تاريخ دمشق لابن القلانسي
سنة إحدى وثمانين
وثلاثمائة
كان بكجور قد خاف من عيسى بن نسطورس الوزير المقدم ذكره أن يعمل عليه
لأسباب تقدمت بينه وبينه أوجبت ذاك فكتب إلى العزيز يذكر له جلالة حلب
وكثرة ارتفاعها وأنها دهليز العراق وإذا حصلت له كان ما بعدها في يده
وإن العسكر الذي بها قد كاتبه وبذل الطاعة له والمساعدة ويستدعي منه
الانجاز والمعونة فأجابه بكل ما أراد وكتب إلى نزال والي طرابلس
بالمسير إليه متى استدعاه من غير استئذان ولا معاودة استيمار وكان نزال
هذا من وجوه قواده وصنائع عيسى الوزير وخواصه فكتب إليه عيسى سراً بأن
يتقاعد ببكجور وتظهر له المساعدة والمسارعة ويستعمل معه التعليل
والمدافعة فإذا تورط مع مولاه وقاربه تأخر عنه وأسلمه فلم يشك بكجور في
مسير نزال إليه وسار عن الرقة وكتب إلى نزال بأن يسير من طرابلس ليكون
وصولهما إلى ظاهر حلب في وقت واحد فأجابه نزال ووعده. ونزل بكجور على
بالس وفيها غلمان سعد الدولة أبي المعالي صاحب حلب وعدة من الديلم
فقاتلهم وقاتلوه ورحل بكجور وتباطأ نزال في مسيره وواصل مكاتبة بكجور
في منزل بعد منزل وقرب الأمر عليه في وصوله إليه وأقام بكجور على بالس
خمسة أيام فلما لم يجد فيها مغمزاً فارقها وطلب حلب. وكان أبو المعالي
كاتب بسيل عظيم الروم وأعلمه عصيان بكجور عليه
(1/58)
وسأله مكاتبة البرجي صاحب بأنطاكية بالمسير
إليه متى دعته حاجة إلى إنجاده ومعرفته فكاتب عظيم الروم بذاك وأكد
القول عليه فلما وافى بكجور كاتب سعد الدولة البرجي فرحل ونزل مرج داق
وهو على فرسخين من حلب ووصل بكجور إلى النقرة ونزل في ناحية تعرف
بالناعورة وامتد عسكره إلى تل أعرن ومنها إلى حلب أربعة فراسخ وبرز سعد
الدولة في غلمانه وأصحابه فكانوا ستة آلاف رجل من الروم والأرمن
والديلم والأتراك ولم يكن معه من عسكر العرب إلا عمرو بن كلاب وعدتهم
خمسمائة رجل إلا أنهم أولوا باس وقوة ومن سواهم من بطون العرب بني كلاب
مع بكجور بعد أن حصل حرمه وأولاده في القلعة بحلب. ولما برز وسار عسكره
وكان لؤلؤ الجراحي الكبير يحجبه أعجبه ما رأى من عدته وعدته فنزل إلى
الأرض وصلى وعفر ودعا الله بنصره وإدالته من بكجور وغدره وفعل أصحابه
مثل فعله واجتمعوا إليه وقالوا له: نفوسنا بين يديك والله لنبذلنها في
طاعتك والمدافعة عنك. فشكرهم وقال لهم: أنتم الأولاد والعدة وهذه
الدولة لكم وأنا فيها واحد منكم. واستدعى كاتبه المعروف بالمصيصي وأمره
أن يكتب إلى بكجور يستعطفه ويذكره الله ويخوفه ويبل له أن يقطعه من باب
حمص إلى الرقة ويدعوه إلى الكف والموادعة ورعاية حق الرق والعبودية
ويعلمه أنه متوقف عن حربه ولقائه إلى أن يعود إليه من جوابه ما يعول
عليه. وسار فنزل بالموضع المعروف بالنيرب على ميل من حلب وعسكر الروم
بازائه ووافى رسول سعد الدولة إلى بكجور فأوصل إليه الكتاب فلما وقف
عليه قال له: قل له الجواب ما تراه عياناً لا ما أرسل إليك كتاباً.
فعاد الرسول وأعاد على سعد الدولة قوله وأعمله أنه ساير على أثره.
فتقدم سعد الدولة إلى الموضع المعروف بدير الزبيب وقدم على مقدمته
شجعان غلمانه وأنجادهم من عمرو بن كلاب الذين قدمنا ذكرهم وقد جعل
بكجور على مقدمته بارخ
(1/59)
ورشيقاً غلاميه في مائة غلام ووقع التطارد
وكان الفارس من أصحاب سعد الدولة إذا عاد إليه وطعن وجرح خلع عليه
وأحسن إليه وكان بكجور بضد ذلك بخلاً وإذا عاد إليه رجل على هذه الحال
أمر بأن يكتب اسمه لينظر مستأنفاً في أمره. وقد كان سعد الدولة كاتب
العرب الذين مع بكجور وأمنهم وأرغبهم ووعدهم الاقطاعات الكثيرة
والعطايا الفاضلة الفائضة وألا يؤاخذوهم بالانحياز إلى بكجور والحصول
معه فلما حصلت أماناته وتوقيعاته في أيديهم عطفوا على سواد بكجور
فنهبوه وانصرفوا عنه واستأمنوا إلى سعد الدولة ونزلوا عليه وراى بكجور
ما تم عليه من تقاعد نزال وغدر العرب وتأخر غلمان سعد الدولة الذين
كانوا كاتبوه ووعدوه الانحياز إليه إذا عاينوه فاستدعى أبا الحسن كاتبه
المعروف بابن المغربي وقال له: غررتني وأوهمتني أن العزيز يجئني
ويعاونني وأن العرب تخلص لي وتناصحني وأن العرب توافيني ويستأمنوا إلي
وما كان لشيء من ذلك حقيقة فما الرأي الآن فإن بازائنا عسكراً عظيماً
لا طاقة لنا به. قال: صدقت أيها الأمير فيما قلته وواله ما أردت غشك
ولا فارقت نصحك والصواب مع هذه
الأسباب العارضة أن ترجع إلى الرقة وتكاتب العزيز بما عاملك به نزال
وتعاود استنجاده فإنه ينجدك ويستظهر في أمرك. وكان في عسكر بكجور قائد
من قواده يجري مجراه في التقدم يعرف بابن الخفاني فقال له وقد سمع ما
جرى بينه وبين ابن المغربي فقال: ما عندك فيما قاله وأشار به؟ فقال له:
هذا كاتبك يقول إذا جلس في دسته الأقلام تنكس الأعلام فإذا
(1/60)
حقت الحقائق أشار علينا بالهرب وإذا هربنا
فأي وجه يبقى لنا عند الملوك وزوجة من يهرب اليوم طالق ليس إلا السيف
فأما لنا وأما علينا. وسمع ابن المغربي ما قاله ابن الخفاني فخاف بكجور
وقد كان واقف بدوياً من شيوخ بني كلاب يعرف بسلامة بن بريك على أن
يحمله إلى الرقة متى كانت هزيمة وبذل له ألف دينار على ذلك فما استشعر
من بكجور ملابسه تشعره سامه تسييره قبل الوقت الذي أعده له فأوصله إلى
الرقة. وعمل بكجور على ما فيه من قوة النفس وفضل الشجاعة على أن يعمد
إلى الموضع الذي فيه سعد الدولة من مصافه ويهجم عليه بنفسه ومن يقتحمه
معه من صناديد غلمانه ويوقع به واعتقد أنه إذا فعل ذلك وكبس الموضع
وانهزم الناس وملك فاختار من غلمانه من ارتضاه ووثق به بحسن البلاء منه
وقال لهم: قد تورطنا من هذه الحرب ما عرفتموه وحلنا على شرف الهزيمة
وذهاب النفوس وقد عزمت على كذا وكذا فإن ساعدتموني رجوت أن يكون الفتح
على أيديكم والأثر لكم. فقالوا: نحن طوعك وما نرغب بنفوسنا عن نفسك.
وبادر واحد ممن سمع الكلام منه إلى لؤلؤ الجراحي فاستأمن إليه واعلمه
بالصورة فأسرع لؤلؤ إلى سعد الدولة وأخذ الراية من يده ووقف في موضعه
وقال: تهب لي يا مولاي هذا المكان اليوم وتنتقل إلى مكاني عنه فإن
بكجور أيس من نفسه وقد حدثها بأن يقصدك ويقع عليك ويوقع بك ويجعل ذلك
طريقاً إلى فل عسكرك وقد عرفت ذلك من جهة لا أشك فيه
(1/61)
وسيفعل ولئن أفديك بنفسي وأكون وقايةً لك
ولدولتك أولى من التعريض بك. فانتقل سعد الدولة والعماية في ظهره
والراية في يده وجال بكجور في أربعمائة فارس من الغلمان عليهم
الكذاغندات والخوذ وبأيديهم السيوف واللتوت وعلى خيلهم التجافيف وحمل
في عقب جولته حملةً أفرجت له بها العساكر ولم يزل يضرب بالسيف حتى وافى
إلى لؤلؤ فضربه على الخوذة في رأسه ووقع لؤلؤ إلى الأرض وحمل العساكر
على بكجور وبادر سعد الدولة إلى مكانه مظهراً نفسه لغلمانه فلما رأوه
قويت نفوسهم وثبتت أقدامهم واشتدوا في القتال حتى استفرغ بكجور جهده
ووسعه ولم يبق له قدرة ولا حيلة انهزم في سبعة نفر من غلمانه صوب حلب
واستولى القتل والأسر على أصحابه وتم الهزيمة. وقد رمى عن نفسه جوشنه
وعن فرسه تجافيفه وقد فعل من كان معه مثل فعله وكان الفرس الذي تحته من
الخيول التي أعدها لمثل ما حصل فيه وثمنه عليه ألف دينار وأوفى إلى
رحاً تعرف بالقيريمي على فرسخ من حلب مقابلي قنسرين ولها ساقية تحمل
إليها سعتها قدر ذراعين في سمك ذراع فحمل الفرس على أن يعبرها خوضاً
ووثباً فلم يكن فيه واجهده ووقف به وناداه غلمانه أن الخيل قد أدركتنا
ولحقهم عشرة فوارس من العرب فأرجلوهم عن دوابهم وسلبوهم ثيابهم ولم
يعرفوا بكجور وعادوا عنهم وبقي بكجور وغلمانه عراة فلجؤا إلى الرحا
واستجاروا بصاحبها فأدخلهم إليها. وجاءت سرية أخرى من العرب تطلب النهب
فظنوا أن مع الغلمان الذين في الرحا ما يغنمونه منهم فطالبوا صاحبها
بتسليمهم فأعلمهم أنهم عراة فقالوا: إن شاهدناهم على ما ذكرت تركناهم
وإلا أحرقنا الرحا.
(1/62)
ففتح الباب وأخرجهم إليهم فلما رأوا حالهم
خلوا عنهم. ومضى بكجور وغلمان معه من غلمانه إلى براح فيه زرع حنطة
فطرح نفسه وفيه ومر قوم من العرب فظنوا أن معهم ما يفوزون به فعدلوا
إليهم وكان فيهم رجل من قطن يعرفه بكجور فقال له: أتعرفني؟ قال: لا.
قال: اذمم لي حتى أعرفك نفسي. فأذم له. قال له: أنا بكجور فاصطنعني
واحملني إلى الرقة فإنني أوقر بعيرك ذهباً وأعطيك كل ما تقترحه. قال:
افعل. فأردفه وحمله إلى بيته وكساه قميصاً وفرواً وعمامةً. وكان سعد
الدولة قد بث الخيل في طلب بكجور ونادى من أحضر بكجور فله مطلبه فلما
حصل بكجور في بيت البدوي ساطنه به وطمع فيما كان سعد الدولة بذله فيه
واستشار ابن عم له في أمره فقال له: هو رجل بخيل فربما غدر ولم يف
بوعده والصواب أن تقصد سعد الدولة وتأخذ منه عاجلاً ما
يعطيك. فركب البدوي إلى عسكر سعد الدولة وصاح نصيحة فأحضر إلى حضرته
فقال له: ما نصيحتك؟ قال: ما جزاء من يسلم بكجوراً؟ قال: حكمه. قال:
فهو عندي وأريد عنه مائتي فدان زراعة ومائة ألف درهم ومائة راحلة تحمل
حنطة وخمسين قطعة ثياباً. قال سعد الدولة: وكل ذلك لك. قال: وثق لي
منه. وعرف لؤلؤ الجراحي خبر البدوي فتحامل وهو مثخن بالضربة التي
أصابته ومشى متوكياً على غلمانه حتى حضر بين يدي سعد الدولة فقال: يا
مولاي ما يقول هذا؟ قال: يقول أن بكجور عنده وقد طلب ما أجبناه إليه
وهو ماض لاحضاره. فقبض لؤلؤ على يد البدوي وقال له: ابن أهلك؟ قال: في
المرج على فرسخ. فاستدعى جماعةً من الغلمان وقدم عليهم إقبالاً الشفيعي
وأمرهم أن يرتقوا رؤوس الجبال حتى يوافوا الحلة ويقبضوا على بكجور
ويحمله وهو قابض على يده والبدوي يستغيث بسعد الدولة ثم تقدم إلى سعد
الدولة وقال: يا مولانا لا تنكر علي فعلي فإنه كان مني عن استظهار في
خدمتك
(1/63)
ولو عاد هذا البدوي إلى أهله وأحس بكجور
بما فيه لأعطاه الرغائب على تخليصه ولا تأمن أن يقبل ذاك منه والذي
طلبه هذا البدوي مبذول له وما ضرنا الاحتياط في التمسك به إلى أن
يوافينا فنعطيه حينئذ ونفي له بما وعدناه. فقال: أحسنت يا أبا محمد لله
درك. ولم يمض ساعات حتى عادت النجب مبشرةً بحصول بكجور ووافى بعدها
إقبال الشفيعي وهو معه فوقف به من وراء السرادق واستأذنه في إدخاله
إليه وأنفذ سعد الدولة إلى لؤلؤ وقال له: ما رأيك في بكجور؟ قال: ضرب
عنقه لوقته لو جاءت سناء الزينة الناس يعني أخت سعد الدولة واستوهبته
منك فوهبته لها لكان لنا شغل محدد. فأمر سعد الدولة فرجاً العدلي فكان
سيافه فضرب عنقه وعنق ابن الخفاني وكان قد حصل في الأسر وحملها إلى
الموضع المعروف بحصن الناعورة فصلبهما بأرجلهما. وسار سعد الدولة إلى
الرقة فنزل عليها وفيها سلامة الرشيقي وأبو الحسن المغربي وأولاد بكجور
وحرمه وأمواله وأرسل سلامة بتسليم البلد فأجابه فإني عبدك وعبد عبدك
إلا أن لبكجور علي عهوداً فمواثيق لا مخلص لي عند الله منها إلا بأجد
أمرين أما أن تذم لأولاده على نفوسهم وأموالهم وتقتصر فيما تأخذه على
الآت الحرب والعدد وتحلف لي ولهم على ذلك وأما أن أبلي عذراً عند الله
عز وجل فيما عقدته لبكجور فأجابه سعد الدولة إلى ما اشترطه وحلف له
يميناً عملها أبو الحسن ابن المغربي. وكان سعد الدولة قد أباح دمه فهرب
إلى الكوفة وأقام بمشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام. ولما توثق
سلامة سلم حصن الرافقة وخرج القوم ومعهم من المال والرحل الشيء الكثير
وسعد الدولة يشاهدهم من وراء سرادقه وبين يديه ابن أبي حصين القاضي
فقال له: ما ظننت
(1/64)
أن حال بكجور انتهت إلى ما أراه من هذه
الأموال والأثقال. فقال له: أي شيء أعتقد الأمير في ذاك؟ قال له: وهل
بقي في هذا الأمر موضع اعتقاد؟ قال له ابن أبي حصين: أن بكجور وأولاده
مماليك وكل ما ملكوه فهو لك ولا حرج عليك فيما تأخذه منه ولا حنث في
الأيمان التي حلفت بها ومهما كان فيها من وزر واثم فعلي دونك. فلما سمع
هذا القول منه غدر بهم وتقدم بردهم والقبض عليهم وجميع ما معهم. وكتب
أولاد بكجور إلى العزيز بما تم عليهم وعلى والدهم وسألوه مكاتبة سعد
الدولة بالكف عنهم والابقاء عليهم فكتب إليه كتاباً يتوعده فيه ويأمره
بإزالة الاعتراض عن المذكورين وتسييرهم إلى مصر موفورين ويقول له في
اخره: أنك متى خالفتنا في ذلك واحتججت فيه كنا الخصوم لك وجهزنا
العساكر إليك. وأنفذه مع فايق الصقلبي أحد خواصه وسيره على نجيب فوصل
فايق إليه وقد عاد من الرقة وهو بظاهر حلب وأوصل إليه الكتاب فلما وقف
عليه جمع وجوه قواده وغلمانه وقراه عليهم ثم قال لهم: ما الرأي عندكم
فيه؟ قالوا نحن عبيدك وغلمانك ومهما أمرتنا به وندبتنا له كانت عندنا
الطاعة والمناصحة فيه. وتقدم عند ذاك بإحضار الرسول فلما مثل بين يديه
أمر بإعطائه الكتاب ولطمه حتى يأكله فقال له: أنا رسول وما عرف من
الملوك معاملة الرسل بمثل ذلك وهذا الفعل ما لا يجوز. فقال له: لا بد
أن تأكله. فلما مضغه قال له: عد إلى صاحبك وقل له: لست ممن تخفي أخبارك
عنه وتمويهاتك عليه وما بك حاجة إلى تجهيز العساكر إلي فإنني ساير إليك
ليكون اللقاء قريباً منك وخبري يأتيك من الرملة. وقدم سعد الدولة
قطعة من عساكره أمامه إلى حمص. وعاد فايق إلى العزيز فعرفه ما سمعه
وشاهده فأزعجه ذلك وبلغ منه وأقام سعد الدولة بظاهر حلب أياماً على أن
يرتب أموره ويتلو من تقدمه من عسكره. فاتفق أن عرض له قولنج أشفى منه
وكان له طبيبان عارفان أحدهما يعرف بالتفليسي والآخر يوانيس فأشارا
عليه بدخول البلد وملازمة الحمام فامتنع عليهما وقال لهما: أنا بازآء
وجه أريد قصده وإذا عدت وقع الارحاف بي وكان في العود طيرة علي. ثم زاد
ما يجده فدخل فعالجاه فابل واستقل وكتب إلى أصحابه يذكر عافيته فأوصل
الناس إليه حتى شاهدوا حاله وهنوه بالسلامة. وكان المستولي على أمره
والمقدم عنده في رايه لؤلؤ الكبير الذي تقدم ذكره فلما كان في اليوم
الثالث من أكله الفروج زين له البلد ليركب فيه من غد ويعود إلى العسكر
فاتفق أن حضرت عند فراشه ليلة اليوم الذي عمل على الركوب فيه جارية
تسمى انفراد وكان يتحظاها ويقدمها على سواها من سرياته وهن أربعمائة
جارية فتتبعتها نفسه وواقعها فلما فرغ سقط عنها وقد جف نصفه وبادرت
الجارية إلى أخته فأعلمتها صورته فدخلت إليه وهو يجود نفسه واستدعت
طبيبيه فحضرا وشاهداه وتعرفا المسبب فيما لحقه فعرفاه وأشارا بشجر الند
والعنبر حوله إلى أن ينيف قليلاً وتثوب قوته فلما كان ذلك عاد إليه
وقال له التفليسي: أعطني أيها الأمير يدك لأخذ بجسك. فأعطاه اليسرى
فقال. يا مولانا اليمين. فقال: يا تفليسي ما تركت لي اليمين يميناً.
ومضت عليه ثلاث ليال قضى بعد أن قلد عهده أبا الفضائل ولده ووصى إلى
لؤلؤ الكبير به وبأبي الهيجاء ولده الآخر وست الناس أخته وحمل تابوته
إلى الرقة ودفن في المشهد ظاهرها. ونصب لؤلؤ ولده أبا الفضائل في الأمر
وأخذ له البيعة على الجند بعد أبيه في شهر رمضان سنة 381. وتراجعت
العساكر عند ذلك إلى حلب واستأمن منها إلى العزيز بالله رقي الصقلبي في
ثلاثمائة غلام وبشارة الاخشيدي في أربعمائة غلام وقوم آخرون فقبلهم
وأحسن إليهم وولي بشارة طبرية ورقي عكا ورباحا قيسارية. وقد كان أبو
الحسن بن المغربي بعد حصوله في المشهد في الكوفة كاتب العزيز وصار بعد
المكاتبة إلى حضرته فلما حدث لسعد الدولة حادث الوفاة عظم أمر حلب عنده
وكبر في نفسه أحوالها وهون عليه حصولهاكره أمامه إلى حمص. وعاد فايق
إلى العزيز فعرفه ما سمعه وشاهده فأزعجه ذلك وبلغ منه وأقام سعد الدولة
بظاهر حلب أياماً على أن يرتب أموره ويتلو من تقدمه من عسكره. فاتفق أن
عرض له قولنج أشفى منه وكان له طبيبان عارفان أحدهما
(1/65)
يعرف بالتفليسي والآخر يوانيس فأشارا عليه
بدخول البلد وملازمة الحمام فامتنع عليهما وقال لهما: أنا بازآء وجه
أريد قصده وإذا عدت وقع الارحاف بي وكان في العود طيرة علي. ثم زاد ما
يجده فدخل فعالجاه فابل واستقل وكتب إلى أصحابه يذكر عافيته فأوصل
الناس إليه حتى شاهدوا حاله وهنوه بالسلامة. وكان المستولي على أمره
والمقدم عنده في رايه لؤلؤ الكبير الذي تقدم ذكره فلما كان في اليوم
الثالث من أكله الفروج زين له البلد ليركب فيه من غد ويعود إلى العسكر
فاتفق أن حضرت عند فراشه ليلة اليوم الذي عمل على الركوب فيه جارية
تسمى انفراد وكان يتحظاها ويقدمها على سواها من سرياته وهن أربعمائة
جارية فتتبعتها نفسه وواقعها فلما فرغ سقط عنها وقد جف نصفه وبادرت
الجارية إلى أخته فأعلمتها صورته فدخلت إليه وهو يجود نفسه واستدعت
طبيبيه فحضرا وشاهداه وتعرفا المسبب فيما لحقه فعرفاه وأشارا بشجر الند
والعنبر حوله إلى أن ينيف قليلاً وتثوب قوته فلما كان ذلك عاد إليه
وقال له التفليسي: أعطني أيها الأمير يدك لأخذ بجسك. فأعطاه اليسرى
فقال. يا مولانا اليمين. فقال: يا تفليسي ما تركت لي اليمين يميناً.
