تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

سنه تسع وثلاثمائة
قرئت الكتب على المنابر بهزيمه المغربي، واستباحه عسكره ولقب مؤنس بالمظفر.
وخلع على محمد بن نصر الحاجب، وقلد اعمال المعاون بالموصل، وعقد له لواء وخرج الى هناك.
وهدمت دار على بن الجهشيار ببغداد في عرصة باب الطاق، وكان هذا الباب علما ببغداد في الحسن والعلو وبنى موضعه مستغل.
وعقد لمؤنس المظفر على مصر والشام وخلع على ابى الهيجاء بن حمدان، وقلد اعمال المعاون بالكوفه وطريق مكة.
وكبس سبعه من اللصوص دار ابن ابى عيسى الصيرفى، وأخذوا منه ثلاثين الف دينار، ثم عرفوا بعد ايام، فقتلوا، واسترد منهم نيفا وعشرين ألفا.
وفي شوال دخل مؤنس المظفر بغداد قادما من مصر، فتلقاه الأمير ابو العباس ابن المقتدر، وخلع عليه، وطوق وسور على مائه واثنى عشر قائدا من قواده.
وانفذ الى ابن ملاحظ عقد على اليمن وخلع ودعا المقتدر في يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة مؤنسا المظفر ونصرا الحاجب، وخلع على مؤنس خلع منادمه وسال في امر الليث بن على وطاهر بن محمد ابن عمرو بن الليث، ويوسف بن ابى الساج فوهبوا له.
وفي هذه السنه اهدى الوزير حامد بن العباس الى المقتدر البستان المعروف بالناعوره، انفق على بنائه مائه الف دينار، وفرشه باللبود الخراسانيه.

(11/218)


وبلغت زياده دجلة في نيسان ثمانية عشر ذراعا.
وانتهى الى حامد بن العباس امر الحسين بن منصور الحلاج، وانه قدموه على جماعه من الخدم والحشم والحجاب، وعلى خدم نصر، وانهم يذكرون عنه انه يحيى الموتى، وان الجن تخدمه واحضر السمري الكاتب ورجل هاشمي، مع جماعه من اصحاب الحلاج، واعترفوا بان الحلاج يدعى النبوه، وانهم صدقوه، وكذبهم الحلاج وقال: انما انا رجل اكثر الصلاة والصوم وفعل الخير واستحضر حامد ابن العباس القاضى أبا جعفر بن البهلول، فاستفتاهما في امره، فذكرا انهما لا يفتيان في امره بشيء، ولا يجوز ان يقبل قول من واجهه بما واجهه الا ببينه او باقرار منه، وتقرب الى الله تعالى بكشف امره رجل يعرف بدباس تبع الحلاج ثم فارقه، والحلاج مقيم عند نصر القشورى مكرم هناك ودافع عنه نصر أشد مدافعه، وكان يعتقد فيه اجمل اعتقاد فتكلم على بن عيسى، فقال له الحلاج فيما بينه وبينه: قف حيث انتهيت، والا قلبت الارض عليك، فعزم حينئذ على بن عيسى على مناظرته.
وحضرت بنت السمري، فذكرت ان أباها أهداها الى سليمان بن الحلاج وهو بنيسابور، وكانت امراه حسنه الوجه، عذبه الكلام جيده الألفاظ، وقال لها الحلاج: متى انكرت من ابنى شيئا فصومي يوما، واقعدى في آخره على سطحك، وافطرى على ملح ورماد، واستقبلي واذكرى ما كرهت منه، فانى اسمع وارى وحكت ان ابنه الحلاج أمرتها بالسجود له، وقالت: هذا اله الارض، واكثرت في الاخبار عنه بما شاكل ذلك.
وحكى حامد انه قبض على الحلاج بدور الراسبى فادعى تاره الصلاح، وادعى اخرى انه المهدى، ثم قال له: كيف صرت الاها بعد هذا! وكان السمري في جمله من قبض عليه من اصحابه، فقال له حامد: ما الذى

(11/219)


حداك على تصديقه؟ قال: خرجت معه الى اصطخر في الشتاء، فعرفته محبتي للخيار، فضرب يده الى سفح جبل، فاخرج من الثلج خياره خضراء، فدفعها الى، فقال حامد: افأكلتها؟ قال: نعم، قال: كذبت يا بن الف زانية في مائه الف زانية، أوجعوا فكه، فضربه الغلمان وهو يصيح: من هذا خفنا.
وحدث حامد، انه شاهد ممن يدعى النيرنجيات انه كان يخرج الفاكهة.
وإذا حصلت في يد الإنسان صارت بعرا.
ومن جمله من قبض عليه انسان هاشمي كان يكنى بابى بكر، فكناه الحلاج، بابى مغيث حيث كان يمرض اصحابه ويراعيهم وقبض على محمد بن على بن القنائى، وأخذ من داره سفط مختوم فيه قوارير، فيها بول الحلاج ورجيعه، اخذه ليستشفى به.
وكان الحلاج إذا حضر، لا يزيد على قوله: لا اله الا أنت، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي، فانه لا يغفر الذنوب الا أنت.
وظفر من كتب الحلاج بكتاب فيه: إذا اراد الإنسان الحج، فليفرد بيتا في داره طاهرا ويطوف به سبعا، ويجمع ثلاثين يتيما، ويعمل لهم ما يمكنه من الطعام، ويخدمهم بنفسه ويكسوهم، ويدفع الى كل واحد سبعه دراهم، فان ذلك يقوم مقام الحج.
فالتفت القاضى ابو عمر الى الحلاج وقال: من اين لك هذا؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصرى، فقال ابو عمر: كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا بكتاب الإخلاص بمكة، ما فيه ما ذكرت فقال حامد لأبي عمر: اكتب هذا.
فتشاغل عنه بكلام الحلاج، واقبل حامد يطالب أبا عمر بالكتاب وهو متشاغل بالخطاب، حتى قدم الدواة من بين يديه الى ابى عمر، والح عليه إلحاحا لم يمكنه الدفع، فكتب بإحلال دمه وكتب من حضر المجلس، ولما تبين الحلاج الصورة قال:
ظهري حمى ودمى حرام، وما يحل لكم ان تهتكوا منى ما لم يبحه الاسلام، وكتبي موجوده في الوراقين، على مذهب اهل السنه

(11/220)


وانفذ حامد بالفتيا والمحضر الى المقتدر، فلم يخرج جوابهما، فلم يجد بدا من نصره نفسه، فكتب الى المقتدر: إذا اهمل امر الحلاج بعد إفتاء الفقهاء بإباحة دمه، افتتن الناس به فوقع المقتدر: إذا افتى الفقهاء بقتله، فادفعه الى محمد ابن عبد الصمد، صاحب الشرطه، ومره ان يضربه الف سوط، فان تلف وإلا ضرب عنقه والحلاج يستطلع الى الاخبار، فلما اخبر ان ابن عبد الصمد عند الوزير قال: هلكنا والله.
واخرج يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعده الى رحبه الجسر، وقد اجتمع من العامه امم كثيره، فضرب الف سوط، فما تاوه ولا استعفى، وقطعت يداه ورجلاه، وحز راسه، واحرقت جثته، ونصب راسه يومين على الجسر، وحمل الى خراسان، فطيف به.
وزادت دجلة زياده عظيمه، فادعى اصحابه ان ذلك لأجل ما القى فيها من رماد جثته.
وادعى قوم من اصحابه، انهم راوه راكبا حمارا في طريق النهروان وقال لهم:
انما حولت دابه في صورتي، ولست المقتول كما ظن هؤلاء البقر.
وكان نصر الحاجب يقول: انما قتل ظلما.
ومن شعر الحلاج:
وما وجدت لقلبي راحه ابدا ... وكيف ذاك وقد هيئت للكدر
لقد ركبت على التغرير وا عجبا ... ممن يريد النجا في المسلك الخطر
كأنني بين امواج تقلبني ... مقلب بين اصعاد ومنحدر
الحزن في مهجتي والنار في كبدي ... والدمع يشهد لي فاستشهدوا بصرى
ومن شعره:
الكاس سهل لي الشكوى فبحت بكم ... وما على الكاس من شرابها درك
هبنى ادعيت بانى مدنف سقم ... فما لمضجع جنبي كله حسك
هجر يسوء ووصل لا اسر به ... مالي يدور بما لا اشتهى الفلك
فكلما زاد دمعي زادني قلقا ... كأنني شمعه تبكى فتنسبك

