تاريخ دمشق لابن القلانسي

سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وفيها ولاية أمير الجيوش بدر الثانية
وصل أمير الجيوش سيف الاسلام بدر إلى دمشق والياً عليها ثانيةً وعلى الشام بأسره في يوم الأحد السادس من شعبان منها ونزل في مرج باب الحديد أياماً وبلغه قتل ولده بعسقلان فدخل القصر وأقام فيه إلى أن تحرك الفتنة الثائرة بينه وبين عسكرية دمشق وأهلها واستيحاش كل منهم من صاحبه فخرج من القصر ونشبت الحرب بينهم في يوم الجمعة التاسع والعشرين من جمادى الأولى سنة 460 وقد كان القصر أخرب بعضه في تلك النوبة الحادثة الأولى ونهب ما كان فيه فلما عاد بعد ذلك في هذه النوبة ومعه العساكر الجمة من العرب وسائر الطوائف ونزل على مسجد القدم في رمضان سنة 60 واتفق رحيله عنها فخرج من في البلد من العسكرية والأحداث إلى القصر فأحرقوا ما كان سالماً منه ونقضوا أخشابه بحيث شمله الخراب من كل جهاته. وفي هذه السنة فادى الأمير محمود بن شبل الدولة بن صالح نساء بني حماد والنمريين من أسر الروم ولم يزل مبالغاً في ذلك ومجتهداً فيه إلى أن حصلوا في حلب

سنة تسع وخمسين وأربعمائة
فيها وردت الأخبار من ناحية مصر باجتماع العبيد في الصعيد وكبسهم عسكر الأمير ناصر الدولة أبي علي الحسن بن حمدان وانفلال العرب المجتمعة معه واستظهار العبيد على جانب من عسكره نهبوه واستولوا عليه ثم عادوا عليهم واستعادوا ما أخذ لهم وزيادة عليه وقتل جماعةً منهم. وفيها سأل الأمير ناصر الدولة المستنصر بالله في حميد ابن محمود بن جراح وحازم بن علي بن جراح فأطلقهما من خزانة البنود وخلى سبيلهما

(1/157)


سنة ستين وأربعمائة وفيها ولاية الأمير بارزطغان لدمشق
وصل الأمير قطب الدولة بارزطغان إلى دمشق والياً عليها في شعبان منها ووصل معه الشريف السيد أبو طاهر حيدرة بن مستخص الدولة أبي الحسين ونزل قطب الدولة في دار العقيقي وأقام مدة ثم خرج منها ومعه الشريف المذكور في شهر ربيع الأول سنة 461. وورد الخبر بأن أمير الجيوش بدر ظفر بالشريف السيد المذكور وكان بينهما إحن بعثته على الاجتهاد في طلبه والارصاد له إلى أن اقتنصه فلما حصل في يده قتله سلخاً فعظم ذلك على كافة الناس وأكثروا هذا الفعل واستبشعوه في حق مثله.

(1/158)


وفي يوم الثلاثاء العاشر من جمادى الأولى من السنة جاءت زلزلة عظيمة بفلسطين هدمت أكثر دور الرملة وسورها وتضعضع جامعها ومات أكثر أهلها تحت الردم. وحكي أن معلماً كان في مكتبه به تقدير مائتي صبي وقع المكتب عليهم فما سأل أحد عنهم لهلاك أهليهم وأن الماء طلع من أفواه الآبار لعظم الزلزلة وهلك في بانياس تحت الردم نحو من مائة نفس وكذلك في بيت المقدس. وسمع في أيار من هذه السنة رعدة هائلة ما سمع بأعظم منها ولا بأهول من صوتها فغشي على جماعة من الرجال والنسوان والصبيان وطلع في أثرها سحاب هائل ووقع منه برد شديد الوقع أهلك كثيراً من الشجر وجاء معه سيل عظيم في بلد الشام قلع ما مر به من الشجر والصخر. حكي أن ارتفاعه بوادي بني عليم نحو من ثلاثين ذراعاً وأنه سحب صخرةً عظيمة لا يقلها خمسون رجلاً ذهب بها فلم يعرف مستقرها. وفيها ورد الخبر بقيام ناصر الدولة أبي علي الحسن بن حمدان في جماعة من قواد الأتراك وأمراء مصر على المستنصر بالله بمصر وأخذهم شيئاً كثيراً من المال اقتسموه وكان أمير الجيوش بدر في مبدأ أمره مقيماً بالشام مظهراً الطاعة المستنصر بالله والموالاة له والميل إليه إلا أنه لا يتمكن من نصرته ولا يجد سبيلاً إلى موازرته ومعاضدته وزحف المذكورون إلى دار وزيره

(1/159)


المعروف بابن كدينة فطالبوه بالمال فقال لهم: وأي مال بقي بعد نهبكم الأموال واقتسامكم الأعمال؟ فألحوا عليه وقالوا: لا بد من انفاذك إلى المستنصر بالله وبعثك له على إخراج المال وتعريفه في ذلك صورة الحال. فكتب إليه رقعةً بشرح القصة وخرج الجواب عنها بخطه يقول فيه
أصبحت لا أرجو ولا أتّقي ... إلاّ إلهي وله الفضل
جدّي نبيّي وإمامي وأبي ... وقولي التوحيد والعدل
المال مال الله والعبيد عبيد الله والاعطاء خير من المنع وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. وفي هذه السنة خرج متملك الروم من القسطنطينية إلى الثغور

