تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

سنه خمس عشره وثلاثمائة وزارة على بن عيسى الثانيه
في صفر، وصل على بن عيسى الى بغداد، وانفذ اليه المقتدر في ليلته فرشا وثيابا بعشرين الف دينار، وخلع عليه، وسار من الغد بين يديه كافه القواد الى دار بباب البستان، فاعتقد العفو عمن أساء اليه.
واشتغل بالعمل ليلا ونهارا، فاستقامت الأمور.
وكان الى عبد الله البريدى الضياع الخاصة ضمانا واقطاع الوزارة الى ابى يوسف أخيه الخراج برامهرمز.
واحضر على بن عيسى الخصيبى، وناظره مناظره جميله، وأخذ خطه بأربعين الف دينار.
ومات ابراهيم المسمعي بالنوبندجان، فقلد على بن عيسى مكانه ياقوتا، وقلد أبا طاهر محمد بن عبد الصمد كرمان.
وقلد اعمال الاهواز أبا الحسن احمد بن محمد بن مانبداذ فقال ابو عبد الله البريدى: تقلد هؤلاء هذه الاعمال، وتقصر بأخي ابى يوسف على بن مهرمز وبي على ضياع الوزراء! وكان قد كتب له بذلك منشورا: خذ يا بنى هذا الكتاب فمثل عليه في الكتب فان لطبلى صوتا تسمعه بعد ايام.
وانفذ ابو عبد الله البريدى أخاه أبا الحسين الى الحضره، لما بلغه اضطراب امر على بن عيسى، وقال له: اضمن اعمال الاهواز، إذا ولى الوزارة من يرتفق.
فان عليا عفيف.
فلما ولى ابن مقله الوزارة اعطاه عشرين الف دينار، حتى ولاه الاهواز، ثم صرفه بابى محمد الحسين بن احمد الماذرائى، فبان من تخلفه ما صار به حديثا

(11/250)


وأخذ عليه البريدى الطرقات، فكان كل كتاب يكتبه يؤخذ من رسله فما قرئ له كتاب منذ دخل الاهواز الى ان خرج عنها، فصرفه ابو على بابى عبد الله البريدى، واعترف باحترازه بطلل الماذرائى.
وكان اقطاع الوزارة مائه وسبعين الف دينار، بعد نفقاتهم، فلم يأخذ ذلك على بن عيسى وقال: ضيعتى تكفيني.
ودخل الروم شميشاط، وضرب ملكهم في الجامع النواقيس وصلى فيه الروم صلواتهم.
ووقعت وحشه بين المقتدر بالله ومؤنس، سببها: انه حكى له، ان المقتدر تقدم الى خواص خدمه بحفر زبيه تغطى بالقصب، فإذا اجتاز مؤنس وقع فيها، فهلك، فامتنع من المضى الى دار السلطان، وركب اليه القواد، فيهم عبد الله بن حمدان واخوته وقال له عبد الله بن حمدان: نقاتل بين يديك ايها الأستاذ حتى تنبت لحيتك، فكاتبه المقتدر بالله على يدي نسيم الشرابي، على بطلان ذلك، فجاء وقبل الارض، وحلف له المقتدر، على صفاء نيته، وامره بالخروج الى الروم، فخرج وشيعه الأمير ابو العباس، وعلى بن عيسى ونصر الحاجب وهارون بن غريب.
وفي هذه السنه كان ظهور الديلم، لما خرج ابن ابى الساج عن الري، غلب عليها ليلى بن النعمان، ثم ما كان بن كاكى، ودخل هذا الرجل في طاعه صاحب خراسان.
وغلب بعده اسفار بن شيرويه، وكان مزداويج احد قواده، فلما ظلم اسفار اهل قزوين، خرج رجالهم ونساؤهم مستغيثين الى المصلى داعين الله عليه، فخرج عليه مزداويج، فهزمه والجاه مزداويج، حين راى آثار حوافر الفرس فدخل عليه فاحتز راسه، وعاد الى قزوين، ووعدهم الجميل واظهر الخوف من دعائهم

(11/251)


