تاريخ دمشق لابن القلانسي

سنة ثمان وأربعين وأربعمائة
فيها وردت الأخبار من ناحية العراق بانعقاد أمر الوصلة بين الامام القائم بأمر الله وبين بنت الملك داود أخي السلطان ركن الدنيا والدين طغرلبك وكان العقد أولاً لولده ذخيرة الدين فلما قضى الله عليه بالوفاة نقل العقد إلى الخليفة القائم بأمر الله في يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرم من السنة ووصلت البنت المذكورة من مدينة الري إلى بغداد في الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من السنة. وفي هذه السنة ولد الامام المقتدي بالله عبد الله بن ذخيرة الدين ابن القائم بأمر الله في ليلة الأربعاء الثاني من جمادى الأولى من السنة.

(1/141)


وفيها وردت الأخبار من مصر بقلة الأقوات وغلاء الأسعار واشتداد الأمر في ذلك إلى أوان زيادة النيل فظهر من القوت ووجوده ما طابت به النفوس وصلحت معه الأحوال

سنة تسع وأربعين وأربعمائة
في هذه السنة وردت الأخبار بتسلم الأمير مكين الدولة قلعة حلب من معز الدولة وحصل فيها في الخميس لثلاث بقين من ذي القعدة منها وأقام بها مدة أربع سنين يخطب فيها للمستنصر بالله صاحب مصر. وفيها توفي القاضي أبو الحسين عبد الوهاب بن أحمد ابن هرون

سنة خمسين وأربعمائة
فيها وصل الأمير ناصر الدولة وسيفها ذو المجدين أبو محمد الحسين بن الحسن ابن حمدان إلى دمشق والياً عليها دفعةً ثانيةً بعد أولى في يوم الاثنين النصف من رجب منها وأقام يسوس أحوالها ويستخرج أموالها إلى أن ورد عليه الأمر من الحضرة بمصر بالمسير في العسكر إلى حلب فتوجه إليها في العسكر في السادس عشر من شهر ربيع الأول سنة 452 واتفقت الوقعة المشهورة المعروفة بوقعة الفنيدق بظاهر حلب في يوم الاثنين مستهل شعبان من السنة بين ناصر الدولة المذكور وعسكره وبين جميع العرب الكلابيين ومن انضم إليهم فكسرت العرب عسكر ناصر الدولة واستولوا عليهم ونكوا فيهم وأفلت ناصر الدولة منهزماً مجروحاً مفلولاً وعاد إلى مصر.

(1/142)


ولم تزل الأخبار متواترة من ناحية العراق بظهور المظفر أبي الحرث أرسلان الفساسيري وقوة شوكته وكثرة عدته وغلبة أمره على الامام القائم بأمر الله أمير المؤمنين وقهر نوابه وامتهان خاصته وأصحابه وخوفهم من شره حتى أمضى أمره إلى أن يأخذ الجاني من حرم الخلافة ويفعل ما يشاء ولا يمانع له ولا يدافع عنه. وقد شرح الخطيب أبو بكر أحمد ابن علي بن ثابت البغدادي رحمه الله في أخبار أهل بغداد ما قال فيه: ولم يزل أمر القائم بأمر الله أمير المؤمنين مستقيماً إلى أن قبض عيه أرسلان الفساسيري في سنة 450 وهو واحد من الغلمان الأتراك عظم أمره واستفحل شأنه لعدم نظرائه من الغلمان الأتراك والمقدمين والاسفهسلارية إلا إنه استولى على العباد والأعمال ومد يده في جباية الأموال وشاع بالهيبة أمره وانتشر بالقهر ذكره وتهيبته العرب والعجم ودعي له على كثير من منابر الأعمال

(1/143)


العراقية وبالأهواز ونواحيها ولم يكن القائم بأمر الله يقطع أمراً دونه ولا يمضي رأياً إلا بعد إذنه ورأيه ثم صح عنده سوء عقيدته وخبث نيته وانتهى ذلك إليه، من ثقات من الأتراك لا يشك في قولهم ولا يرتاب. وانتهى إليه إنه بواسط قد عزم على نهب دار الخلافة والقبض على الخليفة فكاتب السلطان طغرلبك محمد بن ميكال كذا وهو بنواحي الري يعرفه صورة حال الفساسيري ويبعثه على العود إلى العراق ويدارك أمر هذا الخارجي قبل تزايد طمعه وإعضال خطبه. وعاد الفساسيري من واسط وقصد دار الخلافة في بغداد وهي بالجانب الغربي في الموضع المعروف بدار إسحق فهجمها ونهبها وأحرقها ونقض أبنيتها واستولى على كل ما فيها.