ومضت عليه ثلاث ليال قضى بعد أن قلد
(1/66)
عهده أبا الفضائل ولده ووصى إلى لؤلؤ
الكبير به وبأبي الهيجاء ولده الآخر وست الناس أخته وحمل تابوته إلى
الرقة ودفن في المشهد ظاهرها. ونصب لؤلؤ ولده أبا الفضائل في الأمر
وأخذ له البيعة على الجند بعد أبيه في شهر رمضان سنة 381. وتراجعت
العساكر عند ذلك إلى حلب واستأمن منها إلى العزيز بالله رقي الصقلبي في
ثلاثمائة غلام وبشارة الاخشيدي في أربعمائة غلام وقوم آخرون فقبلهم
وأحسن إليهم وولي بشارة طبرية ورقي عكا ورباحا قيسارية. وقد كان أبو
الحسن بن المغربي بعد حصوله في المشهد في الكوفة كاتب العزيز وصار بعد
المكاتبة إلى حضرته فلما حدث لسعد الدولة حادث الوفاة عظم أمر حلب عنده
وكبر في نفسه أحوالها وهون عليه حصولها
(1/67)
ولاية القائد منير
الخادم ومنجوتكين دمشق والسبب في ذلك وما آلت إليه أحوالها في سنة 378
وما بعدها
قد تقدم من شرح السبب في ولاية القائد منير دمشق ما فيه كفاية عن إعادة
القول فيه ومن دخوله في يوم الخميس السابع عشر من رجب سنة 378. ولما
توفى الوزير أبو الفرج يعقوب بن كلس كان قد بقي له من أصحابه على ماله
ومال السلطان رجل يعرف بابن أبي العود الصغير وكان شديد المعاندة
للقائد منير الوالي يرفع عليه إلى مصر بأنه عاص يكاتب سلطان بغداد
وصاحب حلب فلما كثرت سعايته إلى العزيز اصطنع بعض غلمانه الأتراك رجلاً
يقال له منجوتكين فقدمه وأعطاه مالاً وابنةً وسلاحاً ورجالاً وولاه
الشام فلما صح عند منير الخادم ذاك من ابن أبي العود أنفذ إليه من قتله
وكاشف بالعصيان والخلاف للضرورة القائدة له إلى ذلك وكان لابن أبي
العود عند العزيز رتبة متمكنة ومنزلة متمهدة فلما خرج العسكر مع
منجوتكين من مصر ووصل إلى الرملة ووصل إليه بشارة والي طبرية في عسكره
ووصل إلى دمشق وكان منير قد جمع رجالةً من أحداث البلد من حمال السلاح
وطلاب الشر والفساد واستعد للحرب وتأهب للقاء. وبلغ منجوتكين وهو
بالرملة أن أهل دمشق يريدون القتال مع منير الوالي فمع النفاطين
بالرملة على أن يسيروا معه إلى دمشق لحرقها. فلما وصل نزال إلى دمشق من
طرابلس أخذ في الجبال عرضاً فخرج من مرج عذراء وأرسل إلى منير أني لم
أصل إلا لإصلاح أمرك فعلم منير أنه يريد
(1/68)
الحيلة عليه والمكر به ليصل العسكر من
الرملة ويحيط به وقد كان نفذ كتاب ابن أبي هشام من دمشق إلى منشا بن
الفرار كاتب الجيش يقول جدوا في السير لأخذ البلد وكان مراده بذاك
المداراة من خوف الشر فلما وصل الكتاب إلى منشا أنفذه إلى العزيز
منجوتكين وواقف عليه فوجد فيه خلاف ما ذكر عن أهل دمشق فنها عن
إحراقها. وسار منجوتكين من الرملة وقرب من طبرية وجمع منير عسكره وخرج
يريد نزالاً فالتقوا بمرج عذراء فانهزم منير واتت المغاربة على الرجالة
الذين كانوا معه وذلك في يوم الاثنين التاسع عشر من شهر رمضان سنة 81
فلما انهزم منير أخذ في الجبال حتى أخرج إلى أرض جوسية يريد قصد حلب
فخرج عليه عرب من الاحلاف فأخذوه ووصلوا به إلى دمشق فوجدوا منجوتكين
قد نزل عليها فسلموه إليه لطلب الجائزة فشهره على جمل وقرن به قرداً
ومعه من أصحابه نحو من مائة رجل على الجمال وعليهم الطراطير لأنهم
انقطعوا فأخذهم والي بعلبك يقال له جلنار فأرسلهم إلى منجوتكين. وأقام
منجوتكين بدمشق بقية سنة 81 فقوي بها وصار عسكره ثلاثة عشر ألفاً فعم
الناس البلاء في جميع الأحوال وصارت أفعالهم وسيرتهم إباحة الأموال
والأنفس وسوء الأعمال. ثم إنهم طمعوا في ملكة حلب بحكم موت أبي المعالي
بن سيف الدولة صاحبها وقد كان العزيز لما انتدب منجوتكين أكرمه وعظمه
وأمر القواد وطبقات الناس بالترجل له وتوفيقه من الحق ما يوفى عظماً من
الأمراء والاسفهسلارية واستكتب له أحمد بن محمد القشوري وولي الشام وضم
إليه أبا الحسن علي بن الحسين بن المغربي ليقوم بالأمر والتدبير. ولما
وصل إلى حلب وكان نزوله عليها في ثلاثين ألفاً من
(1/69)
أصناف الرجال وتحصن أبو الفضايل ابن سعد
الدولة ولؤلؤ بالبلد واغلقا أبوابه واستظهرا بكل ما أمكنها الاستظهار
به. وقد كان لؤلؤ عند معرفته بتجهيز العساكر المصرية إلى حلب كاتب بسيل
عظيم الروم ومت إليه بما كان بينه وبين سعد الدولة من المساعدة
والمعاقدة وبذل له عن ولده السمع والطاعة والجري على تلك العادة وحمل
إليه هدايا وألطافاً كثيرة وسأله المعونة والنصرة وأنفذ بالكتاب
والهدايا ملكوياً السيرافي ووصل إليه وهو بازاء ملك البلغر وعلى قتاله
فقبل ما ورد فيه وكتب إلى البرجي صاحب أنطاكية من قبله أن يجمع عساكر
الروم ويقصد حلب ويدفع المغاربة عنها فسار البرجي إليه في خمسة ألف رجل
ونزل بالموضع المعروف بجسر الحديد بين أنطاكية وحلب. فعرف منجوتكين
وابن المغربي ذلك فجمعا القواد والمعرفين خبر الروم واستشارهم فيما
يكون العمل به والاعتماد عليه فأشار ذو الراي والحصافة منهم بالانصراف
عن حلب وقصد الروم والابتداء بهم ومناجزتهم ليلاً يحصلوا بين عدوين.
ووقع العمل على ذلك وساروا مع عدة أخرى كثيرة انضافت إليهم من أهل
الشام وبني كلاب ونزلوا تحت حصن اغزاز وقاربوا الروم وبينهم النهر
المعروف بالمقلوب وهو نهر يجري مجرى الفرات في قرب من عرضه فلما بصر
المسلمون بالروم رموهم
بالنشاب وناوشوهم القتال وحصل الناس والروم على أرض واحدة ومنجوتكين
يردهم ولا يرتدون وأنزل الله النصر وولت الروم وأعطوا ظهورهم وركبهم
المسلمون ونكوا فيهم النكاية الوافية قتلاً وأسراً وفلاً وقهراً وأفلت
(1/70)
البرجي في نفر قليل وملك عسكرهم وسوادهم
وغنمت منهم الغنائم الوافرة من أموالهم وكراعهم وسوادهم وقد كان معهم
الفراجل من رجالة حلب جردهم لؤلؤ مع عدة وافرة من الغلمان فقتل منهم
تقدير ثلاثمائة غلام وعاد فلهم إلى حلب وجمع من رؤوس قتلى الروم نحو
عشرة ألف رأس أنفذت إلى مصر وشهرت بها وتبع منجوتكين الروم أنطاكية
وأحرق ضياعها ونهب رستاقاتها وانكفأ راجعاً إلى حلب. وكان وقت استغلال
الغلات فأنفذ لؤلؤ من أحرق ما قرب من البلد منها المضرة العسكر المصري
وقطع مادة الميرة عنهم والتضييق في الأقوات عليهم ورأى لؤلؤ أن قد بطل
عليه ما كان يرجوه من معونة الروم وقد أظله من عسكر مصر ما لا طاقة له
به فكاتب أبا الحسن بن المغربي والقشوري وأرغبهما بالمال وبذل لهما منه
ما وسع لهما فيه وسألهما المشورة على منجوتكين بالانصراف إلى دمشق
والمعاودة إلى حلب في العام المقبل وتصير السبب في هذا الرأي ما عليه
الأمر من عدم الميرة وتعذر الأقوات والعلوفات فطاوعاه ووعداه وخطابا
منجوتكين في ذلك. فصادف قولهما منه تشوقاً إلى دمشق إلى خفض العيش فيها
وضجراً من طول السفر ومباشرة الحرب فكتب وكتبت الجماعة إلى العزيز
بالله ينهون إليه الحال في تعذر الأقوات وأنه لا قدرة للعسكر على
المقام مع هذه الصورة ويستأذونه في الانكفاء إلى دمشق فقبل أن يصل
الكتاب ويعود الجواب رحل منجوتكين عائداً. وعرف العزيز ما كان منه
فغاظه ذلك ووجد أعداء ابن المغربي طريقاً إلى الطعن عليه والوقيعة فيه
فصفه وقلد صالح بن علي الروذباري موضعه وأنفذه وأقسم العزيز أنه يمد
العسكر بالميرة من غلات مصر فحمل مائة ألف تليس والتليس قفيزان بالمبدل
في البحر إلى طرابلس ومنها على الظهر
(1/71)
إلى أفامية. وعاد منجوتكين في العسكر في
السنة 2 إلى حلب ونزل عليها وصالح بن علي المقدم معهم وكان يوقع
الغلمان بجراياتهم وقضيم دوابهم إلى أفامية ويمضون خمسة وعشرين فرسخاً
ويعودون بها وأقاموا ثلاثة عشر شهراً وبنوا الحمامات والأسواق والخانات
وأبو الفضائل ولؤلؤ قد تحصنا بالبلد وقد اشتد الأمر بها وفقدت الأقوات
عندهما وكان لؤلؤ يبتاع القفيز من الحنطة ثلاثة دنانير ويبيعه على
الناس بدينار واحد رفقاً لهم ويفتح الباب ويخرج من الناس من أراد من
الفقراء من الجوع وطول المقام. وقد كان أشير على منجوتكين بتتبع من
يخرج وقتله ليمتنع الناس من الخروج ويزيد ضيق الأمر عليهم فلم يفعل.
وعند ذلك أعاد لؤلؤ ملكويا الذي كان أرسله أولاً إلى بسيل ملك الروم
إليه مجدداً له السؤال بالانجاد على ما دهمه من عسكر مصر والاسعاد
وأعلمه أنه لم يبق فيه رمق إن لم يبادر بمعونته ونصرته وأنه متى أخذت
حلب وملكت فأنطاكية لاحقة بها. وكان يسيل متوسطاً بلد البلغر فقصد
ملكويا إليه وأوصل إليه الكتاب وأعاد عليه ما يحمله من الرسائل إليه
وقال له: متى قصدت أيها الملك هذا الخطب بنفسك لم يقف أحد من عساكر
المغاربة بين يديك واستخلصت حلب وخفظت أنطاكية وسائر أعمالها وإن تأخرت
ملك جميع ذلك. فلما سمع ملك الروم ما قاله الرسول المذكور سار من وقته
طالباً حلب وبينه وبينها مسيرة ثلاثمائة فرسخ فقطعها في ستة عشر يوماً
في ثلاثة ألف فارس وراجل من الروم الروسية والبلغر والخزر وكان الزمان
ربيعاً وقد سرح العسكر المصري كراعه في المروج لترتبع فيها فهجمت الروم
على العسكر على غفلة وغرة. فأرسل لؤلؤ إلى منجوتكين يقول له: إن
(1/72)
عصمة الاسلام الجامعة بيني وبينك وبين
عساكرك تبعثني على إنذاركم وهذا عسكر الروم قد أظلكم في الجمع الكثير
فخذوا لأنفسكم وتيقظوا لأمركم ولا تهملوا حذركم. ووردت جواسيس منجوتكين
وعيونه من الجهات والطلائع عليه بمثل ذلك فاخرق الخزائن والأسواق ورحل
في الحال منهزماً. وأشار العرب عليه بأن ينزل أرض قنسرين ويملك الماء
ويستدعي كراعه من مروج أفامية ويثبت للقاء العدو ويحرضه على بذل الجهد
واستفراغ الوسع في الجهاد فلم يفعل وامتدت به الهزيمة إلى دمشق. ووافى
ملك الروم فنزل على باب حلب وشاهد من موضع منزل المغاربة ما هاله وعظم
في عينه وخرج إليه
أبو الفضائل ولؤلؤ وخدماه ورحل في اليوم الثالث إلى الشام ونزل على
شيزر وفيه منصور بن كراديس أحد قواد المغاربة فقاتله في الحصن يوماً
واحداً ولم يستطع الثبات له لخلو الحصن من العدد وآلات الحرب وأقوات
المقام على الحصار فراسله بسيل وبذل له الأمان على نفسه ومن معه في
الحصن وأن يعطيه مالاً وثياباً على تسليمه فسكن إلى ذلك وسلمه ووفى له
بسيل بجميع ما بذله من المال والأمان والعطاء فرتب في الحصن نوابه
وثقاته وسار قاصداً إلى طرابلس الشام وافتتح في طريقه حمصاً وسبى منها
ومن رفنية وأعمالها ما يزيد على ثغر طرابلس وهو بري بحري متين القوة
والحصانة شديد الامتناع على منازله وأقام عليه نيفاً وأربعين يوماً
يحاول افتتاحه أو وجود فرصة في تملكه فلم يتم له فيه أمر ولا مراد فرحل
عنه قافلاً إلى بلاد الروم. وانتهت الأخبار بذلك إلى العزيز بالله فعظم
ذلك عليه وأمر بالاستنفار إلى الجهاد والنداء في الغزاة وساير الأجناد
فنفر الناس وخرج مستصحباً لجميع عساكره وما يحتاج إليه من عدده وأمواله
وذخائره ومعه توابيت أبائه وأجداده على العادة في مثل هذه الحال وقيل
أن كراعه كان يزيد على عشرين ألف راس خيلاً وبغالاً وجمالاً وحميراً
وسار مسافة عشرة فراسخ في مدة سنة حتى نزل بلبيس وأقام بظاهرها.
وعارضته علل مختلفة من نقرس وقولنج وحصى في المثانة واشتد به الأمر
وكان الأطباء إذا عالجوا مرضاً من هذه الأمراض بدوائها زاد في قوة
الأخرى واستحكامها وكان محتاجاً إلى الحمام لأجل القولنج ولم يكن في
منزله إلا حمام لرجل من أهلها فاشتد به فيه وبات للضرورة فيه وأصبح
والقو تضعف والألم يشتد ويتضايق إلى أن قضى نحبه في الحمام في اليوم
الاثنين الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة 386 وعمره اثنتان وأربعون
سنة ونقش خاتمه بنصر العليم الغفور ينتصر الامام أبو المنصور ومولده في
القيروان سنة 341 ومدة أيامه إحدى وعشرون سنة وستة أشهر وأربعة وعشرون
يوماً وكان حسن السيرة مشتغلاً بلذاته محباً للصيد متغافلاً عن النظر
في كثير مما كان أسلافه ينظرون فيه من اظهار علم الباطن وحمل الناس
عليه وتوفي رحمه الله وهو مستمر على ذلكائل ولؤلؤ وخدماه ورحل في اليوم
الثالث إلى الشام ونزل على شيزر وفيه منصور بن كراديس أحد قواد
المغاربة فقاتله في الحصن يوماً واحداً ولم يستطع الثبات له لخلو الحصن
من العدد وآلات الحرب وأقوات المقام على الحصار فراسله بسيل وبذل له
الأمان على نفسه ومن معه في الحصن وأن يعطيه مالاً وثياباً على تسليمه
فسكن إلى ذلك وسلمه ووفى له بسيل بجميع ما بذله من المال والأمان
والعطاء فرتب في الحصن نوابه وثقاته وسار قاصداً إلى طرابلس الشام
وافتتح في طريقه حمصاً وسبى منها ومن رفنية وأعمالها ما يزيد على ثغر
طرابلس وهو بري بحري متين القوة والحصانة شديد الامتناع على منازله
وأقام عليه نيفاً وأربعين يوماً يحاول افتتاحه أو وجود فرصة في تملكه
فلم يتم له فيه أمر ولا مراد فرحل عنه قافلاً إلى بلاد الروم. وانتهت
الأخبار بذلك إلى العزيز بالله فعظم ذلك عليه وأمر بالاستنفار إلى
الجهاد والنداء في الغزاة وساير الأجناد فنفر الناس وخرج مستصحباً
(1/73)
لجميع عساكره وما يحتاج إليه من عدده
وأمواله وذخائره ومعه توابيت أبائه وأجداده على العادة في مثل هذه
الحال وقيل أن كراعه كان يزيد على عشرين ألف راس خيلاً وبغالاً وجمالاً
وحميراً وسار مسافة عشرة فراسخ في مدة سنة حتى نزل بلبيس وأقام
بظاهرها. وعارضته علل مختلفة من نقرس وقولنج وحصى في المثانة واشتد به
الأمر وكان الأطباء إذا عالجوا مرضاً من هذه الأمراض بدوائها زاد في
قوة الأخرى واستحكامها وكان محتاجاً إلى الحمام لأجل القولنج ولم يكن
في منزله إلا حمام لرجل من أهلها فاشتد به فيه وبات للضرورة فيه وأصبح
والقو تضعف والألم يشتد ويتضايق إلى أن قضى نحبه في الحمام في اليوم
الاثنين الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة 386 وعمره اثنتان وأربعون
سنة ونقش خاتمه بنصر العليم الغفور ينتصر الامام أبو المنصور ومولده في
القيروان سنة 341 ومدة أيامه إحدى وعشرون سنة وستة أشهر وأربعة وعشرون
يوماً وكان حسن السيرة مشتغلاً بلذاته محباً للصيد متغافلاً عن النظر
في كثير مما كان أسلافه ينظرون فيه من اظهار علم الباطن وحمل الناس
عليه وتوفي رحمه الله وهو مستمر على ذلك
ثم ولي الأمر بعده ولده أبو علي المنصور الحاكم بالله وكان معه فعهد
إليه في الأمر ورد تدبير أمره إلى برجوان الخادم مربيه وحاضنه وكان عهد
إليه أمر الحرم والقصور لثقة العزيز به وسكونه إليه ووصى إليه بما
اعتمد فيه عليه. وحدثت ست الملك ابنة العزيز نفسها بالوثوب على الأمر
واجلاس ابن عمها عبد الله وكانت مشتهاةً عليه فأحسن برجوان بذلك فقبض
عليها وحملها مع ألف فارس إلى قصرها بالقاهرة. ودعا الناس
(1/74)
إلى بيعة الحاكم وأحلفهم على الطاعة أطلق
الأرزاق وذلك في شهر رمضان سنة 386 وانكفأ الحاكم من المخيم إلى قصره
بالقاهرة وعمره عشر سنين وستة أشهر. وتقدم أبو محمد الحسن بن عمار وكان
شيخ كتامة وسيدها ولقب بأمير الدولة وهو أول من لقب في دولة مصر
واستولى على الأمر وبسط يده في الاطلاق والعطاء والصلات بالأموال
والثياب والخباء تفرقة الكراع وكان في القصر عشرة ألف جارية وخادم فبيع
منهم من اختار البيع وأعتق من سأل العتق ووهب من الجوار لمن أحب وأثر
وانبسطت كتامة وتسلطوا على العامة ومدوا أيديهم إلى حرمهم وأولادهم
وغلب الحسن بن عمار على الملك وكتامة على الأمور وهم الحسن بقتل الحاكم
وحمله على ذلك شيوخ أصحابه وقالوا: لا حاجة لنا إلى امام نقيمه ونتعبد
له. فحمله صغر سنه والاستهانة بأمره على اقلال الفكر فيه وإن قال لمن
أشار عليه بقتله: وما قدر هذه الوزغة حتى يكون منها ما نخاف. وبرجوان
في اثنا ذلك يحرس الحاكم ويلازمه ويمنعه من الركوب ولا يفسح له في
مفارقة الدور والقصور. وقد كان شكر العضدي اتفق مع برجوان وعاضده في
الرأي والفعل وصارا على كلمة سواء في كل ما ساء وسر ونفع وضر وتظاهرا
على حفظ الحاكم في وصاة والده العزيز به إلى أن تمت السلامة لهما فيه.
