تاريخ دمشق لابن القلانسي

سنة ثمان وستين وأربعمائة وفيها ولاية الأمير زين الدولة لدمشق
لما هرب معلي بن حيدرة بن منزو لعنه الله من ولاية دمشق على القضية ذكرتها اجتمعت المصامدة إلى الأمير زين الدولة انتصار بن يحيى زمامهم والمقدم واتفق رأيهم على تقديمه في ولاية دمشق وتقوية نفسه على الاستيلاء عليها وفدع من ينازعه فيها ووقع ذلك من أكثر الناس أجمل موقع وأحسن موضع وارتضوا به ومالوا إليه لسداد طريقته وحميد سيرته وكونه أحسن فعلاً ممن تقدمه وأجمل قصداً ممن كان قبله فاستقر الأمر على هذه القضية والسجية المرضية في يوم الأحد مستهل المحرم من السنة. وفي هذه السنة اشتد غلاء الأسعار في دمشق وعدمت الأقوات ونفدت الغلات منها واضطر الناس إلى أكل الميتان وأكل بعضهم بعضاً ووقع الخلف بين المصامدة وأحداث البلد وعرف الملك اتسز بن أوق مقدم الأتراك وما آلت إليه الحال وكان متوقعاً لمثل ذلك فنزل عليها وبالغ في المضايقة لها إلى أن اقتضت الصورة وقادت الضرورة إلى تسليمها إليه بالأمان وتوثق منه بوكيد الايمان. فلما دخلها في ذي القعدة سنة 468 وحصل بها نزل بأهلها منه قوارع البلاء بعد ما عانوه من ابن منزو لعنه الله واشتداد البلاء من

(1/174)


انزال دورهم واخراجهم منها واغتصاب أملاكهم والقبض لها واستعمال سوء السيرة وخبث النية والسريرة وتواصلت الدعوات عليه من سائر الناس وعلى أصحابه وأتباعه في جميع الأوقات وأعقاب الصلوات والرغبة إلى الله تعالى ذكره باهلاكه وتعفية أثاره. وفي هذه السنة وردت الأخبار من حلب بأن الأمير نصر بن محمود بن صالح صاحبها قتل بها في يوم الأحد عيد الفطر قتله قوم من أتراك الحاضر وذاك أنه قبض على مقدمهم المعروف بالأمير أحمد شاه وخرج إليهم لينهبهم فرماه أحدهم بسهم فقتله وقام في منصبه من بعده أخوه سابق بن محمود بن صالح. وفي هذه السنة خطب للامام المقتدي بالله أبي القسم عبد الله بن الذخيرة بن القائم بأمر الله على منبر دمشق وقطعت الخطبة المستنصرية ونظر الملك اتسز بن أوق في أمور دمشق وأحوالها بما يعود بصلاح أعمالها ووفور استغلالها وأطلق لفلاحي المرج والغوطة الغلات للزراعات وألزمهم الاشتغال بالعمارات والفلاحات فصلحت الأحوال وتواصلت من سائر الجهات الغلات ورخصت الأسعار وتضاعف

(1/175)


الجذل بذلك والاستيثار وطابت نفوس الرعية وأيقنوا بزوال البؤس والبلية. وبرز اتسز في عسكره إلى نواحي الساحل عازماً على قصد مصر وطامعاً في تملكها

سنة تسع وستين وأربعمائة
فيها جمع الملك اتسز واحتشد وبرز من دمشق ونهض في جمع عظيم إلى ناحية الساحل ثم منها إلى ناحية مصر طامعاً في ملكتها ومجتهداً في الاستيلاء عليها والدعاء عليه من أهل دمشق متواصل واللعن له متتابع متصل فلما قرب من مصر وأظلت خيله عليها برز إليه أمير الجيوش بدر في من حشده من العساكر ومن انضاف إليها من الطائف والعرب وكان قد وصل إليها واستولى على الوزارة وعرف ما عزم عليه

(1/176)


اتسز فاستعد للقائه وتأهب لدفع قصده واعتدائه وجد في الايقاع به وحصلت العرب وأكثر العساكر من ورائه وصدقوا الحملة عليه

(1/178)