ثم تغلب على الري وأصبهان، وأساء السيرة بأصبهان حاجبه وعظمت هيبته، وجلس على سرير ذهب، وكان يتنقص الاتراك، وكان يقول: انا سليمان وهؤلاء الشياطين وكان إذا سار انفرد عنه عسكره خوفا منه، فاشتق العسكر شيخ على دابه وقال: زاد امر هذا الكافر، واليوم تكفونه، ويأخذه الله اليه قبل تصرم النهار، فدهشوا واتبعوه فلم يجدوه.
وعاد مزداويج الى داره، فنزع ثيابه، ودخل الحمام واطال، فهجم عليه الاتراك، فقاتلهم بكرنيب فضه، فحزوا راسه بعد ان شقوا بطنه، وظنوا انهم قتلوه، فلما دخلوا عليه ثانيا راوه رد حشو بطنه، وأمسكها بيده، وكسر جامه الحمام وهم بالخروج.
وقبض ابن ابى الساج على كاتبه ابى عبد الله بن خلف البرقاني لما عرف سعايته به، وسلمه الى كاتبه حسن بن هارون وقيده وأخذ خطه بستمائة الف دينار.
وكاتب المقتدر ابن ابى الساج لحرب القرمطى، لما عرف خروجه من هجر لثلاث بقين من شهر رمضان، واطلق له من بيت مال الخاصة فيما ينصرف الى علوفه بين واسط والكوفه، فحمل ذلك اليه سلامه الطولونى، وامر على بن عيسى عمال الكوفه باعداد الميرة لابن ابى الساج.
وسار ابن ابى الساج من واسط طالبا الكوفه لليلة بقيت من شهر رمضان.
واطلق ابو طاهر القرمطى أسارى الحاج، ووصل الكوفه، فاخذ ما اعد ليوسف وهو مائه كر دقيقا، والف كر شعيرا.
ووافى يوسف الكوفه بعد وصول ابى طاهر إليها بيوم، وكان قد تقارب عسكر ابن ابى الساج، وعسكر ابى طاهر في يوم ضباب واحس به ابو طاهر وكف عنه، فالتقوا يوم السبت لتسع خلون من شوال على باب الكوفه، فاحتقر ابن ابى الساج عسكر ابى طاهر، وازرى عليهم، وتقدم يكتب كتاب الفتح قبل اللقاء، تهاونا بامره.
والتفت ابو طاهر الى رفيق له، وقد سمع صوت البوقات والدبادب، وكانت

(11/252)


عظيمه جدا فقال: ما هذا الزجل؟ فقال له صاحبه: فشل، فقال: اجل.
وعبا ابن ابى الساج رجاله، وكان القتال من ضحى النهار الى غروب الشمس، فثبت يوسف ثباتا حسنا، وجرح من اصحاب ابى طاهر بالنشاب خلق، وكان ابو طاهر في عمارية مع مائتي فارس من اصحابه، فنزل حينئذ وركب، فسار وحمل بنفسه، وحمل يوسف بنفسه، واشتبكت الحرب، فاسر يوسف بن ابى الساج بعد ان ضرب على جنبه ضربه، وقد اجتهد به اصحابه في الانصراف فأبى، وقتل من اصحابه خلق وانهزم الباقون.
وحمل يوسف الى عسكر ابى طاهر فضرب له خيمه وفرشت، ووكل به، واستدعى بطبيب يعرف بابن السبعى ليعالجه، فقال: قد جمد الدم على وجهه، واريد ماء حارا قال: فلم أجد عندهم ما اسخن فيه الماء، فغسله بالماء البارد وعالجه قال الطبيب: وسألني يوسف عن اسمى واهلى، فاخبرته فوجدته بهم عارفا ايام تقلده الكوفه، فعجبت من فهمه وقله اكتراثه بما هو فيه.
ولما وصل الخبر بغداد دخل الناس كابه عظيمه وعولوا على الانحدار الى واسط، ثم ورد الخبر بان أبا طاهر رحل يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال، قاصدا عين التمر، فاستاجر على بن عيسى خمسمائة سميريه، وجعل فيها الف رجل، وانفذ الطيارات والشذات وحولها الى الفرات واقعد فيها الحجريه، لمنع القرمطى من عبور الفرات، وتقدم الى القواد بالمسير الى الأنبار لحفظها.
فلما كان يوم الجمعه، راى اهل الأنبار خيل ابى طاهر مقبلة في الجانب الغربي، فقطعوا الجسر، وعبر ابو طاهر في مائه رجل، ونشبت الحرب بينه وبين اصحاب