وأما منجوتكين وما كان منه بعد نوبة الروم فإنه أقام بدمشق على حاله في
ولايتها. وزاد أمر الحسن بن عمار وكتامة وقلت مبالاتهم بالسلطان فكتب
برجوان إلى منجوتكين يعرفه استيلاء المذكورين على الأمور وغلبتهم على
الأموال وتعديهم إلى الحرم والفروج وقبيح الأعمال ورفعهم المراقبة
للخالق
(1/75)
والحشمة من المخلوقين وأبطالهم رسوم
السياسة وإضاعة حقوق الخدمة وإنهم قد حصروا الحاكم في قصره وحالوا بينه
وبين تدبير أمره ويدعوه إلى مقابلة نعمة مولاه العزيز عنده بحفظ ولده
والوصول إلى مصر وقمع هذه الطائفة الباغية وقال: إن الديلم والأتراك
والعبيد الذين على الباب يساعدونه على ما يحاول فيهم ويكونون معه
أعواناً عليهم فامتثل منجوتكين ما في الكتاب عند وقوفه عليه وسارع إليه
وركب إلى المسجد الجامع في السواد وجمع القواد والأجناد ومشايخ البلد
وأشرافه وفيهم موسى العلوي وله التقدم والميزة وأذكرهم بحقوق العزيز
وما كان منه من الاحسان إلى الخاص والعام وحسن السيرة في الرعية
واعتقاد الخير للكافة وخرج من ذلك إلى ذكر ما له عليه من حقوق الاصطناع
والتقدم والاصطفاء والتعديد للتمويه باسمه وما يلزمه في خدمته حياً
وميتاً ومناصحته معدوماً ومفقوداً وموجوداً وقال: وإذ قبضه الله إليه
ونقله إلى ما اختاره له وارتضاه وحكم به وأفضاه فإن حقوقه قد انتقلت
إلى نجله وسليله الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين وهو اليوم والي النعمة
وكالقائم مقام العزيز بالله رحمه الله في استحقاق الطاعة والمناصحة
والخدمة وقد تغلب على الملك الحسن بن عمار وكتامة وصار اخواننا
المشارقة بينهم كالذمة بين المسلمين وما يسعنا الصبر على هذه الصورة
وتسليم الدولة إلى هذه العصابة المتسلطة. وخرق ثيابه السود وبكى البكاء
الشديد فاقتدى الناس به في تخريق الثياب والبكاء ثم قالوا: ما فينا إلا
سامع لك مطيع لأمرك ومؤثر ما تؤثر وباذل سجته في طاعة الحاكم وخدمته
وخدمتك ومهما رسمت لنا من خدمة وبذل نفس ومكنة كنا إليه مسارعين ولأمرك
فيه طائعين إلى أن تبلغ مناك وتدرك مبتغاك في نصرة مولانا. فشكرهم على
هذا المقال وقوى عزائمهم وآراءهم على المتابعة له والعمل بما يوافقه
(1/76)
وعاد إلى داره ووضع العطاء في الرجال وبرز
إلى ظاهر دمشق. وقد اشتملت جريدة الاثبات على ستة ألف من الأجناد
السائرين معه خيلاً ورجلاً وكتب إلى الحسن بن عمار على أجنحة الطيور
ومع أصحاب البريد بشرح ذلك الحال. فلما وقف على الخبر عظم عليه وقلق
وجمع وجوه كتامة وأعاذ عليهم ما ورد من خبر منجوتكين وما هو
مجمع عليه في بابهم وقال: ما الرأي عندكم؟ قالوا: نحن أهل طاعتك
والمسارعون إلى العمل بإشارتك. وأظهر أن منجوتكين قد عصى على الحاكم
وجرى مجرى الأفتكين المعزي البويهي وندب الناس لقتاله وتقدم إلى الخزان
في خزائن أموال العزيز باطلاق الأموال وإلى العراض بتجريد الرجال
والانفاق فيهم. وأحضر البرجوان وشكر العضدي وقال لهما: أنا رجل شيخ وقد
كثر الكلام علي والقول في وما لي عرض إلا حفظ الأمر للحاكم ومقابلة
اصطناع العزيز واحسانه إلي وأريد مساعدتكما ومعاضدتكما وإن تحلفا لي
على صفاء النية وخلوص العقيدة والطوية. فدعتهما الضرورة إلى الانقياد
له والاجابة إلى ما سأله منهما واستأنف معهما المفاوضة والمشاورة
والاطلاع لهما على مجاري الأمور ووجوه التدبير في الجمهور واستمالة
المشارقة. وندب أبا تميم سليمن بن جعفر بن فلاح وقدمه وجعله اسفهسلار
الجيش وأمره بالمسير إلى الشام وأطلق له كل ما التمس من المال والعدد
والرجال والسلاح والكراع وأسرف في ذلك إلى حد لم يقف عنده وجرد معه ستة
عشر ألف رجل من الخيل والرجال وبرز إلى عين شمس. وكان عيسى بن نسطورس
الوزير على حاله في الوزارة فبلغ ابن عمار عنه ما أنكره فقبض عليه
ونكبه وقتله وسار سليمان بن فلاح من مصر
(1/77)
ورحل منجوتكين إلى الرملة فملكها وأخذ
أموالها فتقوى بها وكان معه المفرج بن دغفل بن الجراح وسنان بن عليان
ونزل سليمان عسقلان وسار منجوتكين حتى نزل بظاهرها وتقاتل الجيشان.
فلما كان بعد ثلاثة أيام من تقاربهما وتقاتلهما ضرب كل واحد منهما مصاف
عسكره وعمل على مناجزة صاحبه واستأمنت العرب من أصحاب ابن جراح وابن
عليان إلى سليمان فاستظهر وقتل من أصحاب منجوتكين أربعة قواد في وقت
واحد وانهزم منجوتكين وقتل من الديلم عدة كثيرة لأنهم لجأوا عند
الهزيمة إلى شجر الجميز واختفوا به فكان المغاربة ينزلونهم منها
ويقتلونهم تحتها وأحصيت القتلى فكانوا من أصحاب منجوتكين ألفي رجل.
وسار سليمان إلى الرملة وقد امتلأت أيدي أصحابه من الغنائم والأموال
والكراع وبذل لمن يحضر منجوتكين عشرة ألف دينار ومائة ثوب فانبثت العرب
في طلبه وأدركه علي بن جراح فأسره وحمله إلى سليمان فأخذه منه وأعطاه
ما بذل له وحمله مع رؤوس القتلى من أصحابه إلى مصر فشهرت الرؤوس وأبقي
على منجوتكين الحسن بن عمار واصطنعه واستمال المشارقة به ونزل سليمان
طبرية. وكان أهل دمشق قد أثاروا الفتنة ونهبوا دار منجوتكين وخزائنه
وما فيها من مال السلطان وعدده فأنفذ أخاه علياً غليها في خمسة ألف رجل
فلما وصلها ناوش أهلها وناوشوه واعتصموا بالبلد ومنعوا الدخول إليه
وكتب إلى سليمان أخيه يعلمه مخالفتهم وعصيانه ويستأذنه في منازلتهم
وقتالهم فأذن له في ذلك وأعلمه مسيره إليه وكتب إلى موسى العلوي
والأشراف والشيوخ بالانكار عليهم بتسلط العامة فيما ارتكبوا من النهب
والافساد وتقاعدهم عن الأخذ على أيديهم والردع لهم والتوعد بالمسير
(1/78)
إليهم والمقابلة لهم بما يقتضيه الرأي فلما
وقفوا على ما ذكره خافوا وخرجوا إلى أخيه علي ولقوه وأعلموه إنهم على
الطاعة والانكار لما أجرى إليه الجهالة فركب علي وحارب أهل دمشق وزحف
إلى باب الحديد والنفاطون معه فانهزموا منه وملك البلد وطرح النار في
الموضع المعروف بحجر الذهب وهو أجل موضع في البلد وقتل خلقاً كثيراً من
رجاله وعاد بعد ذلك إلى معسكره. ووافى من غد أخاه سليمان في عسكره
فأنكر عليه احراق ما أحرق وبلوغه في الافساد ما بلغ وتلقاه الأشراف
والشيوخ والناس وشكوا إليه ما لحقهم وتلف من دورهم وأملاكهم وأموالهم
فأمنهم وكف المغاربة عنهم وأظهر اعتقاده الجميل فيهم وكتب المناشير
بالصفح عن الجناة وايمان الكبير والصغير منهم ورفع الكلف والمؤن عنهم
وإفاضة العدل والانصاف فيهم وكوتبت في المسجد الجامع على رؤوس الأشهاد
فسكنت إلى ذلك النفوس واطمأنت به القلوب ورجعوا إلى ما كانوا عليه.
واختلط المغاربة بهم وركب القائد سليمان إلى الجامع في يوم الجمعة
بالطيلسان على البغل السندي وخرق في البلد بالسكينة والوقار وبين يديه
القراء وقوم يفرقون قراطيس دراهم الصدقات على أهل المسكنة والحاجة.
وكان لهذا القائد سليمان نفس واسعة وصدر رحب وقدم في الخير متقدمة
ورغبة في الفعل الجميل مشهورة ومقاصد في الصلاح مشكورة بعد الحسن بن
عمار ولما صلى
عاد إلى القصر الذي بني بظاهر البلد ونزل فيه وقد استمال قلوب الرعية
والعامة بما فعله وأظهره من حسن النظر في الظلامات المرفوعة إليه
واطلاق جماعة كانت في الحبوس من أرباب الجرائم المتقدمة والجنايات
السالفة واستقام له الأمر واستقرت على الصلاح الحال وصلحت أحوال البلد
وأهله بما نشر فيه من العدل وحكم به من الانصاف وأحسنه من النظر في
أمور السواحل بصرف من صرفه من ولاتها الجابرين واستبدل بهم من شيوخ
كتامة وقوادها ورد إلى علي أخيه ولاية طرابلس الشام وصرف عنها جيش بن
الصمصامة فمضى جيش المذكور إلى مصر من غير أن يقصد القائد سليمان
ويجتمع معه. وكان جيش هذا من شيوخ كتامة أيضاً إلا أن سليمان كان سيء
الرأي فيه لعداوة بينه وبينه فلما حصل جيش بمصر قصد برجوان سراً وطرح
نفسه عليه وأعلمه بغض أهل الشام للمغاربة واستيحاشهم منهم فأولاه
برجوان الجميل قولاً ووعداً وبذل له المعونة على أمره وتأمل برجوان ما
يلي به في الأحوال من الحسن بن عمار وكتامة وما خافه على نفسه منهم وإن
مصر والقاهرة قد خلتا الا من العدد الأقل منهم وأمكنته الفرصة فيما
يريده منهم فراسل الأتراك والمشارقة وقال لهم: قد عرفتم صورتكم وصورة
الحاكم مع هؤلاء القوم وإنهم قد غلبوا على المال وغلبوكم ومتى لم ننتهز
الفرصة في قلة عددهم وضعف شوكتهم سبقوكم إلى ما لا يمكنكم تلافيه بعد
التفريط فيه واستدراك الغاية منه. وأوثقهم على الطاعة والمساعدة
فبذلوها له ووثقوا له في كل ما يريده. وأحس الحسن بن عمار بما يريد
برجوان وشرع فيه وفي الفتك به وسبقه إلى ما يحاوله فيه ورتب له جماعةً
في دهليزه وواقفهم على الايقاع به وبشكر إذا دخلا داره وكان لبرجوان
عيون كثيرة على الحسن بن عمار فصاروا إليه وأعلموه ما قد عمل عليه
واجتمع برجوان وشكر وتفاوضا الرأي بينهما في التحرز مما بلغهما وقررا
أن يركبا ويركب على أثرهما من الغلمان جماعة فإن أحسوا وأحسنا على باب
الحسن ما يريبنا رجعنا وفي ظهورنا من يمنع منا فرتبا هذا الأمر وركبا
إلى دار الحسن وكانت في القاهرة مما يلي الجبل فلما قربا من الباب بانت
لهما شواهد ما أخبرا به فحذرا وعادا مسرعين وجرد الغلمان الذين كانوا
معهما سيوفهم ودخلا إلى قصر الحاكم يبكيان لديه ويستصرخان به وثارت
الفتنة واجتمع الأتراك والديلم والمشارقة وعبيد الشرا بالسلاح على باب
القصر وبرجوان يبكي ويقول لهم: يا عبيد مولانا احفظوا العزيز في ولده
وارعوا فيه ما تقدم من حقه. وهم يبكون لبكايه وركب الحسن بن عمار في
كتامة ومن انضاف إليهم من القبايل وغيرهم وخرج إلى الصحراء وتبعوه
وتبعه وجوه البلد فصار في عدد كثير وفتح برجوان خزائن السلاح وفرقه على
الغلمان والرجال وأحدقوا ومن معهم بالقصر من المشارقة والعامة بقصر
الحاكم وعلى أعلاه الخدم والجواري يصرخون وبرز منجوتكين ونارحكين وينال
الطويل وخمسمائة فارس من الغلمان ووقعت الحرب بينهم وبين الحسن إلى وقت
الظهر وحمل الغلمان عليه فانهزم وزحفت العامة إلى داره فانتهبوها
وفتحوا خزائنه وتفرقوا ما فيها والتجأ الحسن إلى بعض العامة فاستتر
عنده وتفرق جميع من كان معه وفتح برجوان باب القصر وأجلس الحاكم وأوصل
إليه الناس وأخذ له بيعةً مجددةً على الجند فما اختلف عليه أحد وكتب
الأمانات لوجوه كتامة وقواد الدولة وراسلهم بما تطيب به نفوسهم من
إقامة عذرهم فيما كان منهم فحضرت الجماعة وأعطت أيمانها على السمع
والطاعة. فاستقام الأمر لبرجوان وكتب الكتب إلى أشراف دمشق ووجوه أهلها
ويأمرهم بتطييب نفوسهم ويبعثهم على القيام على القائد أبي تميم سليمان
بن جعفر بن فلاح والايقاع به وكتب إلى مشارقة الأجناد بالاجتماع معهم
على المذكور والاعانة لهم عليهلى القصر الذي بني بظاهر البلد ونزل فيه
وقد استمال قلوب الرعية والعامة بما فعله وأظهره من حسن النظر في
الظلامات المرفوعة إليه واطلاق جماعة كانت في الحبوس من أرباب الجرائم
المتقدمة والجنايات السالفة واستقام له الأمر واستقرت على الصلاح الحال
وصلحت أحوال البلد وأهله بما نشر فيه من العدل وحكم به من الانصاف
وأحسنه من النظر في أمور السواحل بصرف من صرفه من ولاتها الجابرين
واستبدل بهم من شيوخ كتامة وقوادها ورد
(1/79)
إلى علي أخيه ولاية طرابلس الشام وصرف عنها
جيش بن الصمصامة فمضى جيش المذكور إلى مصر من غير أن يقصد القائد
سليمان ويجتمع معه. وكان جيش هذا من شيوخ كتامة أيضاً إلا أن سليمان
كان سيء الرأي فيه لعداوة بينه وبينه فلما حصل جيش بمصر قصد برجوان
سراً وطرح نفسه عليه وأعلمه بغض أهل الشام للمغاربة واستيحاشهم منهم
فأولاه برجوان الجميل قولاً ووعداً وبذل له المعونة على أمره وتأمل
برجوان ما يلي به في الأحوال من الحسن بن عمار وكتامة وما خافه على
نفسه منهم وإن مصر والقاهرة قد خلتا الا من العدد الأقل منهم وأمكنته
الفرصة فيما يريده منهم فراسل الأتراك والمشارقة وقال لهم: قد عرفتم
صورتكم وصورة الحاكم مع هؤلاء القوم وإنهم قد غلبوا على المال وغلبوكم
ومتى لم ننتهز الفرصة في قلة عددهم وضعف شوكتهم سبقوكم إلى ما لا
يمكنكم تلافيه بعد التفريط فيه واستدراك الغاية منه. وأوثقهم على
الطاعة والمساعدة فبذلوها له ووثقوا له في كل ما يريده. وأحس الحسن بن
عمار بما يريد برجوان وشرع فيه وفي الفتك به وسبقه إلى ما يحاوله فيه
ورتب له جماعةً في دهليزه وواقفهم على الايقاع به وبشكر إذا دخلا داره
وكان لبرجوان عيون كثيرة على الحسن بن عمار فصاروا إليه وأعلموه ما قد
عمل عليه واجتمع برجوان وشكر وتفاوضا الرأي بينهما في التحرز مما
بلغهما وقررا أن يركبا ويركب على أثرهما من الغلمان جماعة فإن أحسوا
وأحسنا على باب الحسن ما يريبنا رجعنا وفي ظهورنا من يمنع منا فرتبا
هذا الأمر وركبا إلى دار الحسن وكانت في القاهرة مما يلي الجبل فلما
قربا من الباب بانت لهما شواهد ما أخبرا به فحذرا وعادا مسرعين وجرد
الغلمان الذين كانوا معهما سيوفهم ودخلا إلى قصر الحاكم يبكيان لديه
ويستصرخان به وثارت الفتنة واجتمع الأتراك والديلم والمشارقة وعبيد
الشرا بالسلاح على باب
(1/80)
القصر وبرجوان يبكي ويقول لهم: يا عبيد
مولانا احفظوا العزيز في ولده وارعوا فيه ما تقدم من حقه. وهم يبكون
لبكايه وركب الحسن بن عمار في كتامة ومن انضاف إليهم من القبايل وغيرهم
وخرج إلى الصحراء وتبعوه وتبعه وجوه البلد فصار في عدد كثير وفتح
برجوان خزائن السلاح وفرقه على الغلمان والرجال وأحدقوا ومن معهم
بالقصر من المشارقة والعامة بقصر الحاكم وعلى أعلاه الخدم والجواري
يصرخون وبرز منجوتكين ونارحكين وينال الطويل وخمسمائة فارس من الغلمان
ووقعت الحرب بينهم وبين الحسن إلى وقت الظهر وحمل الغلمان عليه فانهزم
وزحفت العامة إلى داره فانتهبوها وفتحوا خزائنه وتفرقوا ما فيها والتجأ
الحسن إلى بعض العامة فاستتر عنده وتفرق جميع من كان معه وفتح برجوان
باب القصر وأجلس الحاكم وأوصل إليه الناس وأخذ له بيعةً مجددةً على
الجند فما اختلف عليه أحد وكتب الأمانات لوجوه كتامة وقواد الدولة
وراسلهم بما تطيب به نفوسهم من إقامة عذرهم فيما كان منهم فحضرت
الجماعة وأعطت أيمانها على السمع والطاعة. فاستقام الأمر لبرجوان وكتب
الكتب إلى أشراف دمشق ووجوه أهلها ويأمرهم بتطييب نفوسهم ويبعثهم على
القيام على القائد أبي تميم سليمان بن جعفر بن فلاح والايقاع به وكتب
إلى مشارقة الأجناد بالاجتماع معهم على المذكور والاعانة لهم عليه
(1/81)
شرح أسباب ولاية
القائد سليمان بن فلاح لدمشق المقدم ذكره لدمشق وما آلت إليه حاله وحال
أخيه في ذلك في سنة 387
قد تقدم من شرح ولاية القائد المذكور لدمشق والسبب لذلك وما آلت الحال
إليه ما في معرفته الغناء والكفاية. ولما وردت المكاتبات من مصر عقيب
انجلاء فتنة القائد أبي محمد الحسن بن عمار شيخ كتامة بتجديد البيعة
للحاكم بأمر الله بما يطيب قلوب أهل البلد ويبعثهم على الوثوب على
سليمان وكان هذا القائد المذكور مشهوراً بالكفاية والغناء وتوقد اليقظة
في أحواله والمضاء لكنه كان مستهتراً بشرب الراح واستماع الغناء
والتوفر على اللذة ولما وردت المطلقات المصرية بما اشتملت عليه في حقه
وهو منهمك في لهوه لم يشعر إلا بزحف العامة والمشارقة إلى قصره وهجومهم
عليه فخرج هارباً على ظهر فرسه فنهبت خزائنه وأمواله وعدده وأوقعوا من
كان في البلد معه من كتامة وقتلوا منهم عدةً وافرةً وعادت الفتنة
ثائرةً واقتسم الرؤساء الأحداث حال البلد، وكان يكتب لبرجوان فهد بن
إبراهيم النصراني فلما صار الأمر إليه استوزره وكان أبناء القبط بريف
مصر واستكتب أبا الفتح أحمد بن أفلح على ديوان الرسايل. ولم يزل برجوان
يتلطف للحسن بن عمار إلى أن أخرجه من استتاره وأعاده إلى داره وأجراه
على رسمه في راتبه واقطاعاته بعد أن شرط عليه اغلاق بابه والا يداخل
نفسه فيما كان يداخلها فيه ولا يشرع في فساد على الحاكم ولا على برجوان
وأخذ العهد عليه بذلك واستحلفه بأوكد الأيمان وبالغ في التوثق منه.