(1/160)


سنة إحدى وستين وأربعمائة وفيها كانت ولاية معلى بن حيدرة بن منزو لدمشق
الأمير حصن الدولة معلى بن حيدرة بن منزو الكتامي ولى دمشق قهراً وغلبةً وقسراً من غير تقليد في يوم الخميس الثامن من شوال سنة 461 بجيل نمقها ومحالات اختلقها ولفقها وذكر أن التقليد بعد ذلك وافاه فبالغ في المصادرات حينئذ وارتكب من الظلم ومصادرة المستورين الأخيار ما هو مشهور من العيث والجور ما هو شائع بين الأنام مذكور ولم يلق أهل البلد من التعجرف والظلم والعسف بعد جيش بن الصمصامة في ولايته ما لقوه من ظلمه وسوء فعله وقاسوه من اعتدائه ولؤم أصله ولم تزل هذه أفعاله إلى أن خربت أعمالها وخلا عنها أهلها وهان عليهم مفارقة أملاكهم وسأوهم عن أوطانهم بما عانوه من ظلمه ولابسوه من تعديه وعشمه وخلت الأماكن من قاطنيها والغوطة من فلاحيها وما برح لقاء الله على هذه القضية المنكرة والطريقة المكروهة إلى أن أجاب الله وله الحمد والشكر دعاء المظلومين ولقاه عاقبة الظالمين وحقق الأمل فيه بالراحة منه وأوقع بينه وبين العسكرية بدمشق الشحناء والبغضاء فخاف على نفسه الهلاك والبوار فاستشعر الوبال والدمار فلم يكن له إلا الهرب منهم والنجاة من فتكهم لأنهم عزموا على الايقاع به والنكاية فيه وقصد ناحية بانياس فحصل فيها في يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة 467

(1/161)


فأقام بها وعمر ما عمره من الحمام وغيره فيها ثم خرج منها في أوائل سنة 472 خوفاً من العسكر المصري أن يدركه فيها فيأخذه منها وحصل بثغر صور عند ابن أبي عقيل القاضي المستولي عليها ثم صار من صور إلى طرابلس وأقام بها عند زوج أخته جلال الملك ابن عمار مدة وأطلع إلى مصر فهلك في الاعتقال قتلاً بالنعال في سنة 481 وذلك جزاء الظالمين وما الله بغافل عما يعملون وفي هذه السنة وقع الخلف بدمشق بين العسكرية وبين أهلها وطرحت النار في جانب منها فاحترقت واتصلت النار منه بالمسجد الجامع من غربيه فاحترق في ليلة يوم الاثنين انتصاف شعبان من السنة فقلق الناس لهذا الحادث والملم المؤلم الكارث وأسف القاضي والداني لاحتراق مثل هذا الجامع الجامع للمحاسن والغرائب المعدود من إحدى العجائب حسناً وبهاءً ورونقاً وسناءً وكيف أصابت مثل العيون الصوائب وعدت عليه عادية النوائب

(1/162)


وفيها وردت الأخبار من مصر بغلاء الأسعار فيها وقلة الأقوات في

(1/163)


أعمالها واشتداد الحال في ذلك واضطرارهم إلى أكل الميتة وأكل الناس

(1/164)


بعضهم بعضاً من شدة الجوع وقتل من يظفر به وأخذ ماله واستغراق حاله ومن سلم هلك واحتاج الأمير والوزير والكبير إلى المسئلة. وفيها نزل الروم على حصن اسفونا وملكوه

سنة اثنتين وستين وأربعمائة
فيها نزل أمير الجيوش سيف الاسلام بدر المستنصري في العسكر المصري على ثغر صور محاصراً لعين الدولة بن أبي عقيل القاضي الغالب عليه فلما أقام على المضايقة له والاضرار به كاتب القاضي ابن أبي عقيل الأمير قرلو مقدم الأتراك المقيمين بالشام مستصرخاً له ومستنجداً به فأجابه إلى طلبه وأسعفه بأربه وسار بعسكره منجداً له ومساعداً ووصل إلى ثغر صيدا ونزل عليه في ستة ألف فارس فحصره وضيق عليه وعلى من فيه وكان في جملة ولاية أمير الجيوش المذكور فحين عرف أمير الجيوش صورة الحال ووصول الأتراك لانجاد من بصور واسعاده قادته الضرورة إلى الرحيل عن صور بعد أن استفسد كثيراً من أهلها والعسكرية بها بحيث قويت بهم شوكته وزادت بهم عده وتلوم عنها قليلاً ثم عاود النزول عليها والمضايقة لها وأقام عليها في البر والبحر مدة سنة احتاج أهلها مع ذلك إلى أكل الخبز الرطل بنصف دينار ولم يتم له أمر فيها لاختلاف الأتراك في الشام فرحل عنها. وفي هذه السنة مرض الأمير محمود بن صالح في حلب مرضاً شديداً

(1/165)


وخطب للامام القائم لأمر الله على منبر حلب وقطع الدعوة المستنصرية في تاسع عشر شوال. وفيها فتح ملك الروم ثغر منبج وأحرقه وعاد يقدم بعمارته ورحل عنه إلى ناحية منازجرد فعاث في أطرافها إلى أطراف خراسان وبقيت منبج في ملكة هذا الملك واسمه على ما ذكر اليزدوخانس سبع سنين ودام في الملك على ما حكى ثلاثين