أخذته ووكلت به، قال: ويلك! جئني برأسه، فرجع
وليد، فقال للموكلين به: تنحوا عنه حتى أبلغه الرسالة، فتنحوا عنه،
فضربه ضربة على جبهته ورأسه، ثم تناهى على يديه فقطعهما، ثم ضربه حتى
صرعه وذبحه، وحمل رأسه في بركة قبائه، وأتى به المعتز، فوهب له عشرة
آلاف دينار، وخلع عليه خلعة، ونصب رأسه بسامرا، ثم ببغداد، ووثبت
المغاربة على جثته، فأحرقوه بالنار، وبعث المعتز من ساعته إلى أحمد بن
إسرائيل والحسن بن مخلد وأبي نوح، فأحضرهم وأخبرهم، وتتبع عبيد الله بن
طاهر بنيه ببغداد، وكانوا صاروا إليها هرابا مع قوم يثقون بهم، فاستتر
ما عندهم
(9/380)
فذكر أنه حبس في قصر الذهب من ولده
وأصحابه، خمسة عشر إنسانا، وفي المطبق عشرة.
وقيل: إن بغا لما انحدر إلى سامرا ليلة أخذ شاور أصحابه في الانحدار
إليها مكتتما، فيصير إلى منزل صالح بن وصيف، وإذا قرب العيد دخل أهل
العسكر، وخرج هو وصالح بن وصيف وأصحابه، فوثبوا بالمغاربه، فوثبوا
بالمعتز.
[أخبار متفرقة]
وفيها عقد صالح بن وصيف لديوداد على ديار مضر وقنسرين والعواصم فوثبوا
بالمعتز في ربيع الأول منها.
وفيها عقد بايكباك لأحمد بن طولون على مصر.
وفيها أوقع مفلح وباجور بأهل قم، فقتلا منهم مقتلة عظيمة، وذلك في شهر
ربيع الأول منها.
وفيها مات علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا يوم الاثنين لأربع بقين من
جمادى الآخرة، وصلى عليه أبو أحمد بن المتوكل في الشارع المنسوب إلى
أبي أحمد، ودفن في داره.
وفيها في جمادى الآخرة وافى الأهواز دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف
بتوجيه والده عبد العزيز إياه إليها وجندي سابور وتستر، فجباها مائتي
ألف دينار ثم انصرف.
وفي شهر رمضان منها شخص نوشري إلى مساور الشاري فلقيه وهزمه، وقتل من
أصحابه جماعة كثيرة.
وحج بالناس في هذه السنة علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد.
(9/381)
ثم دخلت
سنة خمس وخمسين ومائتين
ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
فمن ذلك ما كان من دخول مفلح طبرستان ووقعة كانت بينه وبين الحسن بن
زيد الطالبي، هزم فيها مفلح الحسن بن زيد، فلحق بالديلم، ثم دخل مفلح
آمل، وأحرق منازل الحسن بن زيد، ثم توجه نحو الديلم في طلب الحسن بن
زيد
. ذكر خبر استيلاء يعقوب بن الليث على
كرمان
وفيها كانت وقعة بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلس خارج كرمان أسر
فيها يعقوب طوقا، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن علي بن الحسين بن
قريش بن شبل كتب إلى السلطان يخطب كرمان- وكان قبل من عمال آل طاهر-
وكتب يذكر ضعف آل طاهر وقلة ضبطهم، بما إليهم من البلاد، وأن يعقوب بن
الليث قد غلبهم على سجستان، وتباطأ على السلطان بتوجيه خراج فارس، فكتب
السلطان إليه بولاية كرمان، وكتب إلى يعقوب بولايتها يلتمس بذلك إغراء
كل واحد منهما بصاحبه ليسقط مؤنة الهالك منهما عنه ويتفرد بمؤونه
الآخر، إذ كان كل واحد منهما عنده حربا له وفي غير طاعته، فلما فعل ذلك
بهما زحف يعقوب بن الليث من سجستان يريد كرمان، ووجه علي بن الحسين طوق
بن المغلس وقد بلغه خبر يعقوب وقصده كرمان في جيش عظيم من فارس، فصار
طوق بكرمان، وسبق يعقوب إليها فدخلها، وأقبل يعقوب من سجستان، فصار من
كرمان على مرحلة.