(11/221)


ومن شعره:
النفس بالشيء الممنع مولعه ... والحادثات أصولها متفرعه
والنفس للشيء البعيد مريده ... والنفس للشيء القريب مضيعه
كل يحاول حيله يرجو بها ... دفع المضرة واجتلاب المنفعه
وله:
كل بلاء على منى ... فليتني قد أخذت عنى
اردت منى اختبار سرى ... وقد علمت المراد منى
وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرنى
وفي الصوفية من يدعى ان الحلاج كوشف حتى عرف السر، وعرف سر السر، وقد ادعى ذلك لنفسه في قوله:
مواجيد اهل الحق تصدق عن وجدي ... واسرار اهل السر مكشوفة عندي
وله:
الله يعلم ما في النفس جارحه ... الا وذكرك فيها نيل ما فيها
ولا تنفست الا كنت في نفسي ... تجرى بك الروح منى في مجاريها
ان كانت العين مذ فارقتها نظرت ... الى سواك فخانتها مآقيها
او كانت النفس بعد البعد آلفه ... خلقا عداك فلا نالت أمانيها
وحكى انه قال: الهى، انك تتودد الى من يؤذيك، فكيف لا تتودد الى من يؤذى فيك! وانشد:
نظري بدء علتي ... ويح قلبي وما جنى
يا معين الضنى على ... اعنى على الضنى
وكان ابن نصر القشورى قد مرض، فوصف له الطبيب تفاحه فلم توجد، فأومأ الحلاج بيده الى الهواء، واعطاهم تفاحه، فعجبوا من ذلك، وقالوا: من اين لك هذه؟ قال: من الجنه، فقال له بعض من حضر: ان فاكهة الجنه غير متغيره، وهذه فيها دوده، قال: لأنها خرجت من دار البقاء الى دار الفناء، فحل بها جزء من البلاء فاستحسنوا جوابه اكثر من فعله.
ويحكون ان الشبلى دخل اليه الى السجن، فوجده جالسا يخط في التراب،

(11/222)


فجلس بين يديه حتى ضجر، فرفع طرفه الى السماء وقال: الهى لكل حق حقيقة، ولكل خلق طريقه، ولكل عهد وثيقة، ثم قال: يا شبلي، من اخذه مولاه عن نفسه، ثم اوصله الى بساط انسه، كيف تراه! فقال الشبلى: وكيف ذاك؟ قال: يأخذه عن نفسه ثم يرده على قلبه، فهو عن نفسه مأخوذ، وعن قلبه مردود، فأخذه عن نفسه تعذيب، ورده الى قلبه تقريب، وطوبى لنفس كانت له طائعة، وشموس الحقيقة في قلوبها طالعه، ثم انشد:
طلعت شمس من احبك ليلا ... فاستضاءت فما لها من غروب
ان شمس النهار تطلع بالليل ... وشمس القلوب ليس تغيب
ويذكرون انه سمى الحلاج، لأنه اطلع على سر القلوب، وكان يخرج لب الكلام، كما يخرج الحلاج لب القطن، بالحلج.
وقيل: كان يفعل بواسط بدكان حلاج، فمضى الحلاج في حاجه ورجع فوجد القطن محلوجا مع كثرته، فسماه الحلاج.
وفي الصوفية من يقبله، ويقول: انه كان يعرف اسم الله الأعظم ومنهم من يرده، ويقول: كان مموها.
ويذكرون ان الشبلى انفذ اليه بفاطمه النيسابوريه، وقد قطعت يده، فقال لها: قولي له: ان الله ائتمنك على سر من اسراره، فاذعته، فاذاقك حر الحديد، فان أجابك فاحفظى جوابه، ثم سليه عن التصوف، ما هو؟ فلما جاءت أنشأ يقول:
تجاسرت فكاشفتك لما غلب الصبر ... وما احسن في مثلك ان ينهتك الستر
وان عنفنى الناس ... ففي وجهك لي عذر
كان البدر محتاج ... الى وجهك يا بدر
وهذا الشعر للحسين بن الضحاك الخليع الباهلى.
ثم قال لها: امضى الى ابى بكر وقولي له: يا شبلي، والله ما اذعت له سرا.
فقالت له: ما التصوف؟ فقال: ما انا فيه، والله ما فرقت بين نعمه وبلواه ساعه

(11/223)


قط فجاءت الى الشبلى، واعادت اليه، فقال: يا معشر الناس، الجواب الاول لكم، والثانى لي.
وذكروا انه لما قطعت يده ورجله صاح، وقال:
وحرمه الود الذى لم يكن ... يطمع في افساده الدهر
ما نالني عند هجوم البلا ... باس ولا مسنى الضر
ما قد لي عضو ولا مفصل ... الا وفيه لكم ذكر
وكتب بعض الصوفية على جذع الحلاج:
ليكن صدرك للاسرار ... حصنا لا يرام
انما ينطق بالسر ... ريفشيه اللئام.

(11/224)


سنه عشر وثلاثمائة
في المحرم، اطلق يوسف بن ابى الساج، وحمل اليه مال وخلع وحكى انه انزل في دار دينار، وانه انفذ الى مؤنس المظفر، يستدعى منه انفاذ ابى بكر ابن الادمى القاري، فتمنع ابو بكر وقال: اننى قرات بين يديه يوم شهر: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، ورايته يبكى، فاظنه حقد على ذلك، فقال له مؤنس لا تخف، فاننى شريكك في جائزته، فمضى اليه وجلا، فلما دخل عليه، وقد أفيضت عليه الخلع، والناس بحضرته والغلمان وقوف على راسه، قال لهم: هاتوا كرسيا لأبي بكر، فاتوه به، وقال: اقرا، فاستفتح وقرأ قوله تعالى:
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فقال: لا اريد هذا، بل اريد ان تقرا بين يدي ما كنت تقرؤه يوم شهرت فامتنع، ثم قرأ حين الزمه: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ فبكى ثم قال: هذه الآية كانت سببا لتوبتي من كل محظور، ولو أمكنني ترك خدمه السلطان لتركتها وامر له بمال جزيل وطيب كثير.
وحضر يوسف دار الخليفة بسواد، ووصل اليه، فقبل البساط وخلع عليه، وحمل على فرس بمركب ذهب، وذلك يوم الخميس ثامن المحرم، وجلس المقتدر يوم السبت، وعقد له على اعمال الصلاة والمعاون والخراج بالري والجبال واذربيجان، وزينت له دار السلطان يومئذ، فركب معه مؤنس ومفلح ونصر والقواد، واستكتب أبا عبد الله محمد بن خلف النيرمانى، وقرر ان يحمل الى السلطان في كل سنه خمسمائة الف دينار.
وخلع على طاهر ويعقوب ابنى محمد بن عمرو بن الليث الصفار، وعلى الليث

(11/225)


ابن على وابنه خلع الرضا.
وقدم أخ لنصر الحاجب من بلاد الروم واسلم، فخلع عليه.
وتوالت الفتوح على المسلمين برا وبحرا، فقرئت الكتب على المنابر لذلك.
وفي جمادى الاولى تقلد نازوك الشرطه ببغداد وعزل ابن عبد الصمد عنها.
واملك ابو عمر القاضى مسرورا المحفلى ببنت المظفر بن نصر الداعي، ومحمد بن ياقوت بابنه رائق الكبير، بحضره المقتدر وحكى انه خطب خطبه طويله تعجب الناس من حسنها، ولما فرغ منها، وقد حمى الحر وتعالى النهار، قيل له ضجر الخليفة بالجلوس، فخطب خطبه اوجزها بكلمتين، وعقد النكاح، فنهض المقتدر مبادرا لشدة الحر، ووقع فعل ابى عمر عنده الطف موقع، والتفت الى صاحب الديوان فقال: ينبغى ان يزاد ابو عمر في رزقه، واثنى عليه.
فعاد صاحب الديوان الى داره، فقال لمن حضره من خاصته: قد جرى لأبي عمر كل جميل من الخليفة، وقد تقدم بالزيادة في رزقه.
قال صاحب الحكاية، وكان ابو عمر رجلا صديقي، فدعتني نفسي الى التقرب بذلك اليه فجئته، فأنكر مجيئي في وقت خلوته، فحدثته بالحديث على شرحه، فدعا للخليفة وقال: لا عدمتك، فاستقللت شكره وانصرفت.
فولد لي فكرا معمى، بان في وجهه من التعجب منى، وندمت ندما شديدا، وقلت: سر السلطان أفشاه الى من هو احظى عندي من وزيره، ذكره الرجل لانسه بي، بادرت باخراجه ان راح ابو عمر وشكره فعلم انه من فعلى ما صورتي، فرجعت ودخلت بغير اذن، فلما وقع ناظره على قال: يا فلان، ولا حرف، فكانه فشكرته وانصرفت.
وفي جمادى الأخيرة، خلع على ابى الهيجاء بن حمدان، وطوق وسور