فكسروه وهزموه ووضعوا السيوف في عسكره قتلاً وأسراً ونهباً وأفلت

(1/179)


هزيماً بنفسه في نفر يسير من أصحابه ووصل إلى الرملة وقد قتل أخوه

(1/180)


وقطعت يد أخيه الآخر ووصل بعد الفل إلى دمشق فسرت نفوس الناس بمصابه وتحكم السيوف في أتباعه وأصحابه فأملوا مع هذه الحادثة سرعة هلاكه وذهابه. وفي هذه السنة توفي أبو الحسن أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن عثمان بن الوليد بن الحكم بن سليمان بن أبي الحديد السلمي رحمه الله

سنة سبعين وأربعمائة
فيها وردت الأخبار بوصول السلطان تاج الدولة أبي سعيد تتش بن السلطان العادل البارسلان أخي السلطان ملك شاه أبي الفتح إلى الشام واجتماع العرب من بني كلاب إليه ووصول شرف الدولة مسلم بن قريش إليه من عند أخيه السلطان العادل ملك شاه لمعونته على افتتاح الشام بأمره له في ذلك. وفيها توفي أبو نصر الحسين بن محمد بن أحمد بن طلاب الخطيب رحمه الله.

(1/181)


وفي هذه السنة نزل عسكر مصر على دمشق مع نصر الدولة الجيوشي وأقام عليها مدةً يسيرةً ولم يتم له فيها مراد فرحل عنها عائداً إلى مصر. وفيها نزل تاج الدولة السلطان على حلب ومعه وثاب وشبيب ابنا محمود بن صالح ومبارك بن شبل ورحل عنها في ذي القعدة ثم نزل عليها ثانيةً ولم يتم له فيها مراد فرحل عنها

سنة إحدى وسبعين وأربعمائة
في هذه السنة خرج من مصر عسكر كبير مع نصر الدولة الجيوشي ونزل على دمشق محاصراً لها ومضايقاً عليها واستولى على أعمالها وأعمال فلسطين وأقام عليها مدة مضايقاً لها وطامعاً في تملكها وأضر على منازلتها إضراراً اضطر اتسز صاحبها إلى مراسلة تاج الدولة يستنجده ويستصرخ به ويعده بتسليم الدمشق إليه ويكون في الخدمة بين يديه فتوجه نحوه في عسكره فلما عرف نصر الدولة الخبر وصح عنده قربه منه رحل عنها مجفلاً وقصد ناحية الساحل وكان ثغراً صور وطرابلس في أيدي قضاتهما قد تغلبا عليهما ولا طاعة عندهما لأمير الجيوش بل يصانعان الأتراك بالهدايا والملاطفات ووصل السلطان تاج الدولة إلى عذراء في عسكره لأنجاد دمشق وخرج اتسز إليه وخدمه وبذل له الطاعة والمناصحة وسلم البلد إليه فدخلها وأقام بها مديدةً ثم حدثته نفسه بالغدر باتسز ولاحت له منه

(1/182)


أمارات استوحش بها منه متسهله كذا فقبض عليه في شهر ربيع الأول منها وقتل أخاه أولاً ثم أمر بخنقه فخنق بوتر في المكان المعتقل فيه وملك تاج الدولة دمشق واستقام له الأمر فيها وأحسن السيرة في أهلها وفعل بالضد من فعل اتسز فيها وملك أعمال فلسطين. وفي هذه السنة قتل أحمد شاه مقدم الأتراك في الشام. وفيها برز تاج الدولة من دمشق وقصد حلب في عسكره ونزل عليها وأقام عليها أياماً ورحل عنها في شهر ربيع الأول وعبر الفرات مشرقاً ثم عاد إلى الشام بعد أن وصل إلى ديار بكر في ذي الحجة وملك حصن بزاعة والبيرة وأحرق ربض عزاز ورحل عنها عائداً إلى دمشق

سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة
فيها تسلم شرف الدولة مسلم بن قريش حلب. وفيها رخصت الأسعار في الشام بأسره. وفيها هلكت فرقة من الأتراك ببلاد الروم كانوا غزاة فلم يفلت منهم أحد

(1/183)