(11/253)


السلطان، وعقد الجسر وخالف سواد الذين في السفن الى الجسر، فاحرقوه، فبقى ابو طاهر في الجانب الشرقى وعسكره وسواده في الغربي، وحالت السفن بينهما.
وورد الخبر الى بغداد بقتل ابى طاهر القواد، فخرج نصر الحاجب، ومعه الحجريه والرجاله ومن ببغداد من القواد، وبين يديه علم الخلافه ومعه ابو الهيجاء عبد الله بن حمدان واخوته.
فاجتمع مع نصر ما يزيد على الأربعين الف رجل، فنزل على قنطره النهر المعروف بزبارا، بناحيه عقرقوف، على فرسخين، ولحق به موسى، واشار ابو الهيجاء على نصر الحاجب وعلى مؤنس بقطع نهر زبارا، والح عليه في ذلك، فلما رآه متثاقلا عن قبول رايه، قال له: ايها الأستاذ أقطعها واقطع لحيتي معها، فقطعها حينئذ.
وسار ابو طاهر، ومن معه من اصحابه في الجانب الشرقى من الفرات قاصدين نهر زبارا، فلما صار على فرسخ واحد من عسكر السلطان آخر يوم الاثنين لعشر خلون من ذي القعده بات موضعه.
وباكر المسير الى القنطرة، فوجدها مقطوعه، وتقدم احد رجاله اسود يقال له صبح، فما زال النشاب يأخذه حتى صار كالقنفذ وهو مقدم، فراى القنطرة مقطوعه فرجع.
ولما علم اصحاب ابى طاهر ان النهر لا يخيض، عادوا القهقرى من غير ان يولوا ظهرهم، وعادوا الى الأنبار ولم يجسر احد على اتباعهم.
وكان الرأي فيما اشار به ابو الهيجاء من قطع القنطرة، ولولاها لعبر القرمطى غير مستهول لجمع اصحاب السلطان.
وطمع مؤنس المظفر في سواده وتخليص ابن ابى الساج من اقياده، فانفذ بليق حاجبه وجماعه من القواد، وسته آلاف من غلمان يوسف، فبلغ ذلك أبا طاهر، فانفرد من اصحابه ماشيا، وعبر في زورق صياد، دفع اليه الف دينار، فاجتمع مع قومه فلم يثبت له بليق، وبصر ابو طاهر بابن ابى الساج وقد خرج من الخيمة لما ناداه

(11/254)


غلمانه، فقال له القرمطى: طمعت في تخليصهم لك! وامر به فضربت عنقه واعناق من كان معه من الأسرى.
واحتال ابو طاهر في عبور اصحابه من الجانب الشرقى الى الجانب الغربي، وكان مع ابى طاهر سبعمائة فارس وثمانمائه راجل.
وتقدم على بن عيسى الى نازوك بالطواف ببغداد ليلا ونهارا، لكثرة العيارين، وأباح دم من ظهر منهم، ونقل الناس امتعتهم الى منازلهم خوفا منهم، واكترى وجوه الناس السفن.
وقصد القرمطى هيت، وبها هارون بن غريب وسعيد بن حمدان، فقاتلا من علا سورها بالمنجنيقات، بعد ان قتلوا من اصحابه عده فسكنت نفوس من ببغداد.
وتصدق المقتدر بمائه الف درهم.
وبادر على بن عيسى الى المقتدر بالله وقال له: انما جمع الخلفاء الأموال ليقمعوا بها الأعداء، ولم تلحق المسلمين مضره كهذه من هذا الكافر الذى اوقع بالحاج سنه اثنتى عشره وثلاثمائة، ولم يبق في بيت مال الخاصة شيء، فاتق الله يا امير المؤمنين، وخاطب السيده حتى تطلق ما عندها من مال ادخرته لشديده، فهذه أمها، وان لم يكن هناك شيء فالحق خراسان.
فدخل الى السيده، فأعطته خمسمائة الف دينار، وكان في بيت مال الخاصة مثلها.
واخبر على بن عيسى، بحال رجل شيرازى يكاتب القرمطى واتباعه، فاحضره فاقر انه من اصحابه، لم يتبعه الا لحق رآه معه وقال له: لسنا كالرافضة الحمقى، الذين يدعون اماما منتظرا، وامامنا فلان ابن فلان ابن اسماعيل بن جعفر، فامر به فحبس بعد الضرب، فامتنع في حبسه من الطعام والشراب فمات بعد ثلاثة ايام.
وكتب القرمطى الى مؤنس كتابا، في آخره:
قولوا لمؤنسكم بالراح كن أنسا ... واستتبع الراح سرنايا ومزمارا
وقد تمثلت عن شوق تقاذف بي ... بيتا من الشعر للماضين قد سارا
نزوركم لا نؤاخذكم بجفوتكم ... ان الكريم إذا لم يستزر زارا
ولا نكون كأنتم في تخلفكم ... من عالج الشوق لم يستبعد الدار
وله اشعار كثيره تركناها لشياعتها.