(1/82)
وكان أهل صور في هذه السنة التي هي سنة 87
قد عصوا وأمروا عليهم رجلاً ملاحاً من البحرية يعرف بالعلاقة وقتلوا
أصحاب السلطان واتفق إن المفرج بن دغفل قد نزل على الرملة ونهب ما كان
في السواد وأطلق يد العيث في البلاد وانضاف إلى هاتين الحادثتين خروج
الدوقس عظيم الروم في عسكر كثير إلى الشام ونزوله على حصن أفامية
فاصطنع برجوان القائد جيش بن الصمصامة وقدمه وجهز معه ألف رجل وسيره
إلى دمشق وأعمالها وبسط يده في الأموال ورد إليه تدبير الأعمال فسار
جيش ونزل على الرملة والوالي عليها وحيد الهلالي ومعه خمسة ألف رجل
ووافاه ولاة البلد وخدموه وصادف القائد أبا تميم سليمان بن فلاح في
الرملة فقبض عليه قبضاً جميلاً وندب أبا عبد الله الحسين بن ناصر
الدولة وياقوت الخادم ومن معه من عبيد الشرا لقصد صور ومنازلتها وفتحها
وكان قد ولي جماعةً من الخدم السواحل وأنفذوا إليها وأنفذ في البحر
تقدير عشرين مركباً من الحربية المشحونة بالرجال إلى ثغر صور وكتب إلى
علي بن حيدرة والي طرابلس بالمسير إليه في اصطوله وإلى ابن شيخ والي
صيدا بمثل ذلك وإلى جماعة من الجهات بحيث اجتمع الخلق الكثير على باب
صور ووقعت الحرب بينها وبين أهلها واستجار العلاقة بملك الروم وكاتب
يستنصره ويستنجده وأنفذ إليه عدة مراكب في البحر مشحونةً بالرجال
المقاتلة والتقت هذه المراكب مراكب المسلمين فاقتتلوا في البحر قتالاً
شديداً فظفر المسلمون بالروم وملكوا مركباً من مراكبهم وقتلوا من فيه
وكانت عدتهم مائة وخمسين رجلاً وانهزمت بقية المراكب فضعفت نفوس أهل
صور ولم يكن لهم طاقة بمن اجتمع عليهم من العساكر براً وبحراً ونادى
المغاربة من أراد الأمان من أهل الستر والسلامة فليلزم منزله فلزموا
ذلك وفتح البلد وأسر العلاقة وجماعة من أصحابه ووقع النهب وأخذ من
الأموال والرجال الشيء الكثير وكان هذا الفتح أول فتح على يد برجوان
(1/83)
الحاكمي وحمل العلاقة وأصحابه إلى مصر فسلخ
حياً وصلب بظاهر المنظر بعد أن حشي جلده تبناً وقتل أصحابه. وولي أبو
عبد الله الحسين بن ناصر الدولة ابن حمدان صور وأقام بها وسار جيش بن
الصمصامة على مقدمته بدر بن ربيعة لقصد المفرج بن دغفل بن الجراح وطلبه
فهرب بين يديه حتى لحق بجبلي طيء وتبعه حتى كاد يأخذه ثم رماه ابن جراح
بنفسه وعجائز نسائه وعاذ منه بالصفح وطلب الأمان فأمنه وشرط عليه ما
التزمه وعفا عنه جيش وكف عنه واستحلفه على ما قرره معه وعاد إلى الرملة
ورتب فيها والياً من قبله وانكفأ إلى دمشق طالباً لعسكر الروم النازل
على أفامية. فلما وصل إلى دمشق استقبله أشرافها ورؤساء أحداثها مذعنين
له بالطاعة فأقبل على رؤساء الأحداث وأظهر لهم الجميل ونادى في البلد
برفع الكلف واعتماد العدل والانصاف واباحة دم كل مغربي يتعرض لفساد
فاجتمع إليه الرعية يشكرونه ويدعون له وسألوه دخول البلد والنزول فيه
بينهم فأعلمهم إنه قاصد
الجهاد في الروم وأقام ثلاثة أيام وخلع على رؤساء الأحداث وحملهم
ووصلهم ونزل حمص. ووصل إليه أبو الحسن عبد الواحد بن حيدرة في جند
طرابلس والمتطوعة من عامتها وتوجه إلى الدوقس عظيم الروم النازل على
حصن أفامية فصارت أهله قد اشتد بهم الحصار وبلغ منهم عدم الأقوات
وانتهى أمرهم إلى أكل الجيف والكلاب وابتاع واحد واحداً بخمسة عشرين
درهماً. فنزل بإزاء الروم وبينه وبينهم النهر المعروف بالمقلوب والتقى
الفريقان وتنازعا الحرب والمسلمون في عشرة ألف رجل ومعهم ألف فارس من
بني كلاب فحمل الروم على القلب وفيه بدر العطار والديلم والسواد فكسروه
ووضعوا السيف في من كان فيه وانهزمت الميسرة وفيها ميسور الصقلبي والي
طرابلس ولحقتها الميمنة وفيها جيش بن محمد بن الصمصامة المقدم ووحيد
الهلالي وركب الروم المسلمين وقتلوا منهم ألفي رجل واستولوا على سوادهم
وسلاحهم وكراعهم ومال بنو كلاب على أكثر من ذلك فانتهبوه وثبت بشارة
الأخشيدي في خمسمائة غلام وشاهد أهل أفامية من المسلمين ما نزل بالناس
فأيقنوا بالهلاك والعطب وابتهلوا إلى الله الكريم اللطيف بعباده وسألوا
الرحمة والنصر. وكان ملك الروم قد وقف على رايته بين يديه ولدان له
وعشرة نفر من غلمانه ليشاهد ظفر عسكره وأخذه ما يأخذه من الغنائم فقصده
كردي يعرف بأبي الحجر أحمد بن الضحاك السليل على فرس جواد وعليه كذا
غند وخوذة وبيده اليمنى خشت وباليسرى العنان وخشت آخر فظنه الدوقس
مستأمناً له ومستجيراً به فلم يحفل به ولا تحرز منه فلما دنا منه حمل
عليه والدوقس متحصن بلأمته فرفع يده ليتقي ما يرميه به فرماه بالزوبين
الذي في يمناه رميةً أصابت خللاً في الدرع فوصل إلى جسده وتمكن منه في
أضلاعه فسقط إلى الأرض ميتاً وصاح الناس إن عدو الله قد قتل فانهزمت
الروم وتراجع المسلمون وعادت العرب ونزل من كان في الحصن فأعانوهم
واستولى المسلمون على الروم فقتلوهم وأسروهم وكانت الوقعة في مرج أفيح
يطيف به جبل يعرف بالمضيق لا يسلكه إلا رجل في أثر رجل ومن جانبه بحيرة
أفامية ونهر المقلوب فلم يكن للروم مهرب في الهزيمة وتصرم النهار وقد
احتز من رؤوس القتلى عشرة ألف راس وبات المسلمون مبيت المنصورين
الغانمين المسرورين بما منحهم الله إياهم من الكفاية ووهب لهم من
الظفر. ووافى العرب من غد بما نهبوه من دواب المسلمين عند الهزيمة
ومنهم من رد ومنهم من باع بالثمن البخس لأن جيش بن الصمصامة المقدم
نادى في معسكره بألا يبتاع أحمد من العرب الا ما عرفه وكان مأخوذاً منه
فلم يجد الا ما أخذه أصحابه. وحصل ولدا الدوقس في أسر بعض المسلمين
فابتاعهما جيش بن الصمصامة المقدم منه بستة ألف دينار وأخذهما إليه
وأقام على حصن أفامية أسبوعاً وحمل إلى مصر عشرة ألف راس وألفي رجل من
الأسرى إلى باب أنطاكية ونهب الرساتيق وأحرق القرى وانصرف منكفياً إلى
دمشق. وقد عظمت هيبته فاستقبله أشرافها ورؤساؤها وأحداثها مهنئين
وداعين له فتلقاهم بالشماسية وزادهم من الكرامة وخلع عليهم وعلى وجوه
الأحداث وحملهم على الخيل والبغال ووهب لهم الجواري والغلمان وعسكر
بظاهر البلد وخاطبوه في الدخول والجواز في الأسواق وقد كانوا زينوها
اظهاراً للسرور به والتقرب إليه فلم يفعل وقال: معي عسكر وإن دخلت
دخلوا معي ولم أمن أن يمدوا أيديهم إلى ما يثقل به الوطأة منهم. والتمس
أن يخلوا له قريةً على باب دمشق تعرف ببيت لهيا ليكون نزوله بها
فأجابوه إلى ذلكلجهاد في الروم وأقام ثلاثة أيام وخلع على رؤساء
الأحداث وحملهم ووصلهم ونزل حمص. ووصل إليه أبو الحسن عبد الواحد بن
حيدرة في جند طرابلس والمتطوعة من عامتها وتوجه إلى الدوقس عظيم الروم
النازل على حصن أفامية فصارت أهله قد اشتد بهم الحصار وبلغ منهم عدم
الأقوات وانتهى أمرهم إلى أكل الجيف والكلاب وابتاع واحد واحداً بخمسة
عشرين درهماً. فنزل بإزاء الروم وبينه وبينهم النهر المعروف بالمقلوب
والتقى الفريقان وتنازعا الحرب والمسلمون في عشرة ألف رجل ومعهم ألف
فارس من بني كلاب فحمل الروم على القلب وفيه بدر العطار والديلم
والسواد فكسروه ووضعوا السيف في
(1/84)
من كان فيه وانهزمت الميسرة وفيها ميسور
الصقلبي والي طرابلس ولحقتها الميمنة وفيها جيش بن محمد بن الصمصامة
المقدم ووحيد الهلالي وركب الروم المسلمين وقتلوا منهم ألفي رجل
واستولوا على سوادهم وسلاحهم وكراعهم ومال بنو كلاب على أكثر من ذلك
فانتهبوه وثبت بشارة الأخشيدي في خمسمائة غلام وشاهد أهل أفامية من
المسلمين ما نزل بالناس فأيقنوا بالهلاك والعطب وابتهلوا إلى الله
الكريم اللطيف بعباده وسألوا الرحمة والنصر. وكان ملك الروم قد وقف على
رايته بين يديه ولدان له وعشرة نفر من غلمانه ليشاهد ظفر عسكره وأخذه
ما يأخذه من الغنائم فقصده كردي يعرف بأبي الحجر أحمد بن الضحاك السليل
على فرس جواد وعليه كذا غند وخوذة وبيده اليمنى خشت وباليسرى العنان
وخشت آخر فظنه الدوقس مستأمناً له ومستجيراً به فلم يحفل به ولا تحرز
منه فلما دنا منه حمل عليه والدوقس متحصن بلأمته فرفع يده ليتقي ما
يرميه به فرماه بالزوبين الذي في يمناه رميةً أصابت خللاً في الدرع
فوصل إلى جسده وتمكن منه في أضلاعه فسقط إلى الأرض ميتاً وصاح الناس إن
عدو الله قد قتل فانهزمت الروم وتراجع المسلمون وعادت العرب ونزل من
كان في الحصن فأعانوهم واستولى المسلمون على الروم فقتلوهم وأسروهم
وكانت الوقعة في مرج أفيح يطيف به جبل يعرف بالمضيق لا يسلكه إلا رجل
في أثر رجل ومن جانبه بحيرة أفامية ونهر المقلوب فلم يكن للروم مهرب في
الهزيمة وتصرم النهار وقد احتز من رؤوس القتلى عشرة ألف راس وبات
المسلمون مبيت المنصورين الغانمين المسرورين بما منحهم الله إياهم من
الكفاية ووهب لهم من الظفر. ووافى العرب من غد بما نهبوه من دواب
المسلمين عند الهزيمة ومنهم من رد ومنهم من باع
(1/85)
بالثمن البخس لأن جيش بن الصمصامة المقدم
نادى في معسكره بألا يبتاع أحمد من العرب الا ما عرفه وكان مأخوذاً منه
فلم يجد الا ما أخذه أصحابه. وحصل ولدا الدوقس في أسر بعض المسلمين
فابتاعهما جيش بن الصمصامة المقدم منه بستة ألف دينار وأخذهما إليه
وأقام على حصن أفامية أسبوعاً وحمل إلى مصر عشرة ألف راس وألفي رجل من
الأسرى إلى باب أنطاكية ونهب الرساتيق وأحرق القرى وانصرف منكفياً إلى
دمشق. وقد عظمت هيبته فاستقبله أشرافها ورؤساؤها وأحداثها مهنئين
وداعين له فتلقاهم بالشماسية وزادهم من الكرامة وخلع عليهم وعلى وجوه
الأحداث وحملهم على الخيل والبغال ووهب لهم الجواري والغلمان وعسكر
بظاهر البلد وخاطبوه في الدخول والجواز في الأسواق وقد كانوا زينوها
اظهاراً للسرور به والتقرب إليه فلم يفعل وقال: معي عسكر وإن دخلت
دخلوا معي ولم أمن أن يمدوا أيديهم إلى ما يثقل به الوطأة منهم. والتمس
أن يخلوا له قريةً على باب دمشق تعرف ببيت لهيا ليكون نزوله بها
فأجابوه إلى ذلك
(1/86)
ولاية بشارة
الإخشيدي القائد لدمشق في سنة 388 والسبب الداعي إلى ذلك وما آلت إليه
الحال
لما تقرر الحال بمصر مع برجوان الحاكمي على تجهيز جيش بن الصمصامة إلى
الشام لتلافي ما حدث فيه وتدبير الأعمال وتسديد الأحوال والرفع لشر
الروم الواصلين إلى أعماله اقتضت الحال والسياسة رد ولاية دمشق بعد
اخراج القائد أبي تميم سليمان بن جعفر بن قلاح منها على ما تقدم الذكر
له إلى القائد بشارة الأخشيدي فسار ووصل إليها ودخلها ونزل في قصر
الولاة بها وشرع في البناء فيه على عادة الولاة في ذلك في يوم الاثنين
النصف من شوال سنة 388. وتوجه القائد بشارة الوالي المذكور مع جيش ابن
الصمصامة إلى الجهاد في الروم فلما أظفر الله بهم ونصر عليهم وانكفأ
المسلمون منصورين ظافرين مسرورين وعاد بشارة الوالي في الجملة صادف
الأمر قد ورد من مصر بصرف القائد بشارة عن ولاية دمشق واقرارها على
القائد جيش بن محمد ابن الصمصامة
شرح السبب في ذلك وما انتهت إليه حاله وكان
ماله
قد تقدم شرح السبب في اخراج القائد جيش في العسكر من مصر إلى الشام ما
كفى وأغنى وما كان منه في التدبير في افتتاح ثغر صور وكسر عسكر الروم
والعود إلى دمشق وصرف بشارة عن ولايتها.
(1/87)
واتفق ذاك وقد قوض الصيف خيامه وطوى بعد
النشر اعلامه والشتاء قد أقبل بصره وهريره وقرة زمهريره فالتمس من أهل
دمشق على ما تقدم ذكره اخلاء بيت لهيا فأجيب إلى ما طلب فنزل فيها وشرع
في التوفر على استعمال العدل ورفع الكلف واحسان السيرة والمنع من الظلم
وأشخص رؤساء الأحداث وقدمهم واستحجب جماعةً منهم وجعل يعمل لهم السمط
في كل يوم يحضرهم للأكل عنده ويبالغ في تأنيسهم واستمالتهم بكل حال.
فلما مضت على ذلك برهة من الزمان أحضر قواده ووجوه أصحابه وتقدم إليهم
بالكون على أهبة واستعداد لما يريد استخدامهم وتوقع لما يوصل إليهم من
رقاعه المختومة بخاتمه والعمل به. وقسم البلد وكتب إلى كل قائد يذكر
الموضع الذي يدخل فيه ويضع السيف في مفسديه ثم رتب في حمام داره مائتي
راجل من المغاربة بالسيوف وتقدم إلى المعروف بالناهري العلوي وكان من
خواصه وثقاته بأن يراعي حضور رؤساء الأحداث الطعام فإذا أكلوا وقاموا
إلى المجلس الذي جرت عادتهم بغسل أيديهم فيه أغلق عليهم بابه وأمر من
رتب في الحمام بوضع السيف في أصحابهم. وكان كل رجل منهم يدخل ومعه
جماعة من الأحداث معهم السلاح وحضر القوم على رسمهم فبادر جيش بالرقاع
إلى قواده وجلس معهم للأكل فلما فرغوا نهض فدخل في حجرته ونهضوا إلى
المجلس وأغلق الفراشون بابه وكانت عدتهم اثني عشر رجلاً يقدمهم المعروف
بالدهيقين وخرج من بالحمام فوضعوا السيف في أصحابهم فقتلوهم بأسرهم
وكانوا تقدير مائتي رجل، وركب القواد ودخلوا البلد وقتلوا فيه قتلاً
ذريعاً وثلموا السور من كل جانب وفتحوا أبوابه ورموها وأنزل المغاربة
دور الدمشقيين وجرد إلى الغوطة والمرج قائداً يعرف بنصرون وأمره بوضع
السيف في من بها من الأحداث فيقال إنه قتل ألف رجل منهم لأنهم كانوا
كثيرين. ودخل دمشق فطافها فاستغاث الناس وسألوا العفو
(1/88)
والابقاء فكف عنهم ورتب أصحاب المصالح في
المحال والمواضع وعاد إلى القصر في وقته فاستدعى الأشراف استدعاء حسن
معه ظنهم فيه فلما حضروا أخرج رؤساء الأحداث فضرب رقابهم بين أيديهم
وأمر بصلب كل واحد منهم في محلته حتى إذا فرغ من ذلك قبض عليهم وحملهم
إلى مصر وأخذ أموالهم ونعمهم ووظف على أهل البلد خمسمائة ألف دينار.
وجاءه أمر الله تعالى الذي لا يدفع نازله ولا يرد واصله فهلك وكان سبب
هلاكه ناسور خرج في سفله ولم يزل يستغيث من الألم ويتمنى الموت ويطلب
أن يقتل نفسه فلا يتمكن ولا يمكن ويسئل في قتله فلا يقتل إلى أن هلك
على هذه الحال وكانت مدة هذه الولاية والفتنة تسعة شهور وقيل إن عدة من
قتل من الأحداث ثلاثة ألف رجل وانتهى الخبر إلى مصر بهلاكه فقلد ولده
محمد بن جيش مكانه. وقد استقامت الأمور بمصر والشام واستمال برجوان
المشارقة واستدعاهم من البلاد فاجتمع عنده منهم تقدير ثلاثة ألف رجل
وكان يواصل النظر في قصر الحاكم نهاره أجمع إلى أن ينتصف الليل ويجاوز
الانتصاف ويوفي السياسة حقها وبين يديه ابن أبي العلاء فهد بن إبراهيم
من يمشي الأمور ويحسن تنفيذها.
(1/89)
وراسل برجوان بسيل ملك الروم على لسان ابن
أبي العلاء ودعاه إلى المهادنة والموادعة وحمل إليه هدايا سلك فيها
سبيل التألف والملاطفة فقابل بسيل ذلك منه بأحسن قبول وتقررت الموادعة
عشر سنين وأنفذ بسيل في مقابلة الهدية ما جرت به عادة مثله. وصلحت
الحال مع العرب وأحسن إلى بني قرة وألزمهم شرائط الطاعة وسير عسكراً
إلى برقة وطرابلس الغرب فأخذها وعول في ولايتها على يانس الصقلبي. وكان
لفرط إشفاقه على الحاكم يمنعه من الركوب في غير وقت ركوبه والعطاء لغير
مستحقه وفعل وذاك يفعله من باب السياسة والحفظ لنفسه وهيبته وماله وهو
يسر ذلك في نفسه إنه من الإساءة إليه والتضييق عليه. وكان مع الحاكم
خادم يعرف بزيدان الصقلبي وقد خص به وأنس إليه في شكوى ما يشكوه من
برجوان إليه واطلاعه على ما يسره في نفسه له وزاد زيدان في الحمل عليه
والاغراء به وقال له فيما قال: إن برجوان يريد أن يجري نفسه مجرى كافور
الأخشيدي ويجريك مجرى ولد الأخشيدي في الحجر عليك والأخذ على يدك
والصواب أن تقتله وتدبر أمرك منفرداً به.