(1/144)


ووصل السلطان طغرلبك إلى بغداد في شهر رمضان سنة 447 وتوجه الفساسيري إلى الرحبة حين عرف وصول طغرلبك على الفرات وكاتب المستنصر بأمر الله صاحب مصر يذكر له كونه في طاعته وإخلاصه في موالاته وعزمه على إقامة الدعوة له في العراق وإنه قادر على ذلك وغير عاجز عنه فأنجده وساعده بالأموال وكتب له بولاية الرحبة. وأقام السلطان طغرلبك ببغداد سنةً كاملةً وسار منها إلى ناحية الموصل وأوقع بأهل سنجار وعاد منها إلى بغداد فأقام برهةً ثم عاد إلى الموصل وخرج منها متوجهاً إلى نصيبين ومعه أخوه إبراهيم ينال وذلك في سنة 450. وحدث بين السلطان طغرلبك وأخيه إبراهيم خلف أوجب انفصاله عنه بجيش عظيم وقصد تاحية الري وقد كان الفساسيري كاتب إبراهيم ينال أخا السلطان طغرلبك يبعثه على العصيان لأخيه ويطمعه في الملك والتفرد به ويعده المعاضدة عليه والموازرة والمرافدة والشد منه وسار طغرلبك في أثر أخيه مجداً وترك عساكره من ورائه فتفرقت غير إن وزيره عميد الملك الكندري وربيبه أنوشروان وزوجته خاتون وصلوا بغداد في من بقي معهم من العسكر في شوال سنة 450. واتصلت الأخبار بلقاء طغرلبك وأخيه إبراهيم بناحية همذان وورد الخبر بذاك على خاتون وولدها والوزير وإن إبراهيم استظهر عليه وحصره في همذان فعند ذلك عزموا على المسير إلى همذان لانجاد السلطان فحين شاع الخبر بذاك اضطرب

(1/145)


أمر بغداد اضطراباً شديداً وخاف من بها وكثرت الأراجيف باقتراب أرسلان الفساسيري. وتوقف الكندري الوزير عن المسير فأنكرت خاتون ذلك عليه وهمت بالايقاع به وتوقف ابنها لتوقفهما عن المسير والانجاد للسلطان طغرلبك فنهضا للجانب الغربي من بغداد وقطعا الجسور من ورائهما وأنتهب دورهما واستولى من كان مع الخاتون من الغز على ما فيها من الأموال والأمتعة والأثاث والسلاح وتوجهت خاتون في العسكر إلى ناحية همذان وتوجه الوزير الكندري على طريق الأهواز. فلما كان يوم الجمعة السادس
من ذي القعدة ورد الخبر بأن أرسلان الفساسيري بالأنبار وسعى الناس إلى صلاة الجمعة بجامع المنصور فلم يحضر الامام وأذن المؤذن في المنارة ونزل منها وأعلم الناس إنه رأى العسكر عسكر الفساسيري بإزاء شارع دار الرقيق فبادروا إلى أبواب الجامع وشاهدت قوماً من أصحاب الفساسيري يسكنون الناس بحيث صلوا في هذا المكان اليوم في جامع المنصور الظهر أربعاً من غير خطبة وفي يوم السبت تاليه وصل نفر من عسكر الفساسيري وفي غدوة يوم الأحد دخل الفساسيري بغداد ومعه الرايات السود فضرب مضاربه على شاطئ دجلة واجتمع أهل الكرخ والعوام من أهل الجانب الغربي على مظافرة الفساسيري وكان قد جمع العيار وأهل الفساد وأطمعهم في نهب دار الخلافة والناس إذ ذاك في ضر وجهد قد توالى عليهم الجدب وغلا السعر وعز الأقوات وأقام الفساسيري بمكانه والقتال في كل يوم متصل بين الفريقين في السفن بدجلة. فلما كان يوم الجمعة الثاني دعي المستنصر بالله صاحب مصر على المنبر بجامع المنصور وزيد في الآذان حي على خير العمل. وشرع في بناء الجسر بعقد باب الطاق وكف الناس عن المحاربة أياماً وحضر يوم الجمعة الثاني من الخطبة فدعي لصاحب مصر في جامع الرصافة. وخندق الخليقة القائم بأمر الله حول داره ورم ما تشعث منها ومن أسوار المدينة فلما كان يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي القعدة حشد الفساسيري أهل الجانب الغربي والكرخ ونهض بهم إلى محاربة الخليفة ونشبت الحرب بين الفريقين يومين وقتل منهما الخلق الكثير. وأهل هلال ذي الحجة فزحف الفساسيري إلى ناحية دار القائم الخليفة فأضرم النار في الأسواق بنهر معلى وما يليه وعبر الناس لانتهاب دار الخليفة فنهب منها ما لا يحصى كثرةً وعظماً. ونفذ الخليفة إلى مونس بن بدر الصقلي وكان قد ظاهر الفساسيري فاذم للخليفة في نفسه ولقيه قريش أمير بني عقيل فقبل الأرض دفعات وخرج الخليفة من الدار راكباً وبين يديه راية سوداء وعليه قباء أسود وسيف ومنطقة وعلى رأسه عمامة تحتها قلنسوة الأتراك عراضه وبين يديه....... وضرب له قريش خيمةً في الجانب الغربي فدخلها وأحدق به خدمه وماشى الوزير رئيس الرؤساء أبا القسم بن مسلمة الفساسيري ويده قابضة على يده وكمه وقبض على قاضي القضاة الدامغاني وجماعة معه وحملوا إلى الحريم الطاهري وقيد الوزير والقاضي. فلما كان يوم الجمعة الرابع عشر من ذي الحجة لم يخطب بجامع الخليفة وخطب في سائر الجوامع للمستنصر صاحب مصر وفي هذا اليوم انقطعت الدعوة لبني العباس في بغدادن ذي القعدة ورد الخبر بأن أرسلان الفساسيري بالأنبار وسعى الناس إلى صلاة الجمعة بجامع المنصور فلم يحضر الامام وأذن المؤذن في المنارة ونزل منها وأعلم الناس إنه رأى العسكر عسكر الفساسيري بإزاء شارع دار الرقيق فبادروا إلى أبواب الجامع وشاهدت قوماً من أصحاب الفساسيري يسكنون الناس بحيث صلوا في هذا المكان اليوم في جامع المنصور الظهر أربعاً من غير خطبة وفي يوم السبت تاليه وصل نفر من عسكر الفساسيري وفي غدوة يوم الأحد دخل الفساسيري بغداد ومعه الرايات السود فضرب مضاربه على شاطئ دجلة واجتمع أهل الكرخ والعوام من أهل الجانب الغربي على مظافرة الفساسيري وكان قد جمع العيار وأهل الفساد وأطمعهم في نهب دار الخلافة