(11/226)


وانفذ الحسين بن احمد الماذرائى من مصر هديه وفيها بغله معها فلو، وغلام طويل اللسان يلحق طرفه انفه.
ودخل محمد بن نصر الحاجب، قادما من قاليقلا، في شهر رمضان وقد فتح عليه.
وفيه قبض على أم موسى القهرمانه، وأختها أم محمد، وأخيها ابى بكر احمد ابن العباس، لأنها زوجت بنت أخيها ابى بكر من ابى العباس بن محمد بن إسحاق ابن المتوكل على الله، وكانت له نعم عظيمه، وكان لعلى بن عيسى صديقا، واسرفت في الأموال التي نثرتها، والدعوات التي عملتها، حتى دعت اهل المملكة ثمانية عشر يوما، وقالت لها السيده: انك قد دبرت ان يصير صهرك خليفه، وسلمتها الى ثمل القهرمانه، وهي موصوفه بالشر، وكانت قهرمانه أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فاستخرجت منها الف الف دينار.
وبلغت زياده دجلة ثمانية عشر ذراعا ونصفا.
وورد الخبر انه انبثق بواسط سبعه عشر بثقا أكثرها الف ذراع، وأصغرها مائتا ذراع، وغرق من أمهات القرى الفان وثلاثمائة قريه.
وحج نصر الحاجب، فقلد ابن ملاحظ الحرمين، وصرف عنهما نزار بن محمد.

(11/227)


سنه احدى عشره وثلاثمائة
في صفر مات ابو النجم بدر الحمامي بشيراز، وكان يتولى اعمال الحرب والمعاون بفارس وكرمان، ودفن بشيراز، ثم نبش وحمل الى بغداد، واضطرب الجند لموته بفارس، فكتب على بن عيسى الى ابى عبد الله جعفر بن القاسم الكرخي بضبط تلك البلدان، فضبطها واستمال الجند.
وخلع على مؤنس المظفر، وعقد له على غزاه الصائفه وكان ابو الهيجاء ابن حمدان قد خلع عليه لولاية فارس وكرمان، ثم عدل عنه الى ابراهيم بن عبد الله المسمعي، فقلد ذاك.
وعقدت الكوفه وطريق مكة على ورقاء بن محمد.
وفي شهر ربيع الآخر، صرف حامد بن العباس عن الوزارة، وعلى بن عيسى عن الدواوين، وكانت وزارة حامد اربع سنين وعشره اشهر واربعه وعشرين يوما.
وكثرت عداوة الناس لحامد لاسقاطه لارزاقهم ونقصانهم، فكان ذلك سبب عزله.
وكان على بن عيسى يكتب ليطالب جهبذ الوزير: اسعده بكذا، فسقط بذلك.
وجرى بين مفلح وبين حامد مناكره، فقال حامد: صح عزمي على ابتياع مائه اسود اقودهم، واسمى كل واحد منهم مفلحا.
وكان المقتدر يستدعى ابن الفرات ويشاوره وهو محبوس.
واتفق انه انفذ الى المقتدر وساله ان يقرضه الف دينار باثنى عشر الف دينار، فأجابه الى ذلك حياء من رده، مع ما أخذ من أمواله فلما أخذ ابن الفرات المال،

(11/228)


جاء به الى المقتدر، فأفرغه بين يديه وقال: يا امير المؤمنين، ما تقول في رجل يسترزق في كل شهر هذا! فاستعظم المقتدر ذلك وقال: ومن الرجل؟ فقال: ابن الحوارى، هذا سوى ما يصله من المنافع، ويناله من الفوائد ورد ابن الفرات الدنانير، وسعى مفلح لتقليد ابن الفرات الوزارة، واعتقل على بن عيسى وسلم الى زيدان القهرمانه.
وخلع على ابن الفرات لتقليد الوزارة الثالثه، وعلى ابنه وأخيه، وجلسوا في دورهم، بسوق العطش للتهنئه، وسال ان يعاد الى داره بالمخرم، وكانت قد اقطعت للأمير ابى العباس، فاذن له المقتدر في ذلك وقبض ابن الفرات على جماعه من اسباب على بن عيسى، فيهم ابن مقله.
وأشير على ابن الحوارى بالاستتار، وقيل له: ان المقتدر لم يطو عنك وزارة ابن الفرات الا لتغير راى فيك، فقال: لا انكب نفسي، وستر حرمه.
ثم قبض ابن الفرات على ابن الحوارى، وقبض على صهره محمد بن خلف النيرمانى، وتوسط ابن قرابه حاله، فصادره على سبعمائة الف دينار، وصادر أبا الحسين ابن بسطام صهر حامد على مائتي الف دينار.
وشرط المقتدر على ابن الفرات، الا ينكب حامدا، وان يناظره على ما عليه، فناظره بمحضر الكتاب والقضاه، وقال المقتدر: انه خدمني ولم يأخذ رزقا، وشرط على الا اسلمه لمكروه، فاضطر ابن الفرات الى اقرار حامد على واسط، وكان يتأول عليه تاولا ديوانيا.
وكان حامد يطالب بما حبسه من النفقة على البثوق في ايام الخاقانى، وهي مائتان وخمسون الف دينار، فكانت تتأخر المطالبه جديده الضمان، ولأنه شرط انه يحسب ذلك من ماله، لا من مال السلطان.
فقلد ابن الفرات اعمال الصلح أبا العلاء محمد بن على البزوفري.
وقلد أبا سهل اسماعيل بن على النوبختى اعمال المبارك، وجعل الى كل واحد مطالبه حامد فاما ابو سهل فكان يخلط المطالبه برفق، وكان البزوفري يستعمل ضد ذلك، فكان حامد يقصده الى داره في رداء ونعل حذو، مع هيبة حامد

(11/229)


العظيمه ومنزلته الجسمية منذ ستين سنه فلم ينفع ذلك في البزوفري، بل زاد عليه انه ابتاع ضياعات سلطانيه بنواحي الجامدة في ايام الخاقانى بخمسمائة الف دينار، وابن الفرات يحمل البزوفري على ما يعتمده.
وكاتب ابن الفرات ان حامدا ممتنع من أداء ما عليه، مع ميل اهل البلد اليه، واحتواء يده على أربعمائة غلام لكل واحد منهم غلمان وسبعمائة رجل، فأجابه ابن الفرات ان المقتدر قد تقدم الى مفلح بالانحدار في جيش للقبض على حامد.
فأظهر البزوفري الكتاب قبل وصول القوم.
فحينئذ اصعد حامد في سائر جيشه وكتابه وغلمانه، وضربت البوقات يوم خروجه، وخروج اصحابه، بعضهم في الماء، وبعضهم على الطريق، ولم يقدر البزوفري على منعه، فكاتب على اجنحه الطيور بالحال، فانفذ المقتدر نازوك الى المدائن للقبض عليه فاخذ نازوك ما وجده له فاستتر حامد.
وجاء احد الجهابذه فتقرب الى المقتدر بمائه الف دينار لحامد عنده.
وارجف الناس ببغداد ان المقتدر امر حامدا بالاستتار ليقبض على ابن الفرات، ويعيده الى مرتبته.
فاستتر آل ابن الفرات وأسبابه، غير الوزير.
وكانت سعاده حامد قد تناهت، فصار الى دار المقتدر، وعليه ثياب الرهبان، ومعه مؤنس خادمه، فصعد الى دار الحجبة، فقال له نصر: لم جئت الى هاهنا؟
ولم يقم له، واعتذر بانه تحت سخط الخليفة.
وقال لمفلح الأسود- وهو الذى يتولى الاستئذان على الخليفة- انه تحت رحمه، ومثلك من أزال ما يعانيه، وقال حامد لمفلح: تقول لمولانا امير المؤمنين عنى:
إيثاري الاعتقال في الدار، كما اعتقل على بن عيسى، واناظر بحضره الفقهاء والقضاه والقواد، وامكن من استيفاء حججي وما يجب على من مال