فقال له الحاكم: إذا كان هذا رأيك والصواب عندك فأريد منك المساعدة
عليه. فبذلها له فلما كان في بعض أيام شهور سنة 389 أشار زيدان على
الحاكم بأن ينفذ إلى برجوان في وقت الظهر بعد انصرافه إلى داره وتفرق
الناس عنه للركوب إلى الصيد وأن يقف له في البستان الذي داخل القصر
فإذا حضر أمر بقتله فأرسل إليه بالركوب وقال: أريد أن ترتب الخدم في
جانبي البستان فإني أقف على بابه وأنت بين يدي فإذا حضر برجوان دخلت
البستان وتبعني وكنت في أثره فإذا نظرت إليك فأضره بالسكين في ظهره
وواقف الخدم أن يضعوا عليه. فبينما هما في الحديث إذ دخل برجوان فقال
للحاكم: يا أمير المؤمنين الحر شديد والبزاة في مثله لا تصيد. فقال:
صدقت ولكنا ندخل البستان ونطوف فيه ساعةً ونخرج. وأنفذ برجوان إلى شكر
وكان قد ركب بأن يسير مع الموكب إلى المقس والمقس ظاهرة القاهرة ويقف
عند القنطرة فإن مولانا يخرج من البستان ويتبعك ففعل ودخل الحاكم
البستان وبرجوان خلفه وزيدان بعده وكان برجوان خادماً أبيض اللون تام
الخلقة فبدره زيدان فضربه بين أكتافه بسكين اطلعها من صدره فقال: يا
مولانا غدرت. فصاح الحاكم: يا عبيد خذوا رأسه. وتكاثر الخدم عليه
فقتلوه وخرج الخدم الكبار مسرعين على ظهور الخيل إلى الجانب وبغال
الموكب والجوارح فردوا جميعها فقال لهم شكر: ما السبب في ذلك! فلم
يجيبوه فجاء الناس من هذا الحادث ما لم يكن في الحساب وعاد شكر بالموكب
وشهر الجند سيوفهم وهم لا يعلمون ما الخبر غير إنهم خائفون على الحاكم
من حيلة تتم عليه من الحسن بن عمار ورجع أكثرهم إلى دورهم فلبسوا
سلاحهم ووافوا إلى باب القصر وتميز المغاربة والمشارقة وأحدق شكر ومن
معه من الأتراك والمشارقة القصر وعلا على شرف القصر الخدم في أيديهم
السيوف والتراس وعظم الأمر واجتمع القواد وشيوخ الدولة وأبو لعلاء
الوزير على باب القصر الزمرد. فلما رأى الحاكم زيادة الاختلاط ظهر من
منظرة على الباب وسلم على الناس فترجلوا عن دوابهم إلى الأرض وقتلوها
بين يديه وضربت البوقات والطبول وفتح باب القصر واستدعى أصحاب الرسايل
وسلمت إليهم رقعة قد كتبها الحاكم بيده إلى شكر وأكابر القواد يقول
فيها: إنني أنكرت على برجوان أموراً أوجبت قتله فقتلته فألزموا الطاعة
وحافظوا على ما فيها في رقابكم من البيعة المأخوذة. فلما قرئت عليهم
قبلوا الأرض وقالوا: الأمر لمولانا. واستدعى الحسين بن جوهر وكان من
شيوخ الدولة فأمره بصرف الناس فصرفهم وعاد الحاكم إلى قصره وكل من
القواد إلى داره والنفوس خائفة من فتنة تحدث بين المشارقة والمغاربة
وشاع قتل برجوان وركب مسعود الحاكمي إلى داره فقبض على جميع ما فيها من
أمواله. وجلس الحاكم وقت العشاء الأخير واستدعى الحسين بن جوهر وأبا
العلاء بن فهد بن إبراهيم الوزير وتقدم إليه بإحضار سائر كتاب الدواوين
والأعمال ففعل وحضروا وأوصلهم إليه وقال لهم: إن هذا فهداً كان أمس
كاتب برجوان عبدي وهو اليوم وزيري فاسمعوا له وأطيعوا ووفوه شروطه في
التقدم عليكم وتوفروا على مراعاة الأعمال وحراسة الأموال. وقبل فهد
الأرض وقبلوها وقالوا: السمع والطاعة لمولانا. وقال لفهد: أنا حامد لك
وراض عنك وهؤلاء الكتاب خدمي فأعرف حقوقهم وأجمل معاملتهم وأحفظ حرمتهم
وزد في واجب من يستحق الزيادة بكفايته وأمانته. وتقدم بأن يكتب إلى
سائر ولاة البلاد والأعمال بالسبب الواجب لقتل برجوان. فكتب بما نسخته
بعد التصدير وما جرت العادة بمثله في الخطاب: أما بعد فإن برجوان أرضى
أمير المؤمنين حيناً فاستعمله ثم أسخطه فقتله وأعلمك أمير المؤمنين ذاك
لتعلمه وتجري على سننك الحميد في خدمته ومدهبك الرشيد في طاعته
ومناصحته وتسديد ما قبلك من الأمور وطالعه بما يتجدد لديك من أحوال
الجمهور إن شاء الله. ونفذت الكتب بذاك واستقامت الأحوال على سنن
الصواب وزال ما خيف من الاختلال والاضرابال له الحاكم: إذا كان هذا
رأيك والصواب عندك فأريد منك المساعدة عليه. فبذلها له فلما كان في بعض
أيام شهور سنة 389 أشار زيدان على الحاكم بأن ينفذ إلى برجوان في وقت
الظهر بعد انصرافه إلى داره وتفرق الناس عنه للركوب إلى الصيد وأن يقف
له في البستان الذي داخل القصر فإذا حضر أمر بقتله فأرسل إليه بالركوب
(1/90)
وقال: أريد أن ترتب الخدم في جانبي البستان
فإني أقف على بابه وأنت بين يدي فإذا حضر برجوان دخلت البستان وتبعني
وكنت في أثره فإذا نظرت إليك فأضره بالسكين في ظهره وواقف الخدم أن
يضعوا عليه. فبينما هما في الحديث إذ دخل برجوان فقال للحاكم: يا أمير
المؤمنين الحر شديد والبزاة في مثله لا تصيد. فقال: صدقت ولكنا ندخل
البستان ونطوف فيه ساعةً ونخرج. وأنفذ برجوان إلى شكر وكان قد ركب بأن
يسير مع الموكب إلى المقس والمقس ظاهرة القاهرة ويقف عند القنطرة فإن
مولانا يخرج من البستان ويتبعك ففعل ودخل الحاكم البستان وبرجوان خلفه
وزيدان بعده وكان برجوان خادماً أبيض اللون تام الخلقة فبدره زيدان
فضربه بين أكتافه بسكين اطلعها من صدره فقال: يا مولانا غدرت. فصاح
الحاكم: يا عبيد خذوا رأسه. وتكاثر الخدم عليه فقتلوه وخرج الخدم
الكبار مسرعين على ظهور الخيل إلى الجانب وبغال الموكب والجوارح فردوا
جميعها فقال لهم شكر: ما السبب في ذلك! فلم يجيبوه فجاء الناس من هذا
الحادث ما لم يكن في الحساب وعاد شكر بالموكب وشهر الجند سيوفهم وهم لا
يعلمون ما الخبر غير إنهم خائفون على الحاكم من حيلة تتم عليه من الحسن
بن عمار ورجع أكثرهم إلى دورهم فلبسوا سلاحهم ووافوا إلى باب القصر
وتميز المغاربة والمشارقة وأحدق شكر ومن معه من الأتراك والمشارقة
القصر وعلا على شرف القصر الخدم في أيديهم السيوف والتراس وعظم الأمر
واجتمع القواد وشيوخ الدولة وأبو لعلاء الوزير على باب القصر الزمرد.
فلما رأى الحاكم زيادة الاختلاط ظهر من منظرة على الباب وسلم على الناس
فترجلوا عن دوابهم إلى الأرض وقتلوها بين يديه وضربت البوقات والطبول
وفتح باب القصر واستدعى أصحاب الرسايل وسلمت إليهم رقعة قد كتبها
الحاكم بيده إلى شكر وأكابر القواد يقول فيها: إنني أنكرت
(1/91)
على برجوان أموراً أوجبت قتله فقتلته
فألزموا الطاعة وحافظوا على ما فيها في رقابكم من البيعة المأخوذة.
فلما قرئت عليهم قبلوا الأرض وقالوا: الأمر لمولانا. واستدعى الحسين بن
جوهر وكان من شيوخ الدولة فأمره بصرف الناس فصرفهم وعاد الحاكم إلى
قصره وكل من القواد إلى داره والنفوس خائفة من فتنة تحدث بين المشارقة
والمغاربة وشاع قتل برجوان وركب مسعود الحاكمي إلى داره فقبض على جميع
ما فيها من أمواله. وجلس الحاكم وقت العشاء الأخير واستدعى الحسين بن
جوهر وأبا العلاء بن فهد بن إبراهيم الوزير وتقدم إليه بإحضار سائر
كتاب الدواوين والأعمال ففعل وحضروا وأوصلهم إليه وقال لهم: إن هذا
فهداً كان أمس كاتب برجوان عبدي وهو اليوم وزيري فاسمعوا له وأطيعوا
ووفوه شروطه في التقدم عليكم وتوفروا على مراعاة الأعمال وحراسة
الأموال. وقبل فهد الأرض وقبلوها وقالوا: السمع والطاعة لمولانا. وقال
لفهد: أنا حامد لك وراض عنك وهؤلاء الكتاب خدمي فأعرف حقوقهم وأجمل
معاملتهم وأحفظ حرمتهم وزد في واجب من يستحق الزيادة بكفايته وأمانته.
وتقدم بأن يكتب إلى سائر ولاة البلاد والأعمال بالسبب الواجب لقتل
برجوان. فكتب بما نسخته بعد التصدير وما جرت العادة بمثله في الخطاب:
أما بعد فإن برجوان أرضى أمير المؤمنين حيناً فاستعمله ثم أسخطه فقتله
وأعلمك أمير المؤمنين ذاك لتعلمه وتجري على سننك الحميد في خدمته
ومدهبك الرشيد في طاعته ومناصحته وتسديد ما قبلك من الأمور وطالعه بما
يتجدد لديك من أحوال الجمهور إن شاء الله. ونفذت الكتب بذاك واستقامت
الأحوال على سنن الصواب وزال ما خيف من الاختلال والاضطراب
(1/92)
ولاية القايد تميم
بن إسماعيل المغربي الملقب بفحل لدمشق سنة 390
لما هلك جيش بن محمد بن الصمصامة على ما تقدم الشرح فيه عقيب إغراقه في
الظلم وإيغاله في سفك الدماء والجور وكان هلاكه في يوم الأحد لتسع خلون
من شهر ربيع الآخر سنة 390 وكانت مدة ولايته التي هلك فيها على ما صح
في هذه الرواية دون ما تقدم ذكره ستة عشر شهراً وستة عشر يوماً وانتهى
الخبر إلى مصر بذاك وقع الارتياد لمن يختار لولايتها بعد المذكور فوقع
الاختيار على القائد تميم بن إسمعيل المغربي الملقب بفحل فوصل إليها
وأقام بها وأمر ونهى وبقي شهوراً من سنة 390 وعرضت له علة هلك بها ومضى
لحال سبيله فلما انتهى خبر وفاته إلى مصر وقع الاعتماد في ولايته على
القائد علي بن جعفر بن فلاح وقد كان وليها دفعةً أولةً
شرح ذلك
وصل القائد علي ابن جعفر بن فلاح إلى دمشق والياً عليها دفعةً ثانية
فنزل عليها في يوم السبت لليلتين بقيتا من شوال سنة 390 وأقام مدةً
يتولى أمرها ويدبر أحوالها على عادة الولاة إلا إنه لم يبسط يده في مال
ولا تعرض لشيء من استغلال ثم اقتضت الآراء بمصر أن يصرف عنها ويبدل
بغيره في ولايتها
(1/93)
ولاية القائد ختكين
الداعي المعروف بالضيف في سنة 392
وصل القائد ختكين الداعي المعروف بالضيف إلى دمشق والياً عليها من قبل
الحاكم بأمر الله في شهر رمضان من السنة فدبر أمورها ونظر في أحوال
أجنادها. واقتضى رأيه أن ينقص واجبات الأجناد ويدافع بأعطياتهم
ويغالطهم ويظهر أمراً من التوفير فلم يتمكن من بلوغ مرام ولا نيل أمل
واتفق أن يكون القائد علي بن فلاح المقدم ذكره مقيماً في عسكره في
الشماسية بظاهر دمشق فلما طلبت الأجناد أرزاقها منه قال لهم: ليس إلي
من أمر أرزاقكم شيء. فكان على تدبير المال وإطلاق الأرزاق رجل من
الكتاب نصراني يقال له ابن عبدون فشغب الجند في العسكر فثاروا يريدون
ابن عبدون فلحقوا ختكين الوالي في الطريق فنهاهم من ابن عبدون وشتمهم
وكان رجلاً جاهلاً أحمق فرجع إليه قوم من الجند فسألوه فلم يجب إلى ما
يوافق أغراضهم ويسكن شغبهم فثارت الفرسان والرجالة إلى دور الكتاب
فانتهبوا ما كان فيها ونهبوا ما كان في الكنائس واجتمع بعد ذلك جماعة
من المشارقة والمغاربة فتحالفوا على أن يكونوا يداً واحداً في طلب
الأرزاق والمنع ممن عساه يطالبهم بما فعلوه وحلف لهم القائد علي بن
فلاح على كونه منهم وشده معهم وانتهى الأمر في ذلك إلى الحاكم فقال:
هذا قد عصى وخرج عن مشكور السياسة. وأمر بصرفه عن الولاية والاستبدال
به وكتب إليه بذلك فرحل عنها بنفر يسير من أصحابه في شوال من السنة
المذكورة وبقي العسكر في دمشق. فاقتضى الرأي الحاكمي رد ولاية دمشق إلى
رجل أسود بربري يقال له القائد طزملت بن بكار
(1/94)
ولاية القائد طزملة
بن بكار البربري لدمشق في بقية سنة 396
وصل القائد طزملت المذكور إلى دمشق والياً عليها من قبل الحاكم بأمر
الله في يوم الأحد لست بقين من ذي القعدة من السنة وكان هذا طزملت
عبداً لابن وفري والي القيروان فولاه طرابلس الغرب فجاز على أهلها
وظلمهم وأخذ أموالهم فحصل له منهم مال عظيم فلما انتهى خبر ظلمه إلى
مولاه طلبه والتمس إشخاصه إلى القيروان لكشف الأمر فخافه وانهزم
إشفاقاً على نفسه وماله ووصل إلى مصر وحمل بعض ما كان معه إلى الحاكم
فتمكنت حاله عنده وتأثلت منزلته منه وولاه دمشق فأقام والياً عليها إلى
المحرم سنة 394 فصرف عنها بخادم من خدم الحضرة يقال له القائد مفلح
اللحياني وسنشرح حاله في غير هذا المكان. كان في سنة 393 قد اجتمع في
مصر أبو ظاهر محمود بن محمد النحوي وكان من أهل بغداد وطرا إلى مصر
وإليه ديوان الحجاز والمعروف بابن العداس المصري وإليه ديوان الخراج
على الرفع على أبي العلاء فهد بن إبراهيم الوزير والسعاية به إلى
الحاكم وعملا عملاً بما اقتطعه وارتفق به واشتمل ذلك على حملة كبيرة من
المال ولقيا الحاكم بالعمل ووقفاه عليه وبذلا له القيام بالأمر وتوفير
ستة ألف دينار في كل سنة فكان فهد يأخذها لنفسه فقال لهما: أنا أقبض
عليه وأقلدكما النظر فيما كان ينظر فيه. فقالا: لا يتم أمر ولا يمشي
لنا عمل وفهد حي مأمول
(1/95)
الخروج من محبسه والعود إلى أمره سيما وكل
من بمصر والشام من الولاة والعمال صنائع برجوان وقد جرى اصطناعه إياهم
على يده. فامتنع عليهما من قبله وكره قتله وقال لهما: ما له إلي ذنب
فاقتله به! وراجعاه القول وألحا عليه فيه فقال: إذا فعلت ما أردتماه
فما التوثقة فيما بذلتماه؟ قالا: ان نكتب خطنا لك بأننا نكفيك أمورك
ونقوم بتمشيتها على مرادك ونقيم لك وجه المال الذي ضمنا استخراجه لك
وتوفيره من الأعمال. قال: فأيكما يخرج إلى الشام؟ قالا: عبدك ابن
النحوي ويقيم ابن العداس بحضرتك. فقرر ذلك معهما وأخذ به خطهما. وكان
من عادة الحاكم أن يطوف ليلاً بمصر والقاهرة وقد منع التجار وأرباب
الدكاكين أن يغلقوا دكاكينهم أو ينصرفوا عنها إلى منازلهم حتى صار
الليل نهاراً في معاملاتهم ومن إشعال السرج والشمع وإضاءة المحال
والأسواق تقرباً إليه ويطلق لهم المعونة الكثيرة على ذلك ويقف على
دكاكينهم ويجتاز بينهم ولا يقدر أحد أن يقوم له أو يقبل الأرض بين يديه
فلما عاد في تلك الليلة سحراً من طوفه أمر مسعوداً السيفي بأن يمضي إلى
فهد بن إبراهيم الوزير يستدعيه فإذا دخل بحجره ضرب عنقه وأحضر رأسه وأن
يقبض على أبي غالب أخيه وكان شريراً مبغضاً وإليه ديوان النفقات فمضى
ووجد فهداً في الحمام فانتظره حتى خرج ثم استركبه وأشعره إنه يراد بخير
وانزعج أولاده وأهله وساءت ظنونهم فيه ووصل مسعود إلى باب الرهومة وهو
باب من أبواب القصر فعدل به إلى محجبة العطب فلما رأى فهد ذلك أحس
بالهلاك فصاح واستغاث وبكى ولاذ بالعفو وبكى الناس لما شاهدوه من حاله
وعرفوه من الأمر الذي يراد به وأدخله مسعود إلى الحجرة فأقسم عليه فهد
أن يراجع الحاكم في بابه وبذل له ألف دينار وتوفير مثلها فقال له
مسعود: لا سبيل إلى المراجعة بعد ما أمرت به. وضرب عنقه وأخذ رأسه
وحمله إلى حضرة الحاكم فلما شاهده أمره أن يخرج رأس كل
(1/96)
من يقتله من وجوه الدولة إلى قائد القواد
فلما رآه أسقط مغشياً عليه وعاد مسعود ليقبض على أبي غالب أخيه فوجده
قد هرب فأعلم الحاكم ذلك فأمر بطلبه حتى ظفر به بعد شهر وغير حليته
وحلق لحيته فألحقه بأخيه. وأحضر أولاد فهد فخلع عليهم وكتب لهم سجلاً
بصيانتهم وحماية دورهم وإزالة الاعتراض عنهم وعن أسبابهم. ونظر ابن
العداس في الأعمال وشرع في تهذيب الأمور وتوفير الأموال وتوجه ابن
النحوي إلى الشام على القاعدة المقررة مع الحاكم وكان قد عد ما يحتاج
إليه من آلة السفر والتجمل واستكثر من ذلك وتناهى فيه وهابه الناس
وتجنبوه ووصل أولاً إلى الرملة فقبض على العمال والمتصرفين فيها وعسفهم
وألزمهم بمائتي ألف دينار ووضع السوط والعصا في المطالبة وبث أصحابه
ونوابه إلى دمشق وطبرية والسواحل بعد أن واقفهم على أخذ العمال
والمتصرفين في الأعمال ومصادرتهم وخبط الشام وعسف من فيه بطلب المال،
وكان في جملة العمال رجل نصراني يتعلق بخدمة ست الملك أخت الحاكم وله
منها رعاية مؤكدة فكتب إليها يستصرخ بها
ويشكو ما نزل بالناس من البلاء إليها وما شمل الشام وأهله من ابن
النحوي وما بسط فيه من الظلم والعسف والجور مما لم يجر بمثله عادة في
قديم الأزمان ولا حديثها فلما وصل الكتاب إليها ووقفت عليه دخلت على
الحاكم وكان يشاورها في الأمور ويعمل برأيها ولا يخالف مشورةً لها
فعرضت عليه ما تضمنه الكتاب من الشكوى وقالت: يا أمير المؤمنين قد ظهر
كذب ابن النحوي وابن العداس وأعمالهما الحيلة على فهد وقتله مساعدةً
للحسين بن جوهر وقد أفسد البلاد عليك وأوحش الناس منك فإن كنت يا أمير
المؤمنين تريد أخذ أموال عبيدك فكل يبذلها لك طوعاً ويحملها إلى خزانتك
تبرعاً بعد أن يكونوا تحت ظل الصيانة وفي كنف الحياطة هذا ولم تجر
عادات أبائك اطلاق المصادرات. فأنكر الحاكم إنه لم يسمح لأحد منهما في
ذلك وكتب إلى وحيد والي الرملة سراً وكان الحاكم يكتم السر شديداً:
(1/97)
بسم الله الرحمن الرحيم يا وحيد سلمك الله
ساعة وقوفك على هذا الكتاب اقبض على محمود بن محمد لا حمد الله أمره
وسيره مع من يوصله من ثقاتك إلى الباب العزيز إن شاء الله. فلما وقفت
أخته على التوقيع قالت: يا أمير المؤمنين ومن هذا الكلب حتى ترفع من
شانه بحمله إلى حضرتك وبطن الأرض أولى به. فأخذ الكتاب وزاد فيه: بل
تضرب عنقه وتنفذ رأسه. وختم الكتاب ثلاثة ختوم وأحضر سعيد بن غياث صاحب
البريد ودفعه إليه فبادر به من وقته ومسافة ما بين القاهرة والرملة
مائة فرسخ وكانت النوبة توافيها في الساعة الثالثة من اليوم الثالث
ووصل الكتاب إلى وحيد وكان عادته إلى ابن النحوي دائماً وربما أوصله أو
حجبه فلما وقف على الكتاب قال لدري غلامه الناظر في المعونة وكان
أرمنياً فظاً غليظاً: اركب إلى محمود وكان مخيماً بظاهر الرملة واستأذن
عليه فإذا أوصلك فأبلغه سلامي واسئله الركوب إلي لاقفه على ما ورد من
حضرة السلطان فإن قال لك لم تجر بذلك عاده فقل: كذا أمرت فيما وردت.