(11/255)


سنه ست عشره وثلاثمائة
. دخل مؤنس المظفر بغداد، وبعده نصر.
وندب مؤنس للخروج الى الرقة، لما وصل الخبر باستيلاء القرمطى على الرحبه حربا وقتله أهلها ورهبت الاعراب أبا طاهر، حتى كانوا يتطايرون عند سماع ذكره، وجعل على كل بيت منهم دينارا بعد ان نهبهم.
وعاود القرمطى هيب، فلم يقدر عليها، فاتى الكوفه، وجاء الى قصر ابن هبيرة فخرج اليه نصر، فحم نصر حمى شديده حاده، فسار مع ذلك الى شورا وبينه وبين القرمطى نهرها، واستخلف على الجيش احمد بن كيغلغ، وانفذ معه الجيش.
وانصرف القرمطى من غير لقاء.
واشتدت عله نصر، وجف لسانه من شده الحمى، فاعيد الى بغداد، فمات في الطريق في عمارية، فانفذ المقتدر على الجيش هارون بن غريب، فدخل بهم بغداد.
واقام على بن عيسى حين راى تنكر الأمور على الاستعفاء من الوزارة، والمقتدر يجلبه، ويستوقفه حتى اعفاه.
واستوزر المقتدر أبا على بن مقله ضرورة، وذلك بمشوره نصر، فلما كان في النصف من شهر ربيع الاول، انفذ المقتدر هارون بن غريب، ومعه ابو جعفر بن شيرزاد للقبض على على بن عيسى، فاستحيا هارون من لقائه بذلك، فانفذ أبا جعفر، فوجده مستعدا قد لبس خفا وعمامة وطيلسانا، واستصحب مصحفا ومقراضا، وسال هارون صيانة حرمه، ففعل وحمل مع أخيه ابى على الى دار السلطان، فاعتقله في دار زيدان القهرمانه، وكانت وزارته هذه سنه واربعه اشهر ويومين.

(11/256)


وزارة ابى على بن مقله
وقد كان محمد بن خلف النيرمانى بذل في الوزارة ثلاثمائة الف دينار، فلم تقبل منه، لما عرف منه الجهل بالكتابه والتهور في الافعال.
واحضر ابن مقله يوم الخميس سادس عشر ربيع الاول، وقلد الوزارة، ووصل الى الخليفة وخلع عليه، وحمل اليه طعام على العادة التي جرت للوزارة إذا خلع عليهم.
ودس نصر الحاجب على على بن عيسى من ادعى مكاتبته القرمطى على يده، وذلك لعداوة بينه وبينه، ولممايله على لمؤنس.
وعزم الخليفة على ضرب على بن عيسى بالسياط على باب العامه، فوقفت السيده على بطلان الأمر فازالت من نفس المقتدر تصديق ذلك، وثنته عن رايه في معاقبته.
واتفق لابن مقله ما مشى به الأمور، انفاذه البريدى له- وكان بينهما موده- سفاتجا بثلاثمائة الف دينار، وغير ذلك من وجوه اخر.
وتغاير سواس هارون بن غريب على غلام امرد، فوقع الحرب بينهم، فاخذ نازوك سواس هارون وحبسهم، فسار اصحاب هارون الى مجلس الشرطه وضربوا خليفه نازوك، وأخذوا اصحابه فلم ينكر ذلك المقتدر فجمع نازوك رجاله وزحف الى دار هارون، فقتل من اصحابه قوما، ووقعت الحرب، فجاء ابن مقله ومفلح الأسود فاديا رساله إليهما عن المقتدر حتى كفا.
واقام مؤنس في داره مستوحشا، فأظهر ان ذلك لمرض في ساقه، وصار اليه هارون لابسا دراعه فاصطلحا.
واقام هارون ببستان النجمى، قاصدا للبعد من الفتن، فكتب اصحاب مؤنس