(11/230)


فقالت السيده: لا يضر ان يعتقل في الدار ويحفظ نفسه، فقال مفلح:
ان فعل هذا، لم يتم لابن الفرات عمل وبطلت الاعمال، فقال المقتدر: صدقت، وامره بانفاذ حامد الى ابن الفرات، فبعد جهد، مكنه مفلح من تغيير زيه، وقال:
لا احمله الا في زي الرهبان وهذا الصوف الذى عليه، حتى تشفع فيه نصر، وانفذه مع ابن الزنداق الحاجب.
فلما دخل على ابن الفرات، اسمع حامدا المكروه، وقال له: جئت بها طائيه، وكان الطائي قد ضمن اسماعيل بن بلبل من الناصر لدين الله، وأتاه في زي الرهبان، فسلمه الى اسماعيل بن بلبل فعامله باصناف المكاره، وأخذ منه مالا عظيما.
وامر ابن الفرات قهرمان داره، بان يفرد له دار أخيه، يفرشها فرشا جميلا وان يحضر بين يديه ما يختاره من الطعام، ويقطع له ما يؤثره من الكسوة، واستخدم له خادمين اعجميين ودخل اليه كل من عامله بالمكاره فوبخوه، فقال: قد اكثرتم، وانا اجمل الجواب، ان كان ما استعملته من الاحوال التي وصفتموها جميله العاقبه، قد اثمرت لي خيرا فاستعملوا مثله وزيدوا عليه، وان كان قبيحا- وهو الذى بلغ هذه الغاية- فتجنبوه، فان السعيد من وعظ بغيره.
فقال ابن الفرات لما بلغه ذلك: ما ادفع شهامته، ولكنه رجل من اهل النار، يقدم على الدماء ومكاره الناس.
ومثل هذه الحكاية، حكاية زينب بنت سليمان بْن علي بْن عبد الله بْن العباس، قالت: كنت عند الخيزران، فدخلت جاريه وقالت: بالباب امراه لها جمال وخلقه حسنه، وليس وراء ما هي عليه من سوء الحال غاية، تستأذن عليك، وقد

(11/231)


سالتها عن اسمها، فامتنعت ان تخبرني، فقالت الخيزران: ما تريد؟ فقلت: ائذنى لها، فلن تعدمى ثوابا.
فدخلت امراه من اجمل النساء وأكملهن، لا تتوارى بشيء، وقالت: انا مزنه امراه مروان بن محمد الاموى، فقلت لها: لا حيا الله ولا قرب، الحمد لله الذى أزال نعمتك وهتك سترك، تذكرين يا عدوه الله، حين أتاك عجائز اهلى يسالنك ان تكلمى صاحبك في الاذن في دفن ابراهيم الامام، فوثبت عليهن، فاسمعتهن وامرت بإخراجهن على الجهة التي اخرجن عليها! قالت: فضحكت، فما الدر احسن من ثغرها، وعلا صوتها بالقهقهة، ثم قالت: اى بنت عمى، اى شيء اعجبك من حسن صنع الله بي على العقوق حتى اردت ان تتأسى به! انى فعلت ما فعلت باهل بيتك، وأسلمني الله إليك ذليله فقيره، فكان هذا مقدار شكرك لله على ما اولاك في، ثم قالت: السلام عليكم، وولت فصاحت الخيزران بها: انها على استأذنت، والى قصدت، فما ذنبي! فرجعت وقالت: لعمري، لقد صدقت يا أخيه، وان مما ردني إليك ما انا عليه من الضر والجهد، فقامت الخيزران تعانقها، وامرت بها الى الحمام وخلعت عليها وجاء المهدى فاخبر بالحال، فسر بذلك، وكثر انعامه عليها، وافرد لها مقصوره من مقاصير حرمه.
واقر حامد بمائتي الف دينار، ولم يقر بغيرها، وسلمت منه.
وضرب المحسن مؤنسا خادم حامد، فاقر بأربعين الف دينار دفنها في داره بالمدينة، فحملت.
وصودر مؤنس الفحل حاجب حامد على عشرين الف دينار وصودر محمد ابن عبد الله النصراني صاحبه، والحسن بن على الخصيب كاتبه على ثمانين الف دينار.
واستعمل الخصيب مع حامد من المكاشفه، ما لم يستعمله كاتب مع حاجب، فرد ابن الفرات عليه ما صادره به لذلك

(11/232)


واشخص ابن الفرات الفقهاء والقضاه والكتاب، فيهم النعمان بن عبد الله، وكان قد تاب من عمل السلطان، فحضر بطيلسان، وناظره ابن الفرات مناظره طالت، وكان عمد ابن الفرات ان قال له: الضمان الذى ضمنته من الخاقانى سنه تسع وتسعين ومائتين لا يمضيه الفقهاء والكتاب لأنه ضمان مجهول، وضمنت اثمان غلات لم تزرع، فقال له حامد: فقد عملت بي كذلك حين ضمنتنى باعمال بالصدقات والضياع بالبصرة وكور دجلة، فقال ابن الفرات: الغلة بالبصرة يسيره، وانما ضمنت الثمره، فقال حامد فمن أحل بيع الثمره قبل إدراكها، وهي خضره في الزرع؟ فقال المحسن لحامد: هذا الكلوذانى، كاتبك وكتابه يشهدون عليك بما اقتطعته، فقال: هؤلاء كتاب الوزير الان هواه.
ولزمت ابن الفرات حججه، حتى قال له حامد: لم امضيت ضماني في وزارتك الثانيه؟ فقال ابن الفرات: لهذا نقلني امير المؤمنين الى حبسه.
وذكر حامد حججا كانت في يده، فقال ابن الفرات: انا فتشت صناديقك، فلم أجد فيها ما ذكرت، وانا المقدم بإحضارها وتفتيشها فقال حامد: افتشتها بعد ان فتشها الوزير، وقبضها نازوك وفتح أقفالها! فخجل ابن الفرات وتعجب الناس من استيفاء حامد الحجه.
فاخرج ابن الفرات عملا وجده في صناديق غريب غلام حامد، وهذا الغلام كان يتولى بيع غلات حامد، وحمل ذلك سهوا لان حامدا كان يجمع حسباناته، ويغرقها في دجلة، فراى انه قد بيع غلات تلك السنه سوى القضيم بخمسمائة الف دينار ونيف واربعين الف دينار، فبان الفضل، وظهر التضاعف، مع كون الأسعار رخيصه في تلك السنه، وعاليه فيما بعدها.
وقال حامد لابن الفرات: اننى اكرم الوزير عن اسماع ابنه جواب ما يشتمني، فحلف ابن الفرات برأس الخليفة، ان لم يمسك ابنه استعفى الخليفة في هذه القضية

(11/233)