فمضى دري إليه وبين يديه جماعة كثيرة من الرجال حتى وافى عسكر محمود
واستأذن عليه ودخل إليه وقال له ما قاله وحيد الوالي فقال له: لم تجر
بذلك العادة فيما تسومنيه وفي غد نجتمع. فأجابه بما قال له وحيد فلما
سمعه ضعفت نفسه وسآء ظنه ولم يمكنه مخالفته فركب في موكبه وتوجه إلى
دار وحيد وصار إلى وحيد من أعلمه ركوبه فتقدم إلى بعض حجابه وصاحب
الخبر برملة بأن يتلقياه فإذا لقياه أنزلاه عن دابته وضربا عنقه وأخذا
رأسه ففعلا ما أمرهما وحين وصل سوق البز صادفاه وانزلاه بعد تمنعه
فأوقعا به وقطعا رأسه وحملاه إلى وحيد فأحضر القاضي
(1/98)
والشهود وكتب محضراً بأن الرأس رأس محمود
وصيره وأنفذه مع المحضر إلى صاحب البريد فأسرع به إلى مصر وقبض على
أصحابه وأسبابه وأماله وكراعه. وسر الناس بهلاكه وتباشروا بما كفوه من
شره ووصل الرأس إلى الحاكم فأحضر ست الملك فأراها إياه فدعت له وشكرته
على ما كان منه وأمر مسعود بأن يأخذ ابن العداس من بني يدي قائد القواد
الحسين بن جوهر فتضرب عنقه بحضرته ويأخذ رأسه ويضيفه إلى الرأس ففعل
فلما اجتمع الرأسان بين يديه أمره أن يخرجهما إلى قائد القواد فأخرجهما
إليه فلما شاهدهما جزع جزعاً شديداً ثم استدعاه الحاكم وسكن منه وأمره
أن يستنيب أبا الفتح أحمد بن محمد بن أفلح على النظر في الأمور فأقام
في النظر سنة ونصفاً ثم قتل وأقيم مقامه يحيى بن الحسين بن سلامة
النصراني. وكثر الكلام على قائد القواد والوقائع فيه فشكر الحاكم عليه
وتغير له وهم بالايقاع به وصرفه عن الوزارة وعول فيما كان إليه على علي
بن صالح بن علي الروذباري ولقبه بثقة الثقات ورد إليه السيف والقلم
فنظر في الأمور ودبر الأعمال وحفظ وجوه المال والاستغلال تقدير سنتين
ثم تغير له وتأول عليه وقتله وقلد مكانه المعروف بمنصور بن عبدون. وكان
(1/99)
رجلاً نصرانياً خبيثاً جلداً وبينه وبين
أبي القاسم الحسين ابن علي بن المغربي ووالده أبي الحسين علي عداوة
قديمة ومساعاة ووقائع متصلة لأن أبا القاسم صرف به عن ديوان السواد
فواصل أبو القاسم الوقيعة فيه والكلام عليه وعلى الكتاب النصارى إلى أن
قبض على جماعتهم فلما حصلوا في القبض أمر الحاكم بأن يضرب كل واحد منهم
خمسمائة سوط فإن مات رمي به للكلاب وإن عاش أعيد ضربه إلى أن يموت فبذل
منهم جماعة مالاً عظيماً على أن يستبقوا فلم يقبل منهم واستمرت الشحناء
بينهم
(1/100)
ولاية القائد أبي
صالح مفلح اللحياني المقدم ذكره وشرح الحال في ذلك
لدمشق سنة 394
وصل القائد أبو صالح مفلح الخادم المعروف باللحياني إلى دمشق والياً
عليها في المحرم سنة 394 فتولى أمرها وأمر ونهى في أهلها وكان القائد
طزملت المصروف عنها قد برز إلى داريا فلم يلبث إلا قليلاً واعتل فيها
علة قضى نحبه فيها في يوم الاثنين الثاني من صفر من السنة وأقام القائد
أبو صالح والياً عليها وسائساً لأمور أهلها والأحوال مستقيمة على نهج
الصواب والسداد وقضية المراد إلى أن صرف بالقائد حامد بن ملهم وسيأتي
شرح ذلك في موضعه. وقيل أن منصور بن عبدون الناظر في الدواوين بمصر لم
يزل بنو المغربي المقدم ذكرهم مستمرين على الوقيعة فيه والتضريب
بالسعاية عليه وإفساد رأي الحاكم فيه وهو يعتمد فيهم مثل ذلك ويغريه
بهم ويحمله على قتلهم حتى تقدم إلى جعفر الصقلبي وكان قد قام مقام
مسعود السيفي في القتل أن يحضر علياً ومحمداً ابني المغربي ويدخلهما
الحجرة ويضرب أعناقهما ففعل ذلك ثم أمره أن يحضر أبا القاسم الحسين بن
علي المغربي وأخويه ويقتلهم فأما الإخوان فإنهما أخذا بعد ثلاثة أيام
وقتلا وإما أخوهما أبو القاسم الحسين بن علي فاستتر واعمل الحيلة في
النجاة وهرب مع بعض العرب
(1/101)
وحصل بجلة حسان بن المفرج بن دغفل بن
الجراح فاستجار فأجاره وأنشده عند دخوله عليه وإيمانه ممن يطلبه منه ما
يستنهض عزيمته فيه من الاجارة له والذب عنه والمراماة دونه:
أمّا وقد خيمت وسط الغاب ... فليقسونّ على الزمان عتابي
يترنّم الفولاذ دون مخيّمي ... وتزعزع الخرصان دون قبابي
وإذا بنيت على الثنيّة خيمةً ... شدّت إلى كسر القنا أطنابي
وتقوم دوني فتية من طيئ ... لم تلتبس أثوابهم بالعاب
يتناثرون على الصّريخ كأنّهم ... يدعون نحو غنائمٍ ونهاب
من كل أهرت يرتمي حملاقه ... بالجمر يوم تسايفٍ وضراب
يهديهم حسّان يحمل بزّه ... جرداء تعليه جناح عقاب
يجري الحياء على أسرة وجهه ... جري الفرند بصارم قضّاب
كرمٌ يشقّ على التلاد وعزمةٌ ... يغتال بادرها الهزبر الضّابي
ولقد نظرت إليك يابن مفرج ... في منظر ملء الزمان عجاب
والموت ملتفّ الذوائب بالقنا ... والحرب سافرةٌ بغير نقاب
فرأيت وجهك مثل سيفك ضاحكاً ... والذعر يلبس أوجهاً بتراب
ورأيت بيتك للضيوف ممهّداً ... فسح الظّلال مرفّع الأبواب
يا طيئ الخيرات بين خلالكم ... أمن الشريد وهمّة الطلاّب
سمكت خيامكم بأسنمة الرّبا ... مرفوعةً للطّارق المنتاب
وتدلّ ضيفكم عليكم أنورٌ ... شبّت بأجذالٍ قهرن صعاب
متبرجاتٌ باليفاع وبعضهم ... بالجزع يكفر ضؤه بحجاب
كلأتكم ممن يعادي هيبةٌ ... اغتكم عن رقبةٍ وجناب
(1/102)
فيسير جيشكم بغير طليعةٍ ... ويبيت حيّكم
بغير كلاب
تتهيّبون وليس فيكم هائبٌ ... وتوثّبون على الرّدي الوثّاب
ولكم إذا اختصم الوشيج لباقةٌ ... بالطعن فوق لباقة الكتاب
فالرمح ما لم ترسلوه أخطلٌ ... والسيف ما لم تعملوه ناب
يا معن قد أقررتم عين العلي ... بي مذ وصلت بحبلكم أسبابي
جاورتكم فملأتم عيني الكرى ... وجوانحي بغرائب الأطراب
من بعد ذعرٍ كان أحفز أضلعي ... حتى لضاق به عليّ أهابي
ووجدت جار أبي الندى متحكّماً ... حكم العزيز على الذليل الكابي
فليهنه منن على متنزّهٍ ... لسوى مواهب ذي المعارج آب
قد كان من حكم الصنائع شامساً ... فاقتاده بصنيعةٍ من عاب
فلأنظمنّ له عقود محامدي ... تبقى جواهرها على الأحقاب
لا جاد غيركم الربيع ولا سرت ... غزر اللقاح لغيركم بحلاب
أنا ذاكر الرجل المندد ذكره ... كالطود حلّي جيده بشهاب
ولقد رجوت ولليالي دولةٌ ... إني أجازيكم بخير ثواب
فلما سمع حسان بن الجراح هذه الأبيات هش لها وجد القول له بما سكن جاشه
وأزال استيحاشه. وهذا أبو القاسم الحسين بن علي المغربي كان ذا علم
وافر وأدب ظاهر وبلاغة وذكاء وصناعة مشهورة في الكتابة ومضاء فأقام
عنده ما أقام محترماً مكرماً وجرى له ما يذكر في موضعه ثم رحل إلى
ناحية العراق وتقدم
(1/103)
هناك في الأيام القادرية ووزر للأمير قرواش
أمير بني عقيل ووزر لابن مروان صاحب ديار بكر وكان مستقلاً بصناعتي
الكتابة والانشائية والحسابية وحين مرض وأشفي وصى بحمل تابوته إلى
الكوفة ودفنه في المشهد بها وفعل به ذلك. ثم تغير الحاكم لمنصور بن
عبدون فنكبه وقتله وقلد مكانه زرعة بن نسطورس الوزير ولقبه بالشافي
وذلك في سنة 397 ووردت الأخبار بالوقعة الكائنة بين الفضل صاحب الحاكم
وبين أبي ركوة الخارج عليه وظفر الفضل به وأخذه وحمله إلى القاهرة
وشهره بها وقتله فيها. وقيل أن أبا ركوة لقب عليه بركوة كانت معه في
أسفاره على مذهب الصوفية واسمه الوليد أموي من أولاد هشام بن عبد الملك
بن مروان ولنبوته في ذلك شرح يطول إلا أن أبا ركوة هذا لما انهزم في
الوقعة قصد صاحب النوبة وتردد من الحاكم إليه بسبب مراسلات إلى أن
أنفذه إليه مع أصحابه وأنفذ معه صاحباً له بهدايا إلى الحاكم وتسلم أبا
ركوة أخو الفضل وحمله إلى أخيه الفضل فسار وكان الفضل يقبل يد أبي ركوة
ويعظمه تأنيساً لئلا يقتل نفسه قبل إيصاله وأنزله في مضاربه وأخدمه
نفسه وأصحابه وكتب الحاكم بخبر حصوله ووصوله. وكان الفضل يدخل عليه في
غداة كل يوم إلى خركاة قد ضربت له في خيمه ويصبحه ويقبل يده ويقول له:
كيف مولاي؟ فيقول: بخير يا فضل أحسن الله جزاك. ويحضره شراباً فيشرب
بين يديه ثم يناوله إياه ويفعل مثل ذلك في طعامه إلى أن وصل إلى
الجيزة. فلما حصل بها راسله الحاكم بأن يعبر هو والعسكر الذي معه وينزل
على رأس الجسر ويصل هو إلى القاهرة ففعل ذاك
(1/104)
وكان لا يمشي خطوات إلا وقد تلقته الخدم
بالتشريف والحملان وهو ينزل عن فرسه ويقبل الأرض ويعود إلى ركوبه ولم
يزل على هذه الحال إلى أن وصل إلى القصر ودخل إلى القصر على الحاكم
فخدمه ودعا له وشرح حاله إلى أن ظفر بالعدو وخرج بعد ذلك إلى داره.
وتقدم وجوه القواد وشيوخ الدولة بالمصير إلى أبي ركوة ومشاهدته ويقال
أن الحاكم قد مضى من غد ذلك اليوم وقد رسم أن يشهر ويطاف به في مصر.
واتفق دخول القائد ختكين الداعي وكان قدياً صاحب دواة الملك عضد الدولة
فسلم عليه وقال له: ألك حاجة إلى أمير المؤمنين؟ فقال له: من أنت؟ قال:
فلان. قال: عرفت حالك وسدادك وأريد أن توصل لي رقعة إلى أمير المؤمنين.
فقال: اكتبها وهاتها. فاستدعى أبو ركوة دواةً من أصحاب الفضل ودرجاً
وكتب فيه: يا أمير المؤمنين أن الذنوب عظيمة والدماء حرام ما لم يحلها
سخطك وقد أحسنت وأسأت وما ظلمت إلا نفسي وسوء عملي أوبقني وأنا أقول
فررت ولم يغن الفرار ومن يكن ... مع الله لا يحجزه في الأرض هارب
ووالله ما كان الفرار لحاجةٍ ... سوى جزع الموت الذي أنا شارب
وقد قادني جرمي إليك برمّتي ... كما أخرّ ميتاً في رحا الموت سالب
واجمع كلّ الناس أنك قاتلي ... ويا ربّ ظنّ ربّه فيه كاذب
وما هو إلا الانتقام تريده ... فأخذك من واجباً لك واجب
(1/105)
فمضى ختكين إلى الحسين بن جوهر فعرفه ما
جرى وأعطاه الرقعة فوقف عليها الحاكم. ثم ركب جملاً وعليه طرطور وخلفه
قرد معلم يصفعه بالدرة وكان الحاكم قد جلس في منظرة على باب من أبواب
القصر يعرف بباب الذهب فلما وقف به استغاث وصاح بطلب العفو فتقدم إلى
مسعود السيفي بأن يخرجه إلى ظاهر القاهرة ويضرب عنقه على تل بازاء مسجد
زيدان فلما حمل هناك وأنزل وجد ميتاً فقطع رأسه وحمله إلى الحاكم حتى
شاهده وأمر بصلب جثته. وكان الفضل قد قطع رؤوس من قتل في الوقعة فقيل
أنها كانت ثلاثين ألف رأس فلما شهرت عبيت في السلال وسيرت مع خدم
شهروها في الشام حتى انتهوا بها إلى الرحبة ثم رميت في الفرات. وقدم
الحاكم الفضل واقطعه وبالغ في اكرامه إلى أن عاده في علة عرضت له
دفعتين فاستعظم الناس فعله معه فلما عوفي عمل عليه وقتله
(1/106)
ولاية القائد حامد بن ملهم المذكور أولاً
في سنة 399
وصل القائد حامد بن ملهم إلى دمشق والياً عليها لست بقين من رجب من
السنة وقد كان القائد علي بن جعفر بن فلاح مستولياً على الجند نافذ
الأمر في البلد فورد كتاب عزله في يوم الجمعة النصف من شهر رمضان من
السنة وكانت مدة مقامه في الولاية إلى انصرافه ومسيره سنة واحدة وأربعة
أشهر ونصف شهر. ثم تولى الأمر بعده القائد أبو عبد الله ابن نزال فدخل
إلى دمشق وقرئ سجله على منبر المسجد الجامع وأقام المدة اليسيرة ثم
وافاه كتاب العزل في يوم الأحد رابع عشر شهر رمضان سنة 400 فعزل وولى
غلام القائد منير فأقام المدة اليسيرة ثم أتاه كتاب العزل فعزل وولى
القائد مظفر في يوم الاثنين أول شهر ربيع الأول سنة 401 فأقام في
الولاية ستة أشهر وتسعة أيام ثم عزل وولى مكانه القائد بدر العطار
فأقام في الولاية شهرين وعشرة أيام وعزل وولى القائد لؤلؤ ولقب منتجب
الدولة وتولى الأمر في يوم الأحد لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة 401
ونزل في بيت لهيا وانتقل منها إلى الدكة ثم إلى مرج الأشعريين فأقام
فيه أياماً ودخل القصر في الليل فلما أصبح دخل البلد وقرئ سجل ولايته
على منبر الجامع ووافى كتاب عزله فعزل وانصرف.
(1/107)
وقيل في أخبار الحاكم بأمر الله أنه أمر في
سنة 398 بهدم بيعة القمامة في بيت المقدس وهي بيعة عند النصارى جليلة
في نفوسهم يعظمونها والسبب في ذلك ما اتصل به من هدم الكنائس والبيع
بمصر والشام والزم أهل الذمة الغيار ما قيل أن العادة جارية جاريةً
بخروج النصارى بمصر في كل سنة في العماريات إلى بيت المقدس بحضور فصحهم
في بيعة قمامة فخرجوا في سنة 398 على رسمهم في ذلك متظاهرين بالتجمل
الكبير على مثل حال الحاج في خروجهم فسأل الحاكم ختكين العضدي الداعي
وهو بين يديه عن أمر النصارى في قصدهم هذه البيعة وما يعتقدونه فيها
واستوصفه صفتها وما يدعونه لها وكان ختكين يعرف أمرها بكثرة تردده إلى
الشام وتكرره في الرسائل عن الحاكم إلى ولاتها فقال: هذه بيعة تقرب من
المسجد الأقصى تعظمها النصارى أفضل تعظيم وتحج إليها ند فصحهم من كل
البلاد وربما صار إليها ملوك الروم وكبراء البطارقة متنكرين ويحملون
إليها الأموال الجنة والثياب والستور والفروش ويصوغون لها القناديل
والصلبان والأواني من الذهب والفضة وقد اجتمع فيها من ذاك على قديم
الزمان وحديثه الشيء العظيم قدر ما لمختلفة أصنافه فإذا حضروا يوم
الفصح فيها وأظهروا مطرانهم ونصبوا صلبانهم وأقاموا صلواتهم ونواميسهم
فهذا الذي يدخل في عقولهم ويوقع الشبهة في قلوبهم ويعلقون القناديل في
بيت المذبح ويحتالون في إيصال النار إليها بدهن البلسان والته ومن
طبيعته حدوث النار فيه مع دهن الزنبق وله ضياء ساطع وإزهار لامع
يحتالون بحيلة يعملونها بين كل قنديل وما يليه حديداً ممدوداً كهيئة
(1/108)
الخيط متصلاً من واحد إلى الآخر ويطلونه
بدهن البلسان طلياً يخفونه من الأبصار حتى يسري الخيط إلى جميع
القناديل فإذا صلوا وحان وقت النزول فتح باب المذبح وعندهم أن مهد عيسى
عليه السلام فيه وأنه عرج به إلى السماء منه ودخلوا وأشعلوا الشموع
الكثيرة واجتمع في البيت من أنفاس الخلق الكثير ما يحمي منه الموضع
ويتوصل بعض القوام إلى أن يقرب النار من الخيط فيعلق به وينتقل بين
القناديل من واحد إلى واحد ويشعل الكل ويقدره من يشاهد ذلك أن النار قد
نزلت من السماء فاشتعلت تلك القناديل. فلما سمع الحاكم هذا الشرح
استدعى بشر بن سور كاتب الانشاء وأمره بأن يكتب كتاباً إلى والي الرملة
وإلى أحمد ابن يعقوب الداعي بقصد بيت المقدس واستصحاب الأشراف والقضاة
والشهود ووجوه البلد وينزلا على بيت المقدس وقصد بيعة قمامة وفتحها
ونهبها وأخذ كل ما فيها ونقضها وتعفية أثرها فإذا نجز الأمر في ذلك
يعملانه محضراً وفيه الخطوط وينفذانه إلى حضرته. ووصل الكتاب إليهما
فتوجها للعمل بما مثل إليهما وقد كانت النصارى بمصر عرفوا ما تقدم في
هذا الباب فبادروا إلى بطرك البيعة وأعلموه الحال وأنذروه وحذروه
فاستظهر بإخراج ما كان فيها من الفضة الذهب والجواهر والثياب ووصل بعد
ذلك أصحاب الحاكم فأحاطوا بها وأمروا بنهبها وأخذوا من الباقي الموجود
ما عظم قدره وهدمت أبنيتها وقلعت حجراً حجراً وكتب بذلك المحضر وكتبت
الخطوط فيه كما رسم وأنفذ إلى الحاكم
(1/109)
وشاع هذا الخبر بمصر فسر المسلمون
به ودعوا للحاكم دعاء كبيراً
(1/110)
على ما فعله ورفع أصحاب الأخبار إليه ما
الناس من هذه الحال عليه ففرح بذلك وتقدم بهدم ما يكون في الأعمال من
البيع والكنائس. ثم حدث من الأمور والانكار لمثل هذه الأعمال والاشفاق
على الجوامع والمساجد والمشاهد في سائر الجهات والأعمال من هدمها
والقصد بمثل العمل لها فوقف الأمر في هذا العزم
(1/111)
به ودعوا للحاكم دعاء كبيراً على ما فعله
ورفع أصحاب الأخبار إليه ما الناس من هذه الحال عليه ففرح بذلك وتقدم
بهدم ما يكون في الأعمال من البيع والكنائس. ثم حدث من الأمور والانكار
لمثل هذه الأعمال والاشفاق على الجوامع والمساجد والمشاهد في سائر
الجهات والأعمال من هدمها والقصد بمثل العمل لها فوقف الأمر في هذا
العزم
(1/112)
ولاية الأمير وجيه
الدولة أبي المطاع من حمدان لدمشق بالأمر الحاكمي
وصل الأمير وجيه الدولة أبو المطاع بن حمدان المعروف بذي القرنين إلى
دمشق والياً عليها في يوم الجمعة عيد النحر من سنة 401 فصلى بالناس
القائد لؤلؤ الوالي العيد ولى بهم الجمعة الأمير وجيه الدولة وانصرف
القائد لؤلؤ عن الولاية فكانت مدة إقامته فيها ستة أشهر وثلاثة أيام
وقرئ سجل الولاية على المنبر وأقام المدة التي أقامها ووصل القائد بدر
العطار إلى دمشق والياً على الغوطتين والشرطة وجبل سير وعزل عنها وجيه
الدولة بن حمدان في يوم الجعة لسبع خلون من جمادى الأولى من السنة
فأقام فيه مديدةً ووصل القائد أبو عبد الله بن نزال عقيب وصوله إلى
دمشق والياً عليها ونزل في المزة ودخل القصر في يوم الأحد لإحدى عشرة
ليلةً خلت من جمادى الأولى من السنة فدامت ولايته إلى أن ورد كتاب عزله
عنها وسار منها في يوم الثلاثاء سلخ ذي الحجة سنة 406 فكانت مدة ولايته
ثلاث سنين وثمانية أشهر وعشرين يوماً. ووصل الأمير شهم الدولة شاتكين
إلى دمشق والياً عليها في يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة 407 وأقام
ما أقام في الولاية ووصل القائد يوسف بن ياروخ وهو ابن زوجة الأمير
شاتكين الوالي إلى دمشق والياً عليها وقرئ سجله بالولاية في ذي القعدة
من السنة وسار شهم الدولة شاتكين الوالي إلى مصر لثمان خلون من جمادى
الآخرة سنة 408 ووصل
(1/112)
الأمير سديد الدولة أبو منصور والي دمشق
والياً عليها في يوم الأحد لخمس بقين من ذي القعدة سنة 408 فنزل المزة
ودخل القصر في غد ذلك اليوم فما شعر إلا وكتاب العزل قد وافاه يوم
الأحد لخمس خلون من ربيع الآخر من سنة 409 فبرز من يومه إلى المزة وسار
من غده ووصل كتاب ولي عهد المسلمين عبد الرحمن بن الياس أخي الحاكم إلى
القائد بدر العطار في يوم السبت لليلة خلت من جمادى الأولى سنة 410
يأمره بضبط البلد ووصل بعد ذلك أبو القاسم عبد الرحمن وقيل عبد الرحيم
ولي عهد المسلمين ابن الياس بن أحمد بن العزيز بالله إلى دمشق في يوم
الثلاثاء لخمس بقين من جمادى الأولى سنة 410 فنزل في المزة فأحسن تلقيه
وبولغ في اكرامه والاعظام له والسرور بمقدمه وكان ذلك له يوماً مشهوداً
موصوفاً ودخل القصر في يوم الاثنين مستهل رجب فأقام فيه إلى يوم الأحد
لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة 411 فلم يشعر إلا وقوم قد جردوا إليه
من مصر فهجموا عليه وقتلوا جماعةً من أصحابه وساروا به في يوم الجمعة
لثلاث بقين من شهر ربيع الأول وعاد بعد ذلك إلى دمشق في رجب سنة 412
ونزل في القصر. وأكثر الناس في التعجب من اختلاف الآراء في تدبير هذه
الولايات وتنقل الأغراض والأهواء فيها ولم يشعروا وهم يتعجبون من هذه
الأحوال واستمرار الاختلال إلا وقد وصل من مصر المعروف بابن داود
المغربي على نجيب مسرع ومعه جماعة من الخدم في يوم الأحد في يوم عرفة
بسجل إلى ولي عهد المسلمين المذكور ودخلوا عليه القصر وجرى بينه وبينهم
كلام طويل إلا أنهم أخرجوه من القصر وضرب وجهه وأصبح الناس في يوم
العيد لم يصلوا صلاة العيد في المصلى ولا في الجامع ولا خطب خطيب
(1/113)
وساروا بولي العهد في اليوم المذكور إلى
مصر فزاد عجب الناس وحاروا فيما هم فيه وتشاكوا ما ينزل بهم من الأحوال
المضطربة والأعمال المختلفة. فوصل الأمير وجيه الدولة أبو المطاع بن
حمدان إلى دمشق والياً عليها دفعةً ثانيةً بعد أولى وكان أديباً فاضلاً
شاعراً سامياً مدبراً في يوم السبت لست خلون من جمادى الآخرة سنة 412
فأقام في الولاية مدة. ووصل الأمير شهاب الدولة شحتكين إلى دمشق والياً
عليها في يوم الثلاثاء لسبع خلون من رجب من ذي القعدة سنة 414 فكانت
ولايته سنتين وأربعة أشهر ويومين.