(11/257)


اليه وهو بالرقة، بان الأمر قد تم لهارون في امره الأمراء، فاسرع الى بغداد ولم ينحدر الى المقتدر وصعد اليه الأمير ابو العباس والوزير ابو على فسلما عليه.
وقدم عليه ابو الهيجاء من الجبل، وقلد احمد بن نصر الحجبة، وأخذ منه ستين الف دينار، وذلك في شهر رمضان، وصرف في ذي الحجه.
وقبض ابن مقله على ابى محمد بن عبد الله كاتب نصر، والزمه خمسين الف دينار.

(11/258)


سنه سبع عشره وثلاثمائة
في يوم السبت ثالث المحرم، خرج مؤنس الى باب الشماسيه، وخرج الجيش معه، وعبر اليه نازوك في اصحابه، وخرج اليه ابو الهيجاء وسائر القواد، ثم انتقلوا الى المصلى.
وشحن المقتدر داره بهارون بن غريب واحمد بن كيغلغ والحجريه والرجاله المصافيه فما كان آخر النهار حتى مضوا الى مؤنس.
وراسل مؤنس المقتدر ان الجيش عاتب بما يصير الى الخدم والحرم ودخولهم في الرأي، وهم يطالبون باخراجهم عن الدار، فأجابه المقتدر برقعة طويله فيها:
امتعنى الله بك ولا أخلاني منك، ولا أراني سوءا فيك، تاملت الحال التي خرج اولياؤنا وصنائعنا وشيعتنا إليها وتمسكوا بها، وأقاموا عليها، فوجدتم لم يريدوا الا صيانة نفسي وولدى، واعزاز امرى وملكي، بارك الله عليهم، واحسن اليهم وأعانني على صالح ما انويه لهم واما أنت يا أبا الحسن المظفر- لا خلونا منك- فشيخى وكبيرى، ومن لا ازول ولا احول عن الميل اليه والتوفر عليه والتحقق به، اعترض ما بيننا هذا الحادث الم يعترض، وانتقض هذا الأمر الذى لحقنا او لم ينتقض، وأرجو الا تشك في ذلك ان صدفت نفسك وحاسبتها، وازلت الظنون السيئه عنها، ادام الله حراستها.
والذى ذكره أصحابنا من امر الحرم والخدم قول إذا تبينوه حق تبينه، وتصفحوه حق تصفحه، علموا انه قول جاف، والبغى فيه على غير مستتر ولا خاف ولا يثارى موافقتهم واتباعى مصلحتهم اجبتهم الى المتيسر في امر هذه الطبقة، واتقدم بقبض اقطاعاتهم وحظر تسويغاتهم، واخراج من يجوز اخراجه من دارى، ولا اطلق للباقين الدخول في تدبيرى ورأيي، واوعز بمكاتبه العمال في استيفاء حق بيت المال من

(11/259)