فامسك المحسن حينئذ، واعيد حامد الى محبسه وطولب بالمال، فأقام على انه لا مال عنده، وانه قد باع ضياعه، وباع داره من نازوك بمدينه السلام باثنى عشر الف دينار، وباع خدمه، وباع اخصهم به من نازوك بثلاثين الف دينار.
فالتفت الخادم الى نازوك وقال له: لا تستضع بي، فلا تبتعنى، فلم يقبل منه، وابتاعه، فلما كان في تلك الليلة شرب الخادم زرنيخا فمات من ليلته.
وخلا ابن الفرات بحامد، وقال: ان اخبرت باموالك، صنتك عن مكاره ابنى، ووليتك فارس، وحلف له على ذلك، فاقر بدفائنه في بلاليع بواسط، وقدرها خمسمائة الف دينار، وثلاثمائة الف عند قوم من العدول، واقر بقماش له عند ابن شابده وابن المنتاب وإسحاق بن أيوب وعلى بن فرج بثلاثمائة الف دينار.
فعرف المقتدر ذلك، وقال له ابن الفرات: قد اقر بذلك، عفوا من غير مكروه.
وما زال ابن الفرات مكرما لحامد، يلبسه لين الثياب، ويطعمه هنى الطعام، الى ان توصل المحسن على يدي مفلح الى المقتدر، ان يتقدم الى ابيه باستخلافه، فاستخلفه على كره من الأب لذلك، وخلع المقتدر عليه، وصار الى داره، فمضى اليه الكتاب والعمال للتهنئه، فسقطوا من درجه ساج صعدوا عليها من زبازبهم، فلحقتهم العلل لذلك.
وضمن حامدا الخمسمائة الف دينار، واحضره، فطالبه فقال: لم يبق غير ضياعي، وانا اوكل في بيعها، فامر بصفعه، فصفع خمسين صفعه، واحدره الى واسط مع خادم وعشره فرسان، وذلك في عاشر شهر رمضان سنه احدى عشره وثلاثمائة.
وشاع ببغداد ان حامدا اشتهى بيضا، فطرح له الخادم فيه سما، فأكله، فلحقه ذرب، ودخل واسطا، وهو مثخن، فقام اكثر من مائه مجلس.
فاراد البزوفري الاستظهار لنفسه، فاحضر القاضى وشهوده وكتب: ان حامدا، وصل الى واسط، فتسلمه البزوفري وهو عليل من ذرب وان تلف من ذلك، فإنما مات حتف انفه.
فلما دخل الشهود وقد قرر مع حامد الاشهاد على نفسه قال لهم: ان ابن الفرات

(11/234)


الكافر الفاجر المجاهر بالرفض وبغض بنى العباس رحمه الله عليهم، عاهدني وحلف بالطلاق وايمان البيعه، على اننى ان اقررت بأموالي لم يسلمني الى ابنه، وصانني على المكروه وولانى، فلما اقررت سلمني الى ابنه فعذبني ودفعنى الى خادمه فسقاني بيضا مسموما، ولا صنع للبزوفرى في دمى الى وقتنا هذا، ولكنه، لعنه الله كفر إحساني ونسى اصطناعى، فاغرى ابن الفرات بي وسعى على دمى، ثم أخذ قطعه من أموالي، وجعل يحشوها في المساور البرتون، ويبتاع الواحدة منها بخمسه دراهم، وفيها امتعه تساوى ثلاثة آلاف دينار فاشهدوا على ما شرحته.
وتبين البزوفري انه قد أخطأ.
وكتب ابن بطحاء صاحب الخبر بواسط الى ابن الفرات بالحال، فشق عليه.
وتوفى ليله الخميس لثلاث عشره خلت من شهر رمضان سنه احدى عشره وثلاثمائة، وغسل وكفن، وصلى عليه القاضى والشهود بواسط.
وأخذ منه ابن الفرات الف الف وثلاثمائة الف دينار.
وقبض المحسن على ابى احمد محمد بن منتاب الواسطي، صاحب حامد، فصادره على مائه الف دينار.
وحكى التنوخي، عن بعض الكتاب قال: حضرت مائدة حامد بن العباس، وعليها عشرون نفسا، وكنت اسمع انه ينفق على مائدته مائتي دينار، فاستقللت ما رايت ثم خرجت فرايت في الدار نيفا وثلاثين مائدة منصوبه، على كل واحده ثلاثون نفسا، وكل مائدة مثل المائدة التي كنت عليها، حتى البوارد والحلوى، وكان لا يستدعى أحدا الى طعامه، بل يقدم الى كل قوم في أماكنهم، وكانت الموائد في الدهاليز، وكان يقدم لكل من يحضر جديا، فتكون الجداء بعدد الناس، ويرفع ما بقي، فتقتسمه الغلمان.
وقال حامد: انما فعلت هذا لأنني حضرت قبل علو امرى على مائدة بعض اصدقائى، وقدم عليها جدي، فعولت على اكل كليته، فسبقني رجل فأكلها، فاعتقدت في الحال: ان وسع الله على، وان اجعل جداء بعدد الحاضرين

(11/235)


وركب حامد، وهو عامل واسط الى بستان له، فراى في طريقه دارا محترقه وشيخا يبكى وحوله نساء وصبيان على مثل حاله، فسال عنه، فقيل هذا رجل تاجر احترقت داره، فافتقر، وافلت بنفسه وعياله على هذه الصورة، فوجم ساعه، ثم قال: فلان الوكيل! فجاء، فقال: اريد ان اندبك لامر ان عملته كما اريد، فعلت بك وصنعت وذكر جميلا، وان تجاوزت فيه رسمي فعلت بك وصنعت- وذكر قبيحا، فقال: مر بأمرك، فقال: ترى هذا الشيخ، قد آلمني قلبي له، وقد تنغصت على نزهتى بسببه، وما تسمح نفسي بالتوجه الى بستاني الا بعد ان تضمن لي انى إذا عدت العشية مع النزهه وجدت الشيخ في داره، وهي كما كانت مبنية مجصصه، نظيفة، وفيها الفرش والصفر والمتاع من صنوفه وصنوف الآلات، مثل ما كان فيها، وعلى جميع عياله من كسوه الشتاء والصيف، مثل ما كان لهم.
قال الشيخ: فتقدم الى الخادم ان يطلق ما أريده، والى صاحب المعونة ان يقف معى، ويحضر كل ما أريده من الصناع، فتقدم حامد بذلك، وكان الزمان صيفا، فاحضر اصناف الروزجايه والبنائين، فكانوا ينقضون بيتا ويطرحون فيه من يبنيه وقيل لصاحب الدار: اكتب جميع ما ذهب منك، فكتب حتى المكنسه والمقدحة، واحضر جميع ذلك.
وصليت العصر، وقد سقفت الدار كلها، وجصصت وغلقت الأبواب ولم يبق الا البياض والطوابيق، فانفذ الى حامد وساله التوقف في البستان، والا يركب منه الى ان يصلى العشاء الأخيرة، وقد بيضت الدار وكنست وفرشت، ولبس الشيخ وعياله الثياب، ودفعت اليهم الصناديق والخزانه مملوءة بالأمتعة.
واجتاز حامد، والناس مجتمعون له كأنه نهار في يوم عيد، فضجوا بالدعاء له، فتقدم الى الجهبذ بخمسه آلاف درهم، يدفعها اليه، يزيدها في بضاعته، وسار حامد الى داره.
وفي هذه السنه، توفى ابو إسحاق ابراهيم بن السرى الزجاج، صاحب المعانى، وكان يخرط الزجاج، فاتى المبرد، وكان يعلم لكل واحد بأجره على قدر معيشته،

(11/236)


وقال له: انى اكسب في كل يوم درهما ودانقين، وانى أعطيك درهما، ان تعلمت اولم اتعلم، حتى يفرق الموت بيننا، وآخذ منك، قال: قد رضيت قال: وانفذ اليه بنو مارمه من الصراة يطلبون مؤدبا لأولادهم، فانفذنى اليهم، وكنت اوجه اليه في كل شهر ثلاثين درهما وطلب عبيد الله بن سليمان منه مؤدبا لابنه القاسم، فقال: لا اعرف الا مؤدب بنى مارمه، فكتب اليه عبيد الله فاستنزلهم عنى وادبت القاسم، فكنت اقول له: ان ابلغك الله مبلغ ابيك تعطيني عشرين الف دينار؟ فيقول لي: نعم فما مضت الا سنون حتى ولى الوزارة، وانا على ملازمته، فقال لي باليوم الثالث: ما أراك ذكرتني بالنذر، فقلت: لا احتاج مع رعاية الوزير الى، اذكار خادم واجب الحق، فقال: انه المعتضد، ولولاه ما تعاظمنى ان ادفع ذلك في مكان واحد، ولكنى اخاف ان يصير لي حديثا، فخذه مفترقا، فقلت:
افعل، فقال: اجلس وخذ رقاع اصحاب الحوائج الكبار، ولا تمتنع من مساءلتي في شيء، فكنت اقول ضمن لي في هذه القصة كذا، فكان يقول غبنت فاستزد القوم، فحصل عندي عشرون الف دينار، فقال: حصل عندك مال النذر؟
قلت: لا، فلما حصل ضعفه، اخبرته، فوقع لي الى خازنه بثلاثة الاف دينار، فأخذتها وامتنعت ان اعرض عليه شيئا فلما كان من غد جئته، فأومأ الى، هات ما معك، فقلت: ما أخذت رقعه لان النذر قد وقع الوفاء به، ولم ادر كيف أقع مع الوزير! فقال: سبحان الله! اترانى كنت اقطع عنك شيئا قد صار لك به عاده، وصار لك به عند الناس منزله وغدو ورواح الى بابى، فيظن الناس ان انقطاعه لتغير رتبتك! اعرض على رسمك وخذ بلا حساب، فكنت اعرض عليه الى ان مات.
وحدث والدى رحمه الله، قال أخبرنا القاضى ابو الطيب، قال: حدثنى محمد بن طلحه الردادى، قال: حدثنى القاضى محمد بن احمد بن المخرمى انه جرى بين الزجاج وبين المعروف بمسينه- وكان من اهل العلم- شر، فاتصل، ونسجه ابليس واحكمه، حتى خرج ابراهيم الى حد السفه، فقال مسينه:

