تاريخ دمشق لابن القلانسي
سنة تسع وستين
وثلاثمائة
فيها خرج العسكر المصري مع القايد سليمان بن جعفر بن فلاح في أربعة ألف
من المغاربة ووصل إلى دمشق فصادف قساماً قد غلب عليها فنزل في بستان
الوزير بزقاق الرمان وعسكر حوله في دور هناك. فثقل أمره على قسام وطال
مقامه في غير شيء وقلت نفقته ورام أن يظهر صرامة فيتمكن من البلد فقال
لقسام: لا يحملن أحد سلاحاً. فأبوا ذلك فبعث إلى الغوطة من يتلوها
ويمنع من خفارة تؤخذ منها وحمل السلاح فيها فأعلم قسام ذلك فقال: لا
يحفل بهذا الأمر بل كونوا على ما كنتم عليه. وثار قسام ومن معه إلى
الجامع وصاروا إلى البستان الذي فيه سليمان فأخرجوهم وخرج سليمان
وأصحابه إلى الدكة ونزل على نهر يزيد وقسام جالس في الجامع ولم يشهد
الحرب مع أصحابه وقد أحضر المشايخ وكتب بما جرى إلى مصر وعمل محضراً
على نفسه انه متى جاء للملك عضد الدولة عسكر أغلق الأبواب وقاتله ليكون
لك معونةً على ما يريده فلما وقف عليه العزيز وافق غرضه وأنفذ رسله
وكتابه إلى سليمان بن فلاح يأمره بالرحيل عن دمشق فرحل عنها وكان مقامه
بها شهوراً من سنة 369 ورجع القائد أبو محمود إلى دمشق. ولما تم للفضل
ما دبره على أبي تغلب ووافق الأغراض عزموا على أعمال الحيلة على ابن
جراح لأن أمره كبر وشره ظهر وتوجه إلى قسام ليعمل أيضاً عليه وأظهر انه
يريد المسير إلى
(1/41)
حمص وحلب ليأخذهما وجمع بني عقيل ونزل
بظاهر دمشق وعلم ابن جراح بمكاتبته لبني عقيل فأخذ حذره وأمر أصحابه
بالرحيل وركب أصحاب الفضل وأخذوا من العرب تقدير خمسمائة فارس وسار ابن
جراح عن دمشق. وانضمت بنو عقيل إلى الفضل مع شبل وظالم في صفر سنة 370
وبطل كل ما أراد الفضل عمله من الحيلة على ابن جراح وقسام ورحل عن دمشق
في طلب ابن جراح وجد في طلبه فبعد عنه وكتب ابن جراح إلى مصر يتلطف
أمره فورد الأمر على الفضل بالكف عنه وعاد الفضل إلى مصر وعاد ابن جراح
إلى فلسطين فأخربها وأهلك من فيها. وكان الرجل يدخل إلى الرملة يطلب
فيها شيئاً يأكله فلا يجده ومات الناس بالجوع وخربت الأعمال وأما دمشق
فكان قد اشتد بها غلاء السعر. وكان بكجور قد ولي حمص من قبل سعد الدولة
أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان فواصل إليها الغلة مع العرب بحيث
اتصلت مع الأيام وعمرت الطرقات وجعل فيها من يخفر سالكيها. وكانت العرب
قد طمعت في عمل دمشق وأفسدت الغوطة وكان بها القائد أبو محمود واليها
في ضعف وهو ضميمة لقسام فملك في دمشق في سنة 370 وكان بكجور قد ضمن
أعمال المغاربة قارا وبيرود ومعلولا والتينة وصيدنايا والمعرة وتلفيتا
وغيرها من ضياع جبل سنير فحماها من العرب والحرامية وحسنت حال دمشق
بذلك. وكاتب بكجور العزيز في ترغيبه في الأجناد حملة السلاح فاجتمع
إليه حين فعل
(1/42)
ذاك الخلق الكثير من سائر البلاد وكانوا
حوله إذا ركب من داره فقهر بهم المغاربة واستظهر عليهم في سنة 370
وفيها وردت الأخبار بوفاة الملك عضد الدولة فناخسره بن بويه في يوم