ضياعهم الصحيحه الملك، دون ما يقال انه قد لابسه الريب والشك، وانظر بنفسي في امر الخاصة والعامه وابلغ في انصافها والاحسان إليها الغاية.
واما أنتم، فمعظم نعمكم منى، وما كنت لأعود عليكم في شيء سمحت به ورايته في وقته، وأراه الان زهيدا، في جنب استحقاقكم، وانا بتثميره اولى وبتوفيره احرى.
اما نازوك، فلست ادرى لأي شيء عتب، ولا لأي حال استوحش واضطرب؟ فما غيرت له حالا، ولا حزت له مالا.
واما عبد الله بن حمدان، فالذي احفظه صرفه عن الدينور وتهيؤ اعادته إليها ان كان راغبا فيها، وما عندي له ولنازوك والعصاة كلها الا التجاوز والإبقاء وبعد هذا وقبله، فلي في أعناقكم بيعه قد وكدتموها على انفسكم دفعه بعد اخرى.
ومن بايعنى فإنما بايع الله سبحانه، ومن نكث فإنما نكث عهد الله، ولي عندكم أيضا نعم واياد وعندكم صنائع وعوارف، آمل ان تعترفوا بها وتلتزموها وتشكروها، فان راجعتم هذا الجميل، وتلقيتم هذا الخطب الجليل، وفرقتم جموعكم ومزقتموها وعدتم الى منازلكم واستوطنتموها، واقبلتم على شئونكم فلم تقصروا فيها كنتم بمنزله من لم يبرح من موضعه، ولم يأت بما يعود بتشعث محله وموقعه، وان ابيتم الا مكاشفه ومخالفه، فقد وليتكم ما توليتم، واغمدت سيفي عنكم، ولجات في نصرتي ومعونتى الى الله سبحانه، ولم اسلم الحق الذى جعله الله تعالى لي، واقتديت بعثمان بن عفان رضى الله عنه، حين لم يخرج من داره، ولم يسلم حقه لما خذله عامه ثقاته وانصاره، والله تعالى بصير بالعباد وللظالمين بالمرصاد.
ولما وقف مؤنس ونازوك وابو الهيجاء على الرقعة، طالبوه باخراج هارون، فاخرجه من يومه الى الثغور الشامية والجزرية.
وعاد مؤنس والجيش الى بغداد في يوم عاشوراء وزحفوا الى دار السلطان، فهرب المظفر بن ياقوت والخدم والحجاب وابن مقله

(11/260)


واخرج المقتدر والدته وخالته وحرمه ليلا الى دار مؤنس، ودخل حينئذ من قطربل الى بغداد مستترا.
واصعد نازوك بغلامه مؤنس الى دار ابن طاهر، ففتح له كافور الموكل بها، وسلم اليه محمد بن المعتضد بالله، واحرق في طريقه دار هارون وبويع محمد بالخلافة، بايعه مؤنس والقواد ولقب القاهر بالله.
واخرج مؤنس على بن عيسى من دار السلطان، فاطلقه الى منزله وقلد أبا على بن مقله وزارة القاهر.
وقلد نازوك الحجبة والشرطه.
واضاف الى اعمال ابى الهيجاء اعمالا كثيره.
ومضى بنى ابن نفيس، بعد ان وقع النهب في دار السلطان الى تربه السيده بالرصافة، فوجد لها هناك ستمائه الف دينار.
واشهد المقتدر على نفسه بالخلع القضاه وأخذ القاضى ابو عمر الكتاب، فلم يطلع عليه أحدا، فكان هذا من اقوى ذرائعه عند المقتدر، لما عاد الى الخلافه.
وسكن النهب عند ولايه القاهر، وجلس ابن مقله بين يديه، وكتب بخلافته الى الافاق.
وتقدم الى نازوك بقلع خيم الرجاله، والمنع للحجريه من دخول الدار فاضطربوا.
فلما كان يوم الاثنين سابع عشر المحرم، بكر الناس الى دار الخلافه، لأنه يوم الموكب وحضر الخلق والعسكر باسره، وطالبوا بالرزق والبيعه ولم ينحدر مؤنس يومئذ.
وهجمت الرجاله تريد الصحن التسعينى، وكان نازوك نهى اصحابه عن معارضتهم، إشفاقا من الفتنة، فقاربوا القاهر بالسلاح، وكان جالسا في الرواق، بين يديه ابن مقله ونازوك وابو الهيجاء، فانفذ بنازوك ليردهم وهو مخمور قد شرب ليلته، فقصدوه بالسلاح، فهرب منهم، فطمعوا فيه، وانتهى به الهرب الى باب كان

(11/261)