(11/237)


ابى الزجاج الا شتم عرضي ... لينفعه فإثمه وضره
واقسم صادقا ما كان حر ... ليطلق لفظه في شتم حره
ولو انى كررت لفر منى ... ولكن للمنون عليه كره
فاصبح قد وقاه الله شرى ... ليوم لا وقاه الله شره
فلما اتصل هذا بالزجاج قصده راجلا، حتى اعتذر وساله الصفح.
وورد الخبر بدخول ابى طاهر سليمان بن الحسن الجنابى البصره سحر يوم الاثنين لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشر وثلاثمائة، في الف وسبعمائة رجل، وانه وصل إليها بسلاليم نصبها على سورها وقتل الحراس وطرح بين كل مصراعين حمل رمل وحصى.
وقتل سبك المفلحى امير البصره، واحرق المربد، وبعض الجامع، ومسجد قبر طلحه رضى الله عنه، ولم يعرض للقرى وحاربه اهل البصره عشره ايام بالكلا، وهربوا منه، فطرح فيهم السيف، وغرق منهم الكثير، واقام بها سبعه عشر يوما، يحمل على جماله أموالهم، وسار الى بلده.
وادعى ابن الفرات على على بن عيسى، انه كاتب القرامطة، على المصير الى البصره، واحضر ونوظر، فلم يصح عليه امره.
وقال الهمانى: سمعت على بن عيسى، يعنف أبا عبد الله، حين حلفت ان استغلال ضيعتك بواسط عشره آلاف دينار، وقد وجد بها في حساب الهمانى انه يرتفع فيها ثلاثين الف دينار، فقال البريدى: تاسيت بسيدنا حين حلف لابن الفرات، ان استغلال ضيعته الصافية عشرون الف دينار، واستغلالها خمسون ألفا.
وعلم انه مع ديانته، لو لم يعلم ان البقية مباحة عند من يخافه لما حلف، فكانه القم عليا حجرا

(11/238)


وامتنع المقتدر من تسليم على بن عيسى الى ابن الفرات، واراد حفظ نفسه، فادى ثمن دار كانت له بالجانب الغربي في سويقه ابى الورد، سبعه آلاف دينار، وقال للمحسن: ما يمكنني أداء مصادرتى في اعتقالى، فالبسه جبه صوف، وصفعه، فقام عند ذلك نازوك وقال: لا احضر مكروه من قبلت يده السنين الكثيره.
فلما علم ابن الفرات بفعل ابنه، لم يشك ان الخليفة ينكر ذلك، فبادر وكتب الى الخليفة، فسأله في على بن عيسى، وقال: هو من مشايخ الكتاب، وعرفه خدمته، فخرج خط المقتدر، بان الصواب ما فعله المحسن، وانه قد شفعه فيه، وحل قيوده.
واشارت زيدان القهرمانه على ابن الفرات، بتسليمه الى شفيع، والا تسلمه الخليفة، فاستدعى وسلمه اليه.
فخرج وقد أقيمت صلاه المغرب، فقدم على فصلى بالناس في المسجد الذى على دجلة.
ومضى مع شفيع فجلس في صدر طيارة، وجلس شفيع بين يديه، واسعف ابن الفرات وابنه على في مصادرته وحمل اليه ابو الهيجاء بن حمدان عشره آلاف دينار، فردها، فحلف ابو الهيجاء انها لا رجعت الى ملكه، ففرقت في الطالبين والفقراء، وبذل له شفيع اموالا فأبى من قبولها، وقال: لا اجمع عليك مئونتي ومعونتى.
ولما صعد درجه شفيع، مد شفيع يده فاتكا عليها، ولما قبض على ابن الفرات، جعل يرجف، فقال له: لم لم تعطني يدك كما أعطيتها عليا؟ فقال: لان عليا اتقى لله منك.
ولما ادى على مصادرته، اذن المقتدر لابن الفرات في ابعاده الى مكة، فاستاجر له جمالا واعطاه نفقه، وانفذ معه ابن الكوثانى صاحبه، فاراد قتل على، فبلغ

(11/239)


ذلك اهل مكة فهموا بقتل ابن الكوثانى، فمنع على منه، وحفظه.
وصادر ابن الفرات جميع اسباب على، منهم ابن مقله والشافعى، ولما لم يجد على النعمان بن عبد الله، الذى تاب من التصرف، سبيلا في المصادره، وامتنع من الولاية، احدره الى واسط، وقبض البزوفري عليه من جامعها، لما راى من اكرام اهل البلد له، وأخذ منه سبعه آلاف دينار، ونفى ابن الحوارى الى الأبله، وخنق بالمناره بعد ان عذب، ثم نبشه اهله، وحمل الى بغداد.
وصادر المحسن أبا الحسن على بن مأمون الاسكافى على مائه الف دينار.
وصادر الماذرائيين حين قدموا من مصر على الف وسبعمائة الف دينار.
ونفى ابن مقله الى البصره.
وقدم مؤنس المظفر من الغزو وقد فتح عليه، فاخبر ابن الفرات ما تم على العمال منهم، فسعى به الى المقتدر، فقال له: ما شيء أحب الى من مقامك ببغداد، لانى اجمع بين الانس بقربك والتبرك برأيك، والصواب ان تقيم بالرقة، فتتوسط الاعمال، وتستحث على المال.
فعلم ان ذلك من عمل ابن الفرات، فأجاب اليه، وسئل في الماذرائيين فأطلقوا ونفذ في ذي القعده.
وشرع ابن الفرات في السعاية بنصر القشورى وشفيع المقتدرى، فالتجا نصر الى السيده، فقالت للمقتدر: ان ابن الفرات، ابعد عنك مؤنسا، وهو سيفك، وقد حل له ابعاد حاجبك.
واتفق انه وجد على سطح دار السر في يوم الثلاثاء لخمس خلون من محرم سنه اثنتى عشره وثلاثمائة رجلا أعجميا واقفا، عليه ثياب دبيقيه وتحتها قميص صوف، ومعه محبره وأقلام وورق وحبل، قيل انه دخل مع الصناع وبقي أياما، وعطش فخرج لطلب الماء، فظفر به، وسئل عن حاله، فقال: لا اخاطب غير صاحب

(11/240)


الدار، فقال له ابن الفرات: أخبرني عن حالك، فقال: لا اخاطب غير الخليفة، فضرب وهو يقول ندانم حتى قتل بالعقوبة.
وخاطب ابن الفرات نصرا الحاجب بحضره المقتدر، وقال: كيف ترضى بهذا لأمير المؤمنين، وما يجوز ان ترضى به لنفسك، وما سمعنا ان هذا تم على خليفه قط، وهذا الرجل صاحب احمد بن على أخي صعلوك الذى قتله ابن ابى الساج، واما ان يكون قد دسسته ليفتك بامير المؤمنين، لتخوفك على نفسك منه.
وعداوتك لابن ابى الساج، وصداقتك لأحمد بن على، فقال له نصر: ليت شعرى، ادبر على امير المؤمنين لأنه أخذ أموالي، ونكبنى وهتك حرمي، وحبسنى عشر سنين! ولم يزل امر نصر يضعف والسيده مدافعه عنه.
وكان يوسف بن ابى الساج، حين قلد اعمال الري، قتل بها احمد بن على، أخا صعلوك، وانفذ برأسه الى مدينه السلام.
ولليلتين خلتا من شعبان، قرئت الكتب على المنابر بمدينه السلام بفتح مؤنس المظفر في بلد الروم، وامر فيه المقتدر برفع المواريث الحشريه، كما فعل ذلك المعتضد بالله رحمه الله.