الاثنين ثامن شوال منها وكتم أمره وكانت مدته بالعراق خمس سنين ونصفاً
وانتهى ذلك إلى الوزير بن كلس فدخل على العزيز فأعلمه فسر بذلك وخلع
عليه وأمنوا بعد وفاته وعملوا على الخروج إلى الشام
(1/43)
سنة احدى وسبعين
وثلاث مائة
فيها وقع الاهتمام بتجهيز العساكر المصرية إلى ابن جراح وقد اشتهر أمره
بارتكاب العيث والفساد واخراب البلاد فلما سار العسكر من مصر مع القائد
بلتكين التركي وكان فيها اعجام ومغاربة ومن كل الطوايف فنزل الرملة
وأجفل ابن جراح وكان قد قوي أمره وصار معه جند يرمون بالنشاب وخلق عظيم
وسار معه بشارة والي طبرية واجتمع إليه من العرب من قيس وغيرها جمع
كثير ونشبت الحرب بين الفريقين وكان بلتكين المقدم قد خرج على ابن جراح
من ورائه بعد اشتداد الحرب فانهزموا وأخذهم بالسيف وأسر ابن جراح وأفلت
ونهب عسكره وقصد أرض حمص في البرية وقصد أنطاكية واستجار بصاحبها
فأجاره وأمنه. وصادف خروج بارديس من قسطنطينية في عسكر عظيم يريد أرض
الاسلام فخاف ابن جراح وكاتب بكجور خوفاً على نفسه. وكان القائد بلتكين
المقدم قد نزل على دمشق في ذي الحجة سنة 370 وكان على
(1/44)
العسكر منشا بن الفرار اليهودي فتلطف أمر
قسام فلم يتمكن من ذلك وكان بدمشق مع قسام القائد جيش بن الصمصامة شبه
وال وقد كان ولي البلد بعد مهلك خاله القائد أبي محمود في سنة 70 ولما
نزل القائد بلتكين مقدم العسكر المصري على المزة وجده رجلاً أحمق فلم
يحفل به ودخل على منشا الكاتب فقال: اني قضيت حق هذا القائد ولم يجئ
إلي ولم يقض حقي وأنا الوالي. فهزأ به منشا وقال له: نعم أنت الوالي.
وظن انما نزول العسكر على دمشق ليصلح البلد وقالوا: تخرج أنت ومن معك
إلى ظاهر البلد. فخرج هو ومن معه فعسكر نحو مسجد إبراهيم عليه السلام
وكان عسكر بشارة نازلاً في ذلك المكان وكانت المراسلة بينهم وبين قسام
أن يسلم البلد ويكون هو آمناً على نفسه ومن معه فعلم قسام انهم إن بقوا
في البلد أهلكوه ومن معه فقال: لا أسلم البلد. وضبط أصحابه فلما كان
يوم الثلاثا التاسع عشر من المحرم سنة 373 وقع بين قوم من أصحاب قسام
وقوم من أصحاب القائد بشارة الخادم عند باب الحديد فظهر عليهم أصحاب
بشارة وأقبل في غد أصحاب جيش بن الصمصامة فخرج أصحابه إليهم فطردوهم ثم
نشبت الحرب وأحرق ربض باب شرقي واطلقت النار في عدة مواضع وملكوا
الشاغور ودخلت الأتراك على خيلهم في البطاطين وأحرقوا سقيفة وعدة مواضع
ومساجد وعمها الخراب بعد ما كانت عليه من حسن العمارة واشتد بالناس
الخوف والمضرة. فاجتمع الناس وكلموا قساماً بأن يخرجوا إلى القائد
بلتكين فيصلحوا الأمر معه فلازمهم وذل بعد تحيره وتبلده وقال: افعلوا
ما شيئتم. وكان اجتماع الناس لطفاً من الله تعالى فخرجوا إليه وخاطبوه
فصرف أصحابه عن القتال وعن الأبواب وانصرف أصحاب قسام إليه فوجدوه
خائفاً فأخذ كل لنفسه ورجع المشايخ إلى قسام فقالوا له: قد أجاب القائد
إلى ما تحب وأمنك على نفسك وأصحابك.