(1/146)


والناس إذ ذاك في ضر وجهد قد توالى عليهم الجدب وغلا السعر وعز الأقوات وأقام الفساسيري بمكانه والقتال في كل يوم متصل بين الفريقين في السفن بدجلة. فلما كان يوم الجمعة الثاني دعي المستنصر بالله صاحب مصر على المنبر بجامع المنصور وزيد في الآذان حي على خير العمل. وشرع في بناء الجسر بعقد باب الطاق وكف الناس عن المحاربة أياماً وحضر يوم الجمعة الثاني من الخطبة فدعي لصاحب مصر في جامع الرصافة. وخندق الخليقة القائم بأمر الله حول داره ورم ما تشعث منها ومن أسوار المدينة فلما كان يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي القعدة حشد الفساسيري أهل الجانب الغربي والكرخ ونهض بهم إلى محاربة الخليفة ونشبت الحرب بين الفريقين يومين وقتل منهما الخلق الكثير. وأهل هلال ذي الحجة فزحف الفساسيري إلى ناحية دار القائم الخليفة فأضرم النار في الأسواق بنهر معلى وما يليه وعبر الناس لانتهاب دار الخليفة فنهب منها ما لا يحصى كثرةً وعظماً. ونفذ الخليفة إلى مونس بن بدر الصقلي وكان قد ظاهر الفساسيري فاذم للخليفة في نفسه ولقيه قريش أمير بني عقيل فقبل الأرض دفعات وخرج الخليفة من الدار راكباً وبين يديه راية سوداء وعليه قباء أسود وسيف ومنطقة وعلى رأسه

(1/147)


عمامة تحتها قلنسوة الأتراك عراضه وبين يديه....... وضرب له قريش خيمةً في الجانب الغربي فدخلها وأحدق به خدمه وماشى الوزير رئيس الرؤساء أبا القسم بن مسلمة الفساسيري ويده قابضة على يده وكمه وقبض على قاضي القضاة الدامغاني وجماعة معه وحملوا إلى الحريم الطاهري وقيد الوزير والقاضي. فلما كان يوم الجمعة الرابع عشر من ذي الحجة لم يخطب بجامع الخليفة وخطب في سائر الجوامع للمستنصر صاحب مصر وفي هذا اليوم انقطعت الدعوة لبني العباس في بغداد
ولما كان اليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم عرفة أخرج الخليفة القائم بأمر الله من الموضع الذي كان فيه وحمل إلى الأنبار ومنها إلى الحديثة في الفرات فجلس هناك وكان صاحب الحديثة الأمين مهارش هو المتولي لخدمة الخليفة فيها بنفسه وكان حسن الطريقة. ولما كان يوم الاثنين من ذي الحجة شهر الوزير رئيس الرؤساء وزير الخليفة على جمل وطيف به في محال الجانب الغربي ثم صلب بباب الطاق وخراسان وجعل على فكيه كلابان من حديد على جدع فمات رحمه الله بعد صلاة العصر وأطلق القاضي الدامغاني بمال قرر عليه.