(11/241)


سنه اثنتى عشره وثلاثمائة
ورد الخبر بان أبا طاهر بن ابى سعيد الجنابى، ورد الهبير لتلقى حاج سنه احدى عشره وثلاثمائة في رجوعهم، فاوقع بقافله بغداديه، واقام بقية القوافل بعيدا، فلما فنيت ازوادهم، ارتحلوا، فاشار ابو الهيجاء بن حمدان، واليه طريق الكوفه وطريق مكة، ان يعدل بهم الى وادي القرى، فامتنعوا وساروا، فسار معهم مخاطرا حتى بلغ الهبير، فلقيهم ابو طاهر، فقتل منهم خلقا، واسر أبا الهيجاء واحمد بن بدر عم السيده أم المقتدر، وجماعه من خدم السلطان وحرمه.
وسار ابو طاهر الى هجر، وسنه إذ ذاك سبع عشره سنه، ومات من استاسره بالحفاء والعطش فنال اهل بغداد منالا عظيما، وخرج النساء منشرات الشعور مسودات الوجوه في الجانبين، فانضاف اليهن من حرم الذين نكبهم ابن الفرات، فانبسط لسان نصر عليه، واشار على المقتدر بمكاتبه مؤنس.
ورجمت العامه طيار ابن الفرات، وامتنعوا من الصلوات في الجماعات.
وانفذ المقتدر بياقوت وابنيه محمد والمظفر الى الكوفه، ورجعوا حين علموا انصراف القرمطى الى بلده.
وجمع المقتدر بالله ابن الفرات ونصر وامرهما بالتظافر.
وقدم مؤنس الى بغداد، فركب اليه ابن الفرات، ولم تجر له عاده بذلك، فخرج مؤنس الى باب داره، وساله ان ينصرف، فلم يفعل، وصعد اليه من طيارة حتى هناه بمقدمه، وخرج معه مؤنس حتى نزل الطيار

(11/242)


وانفذ المقتدر بنازوك وبليق فهجما على ابن الفرات، وهو في دار حرمه، فاخرجاه حاسرا، فاعطاه نازوك رداء قصب، فقال له مؤنس: الان تخاطبني بالاستاذ وبالأمس نفيتنى الى الرقة والمطر يصب على راسى، ثم تذكر لأمير المؤمنين سعيي في فساد مملكته! ورجمت العامه طيار مؤنس، لكون ابن الفرات فيه، وسلم الى نصر، وقبض على ولده وأسبابه.
فكانت مده ابن الفرات في هذه الوزارة الثالثه عشره اشهر وثمانية عشر يوما.
واجمع وجوه القواد فقالوا: ان حبس ابن الفرات في دار الخلافه خرجنا بأسرنا، فسلم الى شفيع واعتقل عنده.
واشار مؤنس بتوليه ابى القاسم عبد الله بن محمد بن عبيد الله الخاقانى، فانفذ ابن الفرات الى المقتدر بمائه ونيف وستين الف دينار، وقال لشفيع: فعلت ذلك حتى لا يوهم الخاقانى للمقتدر انه استخرجها.
قال الجمل كاتب شفيع: ولم أر قلبا اقوى من قلب ابن الفرات، سألني:
من قلد الخليفة وزارته؟ فقلت: الخاقانى، فقال: الخليفة نكب ولم انكب انا.
وسألني عمن استخلف في الدواوين؟ فقلت: في ديوان السواد ابن حفص، فقال: القدر رمى بحجره، وسميت له جماعه، فقال: لقد أيد الله هذا الوزير بالكفاءه.
واقر ابن الفرات بمائه وخمسين الف دينار اخرى، وطولب بالمكاره، فلم يستجب بمال، وكان لا يستجيب بمكروه، وانفذ الى الخاقانى: ايها الوزير، لست غرا جاهلا فتحتال على، وانا قادر على مال، إذا كتب الخليفة الى أمانا على نفسي لافديها بالمال، ويشهد عليه القضاه فيه، فقال الخاقانى: لو قدرت على ذلك فعلت، ولكن ان تكلمت عاداني خواص الدولة.
ورد الخليفة امره الى هارون بن غريب، فاخذ يداريه، وقال له: أنت اعرف بالأمور وان الوزراء لا يلاجون الخلفاء، فلم يزل به حتى أخذ خطه بألفي الف دينار، يعجل منها الربع، وان يطلق له بيع ضياعه، واذن له في احضار دواه، ليكتب

(11/243)


الى من يرى، او ان ينفذ الى دار شفيع اللؤلؤى، ويطلق الكلوذانى ليتصرف في أمواله.
وكانت حماه المحسن تخرجه في زي النساء الى مقابر قريش، فامست ليله عن المصير الى الكرخ، فصارت الى منزل امراه أخبرتها ان معها بنتا لم تتزوج، وسالت ان تفرد لها بيتا، ففعلت، وخلع المحسن ثيابه، فجاءت جاريه سوداء بسراج، فوضعته في الضفة، فرات المحسن، فاخبرت مولاتها فابصرت، وكانت مولاتها زوجه محمد بن نصر وكيل على بن عيسى، مات حين طالبه المحسن من الفزع، فمضت المرأة الى دار السلطان وشرحت الصورة لنصر، فاركب نازوك وقبض عليه، وضربت الدبادب لأجل الظفر به عند انتصاف الليل، فظن الناس ان القرمطى قد كسر بغداد وحمل الى دار مستخرج، يعرف بابن بعد شر، في المخرم بدار الوزارة، فأجرى عليه المكاره، وأخذ خطه بثلاثة آلاف الف دينار، ثم ابتلع رقعته، واقام على الامتناع من كتب شيء، فضرب بالدبابيس على راسه وعذب.
واحضر ابن الفرات مجلس الخاقانى، فناظره أشد مناظره، فلج ابن الفرات فيها، فقال له الخاقانى: انك استغللت ضياعك التي استغلها على بن عيسى، أربعمائة الف دينار وقال: كان ذلك بعمارتى البلاد واعتمادى ما جلب الريع.
ونوظر فيمن قتله ابنه، وقيل له: أنت قتلتهم، فقال هذا غير حكم الله، قال الله تعالى:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * [والنبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه ابنه: لا يجنى عليك ولا تجنى عليه،] ومع هذا فان ابنى لم يباشر قتلا ولا سفك دما، وأجاب مؤنسا حين قال: اخرجتنى من بغداد فقال: انما اخرجك مولاك حين كتب الى يشكو ما يلاقيه من تبسط، وفتحك البلدان بالمؤن الغليظة، واغلاقك إياها بسوء التدبير: وسئل احضار سفط فيه المهمات فاحضر وطلب الرقعة، فوجدت فأخذها مؤنس، وحملها الى

(11/244)


المقتدر بالله واقراه الرقعة، فزاد غيظه وامر بضربه، فضرب خمس درر فقط وسلم وابنه الى نازوك، فضربا حتى تدودت لحومهما وحمل الخاقانى القواد على خلع الطاعة ان حملا الى دار الخليفة ولما توقف الخاقانى في قتلهما، وقال: لست ادخل في سفك الدماء، ولا اسهل على الخلفاء قتل خواصهم.
وحمل الى ابن الفرات ما يفطر عليه، فقال: رايت أخي أبا العباس في المنام يقول: إفطارك عندنا، وما أخبرني بشيء الا وصح، وانا مقتول.
فاخرج القواد توقيع المقتدر الى نازوك، بضرب أعناقهما، فقال: هذا امر عظيم لا اعمل فيه بتوقيع، فشافهه المقتدر بذلك.
وجاء نازوك، فامر السودان فضربوا عنق المحسن، واتى برأسه الى ابيه، فجزع وقال: يا أبا منصور، راجع امير المؤمنين، فان عندي اموالا جمه، فقال له:
جل الأمر عن هذا، وامر به فضرب عنقه، وحمل راسه وراس ابنه الى المقتدر بالله، فامر بتغريقهما.
وكان سن الحسن بن الفرات، يوم قتل، احدى وسبعين سنه وشهورا، وسن ابنه ثلاثا وثلاثين سنه.
وقال التنوخي: كان من عاده ابن الفرات ان يقول لكل من يخاطبه: بارك الله فيك، ولم يكن يفارق هذه اللفظه وكان على بن عيسى يقول في كلامه: وال وإليك فكان الناس يقولون: لو لم يكن بين الرجلين الا ما بين الكلامين من الخشونة واللطف، لكان من اعظم فرق.
ويقال ان على بن عيسى خاطب الراضي يوما بوال.
وكان ابن الفرات إذا ولى، غلا معذاذ الشمع والكاغذ، لكثرة استعماله لهما فيعرف الناس ولايته لغلائهما