(1/45)
فخاطبوه بذلك وهو ساكت حائر وقد بان ذلك في
وجهه فلما رأوه كذلك خافوا أن يعود عن تسليم البلد على أمان لي
ولأصحابي فعاد المشايخ إلى بلتكين القائد وأعلموه الخطاب والجواب
فأجابهم إلى ما طلب وقال لهم: نريد أن ننزل على هذا البلد في هذا
اليوم. فقالوا: افعل ما تحب وتوثر. فولي البلد حاجباً يقال له خطلخ في
خيل ورجل فدخل المدينة من يومه. وكان مبدأ الحرب في هذه النوبة يوم
الخميس لعشر بقين من المحرم سنة 373 والدخول إلى البلد يوم الخميس
لثلاث بقين منه ولم يعرض لقسام ولا لأحد من أصحابه وتفرق أصحابه عنه
وأقام يومين واستتر وقيل هرب فصاروا إلى داره وأخذوا ما فيها وحولها من
دور أصحابه وطلب فلم يوجد ونودي عليه وبذل لمن يظهره خمسون ألف درهم
ولمن يدل على مكانه عشرون ألفاً فقال لهم قائل: هو في كنيسة اليهود بين
البطاطين فجاءوا إلى الديان وقالوا: نريد أن نخرب هذه الكنيسة أو
نحرقها بالنار فإن قساماً فيها. فاصعدهم ودار بهم فيها فلم يروا أثراً
ولا عرفوا له خبراً فلما أخذت امرأته وولده قالت لمن سمع منها: ما
تنتظروا يا مشوم. وكان عند رجل في الحائر ولم يفطن به أحد فخرج في
الليل إلى العسكر فوقف على خيمة منشا الكاتب وقال: رجل يريد أن يدخل
إلى الرئيس. فقالوا: ومن هو. قال: قسام. فدخل عليه على غير أمان فبعث
إلى القائد بلتكين فأعلمه
(1/46)
فأخذه إليه وأدخله عليه وحملوه إلى خيمة
وقالوا له: مد رجلك. فقال: ما أفعل أنا جئتكم بأمان. فأخرج الحاجب
الدبوس فضربه به فمد رجله فقيد وحمل إلى مصر فعفي عنه لما جاءهم في
الأمان.
وكان قسام هذا أصله من قرية بجبل سنير يقال لها تلفيتا من قوم يقال لهم
الحارثون بطن من العرب نشأ بدمشق وكان يعمل في التراب ثم انه صحب رجلاً
يقال له ابن الجسطار من مقدمي الأحداث وحملة السلاح وطالبي الشر فصار
من حزبه وتزايد أمره إلى ما انتهى إليهن
(1/47)
قسام هذا أصله من قرية بجبل سنير يقال لها
تلفيتا من قوم يقال لهم الحارثون بطن من العرب نشأ بدمشق وكان يعمل في
التراب ثم انه صحب رجلاً يقال له ابن الجسطار من مقدمي الأحداث وحملة
السلاح وطالبي الشر فصار من حزبه وتزايد أمره إلى ما انتهى إليه
ولاية بكجور لدمشق والسبب في ذلك في سنة
372
كان من ابتداء أمر بكجور ما ذكر انه كان غلاماً مملوكاً لفرغويه أحد
غلمان سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب وكان فرغويه قد غلب على أمر حلب
بعد وفاة سيف الدولة ومنع ولده سعد الدولة أبا المعالي منها ودفعه عنها
فسار أبو المعالي إلى حماة ورفنية وكان ينزل مهماً في عسكره. وكانت
الروم قد خربت حمصاً وأعمالها ونزل رقتاش التركي غلام سيف الدولة من
حصن برزويه فلقي مولاه أبا المعالي وسار معه ونزل على حمص وشرع في
عمارتها ولم شعثها لأن الروم لما ملكتها أفسدت أعمالها في النوبة
الأولى عند خروجهم في سنة 358 على غفلة من أهلها وغرة ممن بها واجتهد
رقتاش في عمارتها وتحصينها وأبو المعالي يقوي أمره بها ويشد شوكته
فيها. وكان فرغويه قد استناب بكجور في حلب فلما قوي أمره قبض على مولاه
وحبسه في قلعة حلب وملك البلد وأقام تقدير ست سنين. وكوتب أبو المعالي