(1/148)


قال أبو بكر الخطيب رحمه الله: ثم خرجت يوم النصف من صفر سنة 451 من بغداد ولم يزل الخليفة في محبسه بالحديثة إلى أن عاد السلطان طغرلبك من ناحية الري إلى بغداد بعد أن ظفر بأخيه إبراهيم ينال وكسره وقتله ثم كاتب الأمير قريشاً باطلاق الخليفة إلى داره إلى ناحية العراق وجعل السفير بينه وبين طغرلبك في ذلك أبا منصور عبد الملك بن محمد بن يوسف وشرط أن يضمن الخليفة للفساسيري صرف طغرلبك عن وجهته. وكاتب طغرلبك مهارشاً في أمر الخليفة وإخراجه من محبسه فأخرجه وعبر به الفرات وقصد به تكريت في نفر من بني عمه وقد بلغه أن طغرلبك بشهرزور فلما قطع الطريق عرف أن طغرلبك قد حصل ببغداد فعاد راجعاً حتى وصل النهروان فأقام الخليفة هناك ووجه طغرلبك مضارب في الحال وفروشاً برسم الخليفة ثم خرج لتلقيه بنفسه وحصل الخليفة في داره ونهض طغرلبك في عسكر نحو الفساسيري وهو بسقي الفرات فحاربه إلى أن أظفره الله به وقتله وحمل رأسه إلى بغداد وطيف به فيها وعلق بإزاء دار الخلافة

(1/149)


سنة إحدى وخمسين وأربعمائة
في هذه السنة كان هلاك أرسلان الفساسيري وعود الخليفة القائم بأمر الله أمير المؤمنين إلى داره على ما تقدم شرحه من أمره. وفيها أيضاً كان ظفر السلطان طغرلبك أخيه إبراهيم ينال على باب همذان

سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة
فيها وصل الأمير المقدم تمام الدولة قوام الملك ذو الرئاستين سبكتكين المستنصري إلى دمشق وبقي فيها غير وال عليها إلى أن وصل القائد موفق الدولة جوهر الصقلبي من مصر في يوم الأربعاء الثاني من ذي الحجة سنة 452 ومعه الخلع وسجل الولاية لدمشق بألقابه والدعاء له سلمه الله ووفقه والناظر في الأعمال وحفظ الأموال سديد الدولة أبو عبد الله محمد بن حسن الماشكي على ما كان عليه سبكتكين والياً على دمشق إلى أن توفى بها في ليلة الاثنين الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 453 فكانت ولايته ثلاثة شهور وسبعة عشر يوماً وفي هذه السنة نزل الأمير محمود بن شبل الدولة بن صالح بن مرداس على حلب محاصراً لها ومضيقاً عليها وطامعاً في تملكها ومعه منيع بن سيف الدولة فأقام عليها مدة فلم يتسهل له فيها أرب ولا تيسر طلب فرحل عنها ثم حشد بعد مدة وجمع وعاد منازلاً لها ومضايقاً لأهلها ومراسلاً لهم وتكررت المراسلات منهم إلى أن تسهل أمرها وتيسر خطبها فتسلمها

(1/150)


في يوم الاثنين من جمادى الآخرة وضايق القلعة إلى أن عرف وصول الأمير ناصر الدولة بن حمدان في العساكر المصرية لانجادها فخرج منها في رجب سنة 2 ونهب حلب بعسكر ناصر الدولة واتفقت وقعة الفنيدق المشهورة وانفلال ناصر الدولة وعوده إلى مصر منهزماً مخذولاً فعاد محمود بجمعه إلى حلب وحصل بها وقتل عمه معز الدولة واستقام أمره فيها. وفي هذه السنة قصد الأمير عطية فيمن جمعه وحشده مدينة الرحبة ولم يزل نازلاً عليها ومضايقاً لأهلها ومراسلاً لهم إلى أن تسهل الأمر فيها وسلمت إليه وحصل بها في صفر من السنة

(1/151)