(1/114)
ووصل الأمير وجيه الدولة أبو المطاع بن
حمدان إلى دمشق والياً عليها دفعةً ثالثةً في يوم الأربعاء لسبع خلون
من شهر ربيع الأول سنة 415 فأقام في الولاية ما أقام مع اختلاف الأحوال
إلى أن تقررت الولاية لأمير الجيوش التزبري في سنة 419
(1/115)
ولاية أمير الجيوش
التزبري الجيلي لدمشق في سنة 419 وشرح حاله
وابتداء أمره والسبب في توليته وذكر شيء من أخباره إلى انتهاء مدته
بحكم نميزه عن الولاة المذكورين بالشجاعة والشهامة وحسن السياسة واجمال
السير والنصفة في العسكرية والرعية وحماية الأعمال بهيبته المشهورة
وبفطنته المشكورة وتشتيت شمل أولي الفساد من الأعراب واستقامة الأمور
بابالته على قضية الايثار والمراد. هو الأمير المظفر أمير الجيوش عدة
الامام سيف الخلافة عضد الدولة شرف المعالي أبو منصور أنوشتكين مولده
ما وراء النهر في بلد الترك في البلد المعروف بختل وسبي منه وحمل إلى
كاشغر وهرب إلى بخارا وملك بها وحمل إلى بغداد ثم إلى دمشق وكان شتيم
الوجه بين التركية وكان وصوله سنة 400 فاشتراه القائد تزبر بن اونيم
الديلمي وكان ندبه لحماية أملاكه وصونها من الأذى فكفاه ذلك بشهامته
وصرامته فاشتهر بذاك أمره وشاع ذكره وسئل مولاه أن يهديه للامام الحاكم
بأمر الله وقيل بل وصله الأمر بحمله فحمل في جملة غلمان في سنة 403
فاستطرف من بينهم وجعل في الحجرة فقهر من بها من الغلمان وطال عليهم
باليقظة والذكاء وجعل يلقب كل غلام بما يليق به فشكره إلى المتولي
فضربه وتزايد أمره فأخرج منها في سنة 405 ولزم الخدمة وجعل يتقرب إلى
الخاص والعام بكل ما يجد السبيل
(1/116)
إليه من التودد والاكرام لما يريد الله
تعالى من اسعاد جده واظهار سعده فارتضى الحاكم مذهبه في الخدمة وزاد في
واجبه وقوده وسيره مع سديد الدولة ذي الكفايتين الضيف في العسكر إلى
الشام في سنة 406 ودخل إلى البلد دمشق ولقي مولاه القائد دزبر فترجل له
وقبل يده وصار يتودد إلى الكبير والصغير ونزل في دار حيوس بحضرة زقاق
عطاف ثم عاد إلى مصر وجرد إلى الريف في السيارة ثم عاد إلى مصر ولزم
الخدمة بالحضرة ولزم بعلبك والياً عليها وحسنت حاله فيها وانتشر ذكره
بها وصادق ولاة الأطراف وكاتب عزيز الدولة فاتكاً والي حلب وهاداه ولقب
منتجب الدولة وورد الأمر عليه بالمسير إلى الحضرة فلما بلغ العريش وصله
النجاب بالسجل بولاية قيسارية والأمر بالعود إليها فشق ذلك عليه وقال:
انقل من ولاية بعلبك إلى ولاية قيسارية. وكان من حسن سياسته فيها وجميل
عشرته لأهليها وحمايته لها ما ذاع به ذكره وحسن به صيته وكثر شكره.
وورد الخبر بقتل فاتك والي حلب سنة 412 قتله غلام له هندي قد رباه
واصطفاه وتوثق به واجتباه كذا وهو نائم عقيب سكره بسيفه وعمل فيه شاعره
المعروف بمفضل بن سعد قصيدةً رثاه بها وذكر فيها من بعض أبياتها
لحمامه المقضيّ ربّى عبده ... ولنحره المفري حدّ حسامه
(1/117)
وكتب إلى مجنتب الدولة بالمسير إلى الحضرة
فوصلها وولي فلسطين ووصل إليها في يوم الثلاثاء من المحرم سنة 414 وبلغ
حسان بن مفرج بن الجراح خبره فقلق له وتخوفه ثم علا ذكره وظهر أمره
وكثرت عدته وعدته وقويت شوكته وجرت له وقائع مع العرب يستظهر فيها
عليهم ويثخن فيهم فكبر بذلك شأنه ثم حسد وسعي فيه إلى الحضرة وكوتب
الوزير حسن بن صالح في بابه بأمر قرره حسان بن مفرج بن الجراح ونسب
إليه كل قبيح ومحال فاستؤذن في القبض عليه فأذن في ذلك فقبض عليه
بعسقلان بحيلة دبرت له في سنة 417 وسأل فيه سعد السعداء فأجيب سؤاله
لجلالة مكانه وأطلق من الاعتقال ووصل إلى الحضرة وحسنت حالته وظهرت
هيبته وظهرت هيئة اقطاعه وغلمانه ودوابه وهو مع ذلك ينفذ رسله إلى
الشام وسائر الأعمال وتأتيه بالأخبار ويطالع بها فكثر تعجب الوزير من
يقظته ومضاء همته وعزيمته. وكانت العرب بعده قد استولت على الأعمال
وأفسدت الشام وملك حسان املاك الملاك واتفق الخلف الجاري بين أرباب
الدولة عقيب وفاة الحاكم وترافع القواد والولاة إلى أن تقررت الحال على
صرف الوزير وتقليد الوزارة لنجيب الدولة علي بن أحمد الجرجرائي فنظر في
الأعمال وهذب ما كان مستوياً عليها من الاضاعة والاهمال. واقتضت الآراء
وصواب التدبير تجريد العساكر المصرية إلى الشام ووقع الاختيار في ذلك
على الأمير منتجب الدولة فاستدعاه الوزير علي بن أحمد الجرجرائي وقال
له: ما تحتاج إليه لخروجك إلى الشام ودمشق. فقال: فرسي البرذعية وخيمة
استظل بها. فعجب الوزير من مقاله واستعاد فرسه المذكورة من سعيد
السعداء وردها إليه وأطلق له خمسة آلاف دينار وأصحبه صدقة بن يوسف
الفلاحي ناظراً في الأموال ونفقة الرجال وجردت العساكر معه ولقب
بالأمير مظفر منتجب الدولة وخلع عليه وخرج إلى مخيمه وحملة من جرد معه
سبعة ألف فارس وراجل سوى العرب وسار في ذي القعدة.... وودعه الامام
الظاهر لاعزاز دين الله وعيد بالرملة عيد النحر وسار إلى بيت المقدس
وجمع العساكر وقصد صالح بن مرداس وحسان بن مفرج وجموع العرب عند معرفته
بتجميعهم ووقع اللقاء في القحوانة والتقى الفريقان فهزمت جموع العرب
وأخذتهم السيوف وتحكمت فيهم. وكان صالح ابن مرداس على فرسه المشهور
فوقف به من كد الهزيمة ولم ينهض به فلحقه رجل من العرب يعرف بطريف من
فزارة فضربه بالسيف في رأسه وكان مكشوفاً فصاح ووقع ولم يعرفه وتم في
طلب فرسه فمر به رجل من البادية فعرفه فقطع رأسه وعاد يرقص به فلقيه
الأمير عز الدولة رافع فأخذه منه وجاء به إلى الأمير المظفر فلما رآه
نزل عن فرسه وسجد لله شكراً على ما أولاه من الظفر وركب وأخذه بيده
وجعله على ركبته وأطلق للزبيدي الذي جاء به ألف دينار ولعز الدولة رافع
خمسة آلاف دينار وأطلق لطريف الذي ضربه بالسيف فرسه وجوشنه وألف دينار
وأخذ الغلمان الأتراك الذين لصالح لنفسه وأحسن
(1/118)
إليهم وتقدم بجمع الرؤوس وأنفذ جثة صالح
إلى صيدا لتصلب على بابها وأوصل رأسه إلى الحضرة وخلع على الواصلين به
وأعيدوا ومعهم الخلع وزيادة الألقاب للأمير المنتجب وقرئ سجله عليه
وصار يكاتب ويخاطب بالأمير
(1/119)
المظفر سيف الامام وعدة الخلاف مصطفى الملك
منتجب الدولة. وقال فيه الأمير أبو القينان محمد ابن سلطان بن محمد بن
حيوش من قصيدة امتدحه بها:
فكم ليلةٍ نام عني الرقيب ... ونبّهني القمر المرتقب
جمعت بها بين ماء الغمام ... وماء الرضاب وماء العنب
لجود المظفّر سيف الامام ... وعدته المصطفى المنتجب
ولما توجه عقيب ذلك إلى حلب ونزل عليها ظفر بشبل الدولة نصر بن صالح
وكان قد انهزم ولحقه رجل فرماه بخشت في كتفه فأنفذه ووقع عن فرسه وسر
به أحد الأتراك فقطع رأسه وسلمه إلى رافع وأنفذ من يسلم جثته إلى حماة
فصلبت على الحصن وأمر أمير الجيوش بعد ذاك بانفاذ ثياب وطيب وتكفين
الجثة في تابوت ودفنها في المسجد وبقيت فيه إلى سنة 439 ونقلها مقلد بن
كامل لما ملك حماة إلى قلعة حلب. وأنفذ الراس والتركي والبدوي مع
الشريف الزيدي إلى الحضرة في نصف شعبان سنة 429 وعاد أمير الجيوش إلى
دمشق
(1/120)
ونزل في القصر وأقام فيها ما أقام وسار
منها إلى حلب ونزل على السعدي وفتحت له أبواب البلد ودخله وأحسن إلى
أهله ورد ما كان صالح اغتصبه من الأملاك إلى أربابها وأمر بقتال القلعة
فقوتلت وهو قائم وراسله مقلد بن كامل المقيم بها وسلمها إليه وأقطعه
عدة مواضع وسكن في دار عزيز الدولة وتزوج بنت الأمير منصور بن زغيب
ووصله السجل من الحضرة باقطاعه حلب وعاد إلى دمشق وشرع في عمارة الدار
بالقصر. ثم بلغه عن الوزير علي بن أحمد الجرجرائي وعن الظاهر ما أوجب
الاستيحاش منه والنفور عنه فعزم على العود إلى حلب فظهر له من أجناده
ما أنكره فهموا بالقيام عليه فسار من القصر بعد أن أمر الغلمان بنهب ما
في القصر ووصل إلى حلب ودخلها في يوم الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع
الآخر ونزل في دار سعد الدولة واجتمع بزوجته وابنته الواصلين من مصر
ولازم
(1/121)
الشراب وصح عليه جسمه. وبلغه وصول سجل من
مصر إلى دمشق عن الحضرة قرئ على المنبر يقال فيه: أما بعد فإنه قد علم
الحاضر والبادي والموالف والمعادي حال أنوشتكين الدزبري الخائن وأنه
كان مملوكاً لدزبر بن أونيم الحاكمي وأهداه إلى أمير المؤمنين الحاكم
بأمر الله فنقله إلى المراتب إلى أن انتهى أمره إلى ما انتهى إليه فلما
تغيرت نيته سلبه الله تعالى نعمته لقوله تعالى إن الله لا يغير ما يقوم
حتى يغيروا ما بأنفسهم فشق هذا الأمر عليه وضاق صدره لاسقاط نعوته وقلق
لذلك وليس من العود إلى دمشق وقد كان عازماً على العود. ثم وصله السجل
عن الحضرة صحبة بعض العرب نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله
ووليه الامام معد أبي تميم المستنصر بالله أمير المؤمنين إلى أنوشتكين
مولى دزبر بن أونيم الديلمي. أما بعد فإن الله بقضيته العادلة ومشيئته
البالغة لم يك مغيراً ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله
بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دون من وال مع ما أنك أجرمت على نفسك
في يومك وأمسك واستوجبت بذلك مقام الحلول من نحسك فلا تعجب بعذاب الله
عندما أسرفت ووبيل عقابه عندما خالفت فإن الله تعالى يقول مخاطباً لذوي
العقول فمهل الكافرين أمهلهم رويداً وتالله لقد جددت بمسيرك إلى حلب
لبعد أملك وانقطاع أجلك وإنما بقي لك الأيام قلائل ويكثر
(1/122)
لك الندم وتحل بك النقم إن الله لا يستحيي
أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها وإن مثلك مثل شاة عطشانة ولهانة
ضائعة جائعة نزلت في مرج أفيح غزير ماؤه كثير عشبه ومرعاه فشربت ماء
وأكلت عشباً فرويت بعد ظمائها وشبعت بعد جوعها واستحسنت بعد قبحها فلما
تكامل حسنها ذبحت ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون وأن أمير
المؤمنين يضرب لك مثلاً عن جده المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لما
أنزل عليه " والضحى والليل إذا سبحا ما ودّعك ربَك وما قالَ " إلى قوله
عز وجل: " ألم يجدك يتيماً فآوَى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأَغنى
" فبدلت النعمة كفراً ووضعت موضع الخير شراً وقد انتهى إلى حضرة أمير
المؤمنين افتخارك بجميع الأموال واكتنازك لها لأمر لا يدهمك أو ليوم
ينفعك أفما قرأت القرآن العظيم أما تدبرت قول الملك الرحيم في قصة
قارون لما بغى واعتدى وازداد في الطغيان حيث يقول جل وعلا: " فخسفنا به
وبداره الأرض " فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من
المنتصرين أما رأيت الأمم الماضية الذين عادوا الدولة ونصبوا لها
العداوة الشديدة انظر إلى ديارهم كيف قل فيها الساكنون وكثر عليها
الباكون قال الله تعالى: " فتلك بيوتهم حاويةً بما ظلموا " إن في ذلك
لآية لقوم يعلمون فاشتغل عن اصلاح العين وعن خطرك في حساب
(1/123)
الفرقدين وافتكر في رب المشرقين ورب
المغربين حيث يقول جل جلاله: " أَلم نجعل لهُ عينين ولساناً وشفتين
وهديناه النجدين " وقد عرف أمير المؤمنين
بكتاب الله الأعلى الذي نزل على خاتم الأنبياء حيث يقول: " وسيعلم
الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون " فلما سمع ما اشتمل عليه هذا السجل من
الانكار والوعظ بالآيات والتخويف عظم الأمر عليه وضاق صدره لتغير النية
فيه ورأى من الصواب إعادة الجواب بالتلطف والتنصل مما ظن به والاعتذار
والترفق في المقال والاعتراف بما شمله قديماً وحديثاً من الاحسان
والافضال فكتب بعد البسملة: كتب عبد الدولة العلوية والامامية الفاطمية
والخلافة المهدية عن سلامة تحت ظلها ونعمة منوطة بكفلها وهو متبرئ
إليها من ذنوبه الموبقة واسائته المرهقة لا بد بعفو أمير المؤمنين
متنصل أن يكون في جملة المجرمين المذنبين عن غير اساءة اقترفها ولا
جناية احتقبها عائد بكرمها صابر لحكمها لقوله تعالى " وبشّر الصابرين "
وهو تحت خوف ورجاء وتضرع ودعاء قد ذلت نفسه بعد عزها وخافت بعد أمنها
ورسخت بعد رفعتها ومن يضلل الله فما له من هاد وأي قرب لمن أبعدته وأي
رفعة لمن حططته والعبد يفخرها شمخ ويحدرها طال وبذخ فزلت نصبته وطالت
أرومته وسمت فروعه وكان كقوله تعالى " وَضَرَبَ الله مثلاً كلمةً طيّبة
كشجرة طيّبةٍ أَصلها ثابتٌ وفرعها في السماء تُؤتي أُكُلها كل حينٍ
باذن ربّها ". فلما أنكرت الدولة حاله وقبحت أفعاله
(1/124)
وأزرت عليه خذله الأنصار وقل بعد الاكثار
فصار كقول الملك الجبار مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض
ما لها من قرار غير أن العبد يتوسل بوكيد خدمته وقديم نصيحته ومجاهدته
لأعداء الدولة مذكراً قول الله تعالى " والذين قتلوا في سبيل الله
فَلَنْ يُصلّ أَعمالهم سيهديهم ويصلح بالَهم " وهو مع ذلك معترف بذنوب
ما جناها واساء ما أتاها ذاكراً ما نزل الله في كتابه المبين على سيد
المرسلين " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى
الله أن يتوب عليهم إِنَّ الله غفورٌ رحيمٌ " عفا الله عن أمير
المؤمنين أهل بيت العفو والكرامة لجميع الأمم وفيهم نزلت الآيات والحكم
قال الله تعالى " وليعفوا وليصفحوا أَلا تحبُّون أَنْ يغفِر الله لكم "
وليس مسير العبد إلى حلب ينجيه من سطوات مواليه لقوله تعالى " قل [متاع
الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا. أينما تكونوا
يدرككم الموت و] لو كنتم في بروج مشيَّدةٍ " والذين كتب عليهم القتل
[يدركهم] إلى مضاجعهم لكنه بعد توصله واعترافه بجرائره وذنوبه وتنصله
يرجو قبول توبته وتمهيد عذره في إنابته ولله الأمر من قبل ومن بعد
ولأمير المؤمنين في كل قول وحد فقد وعد الله المسرفين على أنفسهم فقال
تعالى " قُل يا عبادي
(1/125)
الذين أسرفوا على أنفسكم لا تقنطوا من رحمة
الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم " وأما ما
رقي إلى الحضرة المطهرة عن العبد في كثرة الأموال وجمعها فذلك طباع ولد
آدم في حب اللجين والعسجد وما عليه في الدنيا يعتمد نعوذ بالله أن يكون
ذاك لمضادة أو مقاومة أو مكاثرة أو مقابلة لكنها معدة للجهاد في أعداء
أمير المؤمنين ومبذولة في نصرة أوليائه المخلصين إذ يقول تعالى وله
المثل الأعلى " وأَعدُّوا لهم ما استطعتم من قوَّة ومن رباط الخيل
تُرهبون بهِ عدوّ الله وعدوَّكم " ولقد قرئ على العبد القرآن العظيم
فوجده منوطاً بطاعة امام الزمان وهو ولي العفو والغفران عن أهل الاساءة
والعدوان مكرراً لقول الملك الديان " والكاظمين الغيظ والعافين عن
الناس والله يحبُّ المحسنين ". وأنفذ هو الجواب صحبة الرسول الواصل بعد
إكرامه وطلع عقيب ذلك إلى قلعة حلب في يوم الأربعاء لعشر خلون من جمادى
الأولى وبات ليلة الجمعة واقشعر جسمه وقت صلاة الظهر واشتدت به الحمى
فأحضر طبيباً من حلب وشرح له حاله فوصف له مسهلاً فلما حضر لم تطب نفسه
لشربه ولحقه فالج في يده اليمنى ورجله اليمنى وزاد قلقه وقضى نحبه في
الثلاث الأخير من ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة
436.