من حلب وأطمع في
(1/48)
تملك البلد في رجال فرغويه وأن يكونوا
عوناً له على أمره فجمع بني كلاب ومن أمكنه ونهض صوب حلب ونزل على معرة
النعمان فملكها وأخذ منها غلاماً كان غلب عليها يقال له زهير فقتله
وسار عنها فنزل حلب سنة 366 فأقام عليها تقدير أربعة أشهر ثم تسهل له
فتحها بحيلة عملها وتحصن بكجور في القلعة فراسله أبو المعالي فطلب منه
الأمان فأمنه فقال بكجور: أريد يتوسط بيني وبينك وجوه البلد من بني
كلاب. فأجابه إلى ذلك فتوسطوا الأمر بينهما وأخذوا له العهد والميثاق
والأمان على نفسه وولده وماله وانه لا يغدر به ويوليه حمصاً على انه
ينحدر من القلعة ويسلمها ولا يأخذ منها شيئاً إلا ما لا بد منه فأجابه
إلى ذلك فولاه حمصاً لما نزل من القلعة وسلمها ووفى له بكل ما عاهده
عليه. وسار بكجور إلى حمص في السنة المذكورة وصرف همه إلى عمارتها وكان
أمره كل يوم فيها إلى الزيادة بعد الدخول غليها في الضعف. واتفق له إن
أعمال دمشق من حوران والبثنية قد اختلت وخربت على ما تقدم ذكره من قلة
القوت بها وغلاء السعر فيها وجلا منها خلق كثير إلى حمص فعمر البلد
وكثر الناس عنده. وكان في بكجور خور وكان مجتهداً في العمارة وأمن
السبل والطرق فلما انقطعت الغلات عن دمشق ومات بها كثير من الناس جوعاً
من أهل حوران والبثنية ورغب الناس جالبون منها في حمل الغلة إلى دمشق
مكنهم من ذلك وحمى لهم الطرق في ترددهم بادين وعائدين فحسن حال حمص
وكثر السفر إليها ومنها. وكانت العرب قد طمعت في أعمال دمشق وكان
واليها القائد أبو محمود بن جعفر في ضعف وقسام غالب عليه واتفق وفاة
أبي محمود إبراهيم بن جعفر المذكور بدمشق في صفر سنة 370 وكان بكجور قد
ضمن أعمال المغاربة على ما تقدم ذكره وحماها من العرب
(1/49)
وحسنت حال دمشق بحمل الغلات إليها في تلك
الشدة. وكان بكجور يكاتب العزيز بالله بمصر وورد الجواب عليه بأن تصير
إلى بابنا لنوليك دمشق وكان العزيز قد رغب في الجند الذين يعملون
السلاح مثل الناشب والرامح وجمع الجمع الكثير وأخرجهم إلى حرب الفتكين
وجرى من أمره ما ذكر في موضعه. فلما كان في سنة 372 وقعت الوحشة بين
سعد الدولة أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب وبين بكجور
وراسله بأن يخرج من بلده فكتب بكجور إلى العزيز يسأله انجاز الوعد
بولاية دمشق ودعت الحاجة إلى عود القائد بكجور مقدم العسكر المصري بحكم
اعتزام المغاربة على الوثوب بالوزير ابن كلس وقتله وقادت الضرورة
العزيز إلى أن ولي بكجور دمشق وكتب إلى بلتكين ومنشا كاتب الجيش بأن
يسلم البلد إلى بكجور ويرحل عنه. وقد كان كتب أيضاً كتاباً إلى العزيز
إن إن أنفذ إلي عسكراً لآخذ لك حلب وأطمعه في ذلك فأنفذ إليه بعض عسكر
دمشق فسار بهم ونزل على حلب وحصرها مدة يسيرة. فظهر دمستق الروم بارديس
ونزل على أنطاكية وعزم على كبس بكجور على حلب فكتب إليه ابن جراح يحذره
فرحل عن حلب وتبعه عسكر الروم في أثره وتم بكجور ونزل على حمص وحمل ما
كان له إلى بعلبك ونزل في جوسية في جمع عظيم ونزل ملك الروم ميماس حمص
ولم يعرض للبلد ودخل المدينة وشاهد الكنيسة ورحل عنها متوجهاً إلى
البقيعة يريد طرابلس.