(11/245)


قال الصولي: ابو الحسن على بن محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات من قريه يقال لها بايك قريبه من صريفين، وكان أبوه محمد بن موسى، تولى اعمالا جليله، واكبر اولاده ابو العباس احمد وابو عبد الله وابو عيسى، من خيار المسلمين والزهاد، جاور بمكة وواصل بها الصوم والصلاة، ومات في وزارة أخيه.
وقد ذكرنا اسر القرمطى لالفى رجل ومائتين وعشرين وخمسمائة امراه، فاطلق منهم أبا الهيجاء واحمد بن بدر عم السيده، وانفذ رسلا يسال ان يفرج له عن البصره والاهواز فلم تقع اجابه.
وكان سليمان بن الحسن بن مخلد، وابو على بن مقله، وابو الحسن محمد بن محمد بن ابى البغل، معتقلين بشيراز، فاطلقهم ابو عبد الله الكرخي، حين وقف على مثل ابن الفرات فكتب ابن ابى البغل على جانب تقويمه.
وفي هذا اليوم، ولد احمد بن يحيى، وله احدى وثمانون سنه، واتفق ان سليمان هرب في زي الفيوجى، فاشتد الأمر على الخاقانى، وارجف له بالوزارة، ودخل بغداد مستترا، وصار ابن مقله الى الاهواز، واجرى له في كل شهر مائتي دينار، واذن له في المصير الى بغداد وسال موسى في على بن عيسى، فكوتب صاحب اليمن بانفاذه الى مكة، وحمل اليه كسوه ومالا نحو خمسين الف دينار، ولما وصلها قلده الخاقانى الاشراف على الشام ومصر.
وتولى ابو العباس بن الخصيبى استخراج سبعمائة الف دينار من زوجه المحسن.
وشغب الجند على الخاقانى، فلم يكن عنده ما يدفعه اليهم، وبقي شهورا لا يركب الى الموكب.
وكان مؤنس بواسط، واشار عند قدومه بعلى بن عيسى، واشارت السيده والخاله بابى العباس بن الخصيبى، وهو احمد بن عبد الله، فولاه المقتدر، وقبض على الخاقانى، وكانت وزارته سنه وسته اشهر.

(11/246)


وزارة ابى العباس الخصيبى
استحضره المقتدر يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، فقلده وخلع عليه، وكان قبل كاتب القهرمانه، واستكتب مكانه أبا يوسف عبد الرحمن ابن محمد، وكان تائبا من العمل، فسماه الناس المرتد.
واستدرك اموالا، كان الخصيبى اضاعها، فتنكرت القهرمانه للخصيبى، وضاعت الأمور بوزارته حين كان مواصلا للشرب ليلا ونهارا ويبيت مخمورا.
فصادر الخاقانى على مائتي الف وخمسين الف دينار.
وصادر جعفر بن القاسم [الكرخي] على مائه وخمسين الف دينار.
وتوجه جعفر بن ورقاء الشيبانى بالحاج في الف من بنى عمه، وكان في القوافل الذين يبذرقون الحاج سته آلاف رجل، فلقيهم الجنابى فهزمهم بالعقبه وولوا الى الكوفه، فخرج قواد السلطان فهزمهم، واقام بالكوفه سته ايام، وحمل منها اربعه آلاف ثوب وشى وثلاثمائة راويه زيت، وانصرف الى بلده.
واضطرب الناس ببغداد، وعبر اهل الغربي منها الى الجانب الشرقى.
واتى موسى الكوفه، فاستخلف عليها ياقوت.
وسار مؤنس الى واسط.
وقرئت الكتب بفتح ابن ابى الساج طبرستان.
ووردت خريطة الموسم لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، بان النحر كان بمكة يوم الثلاثاء، ونحر الناس ببغداد يوم الاثنين.
وحج على بن عيسى ثم ورد مكة من مصر.

(11/247)


سنه ثلاث عشره وثلاثمائة
فيها فتح ابراهيم المسمعي ناحيه القفص، واسر منهم خمسه آلاف رجل، وحملهم الى فارس وكثرت الارطاب ببغداد، حتى عملوا منها التمور، وجهزوا بذلك الى البصره، فنسبوا الى البغى.
واتى القرمطى النجف، فخرج مؤنس، فانصرف من بين يديه.
وفيها مات الخاقانى.
وفيها دخل الروم ملطيه.
وفي هذه السنه، توفى ابو الحسن على بن محمد بن بشار الزاهد، وقبره ظاهر بالعقبه عند النجمى يتبرك به، وكان القادر بالله رضى الله عنه يزوره دائما، وقال في بعض الأيام: انى لاعرف رجلا ما تكلم منذ ثلاثين سنه بكلمة يعتذر منها، فعلم الحاضرون انه اراد نفسه.
وجاءته امراه، فقالت: ان ابنى قد غاب، وقد طالت غيبته، فقال لها:
عليك بالصبر، فظنت انه يأمرها باكل الصبر، وكانت عندها برنيه مملوءة صبرا، فمضت واكلت نصفها في مده، على مرارة من العيش، وشده من الحال، ثم رجعت اليه فشكت اليه غيبته، فقال لها: عليك بالصبر، فقالت: قد وفى من البرنية، قال لها: وأكلته! قالت: نعم قال: اذهبى فابنك قد ورد، فرجعت الى الى منزلها فوجدت ابنها هناك.
وسمع ابن بشار من تاج المقتدر بالله غناء، فلما اصبح قال: هذا الامام ولا يمكننا الانكار على الامام، ولكن ننتقل، فبلغ ذلك المقتدر بالله فانفذ اليه:
ايها الشيخ لا تنزعج فتزعجنا، ونحن اولى بالانتقال منك فكان هذا من عمل خادم وقد ادبناه وصرفناه عن دارنا، ولن ترى بعدها ولا تسمع ما تكره.

(11/248)


سنه اربع عشره وثلاثمائة
فيها مات الخاقانى.
ودخل الروم ملطيه، فاخربوا سورها، وأقاموا سته عشر يوما، فدخل أهلها مستغيثين.
وبلغ اهل مكة مسير القرمطى نحوهم، فنقلوا حرمهم وأموالهم.
واستدعى ابن ابى الساج الى واسط، وقلد اعمال المشرق، وكناه الخليفة بابى القاسم يتكنى بذلك على جميع القواد، الا على الوزير، ومؤنس المظفر، وحمل اليه المقتدر خلعا سلطانيه، وخيلا بمراكب ذهب وطيبا وسلاحا.
ودعى الى الري، واضطرب امر الخصيبى لإحدى عشره ليله خلت من ذي القعده.
واشار مؤنس بعلى بن عيسى، فاستدعى المقتدر أبا القاسم عبد الله بن محمد الكلواذى واستخلفه لعلى، واستحضر سلامه الطولونى، فتقدم اليه بالنفوذ في البريه الى دمشق ليحضر عليا وظهر في ذلك اليوم ابن مقله وجماعه من الكتاب، وسلموا على الكلواذى وتمكنت هيبة على بن عيسى في الصدور.
ووصلت حمول من البلدان مشى بها الكلواذى الأمور.
واطلقت في شهر رمضان أم موسى الهاشمية من حبسها والزمت منزلها.
ولم يحج احد من العراق.

(11/249)