قد سده خوفا من الدخول منه فكانت منيته عنده، فقتلوه وصاحوا مقتدر يا منصور.
فهرب كل من في الدار، وصلبوا نازوك وعجيبا الخادم على خشب الستارة، وبادر الخدم الى أبواب الدار فغلقوها، لانهم خدم المقتدر وصنائعه.
وبادر ابو الهيجاء الخروج، فصاح القاهر به: تسلمني يا أبا الهيجاء! فأخذته الحمية فقال: لا والله لا اسلمك وعاد ابو الهيجاء ويده في يد القاهر الى دار السلام، وقصد الروشن فوجد الرجاله منتظمين، فنزل ابو الهيجاء معه وقال له: وتربه حمدان لا فارقتك يا مولاى او اقتل دونك! ومضى ابو الهيجاء الى الفردوس ونزع سواده ومنطقته واعطى ذلك غلامه، وأخذ جبه صوف مصريه عليه، وركب دابه غلامه، ومضى الى باب النوبى، فوجد الجيش وراءه وهو مغلق، فعاد الى القاهر، وقال: هذا امر من السماء، قد حمل راس نازوك الى هناك.
ودخلا من حيث خرجا، وأتيا دار الأترجة، وتأخر عنهما فائق وجه القصعة، واشار على الخدم بقتل ابى الهيجاء، وذكرهم عداوته للمقتدر، فاتوه بقسي ودبابيس فجرد سيفه ونزع جبته، وحمل عليهم فاجفلوا منه ورموه ضرورة، ورماه احد الحجريه بنشابه وهو ينادى: يال تغلب! القتل بين الحيطان اين الكميت بن الدهماء! فرماه خمار جونه بسهمين: أحدهما نظم فخذيه والآخر مال بترقوته، فانتزع السهام ومضى الى بيت فسقط فيه قبل ان يصل اليه.
فبادره اسود، فضرب يده فقطعها، وأخذ سيفه، وغشيه اسود آخر فحز راسه.
وامتنع المقتدر، وهو بدار ابن طاهر، من المضى الى دار السلطان، وخاف ان تكون حيله عليه، فحملوه على رقابهم الى الطيار.
فلما حصل في دار الخلافه سال عن ابى الهيجاء، فقيل له: هو في الأترجة، فكتب له أمانا بخطه، وقال لبعض الخدم: ويلك بادر به لا تنم عليه امره.
فلما حصل الخادم في الطريق، تلقاه خادم آخر برأسه، فعاد الى المقتدر فعزاه

(11/262)


عنه، فظهرت كابته وقال: ويلك من قتله؟ فغمزه مفلح الأسود، فقال: لا ادرى فكرر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وظهر من حزنه عليه امر عظيم.
وكان ابو الهيجاء في الشجاعة بمنزله كبيره، حكت عنه احدى حظاياه، انه كان يواقعها في سفر، فجاء السبع الى باب مضربه، فجرد سيفه وحمل عليه، وأتاها برأسه، وعاد الى الحال التي كان عليها، لم تفتر شهوته ولم تكل آلته.
واتى المقتدر بالقاهر، واستدناه، وقبل جبينه، والقاهر يقول: نفسي نفسي يا امير المؤمنين، فقال له: لا ذنب لك لأنك اكرهت، وحق رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا جرى عليك سوء منى ابدا، فاطمان.
وشهر ببغداد راس نازوك وابى الهيجاء، ونودى عليهما: هذا جزاء من كفر نعمه مولاه.
وعاد ابن مقله الى الوزارة، وكتب باعاده الخلافه الى المقتدر وحكى ان بدر بن الهيثم القاضى، ركب للتهنئه ورجوع الخلافه الى المقتدر بالله، وقال لابن مقله: بين ركبتي هذه وركبه ركبتها مائه سنه، لأنني ركبت للتعزية بوفاه المأمون سنه سبع عشره ومائتين مع ابى، وقد ركبت اليوم للتهنئه بعود المقتدر سنه سبع عشره وثلاثمائة، وتوفى بدر بعد ايام سنه مائه واثنتى عشره سنه.
وجددت البيعه على الناس، فاطلق للفرسان زياده ثلاثة دنانير في الشهر، وللرجال زياده دينار ونفدت الأموال في عطياتهم حتى بيعت الآلات والكسوة.
واشهد المقتدر بالله على نفسه، بتوكيل على بن العباس النوبختى في بيع الضياع.
وحضر على بن عيسى فقام اليه ابن مقله، وشاهد البيع، فانتهى الى بيع ضياع جبريل والد بختيشوع، وقد بيعت بثمن نزر، فقال: لا اله الا الله! حدثنى شيخنا القاسم عيسى بن داود- يعنى أباه- ان المتوكل رحمه الله، لما غضب على بختيشوع انفذ لإحصاء ما في داره، فوجد في خزانه كسوته رقعه فيها ثمن ضياعه، مبلغ ذلك بضعه عشر آلاف الف درهم.
وخلع المقتدر على ابن مقله وكناه وقلد أبا عمر قضاء القضاه، وكتب عهده.
واوقع في هذه السنه القرمطى بالحجيج في المسجد الحرام، وقتل امير مكة، وقلع الحجر الأسود، وسلب البيت، واصعد رجلا من اصحابه ليقلع الميزاب، فتردى فهلك،