(1/50)
وأنفذ إلى أهل حمص رسولاً يقول لهم: نريد
مالاً يحمل إلينا. فقالوا: هذا بلد خراب ليس فيه مال. فرجع ونزل عليها
وقال لأهلها: من خرج من البلد فهو آمن. فخرج قوم وأقام قوم فدخل عسكره
فنهب وسبى وأحرق الجامع
ومواضع من البلد وتحصن قوم بالمغاير فأوقد عليهم فأهلكهم الدخان ولم
يعرض للعرب ولا لمن هرب إليها وكان دخول الروم إلى حمص يوم الثلاثاء
التاسع عشر من جمادى الأول سنة 373 وهي النوبة الثانية للروم وقيل إن
أبا المعالي بن سيف الدولة خاف من أخذ بكجور حلب بالمغاربة فأنفذ إلى
ملك الروم يسأله اخراب حمص. ورجع أكثر من كان مع بكجور من عسكر دمشق
أصحاب القائد بلتكين وبقي بكجور وأصحابه منتظراً أن يرحل بلتكين عن
دمشق ويسير إليها. وكان السبب في تأخر ولاية دمشق إن الوزير ابن كلس
كتب إلى بلتكين أن لا يسلم دمشق إلى بكجور وعرف العزيز ذاك وكتب يذكر
بأمره وانجاز وعده فسأل العزيز عن تأخر الأمر في ذلك فقال له الوزير:
الصواب أن لا يلي بكجور دمشق ويعصى فيها. قال: نحن استدعيناه لذلك
ووعدناه به. فقال: قد كان ذاك والحزم أن لا يولي. فقال له: لا بد من
ذلك. فكتب الوزير إلى منشا بن الفرار كاتب الجيش: واقف بكجور على ما
يأخذ من المال له ولرجاله وسلم ولاية دمشق إليه. فسلم بلتكين البلد
إليه وعاد متوجهاً إلى مصر في يوم الأحد مستهل رجب سنة 372 وكانت ولاية
بلتكين دمشق خمسة شهور ودخل بكجور البلد والياً في يوم السبت سابع رجب
من السنة وقد عرف إن الذي أخر الولاية الوزير بن كلس فحقد بكجور عليه.
وكان لابن كلس نائب في عمله وضياعه يقال له ابن أبي العود يهودي وكان
يكتب إليه بأخبار البلد فقال بكجور: هذا عين علي. وتقدم بقتله
(1/51)
فقتل فلما بلغ ذلك الوزير عظم عليه واغتم
له وأعلم الوزير العزيز وقال: هذا مبدأ عصيان بكجور وقد تمكن من البلد
وجاء معه ابن جراح وهو عدو. فلما كان في سنة 77 عزم الوزير على العمل
على قتل بكجور فأنفذ إلى غلام نصراني عطار يعرف بابن أخي الكويس من أهل
دمشق إن احتل على قتل بكجور ولم يكن النصراني من أهل ذاك فقال: لا يتم
هذا الأمر إلا برجل من الجند من أصحابه يعين على هذا الأمر. فكتب رقعةً
بما يريد إلى بعض أصحاب بكجور، فلما وصلت الرقعة إليه ونظر ما فيها فظن
إن بكجور دسها إليه ليبلوه بها فأوصل الرقعة إلى بكجور فوقف عليها
وقال: أريد من جاءك بها. فقال: إنما أوصلتها إليك لأبرأ من أمرها ولا
أكتمها عنك. فلم يقبل قوله ولج في طلبه وقال له: إن الذي أوصل الرقعة
أجيراً لابن أخي الكويس العطار. فوجه قبض عليه وعلى الأجير ووضع
العقوبة على العطار وقال: أريد الصبي. وقبض على قوم كانوا يعاشرون
العطار فكحلهم ونفاهم وكان فيهم ثلاثة من أهل العلم والفضل يقال لأحدهم
ابن الخطاب والآخر الخلادي والثالث المستولي وأخرج ابن الكويس بعد ما