فحدثني من ذكر أنه كان شاهدا أمرهما، أن يعقوب بقي مقيما في
(9/382)
الموضع الذي أقام به من كرمان على مرحلة لا
يرتحل عنه شهرا أو شهرين، يتجسس أخبار طوق، ويسأل عن أمره كل من مر به
خارجا من كرمان إلى ناحيته، ولا يدع أحدا يجوز عسكره من ناحيته إلى
كرمان، ولا يزحف طوق إليه ولا هو إلى طوق فلما طال ذلك من أمرهما كذلك
أظهر يعقوب الارتحال عن معسكره إلى ناحية سجستان، فارتحل عنه مرحلة.
وبلغ طوقا ارتحاله، فظن أنه قد بدا له في حربه، وترك عليه كرمان وعلى
علي بن الحسين، فوضع آلة الحرب، وقعد للشرب، ودعا بالملاهي، ويعقوب في
كل ذلك لا يغفل عن البحث عن أخباره فاتصل به ووضع طوق آلة الحرب
وإقباله على الشراب واللهو بارتحاله، فكر راجعا، فطوى المرحلتين إليه
في يوم واحد، فلم يشعر طوق وهو في لهوه وشربه في آخر نهاره إلا بغبرة
قد ارتفعت من خارج المدينة التي هو فيها من كرمان، فقال لأهل القرية:
ما هذه الغبرة؟ فقيل له: غبرة مواشي أهل القرية منصرفة إلى أهلها، ثم
لم يكن الا كلا ولا، حتى وفاه يعقوب في أصحابه، فأحاط به وبأصحابه،
فذهب أصحاب طوق لما أحيط بهم يريدون المدافعة عن أنفسهم، فقال يعقوب
لأصحابه: أفرجوا للقوم، فأفرجوا لهم، فمروا هاربين على وجوههم، وخلوا
كل شيء لهم مما كان معهم في معسكرهم، وأسر يعقوب طوقا.
فحدثني ابن حماد البربري أن علي بن الحسين لما وجه طوقا حمله صناديق في
بعضها اطواقه وأسورة ليطوق ويسور من أبلى معه من أصحابه، وفي بعضها
أموال ليجيز من استحق الجائزة منهم، وفي بعضها قيود وأغلال ليقيد بها
من أخذ من أصحاب يعقوب، فلما أسر يعقوب طوقا ورؤساء الجيش الذين كانوا
معه أمر بحيازة كل ما كان مع طوق وأصحابه من المال والأثاث والكراع
والسلاح، فحيز ذلك كله، وجمع إليه، فلما أتي بالصناديق أتي بها مقفله،
(9/383)
فأمر ببعضها أن يفتح، ففتح فإذا فيه القيود والأغلال، فقال لطوق: يا
طوق، ما هذه القيود والأغلال؟ قال: حملنيها علي بن الحسين لأقيد بها
الأسرى وأغلهم بها، فقال: يا فلان، انظر أكبرها وأثقلها فاجعله في رجلي
طوق وغله بغل ثم جعل يفعل مثل ذلك بمن أسر من أصحاب طوق قال:
ثم أمر بصناديق أخر ففتحت، فإذا فيها أطوقة وأسورة، فقال: يا طوق.
ما هذه؟ قال: حملنيها علي لأطوق بها وأسور أهل البلاء من أصحابي، قال:
يا فلان، خذ من ذلك طوق كذا وسوار كذا، فطوق فلانا وسوره، ثم جعل يفعل
ذلك بأصحاب نفسه حتى طوقهم وسورهم، ثم جعل يفعل كذلك بالصناديق قال:
ولما أمر يعقوب بمديد طوق ليضعها في الغل، إذا على ذراعه عصابة، فقال
له: ما هذا يا طوق؟ قال: أصلح الله الأمير! إني وجدت حرارة ففضدتها،
فدعا بعض من معه فامر بمد خفه من رجله ففعل ذلك، فلما نزعه من رجله
تناثر من خفه كسر خبز يابسة فقال: يا طوق هذا خفي لم أنزعه من رجلي منذ
شهرين، وخبزي في خفي منه آكل لا أطأ فراشا، وأنت جالس في الشرب
والملاهي! بهذا التدبير أردت حربي وقتالي! فلما فرغ يعقوب بن الليث من
أمر طوق دخل كرمان وحازها وصارت مع سجستان من عمله. |