(11/263)


وطرح القتلى بزمزم، والقى من بقي في المسجد، وأخذ الأموال وحمل الحجر الى بلده.
قال المقتدر: قال لي عقيل بن عصام العقيلي بقرية ابروذه من الدجيل:
حدثنى ابى: انه راى أبا طاهر وبين يديه خمسون يضربون الرقاب، فقتل من الحجيج نحو عشره آلاف وهو يقول:
ولو كان هذا البيت بيتا لربنا ... لصب علينا النار من فوقنا صبا
وانا تركنا بين زمزم والصفا ... جنائز لا نبغى سوى كسبها ربا
لعنه الله واتباعه لعنا وبيلا! واتى اهل مكة على من عندهم من الحاج، فقتلوهم وسلبوهم.
وقلد ابنا رائق شرطه بغداد، مكان نازوك.
وورد ياقوت من فارس، فخلع المقتدر عليه، وعلى ابنه المظفر، وولى مكانه نجحا الطولونى بفارس وكرمان وعزل ياقوت، وجعل الاشراف بها لابن ابى مسلم.
وانحدر بعد ذلك مؤنس الى المقتدر، فخلع عليه ونادمه، وساله في أم موسى الهاشمية، وفي أم دستنبويه، فأجيب ووصلت بسبعه آلاف دينار.
ورتب على بن عيسى في المظالم، وجعلت الدواوين اليه.
وفيها فتح هارون بن غريب شهرزور، وطالبهم بخراج عشرين سنه عصوا فيها، وصالحوه على سبعه وثلاثين الف دينار ومائتي الف درهم.
وفيها رتب الحجريه على بن مقله، وضربوه بالدبابيس فافلت منهم.
وفيها ملك اصحاب ما كان الديلمى قاسان.

(11/264)


سنه ثماني عشره وثلاثمائة
[أخبار متفرقة]
زاد امر الرجاله وكثر تسحبهم وادلالهم، بأنهم كانوا السبب في عود المقتدر الى داره.
وطالب الفرسان بالمال، فاحتج عليهم السلطان، بانه يصرف الى الرجاله في كل شهر مائه وثلاثين الف دينار.
وركبت الفرسان مع محمد بن ياقوت، فطردوهم واوقع بالسودان بباب عمار، وحرق دورهم، فهربت الرجاله الى واسط، ورئيسهم. نصر الساجي، فغلبوا عليها فانحدر مؤنس فاوقع بهم، فلم ترتفع لهم رايه بعد ذلك.
وكان بين محمد بن ياقوت ومؤنس تباعد، فلممايله مؤنس ابن مقله، عاداه بالانضمام اليه، وقبض على الوزير سليمان بن الحسن، حين عرفت اضاقته، وكثرت المطالبات له، فكانت مده وزارته سنه وشهرين
. وزارة ابى القاسم عبد الله بن محمد الكلواذى
كانت في يوم الاثنين سابع رجب، واقرضه ابن قرابه مائتي الف دينار بربح درهم في كل دينار.
وملك مزداويج الجبل باسره الى حلوان.
وانهزم هارون بن غريب الى دير العاقول.
واستامن يشكرى الديلمى الى هارون، وهو من اصحاب اسفار، وانهزم بانهزامه وصادر يشكرى اهل نهاوند في اسبوع، على ثلاثة آلاف الف درهم، وانبثت

(11/265)


الاخبار، وصادر اهل الكرج وملك أصبهان، وكان بها احمد بن كيغلغ، فخرج هاربا في ثلاثين نفسا.
فكان لأحمد من الاتفاق العجيب ان يشكرى تبعه الى قريه، فعاون أهلها احمد وتقارب احمد ويشكرى، فضربه احمد ضربه قدت مغفره وخوذته، ونزلت في راسه فقتلته، وانهزم اصحابه، وسن احمد يومئذ سبعون سنه.
وركب الكلوذانى في طيارة، فرجمه قوم من الجند، طلبوا أرزاقهم، فجعل ذلك سببا لاغلاق بابه، وولى بعده الحسين بن القاسم الكرخي