صفي ومعه رجلان من المتهمين فصلبوا أقبح صلب وماتوا في غد ذلك اليوم في
رمضان سنة 77 وبلغ الخبر الوزير ابن كلس فعظم عليه وازداد حنقاً وأعلم
العزيز ذاك واتفق أن يخرج إليه عسكر ومعه جراح وشرع بكجور في أذية
الناس من أصحاب الوزير في ضياعه وجار في البلد جوراً عظيماً ولم يخل من
القتل والصلب والفتك. فجرد إليه في سنة 78 القائد منير الخادم في عسكر
كثيف وأصدرت
(1/52)
الكتب إلى ولاة الأعمال بالمسير معه ولما
عرف بكجور ذلك أنفذ إلى العرب وجمع وحشد واستقبل العسكر فالتقيا وصدقوا
القتال وكثر في بني كلاب الطعن والجراح وبشارة ومنير المقدمان قائمان
في أصحابهما عليهما الحديد فحملوا جميعاً على الكلبين فهزموهم والجؤهم
إلى حيطان داريا فرجعوا ومن معهم من أصحاب بكجور خاسرين مفلولين. فخاف
بكجور على نفسه أن يؤخذ فراسلهم بأنه يسلم البلد ويرحل عنه وقد كان
كوتب القائد نزال والي طرابلس بالمسير والنزول على دمشق وكان عسكره ستة
ألف فسار فلما عرف بكجور انفصاله قلق وخاف وذل وراسل منشا بن الفرار
الكاتب باني عازم على المسير من هذا البلد وأريد أن أكون على عهد وأمان
ولا أتبع بمضرة فأجيب إلى ما التمس وجمع ماله وسلاحه وخاف من الرجعة
والحيلة أن يقع عليه من البلد وأخفى أمره وستر مسيره فلما كان في يوم
الثلاثاء نصف رجب سنة 388 سار خائفاً وجلاً نحو الشرق وأخذ مع الجبل
وسار معه ابن الجراح إلى حصن حوارين فأخذ ما كان له وأخفى أمره. فلما
عرف خبره نهض في أثره القايد منير من غد ونزل على البلد ففرح الناس به
وتوجه بكجور إلى الرقة وتخلف بدمشق من أصحابه تقدير ثلاث مائة رجل
فصاحوا عزيز يا منصور فأمنوا. ولما نزل منير القائد على دمشق أصبح
القائد
نزال نازلاً معه في يوم الخميس فلامه الناس على ما اعتمده من التثاقل
ونفذت المطالعات إلى مصر
(1/53)
بشرح الحال فأنكر الوزير ابن كلس فعل منشا
وإهماله بكجور حتى نجا وأشخصه إلى مصر مع المستأمنة من أصحاب بكجور
وقال له: خليت بكجور خوفاً على نفسك أما كان معه عسكر فيه كفاية. فقال:
لم يكن غير ما فعلته لأن نزالاً تأخر عنا وتثاقل وكان بكجور في قوة
وكثرة من العرب وغيرهم وهم أصحاب دروع وجواشن وخيل سبق. فلم يقبل عذره
وعزله من تدبير العسكر. وكان ابن كلس يخاف من بكجور أن تكون له عودة
إلى ولاية دمشق فيتمكن من دمشق فأنفذ رسولاً إليه يقول له: ما أردنا
رحيلك عن البلد وإنما انفاذنا العسكر لابعاد ابن الجراح لفساده وعناده
وما كان من ضياع وغلات فلك افعل فيها ما أحببت فما لنا فيه حجة. فحمل
بكجور ما كان له بدمشق وأقام بالرقة منقطعاً ليس له سلطان يستند إليه
وكان بالرقة يراسل كردياً يقال له باد قد غلب على ميافارقين ويراسل أبا
العالي بن سيف الدولة بحلب أن يرده إلى العمل الذي كان في يده من حمص.