(1/126)
وله أخبار محمود في حسن السيرة والعدل
والنصفة والذكاء والمعرفة وذكر المال الذي خلفه بقلعة حلب بعد وفاته
ستمائة ألف دينار سوى الآلات والعروض وقيمة الغلات مائة ألف دينار وأخذ
له من دمشق وفلسطين مائتا ألف دينار وكان له مع التجار خمسون ألف دينار
ونهب له من القصر بدمشق مائتا ألف دينار. وخلف من الأولاد هبة الله من
بنت وهب بن حسان ماتت أمه وعمره أربعون يوماً وأبوه وله شهران وسنة
وأربع بنات إحداهن من بنت الأمير حسام الدولة البجناكي وابنة
من بنت عزيز الدولة رافع بن أبي الليل وابنتان من جاريتان وهبهما في
القصر فأما هبة الله فإنه حمل إلى الحضرة وأكرم بها وكفله رضي الدولة
غلامه وعاش ست سنين وسقط عن فرسه فمات والبنت من بنت حسام الدولة
تزوجها الأمير صارم الدولة ذو الفضيلتين والبنت من بنت رافع نقلت إلى
حلة أخوالها من بني كلاب. ثم رأت الحضرة في سنة 448 نقل أمير الجيوش من
تربته بحلب إلى تربته ببيت المقدس فأمرت بنقله في تابوت على طريق
الساحل وكان يحط بخيمة وما يمر ببلد إلا كان وصوله يوماً مشهوداً
وأخرجت الحضرة ثياباً حسنةً وطيباً كثيراً وأمرت الشريف أثير الدولة
ابن الكوفي أن يتولى تكفينه ودفنه وأن يأمر من بالرملة من غلمانه
بالتحفي والمشي خلف جنازته وأن ينادي بألقابه فنودي بها ودفن في التربة
التي له في بيت المقدس مع أولاده فسبحان من لا يزول ملكه ولا يخيب من
عمل بطاعته المجازي عن إحسان السيرة بالاحسان وعن السيئات في العقبى
والماآل ذو الجلال والكمال الغفور الرحيم بنت عزيز الدولة رافع بن أبي
الليل وابنتان من جاريتان وهبهما في القصر فأما هبة الله فإنه حمل إلى
الحضرة وأكرم بها وكفله رضي الدولة غلامه وعاش ست سنين وسقط عن فرسه
فمات والبنت من بنت حسام الدولة تزوجها الأمير صارم الدولة ذو
الفضيلتين والبنت من بنت رافع نقلت إلى حلة أخوالها من بني كلاب. ثم
رأت الحضرة في سنة 448 نقل أمير الجيوش من تربته بحلب إلى تربته ببيت
المقدس فأمرت بنقله في تابوت على طريق الساحل وكان يحط بخيمة وما يمر
ببلد إلا كان وصوله يوماً مشهوداً وأخرجت الحضرة ثياباً حسنةً وطيباً
كثيراً وأمرت الشريف أثير الدولة ابن الكوفي أن يتولى تكفينه ودفنه وأن
يأمر من بالرملة من غلمانه بالتحفي والمشي خلف جنازته وأن ينادي
بألقابه فنودي بها ودفن في التربة التي له في بيت المقدس مع أولاده
فسبحان من لا يزول ملكه ولا يخيب من عمل بطاعته المجازي عن إحسان
السيرة بالاحسان وعن السيئات في العقبى والماآل ذو الجلال والكمال
الغفور الرحيم
ولما زاد أمر الحاكم بأمر الله في عسف الناس وما ارتكبه من سفك الدماء
وإفاظة النفوس وأخذ الأموال والفتك بالكبار والعمال
(1/127)
والفتك بالمقدمين من الوزراء والقواد
وأكابر الأجناد وعدل عن حسن السياسة والسداد وزاد خوف خدمه وخواصه منه
واستوحشوا من فعله وشكا المقدمون والوجوه إلى أخته ست الملك بنت العزيز
بالله هذه الأحوال فأنكرت ما أنكروه وأكبرت ما أكبروه واعترفت بصحة ما
شكوه وحقيقة ما كرهوه ووعدتهم احسان التدبير في كف شره واجمال النظر في
أموره وأمره ولم تجد فيه حيلة يحسم بها داؤه إلا العمل على إهلاكه وكف
أذاه بعدمه وأعملت الرأي في ذلك وأسرته في انفس إلى أن وجدت الفرصة
متسهلة فابتدرتها والعرة باديةً فاهتبلتها ورتبت له من اغتاله في بعض
مقاصده وأخفى مظانه فأتى عليه وأخفى أمره إلى أن ظهر في عيد النحر من
سنة 411. وقال المغالون في المذهب أنه غائب في سره ولا بد أن يؤوب
ومستتر في غيبه ولا بد أن يرجع إلى منصبه ويثوب وكان مولده بالقاهرة
ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 375 وولي الأمر
وعمره عشر سنين وستة أشهر وستة أيام وفقد في العشر الأول من شوال سنة
411 وعمره ست وثلاثون سنة ومدة أيامه خمس وعشرون سنة وشهران وأيام ونقش
خاتمه بنصر الاله العلي ينتصر الامام أبو علي وكان غليظ الطبع قاسي
القلب سفاكاً للدماء قبيح السيرة مذموم السياسة شديد التعجرف والاقدام
على القتل غير محافظ على حرمة خادم ناصح ولا صاحب مناصح. وقام في الأمر
بعده ولده أبو الحسن علي الظاهر لاعزاز الله وأخذت له البيعة بعد أبيه
في يوم عيد النحر من سنة 411
(1/128)
واستقامت الأمور بعد ميلها وأمنت النفوس
بعد وجلها وحسنت السيرة بعد قبحها وارتضيت السياسة بعد النفور عنها ورد
تدبير الأعمال والنظر فيها وتسديد الأحوال ولم ما تشعث منها إلى الوزير
صفي أمير المؤمنين وخالصته أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي وكتب له
السجل بالتقليد من إنشاء ولي الدولة أبي علي بن خيران متولي الانشاء
وقرئ بالحضرة على القواد والمقدمين في ذي الحجة سنة 418 ونسخته بعد
البسملة: أما بعد فالحمد لله مطلق الالسن بذكره ومجزل النعم بشكره
ومصرف الأمور على حكم إرادته وأمره الذي استحمد بالطول والنعماء وتمجد
بالحكمة والسناء وملك ملكوت الأرض والسماء واستغنى عن الظهراء والوزراء
وأكرم عباده بأن جعل تذكرته لهم في صحف مكرمة مرفوعة مظهرة بأيدي سفرة
كرام برزةً فسبحان من نظر لخلقه فأحسن وأنعم وعلم بالقلم علم الانسان
ما لم يعلم يحمده أمير المؤمنين حمد مخلص في الحمد والشكر متخصص بشرف
الأمانة ونفاذ النهى والأمر ويرغب الله تعالى في الصلاة على نبيه محمد
الذي نزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيراً وعز به الايمان وجعل له
من لديه سلطاناً نصيراً وانتخب أبانا علياً أمير المؤمنين أخاً وزيراً
وصيره على أمر الدين والدنيا منجداً له وظهيراً صلى الله عليهما وسلم
على العترة الزاكية من سلالتهما سلاماً دائماً كثيراً.
(1/129)
وإن أحق من عول عليه في الوزارة وأسند إليه
أمر السفارة ونصب لحفظ الأموال وتمييزها وسياسة الأعمال وتدبيرها
وإيالة طوالف الرجال كبيرها وصغيرها من كان حفيظاً لما يستحفظ من
الأمور قووماً بمصالح الجمهور عليماً بمجاري السياسة والتدبير ولذاك
قال يوسف الصديق عليه السلام اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليهم
ولو استغنى أحد من رعاة العباد عن وزير وظهير يكاتبه على أمره ويظاهره
لكان كليم الله موسى صلى الله عليه وهو القوي الأمين عنه مستغنياً ولم
يكن له من الله جل جلاله طالباً مستدعياً وقد قال رب اشرح لي صدري ويسر
لي أمري واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي
هرون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً
ولما كنت بالأمانة والكفاية علماً وعند أهل المعرفة والدراية مقدماً
وكان الكتاب على اختلاف طبقاتهم وتفاوت درجاتهم يسلمون إليك في الكتابة
ويقتدون بك في الاصابة ويشهدون لك بالتقدم في العناء ويهتدون بحلمك
اهتداء السفر بالنجم في الليلة الظلماء ولا يتناكرون الانحطاط عن درجتك
في الفضل لتفاوتها في الارتفاع ولا يرد ذلك راد من الناس أجمعين الا
خصمه وقوع الاجماع هذا مع المعروف من استقلالك بالسياسة واستكمالك
لأدوات الرئاسة وتدبيرك أمور المملكة
وما ألف برشد وساطتك من سمو اليمن والبركة رأي أمير المؤمنين وبالله
توفيقه أن يستكفيك أمر وزارته وينزلك أعلى منازل الاصطفاء بخاص أثرته
ويرفعك على جميع الأكفاء بتام تكرمته وينوه باسمك تنويهاً لم يكن لأحد
قبلك من الظهراء في دولته
(1/130)
فسماك بالوزير لموازرتك له على حمل الأعباء
ووكد هذا الاسم بالأجل لأنك أجل الوزراء وعزز ذلك بصفي أمير المؤمنين
وخالصته إذ كنت أعز الخلصاء والأصفياء وشرفك بالتكنية تسميقاً بك في
العلياء ودعا لك بأن يمتعه الله بك ويؤيدك ويعضدك دعاءً يجيبه فيك رب
السماء فأنت الوزير الأجل صفي أمير المؤمنين وخالصته المحبو بالمن
الجسيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وأمر أمير
المؤمنين بأن تدعى بهذه الأسماء وتخاطب وتكتب بها عن نفسك وتكاتب ورسم
ذكر ذلك فيما يجري من المحاورات واثباته في ضروب المكاتبات ليثبت ثبوت
الاستقرار ويبقى وسمه على مر الليالي والنهار فأحمد الله تبارك وتعالى
على تمييز أمير المؤمنين لك بتشريفه واختصاصه واجلاله إياك أعلى محال
خواصه وأجر على سننك الحميد في خدمته ومذهبك الرشيد في مناصحته إذ كان
قد فوض إليك أمر وزارته وجعلك الوسيط بينه وبين أوليائه وأنصار دعوته
وولاة أعمال مملكته وكتاب دواوينه وسائر عبيده ورعيته شرقاً وغرباً
وقرباً وبعداً وأمضى توقيع من تنصبه للتوقيع عن أمير المؤمنين في
الإخراج والإنفاق والايجاب والاطلاق وناط بك أزمة الحل والعقد والابرام
والنقض والقبض والبسط والاثبات والحط والتصريف والصرف تفويضاً إلى
أمانتك التي لا يقدح فيها معاب وسكوناً إلى ثقتك التي لا يلم بها
ارتياب وعلماً بأنك تورد وتصدر عن علم وحزم تفوق فيهما كل مقاوم ولا
تأخذك في المناصحة لأمير المؤمنين والاحتياط له لومة لائم وجميع ما
يوصي به غيرك ليكون له تذكرةً وعليه حجة فهو مستغنىً عنه معك لأنك تغني
بفرط معرفتك عن التعريف ولا تحتاج مع وقوفك على الصواب وعلمك به إلى
توقيف غير إن أمير المؤمنين يؤكد عليك الأمر بحسن النظر
(1/131)
لرجال دولته دانيهم وقاصيهم بارك الله فيهم
وأن يتوفر على ما يعود بصلاح أحوالهم وانفساح أمالهم وانشراح صدورهم
وانتظام أمورهم إذ كانوا كتائب الاسلام ومعاقل الأنام وأنصار أمير
المؤمنين المحفوفين بالاحسان والانعام حتى تحسن أحوالهم بجميل نظرك
ويزول سوء الأثر فيهم بحسن أثرك وكذلك الرعايا بالحضرة وأعمال الدولة
فأمرهم من المعني به والمسؤول عنه وأمير المؤمنين يأمرك بأن تستشف خيرة
الولاية فيهم فمن ألفيته من الرعية مظلوماً أوعزت بنصفته ومن صادفته من
الولاة ظلوماً تقدمت بصرفه وحسم مضرته ومعرته. فأما الناظرون في
الأموال من ولاة الدواوين والعمال فقد أقام أمير المؤمنين عليهم منك
المنقي الزكاء طباً بالأدواء لا يصانع ولا تطيبه المطامع ولا ينفق عليه
المنافق ولا يعتصم منه الخؤون السارق كما إنه لا يخاف لديه الثقة
الناصح ولا يخشى عاديته الأمين في خدمته المجتهد الكادح والذي يدعو
المتصرف إلى أن يحمل نفسه على الخطة النكراء في الاحتجار والارتشاء أحد
أمرين أما حاجة تضطره إلى ذلك أو جهالة تورده المهالك فإن كان محتاجاً
سد رزق الخدمة فاقته ورجا الراجون برءه من مرض الاسفاف وإفاقته وإن كان
جاهلاً فالجاهل لا يبالي على ما أقدم عليه ولا يفكر في عاقبة ما يصير
أمره إليه ومن جمع هذين القسمين كانت نفسه أبداً تسف ولا تعف ويده تكف
ولا تكف ووطأته تثقل ولا تخف فلا ترب من تنزه وعف ولا أثرى من رضي
لنفسه بدنيء المكسب وأسف. وما يستزيدك أمير المؤمنين على ما عندك من
حسن التأني والاجتهاد في اصلاح الفاسد واستصلاح المعاند واستفاءة
الشارد بالمعصية إلى طاعنه وإعطاء رجال الدولة ما توجب لها حقوق الخدمة
من فضل نعمته، وأمير المؤمنين يقول بعد ذلك قولاً يؤثر عنده في المشرق
والمغرب ويصل إلى الأبعد والأقرب
(1/132)
إن أكثر من وقع عليه اسم الوزارة قبلك إنما
تهيأ له ذلك بالحظ والاتفاق ولم يوقع اسمها عليك ويعذق بك أمرها إلا
باستيجاب واستحقاق لأنها احتاجت إليك حاجة الرمح إلى عامله والعبء إلى
حامله والمكفور إلى كافله. وكم أفرجت عن الطريق إليها لسواك واجتهدت أن
يعدوك مقامها إكباراً له فما عداك والله يكتب بجميل رأي أمير المؤمنين
حسدتك وعداك ويتولاك بالمعونة على ما قلدك وولاك ويمتعه ببقائك كما
أمتعه بكفايتك وغنائك ويخير له في استيزارك كما خار له من قبل في
اصطناعك وإيثارك بمنه وكرمه والسلام عليك ورحمة الله وكتب يوم الجمعة
لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 418هـ بكفايتك وغنائك ويخير له
في استيزارك كما خار له من قبل في اصطناعك وإيثارك بمنه وكرمه والسلام
عليك ورحمة الله وكتب يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة
418
(1/133)
ولاية القائد ناصر
الدولة أبي محمد الحسن بن الحسين بن حمدان لدمشق في
سنة 433
بعد أمير الجيوش أنوشتكين الدزبري وصل الأمير المظفر ناصر الدولة
وسيفها ذو المجدين أبو محمد الحسن بن الحسين بن حمدان إلى دمشق والياً
عليها في جمادى الآخرة سنة 433 في يوم الأربعاء السادس عشر منه وقرئ
سجله بالولاية بألقابه والدعاء له فيه سلمه الله وحفظه ووصل معه الشريف
فخر الدولة نقيب الطالبيين أبو يعلي حمزة بن الحسين بن العباس بن الحسن
بن الحسين بن أبي المجن بن علي بن محمد بن علي بن إسمعيل بن جعفر
الصادق عليه السلام فأقام في الولاية أمراً ناهياً إلى أن وصل من مصر
من قبض عليه بدمشق وسيره معه إلى مصر في يوم الجمعة مستهل رجب سنة 0440
وفي سنة 36 وردت الأخبار من ناحية العراق بظهور راية السلطان ركن
الدنيا والدين طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجق وقوة شوكة الأتراك
وابتداء دولتهم واستيلائهم على الأعمال وضعف أركان الدولة البويهية
واضطراب أحوال مقدميها وأمرائها. وفي سنة 427 وردت الأخبار من ناحية
مصر بوفاة الامام الظاهر لاعزاز دين الله أبي الحسن علي بن الحاكم بأمر
الله بالاستسقاء في ليلة الأحد النصف من شعبان سنة 427 وعمره اثنتان
(1/134)
وثلاثون سنة ومولده بالقاهرة في شهر رمضان
سنة 395 ومدة أيامه خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وخمسة أيام ونقش خاتمه
بنصر ذي الجود والمتن ينتصر الامام أبو الحسن وكان جميل السيرة حسن
السياسة منصفاً للرعية إلا انه متشاغل باللذة محب للدعة والراحة معتمد
في إصلاح الأعمال وتدبير العمال وحفظ الأموال وسياسة الأجناد وعمارة
البلاد على الوزير أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي لسكونه إلى كفايته
وثقته بغنائه ونهضته. ثم تولى الأمر بعده ولده أبو تميم معد المستنصر
بالله أمير المؤمنين وعمره سبع سنين وشهران وأخذت البيعة له بعد أبيه
في شعبان سنة 427. وفي أيامه ثارت الفتن من بني حمدان وأكابر القواد
ووجوه العسكرية والأجناد وغليت الأسعار وقلت الأقوات واضطربت الأحوال
واختلت الأعمال وحصر في قصره وطمح في خلعه لضعف أمره ولم يزل الأمر على
هذه الحال إلى أن استدعى أمير الجيوش بدر الجمالي من عكاء إلى مصر في
سنة 465 فاستولى على الوزارة والتدبير بمصر وقتل من قتل من المقدمين
والأجناد وطالبي الفساد وتمهدت الأمور وسكنت الدهماء والزم المستنصر
بالله القصر ولم يبق له نهي ولا أمر إلا الركوب في العيدين ولم يزل
كذلك إلى أن توفي أمير الجيوش وانتصب مكانه ولده الأفضل أبو القاسم
شاهنشاه
(1/135)
ولاية القائد طارق
الصقلبي المستنصري لدمشق في سنة 440
وصل الأمير بهاء الدولة وصارمها طارق المستنصري إلى دمشق والياً عليها
في يوم الجمعة مستهل رجب سنة 440 وقرئ سجل ولايته والدعاء له سلمه الله
وحفظه وعند دخوله وقع القبض على الأمير ناصر الدولة بن حمدان الوالي
المقدم ذكره وسير إلى مصر وتسلم الأمير طارق الولاية يأمر فيها. ووردت
الأخبار من ناحية مصر في سنة 436 بوفاة الوزير أبي القاسم علي بن أحمد
الجرجرائي وزير المستنصر بالله في داره آخر نهار الأربعاء السادس من
شهر رمضان بعلة الاستسقاء وصلى عليه المستنصر بالله في القصر ودفن في
دار الوزارة وقلد مكانه الوزير أبو نصر صدقة بن يوسف الفلاحي وخلع عليه
في يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر رمضان من السنة وقبض على أبي علي
ابن الأنباري صاحب الوزير أبي القسم علي بن أحمد وحمله إلى خزانة
البنود وسعى في قتله فيها ودفنه وما مضى إلا القليل وقبض على الوزير
أبي نصر صدقة بن يوسف الفلاحي وحمل إلى خزانة البنود في يوم الاثنين
الخامس من المحرم سنة 440 وقتل
(1/136)
سحرة يوم الاثنين في المكان الذي قتل فيه
ابن الأنباري وقيل إنه دفن معه في قبره ونظر في الوزارة أبو البركات
ابن أخي الوزير علي بن أحمد الجرجرائي وقبض عليه بعد ذلك في ليلة يوم
الاثنين النصف من شوال سنة 441 وفترت الأمور إلى أن استقرت الوزارة
لقاضي القضاة أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري. ووردت الأخبار من
مصر بأن المستنصر بالله خلع على وزيره قاضي القضاة أبي محمد اليازوري
في الرابع من ذي القعدة سنة 443 خلعاً فاخرةً كانت غلالة قصباً وطاقاً
وقميصاً دبيقياً وطيلساناً وعمامةً قصباً وحمله على فرس رائع بمركب من
ذهب وزنه ألف مثقال وقاد بين يديه خمسة وعشرين فرساً وبغلاً بمراكب ذهب
وفضة وحمل معه خمسون سفطاً ثياباً أصنافاً وزاد في نعوته وألقابه وخلع
على أولاده خلعاً تليق بهم وكتب له سجل التقليد بانشاء ولي الدولة أبي
علي بن خيران وبالغ في احسان وصفه وتقريضه واطرائه واحماد رأيه وما
اقتضاه الرأي من اصطفائه للوزارة واجتبائه وقرئ بحضرة المستنصر بالله
بين قواده وخدمه ووجوه أجناده وقيل إن هذا الاكرام مقابلة
(1/137)
على ما كان منه في التدبير على العرب
المفسدين من بني قرة في فلهم والنكاية فيهم وحسم أسباب شرهم وتشتيت
شملهم ونسخة هذا السجل المذكور بعد البسملة:..........
(1/138)
ولاية رفق المستنصري
لدمشق في سنة 441
وصل الأمير عدة الدولة أمير الأمراء رفق المستنصري إلى دمشق والياً
عليها في يوم الخميس الثاني عشر من المحرم سنة 441 في عدة وافرة من
الرجال وثروة وافرة من العدد والمال وقرئ سجله بالولاية وأقام بها مدة
يأمر فيها وينهي ويحل ويعقد ويصدر في الأمور ويورد ثم وصله الأمر من
مصر بمسيره إلى حلب لأمر اقتضته الآراء المستنصرية من صرفه عنها
وتوليتها للأمير المؤيد فسار منها وتوجه إلى حلب في يوم الخميس السادس
من صفر من السنة
(1/139)
ولاية الأمير المؤيد
عدة الامام في سنة 441 بعد الأمين رفق
وصل الأمير المؤيد عدة الامام مصطفى الملك معين الدولة ذو الرئاستين
حيدرة بن الأمير عضب الدولة بن حسين بن مفلح إلى دمشق والياً عليها في
مستهل رجب سنة 441 فحمل معه سديد الدولة ذو الكفايتين أبو محمد الحسين
بن حسن الماشكي ناظراً في الشام جميعة حربه وخراجه وقرئ منشور الولاية
والدعاء له سلمه الله وحفظه فتسلم الولاية في سنة 442 يأمر فيها وينهي
على عادة الولاة واستقامت له أمور الولاية على ما يؤثره ويهواه وأحسن
السيرة في العسكرية والرعية فحمدت طريقته وارتضيت إيالته واستمرت عليه
الأيام في الولاية إلى سنة 448 التي بني هذا المذيل عليها وعادت سياقة
الحوادث منها وإيراد ما فيها وتجدد بعدها
(1/140)
|