فلما كان في سنة 379 خرج عسكر صاحب بغداد إلى باد الكردي المقدم ذكره
لغلبته على الموصل وديار ربيعة فكسر وانهزم عسكره وأصحابه وعرف بكجور
ذلك فخاف من عسكر بغداد فراسل سعد الدولة أبا المعالي يسئله تولية حمص
فأجابه إلى ذلك. وكان ابن كلس يسأل عن أخباره بالرقة خوفاً منه فلما
عرف الوزير ذلك قال: يجاورنا بكجور في حمص فطمع في الديار. فأرسل إلى
غلام له يقال له ناصح الطباخ بأن يسير إلى حمص فيأخذ من بها من أصحاب
(1/54)
بكجور فسرى في البرية فلم يشعر به حتى
أتاهم فكان أبو المعالي صاحب حلب قد علم بالسرية فأنفذ إليهم من حذرهم
واتفق لهم أنهم حملوا وخرجوا من حمص هاربين فلما حصلوا بأحمالهم بظاهر
البلد أدركتهم السرية فأخذتهم ورجعت إلى دمشق. وفسد أمر بكجور مع
المغاربة ومع أبي المعالي فراسل صاحب بغداد فلم ير له عنده ما يحب وكان
الوزير ابن كلس مضرب بينهما ويطمع كل واحد منهما في صاحبه. وكان الوزير
ابن كلس يهودياً من أهل بغداد خبيثاً ذا مكر وحيلة ودهاء وذكاء وفطنة
وكان في قديم أمره خرج إلى الشام فنزل بالرملة فجلس وكيلاً للتجار فلما
اجتمعت الأموال التي للتجار كسرها وهرب إلى مصر في أيام كافور الاخشيدي
صاحب مصر فتاجره وحمل إليه متاعاً كثيراً ويحال بماله على ضياع مصر
وكان إذا دخل ضيعةً عرف غلتها وارتفاعها وظاهر أمرها وباطنها وكان
ماهراً في اشغاله لا يسئل عن شيء من أمورها إلا أخبر به عن صحة فكبرت
حاله وخبر كافور بخبره وما فيه من الفطنة والسياسة فقال: لو كان هذا
مسلماً لصلح أن يكون وزيراً. فبلغه ما قال كافور فطمع في الوزارة فدخل
جامع مصر في يوم الجمعة وقال: أنا أسلم على يد كافور. فبلغ الوزير ابن
حنزابة وزير كافور ما هو عليه وما طمع فيه فقصده وخاف منه فهرب إلى
المغرب وقصد يهوداً كانوا هناك مع أبي تميم المعز لدين الله أصحاب أمره
فصارت له عندهم حرمة فلم يزل معهم إلى أن أخذ المعز مصر فسار معه إليها
فلما توفي المعز وأصحابه اليهود وولي العزيز بالله استوزره في سنة 365
وكان هذا الوزير أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس كبير الهمة قوي النفس
والمنة عظيم الهيبة فاستولى على أمر العزيز وقام به استصحه فعول عليه
وفوض أمره إليه وكانت أموره مستقيمة بتدبيره فلما اعتل علة لوفاة ركب
إليه العزيز عائداً فشاهده على حال اليأس فغمه أمره وقال له: وددت بأنك
(1/55)
تباع فابتاعك بملكي أو تفتدى وأفديك بولدي
فهل من حاجة توصي بها يا يعقوب؟ فبكى وقبل يده وتركها على عينه وقال:
أما ما يخصني يا أمير المؤمنين فلا أنصح لك فيما يتعلق بدولتك. قال: قل
يا يعقوب فقولك مسموع ورأيك مقبول. قال: سالم يا أمير المؤمنين الروم
ما سالموك واقنع من الحمدانية بالدعوة والسكة ولا تبق على المفرج بن
دغفل بن الجراح متى عرضت لك فيه فرصة. وتوفي في ذي الحجة سنة 380 فأمر
العزيز أن يدفن في داره بالقاهرة في قبة كان بناها لنفسه وحضر جنازته
وصلى عليه والحده بيده في قبره وانصرف عنه حزيناً بفقده وأغلق الدواوين
وعطل العمال أياماً واستوزر أبا عبد الله الموصلي بعده مديدة ثم صرفه
وقلد عيسى بن نسطورس وكان نصرانياً من أقباط مصر وفيه جلادة وكفاية
فضبط الأمور وجمع الأموال ووفر كثيراً من الخراج ومال إلى
النصارى فقلدهم الأعمال والدواوين واطرح الكتاب المتصرفين من المسلمين
واستناب في الشام رجلاً يهودياً يعرف بمنشا بن ابرهيم بن الفرار فسلك
مسلكه في التوفر على اليهود وعيسى مع النصارى مثله واستولى أهل هاتين
الملتين على الدولة. فكتب رجل من أجلاد المسلمين رقعةً وسلمها إلى
امرأة وبذل لها بذلاً على اعتراض العزيز ورفع الظلامة إليه وتسليمها
إلى يده وكان مضمون الرقعة: يا أمير المؤمنين يا الذي عز النصارى بعيسى
بن نسطورس واليهود بمنشا بن الفرار وأذل المسلمين بك ألا نظرت في أمري
وكان العزيز على بغلة سريعة في المشي وإذا ركبها تدفقت كالموج ولم تلحق
فوقفت له المرأة في ضيق فلما قاربها رمتها إليه فسارع الركابي إلى أخذ
الرقعة على العادة وغاصت المرأة في الناس ووقف العزيز عليها وأمر بطلب
المرأة فلم توجد وعاد إلى قصره منعم الفكر في أمره فاستدعى قاضي قضاته
أبا عبد الله محمد بن النعمان وكان متقدماً عنده في خواصه وأهل أنسه
فأعطاه الرقعة وقال له: قف عليها. فلما قرأها قال له: ما عندك في هذا
الأمر. قال: مولانا أعرف بوجه الرأي والتدبير. فقال: صدقت كاتبتها
تهيباً على ما كنا على غلط فيه وغفلة عنه. وتقدم في الحال بالقبض على
عيسى بن نسطورس وسائر الكتاب النصارى وإنشاء الكتب إلى الشام بالقبض
على منشا بن الفرار والمتصرفين من اليهود وأن ترد الأعمال في الدواوين
إلى الكتاب المسلمين ويعول في الأشراف عليهم على القضاة في البلاد. ثم
أن عيسى طرح نفسه على ست الملك بنت العزيز وكان يحبها حباً شديداً ولا
يرد لها قولاً واستشفع بها في الصفح عنه وتجديد الاصطناع له وحمل إلى
الخزانة ثلاثمائة ألف دينار وكتب إلى العزيز رقعةً يذكر فيها بخدمته
وحرمته ورضي عنه وأعاده إلى ما كان عليه وشرط عليه استخدام المسلمين في
دواوينه وأعمالهلدهم الأعمال والدواوين واطرح الكتاب المتصرفين من
المسلمين واستناب في الشام رجلاً يهودياً يعرف بمنشا بن ابرهيم بن
الفرار فسلك مسلكه في التوفر على اليهود وعيسى مع النصارى مثله واستولى
أهل هاتين الملتين على الدولة. فكتب رجل من أجلاد المسلمين رقعةً
وسلمها إلى امرأة وبذل لها بذلاً على اعتراض العزيز ورفع الظلامة إليه
وتسليمها إلى يده وكان مضمون الرقعة: يا أمير المؤمنين يا الذي عز
النصارى بعيسى بن نسطورس واليهود بمنشا بن الفرار وأذل المسلمين بك ألا
نظرت في أمري وكان العزيز على بغلة سريعة في المشي وإذا ركبها تدفقت
كالموج
(1/56)
ولم تلحق فوقفت له المرأة في ضيق فلما
قاربها رمتها إليه فسارع الركابي إلى أخذ الرقعة على العادة وغاصت
المرأة في الناس ووقف العزيز عليها وأمر بطلب المرأة فلم توجد وعاد إلى
قصره منعم الفكر في أمره فاستدعى قاضي قضاته أبا عبد الله محمد بن
النعمان وكان متقدماً عنده في خواصه وأهل أنسه فأعطاه الرقعة وقال له:
قف عليها. فلما قرأها قال له: ما عندك في هذا الأمر. قال: مولانا أعرف
بوجه الرأي والتدبير. فقال: صدقت كاتبتها تهيباً على ما كنا على غلط
فيه وغفلة عنه. وتقدم في الحال بالقبض على عيسى بن نسطورس وسائر الكتاب
النصارى وإنشاء الكتب إلى الشام بالقبض على منشا بن الفرار والمتصرفين
من اليهود وأن ترد الأعمال في الدواوين إلى الكتاب المسلمين ويعول في
الأشراف عليهم على القضاة في البلاد. ثم أن عيسى طرح نفسه على ست الملك
بنت العزيز وكان يحبها حباً شديداً ولا يرد لها قولاً واستشفع بها في
الصفح عنه وتجديد الاصطناع له وحمل إلى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار
وكتب إلى العزيز رقعةً يذكر فيها بخدمته وحرمته ورضي عنه وأعاده إلى ما
كان عليه وشرط عليه استخدام المسلمين في دواوينه وأعماله
(1/57)
|